أحدث المقالات

أضواء وآراء

أ. عماد الهلالي(*)

تمهيد

إنه لابد لتجديد الفكر الديني، كما يقول الشاعر والفيلسوف محمد إقبال (1938م)([1])، وتحديث العقل الإسلامي، من أن تعاد دراسة المصادر الأساسية الإسلامية على أسس علمية راسخة، وتُبنى على منهج نقدي وحيادي سليم، وتستوي على فهم متكامل شامل. وبغير ذلك سوف يظل الهرم ـ الإسلامي ـ مقلوباً، والصورة سالبة؛ إذ يبدأ الاعتقاد بأقوال شاردة، أو عبارات مرسلة، أو أحاديث ضعيفة، ثم تقوم الدراسات والأبحاث وتعمل المؤلفات على تبرير الخطأ وتسويخ الاضطراب وتقوية الضعيف. في حين أن العمل القويم والمعيار السليم والميزان المستقيم أن تبدأ الدراسات والأبحاث وتنقد ببصيرة، حتى إذا ما انتهت إلى الصواب من الأمور، فالصادق من القول، والصحيح من الحديث والتفسير، قدمته للأمة عملاً جاداً، ودراسة سديدة، وتقديراً متكاملاً، ومن ثم يقوم الإيمان على الصواب، ويرتفع الاعتقاد على الصدق، وتستوي المفاهيم على الصحيح.

ومن جانب آخر فإنه من الخطأ الجسيم والخطر العظيم أن يختلط التراث الشعبي والتقاليد والعادات بالمفهوم الديني، وأن تتداخل العادات والتقاليد الاجتماعية في تحديد الحكم الشرعي. ومؤدّى ذلك ـ إن حدث ـ أن يضطرب المفهوم الديني، وأن يهتز التراث الشرعي، فيدخل على هذا وذاك ما ليس منه وما هو غريب منه، وبهذا يصبح التراث الشعبي مفهوماً دينياً على غير حق، وتصير العادات الاجتماعية أوضاعاً شرعية دون أي أساس، ففي هذه الحالة يصعب تمييز الدينيّ عن الموروث الشعبي، وهو أمر يسيء إلى الدين أية إساءة.

ومن هذه الأمور الحجاب، أو حجاب المرأة، الذي يحتل مساحة واسعة من اهتمامات الإسلاميين والعلمانيين على السواء. فبين من يعتبره معيار الدين والإيمان والعقيدة للمرأة المسلمة، والأصل المهم في صياغة شخصيتها، ورسم معالم مسيرتها في حركة الحياة والواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي و…؛ وبين من يراه عائقاً أمام انطلاق المرأة في خط الانفتاح على المجتمع لترشيد طاقتها وقدراتها المتنوعة، وأداة غير سليمة تجمد المرأة في أسوار البيت، وتشلّ فيها إرادة المواجهة، وتحولها إلى كيان ثانوي، تعيش على هامش حياة الرجل وشخصيته الاجتماعية والثقافية…

وتعتبر مشكلة الحجاب من أعقد المشاكل الاجتماعية التي تثير الخلاف والجدل في العالم العربي ـ الإسلامي، التي ساهمت في عرقلة تطوّر العلاقة السليمة بين الرجل والمرأة، وأفرزت ممارسات من شأنها فرض نطاق من العزلة بينهما، وبالتالي تحجيم دور المرأة في الحياة الاجتماعية العامة. وقد وضع الإسلامي مبادىء، وشرّع قوانين عيَّن فيها حقوق كل من المرأة والرجل، وحدَّد واجبات كلٍّ منهما، واعترف بإنسانية المرأة ومساواتها مع الرجل في الخلق والإيمان والمسؤولية، مثلما أكّد على أهميتها ودورها في المجتمع. غير أن كثيراً من الأفراد لم يطبق المبادئ التي جاء بها الإسلام وأقرّها الشرع، بل أهمل البعض حقوق المرأة وزاد في واجباتها، وأساء البعض الآخر فهم هذه المبادئ وفسّرها بما يلائم آراءه ومصالحه.

ففي الجزيرة العربية قبل الإسلام لم يكن هنالك حجاب أو سفور، حيث كان الرجال يتعممون والنساء يتخمَّرن. والخمار ليس الحجاب، بل هو زيٌّ تشترك فيه نساء الشرق القديم([2]).

مدلول لفظ الحجاب من خلال الآيات القرآنية

1ـ آيات الحجاب

وردت كلمة «الحجاب» في القرآن في سبعة مواضع كالتالي:

1ـ {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} (مريم: 16 ـ 17).

فمريم ابنة عمران جعلت بينها وبين قومها حاجزاً وستراً. والحجاب هنا يعني الاعتزال والستارة التي اعتزلت وراءها. ونزلت في الفترة ما بين 614 ـ 615م([3]).

ويحتمل الرازي بأن مريم جعلت بين نفسها وبينهم ستراً([4]).

2ـ {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ} (طه: 32).

اشتغل سليمان بعرض الخيل التي تركها له أبوه. وكان عددها عشرون ألف فرس، أُجريت بين يديه عشيّاً، فتشاغل؛ لحسنها وجريها ومحبتها، عن صلاة المغرب حتى غابت الشمس واختفت عن الأنظار، فجعل يذبحها ويقطع أرجلها تقرُّباً إلى الله لتكون طعاماً للفقراء؛ لأنها شغلته عن الذكر.

والتواري بالحجاب في الآية هو الغياب عن العين([5]).

3ـ {وَإِذَا قَرَأْتَ القُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً}.

وإذا قرأت القرآن يا محمد على هؤلاء المشركين، الذين لا يصدقون بالآخرة، جعلنا بينك وبينهم حجاباً خفياً، يحجب عنهم فهمه ولا يمنعهم من استماعه. وبحسب رأي البيضاوي: حجاباً يطمس عقولهم، فيعجزون عن فهم ما تتلوه عليهم من كلام الله([6]). وقد نزلت هذه الآية أواخر الفترة المكية الثانية. علماً بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة كانوا يرون الرسول‘ ويسمعونه.

يقول الرازي، وهو يسأل هل كان يجب أن يقال: حجاباً ساتراً؟ والجواب عندي من وجوه:

الأول: إن ذلك حجاب يخلقه الله في عيونهم يمنعم من رؤية النبي، وذلك الحجاب لا يراه أحد، فهو مستور.

الثاني: يجوز أن يقال: مستور، ومعناه ذو ستر، كما يقال: مرطوب ذو رطوبة، ومهول أي ذو هول.

الثالث: المستور اسم مفعول بمعنى الساتر (اسم فاعل)، وذلك مشهور للعرب.

إذاً الحجاب هو الطبع الذي على قلوبهم، والطبع هو المنع الذي منعهم من أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه. فالمراد من الحجاب المستور ذلك الطبع الذي خلقه الله في قلوبهم([7]).

4ـ {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ ممَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (فصلت: 5).

حين دعا رسول الله‘ المشركين للإيمان قالوا: قلوبنا في أغطية متكاثفة لا يصل إليها شيء مما تدعونا إليه من الإيمان والتوحيد، وفي آذاننا صمم، وشغل يمنعنا من فهم ما تقول.

لقد شبهوا أسماعهم بآذان فيها صمم من حيث إنها تمنع الحق ولا تميل إلى سماعه، وبيننا وبينك حاجز يمنع أن يصلنا شيء مما تقول. فنحن معذورون من عدم اتباعك لوجود المانع من جهتنا وجهتك. لا نفهمك ولا تفهمنا. فليعمل كل واحد حسب ما يعتقد أنه الحق؛ لأن هنالك حاجز يحجزنا منك فلا نجتمع معك على شيء مما تريد، فقد أيأسوه‘ من قبول دعوته بما أخبروه([8]).

يعبر الطبري في هذه الآية عن الحجاب بالصعوبات التي كانت تعيق القرشيين المشركين عن فهم الرسالة التوحيدية لمحمد‘.

والحجاب في هذه الآية مرادف للأكنّة التي هي «غلاف، كالغلاف الذي يحمي القوس».

ويضيف الطبري: إن معنى الحجاب في هذه الآية لا يشير إلى خلاف معارض ومخاصم للدين»([9]).

5ـ {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى: 51).

ما صح لأحد من البشر أيّاً كان أن يكلمه الله إلا بطريقة الوحي في المنام أو الإلهام، أو يكلمه من وراء حجاب كما كلّم موسى×، أو يرسل ملكاً فيبلغ الوحي إلى رسول الله بأمره تعالى ما يشاء تبليغه، كما نزل جبرئيل بالوحي على الأنبياء.

وليس أن ثمَّ حجاباً يفصل موضعاً من موضع، فيدل ذلك على تحديد المحجوب([10]).

6ـ {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} (الأعراف: 46).

ومعنى الآية أن بين أصحاب الجنة وأصحاب النار حجاب، وهو السور الذي يمنع وصول أهل النار إلى الجنة، والحجاب هنا بمعنى الحاجز. وقد نزلت هذه الآية أواخر الفترة المكية الثالثة([11]).

7ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ وَإِذَا سَالتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيماً} (الأحزاب: 53).

لم نجد في هذه المرات الستّ أن كلمة الحجاب قد استعملت في زي المرأة ولباسها. وتعد الآية 53 من سورة الأحزاب من أهم الآيات القرآنية التي استدل بها لوجوب الحجاب الإسلامي والشرعي، فلنرَ معاً هل هذه الآية تدل على ذلك أم لا؟

هذه الآية تتضمن ثلاثة أحكام:

الأول: ما يجب على المؤمنين عندما يدعون إلى الطعام عند النبي‘.

الثاني: ما يجب من الحجاب بين زوجات النبي‘ والمؤمنين.

الثالث: حكم زواج المؤمنين بزوجات النبي‘ بعد وفاته([12]).

وقيل في أسباب نزول الحكم الأول من الآية، وهو تصرف المؤمنين عندما يدعون إلى الطعام عند النبي، أنه لمّا تزوج زينب بنت جحش (امرأة زيد المطلقة) أوْلَمَ عليها، فدعا الناس، فلما طعموا جلس طوائف منهم يتحدّثون في بيت النبي‘، وزوجه (زينب) موليةٌ وجهها إل الحائط، فثقلوا على النبي، ومن ثم نزلت الآية تنصح المؤمنين أن لا يدخلوا بيت النبي إذا ما دعوا إلى الطعام إلاّ بعد أن ينضج هذا الطعام، فإن أكلوا فلينصرفوا دون أن يجلسوا طويلاً يتحدّثون ويتسامرون([13]).

وقيل في أسباب نزول الحكم الثاني من الآية، والخاص بوضع حجاب بين زوجات النبي والمؤمنين: عن عائشة رضي الله عنها: إن عمر بن الخطاب قال للنبي‘: يا رسول الله، إنّ نساءك يدخل عليهن البرّ والفاجر، فلو أمرتهنّ أن يحتجبن، فنزلت الآية …

وقيل: إنه إثر ما حدث عند زواج النبي‘ بزينب بنت جحش نزلت الآية بأحكامها الثلاثة، تبيّن للمؤمنين التصرّف الصحيح عندما يدعون إلى طعام في بيت النبي، وتضع الحجاب بين زوجات النبي وبين المؤمنين، وتنهى عن الزواج بزوجاته بعد وفاته. ولا شيء يمنع قيام السببين معاً([14]).

فالقصد من الآية هو أن يوضع ستر بين زوجات النبي‘ وبين المؤمنين، بحيث إذا أراد أحد من هؤلاء أن يتحدّث مع واحدة منهنّ، أو يطلب منها طلباً، أن يفعل ذلك وبينهما ساتر، فلا يرى أي منهما الآخر([15]).

مناقشة الآية (آية الحجاب)

قال بعض الفقهاء: إن الآية 53 من سورة الأحزاب، حتى لو كانت خاصة بزوجات النبي‘، فإنّ حكمها يمتد ليشمل كل المؤمنات والمسلمات؛ تأسّياً بزوجات النبي‘، وباعتبار أنهن قدوة حسنة للمسلمات والمؤمنات يقتدين بهن وبما ورد في القرآن عنهن، وبالتالي فإنّ الحجاب الذي ورد بشأن نساء النبي‘ يكون واجباً كذلك على كل المؤمنات والمسلمات.

ويمكن الإجابة عن هذا التساؤل بما يلي:

1ـ إن الحجاب الوارد في الآية المذكورة ليس الخمار الذي يوضع على الشعر أو الوجه، لكنه يعني الساتر الذي يمنع الرؤية تماماً، ويحول بين الرجال المؤمنين وبين زوجات النبي كلية. وإذا أرادت امرأة معاصرة أن تتخذ لنفسها حكم هذه الآية فعليها أن تضع ساتراً أو حاجباً أو حاجزاً يحول بين رؤيتها للرجال عامة ورؤية الرجال لها من أي سبيل، وهو ما يؤدي لا محالة إلى انحباسها في سكنها أو في أي مكان آخر لا ترى ولا تُرى. وعندما يحبس أحد الرجال زوجه في بيتها، ويمنعها من الخروج إلى الطريق، ويحظر عليها لقاء الرجال تماماً، فإنه لا شك يكون متأثِّراً بالفهم الذي يقوله البعض بشأن تأسي المؤمنات بزوجات النبي في حجبهنّ عن الرجال مطلقاً، لا بوضع خمار وغيره.

2ـ لقد كان العرب المسلمون يدخلون بيوت النبي‘ بغير استئذان مع وجود أزواجه فيها، فنزلت هذه الآية التي وردت فيها كلمة حجاب.

كلّما أُشير إلى آية الحجاب فهذه هي آية الحجاب، وإن أمر الحجاب الوارد في هذه الآية يخص السنن والآداب العائلية التي يجب أن يتبعها الرجل وهو يزور بيوت الآخرين. وبحسب هذه الآداب ينبغي على الرجل أن لا يدخل على النساء، فإذا أراد منهنّ شيئاً فعليه أن يطلب ذلك منهن من وراء الجدار. وهذا لا علاقة له بموضوع الحجاب الذي يصطلح عليه الفقهاء باسم «الستر»([16]).

3ـ ورد في القرآن الكريم ما يفيد كون الرسول أسوة للمؤمنين، وذلك في الآية 21 من سورة الأحزاب بقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً}، لكن لم ترد في القرآن أية آية تفيد أو تشير إلى أن تكون نساء النبي أسوة للمؤمنات. فأسوة النبي للمؤمنين هي حكم شرعي؛ بداعي النبوة الذي يجعل منه مثلاً للناس يتبعونه في ما قال وفعل من كريم القول وسليم الفعل، لكن زوجات الرسول بعيدات عن الرسالة، نائيات عن النبوة، وهنّ نساء صالحات، شأنهنّ كشأن كلّ أو جلّ المؤمنات الصالحات.

4ـ لقد وضع القرآن الكريم ما يفيد التفصيل بين زوجات النبي وسائر المؤمنات في ما جاء في الآية {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء} (الأحزاب: 32).

ففي هذه الآية تقرير صريح وحازم بوجود تمايز وتغاير بين نساء النبي وغيرهن من المؤمنات، بما يعني أن الأحكام التي تتقرر لزوجات النبي تكون لهنّ خاصة، وليس لباقي المؤمنات.

ومن هذه الأحكام: أن يضاعف لهنّ العذاب إن أتت إحداهُنَّ بفاحشة: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً} (الأحزاب: 30).

ومنها: أنه لا يجوز للرجال أن يتزوجوا بهنّ بعد النبي على ما ورد في الآية: {…وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيماً} (الأحزاب: 53).

ومنها: أنه يمتنع على النبي بعد نزول هذه الآية: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} (الأحزاب: 52) أن يطلق إحدى زوجاته، أو أن يتبدل بإحداهُنَّ أو كلهنّ أزواجاً أخرى، إذ أصبحت كل النساء حراماً عليه ما عدا زوجاته آنذاك([17]).

5ـ إنّ هذه الآية حدّدت علاقة رجال المسلمين بنساء النبي‘ خاصة، فمنعت من دخول بيوت النبي ـ وهي بيوت نسائه ـ من غير إذن، وأجاز لهم الدخول إذا دعاهم النبي إلى تـناول الطعام، ومنعت من المكث فيها بعد الانتهاء من تناول الطعام، ومنعت الاتصال المباشر بنساء النبي إذا قضت الحاجة لحديث معهن، وأمرت بأن يكون الحديث معهنّ ـ في هذه الحالة ـ {مِن وَرَاء حِجَابٍ}، بابٍ أو جدارٍ أو سترٍ. وهذه الأحكام لا تسري إلى سائر النساء المسلمات اللاّتي يجوز لهن الاتصال المباشر بالرجال الأجانب واتصال الرجال بهن في الحياة العامّة والسياسية والاجتماعية، ويجوز لهن ولهم التحادث بصورة مباشرة. إذاً هذا الحجاب بالنسبة إلى نساء النبي خاصة([18]).

6ـ إن صياغة الآية بدءاً من {…وَإِذَا سَالتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} تستبعد أن يكون المضمون زيّاً؛ ذلك أنهم لن يسألونهنّ «من وراء زيّ»، ولكن من وراء ستر  يحجب السائل عن نساء الرسول.

7ـ تعلّم هذه الآية الناس آداب اللياقة والاستئذان وأصول الزيارة. فنصت أولاً على عدم دخول بيوت النبي إلاّ أن يؤذن لهم، فإذا أذن لهم لتناول طعام فعليهم تناوله ثم الانصراف دون جلوس ومطارحة القول وتبادل الأحاديث. وخصت الآية الزوجات بحماية خاصة تحجبهم عن الأعين الفضولية. كما تضمنت الآية تأديباً آخر هو أن ليس لهم أن يؤذوا الرسول، ولا أن ينكحوا أزواجه من بعده. ولعل هؤلاء الذين كانوا يتطارحون الحديث في مناسبة زواج قد تطرق بعضهم إلى مثل هذه الفكرة، أو أن الآية وجدت المناسبة بعد أن فكر بعضهم في هذا…، وخاصة أن الآيات 5 إلى 53 من سورة الأحزاب كانت عن نساء الرسول، وحرّمت الآية 52 على الرسول أن يتزوج بعدهن، أو أن يبدِّل بهن من أزواج.

ومن هنا يتضح أن القرآن لا يستخدم كلمة حجاب بمعنى الزيّ، وأن تفسيرها بهذا المعنى تفسير بعيد عن الصواب، وأن تعبير «تحجّبت» لا يستقيم مع المعنى القرآني لكلمة «الحجاب»([19]).

ولا يمكن أن يعني الحجاب لباساً يلبسه إنسان؛ لأن اللباس أيّاً كان قدره ونوعه، ولو ستر جميع بدن المرأة حتى وجهها، فلن يمنع هذه المرأة أن ترى الناس من حولها، ولن يمنع الناس أن يروا شخص المرأة، وإنْ تسربلت بالسواد من قمة رأسها ـ مع وجهها ـ حتى أخمص قدميها. والحجاب الوارد في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} هو الحاجز والستر الذي يكون في البيت، ويرخى ليفصل بين مجلس الرجال ومجلس النساء([20]).

رأي آخر في نزول آية الحجاب

وهناك رأي يقول: إن نزول الحجاب ـ في الآية 53 من سورة الأحزاب ـ ليس من أجل وضع حاجز بين رجل وامرأة، وإنما بين رجلين، وهذه الآية تخص الصحابي أنس بن مالك، فأنس قد خص بالحجاب، بصفته شاهداً ورمزاً لجماعة أصبحت مزعجة جداً. وهذا الشاهد بذاته هو الذي يروي الحدث: في ليلة عرسه مع عروسته الجديدة، قريبته زينب بنت جحش، رغب الرسول بالاختلاء معها، لكنه لم يفلح في التخلُّص من مجموعة صغيرة فظة من المدعوّين، نسيت نفسها ولم تغادر المكان كبقية المدعوّين، بل استمرت في ثرثرتها الفارغة، فجاء الحجاب ردّاً من الله على جماعة ذات أخلاق خشنة كانت تؤذي بفظاظتها نبيّاً كان تهذيبه يصل حدّ الحياء([21]). وهذا على الأقل ما أوضحه الطبري: قال أنس بن مالك: «كان النبي قد تزوج زينب بنت جحش، وكان قد كلفني بدعوة الناس إلى حفلة العرس، ونفذت الأمر، وكان الناس قد جاؤوا بأعداد كبيرة، كانوا يدخلون جماعات، جماعة بعد أخرى، كانوا يأكلون ثم ينصرفون، قلت للنبي: يا رسول الله، دعوت الكثير من الناس، ولم أعد أجد أشخاصاً أدعوهم. وفي لحظة معينة قال النبي‘: أوقف الدعوة. كانت زينب جالسة في زاوية من الغرفة، وكانت على قدر كبير من الجمال. كل المدعوّين كانوا قد ذهبوا ما عدا ثلاثة، كانوا قد نسوا أنفسهم، يتناقشون فيما بينهم بلا انقطاع. وترك النبي‘ الغرفة مغتاظاً، وتوجه صوب مسكن عائشة، وبرؤيته لها حيّاها بقوله: السلام عليك يا ساكنة البيت، وردت عائشة: وعليك السلام يا نبي الله، كيف وجدت رفيقتك الجديدة؟ وأجرى دورة على غرف زوجاته الأخريات، اللواتي استقبلنه بالطريقة ذاتها التي استقبلته بها عائشة. ورجع أخيراً إلى غرفة زينب، فوجد أن المدعوّين الثلاثة لم يذهبوا بعد، وأنهم ما زالوا يتحادثون. كان النبي‘ مهذَّباً ومتحفظاً إلى أقصى حدٍ، فعاود الخروج إلى غرفة عائشة. ولم أعد أذكر ما إذا كنت أنا أم شخصاً آخر قد أعلمه بأن الأشخاص الثلاثة قرروا أخيراً الذهاب. على كل حال عاد نحو حجرة العروس، فقدّم رجلاً داخل الغرفة وأبقى الأخرى خارجها، وفي هذا الموضع أسدل ستراً بينه وبيني، ونزلت آية الحجاب في تلك اللحظة([22]).

إذاً آية الحجاب (الأحزاب: 53) نزلت في غرفة الزوجين ـ النبي‘ وزينب ـ من أجل حماية حياتهما الخاصة وإبعاد الشخص الثالث عن النظر، وهو أنس بن مالك أحد صحابة الرسول.

ويقول عبد الرحمن الخطيب مؤكِّداً هذه الفرضية: «إنّ ما يؤكد ارتباط الحجاب بالمكان هو أن آية الحجاب (الأحزاب: 53) نزلت في بيت الرسول‘؛ لحكمة أرادها تعالى كي تبين خصوصية وقدسية البيوت. والحجاب أول ما أمر به الرسول هو حجاب من قماش أوستار أسدله النبي بينه وبين الرجل الذي وجد على عتبة غرفة زواجه من زينب، فنزلت الآية الكريمة لتبيان الآداب العامة والخاصة بالرسول. إذاً هذه الآية نزلت في غرفة الزوجين من أجل حماية حياتهما الخاصة من الخارجين على قواعد التهذيب([23]).

إذاً هذا الحجاب ـ بمعنى الساتر ـ خاص بزوجات النبي‘ مع المؤمنين، أو بين رجلين مؤمنين، فلا يمتد هذا الحكم إلى ما ملكت يمينه من الجواري، ولا إلى باقي المؤمنات.

2ـ آية الخمار

هناك آية أخرى استدل بها الفقهاء على الحجاب الإسلامي (الشرعي)، وهي معروفة بآية الخمار: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ} (النور: 31).

وسبب نزول هذه الآية، كما ذكرت كتب التفاسير وأسباب النزول، أن النساء كنّ في زمان النبي‘ يغطّين رؤوسهنّ بالأخمرة (وهي المقانع)، ويسدلنها من وراء الظهر، فيبقى النحر (أعلى الصدر) والعنق لا ستر لهما، فأمرت الآية بليّ (أي: إسدال) المؤمنات للخمار على الجيوب، فتضرب الواحدة منهنّ بخمارها على جيبها (أعلى الجلباب)، لستر صدرها([24]).

ويستفاد من هذه الآية ما يلي:

1ـ إنها تتضمن حكماً عاماً بأن تغض المؤمنات أبصارهنّ وأن يحفظن فروجهنّ. وهو حكم يقصد إلى نشر وتأكيد العفة والترفع عن الدنايا بين المؤمنات عموماً. وهو ـ بالإضافة إلى هذا ـ يفيد أنهنّ كنّ يطّلعن على وجوه الرجال. كما تفيد الآية السابقة عليها: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} (النور: 30) أنهم كانوا يطَّلعون على وجوه النساء. ولم يكن هناك تقنع من هذا أو ذاك.

2ـ إنّ الآية تتضمن بيان حكم زينتهن. فزينةٌ يمكن إبداؤها عامة بشروط؛ وزينة لا يمكن إبداؤها إلاّ للخاصّة. ويقول الفقهاء المسلمون: إن الزينة الأولى هي الزينة الظاهرة، في حين أن الزينة الثانية هي الزينة الخفية.

والزينة الظاهرة أو ظاهر الزينة التي يجوز للنساء والفتيات إبداؤها هي الوجه والكحل والسوار والأقراط والخواتم، وأضاف البعض الخلاخل التي توضع في الساق؛ والزينة الخفية هي ما عدا ذلك، مثل: الفخاذ والصدور والبطون وغيرها. وهذه لا يجوز أن تبدو إلا لمن عدَّدتهم الآية، وهم: الأزواج، والآباء، والأبناء، وآباء البعول، وأبناء البعول (من زوجات أخرى)، والإخوة، وأبناء الإخوة، أو نسائهن، أو التابعين من المخصيّين، أو العبيد (دون تفرقة بين العبيد من الرجال والإماء من الحريم)، وكذلك الأطفال.

وفي هذا الصدد فإن على المرأة أن لا تضرب برجلها، أي تضع ساقاً على ساق، فيظهر ما يخفى من زينة الفخذ أو غيره.

3ـ إنّ ما أسماه الفقهاء بالزينة الخفية أو غير الظاهرة لا يدخل في تقدير مسألة الحجاب، ومن ثَمّ فإن الدراسة عمدت إلى أن تتركه قصداً على اعتبار أنه من المعلوم والمفهوم أنه غير الزينة الظاهرة التي يتعلق بها أمر الخمار.

4ـ ما ورد في الآية من جملة {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} لا يعني فرض الخمار (الغطاء) أصلاً وشرعاً، لكنه يرمي إلى التعديل في عادة كانت قائمة وقت نزول الآية بوضع الخمار ضمن المقانع وإلقائه على الظهر، بحيث يبدو الصدر ظاهراً. ومن ثم كان القصد هو تعديل العادة ليوضع الخمار على الجيوب، وكانت الجيوب في ذلك الزمان، ولا زالت في هذا الزمان، توضع على الصدر.

فعلّة الحكم في هذه الآية هي تعديل عرف كان قائماً وقت نزولها، حيث كانت النساء تضعن أخمرة (أغطية) على رؤوسهنَّ، ثم يسدلن الخمار وراء ظهورهنّ، فيبرز الصدر بذلك، ومن ثَمَّ قصدت الآية الكريمة تغطية الصدر بدلاً من كشفه، دون أن تقصد إلى وضع زيٍّ بعينه.

وقد تكون علة الحكم في هذه الآية هي إحداث تمييز بين المؤمنات من النساء وغير المسلمات (اللاتي كُنَّ يكشفن عن صدورهنّ). والأمر في ذلك شبيه بالحديث النبوي الموجّه للرجال: «أنهكوا (احفوا) الشوارب وأطلقوا (واعفوا) اللحى»([25])، ليستطيع الرجل المسلم المؤمن أن يميز أخاه المسلم عن الرجل اليهودي في المدينة، فيتعرّف عليه بسهولة ويسر، حيث تكون اللحية علامة المسلم، فيستدلّ على شخصه من خلالها. ويكاد يجمع كثير من الفقهاء على أن القصد من هذا الحديث هو قصد وقتيّ (مرحليّ)، وهو التمييز بين المؤمنين وغير المؤمنين، الذي كانوا يفعلون العكس، فيطلقون الشوارب ويحفّون اللحى.

إذاً من الممكن أن تقصد الآية وضع فارق أو علامة واضحة بين المؤمنين والمؤمنات، وغير المؤمنين وغير المؤمنات.

وهذا ما يؤكده أحد أسباب نزول الآية، وهو أنّ شاباً من الأنصار في المدينة استقبل امرأة، وكانت النساء يتقنعن خلف آذانهن، فنظر إليها وهي مقبلة، فلما جازت نظر إليها، ودخل في زقاق قد سماه ببني فلان، وجعل ينظر خلفها، واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشق وجهه. فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: والله لآتين رسول الله‘ ولأخبرنّه، فأتاه، فلما رآه رسول الله قال له: ما هذه؟ فأخبره، فهبط جبريل بهذه الآية.

كما نفهم من هذا (سبب النزول) أن النساء كن يغطين رؤوسهن بالأخمرة، ويسدلنها من وراء ظهورهن، فيبقى النحر والعنق مكشوفين. وهي عادة درجت عليها النساء، فأمرت الآية بإسدال الخمار على الجيب لتغطية الصدر؛ حتى تتميز المؤمنة من الفاجرة([26]).

أو تقول ـ كما هو الظاهر الآية ـ: إن الآية نزلت للتعديل في أسلوب ملبس كان شائعاً، بقصد تغطية الصدر وعدم إبرازه، ولا تتصل من أي جانب بوضع غطاء على الرأس.

ومن المعروف أن الملبس من مسائل العرف والعادات الاجتماعية والثقافية، وليس من مسائل الفروض والعبادات. وكل ما هو مطلوب شرعاً وديناً أن تحتشم المرأة (كما هو الحال في الرجل)، وأن يتعفَّف كلٌّ منهما.

رأي آخر…

هناك رأي وتفسير آخر في ما ورد في الآية من جملة: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، حيث يقول المفكِّر السوري سامر إسلامبولي: إن كلمة (ضرب) هي إيقاع شيء على شيء، وتختلف في الاستخدام من واقع إلى آخر، فنقول: ضرب الناي، ضرب النقود، المضاربة في التجارة…، الضرب في الأرض سفراً: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} (النساء: 10)، ضرب الرقاب: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (محمد: 4)، ضرب الأمثال: {فَلا تَضْرِبُواْ للهِ الأَمْثَالَ} (النحل: 74).

وكلمة (الخمار) هي الغطاء على إطلاقة، ويسمى الخمر خمراً لأنّه يغطي العقل.

وكلمة (جيوب) جمع جيب، وهي الفتحة أو الشق في الشيء.

إنّ مفتاح فهم هذا الأمر هو كلمة (جيوبهن) والمقصود بها. فهناك من أرجعها حسب الفهم اللغوي الواسع إلى جسم المرأة نفسها، وكون المرأة بحكم العارية قبل تطبيق النص، وفهم من الأمر الثالث {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أن جسم المرأة كله ظاهر سوى ما أخفاه الله في عملية الخلق من تصميم جسم المرأة نفسها، نحو: الفرج وتحت الثديين والإبطين والإليتين وما بينهما، وما سوى ذلك كله ظاهرٌ للعيان رغم وجود الجيوب في ذلك القسم، نحو الفم والأنف والأذنين وما بين الأصابع…، ولكن كله له حكم الظهور بقوله تعالى: {إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}.

فضرب الخمار على الجيوب مقصود به الجيوب المخفية في بنية جسم المرأة، وهي ـ حصراً ـ الفرج والإليتان وتحت الثديين والإبطان، فيجب على المرأة تغطية ذلك كحد أدنى عن الأجانب، ولا يجوز تجاوز ذلك نزولاً؛ لأنه تجاوز لحدود الله، مع السماح بالتجاوز صعوداً، حسب العرف واحتياج المرأة في حركتها الاجتماعية([27]).

ويمكن مناقشة هذا الرأي بعدة نقاط:

1ـ إن إرجاع كلمة (جيوبهن) إلى جسم المرأة نفسه خطأ؛ وذلك لأن الأمر الثاني من النص قد جاء بتغطية القُبُل والدُبُر {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}، وجاء الأمر الثالث من النص {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالنهي عن إبداء الزينة المركزية من المرأة، والتي هي: الجذع والإليتان، والنهي عن الإبداء هو أمر بالتغطية ضمناً، فتكون المرأة قد غطت الجذع والإليتين إضافة لتغطية الفرج سابقاً.

2ـ إن تفسير كلمة (جيوبهن) بالجيوب المخفية، وأن الأمر بضرب الخمار إنما جاء لها، غير صحيح؛ وذلك لأن القُبل والدُبر قد تمت تغطيتهما في الأمر الثاني {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}، فكيف نغطّي ما هو مغطّى؟

وكذلك الإليتان والجذع قد تغطيا من خلال عملية النهي عن الإبداء في الأمر الثالث {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، فكيف نغطيهما وهما مغطيان؟

3ـ إن مجيء كلمة (جيوبهن) في النص مع مجيء كلمة (فروجهن) وكلمة (زينتهن) يؤكد أن المراد بها ليس ما ذُكر قبلها، وإنما هو شيء آخر غيرهما ضرورة.

4ـ إذا كانت الجيوب ـ حسب التفسير السابق ـ هي الشق والفتحة في بنية تصميم جسم المرأة نفسها خلقاً فكيف يأتي أمر باخفاء ما هو مخفيٌّ خلقاً؟ وهل يصح أن تقول للإنسان أخفِ قلبك؟([28])

إذاً على الأرجح أن تكون علة الحكم في هذه الآية هي تعديل عرف كان قائماً وقت نزولها، حيث كانت النساء يضعن أخمرة (أغطية) على رؤوسهن، ثم يسدلن الخمار وراء ظهورهن، فيبرز الصدر بذلك، ومن ثَمَّ قصدت الآية تغطية الصدر بدلاً من كشفه، دون أن تقصد وضع زيٍّ بعينه([29]).

آية الجلابيب

أما الآية الأخرى ـ والأخيرة التي نبحثها في هذا المقال ـ التي استدل بها الفقهاء على الحجاب الإسلامي (الشرعي) فهي الآية 59 من سورة الأحزاب، والتي تعرف بآية «الجلابيب». قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} (الأحزاب: 59).

وسبب نزول هذه الآية أن عادة العربيات في زمان النزول كانت التبذّل، فكنّ يكشفن وجوههُنَّ، كما تفعل الإماء (الجواري)؛ إذ كنَّ يتبرَّزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكُنُف (دورات المياه ـ المراحيض) في البيوت، فقد كان الفجّار من الرجال يتعرّّضون للمؤمنات على مظنَّة أنهن من الجواري أو من غير العفيفات، وقد شكون ذلك للنبي، ومن ثمَّ نزلت الآية؛ لتضع فارقاً وتمييزاً بين الحرائر من المؤمنات وبين الإماء (الجواري) وغير العفيفات، هو إدناء المؤمنات لجلابيبهنَّ، حتى يُعرفن فلا يؤذين بالقول من فاجر يتتبّع النساء، دون أن يستطيع التمييز بين الحرّة والجارية أو غير العفيفة([30]).

والمعاجم تذكر «الجلباب» على أنه قريب من «الخمار» و«الملاخ» الرداء أو الإزار، وهي أسماء ملابس ترتديها المرأة عند خروجها من البيت([31]).

ويقول الشيخ مرتضى مطهري: إن الجلباب ليس واضح الملامح عند المفسِّرين. والظاهر أن معنى الجلباب الصحيح في اللغة هو الثوب الواسع، ولكنه كان يستعمل للرأس غطاء أكبر من المنديل وأصغر من الرداء.

ويتبيّن من هذا أن المرأة كانت تستعمل نوعين من أغطية الرأس؛ واحدٌ صغيرٌ، وهو الخمار أو المقنعة التي كانت المرأة تلبسها في البيت عادة؛ والنوع الآخر كان كبيراً تستعمله المرأة عند خروجها من البيت([32]).

وقد قيل: إن «الجلباب» هو الرداء، وقيل: إنه ثوب أكبر من الخمار، وقد قيل: إنه القناع. ولكن الأرجح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن([33]).

فعلّة الحكم في هذه الآية، أو الغاية من إدناء الجلابيب، أن تعرف الحرائر من الإماء (الجواري) ومن غير العفيفات، حتى لا يختلط الأمر بينهن، ويُعرفن، فلا تتعرّض الحرائر للإيذاء، وتنقطع الأطماع عنهن..؛ والدليل على ذلك أن عمر بن الخطّاب كان إذا رأى أمة (جارية) قد تقنّعت أو أدْنت جلبابها عليها، ضربها بالدرّة (السوط) محافظةً على زي الحرائر([34]).

يروى أن عمر بن الخطاب ـ الخليفة المشهور ـ التقى بامرأة غريبة في بيته، كانت ترتدي الجلباب، فارتدّ عمر خارجاً من بيته، ولم يجرؤ على الدخول إلاّ عند خروج المرأة الغريبة. وسأل عمر زوجته: مَنْ تكون هذه الزائرة؟ فأجابت الزوجة: إنّ هذه الزائرة هي جارية تمتلكها إحدى العائلات. وثار عمر على أثر هذه الحادثة، وأصدر أمره بمنع الجواري من ارتداء ثياب الحرائر، أي لباس الحجاب أو الجلباب الذي يغطي الرأس والوجه.

وأمر الخليفة عمر بن الخطاب هذا، الذي صدر في المدينة، صدّق على المبدأ الوارد في القرآن، وجعله فعّالاً. وبدءاً من ذلك التاريخ وضعت النسوة في فئتين: الحرائر؛ والجواري([35]).

يقول الدكتور منصور فهمي، معلِّلاً تفسير {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ}: هذا الجلباب تم وصفه بشكل غير دقيق من قبل رواة الحديث والعلماء. وقد أثار فيما بعد تعارضات لا نهاية لها، كانت نتيجتها تعقيد الوضع أكثر…

وإذا تفحصنا المشكلة بأسلوب معمَّق ونقدي أكثر فمن الممكن الوصول إلى تحديد شكل «الحجاب» هذا. وبالتالي تقديم زيّ المرأة الذي أراده محمد.

كلمة جلباب تعني تحديداً القميص، حسب القاموس، وحسب عالم اللغة الجوهري، فهو ملبس خارجي يشبه الشال الكبير أو المعطف، ويعطيه اسم «ملحفة».

ويقول ابن سيده في المخصص بأن «الجلباب» يعني «الملاءة»، وهي نوع من المعطف يسمى أيضاً «المرط».

والمرط ـ حسب الجوهري ـ ملبس من خيوط مشتقة من الحرير يستعمل كغطاء. ويستعمل ابن سيده أيضاً هذا التعبير، فيقول: المرط هو اللباس الذي يستخدم كإزار.

من هذه النبذة اللغوية يمكن أن نخلص إلى أن الجلباب يمكن أن يعني القميص أو المعطف أو الشال. وعلينا أن نبعد على الفور معنى القميص، الذي لا يتوافق مع حكم القرآن؛ فإن القرآن في الواقع يطالب المؤمنات بأن يدنين عليهن من جلابيبهنَّ، والقميص في شكله لا يسمح بالتأكيد بالاستجابة لهذا الطلب. وعلى العكس من ذلك فإن الملابس التي لها شكل المعطف أو الشال تتـناسب تماماً مع ذلك. ومن هنا يحق لنا بأن نترجم كلمة جلباب بشال أو معطف. والترجمة تنال شرعيتها من أن المرط كان أيضاً لباساً عاماً تضعه النساء فوق باقي الملابس. ونخلص من ذلك إلى أنه غير مطروح بحال ارتداء ملبس خاص لتغطية الوجه، فالإزار أو الجلباب يوضع فقط بشكل يغطي الرأس وقسماً من الوجه؛ لتتميز به النساء الحرائر كما أراد محمد([36]).

وبين المفسِّرين ـ كما بين اللغويين ـ خلاف حول معنى (الجلباب). فقد فسّروه بالخمار، أو الملحفة، أو القناع، أو الثوب الذي يستر البدن من أعلاه إلى أسفله، أو ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء، أو كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها. واختار القرطبي في تفسيره أنه الثوب الذي يستر كل البدن([37]). ولاختياره شاهد في قول الشاعر أبي الطيّب المتنبّي عن البدويات: حُمر الحلي والمطايا والجلابيب؛ لأنه أراد الملابس، وليس مجرد الخمار أو الرداء. وهذا المعنى هو المعروف اليوم في صيغة (جلاّبية): وهي ثوب فضفاض طويل تلبسه المرأة أو الرجل في شتى البلدان العربية. على أن المفسرين والفقهاء أخذوا الآية على أنها أمرٌ بستر الوجه كعلامة تميز الحرّة عن الجارية. وبهذا التفسير تكون الآية 59 من سورة الأحزاب ناسخة للآية 31 من سورة النور، غير أن التفاسير لم تـنصّ على ذلك. وقد تابعت أقوال المفسرين فوجدتهم عند تفسير الآية الأولى يتحدّثون عن كشف الوجه، وحين يتناولون الآية الثانية يتحدثون عن ستره، دون أن يلتفتوا إلى التعارض بين التفسيرين. وهذه مشكلة صعبة الحل، منشأها تلك العبارة الواردة في سورة الأحزاب: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ}. لكن في الآية شيئاً واضحاً هو التعليل الذي أعطته للأمر بإدناء الجلابيب([38]).

إذاً في الآية تخصيصٌ لحالة معينة، وهي حماية أزواج وبنات النبي‘ من الإيذاء، ولتفريق الحرّة عن الأمة. وهذا في الواقع الحاضر قد انتفى سببه؛ بموت أزواج وبنات النبي، ولعدم وجود الإماء، أو ما ملكت اليمين من السبايا والجواري. وهو ما يسمى بـ «مقاصد الشريعة»، أي لا يمكننا أن نلزم أية امرأة بارتداء الجلباب في وقتنا الحاضر؛ لكي تتميز عن قريناتها من النساء والإماء. أو على العكس من ذلك، فنمنع إحداهن من لبس الجلباب؛ للسبب نفسه، كما فعل الخليفة عمر بن الخطاب.

إذاً هذه الآية ليست أمراً لجميع النساء في جميع العصور بأن يلبسن الجلابيب. لذلك فإن الآية تتوجه بوضوح لنهي المرأة عن تسخير ثيابها في أغراض التبرّج، وهي فكرة لا علاقة لها بالحجاب، ولا تلزم المرأة بزيٍّ معيّن، بل تلزمها بأن تتحرّر من عقدة (الجارية)، وتكفّ عن اعتبار نفسها مجرّد سلعة جنسية. ولهذا السبب جاء في تكملة الآية الكريمة قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ}؛ لأن تسخير الثياب لخدمة العريّ والتبرّج علامة واضحة وصريحة على تعمّد الإثارة ولفت النظر.

وجديرٌ بنا أن نتوقف عند معاني مفردات قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ}. فالدنو هو القرب، ولا يمكن تفسير الآية بأنها تعني: لكي لا يعرفن، بل على العكس، فهي تعني: لكي يُعرفن فلا يُؤذين. ولا يمكن أن يعرف الإنسان دون رؤية وجهه، فتنتفي بذلك حجة القائلين بأن الجلباب هو لتغطية الوجه.

إذاً عملية إدناء الجلابيب هي عملية وقتية طارئة، تلجأ إليها الحرّة، كإشارة للمنافق؛ ليعلم أن هذه المرأة العابرة هي من الحرائر المؤمنات فيلزم حدّه، ولا يعترض لها بالتحرّش. وبعد أن تتخطى هذا التحرّش تعود إلى سابق عهدها من كيفية اللباس والهندام.

وطالما أن علّة الحكم المذكور في الآية ـ وهي التمييز بين الحرائر والإماء ـ قد انتفت؛ لعدم وجود إماء (جواري) في العصر الحالي، وإذا كانت القاعدة في علم أصول الفقه تقول: إن الحكم يدور مع العلّة وجوداً وعدماً، فإن وجدت العلّة وجد الحكم، وإذا انتفت العلّة انتفى (رفع) الحكم، فإن علة الحكم المذكور في الآية (التمييز) قد انتفى، وكذلك انتفت ضرورة قيام تمييز بينهما؛ لعدم خروج المؤمنات إلى الخلاء للتبرّز (قضاء الحاجات)، وإيذاء الرجال لهنَّ. ونتيجةً لانتفاء علّة الحكم فإنّ الحكم نفسه ينتفي (يرتفع)، فلا يكون واجب التطبيق شرعاً([39]).

هذا ما توصلنا إليه حول موضوع الحجاب الإسلامي (الشرعي) للمرأة المسلمة، من خلال الآيات القرآنية: آية الحجاب، آية الخمار، وآية الجلابيب. ولم نتطرق إلى الأحاديث النبويّة؛ لأننا آثرنا حصر البحث حول الآيات القرآنية فحسب.

وفي الختام ربما يثار تساؤل بأن الحجاب، وإن لم يقم عليه دليل في القرآن الكريم، ولكنّه يدخل في إطار الأحكام التي تحفظ كرامة المرأة وإنسانيتها.

والجواب: رغم الحاجة إلى أرقام تثبت ذلك الادعاء أو تثبت نقيضه فإن تجربة بعض المجتمعات مع فرض الحجاب أثبتت أنها لم تكن عاملاً في حفظ كرامة المرأة، بل كانت في بعض الأحيان سبباً في إهانة المرأة، وفرض الوصاية الذكورية عليها. وفي المقابل نجد أن الحرية واحترام حقوق الإنسان كانا سببين رئيسيين في إعطاء المرأة كرامتها وإنسانيتها، وإن كانتا قد تسببتا ببعض السلبيات فإنها لم تخص المرأة فحسب، وإنما الإنسان بشكل عام. فكل الحضارات جلبت السلبيات والإيجابيات للبشر.

إذاً لا علاقة للكرامة والإنسانية بلبس الحجاب، وإنما أفضى فرض الحجاب على المرأة، الذي عادة ما يرافقه انعدام الحريات الأساسية للإنسان، وعدم احترام حقوقه الفردية، إلى مزيد من الضغوط على حرية المرأة، وأدى ذلك إلى ممارسة انتهاك فاضح على إرادتها وحقوقها الشخصيّة. وقد يكون في الحجاب ما يعتبر مناسباً في بغداد وفاضحاً في الرياض، وما يعتبر معتدلاً في لندن أو باريس وخليعاً في أفغانستان والخرطوم([40]).

ويلحظ من هذه الآيات أن الطابع العام لها هو تعليم المؤمنين الآداب والسلوكيات، سواءٌ ما كان منها بين الرجل والمرأة، أو بين المؤمنين والرسول. ففي الإسلام كانت النساء، في عهد النبي والخلفاء الراشدين، سافرات الوجه والكفّين، على طريقة نساء الأرياف في العالم العربي. وقد ظلت المرأة على ذلك زمناً غير قصير، حتى الفتح الإسلامي، حيث غرقت البلاد الإسلامية بأعداد كبيرة من الرقيق، وبخاصة الجواري، الذين تحولوا إلى تجارة مربحة تدر ثروات طائلة، والتي هي في الحقيقة نتيجة حتمية للفتوحات الإسلامية، التي حصل بموجبها المسلمون على غنائم كبيرة ومتنوعة، ومن بينها آلاف الرقيق من العبيد والجواري، الذين استخدموهم في مجالات عديدة، غيّرت كثيراً من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وبخاصة العلاقة مع النساء، وخصوصاً الحرائر منهنّ.

وقد ترتب على انتشار الرقيق والجواري والغلمان أن حدث فصل تام بين الحرة وغيرها؛ للحفاظ على حصانتها ومنزلتها الاجتماعية؛ لأن الجارية لا تُعدُّ محصَّنة من قبل سيدها فلا يقع عليها طلاق، ولا يطبّق عليها حدّ الزنا. وقد جاء في الحديث الشريف: «ليس على أمَة حدٌّ حتى تحصن». ولذلك كان على المرأة الحرّة أن تميّز نفسها عن الجارية. كما حظر الفقهاء على الجواري لبس الحجاب، بمعنى أن يتحجبن كالحرائر.

ومما مرّ ذكره يلاحظ المرء أن القرآن والإسلام كان قد رفع من مكانة المرأة الاجتماعية، إلاّ أن وضعها كان قد تراجع على ما كان عليه في العقود الأولى من الإسلام، بعد أن تحوّلت الخلافة إلى ملك عضوض منذ بداية الدولة الأموية، ثم استفحل خلال الدولة العباسية، التي مثلت «عصر الحريم» وامتهان المرأة وكرامتها من جهة، وتراجعت خلالها مكانتها عما كانت عليه في صدر الإسلام، حيث كانت أوفر حظاً، وكانت لها خيارات أكثر. وقد يعود الاختلاف في ذلك إلى الاختلاف في تفسير بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتحدث عن النساء، وكذلك إلى التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي جعلت المجتمع الإسلامي أكثر انغلاقاً وتخلّفاً، وهو ما ترافق مع ترسيخ السلطة السياسية للاستبدادية والنزعة الأبوية واستحداث عادات وتقاليد أخذت تتوسع وتتضخم على حساب النص الديني المقدس.

ولذلك أصبح حال المرأة اليوم أمراً يدعو إلى التساؤل والنقد والرثاء، خصوصاً بعد أن أجحف المجتمع الأبوي في حق المرأة، وحوَّلها إلى مجرد «وعاء للنّسب»، أو قصر دورها على المطبخ وتربية الأطفال من دون تربية نفسها وتعليمها، وجعل منها كياناً سالباً قنوعاً ومعزولاً عن المجتمع. استعبدها الرجل، وجعل منها «دمية جميلة» تغوص في سبات عميق، ولا تؤمن إلاّ بالخرافات وبالأساطير.

والواقع أن المشكلة الحقيقية ليست في هضم حقوق المرأة بالحجاب بقدر ما هي في حقوق المرأة المهضومة في المجتمعات العربية والإسلامية. فإن الحجاب، أي النقاب المعروف منذ أقدم الأزمنة في الشرق، لا يمنع المرأة من المشاركة في العمل والنشاط الاجتماعي والاقتصادي. فالنساء العربيات والمسلمات، وبصورة خاصة الريفيات، يعملن مع الرجال في الحقل من الصباح حتى المساء، وهنَّ يرتدين الحجاب التقليدي. إذاً ارتداء الحجاب لا يمثل بالضرورة «تخلفاً ورجعيّة»، كما أن عدم ارتداء الحجاب لا يمثل بالضرورة الحداثة والموضة والتقليد.

الهوامش

(*) باحث في الحوزة العلمية، من العراق.

([1]) محمد إقبال (Muhammad Iqbal) (1878 ـ 1938م): فيلسوف وشاعر هندي ـ باكستاني، ومنظّر فكري للإسلام الحديث.

يعتبر إقبال أن الدين تجربة مُركّبة من عناصر ثلاثة: عقلية، وروحية، وخُلُقية، وأنه لا يتعارض مع الفلسفة، لكنه يُعبّر عن جانب من الحقيقة التي هي موضوع الفلسفة.

وفي نظرة تقييميّة للفلسفة (الإسلامية)، وطريقة معالجتها لموضوع «الحقيقة الدينية» و«الحقيقة العقليّة»، رأى من الناحية التاريخية أن المتكلمين، وخصوصاً الأشاعرة، قد أسرفوا في استعمال أساليب «الجدل» اليونانية «Greek» للدفاع عن العقيدة كما جاءت في القرآن.

وقد وقع المعتزلة وابن رشد في التطرّف عندما اعتمدوا على البرهان العقلي للوصول إلى «الحقيقة». وبذلك قد ابتعدوا عن التجربة الدينية «الحيّة».

وأخطأ الغزالي عندما أقام الإيمان على أساس من الشك الفلسفي.

ورأى إقبال أن الفكر الديالكتيكي الغربي لا يستطيع إدراك كُنه «الحقيقة العقلية»، بعكس «الفكر الجدلي» الإسلامي؛ لأن القرآن ـ حسب رأيه ـ ينطوي على مفهوم للعالم يندمج فيه «الواقع والمثال»، وليس الإنسان فيه مخلوقاً قد انتهى الله من صنعه، ولكنّه مشروع يحقِّق نفسه باستمرار.

ويدرك الإنسان هذه الحقيقة عن نفسه من خلال تجربته الدينية الحيّة، التي لها جانبان:

1ـ الظاهر منها عمليّ اختباري.

2ـ الباطن منها روحي صوفي.

وهذه التجربة يجسِّدها القرآن خير تجسيد.

(انظر: د. كميل الحاج، الموسوعة الميسّرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي: 55، مكتبة لبنان ـ ناشرون، بيروت، 2000م).

([2]) هادي العلوي، فصول عن المرأة: 57، دار المدى، بيروت ـ دمشق، 1996م.

([3]) خديجة صبار، الإسلام والحجاب بين عصر الحريم وتحديات الحضارة: 88، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1994م.

([4]) الرازي، التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب: 197، دار الفكر، بيروت، 1995م.

([5]) انظر: الإسلام والحجاب بين عصر الحريم وتحديات الحضارة: 88؛ وكذلك انظر: د. محمد شحرورة، نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي: 333، دار الأهالي للنشر، دمشق، 2000م.

([6]) البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل 2: 449، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1990م.

([7]) التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب 20: 223 ـ 224، دار الفكر، بيروت، 1995م.

([8]) انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 19: 360، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1997م.

([9]) انظر: الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 9: 63، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1995م.

([10]) انظر: تفسير البيضاوي 2: 80، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1990م.

([11]) الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن 24: 91 ـ 92، دار الفكر، بيروت.

([12]) محمد سعيد العشماوي، حقيقة الحجاب وحجية الحديث: 22، (الكتاب الذهبي)، مؤسسة روز اليوسف، القاهرة، 2002م.

([13]) انظر: الواحدي، أسباب النزول: 269 ـ 270، مطبعة الهندية، مصر، 1315هـ.

([14]) انظر: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 14: 224 ـ 225، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1985م.

([15]) تقول المعاجم اللغوية عن «الحجاب» أنه «الساتر» الذي يحول بين جنسين أو بين شيئين، فيمنع الرؤية بينهما، وسمي حجاباً لأنه يمنع المشاهدة.

(انظر على سبيل المثال: ابن منظور، لسان العرب 4: 36 ـ 37، دار صادر، بيروت، 2004م).

([16]) انظر: مرتضى مطهري، مسألة الحجاب: 142 ـ 143، ترجمة: حيدر آل نجف، المركز العالمي للدراسات الإسلامية، قم، 1411هـ.

([17]) انظر: حقيقة الحجاب وحجية الحديث: 7 ـ 8، (الكتاب الذهبي)، مؤسسة روز اليوسف، القاهرة، 2002م.

([18]) انظر: محمد مهدي شمس الدين، مسائل حرجة في فقه المرأة 1 (الستر والنظر): 65، مؤسسة المنار، قم.

([19]) انظر: جمال البنا، الحجاب: 92، دار الفكر الإسلامي، القاهرة، 2002م.

([20]) انظر: أبو بكر جابر الجزائري، أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير (وبهامشه: نهر الخير على أيسر التفاسير) 4: 228، دار السلام، مصر، 1992م. وكذلك انظر: الصابوني، صفوة التفاسير 2: 535، دار الفكر، بيروت.

([21]) انظر: فاطمة المرنيسي، الحريم السياسي، النبي والنساء: 109 ـ 110، ترجمة: عبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق.

([22]) تفسير الطبري 22: 26، دار الفكر، بيروت.

([23]) عبد الرحمن عمر بكري الخطيب، الحجاب وحقوق المرأة التي انتقصها بعض المسلمين: 38 ـ 39، 2004م.

([24]) انظر: التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب 12: 207، دار الفكر، بيروت، 1995م.

([25]) صحيح البخاري: 1066 ـ 1067، كتاب اللباس، الحديث رقم 5893، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2001م؛ ومصادر أخرى…

([26]) انظر: الإسلام والحجاب بين عصر الحريم وتحديات الحضارة: 96، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1994م.

([27]) سامر إسلامبولي، المرأة، مفاهيم ينبغي أن تصحح: 32 ـ 33، الأوائل، دمشق، 1999م.

([28]) انظر: المصدر السابق: 33 ـ 35.

([29]) انظر: حسين علي لوباني الداموني، حجاب المرأة المسلمة: 79، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2007م.

([30]) تفسير القرطبي 14: 243، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1985م.

([31]) انظر على سبيل المثال: ابن منظور، لسان العرب 3: 168 ـ 170، دار صادر، بيروت، 2004م.

([32]) مطهري، مسألة الحجاب: 144.

([33]) انظر: حجاب المرأة المسلمة: 80، نقلاً عن صحيحي مسلم والبخاري.

([34]) ابن تيمية، حجاب المرأة ولباسها في الصلاة: 37، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.

([35]) محمد صديق حسن خان القنوجي البخاري، حُسن الأسوة بما ثبت من الله ورسوله في النسوة: 94، مطبعة الجوائب، القسطنطينية، 1301هـ.

([36]) انظر: منصور فهمي، أحوال المرأة في الإسلام: 61 ـ 62، ترجمة: رمندة مقدادي، مراجعة: هاشم صالح، منشورات الجمل، كولوينا (ألمانيا)، 1997م.

([37]) تفسير القرطبي 14: 243 ـ 244.

([38]) انظر: د. عايدة الجوهري، رمزية الحجاب، مفاهيم ودلالات: 117، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007م.

([39]) يحتمل المقدس الأردبيلي جواز إظهار المرأة لرقبتها وبعض صدرها وساقها، بل لولا الإجماع لذهب إلى جواز كشف الرأس.

(انظر: الأردبيلي، زبدة البيان في أحكام القرآن: 42، 210، 544، حقَّقه وعلَّق عليه: محمد باقر البهبودي، المكتب المرتضوي لإحياء الآثار الجعفرية، طهران، وكذلك انظر: الأردبيلي، مجمع الفوائد والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 2: 10، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1403م.

([40]) كانت النساء العربيات في النبي‘ وخلفاء الراشدين يسفرن عن وجوههنَّ وأكفهنَّ من غير زينة. يقول الدكتور علي الوردي: إنّ السبب الحقيقي المخفي وراء ظهور الحجاب بهذه الصورة هو التقاليد والعادات والفوارق الطبقية، التي أخذت تنمو وتتوسع بسبب توزيع الغنائم على المقاتلين بعد الفتوحات الإسلامية الواسعة.

ويبدو أن الحجاب قد انتشر منذ العهد الأموي، ولكنه كان محصوراً بالحرائر من الطبقة العليا، وبمرور الزمن قلدت الطبقات الأخرى الطبقة العليا. ومن الملاحظ أنه كلما كثرت الجواري أصبح الحجاب رمزاً للمرأة الحرة في جميع الطبقات. أما حجاب الوجه، الذي انتشر في العصر العباسي، وما زال منتشراً في بلدات إسلامية كثيرة، فقد كان يخص الحرائر.

(انظر في ذلك: د. علي الوردي، حوارات في الطبيعة البشرية، إعداد: سعد البزاز، جريدة الشرق الأوسط، الحلقة الثانية، 26 أيّار / مايو «May» 1996م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً