أحدث المقالات

رد على النقد الوارد في مقال «نزاهة الشعائر الحسينية»

الشيخ محمد تقي أكبر نجاد(*)

ترجمة: محمد عبد الرزاق

في البدء أرى من واجبي أن أتقدم بالشكر الجزيل للزملاء الأعزاء الذين بذلوا جهدهم في قراءة ونقد مقالنا المعنون «التطبير والأعمال المستهجنة في مراسم العزاء الحسيني»، وأخص بالذكر الإخوة السيد محسن محقق والسيد حسين سيف اللهي، اللذين أخذا على عاتقهما عناء نقد المقال.

نظرة إجمالية على مقال النقد

لابد قبل نقد المقال المذكور من استعراض ما ورد فيه من آراء الكاتبين، وكيفية تناولهما المواضيع، ومن ثم الإشارة إلى ما فاتهما في هذا المضمار.

ينطلق المقال الناقد من نافذة الآراء الأساسية لصاحب مقال «التطبير والأعمال…»، فيستنتج من ذلك بأن كاتب هذا المقال يرى حرمة كل ما هو جزع وفزع مستهجن، وأن كل هذه الأمور منهيٌّ عنها، باستثناء البكاء، وزيارة القبور، وأن حكم اللطم والتطبير ونحوهما حرام في حكمها الأولي، وأن الحكم الثانوي مؤيِّد للأولي في واقع حاله.

وقد اعتمد كتّاب المقال في نقد المدعى المذكور على تقسيم الروايات إلى ثلاث مجموعات:

المجموعة الأولى: الروايات الدالّة على استحباب الجزع في مصيبة سيد الشهداء وأهل البيت^. والغرض من إيراد هذه الروايات هو التدليل على استثناء أهل البيت^ من أدلة تحريم الجزع والفزع. وعليه فإن مدعى الكاتب في حرمة الجزع والفزع على أهل البيت^ لم يكن بلا دليل فحسب، وإنما هو مخالف لصريح الروايات المتواترة. وأعتقد أن هذا القسم من المقال قد أصيب بنوع من التناقض الغريب سنعرض له لاحقاً.

المجموعة الثانية: الروايات الدالة على استحباب لطم الصدر والوجه، وكذلك الضرب بالسلاسل، وشق الثوب، في رثاء أهل البيت^، وخصوصاً الإمام الحسين×.

وقد تناول هذا الجانب نقد الأدلة التي قدَّمناها، دون إدراك كامل للمطالب الأساسية فيها. ويلاحظ هنا وجود استماتة في البحث عن دليل يثبت استحباب اللطم. وسيأتي ذكر ذلك.

المجموعة الثالثة: الروايات الدالة على استحباب النياحة على الإمام الحسين وسائر المعصومين^.

ويرمي هذا القسم الثالث إلى إثبات استحباب النياحة. والحال أننا نؤيد هذا النوع المعقول من النياحة. فإن عدم تطرقنا له ليس دليلاً على قولنا بحرمته أو الكراهة، بل كان كلامنا يدور حول الأعمال المستهجنة في العزاء، وليست النياحة من الأساليب المستهجنة، بل هي من الشعائر المتعارف عليها، وهي من ضروريات كل أنواع الرثاء. وقد ذكر الإمام الباقر× أن المرأة بحاجة إلى النوح كي يسيل الدمع من محاجرها([1]).

إن التركيز والاهتمام الزائد بالألفاظ، وعدم التركيز على مراد الكاتب، هو الذي تسبَّب في هذا اللبس. وعليه نحن أيضاً نسير مع كتّاب المقال، ولم نكن منكرين أساساً لأصل النياحة.

روايات استحباب الجزع على أهل البيت^، الملاك في حدود الجزع

الجزع في اللغة ـ كما ذكر الزملاء ـ هو القطع وانتهاء الصبر والتحمل؛ لأن الجازع قد يصل به الأمر لأن تفارق روحه جسده فتنقطع حياته([2]).

وعليه فإن كل عمل لا صبر فيه على المصاب جزع لغةً. وبهذا يتّضح أن الجزع لغة وعرفاً يشمل كل عمل دالٍّ على انقطاع الصبر والتحمل، من قبيل: التطبير، واللطم على الوجه والرأس، والضرب بالسلاسل المشفَّرة، ولطم الصدور بما يؤدي إلى خروج الدم أو الاسوداد، وكذلك ضرب الرأس بالحائط، وشقّ الثياب، و…

وإذا اتضح معنى الجزع اللغوي يتضح معه دليل بعض الفقهاء في استحباب وجواز جميع هذه الأعمال بوصفها من مصاديق الجزع الواضحة. وقد أكدت الروايات المتواترة على استحباب الجزع على أهل البيت^ كثيراً، فقول الإمام× بأن الجزع مستحبٌّ علينا يفيد استحباب جميع هذه الأعمال؛ وذلك لأنه× أطلق النص في الجزع، ولم يقيِّده بشيء، ونقول ـ وفقاً لأصول الحكمة ـ: لو كان هناك قيد أو مصداق محدَّد وضروري للجزع عند الإمام×، أو أن هناك جزع محرَّم، للزم بيانه ولو بالإجمال؛ في حين أن هذا لم يحصل. ولذا نستنتج من إطلاق الروايات بأن الجزع مباح، بل مستحبٌّ، بجميع مصاديقه.

وقد بات هذا الموضوع موضع استدلال العديد من الفقهاء، حتى أن بعضهم ذكر بالنص والعبارة في بعض الفتاوى: «تندرج هذه الأعمال تحت مسمّى الجزع؛ وعليه فهي مستحبة».

وهذا هو السبب في استهلال الكتّاب مقالهم بهذا القسم من الروايات؛ إذ أرادوا أن يقولوا لنا: أولاً: إنكم ترفضون حكم الجزع في حين تنصّ الروايات على جوازه. وثانياً: إن الجزع مطلق في الروايات، ويشمل الأعمال المألوفة والمستهجنة معاً. وليس من فرق حتى بالنسبة لحكم التطبير واللطم، أي إذا كانت هناك حرمة فهي تصدق على سائر المصاديق، وإن كان الجواز أيضاً فإنه سيصدق على الجميع؛ لأن الموضوع هنا مطلق، إلا إذا ورد دليل خاصّ يلغي الإطلاق.

نقد القول بالإطلاق في روايات الجزع

لا إطلاق في روايات الجزع؛ للأدلة التالية:

الأول: روايات استحباب الجزع نفسها.

إن من جملة ما غاب عن الزملاء والكثير من العلماء أن الإطلاق في روايات الاستحباب ملغىً، وبات الجزع محدَّداً بموارد خاصّة. ولإيضاح الفكرة نسلِّط الضوء مرة أخرى على ما ذكروه من روايات:

1ـ جاء في قصص النبي يعقوب× وفراقه يوسف×: ﴿تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ (يوسف: 85)، وبكى عليه حتى ﴿ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ (يوسف: 84).

2ـ قصة جزع سيدنا يوسف× على أبيه، وهو في سجن عزيز مصر، فقد بكى على يعقوب× حتى شكاه السجناء، وخيَّروه بين البكاء ليلاً أو نهاراً.

3ـ بكاء الإمام السجاد× السرمدي في رثاء أبيه×، فكانت دموعه تنزل من محاجره كلما رأى ماءً.

4ـ بكاء صاحب العصر والزمان# على جده الحسين×: «ولأبكين عليك بدل الدموع دماً».

هذه هي الروايات التي استشهد بها أصحاب المقال كنماذج لمفهوم جزع المعصومين. ومهما تأملنا في هذه النصوص لم نعثر على شيء سوى البكاء بحرقة. أليس جزع يعقوب× على يوسف× من أبرز قصص الجزع النادرة في التاريخ الإنساني، حتى أن الإمام السجاد× كان يستشهد به كثيراً؟ فالنبي الذي بات جزعه مضرباً للأمثال لم يصدر منه شيء سوى البكاء. ولو كان هناك جزع مباح غيره فلماذا لم يقُمْ به؟ فلماذا ـ مثلاً ـ لم يلطم أو يضرب رأسه بشيءٍ ما؟!

لقد تطرق النقاد الأعزاء إلى بكاء النبي يوسف× في فراق النبي يعقوب×، وهذا بكاء، وليس ضرب الرأس بالجدران! فقد بلغ الجزع مبلغه عند يوسف×، حتى صار يبكي ليلاً ونهاراً بلا انقطاع، أي إنه كان في قمة مراحل الجزع، ومع ذلك لم يتعدَّ جزعه حدود البكاء.

لقد تحدَّثوا أيضاً عن بكاء الإمام السجاد× فقيل فيه: هو ذلك الإمام الذي كابد المعاناة لحظة بلحظة، وظل متألِّماً كثيراً؛ لعجزه عن نصرة أبيه، وهو الإمام الذي بكى سيد الشهداء× أكثر من غيره، كان يذهب إلى الصحراء فيضع رأسه الشريف على صخرة ويشرع بالبكاء، ويواصل بكاءه حتى يبتلّ الصخر من دموع عينيه. ومع هذا كله لم ينقل عنه لطمٌ ذات مرة.

كذلك نقلوا عن الإمام صاحب العصر والزمان# ندبته، وهو الإمام الذي تمنى الحرب إلى جانب جده، غير أن الأزمان حالت بينه وبينه.

وقد ورد في مراثيه ذكر البكاء والدموع، لا اللطم والأعمال التي نطلق عليها اليوم اسم الجزع. ألا يمكن أن تكون طريقة الإمام في العزاء هنا تفسيراً لمفهوم الجزع؟ هل هناك من جزع على مصاب أكثر من جزع السجاد والمهدي‘؟ أو هل سيأتي مَنْ يجزع على مثل ما جزعوا عليه؟ ومع ذلك كان جزعهما هو الدمع والحزن فقط.

لقد ذكروا في المقال أيضاً روايات أخرى بشيء من التفصيل والإطالة، وهي:

1ـ عن الإمام علي× أنه قال في رثاء الرسول’: «إن الصبر لجميل إلا عنك، وإن الجزع لقبيح إلا عليك…»([3]).

وهنا سؤال ملحّ: هل حقاً جزع الإمام× في رثاء الرسول’ أو لا؟ فإن كان لم يجزع فقد ترك ما يستحقه منه النبي’، وإذا كان قد جزع فكيف كان جزعه؟ هل لطم رأسه أو وجهه؟ بعد تتبُّعي للنصوص لم أعثر على رواية معتبرة في هذا الموضوع. والثابت من الروايات هو بكاؤه× في رثاء سيد الرسل’، بمعنى أن الجزع عند الإمام هو ذلك العمل الذي قام به. ومما يؤيِّد ذلك كلام له× عند تغسيل الرسول: «بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء. خصصت حتى صرت مسلِّياً عمَّنْ سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء، ولولا أنك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع، لأنفدنا عليك ماء الشؤون، ولكان الداء مماطلاً، والكمد محالفاً، وقلا لك، ولكنه ما لا يُملك ردُّه، ولا يستطاع دفعُه، بأبي أنت وأمي، اذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك»([4]).

تضمنت هذه الرواية ـ المذكورة في نهج البلاغة وغيره من الكتب الروائية ـ مسألة في غاية الأهمية، وهي أن الإمام× هنا يخبر عن نهي الرسول’ عن الجزع قبل وفاته. وقد جاء في رواية أخرى ـ تقدمت ـ في نهج البلاغة أيضاً: إن الجزع لقبيح إلا عليك. والحال أن الجزع منهيّ عنه من قبل الرسول’ نفسه؛ لقول الأمير×: «ولولا أنك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع…».

فكيف يمكن الجمع بين هاتين الروايتين؟

يبدو أن أفضل طريقة في الجمع أن نقول: إن الجزع الذي نهى عنه النبي’ هو الجزع اللغوي والعرفي، الذي كان أهل الجاهلية يمارسونه، ويشمل كل أنواع الجزع غير المعقول، أما الجزع الذي يعدّه الإمام جائزاً في حقّ الرسول’ فهو البكاء والحزن السرمدي. وهذا ما فعله الإمام× في حياته الشريفة.

وحين قال الإمام×: «لولا أنك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع، لأنفدنا عليك ماء الشؤون، ولكان الداء مماطلاً، والكمد محالفاً» فهو بصدد بيان قمة الجزع المنهيّ عنه، ومع ذلك اكتفى بنزول الدمع وسرمدية الحزن، أي إن قوله لم يستبطن أعمالاً أخرى، كاللطم، مما هو متعارف عليه بين نساء الجاهلية، بمعنى أنه× حتى في كلامه عن الجزع المنهيّ عنه لم يُشِرْ إلى الأعمال الجاهلية، فضلاً عمّا هو غير منهيّ عنه في الجزع.

2ـ جاء في  رواية: «إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي×، فإنه فيه مأجور»([5]).

وقد وردت هذه الرواية بألفاظ مختلفة أيضاً. وما يهمنا منها هو ذكر مفردة البكاء والجزع جنباً إلى جنب. وقد حاول الزملاء في مقالهم التفريق بين معنى البكاء ومعنى الجزع، وأن مراد الرواية هو كراهة البكاء المصاحب للجزع، إلا على الحسين×. والحال أن هذا ليس هو مراد الرواية إطلاقاً، بل إن معنى اللفظين واحد، ولا مغايرة بينهما، بل أحدهما مفسِّر للآخر. وهذا من قبيل الحوارات العرفية المتداولة، كقولهم: بالسعي والمثابرة سأنال درجة الاجتهاد، ولابد في الصلاة والعبادة من طهارة، وكذلك قولهم: يستحب البكاء والعزاء على سيد الشهداء×.

ويلاحظ في هذه الأمثلة وجود عطف بياني بين المفردتين، وليس هناك بيان شيء جديد مختلف عن السابق، فالكلمتان من المرادفات، توضح إحداهما الأخرى. وبعبارة أخرى: إن هذه الروايات نفسها دليل على أن الجزع المسموح به هو البكاء حصراً.

3ـ جاء في دعاء الندبة: «…فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي ـ صلى الله عليهما وآلهما ـ فليبك الباكون، وإياهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضج الضاجون، ويعجّ العاجون»([6]).

لقد ورد في هذا النص دعوة الناس إلى البكاء والندبة وذرف الدموع والصراخ والضجيج والعجيج. واللافت في ذلك أن الإمام لم يذكر شيئاً سوى البكاء والعويل والنياحة، وكلها من الأعمال المألوفة، في حين كان كلامنا يدور حول ما هو غير مألوف في مراسم العزاء.

4ـ روي عن صفوان الجمال أنه قال: «خرجت مع الإمام الصادق× من المدينة نقصد الكوفة، فاجتزنا الحيرة، هنا وقف الإمام عند موضع قبر أمير المؤمنين×، وأخذ قبضة من ترابه فشمّها، ثم شهق شهقة حتى ظننت أنه فارق الدنيا، وعندما أفاق× قال: هنا والله مشهد أمير المؤمنين×، ثم سأل صفوانُ عن سبب اختفاء مشهد أمير المؤمنين×، فأجابه الإمام×: «حذراً من بني مروان والخوارج أن تحتال في أذاه»([7]).

وهنا نتساءل: هل تدل هذه الرواية على جواز الأعمال غير المألوفة؟ فهي تذكر بأن الإمام× حين شمّ تراب قبر جدّه شهق من شدة الحزن والحسرة، حتى ظن صفوان أنه فارق الدنيا، وهذا ليس عملاً مستهجناً، ولا تدل الرواية على جواز اللطم ونحوه.

5ـ محمد بن يعقوب بإسناده… عن معاوية بن وهب، قال: «استأذنت على أبي عبد الله×، فقيل لي: ادخل، فدخلتُ، فوجدته في مصلاّه في بيته، فجلست حتى قضى صلاته، فسمعته، وهو يناجي ربه، ويقول: يا من خصّنا بالكرامة، وخصنا بالوصاية، ووعدنا الشفاعة، وأعطانا علم ما مضى وما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، اغفر لإخواني، ولزوار قبر أبي عبد الله…، فارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم الصرخة التي كانت لنا».

كانت هذه الرواية من جملة الروايات التي استندوا إليها في إثبات جواز بعض الأعمال، كاللطم ونحوه، في حين أنها من الأدلة التي يمكن التمسك بها في عدم جواز اللطم والتطبير وغيرهما، فالإمام× هنا يدعو لزائري ومعزّي الإمام الحسين×، والأعين التي تذرف الدموع في مصاب أهل البيت^، والقلوب الجازعة، والصرخات الصاعدة، ولا يوجد ذكر للطم وشقّ الثوب على الإطلاق.

6ـ وعن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن علي بن محمد بن سالم، عن محمد بن خالد، عن عبد الله بن حماد، عن الأصم، عن مسمع بن عبد الملك، قال: قال لي أبو عبد الله× ـ في حديث ـ: أما تذكر ما صنع به ـ ويعني الحسين ـ؟ قلت: بلى، قال: أتجزع؟ قلت: إي والله، وأستعبر بذلك، حتى يرى أهلي أثر ذلك عليّ، فأمتنع من الطعام، حتى يستبين ذلك في وجهي، فقال: رحم الله دمعتك، أما إنك من الذين يعدّون من أهل الجزع لنا، والذي يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا…([8]).

دهشت كثيراً وأنا أطالع ملاحظات أصحاب المقال والروايات التي يستشهدون بها؛ لأن جميع ما ذكروه من روايات إنما هي ضد آرائهم. ففي هذه الرواية يسأل الإمام×: أتجزع؟ وهو سؤال عن الجزع، ولابد أن يكون جوابه عن الجزع أيضاً، وليس شيئاً آخر، ولهذا قال المخاطب بالسؤال، أي مسمع بن عبد الملك: إي والله، وأستعبر بذلك، حتى يرى أهلي أثر ذلك عليّ، فأمتنع من الطعام، حتى يستبين ذلك في وجهي. والملفت في الأمر أن هذا الجواب كان من بواعث ارتياح الإمام×، فوصف صاحبه بقوله: أما إنك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا.

ألا يدلّ كلام الإمام هذا على أن هذه الأعمال ـ البكاء والحزن لأهل البيت^ ـ تمثِّل مفهوم الجزع عنده×؟

والعجيب أن الإمام كان قد وضع الجزع في عزاء أهل البيت^ في مقابل الفرح في أفراحهم. وكما قيل: تُعرف الأشياء بأضدادها. فيمكن بيان معنى الجزع من خلال مقارنته بالفرح، أي هل يجوز لنا أن نفرح في فرح أهل البيت^، كما يفرح أهل الدنيا، فنجزع في عزائهم كما يجزع أهل الدنيا أيضاً؟

وقد حملت هذه الرواية رسالة أخرى، فليس أهل البيت^ وحدهم من يفسِّر الجزع بالبكاء والحزن، بل هذا هو انطباع أصحابهم أيضاً عن مفهوم الجزع، فلو كان الجزع غير البكاء لما أجاب مسمع بن عبد الملك عن سؤال «أتجزع؟» بأنه يبكي و…، ولكان ينبغي أن يقول: أَنْفَعِلُ فأضرب رأسي بالحائط والباب، وألطم على وجهي ورأسي حتى يسيل الدم منهما، ثم أشق ثوبي، وأنثر التراب على رأسي… كما تضمَّن نص الرواية قضية أخرى، وهي أن الراوي مسمع وغيره من الأصحاب كانوا يحزنون، بدلاً من ضرب الرأس أو اللطم، وكان يبلغ بهم الحزن مبلغاً، فيعزفون عن الطعام. والمفارقة أننا نشاهد عاشوراء اليوم مهرجاناً للإطعام وألوان الموائد. علينا أن نعترف إذاً بابتعادنا عن حقيقة معنى الجزع والحزن، فقد جرّدنا العزاء من جوهره، كما هو الحال بالنسبة للصلاة وغيرها من العبادات، وإلا كيف يمكن لمَنْ يجزع على الحسين×، ويكنّ الولاء له في قلبه، أن يظلم الآخرين، ويستغيب الناس، ويظنّ السوء بهم، ولا يعتني بصلاته، ولا يراعي حدود الله؟! إنما الحسين× نور للهداية، ومَنْ يدعي بلوغ هذا النور، ولا نورانية في سلوكه، فلابد من التشكيك في انتمائه. فالحسين سفينة النجاة، وليس معنى ادعاء الغارق في معصية الله تمسُّكه بالحسين وحبَّه إياه إلا ازدواجيةٌ ونفاقٌ. وبشكل عام فإن العمل الذي يختلف ظاهره عن الباطن كثيراً هو رياءٌ محضٌ. وعليه فإن مَنْ يلطم على الحسين×، ولا أثر للحسين في تصرُّفاته، مُراءٍ، وهو لا يمارس تلك الأعمال إلا من أجل الإمتاع وجلب الأنظار.

ومن غرائب الزمن أن أصحاب الأئمة^ لم يفهموا من الجزع ممارسة هكذا نوع من الأعمال، لكننا بعد مئات السنين استنتجناها ومارسناها! فعلينا تتبُّع سبب ذلك في الروايات التي ذكرها الزملاء، وفي المواضيع التي سنعرض لها تباعاً.

وفي خاتمة القسم الأول من هذه الروايات عقَّبوا بقولهم: «في هذه الروايات المعتبرة دلالة واضحة على أن الجزع ـ فضلاً عن البكاء ـ على أبي عبد الله والمعصومين^ مستحبٌّ، ومن مدعاة سرور أهل البيت، ويستحق الأجر والثواب؛ حيث جاء في رواية مسمع أنه امتنع عن الطعام حتى استبان ذلك في وجهه، ومع ذلك شجَّعه الإمام× على ذلك بقوله: رحم الله دمعتك، أما إنك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا. كما ورد في دعاء الندبة التصريح بالصراخ والعويل؛ وعليه لم تقتصر الروايات على ذكر البكاء وحده».

هل ـ حقاً ـ اشتملت هذه الروايات على أعمال مستهجنة وغير مألوفة حكمنا بحرمتها؟! نحن لم نقُلْ بحرمة النياحة أو الصراخ؛ بل مرادنا هو الأعمال المستهجنة والمنافية للوقار مما كان على العهود الجاهلية، فهي محرَّمة حتّى وإنْ كانت من أجل أهل البيت^؛ إذ لا تخرج بذلك من عمومات التحريم.

وقفة مع صاحب الجواهر&

اتّضح ممّا تقدم من الأدلة الردّ على رأي صاحب الجواهر، حيث قال: «على أنه قد يستثنى من ذلك [حرمة الجزع في المصيبة] الأنبياء والأئمة^، أو خصوص سيدي ومولاي الحسين بن علي×، كما يشعر به الخبر المتقدِّم، وكذا غيره من الأخبار، التي منها: حسن معاوية السابق، عن الصادق×: «كل الجزع والبكاء مكروه، ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين×»، المراد به فعل ما يقع من الجازع من لطم الوجه والصدر والصراخ ونحوها، ولو بقرينة ما رواه جابر، عن الباقر×: «أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل، ولطم الوجه والصدر، وجزّ الشعر» إلى آخره. مضافاً إلى السيرة في اللطم والعويل ونحوهما مما هو حرام في غيره قطعاً، فتأمّل»([9]).

ونقول في جواب ذلك:

أولاً: ثبت بالأدلة والقرائن أن الجزع في الروايات ليس بمعناه اللغوي. وعليه لا يمكن التمسُّك بإطلاقه. فقد مرَّت بنا الروايات التي تستعمل الجزع في معاني ظاهر الحزن والبكاء.

ثانياً: إن الرواية المستشهد بها لم تكن كاملة، فهي كما يلي: «عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر والحسن بن علي جميعاً، عن أبي جميلة، عن جابر، عن أبي جعفر×، قال: قلت له: ما الجزع؟ قال: أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل، ولطم الوجه والصدر، وجزّ الشعر من النواصي، ومن أقام النياحة فقد ترك الصبر، وأخذ في غير طريقه…»([10]).

فالإمام× هنا بصدد بيان مفهوم الجزع المحرَّم، ولا يمكن حمله على الجزع الجائز، ولاسيما أن مراد أهل البيت^ من أقوالهم وأفعالهم في المسألة هو الجزع على الإمام الحسين× تحديداً.

أما في ما يخصّ الكلام عن سيرة المتشرِّعة فنقول: إنها حجة بشرطين:

أولاً: أن لا تثبت لدينا سيرة أهل البيت^ في الموضوع المنظور.

ثانياً: أن تصل السيرة إلى زمان المعصوم×.

والحال أن سيرة أهل البيت في ما يخص الجزع على الحسين× ثابتة لا غبار عليها كي نلجأ في بيان الحكم إلى سيرة المتشرِّعة. ثم إن ثبوت هذه السيرة في عصر المعصوم× محلّ شكّ وترديد، بل الثابت خلافه تماماً. وشاهد ذلك قصة مسمع بن عبد الملك حين سأله الإمام× عن جزعه، فأجاب عن ذلك بالبكاء والحزن.

سيرة أهل البيت العملية

لا شك أن سيرة أهل البيت^ من أقوى الأدلة والبراهين في إثبات الطريقة المثلى في إجراء العزاء، وبيان مفهوم الجزع؛ لأن الأحكام الصادرة عن الإمام× على نحوين: إما أن تكون محل ابتلائه؛ أو لا. فإن لم تكن محل ابتلاء الإمام×، ولم يحدِّد الحكم بقيد أو وصف، جاز العمل بالإطلاق؛ وإذا كان الحكم محل ابتلائه× فإنه إن لم ينصّ على قيد أو وصف في امتثال الحكم، لكنه في مقام التطبيق التزم بطريقة خاصة، فإن هذه الطريقة هي المفسِّر لمراده من الحكم، وعليه لا يجوز العمل بالإطلاق اللفظي. فلو أمر النبي’ ـ على سبيل المثال ـ بالصلاة، ولم يصلِّ، أو لم يبيّن طريقة الصلاة، لجاز لنا العمل بالإطلاق، واستنتاج استحباب هذا الحكم، والاكتفاء في تطبيقه بأي نوع للدعاء والمناجاة، ولا حاجة إلى المقدِّمات والآداب؛ أما إذا كان النبي’ قد طبّق ما أمر به، فكان أمره بصيغة مطلقة، بأن قال: «صلّوا»، لكنه في مقام التطبيق التزم بنمط خاصّ من العبادة، فهل يمكن في هذه الحالة أيضاً استنتاج الإطلاق من كلامه’؟!

إنه في مثل هذه الحالات يكون عمل المعصوم×، المصاحب لأمره، كاشفاً عن مراده من ذلك الأمر. وعليه فإن أمر الإمام× بالجزع على الإمام الحسين× وسائر الأئمة^، وتقديمه طريقة خاصة لذلك، يعني أن مراده من الجزع هو هذه الطريقة بعينها، لذا لا يصحّ هنا العمل بالإطلاق اللغوي والعرفي للفظ.

وهنا نسأل عن جزع أهل البيت^، وهم الأقرب، والأكثر تأثُّراً بمأساة الحسين×، والأبلغ جزعاً، كما والأجدر بأشد حالات الجزع وأنواعه، فهل جزعوا بالطريقة التي ذكرها السادة في مقالهم؟

لقد ادّعى هؤلاء الزملاء أن رواية الباقر× مفسِّرة لمفهوم الجزع، وأنه «عبارة عن صراخ الشخص بالويل والعويل، وضرب الوجه والصدر، وجزّ الشعر من أعلى الناصية، وإقامة النياحة الجاهلية».

وسؤالنا لهؤلاء الأعزاء: لماذا لم يمارس الأئمة^ ـ وهم الأكثر جزعاً على الحسين ـ هذه الأعمال المذكورة؟ فمتى ذكر عن السجاد× أو الباقر ـ مثلاً ـ أنه ضرب وجهه حتى نزف منه الدم؟ ومتى ذكر عن أهل البيت^ أنهم لطموا عراةً على الحسين؟ فإن كان واقع الجزع كما ادّعى هؤلاء فأين هي أمثلته؟ فلو كانت لذكروها لنا بلا شك.

إن ما ذكروه من روايات إنما يدل على بكاء الأئمة^ في رثاء الحسين× لا غير. وعلى الرغم من اتضاح معنى الجزع في الروايات التي قبلها نقّادنا، وانحصاره في البكاء والحزن، فانهم لا يزالون يحاولون البرهنة على استحباب اللطم!

ألم نُنْهَ عن توظيف فرضيّاتنا المسبقة في فهم وتفسير الروايات؟!

وبقي أن نسأل: إذا كان اللطم ونحوه من مصاديق الجزع البارزة فلماذا امتنع مَنْ أمر به عن العمل به طيلة حياته؟! لا يمكنكم العثور على رواية تذكر أن الأئمة^ لطموا أيضاً. وأما التقية فإنها لم تكن موجودة في كل الأوقات. إذاً لماذا ننسب إلى أهل البيت^ أعمالاً لم يرتكبوها؟

الإجابة عن الاستدلال بسيرة أهل البيت^

أجاب الزملاء عن هذه الأسئلة بجوابين من سيرة أهل البيت^، هما:

الأول: إن أهل البيت^ كانوا محكومين بأجواء التقية، بل حتى في بيوتهم لم يكونوا في مأمن من الأعداء، وكانوا يلتجئون إلى التقية أيضاً. ثم ذكروا شاهداً على ذلك، وهو: «عن سفيان بن مصعب العبدي، قال: دخلت على أبي عبد الله×، فقال: قولوا لأمّ فروة تجيء فتسمع ما صنع بجدّها، قال: فجاءت، فقعدت خلف الستر، ثم قال: أنشدنا، فقلتُ: «فروُ جودي بدمعك المسكوب»، قال: فصاحت، وصِحْنَ النساء، فقال أبو عبد الله×: الباب الباب، فاجتمع أهل المدينة على الباب، قال: فبعث إليهم أبو عبد الله: صبيٌّ لنا غشي عليه فصِحْنَ النساء».

إن هذه الرواية لا تؤيِّد مدَّعاهم، بل هي دليل ضدّه أيضاً؛ لأنها تدل على أن البكاء والصراخ أيضاً من موارد التقية. ولهذا كانوا^ يلجأون إلى إقامة العزاء في بيوتهم وضمن المحيط العائلي.

لم يكن أعداء أهل البيت^ يعيرون بالاً لنمط العزاء وشكله، فلا فرق عندهم بين اللطم أو البكاء، وإنّ ما يهمهم، وأمروا بمنعه، هو إحياء ذكر كربلاء الحماسة، وهو موجود في كل أشكال العزاء وأنواعه. وعليه إن كانت التقية مانعاً عن اللطم للزم أن تكون مانعاً عن البكاء والعويل أيضاً.

ثم إذا كان اللطم خلف الجدران فبماذا سينافي أصل التقية؟ فالتقية تصدق على مَنْ كان أمام أعين الأعداء، وإلا وجب عليه العمل بأصول الأحكام الواقعية.

وقد رُوي عن أهل البيت^ أنهم كثيراً ما كانوا يصلّون في البيت أولاً، ثم يصلّون في المسجد بطريقة القوم.

زِدْ على هذا أن أهل البيت^ لم يعِشْ جميعهم في ظروف التقية، فالإمام السجاد× ـ مثلاً ـ كان يبكي وينحب يومياً أمام العدوّ والصديق، ويجزع على أبيه الحسين×، ومع ذلك لم يُؤثَر عنه القيام بتلك الأعمال.

وروي عنه× أنه كان يخرج في بعض الأحيان إلى البادية، فيضع وجهه الشريف على الحجر، ويبكي بكاء شديداً، فإذا رفع رأسه من الحجر وجده مبتلاًّ بدموع عينيه. وهنا نسأل: هل كانت التقية سارية في الصحراء؟! فلمَ لم يبادر الإمام في جزعه إلى اللطم؟

الثاني: رد النقّاد الأعزاء على عدم لطم أهل البيت^ بقولهم: «ثانياً: ليس كل ما أمر به أهل البيت^، وعدّوه من المستحبات، قد روي عنهم العمل به. فعلى سبيل المثال: هناك أخبار عديدة في استحباب زواج المتعة، في حين لم يرِدْ حتّى خبرٌ واحدٌ في قيامهم بذلك».

ونقول في دفع هذه الشبهة: تنصّ القاعدة ـ عقلاً ونقلاً ـ على ضرورة أن يبادر الأئمة^ إلى تطبيق الأوامر والأحكام قبل مخاطبة الناس بها، وهذا هو ما يفسِّر لنا سرّ اختيار الأنبياء من بين الناس أنفسهم؛ وذلك لكي يعملوا بالأوامر والنواهي، ولا تبقى للناس حجّة عليهم. زِدْ على ذلك أن كلام المرشد يكون مؤثِّراً إذا كان هو نفسه قد سبق الآخرين إلى الإيمان به والعمل على تطبيقه، وإلا لما حقَّق نجاحاً في الإرشاد.

أما على صعيد النصوص القرآنية والروائية فهناك أدلة وشواهد عديدة، نذكر منها:

1ـ لقد ذمّ الباري ـ عز وجل ـ أولئك الذين يأمرون الناس بالخير ولا يعملون به، فقال: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (البقرة: 44)؛ إذ يشير استفهام التهكُّم في ذيل الآية إلى أن ترك البرّ والأمر به مخالف للعقل.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (الصف: 2 ـ 3).

وتصف هذه الآية ذلك العمل بالذنب الكبير.

3ـ عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحجّال، عن العلاء، عن ابن أبي يعفور، قال: قال أبو عبد الله×: «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليرَوْا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية»([11]).

4ـ نقل العياشي في تفسيره عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله×: قال: قلت: قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ؟ قال: فوضع يده على حلقه، قال: كالذابح نفسه([12]).

من المعلوم أن الروايات في هذا الجانب تتعدى حدود التواتر أيضاً، بل إن هذا الموضوع من مسلَّمات الشيعة، أي لا يمكن أن يأمر الأئمة^ ببرٍّ ويتركوا العمل به. إذاً ووفقاً لهذا المبدأ إذا وجدنا أنهم أمروا بشيء ولم يعملوا به فذلك إما لأنه لا يشملهم أساساً، ويكون من مختصّات عامة للناس، أو لأن لذلك العمل مميّزات خاصة تدعوهم إلى تركه.

وهناك فروق كثيرة بين المتعة واللطم، نكتفي بذكر اثنين منها:

الأول: إن حكم اللطم محلّ شكّ، ولهذا فإن عمل أهل البيت به أو عدمه سيؤثِّر جوهرياً على النتائج؛ بينما جواز زواج المتعة من مسلَّمات الشيعة، وقد وردت في إثباته أدلة قرآنية وروائية متواترة، وعليه لا نحتاج إلى سيرة أهل البيت^، بمعنى لو ثبت ترك الأئمة^ له فإن ذلك لا يترك أيّ أثر على صحة الحكم.

الثاني: إن للمتعة ظروفاً خاصّة منعت الأئمة^ من التفكير بها، ولا تتوفَّر مثل تلك الظروف والحيثيات بالنسبة للطم.

وبشكل عامّ فإن للمتشرِّعة حساسية خاصّة تجاه القضايا الجنسية. فعلى سبيل المثال: لو كان في المجتمع شخص كثير الغيبة فلن يكون منبوذاً في العرف بقدر مَنْ زنا لمرة واحدة؛ في حين أن عقاب كثير الغيبة يوم القيامة أشدّ من عقاب الزاني. ولا تزال هذه الحيثية والحساسية تجاه العلاقات الجنسية، ومنها: المتعة، قائمة في المجتمع الشيعي حتى يومنا هذا، فمع أن الجميع يعترف بجواز، بل باستحباب، المتعة، لكنّ المتشرِّعة لا يمارسونها شخصياً، بل قد يدعون الناس ويشجِّعونهم عليها، لكنهم يتجنّبونها؛ نظراً لمساوئها الاجتماعية.

لقد نهى الأئمة^ الناس من أن يحلّوا موضعاً للتهمة، وقد كانوا يعيشون في مجتمع لا يعترف بإمامتهم، ولا يرى المتعة حلالاً؛ بل يعدّها زناً. ففي هذه الأجواء لا شكّ أن الاقتراب منها ـ حتّى وإنْ كان من قبل أصحاب الأئمة ـ سيكلف التشيُّع أثماناً باهظة.

ومما يؤيد هذا الكلام رواية عن الصادق× أنه قال لعمار ولسيلمان بن خالد: قد حرَّمتُ عليكما المتعة من قبلي ما دمتما بالمدينة؛ لأنكما تكثران الدخول عليّ، فأخاف أن تؤخذا، فيقال: هؤلاء أصحاب جعفر»([13]).

ويلاحظ هنا أن الإمام يقول: حرَّمتُ من قبلي، أي أن المتعة حلال في حدّ ذاتها، لكن ظروفاً حكمته، فحرَّمها عليهما. وقد ورد هذا المعنى في رواية أخرى مشابهة:  عن أبي عبد الله× أنه قال لإسماعيل الجعفي ولعمار الساباطي: حرَّمتُ عليكما المتعة مادمتما تدخلان عليّ؛ ذلك لأني أخاف أن تؤخذا، وتضربا، وتشهدا، فيقال: هؤلاء أصحاب جعفر»([14]).

وإذا كان الإمام× حذراً مع أصحابه إلى هذا الحدّ فكيف مع نفسه؟!

زِدْ على ذلك أنه روي في المتعة ـ خلافاً لمدّعى الناقدَيْن ـ عن الرسول’ وعن الإمام علي× أيضاً، في حين لم يُرْوَ عنهما موردٌ واحدٌ في اللطم. ومن المرويات:

1ـ عن أبي عبد الله× قال: المتعة نزل بها القرآن، وجرت بها السنّة من رسول الله([15]).

2ـ روى ابن بابويه بإسناده أن علياً× نكح امرأة بالكوفة من بني نهشل متعةً([16]).

الروايات الناهية عن اللطم وكل الأعمال المستهجنة في العزاء الحسيني

فالروايات الواردة في تحريم اللطم والخدش ونحوهما على ثلاثة أقسام:

الأول: الروايات التي نهت عن هذه الأعمال بشكل مطلق، وعدَّتها منافية للعبودية. وهي كثيرة، وقد ذكرنا جانباً منها في مقالنا السابق.

الثاني: الروايات التي لم تجوِّز تلك الأعمال في عزاء الأولياء، كجعفر بن أبي طالب.

الثالث: الروايات التي تحرِّم هذه الأعمال، حتى في عزاء ورثاء المعصومين^، ونهت عنها بشدة قاطعة. وبعبارة أخرى: إن هذه الروايات تردّ على الزعم القائل بأن رثاء المعصومين مستثنىً من عموم اللطم.

1ـ عن الإمام الباقر×، في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ، وهي في ما يخصّ بيعة النساء مع الرسول’: «إن رسول الله’ قال لفاطمة÷: إذا أنا متّ فلا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تنشري عليّ شعراً، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمي عليّ نائحة، قال: ثم قال: هذا المعروف الذي قال الله عز وجل»([17]).

لقد اتُّهمت هذه الرواية والرواية الثانية بضعف السند. والواقع أن هذه الرواية مقبولة تماماً، ويمكن الاستناد عليها؛ لأن من أفضل معضدات الرواية هو انسجامها مع سيرة المعصوم× العملية. فلو نسب كلام للإمام×، وهو مطابق لسيرته العملية، فإن ذلك سيكون أفضل دليل على صدوره عنه. ومضمون هذه الرواية منسجم أيضاً مع سيرة الأئمة^؛ حيث لم ينقل عن الزهراء÷ ـ مثلاً ـ أنها لطمت وجهها أو رأسها، أو نشرت شعرها، أو شقت ثوبها، لوفاة أبيها.

كما استشهد كتّاب المقال بكلام أمير المؤمنين× في مناسبة رثاء الرسول’، حيث قال: «إن الجزع لقبيح إلا عليك»، بمعنى أن الجزع جائز في حق الرسول’.

وقد فصّلنا القول في هذه المسألة، وقلنا: ليس بالضرورة أن يكون المقصود من الجزع هنا الخدش واللطم، وإذا كان الجزع لغةً يشمل هذه الموارد فهو لا يشملها شرعاً.

أما بالنسبة لإشكالهم حول النياحة الملتزمة بالأصول والآداب، والقول بجوازها، فهذا رأينا أيضاً؛ إذ إنها ـ نظراً للروايات الأخرى الواردة في النوح والنياحة ـ من لوازم البكاء، وإن نهي الرسول’ كان عن النياحة الجاهلية حصراً.

2ـ جاء في حديث مطوَّل عن السجاد× أن الحسين× قد نهى السيدة زينب÷ ليلة عاشوراء عن أي لطم وجزع([18]).

وقد خضنا في تفاصيل الرواية في المقال السابق.

إن أبرز الطعون الموجَّهة إلى هذه الرواية هو تضعيف سندها، حيث أشكل نقّاد المقال بأنها ذكرت لأوّل مرة في كتاب تاريخ الطبري، وهو غير معتبر لدى علماء الشيعة، ولا يمكن الاستناد إليه. كما ادّعوا أن الشيخ المفيد وصاحب المناقب كانا قد نقلا الرواية ذاتها عن الطبري نفسه. وعليه لا قيمة لنقلهما.

ونقول لهم: لقد وردت هذه الرواية في معظم كتب التاريخ الشيعية والسنية. وقلما ذكرت حادثة في هذا الكمّ من المصادر التي أوردنا بعضها في الهامش. ولم يكن الطبري هو أول من رواها، بل سبقه من قبل أبو الحسن البلاذريّ في كتابه «أنساب الأشراف»، واليعقوبيّ المعاصر للطبريّ، وهو من الشيعة طبعاً.

وفضلاً عن هذا كلّه لو لم تصل الرواية مبلغ الحجّية بنفسها فيعضدها في ذلك الروايات الأخرى وعموماتها في تحريم اللطم، والروايات المخصصة بتحريم تلك الأعمال في رثاء المعصومين^. والأهم من ذلك تعضيد السيرة العملية لأهل البيت^، ومطابقة هذه الرواية لها. وعليه فإن مجرد إهمال العلماء لها في السابق، وعدم نقلها في الكتب الفقهية، ليس دليلاً على نفي حجيتها.

3ـ عن جعفر بن محمد× أنه أوصى عندما احتضر فقال: لا يُلطمنّ عليّ خدٌّ، ولا يشقنَّ عليّ جيبٌ، فما من امرأة تشقّ جيبها إلا صدع لها في جهنم صدع، كلما زادت زيدت»([19]).

وعلى الرغم من أن هذه الرواية مرسلة ومرويّة عن الدعائم، لكنها تعضد كما عضدت الرواية السابقة. فالرواية تتحدث عن رثاء الإمام الصادق× بُعَيدْ وفاته. إذاً فهي صريحة في بيان المقصود.

المحصِّلة

لم تكن الروايات التي استشهد بها كتّاب المقال في إثبات الاستحباب في اللطم ونحوه مجدية في ذلك، بل كانت تفيد استحباب البكاء والحزن؛ حيث لم يرِدْ لفظ اللطم في أيٍّ من تلك الروايات، وإنما كانت تتحدث عن البكاء والحزن والندبة والصراخ، وهي أعمال مألوفة في المجتمع، ولا يعترض عليها أحدٌ.

كما كانت سيرة المعصومين^ في عزاء سيد الشهداء× أقوى الأدلة في إثبات أن الجزع ليس بمعنى اللطم والأعمال المستهجنة. نعم، الجزع بمعناه اللغوي يشمل هذه الموارد، لكن بيان سيرة أهل البيت^ يدل على أن الجزع لا ينبغي أن يصل ـ ولو في أشد حالاته ـ إلى هذا الحدّ؛ وذلك لأنهم^ كانوا يعيشون المأساة في عنفوانها، وفي أشد أنواع الجزع، ومع ذلك لم يمارسوا أيّاً من تلك الأعمال المذكورة.

ويضاف إلى الروايات العامة ـ في الدلالة على تحريم اللطم والخدش وكل عمل غير مألوف ـ روايات خاصّة تدل أيضاً على تحريم تلك الأعمال حتى في عزاء أهل البيت^. إذاً هناك أدلة دامغة في تحريم هذا العمل، في حين لم يُقدَّم دليل واضح على جواز اللطم ونحوه.

الروايات الدالة على استحباب اللطم على الوجه والصدور، وكذلك الضرب بالسلاسل، وشق الثياب، و..

هل قدم لنا الناقدان أدلة على جواز هذه الأعمال تصمد أمام سيرة المعصوم، والروايات التي فسَّرت الجزع بالبكاء، والروايات الدالة صراحةً على التحريم؟

فقد كان دليلهم الوحيد، والذي تمسَّكوا به كثيراً، هو زيارة الناحية المقدسة([20])، وقصة الفاطميات المأساوية في يوم عاشوراء.

الفقرة الأولى: «…فلئن أخرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكين عليك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك، وتأسفاً على ما دهاك، وتلهفاً على مصابك، حتى أموت بلوعة المصاب، وغصة الاكتياب…».

لقد تأمَّلتُ كثيراً في هذه العبائر فلم أستشعر فيها دلالةً على جواز اللطم أو أي عمل مستهجن، كالتطبير، ونزع الثياب، والضرب على الرأس والوجه.

نعم، تدل هذه العبارات على مدى حزن الإمام وأساه، فتمنى التضحية بحياته من أجل سيد الشهداء×. وتنص هذه الرواية على أن الإمام× ندب جده× وبكاه بلوعة وحسرة. وليست هذه أعمالاً غير مألوفة. وإذا كنا قد قلنا في مقالنا السابق بأنّ أهل البيت^ لم يوصوا بعمل غير البكاء والزيارة فليس هذا نافياً لبعض الأعمال المشابهة، كالندبة، والنياحة؛ لأنها من المواضيع المفروغ عن جوازها، وهي أيضاً من لوازم البكاء، فكان مرادنا أن أهل البيت^ قد أمروا بالأعمال المألوفة، كالبكاء، والزيارة، ولم يأمروا بالأعمال غير المألوفة، كاللطم، والخدش.

الفقرة الثانية: «وأسرع فرسك شارداً، إلى خيامك قاصداً، محمحماً باكياً، فلما رأينَ النساءُ جوادَك مخزيّاً، ونظرنَ سرجك عليه ملويّاً، برزنَ من الخدور، ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات، وللوجوه سافرات، وبالعويل داعيات، وبعد العز مذلَّلات، وإلى مصرعك مبادرات، والشمر جالس على صدرك…».

تعدّ هذه الفقرة من الزيارة أهم الأدلة المقدَّمة ضدنا. وهنا نرى الإمام# وهو يروي أحداث يوم عاشوراء، فيبكي على ما جرى مع الإمام الحسين×. وبعبارة أخرى: هو في قراءة مجلس تعزية كما نصطلح عليه اليوم.

لماذا لا يريد زملاؤنا أن يقتنعوا بأن ظروف الفاطميات يوم عاشوراء هي ظروف اضطرارية، وأن صدور مثل تلك الأفعال منهنّ لم يكن أمراً طبيعياً في تلك الساعات العصيبة، فهل يمكن استنباط حكم من الحالات الاضطرارية، وتعميمه على كل الأزمان؟ هل كانت هذه العبائر السردية دليلاً على جواز تلك الأعمال في كل عصر ومكان؟ إذا كانت تلك الأحداث نموذجاً مستداماً للجميع فلماذا لم يصدر عن الأئمة^ ولو لمرة واحدة؟ ففي أقلّ تقدير لم يكن الإمام المهدي# في تقية أبداً، فلماذا لم يذكر في زيارته التي تمَّت بعيداً عن أعين الناس شيئاً عن اللطم، أو أي عمل غير مألوف؟ لماذا لم يتكرَّر هذا العمل من الفاطميات أنفسهنّ في الأعوام اللاحقة، وفي ذكرى مراسم يوم عاشوراء؟ لماذا لم نسمع عن خربة الشام ـ وهي مأتم دائم للفاطميات ـ أن أحداً كسر فيها رأسه، أو لطم، أو شقّ ثيابه؟

لقد استنتج النقّاد الأعزاء من مجلس تعزية الإمام# تقريره تلك الأعمال، في حين لم يكن الإمام هنا بصدد بيان حكم شرعي كي يستنتج تقريره.

وقد ذكرنا في المقال السابق أن حضور الإمام السجاد× يوم عاشوراء، وسكوته عما جرى، لا يعدّ تقريراً منه لأعمال الفاطميات؛ إذ كان× مريضاً نحيلاً طريح الفراش لا يقوى على الحركة، وحين شبَّت النيران في خيمته جاءت السيدة زينب÷ وأخرجته منها. ففي هذه الأجواء كيف يمكن أن يأمر بشيء أو ينهى عنه؟!

وقد اعترض علينا النقاد في مقالهم، وقالوا: إن كلامنا هذا يدل على قصور في فهم عظمة الإمام× ومكانته!

وعلى أية حال إذا كان الإمام× في صدد الأمر أو النهي عن طريق الأدوات المادية والحالة الطبيعية فماذا كان يمتلك منها؟! هل كان يقوى على الحركة أم على النداء والصراخ؟!

نحن لا ننكر وجود أشخاص يتفاعلون؛ بإيمانهم، مع الحسين×، فيرون أن كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء، لكن أكثر أولئك الذين يمارسون أعمالاً غير مألوفة في عزاء سيد الشهداء× لا يعرفون واجباتهم الشرعية، ولا يلتزمون بأقل الأخلاق الإسلامية، فاتخذوا من الإمام الحسين× مسيحاً لهم، ليذنبوا بذريعة رثائه والبكاء عليه، ويتجاهلوا أهدافه الحقيقية.

ولم يسمع أو يشاهد أحدٌ من المخلصين العارفين ـ ومنهم علماء الشيعة ـ قد مارس تلك الأعمال ذات مرة، وحتى أولئك العلماء الذين أفتوا بجوازها.

الفقرة الثالثة: «…فانزعج الرسول، وبكى قلبه المهول، وعزاه بك الملائكة والأنبياء، وفجعت بك أمك الزهراء، واختلف جنود الملائكة المقربين تعزي أباك أمير المؤمنين، وأقيمت لك المآتم في أعلى عليّين، ولطمت عليك الحور العين، وبكت السماء وسكانها، والجنان وخزّانها، والهضاب وأقطارها، والبحار وحيتانها، والجنان وولدانها، والبيت والمقام، والمشعر الحرام، والحل والإحرام…».

لقد تشبَّث الزملاء النقاد هنا بنصوص ليس لها أيّ دور في دعم مدّعاهم، بل إنها قد تكون دليلاً ضدّهم أيضاً.

إذا كان اللطم ونحوه جائزاً حقّاً لذكر هنا من باب أولى، ولقال الإمام مثلاً: لقد لطم الرسول في مصابك على رأسه ووجهه، وشقّت أمك الزهراء ثوبها، وخدشت وجهها، وحين سمع أبوك أمير المؤمنين أمر مصرعك ضرب رأسه بالحائط حزناً عليك…!

لماذا تصرّون على إثبات شيء لا وجود له؟ فعلى الفقيه والباحث في الفقه أن يهتم بمعرفة ما هو موجود، لا أن يؤوِّل ويصلح ما هو غير موجود في الخارج أصلاً. ولو كان للطم واقع حقّاً فلماذا ننقِّب عنه بالمجهر؟!

ولعل العبارة الوحيدة في هذه الفقرة التي يمكن لهم الاستشهاد بها هي: «ولطمت عليك الحور العين»؛ حيث ورد فيها لفظ اللطم صراحةً، وهنا نسأل: لماذا لم تلطم الزهراء÷ ولطمت الحور العين؟! هل هي أكثر حزناً وحرصاً على الحسين من أمه الزهراء؟! ألا يدلنا هذا على أن لطم الحور العين يختلف تماماً عن لطم الإنسان، وأن أحكامها تختلف أيضاً عن أحكام الإنسان، وأنه لا يمكن الاستناد إلى تصرفات الحور العين في تجويز أو منع عمل ما؟ أما بالنسبة لحقيقة حور العين وأعمالها فهذا موضوع بحاجة إلى إسهاب لا مجال له هنا.

إن لغة هذه العبائر هي لغة الإشارة والاستعارة والرمز، وهي من قبيل قولهم: «بكاء الأرض والسماء»، فهل يصح لنا أن نتخذ عمل مخلوق لا نعرف عنه شيئاً، ولا نعرف كيف يحزن أو يفرح، أساساً في استنباط الحكم الفقهي؟

من هنا يتضح لنا أيضاً أن مراد الإمام الصادق× في رواية ابن سدير أنه كان في صدد وصف مدى المعاناة والأهوال في يوم عاشوراء، ومن الصعب في مثل هذا اليوم نفي قبح أو حرمة أعمال الفاطميات، فهو× لم يقصد بذلك تعميم هذا على سائر الأيام: «وذكر أحمد بن محمد بن داوود القمي في نوادره قال: روى محمد بن عيسى، عن أخيه جعفر بن عيسى، عن خالد بن سدير أخي حنان بن سدير، قال: سألت أبا عبد الله× عن رجل شقّ ثوبه على أبيه أو على أمه أو على أخيه أو على قريب له؟ فقال: لا بأس بشق الجيوب؛ فقد شقّ موسى بن عمران على أخيه هارون، ولا يشقّ الوالد على ولده، ولا زوج على امرأته، وتشقّ المرأة على زوجها، وإذا شقّ زوج على امرأته، أو والد على ولده، فكفارته حنث يمين، ولا صلاة لهما حتى يكفِّرا ويتوبا من ذلك، وإذا خدشت المرأة وجهها، أو جزَّت شعرها أو نتفته، ففي جز الشعر عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً، وفي الخدش إذا دميت، وفي النتف، كفارة حنث يمين، ولا شيء في اللطم على الخدود سوى الاستغفار والتوبة، وقد شقَقْنَ الجيوب ولطَمْنَ الخدود الفاطميات على الحسين بن علي×، وعلى مثله تلطم الخدود، وتشقّ الجيوب»([21]).

لقد تكلمنا عن هذه الرواية في المقال السابق بما فيه الكفاية. ونضيف هنا: إن قليلاً من الإمعان والتأمل يكشف لنا الخطأ في فهم جواز اللطم منها؛ فقد مرّ بنا في روايات التحريم نهي الصادق× عن اللطم والخدش، حتى في رثائه، الأمر الذي يدل على أن النهي الصادر في تلك النصوص لا يقتصر على رثاء الناس العاديين، بل يشمل الأئمة^ أيضاً. فكما أن حرمة الغناء تشمل القرآن ومجالس التعزية فإن حرمة اللطم أيضاً تشمل الأئمة^ وغيرهم. والإمام× هنا بصدد بيان الحكم الشرعي، فلو كان فيه تخصيص للزم ذكره والإفصاح عنه، كأن يقول مثلاً: إن جميع هذه الأحكام مختصّة بعامة الناس، أما بالنسبة للأولياء فلا إشكال فيها.

وعليه فإن الروايات السابقة تدل على أن هذه الأعمال غير جائزة، حتى إذا كانت في عزاء أهل البيت^، ولو كان اللطم جائزاً من أجل أهل البيت^ فما هو الداعي إلى التذكير بعمل الفاطميات، وتبريره بكونه حالة استثنائية؟ فإن استثناء الفاطميات، ونفي القبح والمعصية عن كيفية رثائهم الشهداء في كربلاء، هو دليل واضح على كون اللطم غير جائز، حتى في عزاء ومصاب أهل البيت^، وعلى أن لعمل الفاطميات في ذلك اليوم خصوصية متفردة.

إن معنى التطرُّق إلى الفاطميات في هذه الرواية، وتصحيح عملهنّ، هو أنهنّ لم يقمن بذلك فيما بعد، وإلا لما كانت حاجةٌ إلى تعليل فعلهنّ هذا. فحين يتحدث الإمام× عن حكم اللطم الشرعي سيتداعى لدى المخاطب سؤال مفاده: إذا كان اللطم حراماً فلماذا لطمت الفاطميات في كربلاء؟ ولذا استدرك الإمام قائلاً: إن ذلك كان جائزاً لهنّ في ذلك اليوم، وأن هذا العمل مختصٌّ بكربلاء ويومها، ولم يتكرَّر بعد ذلك أبداً. وإن لم يكن الأمر كذلك فما هي الحاجة إلى ذكر الإمام× للحادثة، وتوضيحها إلى هذا الحدّ.

وعلى أية حال فإن هذه الرواية ـ ونظراً لمفاد الروايات الأخرى، وأهمّ منها سيرة المعصومين ـ هي بصدد بيان علة ذلك التصرُّف في يوم عاشوراء، وصدوره من قبل الفاطميات، ولا تحمل أية دلالة على جواز اللطم في جميع الأعصار والأزمان والمناسبات.

الهوامش

(*) باحث وأستاذ في الحوزة العلمية.

([1]) بما أن مصادر الروايات مذكورة في المقال الناقد فإننا سنتجنب تكرارها هنا.

([2]) العين 1: 216؛ لسان العرب 8: 47؛ مجمع البحرين 4: 311.

([3]) نهج البلاغة: 527، الكلمات القصار، الرقم 292، «وقال× على قبر رسول الله’ ساعة دفنه».

([4]) نهج البلاغة: 355، الخطبة 235، «ومن كلام له× قاله وهو يلي غسل رسول الله’ وتجهيزه».

([5]) كامل الزيارات: 100، ح2؛ بحار الأنوار 44: 291، ح32؛ جامع أحاديث الشيعة 12: 57.

([6]) محمد بن المشهدي، المزار: 578؛ إقبال الأعمال 1: 508؛ بحار الأنوار 102: 107، وفي بعض النسخ: «فلتدر» بدلاً من «فلتذرف».

([7]) فرحة الغري: 92؛ بحار الأنوار 97: 235.

([8]) كامل الزيارات: 101؛ وسائل الشيعة 14: 507، ح19705؛ بحار الأنوار 99: 106.

([9]) جواهر الكلام 4: 371.

([10]) الكافي 3: 222، باب الصبر والجزع والاسترجاع.

([11]) الكافي 2: 78، باب الورع، ح14.

([12]) مستدرك الوسائل 12: 202، باب 9، وجوب الإتيان بما يؤمر به من الواجبات وترك ما ينهى عنه من المحرمات، ح13883.

([13]) الكافي 5: 467، باب النوادر، ح10.

([14]) مستدرك الوسائل 14: 456، باب كراهة المتعة مع الغنى عنها و…، ح17274.

([15]) الكافي 5: 449، أبواب المتعة، ح5؛ تهذيب الأحكام 7: 251، باب 24، باب تفصيل أحكام النكاح؛ الاستبصار 3: 141، باب 92، باب تحليل المتعة.

([16]) وسائل الشيعة 21: 10، باب 1، باب إباحتها، ح26378؛ خلاصة الإيجاز: 25، الباب الأول في مشروعيتها.

([17]) الكافي 5: 527.

([18]) بحار الأنوار 45: 2؛ تاريخ اليعقوبي 2: 244؛ أنساب الأشراف 3: 185؛ المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 5: 338: فمن الحوادث فيها: مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب×؛ البداية والنهاية 8: 177: «وهذه صفة مقتله رضي الله عنه مأخوذة من كلام أئمة هذا الشأن، لا كما يزعمه أهل التشيع من الكذب الصريح والبهتان»؛ تاريخ الطبري 5: 420.

([19]) دعائم الإسلام 1: 226، ذكر التعازي والصبر ما رخص فيه من…؛ بحار الأنوار 79: 101، باب 16، التعزية والمأتم وآدابهما؛ مستدرك الوسائل 2: 456، باب 72، باب كراهة الصياح على الميت وشق الثوب على…، ح2455.

([20]) نذكّر بأن في نسبة زيارة الناحية إلى الإمام# شكاً وترديداً، ولا يمكن معاملتها معاملة الرواية في الاستدلال على الحكم.

([21]) تهذيب الأحكام 8: 325، ح23؛ وسائل الشيعة 22: 402، ح28894؛ بحار الأنوار 13: 364، ح5؛ عوالي اللآلي 3: 409، ح15.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً