د. الشيخ صفاء الدين الخزرجي(*)
اضطراب مدرسة الخلافة في تفسير نصوص الاثني عشر
ذكرنا أن مدرسة الخلافة لم ترفض من حيث المبدأ أصل ورود هذه النصوص بعد تخريجها في الصحاح وغيرها، ولذا لم تجد بدّاً من القبول بها، إلاّ أنها اضطربت أشد الاضطراب في تفسيرها وبيان المقصود بها، فقد بدَتْ حائرة غاية الحيرة في أمر هذه النصوص؛ فهي من جهةٍ ترويها ولا تنكرها؛ ومن جهةٍ تحاول تفسيرها بما ينسجم مع مبانيها في موضوع الإمامة ـ من إنكار الوصية والتنصيب ـ، وأيضاً بما يخرج هذه النصوص من دائرة الإهمال واللغوية في كلام الشارع. ولكنْ رغم كثرة المحاولات المقدّمة لتفسير هذه النصوص إلاّ أنها واجهت جميعها إشكالاً مستعصياً واحداً مشترك الورود على الجميع، ألا وهو إشكال (التفسير التبرّعي)، الذي لا يستند إلى أيّ دليلٍ نقلي واحد ـ مهما كان ضعيفاً، ولو حديثاً مرسلاً واحداً ـ تستند إليه هذه التفاسير، أو غير نقلي من إجماع أو غيره، فضلاً عن الدليل العقلي أو العقلائي، حتّى بلغت الحيرة ببعضهم إلى الاعتراف الصريح بالعجز عن الوقوف على معنىً صحيح يركن إليه من كتابٍ أو سنة أو إجماع أو سيرة أو غيرها، ممّا يعني التعريض الضمني بعدم صوابية شيء من هذه التفسيرات التبرّعية، وأنها مجرد احتمالات وظنون وتخرُّصات لا يمكن القطع بشيء منها؛ لأنها لا تقوم على أساس علمي رصين. وهكذا سقطت هذه المدرسة ـ التي تدّعي لنفسها العناية الفائقة بحديث الرسول|، حتّى خصصت كتباً لصحيحه أسمَتْها بالصحاح، وهي تنعى على غيرها من المدارس الاسلامية بالعجز والتقصير في هذا المجال ـ في وَحْل الإشكال التبرّعي بكلّ وضوحٍ، وليس من دافع.
والجامع المشترك الآخر بين هذه التفاسير ـ غير إشكالية التفسير التبرّعي ـ ما ذكرناه سابقاً من أن موقف مدرسة الخلافة يبتني على فرضية صدور الأحاديث على جهة الإخبار عن الخلافة الفعلية التي أعقبت عصر الرسالة، أي الخلفاء أو الحكّام الذين جاؤوا بعد النبيّ|، وليس على جهة الإنشاء والنصب. ومن هنا قال البيهقي: (معقول لكل مَنْ خوطب بما روينا عن النبيّ| في اثني عشر خليفة، وفي بعض الروايات اثني عشر أميراً، أنه أراد خلفاء أو أمراء تكون لهم ولاية وعدّة وقوّة وسلطة، والناس يطيعونهم ويجري حكمهم عليهم، فأما أناس لم تقُمْ لهم راية ولم تجُزْ لهم على الناس ولاية، وإنْ كانوا يستحقون الإمارة بما كان لهم من حقّ القرابة والكفاية، فلا يتناولهم الخبر؛ إذ لا يجوز أن يكون المخبر بخلاف الخبر)([1]).
وهذا الفهم هو مصدر الاضطراب والاختلاف والتشويش في محاولات تفسير الحديث. وعلى أيّ حال فإنه يمكن تصنيف هذه المحاولات إلى صنفين كلّيين :
الصنف الأوّل: محاولات تسعى إلى إعطاء محدّدات عامّة لهؤلاء الخلفاء، بحيث لا تفضي إلى تعيينهم على وجه الدقّة والضبط.
الصنف الثاني: محاولات ذات محدّدات خاصّة، تفضي إلى تسمية هؤلاء الخلفاء، وهذا ما سنعرض له بالتفصيل في بيان هذه المحاولات، ودراستها.
أـ المحاولات ذات المحدّدات العامّة
المحاولة الأولى، للمهلب من شرّاح البخاري
ما ذهب إليه المهلّب في شرح حديث سمرة عن النبيّ| قال: «يكون اثنا عشر أميراً»([2]). فإنه بعد اعترافه بعدم ما يُقطع به في تفسير هذا الحديث قال: (إنّ الذي يغلب على الظن أن النبيّ| أخبر عن عجائب الفتن بعده، حتى يفترق الناس في وقتٍ واحد على اثني عشر أميراً، ولو أراد غير هذا لقال: يكون اثنا عشر أميراً يفعلون كذا، فلمّا أعراهم من الخبر عرفنا أنه أراد أنهم يكونون في زمنٍ واحد)([3]).
ويمكن المناقشة في هذه المحاولة بالمناقشات التالية:
المناقشة الأولى: إنّه من المستبعد جدّاً صدور مثل هذه الجملة المقتضبة عن متكلم عادي، فضلاً عن مثل نبيّ الفصاحة|، الذي هو أفصح مَنْ نطق بالضاد؛ إذ أيّ فصاحة تحتمل صدور مثل هذا الكلام من متكلّم عادي، فضلاً عن سيد الفصحاء؟! فالفصاحة هي أن تفصح عن تمام المراد، فإذا قال المتكلّم: (يكون اثنا عشر أميراً) وسكت لم يكن مفصحاً عن تمام مراده قطعاً، وكان المستمع منتظراً للإتمام. فكون الرواية مبتورةً هو المظنون قويّاً، إنْ لم يكن مقطوعاً به، ولا سيَّما مع ملاحظة باقي روايات الباب، الخالية من مثل هذا البَتْر المستهجن. بل إنّ ابن العربي احتمل البَتْر في رواية الترمذي، التي هي أوضح حالاً وأتمّ معنىً من رواية البخاري، حيث ورد فيها: «يكون بعدي اثنا عشر أميراً»([4])، ومع ذلك لم يستظهر منها معنىً محصلاً، فقال: (إنه لم يعلم للحديث معنىً، ولعلّه بعض حديث!)([5]). وعلى أيّ حال فإنّ أقلّ ما يمكن احتمال وقوع السقط فيه من حديث البخاري هو كلمة (بعدي)، بقرينة حديث الترمذي الذي وردَتْ فيه هذه الزيادة .
ومن هنا، فإن من وظائف المتصدّي لشرح حديث النبيّ| عدم الاكتفاء بمثل هذا الحديث المقتضب جدّاً، وأن يأخذ بنظر الاعتبار باقي الأحاديث الواردة في هذا السياق؛ لأنها بمنزلة القرينة المنفصلة التي يجب ضمّها إلى الكلام ليعلم المراد منه، وقد تقدّم أن كلامه| كالقرآن، يفسِّر بعضه بعضاً.
وتأسيساً على ذلك، فإنه بعد ملاحظة باقي الروايات الواردة في المقام ينبغي البحث في أنها واردةٌ في مقام الإخبار أو الإنشاء؟ فدعوى أنها في مقام الإخبار ابتداءً بحاجةٍ إلى إثبات، وهي أول الكلام؛ إذ سيأتي أنها في مقام الإنشاء والتنصيب لهؤلاء الاثني عشر، وإنْ كانت واردةً بنحو الإخبار، فكان اللازم إثبات ذلك أوّلاً، ثم البناء عليه ثانياً.
المناقشة الثانية: إنه على فرض كونها في مقام الإخبار فإنّ رواية البخاري ليس فيها ما يدلّ على هذه الدعوى البتّة، إذ لم يَرِدْ فيها أيّ قرينة سياقية أو مقالية على ما ادّعاه من اجتماعهم في زمنٍ واحد أو افتراقهم، بل من أين غلب على ظنّه أنه| أخبر عن عجائب الفتن بعده؟ وأمّا ما ذكره من الملازمة في استدلاله فهي غير بيّنة ولا مبيّنة.
المناقشة الثالثة: إنه على فرض الإخبار أيضاً فإنه يَرِدُ عليها ما ذكره ابن حجر من أنّ كلام المهلّب كلام مَنْ لم يقف على شيءٍ من طرق الحديث غير الرواية التي وقعت من طريق البخاري، حيث إنه قصر النظر في تفسيره هذا على رواية البخاري فقط التي ورد فيها: (يكون اثنا عشر أميراً)([6])، مع أنه قد وردت لهم أوصافٌ أخرى في رواية مسلم وغيره، وهي كون الإسلام عزيزاً منيعاً بولايتهم([7])، وأنهم تجتمع عليهم الأمة، كما في رواية أبي داوود([8])، فكيف يكون الإسلام عزيزاً وتجتمع عليهم الأمة وهم يحكمون في زمانٍ واحد؟! أليس هذا هو عين الافتراق؟!([9]).
المناقشة الرابعة: إن هذه المحاولة لم تحلّ اللغز أو تحدّد المراد بهؤلاء الاثني عشر، وإنما حدَّدت زمان حياتهم، وأنهم يجتمعون في زمانٍ واحد. وهذا الزمان هو الآخر مجهولٌ وغير محدَّد أيضاً؛ إذ لم يعلم هل أن هؤلاء جاؤوا وحكموا أو لم يجيئوا بَعْدُ ولم يحكموا؟ وعليه فهي لم تخرج الأمر عن كلّيته، وإنما فسّرته بأمرٍ مشابه له في الكلّية.
المحاولة الثانية، لأبي الحسين المنادي(336هـ)([10])
بالرغم ممّا توفّرت عليه هذه المحاولة من بعض المحدّدات الخاصّة، كالنسب والزمان، إلا أنه يمكن تصنيفها ضمن المحاولات ذات المحدّدات الكلّية. وحاصل هذه المحاولة هو (أن يكون هذا بعد المهديّ، الذي يخرج في آخر الزمان، فقد وجدت في كتاب دانيال: إذا مات المهديّ ملك بعده خمسة رجال من ولد السبط الأكبر، ثم خمسة من ولد السبط الأصغر، ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجلٍ من ولد السبط الأكبر، ثم يملك بعده ولده، فيتمّ بذلك اثنا عشر ملكاً، كلّ منهم إمام مهديّ. وفي رواية أبي صالح، عن ابن عبّاس: المهديّ اسمه محمد بن عبد الله، وهو رجلٌ ربعة مشرب بحمرة، يفرج الله به عن هذه الأمة كلّ كرب، ويصرف بعدله كلّ جَوْر، ثم يلي الأمر بعده اثنا عشر رجلاً، ستّة من ولد الحسن، وخمسة من ولد الحسين، وآخر من غيرهم، ثم يموت، فيفسد الزمان. وعن كعب الأحبار: يكون اثنا عشر مهديّاً)([11]).
ويَرِدُ عليه من المناقشات ما يلي:
المناقشة الأولى: إنْ كان مستنده في ما ذكره هو كتاب دانيال فإنه لم يتضح مصدر هذا الكلام، ولا قائله، ولا قيمة هذا الكتاب، فكيف يكون حجة ومستنداً في تفسير كلام سيد المرسلين؟! وإنْ كان مصدره ما نقله عن ابن عبّاس وكعب ـ والظاهر أنه رواية عن النبيّ|؛ لكونه إخباراً عن الغيب ـ فمثل هذا المضمون وإنْ كان وارداً في روايات الإمامية أيضاً، كما سيأتي بحثه، إلاّ أنهم ليسوا المقصودين في أحاديث الاثني عشر؛ وذلك للقرينتين التاليتين:
الأولى: إنه خلاف الظاهر من البَعْدية والاستخلاف الوارد في قول النبي| «يكون بعدي اثنا عشر خليفة» ولم يقُلْ (بعد المهديّ)، وعليه فلا تصدق البَعْدية والاستخلاف الذي يكون بعد قرونٍ طويلة بما يسبق قيام القيامة.
الثانية: إنه خلاف قوله|: «لا يزال هذا الأمر عزيزاً منيعاً»([12]) وقوله: «لا يزال أمر الناس ماضياً»([13])، الدّالين على اتصال زمانهم بزمان النبيّ|، واستمرار وجودهم إلى آخر الزمان، وانحصار الخلفاء فيهم، كما صرّح به في رواية ابن مسعود لمّا سئل: كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ قال: سألنا عنها…، الحديث([14]).
المناقشة الثانية: ما أورده عليه ابن حجر، حيث قال: (والوجه الذي ذكره ابن المنادي ليس بواضح، ويعكر عليه ما أخرجه الطبراني من طريق قيس بن جابر الصدفي، عن أبيه، عن جدّه، رفعه: سيكون من بعدي خلفاء، ثم من بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثم يخرج رجلٌ من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ثم يؤمر القحطاني، فوالذي بعثني بالحقّ ما هو دونه)([15]).
المناقشة الثالثة: ضعف ما استند إليه من الرواية، فقد صرح ابن حجر بأنها واهيةٌ جدّاً لا يعوّل عليها([16]).
المناقشة الرابعة: إنه لم يحدّد أسماء هؤلاء الخلفاء، ولا مواصفاتهم، وإنما اكتفى بمحدّدات عامة، ككونهم من ذرّية السبط الأكبر والأصغر. كما أنه لم يحدّد اسم الثاني عشر الذي يكون من ولد الأخير. ومعلومٌ أن مثل هذه المحدّدات الكلية ستكون هي مادة النزاع ومثار الاختلاف، بَدَلاً عن أن تكون سبيلاً للهداية؛ وذلك لإمكانية استغلالها والتلاعب بها، كما في مشابهاتها من المفاهيم والعناوين.
المناقشة الخامسة: إنّ من غرائب هذه المحاولة أنها لم تأتِ على ذكر الإمام المهديّ# في الخلفاء، مع أن روايات الفريقين متواترة في حكمه، وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهذا ما نقله نفس ابن المنادي في كلامه، فكيف يكون مَنْ بعده في عداد الخلفاء، ولا يكون هو منهم؟!
ويمكن أن تضاف هذه المناقشة كقرينةٍ ثالثة إلى القرينتين السابقتين الدالّتين على عدم إمكان انطباق الاثني عشر خلفاء النبيّ| على الاثني عشر بعد المهديّ#.
المحاولة الثالثة، لعيسى بن يونس (القرن الثاني) وابن الجوزي(597هـ)([17]) والتوربشتي(حدود 660هـ)([18]) وابن كثير الدمشقي(774هـ)([19]) وابن تيمية(728هـ)([20])
فسَّر أصحاب هذه المحاولة البَعْدية الواردة في حديث: «يكون بعدي اثنا عشر خليفة» بالبَعْدية غير الحقيقية. فالمراد هو حكومة هذا العدد من الخلفاء الصالحين إلى ما قبل قيام الساعة، وليس المراد حكومتهم نَسَقاً. واستشهدوا لذلك بما أخرجه مسدّد في مسنده الكبير، من طريق أبي بحر، أن أبا الجلد حدَّثه بحديثٍ: «لا تهلك هذه الأمة حتّى يكون منها اثنا عشر خليفة، كلهم يعمل بالهدى ودين الحقّ، منهم رجلان من أهل بيت محمد|، يعيش أحدهما أربعين سنة، والآخر ثلاثين سنة»([21]).
وهذا ما احتمله ابن الجوزي، حيث ذكر أن المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة، يعملون بالحقّ، وإنْ لم تتوالَ أيامهم([22]).
ونحوه ما عن التوربشتي في بيان المراد بحديث الخلفاء الاثني عشر قال: (يحمل على المقسطين منهم، فإنهم هم المستحقّون لاسم الخليفة على الحقيقة، ولا يلزم أن يكونوا على الولاء، وإنْ قدّر أنهم على الولاء فإن المراد منه المسمّون على المجاز)([23]).
وقال أبو داوود ـ صاحب السنن ـ: (سمعت الحسن بن الحسن قال: سمعت النفيلي قال: كان عيسى بن يونس إذا حدَّث بحديث: يملك هذه الأمة اثنا عشر خليفة قال: قد مضى من هؤلاء خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعمر بن عبد العزيز)([24]). فالظاهر من كلام عيسى بن يونس تطبيق الحديث على المقسطين منهم، وإنْ تفرّقوا.
ويمكن المناقشة في هذه المحاولة أيضاً بما يلي:
المناقشة الأولى: إن هذه المحاولة على خلاف الظاهر من توالي البَعْدية، كما في قوله|: «يكون بعدي من الخلفاء عدّة نقباء موسى»([25])؛ وعلى خلاف الظاهر من عدم خلوّ زمنٍ منهم، كما في قوله|: «لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة»([26])، وقوله|: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر»([27]).
المناقشة الثانية: إن هذه الأحاديث لا شَكَّ أنها صادرة على جهة المدح، وإرادة خصوص الخلفاء العدول، دون غيرهم، كما اعترف بذلك أصحاب المحاولة، إلاّ أن هذا المحدّد يبقى أيضاً كلّياً وعاماً لا يفيد في تحديدهم ومعرفتهم بالضبط؛ كي يترتب الأثر المطلوب على معرفتهم، وهو طاعة الأمّة وتبعيتها لهم. فلا تجدي هذه المحاولة شيئاً في المقام أيضاً.
المناقشة الثالثة: إنّ العدول من هؤلاء الخلفاء في الدولتين الأموية والعباسية كثرٌ على مباني القوم، لا ينحصرون بالاثني عشر، حتّى لو سلَّمنا عدم تواليهم. وعليه فما هو المعيار في اختيار هؤلاء الاثني عشر، دون سواهم؟ وطبقاً لأيّ معيار في الترجيح يحصل ذلك، حتّى لا نقع في إشكال الترجيح بلا مرجِّح؟
المناقشة الرابعة: إنّه لم يعلم أنّ ما نقله عن أبي الجلد هل هو من كلامه أم هو حديثٌ يرويه؟ وعلى فرض أنه حديثٌ فهو مرسل. قال المحقق الصافي: (إنّ ما نقله عن أبي الجلد موهونٌ؛ بوقوفه عليه وعدم رفعه الى المعصوم، وعليه فهو أعمّ من كونه رواية أو اجتهاداً منه ورأياً خاصّاً به. وعلى فرض عدم وقوفه وكونه رواية فلا شَكَّ في أن قوله: «منهم رجلان من أهل بيت محمد»، كما يشهد به سياق الكلام، اجتهادٌ منه أو من غيره ممَّنْ روى عنه، وإلاّ لقال: «من أهل بيتي»، بَدَل «من أهل بيت محمد». ويؤيّد ذلك ما في كتاب الخصال، بسنده عن أبي نجران، أن أبا الجلد حدَّثه، وحلف له علي،ه «أن لا تهلك هذه حتّى يكون فيها اثنا عشر خليفة، كلهم يعمل بالهدى»، ولم يذكر هذه الزيادة.
ولو بنينا على صحة كون ما نقله خبراً بتمامه فمقتضى الصناعة الجمع بينه وبين باقي الروايات، بتقييد إطلاقه بها؛ فإن خبره مطلق يشمل الاثني عشر، سواء اتصل زمانهم ولاءً أو لا، بينما دلّت باقي الروايات على تتابعهم، فيقيّد إطلاقه بصراحة هذه الروايات)([28]).
المناقشة الخامسة: إنّ الاثنين المشار إليهما من أهل البيت^ لا ينطبقان على الإمام عليّ، ولا على ولده الإمام الحسن’، لا من جهة العمر ولا من جهة مدّة الخلافة، مع أنهما من سادات أهل البيت^ الذين حكموا، فإذا لم ينطبق عليهما فعلى مَنْ ينطبق إذن؟!
ب ـ المحاولات ذات المحدّدات الخاصة الناصّة على الأسماء
وهذه المحاولات جميعاً هي محاولاتٌ تطبيقية وإسقاطية على واقع الخلافة الذي أعقب حياة النبي|، فهي تنطلق من الواقع لتسقطه على النصّ، وتفسّره به، وذلك انطلاقاً من أمرين:
الأوّل: افتراض أنّ جميع هذه النصوص هي في مقام الإخبار، دون الإنشاء.
الثاني: إنّ لفظ الخلفاء الوارد في النصوص لا يطيق تفسيراً غير الواقع الخارجي للخلفاء، بعد حصر الخلافة بهم واستبعاد خلافة غيرهم.
وعلى أيّ حالٍ فإنّ هذه المحاولات ـ ضمن التسلسل العامّ للمحاولات السابقة ـ هي عبارةٌ عن التالي:
المحاولة الرابعة: المحاولة المنسوبة إلى ابن عمر (القرن الأوّل)
روي عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: «يكون بعدي اثنا عشر خليفة: أبو بكر الصديق لا يلبث بعدي إلاّ قليلاً، وصاحب رحى دارة العرب، يعيش حميداً ويقتل شهيداً، عمر، وأنت يا عثمان سيسألك الناس أن تخلع قميصاً كساك الله عزَّ وجلَّ إيّاه، والذي نفسي بيده لئن خلعْتَه لا تدخل الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط»([29]).
وروى عبد الله بن عمر أيضاً عنه| قال: «يكون على هذه الأمة اثنا عشر خليفة: أبو بكر أصبتم اسمه، عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه، عثمان بن عفان ذو النورين قتل مظلوماً أوتي كفلين من الرحمة، [ثم] ملكُ الأرض المقدّسة معاوية، وابنه، ثم يكون السفّاح، ومنصور، وجابر، والأمين، وسلام، وأمير العصب لا يرى مثله ولا يدرى مثله»([30]). ورواه ابن عساكر بإبدال المهديّ بَدَل جابر، وإضافة أنهم «كلّهم صالح»([31]).
ويَرِدُ على الحديث الأوّل مناقشتان:
المناقشة الأولى: وهي المناقشة السندية، حيث ورد في سند الرواية عبد الله بن صالح الكذّاب؛ وربيعة بن سيف الذي قال عنه البخاري: عنده مناكير([32])، وذكره الذهبي من طريق يحيى بن معين، وقال: (إني أتعجّب من يحيى مع جلالته ونقده كيف يروي مثل هذا الباطل، ويسكت عنه، وربيعة صاحب مناكير وعجائب)([33]). هذا مضافاً إلى إرسال الحديث، وكونه مرفوعاً.
المناقشة الثانية: وهي المناقشة الدلالية، حيث إنّ السؤال الذي يطرح نفسه بشكلٍ تلقائي هو: إنه لماذا ذكر ثلاثة من الخلفاء، وأمسك، ولم يذكر الجميع حتّى يبين ذلك للأمة؟ بل الأنكى من ذلك أنه لم يذكر حتّى الخليفة الرابع، وهو الإمام عليّ×، مع أنه رابع الخلفاء عندهم؟
ويَرِدُ على الحديث الثاني مناقشتان أيضاً:
المناقشة الأولى: وهي المناقشة السندية، حيث يظهر ضعف السند بالإرسال. مضافاً إلى كون نعيم بن حمّاد كان يضع الحديث في تقوية السنّة([34]).
المناقشة الثانية: وهي المناقشة الدلالية:
أوّلاً: كيف يدخل هؤلاء الطغاة ـ من أمثال: معاوية وولده الفاجر والسفّاح والمنصور ـ في زمرة الخلفاء الذين يصفهم لفظ ابن عساكر بأنهم كلّهم صالح لا يرى مثله؟ نعم لا يرى مثل هؤلاء في الإجرام والجَوْر.
ثانياً: كيف لا يدخل الإمام عليّ× في هذه الخلافة، مع أنه الخليفة الرابع بالإجماع؟
ثالثاً: كيف تنقطع الخلافة ما بين يزيد سنة 64هـ إلى السفّاح سنة 132هـ، فتبقى الأمة بلا خلافة هذه الفترة([35])، كما تبقى بدونها أيضاً بعد الأخير، مع أن الأخبار صريحة في استمرار خلافة الاثني عشر.
رابعاً: قد ورد في هذا الحديث الموضوع أسماء نكرات هي: جابر، وسلام، وأمير العصب، فلا ندري هل هؤلاء هم من أمراء الجنّ أم الانس أم الشياطين؟! فعلى شرّاح السنّة لدى الجمهور أن يشرحوا لنا هذه الألغاز، ويبيِّنوا ذلك للأمة، أو يسقطوا هذه الأحاديث المنكرة من الاعتبار، وينزِّهوا ساحة البيان النبويّ الكريم من هذا الهراء الذي لا طائل منه.
المحاولة الخامسة، لابن حِبّان(354هـ) وجماعة
إن المراد بهؤلاء الخلفاء عبارة عن: الخلفاء الأربعة، ومعاوية، ويزيد، ومعاوية بن يزيد، ومروان بن الحكم، وعبد الملك، والوليد بن عبد الملك، وسليمان، وعمر بن عبد العزيز، الذي كانت وفاته على رأس المائة، وهي القرن الفضل وخير القرون، وكان الدين في غاية العزّة، ثم وقع ما وقع([36]).
ويمكن المناقشة فيها بما يلي:
المناقشة الأولى: إنّه ما المقياس في اختيار هؤلاء الخلفاء دون غيرهم؟ فإنه يمكن تصوّر المقياس في أحد الأمور التالية:
المقياس الأول: هو تولّي الحكم حتّى وإنْ قصرت مدّته، كما في ولاية معاوية بن يزيد، الذي لم يحكم إلاّ أربعين يوماً، وقيل: شهرين أو ثلاثة، لم يفعل فيها شيئاً؛ لمرضه، حتّى مات وله عشرون سنة([37]).
وينقض على هذا المقياس بعدم ذكر الإمام الحسن بن عليّ’، الذي حكم ستة أشهر وبضعة أيام([38])، ولا سيَّما أن خلافته قد تمَّتْ بالبيعة، وليس بتوريثٍ، كما في معاوية بن يزيد. هذا فضلاً عن فضائله، ككونه سبط لرسول| وريحانته وسيد شباب أهل الجنة ومن أهل آيتَيْ التطهير والمباهلة وسورة الدهر، أم أن هذه هي التي أخرجته عند ابن حِبّان وأضرابه؟!
المقياس الثاني: هو العدالة والاستقامة الظاهرية.
وينتقض هذا المقياس بذكر مثل: يزيد بن معاوية والوليد بن يزيد بن عبد الملك المعلِنَيْن بالفسق، وكذلك عبد الملك، الذي لو لم يكن فيه إلاّ ما ذكره فيه السيوطي لكفى، حيث قال فيه: (لو لم يكن من مساوئ عبد الملك إلا الحجّاج وتوليته إيّاه على المسلمين وعلى الصحابة رضي الله عنهم، يهينهم ويذلّهم، قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يُحصى، فضلاً عن غيرهم، وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختماً يريد بذلك ذلّهم، فلا رحمه الله ولا عفا عنه)([39]).
هذا، مضافاً إلى أنه بناءً على هذا المقياس (العدالة الظاهرية) لماذا لم يُعَدّ الإمام الحسن× في هؤلاء الخلفاء؟ أمّ أنّ أمثال يزيد والوليد أكثر عدالة من ابن رسول الله| وسيّد شباب أهل الجنة؟!
المقياس الثالث: هو الفسق، وأنّ المراد بالحديث ذكر فَسَقة الخلفاء الذين تصدّوا للخلافة بعد النبيّ|.
ويَرِدُ عليه: إنه بناءً عليه لا يصح أن يسوّى بهم غيرهم ممَّنْ يعتقد بعدالته من الخلفاء الأربعة.
والحاصل أنه لم يعلم المقياس المعتمد في اختيار هؤلاء المذكورين، وتفسير كلام رسول الله بهم.
المناقشة الثانية: أيُّ عزّةٍ للدين وقد ابتُلي الدين بحاكم مثل: يزيد، الذي هتك الدين واستباح الحرمات جميعاً، حرمة الرسول| وأهل بيته وعترته وأحد سبطيه، وحرمة البيت الحرام والشهر الحرام والنفس الحرام، ومدينة الرسول|؟! هل الدين كان في غاية العزّة مع كل هذه الجرائم والفظائع؟! فما لكم كيف تحكمون؟! هل صرف الحديث عن أهله عند ابن حِبّان وأضرابه يستدعي كلّ هذا التنزُّل والرضا بجرائم الظالمين والمفسدين؟ ولا ندري أيّ خيرية في ذلك القرن وقد ارتكبت فيه أبشع الجرائم بحقّ أسرة آل الرسول|، وبحقّ الكعبة المشرّفة، وبحقّ المدينة المنورة وقبر الرسول| وصحابته والتابعين؟ فما عسى أن يقع حتّى يكون أسوأ القرون؟ ولماذا نعتبر أنه لم يحصل فيه شيءٌ من هذه الجرائم بحقّ الدين والرسول والعترة والكعبة ونقول: (ثمّ وقع ما وقع)، وكأنه لم يقع فيه شيءٌ قبل ذلك؟ ألم تُشَنّ ثلاث حروب مدمّرة على الدين والخلافة الشرعية والمجتمع الإسلامي؟ ألم يقتل معاوية الأبرار من الصحابة، ويسنّ سبّهم، بل ويعلن به فوق المنابر، ويخرج على إمام زمانه، مستبيحاً دمه ودماء الصحابة الأبرار معه؟ ألم يستخفّ بالأمّة وشخصيّاتها ورجالها باستخلافه ولده يزيد عليهم، وكأنه عقمت النساء عن أن يلِدْنَ إلاّ مثله؟ فهل كان جاهلاً بحاله أم عالماً؟ فإنْ كان جاهلاً فهو غير معذور؛ لأن اللازم عليه أن يخبر ولده ويعدّه لهذا الأمر الخطير والمسؤولية الكبرى؛ وإنْ كان عالماً فلماذا أقدم على ذلك مجازفاً بأمر الأمة؟ أم أن يزيد كان على درجة من التقى والصلاح في حياة أبيه ثم انقلب من بعده فخفي عليه أمره؟! لا شَكَّ إنّ معاوية بهذا الاستخلاف قد شارك ولده يزيد في كلّ جريمةٍ اقترفها بحقّ هذه الأمة؛ إذ لم يكن أمره خافياً عليه، كما لا يخفى أمر كلّ ولد على والده، حيث يعرف جميع دخائله وسجاياه.
هذا، مضافاً للروايات الذامّة لمعاوية، ونحن نقتصر على ذكر روايةٍ واحدة تعكس الانطباع العام عن شخصيّته. فقد روى مسلم، عن عبد الرحمن بن عبد ربّ الكعبة أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: «هذا ابن عمّك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا، والله يقول: ﴿لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ اِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾، قال: ثم سكت ساعة، ثمّ قال: أطِعْه في طاعة الله، واعْصِه في معصية الله»([40]).
ومن هنا لا ينقضي العجب من ابن حَجَر كيف جعل هذه المحاولة أفضل الوجوه في تفسير الحديث، مع كلّ هذه العلل فيها، أم أنّ حبّ القوم قد أُشْرب في قلبه؟!([41]).
ولا ينحصر الأمر بمعاوية ويزيد، بل الأمر سارٍ في الحكّام الأمويين كافّة، وقد تقدّم الكلام في بعضهم. وزبدة القول فيهم ما رواه الترمذي من حديث (سفينة) عندما سأله سعيد بن جمهان فقال: (إنّ بني أمية يزعمون أنّ الخلافة فيهم، فقال سفينة: كذبوا بنو الزرقا، بل هم ملوكٌ، وشرُّ ملوك)([42]).
أجل، لم يسمح سفينة باستغلال لفظ الخلافة وإطلاقه على مثل: بني أمية، بل اعتبرهم ملوكاً، شرَّ ملوكٍ.
المحاولة السادسة، للبيهقي(458هـ)([43]) والقاضي عياض(544هـ)([44]) وابن حجر(528هـ)([45]) وآخرين
وهي عبارةٌ عن احتمال أن المراد أنهم يكونون في مدّة عزّة الإسلام وقوة الخلافة واستقامة الأمور. وقد وجد هذا العدد في مَنْ اجتمع عليه الناس، إلى أن اضطرب أمر بني أمية، ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد. وأيّدوا ذلك بما ورد في بعض طرق الحديث: «كلهم يجتمع عليه الناس»([46]). وهؤلاء الخلفاء المتتابعون هم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، ومعاوية، ويزيد، وعبد الملك، وأولاده الأربعة: الوليد، ثم سليمان، ثم يزيد، ثم هشام، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك([47]).
ونوقش في هذه المحاولة بما يلي:
المناقشتان الأولى والثانية: ما ذكرناه في المناقشتين السابقتين على المحاولة السابقة، فإنهما يَرِدان هنا أيضاً.
المناقشة الثالثة: النقض عليه بما ذكره نفس ابن حَجَر في شرح حديث أبي هريرة عنه|، الذي قال فيه: «هلكة أمتي على يد غلمة من قريش»، فقد قال فيه ما نصّه: (في رواية أبي شيبة: إن أبا هريرة كان يمشي في السوق، ويقول: اللهمّ لا تدركني سنة ستّين، ولا إمارة الصبيان. وفي هذا إشارة إلى أن أوّل الأغيلمة كان في سنة ستين، وهو كذلك؛ فإن يزيد بن معاوية استخلف فيها، وبقي إلى سنة أربع وستين، فمات، وولي ولده معاوية، ومات بعد أشهر… والمراد أنهم يهلكون الناس؛ بسبب طلبهم الملك والقتال لأجله، فتفسد أحوال الناس، ويكثر الخبط بتوالي الفتن. وقد وقع الأمر كما أخبر|. وأما قوله: لو أن الناس اعتزلوهم محذوفُ الجواب وتقديره لكان أَوْلى بهم، والمراد باعتزالهم أن لا يداخلوهم، ولا يقاتلوا معهم، ويفرّوا بدينهم من الفتن)([48]).
فإذا كان يزيد ومَنْ هو على شاكلته من أحداث بني أمية الذين تولّوا الأمر من غلمة قريش الذين تكون هلكة الأمة على أيديهم، وحذّر الرسول| منهم، وأمر باعتزالهم وعدم الدخول معهم، فكيف يكونون في عداد الاثني عشر الذين لا يزال الإسلام عزيزاً منيعاً بخلافتهم؟!
المناقشة الرابعة: إنّ العدد إلى عمر بن عبد العزيز هو ثلاثة عشر، لأنّ مَنْ ولي حقيقةً هم: الخلفاء الأربعة، الإمام الحسن×، معاوية، يزيد، معاوية بن يزيد، مروان، عبد الملك بن مروان، الوليد، سليمان، عمر بن عبد العزيز.
ولذا اعترض ابن كثير على المحاولة المذكورة، فقال: (فهذا الذي سلكه البيهقي، وقد وافقه عليه جماعةٌ، من أن المراد بالخلفاء الاثني عشر ـ المذكورين في هذا الحديث ـ هم المتتابعون إلى زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق، الذي قدّمنا الحديث فيه بالذمّ والوعيد ـ فإنه مسلكٌ فيه نظرٌ. وبيان ذلك: إن الخلفاء إلى زمن الوليد بن يزيد هذا أكثر من اثني عشر على كلّ تقدير. وبرهانه أنّ الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، خلافتهم محقّقة بنصّ حديث سفينة: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة»، ثم بعدهم الحسن بن عليّ كما وقع؛ لأن علياً أوصى إليه وبايعه أهل العراق…، ثم معاوية، ثم ابنه يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم ابنه عبد الملك بن مروان، ثم معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم ابنه عبد الملك بن مروان، ثم ابنه الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، فهؤلاء خمسة عشر، ثم الوليد بن يزيد بن عبد الملك؛ فإنْ اعتبرنا ولاية ابن الزبير قبل عبد الملك صاروا ستّة عشر، وعلى كلّ تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز. فهذا الذي سلكه على هذا التقدير يدخل في الاثني عشر يزيد بن معاوية، ويخرج منهم عمر بن عبد العزيز، الذي أطبق الأئمة على شكره وعلى مدحه، وعدّوه من الخلفاء الراشدين، وأجمع الناس قاطبةً على عدله، وأن أيامه كانت من أعدل الأيام، حتّى الرافضة يعترفون بذلك. فإنْ قال: أنا لا أعتبر إلاّ مَنْ اجتمعت الأمّة عليه لزمه على هذا القول أن لا يعدّ عليّ بن أبي طالب، ولا ابنه؛ لأن الناس لم يجتمعوا عليهما، وذلك أن أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما)([49]).
المناقشة الخامسة: إنّ معنى اجتماع الأمّة عليهم يعني الرضا ببيعتهم طَوْعاً، وهذا ما لم يتحقّق في عهد عثمان، حيث خرج عليه مَنْ خرج من بعض ولاياته. وكذلك الإمام عليّ×، حيث خرج عليه مَنْ خرج في ثلاث حروب، إضافة إلى إجماع أهل الشام على عدم بيعته بكمالهم. وكذلك معاوية، الذي انفسخت بيعة أهل العراق معه بنقضه لشروط الهدنة مع الإمام الحسن×. وكذلك يزيد، الذي تمّت بيعته بالإكراه من أهل المدينة، ولم يبايعه أهل البيت^ وأهل العراق.
قد يُقال: إنّ معنى «يجتمع عليهم الناس» يحمل على الأكثر الأغلب؛ لأنّ هذه الصفة لم تفقد إلاّ في القليل منهم، كما ذكر ذلك ابن حَجَر([50]).
وأقول: أوّلاً: إنّ هذا خلاف ظاهر قوله: (كلهم)، الظاهر في العموم.
وثانياً: إنه خلاف ما ذكره نفس ابن حَجَر من أنّ المراد بالاجتماع انقيادهم للبيعة، ثم ذكر مَنْ اجتمعت عليه الأمّة، بدءاً بالخلفاء الأربعة وانتهاء بالوليد بن يزيد([51]).
المحاولة السابعة، لابن أبي العزّ(792هـ)
وهي عبارةٌ عن المحاولة السابقة، مع تغيير بعض الأسماء. فقد أضاف صاحب المحاولة عمر بن عبد العزيز بَدَل الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ولم يستدلّ عليها بشيءٍ.
ويَرِدُ عليها ما ورد على أخواتها([52]).
المحاولة الثامنة، لابن الجوزي أيضاً(597هـ)
وهذه المحاولة عبارةٌ عن احتمالٍ آخر غير ما تقدَّم عن ابن الجوزي في المحاولة الثانية، وحاصلُها أن النبيّ| أشار إلى ما يكون بعده وبعد أصحابه، وأنّ حكم أصحابه مرتبطٌ بحكمه، فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم، فكأنّه أشار إلى عدد الخلفاء من بني أمية، الذين أوّلهم يزيد بن معاوية وآخرهم مروان الحمار، ولا يعدّ فيهم عثمان ولا معاوية ولا ابن الزبير؛ لأنهم من الصحابة، فإذا أسقطنا مروان بن الحكم ـ للاختلاف في صحبته، أو لأنه تغلّب بعد اجتماع الناس على ابن الزبير ـ صحّت العدّة([53]).
ويؤيِّد هذا الاحتمال ما أخرجه أبو داوود من حديث ابن مسعود: «تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ستّ وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإنْ هلكوا فسبيل مَنْ هلك، وإنْ يقم لهم دينهم يقُمْ لهم سبعين عاماً»([54])، فيشبه الحديث أن يكون إشارة إلى مدّة بني أمية في الملك، وانتقاله عنهم إلى بني العبّاس، فكان ما بين استقرار الملك لبني أمية وظهور الوَهْن فيه نحواً من سبعين سنة([55]).
ويمكن المناقشة فيه بما يلي:
المناقشتان الأولى والثانية: ما تقدَّم من المناقشة الأولى والثانية في المحاولتين السابقتين.
المناقشة الثالثة: ما ذكره ابن حَجَر من أنّ الفترة ما بين استقرار ملك بني أمية بتولّي معاوية سنة إحدى وأربعين إلى زواله ـ في أوائل سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وهي سنة مقتل مروان بن محمد ـ هي أزيد من تسعين سنة([56]).
المناقشة الرابعة: ما ناقش به المحقّق الصافي من انعدام الدليل على هذا المدّعى، حيث قال: (من أين علم أن مراده الإخبار بإمامة اثني عشر من بني أمية، دون معاوية ومروان؟! ومن أين علم أنه إشارة إلى ما بعد الصحابة؟! فلم يقُلْ: «يكون بعد الصحابة» وقال ـ على ما جاء في طائفة من أحاديث الباب ـ: «ويكون من بعدي».
ويدلّ على فساد هذا الاحتمال وبطلان كلّ وجه أُدخل فيه معاوية ومَنْ بعده أن بني أُميّة ليسوا من الخلفاء بالاتفاق، وأنهم ملوكٌ، وشرُّ ملوكٍ.
وإذا وصل الأمر إلى اقتراح مثل هذا الاحتمال لصرف الكلام عن ظاهره؛ حَذَراً عن إثبات مذهب أهل الحقّ، فلا خصوصية لبعضٍ دون بعض، وحينئذٍ تكثر الاحتمالات؛ فيحتمل أن يكون إشارة إلى مَنْ بعد عبد الملك، وكان مراده من «من بعدي» بعد عبد الملك؛ ويحتمل أن يكون إشارة إلى مَنْ بعد هشام؛ ويحتمل أن يكون ستة منهم من بعد يزيد بن عبد الملك، وستّة منهم من بني العبّاس؛ ويحتمل أن يكون المراد بعد بني أمية؛ ويحتمل أن يكون إشارة إلى مَنْ بعد السفّاح أو المنصور أو غيرهما من بني العبّاس؛ أو يكون بعضهم من الأمويين الذين ملكوا الأندلس، وبعضهم من الفاطميين الذين حكموا بمصر مثلاً؛ إذ لا مرجِّح للاحتمال الذي ذكروه على واحدٍ من هذه الاحتمالات.
ثم كيف يكون الحديث صادراً على غير سبيل المدح مع ما في بعض طرقه من العبارات الصريحة في المدح؟! وكيف يصحّ تنزيل هؤلاء الجبابرة الفَجَرة منزلة نقباء بني إسرائيل وحواريّي عيسى× في هذه الروايات الكثيرة؟!)([57]).
المحاولة التاسعة، للسيوطي(911هـ)
نقل السيوطي هذه المحاولة عن بعضهم، من غير تسميةٍ له. والظاهر أنّ مراده نفس أصحاب المحاولة الثانية، وهم: ابن كثير والتوربشتي وابن تيمية. إلاّ أنّ أصحاب تلك المحاولة لم يذكروا الأسماء، ولذا أدرجنا محاولتهم في المحاولات الكلّية. لكن السيوطي ذكر الأسماء فقال: (وقيل: إن المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدّة الإسلام إلى يوم القيامة، يعملون بالحقّ، وإنْ لم تتوالَ أيامهم. ويؤيد هذا ما أخرجه مسدّد في مسنده أنه قال: لا تهلك هذه الأمة حتّى يكون اثنا عشر خليفة، كلهم يعمل بالهدى ودين الحقّ)([58])، ثم قال معلِّقاً على هذا القول: (وعلى هذا، فقد وجد من الاثني عشر: الخلفاء الأربعة، والحسن، ومعاوية، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وهؤلاء ثمانية، ويحتمل أن يضمّ إليهم المهتدي من العبّاسيين؛ لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز، وكذلك الظاهر؛ لما أُوتيه من العدل، وبقي الاثنان المنتظران؛ أحدهما المهديّ؛ لأنه من آل بيت محمد|)([59]).
ويمكن المناقشة في هذه المحاولة بما يلي من المناقشات:
المناقشتان الأولى والثانية: ما تقدَّم من المناقشتين الأولى والثانية على المحاولات الثلاث السابقة.
المناقشة الثالثة: ما أورده المحقّق الصافي من أن دلالة كثير من الروايات على انحصار الخلفاء في الاثني عشر، بل بعضها نصٌّ في ذلك، كرواية ابن مسعود المتقدّمة. كما أنها تدلّ أيضاً على اتصال زمانهم واستمرار وجودهم([60])، فقد روى الشعبي عن مسروق قال: (كنّا جلوساً عند عبد الله بن مسعود، وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله| كم يملك هذه الأمّة من خليفة؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما سألني عنها أحدٌ منذ قدمتُ العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله| فقال: «اثنا عشر، كعدّة نقباء بني إسرائيل»([61]).
المناقشة الرابعة: إنّ ما نقله عن أبي الجلد موهونٌ بوقوفه عليه، وعدم رفعه إلى المعصوم، وعليه فهو أعمّ من كونه روايةً أو اجتهاداً منه ورأياً خاصّاً به. وقد تقدَّم ذلك سابقاً في مناقشة المحاولة الثانية.
المناقشة الخامسة: إنّه لم يعلم المقياس أو المعيار في اختيار هذه الأسماء ما هو؟ إلاّ أنه يمكن افتراض ثلاثة معايير لذلك:
المعيار الأوّل: هو العدالة والاستقامة، كما يلاحظ ذلك في ما ذكره صاحب المحاولة بخصوص المهتدي وعمر بن عبد العزيز والظاهر، وأيضاً بملاحظة اختيارهم لا على سبيل التوالي.
ولكنْ يمكن النقض عليه بوجود مثل: معاوية وابن الزبير، ويكفي الأوّل ابتداعه في الإسلام باستبدال البيعة للخلافة بنظام الوراثة أوّلاً، وتوريثها أفسق الخلق من بعده ولده يزيد، وهو عالمٌ به؛ لأن أهل البيت أعلم بمَنْ فيه، ثانياً.
المعيار الثاني: هو القرابة من النبيّ|، كما يلاحظ ذلك في تعليله لذكره المهديّ بأنه من آل البيت^.
ولكنْ يَرِدُ عليه: إنه إنْ كان هذا هو المعيار فلماذا لم يعلّل دخول أمير المؤمنين والحسن’ بالقرابة، مع أنهما من سادات أهل البيت× بنصّ آية التطهير؟! بل لماذا لم يدخل باقي آل البيت^ إنْ كان المعيار هو القرابة حقيقة؟!
المعيار الثالث: هو الواقع التاريخي الذي أعقب حياة النبيّ|، فإنه المعيار في اختيار هذه الأسماء.
ولكنْ يَرِدُ على هذا أيضاً: إنه على خلاف الواقع التأريخي والتسلسل الموضوعي، كما هو واضحٌ.
والحاصل أنه لم يتّضح المعيار المتَّبع في اختيار الأسماء المذكورة في هذه المحاولة.
المناقشة السادسة: ما علّق به الشيخ أبو رية على كلام السيوطي، من أنه لم يذكر المنتظر الثاني، ثمّ قال: (ورحم الله مَنْ قال في السيوطي: إنه حاطب ليل)([62]).
المحاولة العاشرة، لابن أبي واصل
قال ابن أبي واصل: (قد جاء في الصحيح أنه قال[|]: «لا يزال هذا الأمر قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة»، يعني قرشياً. وقد أعطى الوجودُ أن منهم مَنْ كان في أوّل الإسلام، ومنهم مَنْ سيكون في آخره. وقال[|]: «الخلافة بعدي ثلاثون أو إحدى وثلاثون أو ستّ وثلاثون»، وانقضاؤها في خلافة الحسن وأول إمرة معاوية، والسابع عمر بن عبد العزيز، والباقون خمسة من أهل البيت من ذرّية عليّ×. ويؤيّده قوله: «إنك لذو قرنيها» يريد الأمّة، أي إنك خليفة في أولها، وذرّيتك في آخرها)([63]). فالمحاولة إذن هي حاصل انضمام حديثين، كما هو واضحٌ.
لكنْ يمكن المناقشة في هذه المحاولة بما يلي:
المناقشة الأولى: اشتمالها على التناقض في ثلاثة مواضع:
الموضع الأوّل: إنه قد جاء في أولها الإشارة إلى حديث: «لا يزال هذا الأمر قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة». وهذا الحديث، وكذلك حديث: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً»، وحديث: «لا يزال أمر الناس ماضياً»، ظاهرٌ في التوالي وعدم خلوّ الزمان منهم. وهذا يتنافى مع ما ذكره من حديث: «إنك لذو قرنَيْها»، الذي فسَّره بتولي خمسة من ذرّية عليّ× آخر هذه الأمة، فإن لازمه خلوّ الزمان منهم وعدم قيام الدين طيلة هذه المدة المتخلّلة بين عمر بن عبد العزيز (آخر المائة الأولى) وبين هؤلاء الخمسة المذكورين، أي بما يزيد عن ثلاثة عشر قرناً حتّى الآن، وإلى ما لا يعلمه إلاّ الله سبحانه من أمد هذه الأمّة!
الموضع الثاني: إنّ ما أورده من حديث: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» يعني انقطاع الخلافة بعد هذه المدّة. وهذا يتنافى مع استمرارها بمقتضى حديث الاثني عشر. فكان على صاحب المحاولة معالجة التعارض بين الحديثين أوّلاً، ثمّ تطبيق حديث الاثني عشر ثانياً.
الموضع الثالث: إنه إنْ كان يلتزم بالخلافة الثلاثينية، طبقاً للحديث، فلماذا يُدخل عمر بن عبد العزيز المتأخِّر عنها بما يقرب من سبعين سنة؟! وإنْ كان لا يلتزم بها فلماذا حصر عدد الخلفاء من ذرّية عليّ× في آخر الزمان بالخمسة؟! فإنّ من الممكن ذكر مَنْ هو قبل عمر بن عبد العزيز أو بعده ممَّنْ يُسمّى بالخلفاء حتّى تكتمل العدّة، ثم ختمهم بواحدٍ من ذرّية عليّ×، كالمهديّ# مثلاً، تطبيقاً لحديث: «إنك لذو قرنيها»، الذي تمسَّك به.
إلاّ أن يكون إنصاف الرجل هو الذي حجزه عن ذكر أحدٍ من هؤلاء، حيث لم يجد فيهم عَدْلاً واحداً غير عمر بن عبد العزيز. وإنْ كان يمكن النقض عليه حينئذٍ بذكره مثل: معاوية، الذي لا يمكن تبرير ما صدر منه ـ من قتال إمام زمانه، وإعلان لعنه على المنابر، وقتله الصحابة ـ بالاجتهاد.
المناقشة الثانية: إنّ ما استدلّ به من حديث: «إنك لذو قرنيها»، الذي يقتضي بظاهره بدء الخلافة بعليّ×، لا ينطبق على خلافته التي تأخّرت أكثر من خمس وعشرين سنة، ولم تكن في بداية أمر الأمّة، بل كانت خلافة غيره أوّلها.
المناقشة الثالثة: المنع من دخول مثل: معاوية في خلافة النبيّ|؛ لما تقدم من القدح فيه، ولما سيأتي في أن الأمويين كانوا ملوكاً، وليسوا خلفاء، بتصريح أعلام القوم.
المناقشة الرابعة: إنّ أغرب ما في هذه المحاولة جعل أوّل إمرة معاوية داخلة في الخلافة الثلاثينية، وما بقي منها ـ وهو الأكثر ـ خارجاً منها، ومع ذلك عدّه من الخلفاء، فكيف يعقل تشقيق إمرة شخص واحد شقّين: شقّ يمثِّل الخلافة الشرعية والإسلامية عن الرسول|؛ وشقّ منها لا يمثِّل ذلك؟! هذا أوّلاً.
وثانياً: كيف يكون الجزء اليسير من إمرة معاوية هو المعيار لدخوله في الخلافة، ولا يكون الجزء الأعظم (وهو ما يزيد على 19 سنة) سبباً لخروجه منها؟ أفلا يكون هذا الجزء الأعظم قرينةً قوية على عدم دخوله فيها واستحقاقه لها؟! إذ لو كان مستحقّاً لمدَّد الرسول| الخلافة أكثر من ثلاثين سنة؛ كي تشمله، ولا يحرم من هذا الشرف والاستحقاق! وإلاّ كان| ظالماً لحقّه بذلك، وحاشاه عن الظلم.
المناقشة الخامسة: إنّ ما يقرب من نصف مضمون هذه المحاولة يدخل في القسم الأول من هذه المحاولات، أعني المحاولات ذات المحدّدات العامة؛ وذلك لعدم تحديد هؤلاء الخمسة من ذرّية عليّ×، لا بالاسم، ولا بالصفة، فتكون المحاولة مجملة وكلية بهذا الاعتبار.
المحاولة الحادية عشر، لابن هبيرة
وهي ما نقله ابن تيمية عن ابن هبيرة أن المراد بالحديث أن قوانين المملكة تقوم باثني عشر، مثل: الوزير والقاضي ونحو ذلك. وعلّق عليه ابن تيمية بأنه ليس بشيءٍ([64]).
أقول: إن هذا التفسير هو أسخف ما قيل في تفسير الحديث. ولا أدري في أيّ قاموس أو معجم لغويّ وجد ابن هبيرة تفسير الخليفة بالقاضي والوزير والشرطي ونحوهم؟ وكيف يطبّق العدد اثنا عشر على هؤلاء؟ فهل هؤلاء هم خلفاء الرسول؟ فتبّاً لكم وتَعْساً. وقد قيل: إذا لم تَسْتَحِ فافعَلْ ما شئت، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.
المحاولة الثانية عشر، للشبراوي (1171هـ)
ذكر الشيخ عبد الله الشبراوي أنّ أوّل الأئمة الاثني عشر هو الحسين بن عليّ’، والثاني: زيد بن الحسن بن عليّ، والثالث: الحسن بن الحسن بن علي’، والرابع: علي بن الحسين زين العابدين’، ثم باقي الأئمّة من أئمة الشيعة، لكنّ المراد بالمهديّ الثاني عشر منهم هو غير محمد بن الحسن العسكريّ([65]).
والجواب:
أوّلاً: إنْ كان مبنى هذه المحاولة هو مبنى الزيدية في اختيار الامام ـ وهو قيامه بالسيف ـ فلا تستقيم إمامة بعض المذكورين فيها ممَّنْ لم يقُمْ بالسيف؛ وإنْ كان مبناها رأي أهل البيت^ فهم معروفون، ولا معنى لدخول غيرهم فيهم.
ثانياً: إن مبنى هذه المحاولة غامضٌ، فهل أنها تبتني على أن هذه الروايات صادرةٌ على نحو الانشاء، فلا بُدَّ حينئذ من النصّ عليهم، أو أنها صادرة على نحو الإخبار، وحينئذ فالواقع الخارجي لا يصدِّق ذلك، حيث لم يحكم الأفراد المذكورون فيها.
المحاولة الثالثة عشر، لبعض علماء الحجاز المعاصرين
نقل الشيخ مكارم الشيرازي عن بعض علماء الحجاز ممَّنْ لقيهم في سفره إلى الحجّ قوله: ربما يكون المراد بالاثني عشر خليفة الخلفاء الأربعة في صدر الإسلام، والباقي يظهرون في المستقبل([66]).
وتعليقنا على هذه المحاولة: إنها بالرغم من موضوعيتها، من حيث تجنّبها التمحُّل في تطبيق النصوص على حكّام الدولتين الأموية والعباسية، الذين لا تنطبق عليهم، لا من حيث العدد، ولا من حيث المواصفات المذكورة لهؤلاء الخلفاء، الذين بهم يكون إعزاز الدين وظهوره، إلاّ أنها لا تخلو من غرابةٍ وضعف؛ وذلك لبعض ما تقدَّم من المناقشات السابقة، التي نقتصر على ذكر بعضها، وهي:
المناقشة الأولى: إنها على خلاف النصوص الظاهرة في التوالي وعدم خلوّ زمان منهم، وأنّ عزة الإسلام منوطةٌ بهم، كما سبق بيانه.
المناقشة الثانية: إنها في شطرها الثاني ـ الذي تحدَّث عن الخلفاء الذين سيظهرون فيما بعد ـ تشبه المحاولات الكلّية السابقة، التي لم تحدِّد شخصية هؤلاء الخلفاء كي تعرفهم الأمّة، وعليه فما فائدة الإخبار عنهم إذا لم تعرفهم الأمّة؛ لتتّبعهم إنْ كانوا صالحين، أو تحذرهم إنْ كانوا فاسدين؟
المحاولة الرابعة عشر، لبعض المتنوِّرين المُحْدَثين
وهي ما نقله الشيخ الصافي عن بعض المتنوِّرين، حيث قال: (ما ذكره بعض معاصرينا ممَّنْ يسلك بعض المسالك المستحدثة برعاية المستعمرين، فزاد في الطنبور نغمةً أخرى، فحمل الأحاديث بزعمه على حكّام المسلمين، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ×، ومعاوية، ثم عبد الملك، وذكر أسماء بني أُمية إلى مروان، وقال: ثم انتقلت الإمامة إلى بني العبّاس، ومنهم المنصور، ثم ابنه المهديّ، ثم هارون الرشيد إلى مَنْ بعدهم، وعدّ عماد الدين الزنكي ونور الدين وصلاح الدين، ثم قال: ولا ينبغي أن نبخس هؤلاء حقَّهم.
أقول: على هذا فالموصوفون بالخلفاء في هذه الأحايث هم هؤلاء الذين أكثرهم من الملوك والحاكمين على المسلمين بالقهر والغلبة والتسلُّط، وعدّتهم تزيد على الاثني عشر بكثيرٍ. فإذا كان الحديث يجوز أن ينطبق على كلّ واحدٍ من هؤلاء على السواء فلماذا نبخس الباقين حقّهم، ونقتصر على الاثني عشر منهم؟! وما فائدة الكلام الصادر عن مثل نبيّنا الأعظم|؟!
ولا بُدَّ لهذا القائل أن لايبخس سائر الملوك من الأندلسيين والعثمانيين، وحتّى الحكّام في عصرنا، الذين تعرفهم شعوبهم بالخيانة للإسلام!
فوالله ما أدري ما أقول لمثل هذا الكاتب، الذي يعدّ نفسه من أهل الثقافة العصرية، من الذين يقولون في سنّة الرسول|)([67]).
نظرةٌ تقويمية عامّة للمحاولات السابقة
ما تقدّم كان عبارة عن قراءةٍ تقويمية مفصّلة في المحاولات أو القراءات المقدَّمة من قِبَل مدرسة الخلافة في تفسير أحاديث الاثني عشر.
وقد لاحظنا أن شيئاً منها لم يتمّ في المقام. إلاّ أنه استتماماً للبحث نقدِّم تقويماً آخر غير ما تقدَّم، نذكر فيه الملاحظات المشتركة والكلية، التي يمكن تسجيلها على المحاولات المتقدّمة، جميعها أو بعضها.
الملاحظة الأولى: تجرّد هذه المحاولات عن الدليل القطعي الدالّ عليها، بما يجعلها ذات دلالات ظنية أواحتمالية، كما ذكر ذلك ابن المهلب، أنه ما لقي أحداً يقطع بشيء في هذه الأحاديث([68]). فهذه المحاولات هي أقرب للجواب التبرُّعي منه إلى الجواب العلمي أوالاستدلالي؛ إذ غاية الاستدلال فيها إمّا الاستناد إلى روايةٍ واحدة، دون الأخذ بمجموع الروايات كما يقتضيه المنهج العلمي، أو الاستناد إلى الواقع الخارجي وإسقاط النصوص عليه، وقد عرفْتَ المناقشة في الأول منهما، وستأتي المناقشة في الثاني قريباً في الملاحظة السابعة.
الملاحظة الثانية: إنّ المحاولات المذكورة جميعاً مبنيةً على دعوى مسبقة، ألا وهي دعوى أنّ هذه الأحاديث هي في مقام الإخبار، لا الإنشاء. وهذا أوّل الكلام. وعليه فلا بُدَّ من إثبات أنها في مقام الإخبار أوّلاً، ثم التأسيس على ذلك ثانياً. وهذا ما لم يتمّ إثباته في المحاولات السابقة، بل الثابت عكسه، كما سنشير إليه في البحث عن موقف مدرسة أهل البيت إزاء هذه الأحاديث.
قد يُقال: إن المصحِّح لحمل الروايات على جهة الإخبار، دون الإنشاء، هو ظواهر الروايات، مثل: التعبير بكونهم أمراء أو خلفاء، أو قوله|: «حتّى يملك اثنا عشر»([69])، الظاهر في الحكم بالفعل بعد النبيّ|، ولم يحكم بالفعل غير هؤلاء الذين حكموا بعده.
والجواب: إن مثل هذه التعابير أعمّ من الإخبار والإنشاء، فهي تنسجم مع كلا الأمرين معاً، ولا معيِّن لأحدهما إلاّ القرائن. فلفظ الأمير والخليفة يمكن أن يكون للحاكم بالفعل، ويمكن أن يكون للحاكم بالشأن. وكذلك التعبير بالملك في الفقرة المنقولة. ويشهد لذلك قوله| في حديثٍ آخر: «إن هذا الأمر يملكه بعدي اثنا عشر إماماً، تسعة من صلب الحسين×…»([70])، فإنّ المقصود بالأمر فيه هو أمر الدين الذي كان بيد الرسول|، لا الحكم، كما هو واضحٌ.
ولو سلَّمنا ظهور مثل هذه الألفاظ في الإخبار، وفي الحكومة الفعلية، لا الشأنية، فإنه لا بُدَّ من مخالفة مثل هذا الظهور؛ وذلك لعدم انطباق المواصفات المأخوذة في هؤلاء الحكّام، من العدد، ودوام حكمهم القرشي إلى قيام الساعة وحصول الهرج والمرج، واعتزاز الإسلام بحكمهم، وغير ذلك ممّا تقدّمت صفته وشرطيته.
الملاحظة الثالثة: إنّ أهل السنّة لا يطلقون لفظ الخليفة ولا يستعملونه إلاّ في الخلفاء الأربعة، دون غيرهم من الحكام الأمويين والعباسيين([71])، ولهذا لم يَجْرِ الاصطلاح بإطلاق لفظ الخليفة الخامس أوالسادس وهكذا على مَنْ جاء بعد الأربعة الأوائل.
قال ابن حِبّان: (إن من بعد الثلاثين عاماً ـ وهي خلافة الأربعة ـ يُقال لهم: خلفاء على الاضطرار، وإنْ كانوا ملوكاً على الحقيقة)([72]).
قال العظيم آبادي، شارح سنن أبي داوود: (أمراء بني أمية وإنْ صاروا خلفاء متغلّبين، لكنْ ليسوا أهلاً لها، وإنما هم الأمراء الظالمون، لا الخلفاء العادلون)([73]).
وقال المناوي بعد حديث سفينة: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملكٌ بعد ذلك»([74]): (أي بعد انقضاء زمان خلافة النبوّة يكون ملكاً؛ لأن اسم الخلافة إنما هو لمَنْ صدق عليه هذا الاسم بعمله للسنّة، والمخالفون ملوكٌ، لا خلفاء، وإنما تسمَّوْا بالخلفاء لخلفهم الماضي)([75]).
وقد تقدم نقل موقف (سفينة) وردّة فعله تجاه زعم بني أميّة أنّ الخلافة فيهم، حيث قال سفينة: (كذبوا بنو الزرقا، بل هم ملوكٌ، وشرُّ ملوكٍ)([76]).
وقد وافق القاضي عيّاض والبيهقي على أن ما دلّ من الأخبار المتقدّمة على كون الخلافة ثلاثين سنة المراد به هو خلافة النبوّة، وقد جاء ذلك مفسّراً في بعض الروايات، مثل: ما رُوي: «خلافة النبوّة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً»([77]).
وعلى هذا فإنه لا يمكن إطلاق لفظ الخليفة على الملوك الأمويين والعباسيين؛ لسيرتهم الفاسدة وظلمهم الفاحش. وأما ما ذكره المناوي من إطلاق الخلفاء عليهم لخلفهم الماضي فغير تامٍّ ـ إنْ أراد به التسمية الواردة في أحاديث الاثني عشر ـ؛ وذلك للزوم استعمال اللفظ في معنيين في آنٍ واحد، وهو باطلٌ.
الملاحظة الرابعة: لقد عرَّفوا الخلافة بأنها (خلافة الرسول في إقامة الدين، بحيث يجب اتّباعه على كافّة الأمّة) ([78])، أو (نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا) ([79]). وقداشترطوا في الخليفة الاجتهاد في الكتاب والسنّة أوّلاً، والعدالة ثانياً، وكلاهما منتفٍ في الأمويين، وكذلك في العباسيين؛ لاجتهادهم في الفسق والفجور والظلم، دون الاجتهاد في الكتاب والسنّة. وعليه فاعتبارهم خلفاء خرقٌ لما التزموه من شروط الخلافة.
الملاحظة الخامسة: إنّ هذه التفسيرات، وكذلك حديث الاثني عشر المرويّ عن طريق الجمهور، مبتلاةٌ جميعاً بالمعارض في مصادر القوم. ولكنْ قبل ذكر المعارض نشير إلى أنّ هذا المعارض يثبت في نفس الوقت فساد دعوى حمل نصوص الاثني عشر على الإخبار، كما حملها الجمهور.
وإليك الروايات المعارضة المرويّة في مصادر مدرسة الخلافة:
1ـ ما رواه أبو داوود من حديث سفينة، الذي صحَّحه ابن حِبّان([80]): «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملكٌ بعد ذلك»([81]).
2ـ وأيضاً ما رواه أبو داوود: «تدور رحى لخمس وثلاثين سنة أو ستّ وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإنْ يهلكوا فسبيل مَنْ هلك، وإنْ لم يقُمْ لهم دينهم يقُمْ لهم سبعين عاماً»([82]).
3ـ ما رواه مسلم، عن أبي هريرة، عنه| قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبيٌّ خلفه نبيّ، وإنه لا نبيّ بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا؟ قال: فُوا ببيعة الأوّل فالأوّل، وأعطوهم حقَّهم، فإنّ الله سائلهم عمّا استرعاهم»([83]). ووجه التعارض هو أن هذا الحديث وصف الخلفاء بالكثرة، وظاهر حديث الاثني عشر الحصر بعددٍ معيَّن، فكيف التوفيق بينهما؟
4ـ ما رواه البخاري من قول النبيّ| للأنصار: «سترَوْن بعدي أثرة، فاصبروا حتّى تلقوني»([84]). فإذا كان مَنْ ولي الأمر بعد الرسول| بخلافةٍ شرعية فلماذا التعبير بالأثرة؟! ولماذا المواساة لهم، وأمرهم بالصبر حتّى يلقوه؟!
5ـ ما رواه البخاري عنه| قال: «هلاك أمّتي على يدي أغيلمة سفهاء»([85]). فالحديث يحذّر من خلافة هؤلاء الأغيلمة، وهم بنو أميّة وبنو مروان([86]).
6ـ ما رواه مسلم من قول النبيّ|: «ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمَنْ عرف برىء، ومَنْ أنكر سلم، ولكنْ مَنْ رضي وتابع»([87]).
7ـ ما رواه مسلم من قول النبيّ|: «يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي، ولايستنون بسنّتي، وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال قلتُ: كيف أصنع يا رسول الله إنْ أدركتُ ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإنْ ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمَعْ وأطِعْ» ([88]).
8ـ ما رواه مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال: «كان الناس يسألون رسول الله| عن الخير، وكنت أسأله عن الشرّ؛ مخافة أن يدركني، فقلتُ: يا رسول الله: إنّا كنّا في جاهليّةٍ وشرٍّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شرٌّ؟ قال: نعم، قلتُ: فهل بعد ذلك الشرّ من خيرٍ؟ قال: نعم، وفيه دَخَن([89])، قلتُ: وما دَخَنه؟ قال: قوم يستنّون بغير سنّتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر…»([90]). ووجه تقريب المعارضة فيه وفي سابقه ما تقدَّم في سابقَيْهما من حديث الأغيلمة.
هذه بعض الروايات التي يبدو منها المعارضة، فلا بُدَّ من رفع التعارض أوّلاً، ثم طرح المحاولات ثانياً، الأمرالذي لا نلاحظه في هذه المحاولات إطلاقاً.
نعم، ذكر القاضي عيّاض والبيهقي أنّ ما دلّ من الأخبار المتقدِّمة على كون الخلافة ثلاثين سنة المراد به هو خلافة النبوّة، وقد جاء ذلك مفسّراً في بعض الروايات، مثل: ما رُوي: «خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً»، ولم يشترط هذا الشرط في حديث الاثني عشر، فيتمّ الجمع([91]).
والجواب: إنه قد تقدّم مراراً ـ حَسْب روايات الاثني عشر ـ ضرورة تواصل خلافة الاثني عشر إلى قيام الساعة، وليس إلى ثلاثين سنة. وهذا مؤشِّرٌ قويّ ـ إنْ لم يكن دليلاً قطعياً ـ على أن هذه الأخبار ـ بقرينة حديث الخلافة ثلاثون سنة ـ هي في مقام النصب والإنشاء، لا الإخبار، وإلاّ لو كانت في مقام الإخبار فلا معنى للتقييد بالثلاثين.
الملاحظة السادسة: لقد دلّت هذه الروايات الواردة في الاثني عشر على استمرار الخلافة القرشية حتّى قيام الساعة. وهذا ما نصّت عليه أيضاً بعض الروايات التي رواها الشيخان في صحيحهما باستمرار الخلافة في قريش، وإنْ بقي اثنان من المسسلمين فقط، حيث روى البخاري من حديث ابن عمر عن النبيّ| قال: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان»([92])، وفي لفظ مسلم: «ما بقي من الناس اثنان»([93])، كما روى مسلم من حديث أبي هريرة عن النبيّ| قال: «الناس تَبَعٌ لقريش في هذا الشأن، مسلمهم لمسلمهم، وكافرهم لكافرهم»([94]). والإشكال هو أن المحاولات السابقة توقّفت عند ملوك الدولة الأموية، وربما أدخلت بعض العبّاسيين فيهم أيضاً، مع أن الأحاديث السابقة دالّة على استمرار الخلافة القرشية. والحال أن الحكّام بعد العبّاسيين إلى اليوم ليست بيد القرشيين، كما هو معلومٌ، ممّا يدل على خطأ التفسيرات التي تبنّتها هذه المحاولات. وهو مؤشِّرٌ قويّ وقرينة دامغة على عدم واقعيتها.
الملاحظة السابعة: ماذا نصنع بالروايات الواردة في ذمّ بني أمية والتحذير من فتنة حكمهم؟ فكيف نوفِّق بين هذه الروايات الكثيرة وبين المحاولات التي أدرجت أسماءهم في قائمة الاثني عشر؟ فهل نأخذ بروايات الذمّ أم نأخذ بروايات المدح التي تدرجهم في الاثني عشر. وإليك شطراً من الأخبار الذامّة لبني أميّة:
1ـ قال|: «هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء»([95]) .
2ـ وروى أبو سعيد الخدري أنه| قال: «إنّ أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمّتي قتلاً وتشريداً، وإنّ أشد قومنا لنا بغضاً بنو أميّة وبنو المغيرة وبنو مخزوم»([96]).
3ـ وروى أبو ذرّ أنه| قال: «إذا بلغت بنو أُميّة أربعين (ثلاثين خ) اتّخذوا عباد الله خولاً، ومال الله نحلاً، وكتاب الله دغلاً»([97]).
4ـ وروى ابن حَجَر بسند حَسَن ـ كما قال ـ عن رسول الله|: «شرّ العرب بنو أمية وبنو حنيفة وبنو مخزوم»([98]).
الملاحظة الثامنة: إنه لو صرفنا النظر عن روايات الذمّ لبني أميّة فما هو المقياس في اختيار هذه الأسماء، دون غيرها من حكّام الدولتين الأموية والعبّاسية، على كثرتهم؟ فكيف تمّ اختيارهم؟ وعلى أيّ أساس؟
وهنا يمكن افتراض أساسين لهذا الاختيار، ثبوتاً وتصوّراً:
الأوّل: وجود النصّ المفسّر للحديث، بحيث ينصّ على أسمائهم وصفاتهم، ولا شَكَّ أنّ مثل هذا النصّ مفقودٌ في المقام، بل يوجد ما يضادّه، مثل: ما ورد في صحيح البخاري عن النبيّ| قال: «إن هلكة أمتي على يد غلمة من قريش»([99]). قال القسطلاني في شرح الحديث، عن أبي هريرة، رفعه: «أعوذ بالله من إمارة الصبيان، قالوا: وما أمارة الصبيان؟ قال [أي النبيّ]: إنْ أطعتموهم هلكتم، أي في دينكم؛ وإنْ عصيتموهم أهلكوكم، أي في دنياكم، بإزهاق النفس أو بإذهاب المال أو بهما». (وفي رواية ابن أبي شيبة أنّ أبا هريرة كان يمشي في السوق، ويقول: اللهمّ لا تدركني سنة ستين، ولا إمارة الصبيان. وفي هذا إشارة إلى أنّ أول الأغيلمة كان في سنة ستين، وهو كذلك؛ فإن يزيد بن معاوية استخلف فيها، وبقي إلى سنة أربع وستين، فمات، ثم ولي ولده معاوية، ومات بعد أشهر)([100]).
الثاني: الواقع الموضوعي المتحقِّق في الخارج بعد وفاة الرسول|، فإنه الأساس الصالح لتفسير هذه النصوص؛ وذلك لأنّ الرسول| قد أخبر عن تحقّق هذا الواقع وقد تحقّق في الخارج. فالحديث منصرفٌ إليه، وهو أكبر دليلٍ على صحة هذا التفسير، فلذا يتكوّن للفظ الخلفاء ظهورٌ في ذلك.
أقول: الظاهر من جميع هذه المحاولات التعويل على الأساس الثاني، دون الأوّل، بل بعضها صرّح بذلك، كما في المحاولة الأولى. ويؤيِّد هذا ما ذهب إليه ابن كثير، حيث استدلّ على انصراف حديث الاثني عشر عن أهل البيت^ بعدم تسلّمهم الحكم، حيث كانوا من الرعية، حَسْب تعبيره، عدا أمير المؤمنين والإمام الحسن’، حيث تسلَّما الحكم، ممّا يعني صرف لفظ الخلافة الوارد في الحديث إلى الخلافة الفعلية المتحقّقة في الخارج([101]).
وقال البيهقي: (معقول لكلّ مَنْ خوطب بما روينا عن النبيّ| في اثني عشر خليفة، وفي بعض الروايات: اثني عشر أميراً، أنه أراد خلفاء أو أمراء تكون لهم ولاية وعدّة وقوّة وسلطة، والناس يطيعونهم، ويجري حكمهم عليهم، فأما أناس لم تقُمْ لهم راية، ولم تجُزْ لهم على الناس ولاية، وإنْ كانوا يستحقّون الإمارة بما كان لهم من حقّ القرابة والكفاية، فلا يتناولهم الخبر؛ إذ لا يجوز أن يكون المخبر بخلاف الخبر)([102]).
ولكنْ يتوجّه على الأساس الثاني هذا عدّة مناقشات:
المناقشة الأولى: إنّ القبول بهذا الأساس يستلزم التسليم بقضيتين:
القضية الأولى: التسليم بأنّ الخلافة والإمامة هي بالانتخاب، لا بالنصّ.
ووجه الاستلزام هو أنّه لو قبلنا بمبدأ النصّ لما كان وجه للإخبار عن غير من تناوله النصّ أونُصِب للخلافة. فإذا استبعدنا فرضيّة النصّ كان للإخبار وجهٌ معقول. وسيأتي المناقشة في هذه القضية، وأن الصحيح هو ثبوت الإمامة بالنصّ.
القضية الثانية: التسليم بكون النصوص في مقام الإخبار، لا في مقام الإنشاء. فما لم يتمّ الفراغ من ذلك لا يمكن التسليم بهذا الأساس، وهذا ما لم يتمّ إثباته، بل تمّ افتراضه في جميع المحاولات السابقة.
المناقشة الثانية: إنّنا نمنع أساساً من انطباق لفظ الخلافة ـ في قوله: اثنا عشر خليفة ـ على جميع المذكورين؛ لأنّ أهل السنّة لا يطلقون لفظ الخليفة على غير الأربعة الأوائل.
المناقشة الثالثة: إنّ مفهوم الإمامة والخلافة عامٌّ يشمل الإمامة في الدين والدنيا معاً، وعليه فلا يصحّ تفسير الخلافة في هذه الأحاديث بالإمامة السياسية فقط؛ كي يطبَّق على الحكّام الفعليين آنذاك.
إنْ قلتَ: ينتقض هذا بأهل البيت^، فإنهم وإنْ كانوا أئمة في الدين، ولكنهم لم يملكوا، فينصرف الحديث عنهم، كما انصرف عمَّنْ ملك ولم يكن إماماً في الدين.
قلتُ: سيأتي إثبات أن هذه الأخبار هي على نحو الإنشاء، لا الإخبار، وعليه فهي تثبت إمامة أهل البيت^ على نحو الشأنية، لا الفعلية. فإذا توفَّرت الظروف تحقَّقت إمامتهم بالفعل، ومعلومٌ أنه مع وجود المانع لا يمكن تحقُّق إمامتهم السياسية، وإنْ تحقَّقت إمامتهم الدينية بالفعل.
المناقشة الرابعة: إنّ ما ذكره النبيّ| من أمر هؤلاء الاثني عشر هل هو ـ إضافة إلى الإخبار ـ على وجه المدح لهم، من باب أنهم خلفاؤه المرضيّين لديه، وإنْ لم يكن بنحو التنصيب، أم هو على سبيل الإخبار المَحْض؟
فإنْ كان على سبيل المدح لهم والرضا عنهم كان ممنوعاً؛ من جهة دخول غير المرضيين فيهم، كيزيد وأضرابه. وإنْ كان مقصوراً على خصوص المرضيّين والعدول كان ترجيحاً بلا مرجِّح، كما سبق.
وإنْ كان على سبيل الإخبار المَحْض فلا خصوصية لهؤلاء حتّى يخبر عن خصوص حكمهم، دون أمثالهم، فما الفرق بين حكمهم وحكم غيرهم حتّى يخصهم بالإخبار؟!
وبعبارةٍ أخرى: إنْ كان إخباره يكشف عن رضاه فقد ترضّى عن بعض المجرمين، كيزيد؛ وإنْ لم يكن عن رضاه فما الفائدة من هذا الإخبار؟ هل المقصود أن تحذرهم الأمّة أم تتبعهم؟
إنْ قلتَ: إنّ في حكم هؤلاء كان عزّة الإسلام واجتماع الأمّة، كما نطقت به الأخبار.
قلتُ: قد كان في حكم غيرهم عزّة الإسلام أيضاً، بناءً على مبانيهم. هذا إذا لم نقُلْ بأنّ حكم غيرهم أكثر عزّةً، إذا ما قسناه بحكم أمثال: معاوية ويزيد.
المناقشة الخامسة: ما ذكره بعض علماء الحنفية، حيث قال: إنه (لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه؛ لقلّتهم عن اثني عشر، ولا يمكن أن يحمل على الملوك الأمويين؛ لزيادتهم على الاثني عشر، ولظلمهم الفاحش، إلاّ عمر بن عبد العزيز، ولكونهم غير بني هاشم… ولا يمكن أن يحمل على الملوك العبّاسيين؛ لزيادتهم على العدد المذكور، ولقلّة رعايتهم الآية: ﴿قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: 23))([103]).
الملاحظة التاسعة: إنّ جميع هذه المحاولات ـ باستثناء محاولة السيوطي وابن كثير في تفسيره، وكذلك أبو داوود في سننه، الذي أثبت الحديث في مفتتح (كتاب المهديّ)، والظاهر أنه رأي غيره من مخرِّجي هذه الأحاديث، كما صرح به ابن كثير([104]) ـ قد خَلَتْ من ذكر الإمام المهديّ×، مع أنه مصرَّح بكونه من الخلفاء، وقد ورد تسميته بالخليفة أو خليفة الله المهديّ على لسان النبيّ|، فقد روى ابن ماجة، بسندٍ صحيح، عن ثوبان، عن النبيّ|، في حديث بشأن المهدي×، قال: «…فإذا رأيتموه فبايعوه، ولو حَبْواً على الثلج؛ فإنه خليفة الله»([105]).
الملاحظة العاشرة: ماذا قصد النبيّ| بإخباره هذا؟ هل أراد اجتماع الأمة على هؤلاء الخلفاء، كما ورد: «كلهم تجتمع عليهم الأمّة»([106])؟ فإنْ كان هذا مراده ولم يعيِّن أسمائهم كان نقضاً للغرض، وتأخيراً للبيان عن مورد الحاجة؛ وإنْ لم يُرِدْ ذلك فهو لغوٌ أوّلاً، ومدعاة للتشاحّ والتنازع في معرفتهم بين الأمّة ـ كما هو حاصل اليوم ـ ثانياً.
الملاحظة الحادية عشر: إن حجم النصوص الواردة في كلّ قضية يدلّ دلالة واضحة على أهمّية تلك القضية. وعليه فهل يعقل أنّ كلّ هذا الكمّ الهائل من الروايات الواردة لدى الفريقين وصحاحهم ـ بما يقرب من الثلاثمائة رواية ـ هو لمَحْض الإخبار عن وجود هؤلاء الاثني عشر، من دون تعيين أسمائهم وتنصيبهم؟!
الملاحظة الثانية عشر: إنه لم يُؤْثَر عن أحد من الصحابة والتابعين، وكذا الخلفاء الأربعة ومَنْ تلاهم من الأمراء في الدولتين الأموية والعباسية، دعوى مثل هذه التفاسير والوجوه المذكورة إطلاقاً، رغم مساس الحاجة منهم إليها؛ لدعم حكمهم وإضفاء المشروعية عليه.
إنْ قلتَ: قد تقدَّم في حديث سفينة محاولة الأمويين تفسير الخلافة الواردة في حديث النبيّ|: «الخلافة في أمّتي ثلاثون سنة، ثم ملكٌ بعد ذلك»([107]) بما يناسب حكمهم .
قلتُ: إنّ الأمويين إنّما تمسَّكوا بحديث سفينة المذكور، وهو غير حديث الخلفاء الاثني عشر محلّ البحث، حيث لم يَرِدْ تمسُّك أحدٍ منهم به.
إنْ قلتَ: إنّ أئمة أهل البيت^ لم يُؤْثَر عنهم أيضاً تفسير أحاديث الاثني عشر بهم.
قلتُ: سيأتي الجواب على ذلك عند استعراض رأي الإمامية في تفسير هذه الأحاديث، وذكر الأحاديث الواردة عن أهل البيت^ في ذلك.
الملاحظة الثالثة عشر: إنّه قد ورد في صحيح البخاري عنه| قال: «إنّ الأمر في قريش لا يعاديهم أحدٌ إلاّ كبّه الله على وجهه ما أقاموا الدين»([108]). وقد روى البخاري عنه أيضاً أنه| قال «يكون اثنا عشر خليفة، ثم قال كلمةً لم أسمعها، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: قال: كلّهم من قريش». وقد أجمعت الوجوه المذكورة أو كادت على إدخال معاوية وولده يزيد في الاثني عشر. ولا شَكَّ في عداوة عليٍّ والحسين’ ومَنْ كان في معسكرهما من صحابة الرسول| ـ كعمّار وغيره من البدريين ـ لمعاوية وابنه، حتّى بلغت العداوة بينهما الحرب، فهل يلتزم أحدٌ من الأمة بانطباق الحديث الأوّل عليهما وعلى الصحابة معهما، وأن الله تعالى يكبّهما’ والصحابة في النار على وجوههم ـ والعياذ بالله ـ؛ لأنهم عادوا معاوية وابنه يزيد؟ ونفس البيان يتوجَّه على بعض الوجوه التي ذكرت ابن الزبير ومروان في الاثني عشر. فهذا أكبر برهان وأسطع بيان على وَهْن هذه الوجوه، وتلفيقها تلفيقاً لا يستند إلى أيّ أساسٍ علمي.
الملاحظة الرابعة عشر: إن المحاولات التي ورد فيها أسماء بني مروان قد لعنهم مروان نفسه، كما ورد ذلك في حديث البخاري، عن عمر بن يحيى بن سعيد، عن جدّه قال: (كنتُ جالساً مع أبي هريرة في مسجد النبيّﷺ، ومعنا مروان، قال أبو هريرة: سمعتُ الصادق المصدوق يقول: «هلكة أمتي على يدي غلمة»، فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمةً، فقال أبو هريرة: لو شئتُ أن أقول: بني فلان وبني فلان لفعلتُ، فكنتُ أخرج مع جدّي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام، فإذا رآهم غلماناً أحداثاً قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم، قلنا: أنت أعلم)([109]). وعلّق ابن حَجَر في شرحه للحديث قائلاً: (يُتعجَّب من لعن مروان الغلمة المذكورين، مع أن الظاهر أنهم من ولده، فكأنّ الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشدّ في الحجة عليهم؛ لعلّهم يتعظون. وقد وردت أحاديث في لعن الحَكَم والد مروان وما ولد، أخرجها الطبراني وغيره، غالبها فيه مقالٌ، وبعضها جيّد. ولعلّ المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك)([110]). وأولاد مروان من نسل عبد الملك هم: الوليد وسليمان ويزيد وهشام.
الملاحظة الخامسة عشر: إنه قد ورد في بعض روايات الجمهور ما يدلّ على وقوع ضجّة أو إرباك وتشويش بعد أن بيَّن النبيّ| حديث الاثني عشر، فقد ورد في بعضها: «ثم تكلّم بكلمةٍ لم أفهمها، وضجّ الناس»([111])، وفي بعضها: «ثم لغط الناس، فتكلَّموا، فلم أفهم قوله بعد (كلّهم)، فقلتُ لأبي: يا أبتاه، ما بعد قوله كلّهم؟ قال: كلّهم من قريش»([112])، وفي بعضها: «فجعل الناس يقومون ويقعدون»([113])، وفي بعضها: «فصرخ الناس، فلم أسمع ما قال»([114])، وفي بعضها: «فكبَّر الناس وضجّوا»([115]). فهنا يثار سؤالٌ حول السبب في هذا (الصراخ) أو (الضجيج) أو (اللغط) أو (التكبير)؟ وهذه ظاهرةٌ يندر وجودها في مجمل حديث الرسول|، فهل أنه| قال ما لا يطيقون حتّى صاروا يقومون ويقعدون ويصرخون ويضجّون؟ ويؤيِّد هذا الاحتمال ما رواه القندوزي الحنفي من حديث جابر بن سمرة قال: كنتُ مع أبي عند رسول الله| فسمعتُه يقول: «بعدي اثنا عشر خليفة»، ثم أخفى صوته، فقلتُ لأبي: ما الذي أخفى صوته؟ قال: قال: «كلّهم من بني هاشم»([116]). ولا يبعد أن تكون تلك الفئة من قريش التي منعت الرسول| في رزيّة يوم الخميس من كتابة الكتاب للأمّة هي التي ضجّت وحاولت التشويش على البيان النبويّ، كما حاولت التشويش عليه حين أراد كتابة الكتاب، فكما كانت هناك محاولةٌ لمنع النبيّ| من الوصية بالخلافة عند موته فكذلك في المقام. وممّا يدعم هذا الاحتمال قول العظيم آبادي في شرح لفظ الضجّة في الحديث قال: «(وضجّوا) أي صاحوا، والضجّ هو الصياح عند المكروه والمشقّة والجزع»([117]).
وقال النووي، نقلاً عن جابر بن سمرة: «(فقال كلمةً صمّنيها الناس)، أي صمّوني عنها، فلم أسمعها؛ لكثرة الكلام. ووقع في بعض النسخ: (صمَّتنيها الناس)، أي سكّتوني عن السؤال عنها»([118]). والله العالم بحقيقة الحال.
الملاحظة السادسة عشر: ماذا قصد النبيّ| من بيان هذه الحقيقة للصحابة وللأمّة من بعده؟ هل أراد تحذيرهم من هؤلاء الاثني عشر أم الأمر باتباعهم، باعتبار أن فيهم عزّة الدين؟ لا شَكَّ أنه الثاني، وهذا معناه رضاه عنهم. وهنا تبرز جملة من الأسئلة المنطقية، وهي:
1ـ إنه لو كان النبيّ| راضياً عنهم فلماذا لم ينصبهم تجنيباً للأمة من الاختلاف الذي وقع في أمر الخلافة بعده؟
2ـ إنه لماذا لم يذكر النبيّ| أسماء هؤلاء الخلفاء؛ ليوضح الطريق من بعده، ويدفع الاختلاف الواقع بين الأمة في تعيينهم، حتّى تتبعهم الأمة؟ فما فائدة ذكر العدد دون ذكر المعدود، ولا سيَّما مع كونه مثاراً للاختلاف، بَدَل أن يكون مثاراً للاجتماع؟ أليس هذا نقضاً للغرض الذي دعاه لفكرة الاثني عشر؟ وإذا لم يذكرهم النبيّ| فلماذا لم يسأله الصحابة عن مثل هذا الأمر الهامّ، ولا سيَّما أنّهم سألوا عن الأقلّ أهمّية من ذلك، حيث سألوا عمّا يحدث بعد هؤلاء الاثني عشر من وقوع الهرج والمرج؟ أم أنه| بيّن ذلك ـ كما تقتضيه طبيعة الحال، ووردت به روايات أهل البيت× ـ ولكنْ دَعَتْ الدواعي للإخفاء، أو سئل الصحابة ودَعَتْ الدواعي إلى إخفاء سؤالهم عن الأجيال اللاحقة.
الملاحظة السابعة عشر: إنّ ما تقدّم من المحاولات قد فسّر الخلافة والإمامة بالإمامة السياسية، لذا كان التركيز في تلك المحاولات على الجانب السياسي في شخصية هؤلاء الخلفاء، في حين أن مفهوم الخلافة والإمامة ـ كما تقدَّم عن الإيجي والتفتازاني والجرجاني ـ مفهومٌ أعمّ، يشمل الإمامة في الدين والدنيا معاً، كما ورد ذلك في كلمات الفريقين. هذا، مضافاً إلى عدم اقتصار الأحاديث على لفظ (الخليفة) فقط، بل ورود فيها لفظ (الإمام) و(القيِّم) أيضاً.
الملاحظة الثامنة عشر: إنه بناءً على حمل الروايات على الإخبار ـ كما فعل الجمهور ـ يلزم منه كذب مثل هذا الإخبار منه|؛ وذلك لتخلُّف المخبر عنه في الواقع، لعدم انطباق شيء من الخصوصيات الواردة للخلفاء الاثني عشر على المذكورين في الواقع؛ فإن الخصوصيات الواردة تعتبر قرينةً متصلة تحول دون انطباق الحديث على هؤلاء المذكورين. وهذه الخصوصيات سنذكرها قريباً، عند البحث عن موقف مدرسة أهل البيت^ في دلالة الحديث عند الإمامية. ولكنْ من أوضح تلك الخصوصيات هو خصوصية العَدَد، حيث لا تنطبق على الخلفاء الأربعة، ولا على الأمويين، ولا على العباسيين، وكذلك خصوصية صلاحهم واعتزاز الدين بهم، وخصوصية اجتماع الأمة عليهم كلّهم، كما ورد في حديث أبي خالد الأحمسي، حيث كانت خلافة هؤلاء الخلفاء بالتغلُّب والقهر، ولم تكن بإرادة الناس واجتماعهم عليهم باختيارهم، وهذا ما لا ينطبق على المذكورين بحالٍ البتّة([119]).
الهوامش
(*) أستاذٌ وباحثٌ في الحوزة العلميّة في مدينة قم، وعضو هيئة تحرير مجلّة فقه أهل البيت^.
([2]) صحيح البخاري 8: 127، باب بيعة النساء.
([3]) انظر: فتح الباري 13: 180.
([4]) صحيح البخاري 8: 127، باب بيعة النساء.
([6]) صحيح البخاري 8: 127، باب بيعة النساء.
([7]) صحيح مسلم 6: 3، كتاب الأمارة.
([8]) سنن أبي داوود 2: 309، كتاب المهديّ، ح4279.
([9]) انظر: فتح الباري 13: 181.
([10]) هو الإمام المقريء الحافظ، أبو الحسين، أحمد بن جعفر بن المحدّث محمد بن عبيد الله المنادي البغدادي، صاحب التواليف. سير أعلام النبلاء 15: 361.
([12]) صحيح مسلم 6: 3، كتاب الأمارة.
([17]) انظر: فتح الباري 13: 182 .
([18]) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داوود 11: 245. والتوربشتي هو فضل الله بن أبي سعيد بن الحسن التوربيشتي، فقيهٌ محدث من أهل شيراز، له كتاب (المعتمد في المعتقد) في شرح مصابيح البغوي، وهو شرحٌ حسنٌ. السبكي، الطبقات 4: 146.
([19]) البداية والنهاية 6: 256.
([21]) انظر: فتح الباري 13: 184 .
([22]) انظر: فتح الباري 13: 182.
([23]) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داوود 11: 245.
([24]) سؤالات الآجري لأبي داوود 1: 189.
([25]) كنـز العمال 12: 32، رقم 33859.
([28]) منتخب الأثر 1: 288، بتصرُفٍ قليل.
([29]) دلائل النبوة 6: 392، البداية والنهاية.
([30]) كنـز العمال 11: 252، رقم 31421.
([32]) التاريخ الكبير، 3: 290.
([33]) ميزان الاعتدال 2: 443، رقم 4383.
([36]) انظر: عون المعبود 11: 244.
([40]) صحيح مسلم 6: 18، كتاب الإمارة، باب 63، ح4573.
([41]) قال المحقق الصافي: (هذا الوجه أردأ الوجوه في تفسير الحديث وأهونها، وإن قال ابن حَجَر: إنه أرجحها)، ثم ذكر كلاماً مفيداً في نقده، فليراجَعْ.
([42]) صحيح مسلم، ج18، كتاب الإمارة، باب 63، ح4573.
([43]) دلائل النبوة 6: 520؛ فتح الباري 13: 180، 182.
([44]) البداية والنهاية 6: 249؛ فتح الباري 13: 180، 182.
([45]) فتح الباري 13: 180، 182.
([46]) البداية والنهاية 6: 249؛ فتح الباري 13: 180، 182.
([47]) البداية والنهاية 6: 269؛ فتح الباري 13: 180، 182.
([49]) البداية والنهاية 6: 249.
([52]) شرح العقيدة الطحاوية: 737.
([53]) انظر: فتح الباري 13: 181 .
([54]) سنن أبي داوود 2: 303، رقم 4254.
([61]) مسند أحمد 1: 398؛ المستدرك على الصحيحين 4: 546.
([62]) أضواء على السنّة المحمّدية: 235 .
([63]) انظر: تاريخ ابن خلدون 1: 326 .
([65]) الإتحاف بحب الأشراف: 130، 132، 135، 179.
([66]) دروس في العقائد الإسلامية: 252 .
([67]) البداية والنهاية 6: 215.
([70]) كفاية الأثر: 165، باب 24، ح3 .
([71]) الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين: 362.
([72]) صحيح ابن حِبّان 15: 37.
([74]) سنن أبي داوود 2: 303، رقم 4254.
([76]) صحيح مسلم 6: 18، كتاب الإمارة، باب63، ح4573.
([77]) صحيح مسلم بشرح النووي 12: 201؛ وانظر: عون المعبود شرح سنن أبي داوود 12: 260.
([80]) صحيح ابن حِبّان 15: 393.
([81]) سنن أبي داوود 2: 303، رقم 4254.
([89]) أي فساد باطن، وقوله: ما دَخَنه؟ أي وما فساده؟ (كما في هامش صحيح مسلم 6: 20).
([91]) صحيح مسلم بشرح النووي 12: 201؛ وانظر: عون المعبود شرح سنن أبي داوود 12: 260.
([96]) المستدرك على الصحيحين 4: 487.
([97]) المستدرك على الصحيحين 4: 479.
([98]) تطهير الجنان: 134، 144.
([101]) البداية والنهاية 6: 250.
([103]) انظر: ينابيع المودة: 446.
([104]) البداية والنهاية 1: 18.
([106]) المعجم الكبير 2: 228، ح1849 .
([108]) مقدّمة ابن خلدون: 191.
([112]) المعجم الكبير 2: 214، ح1795.
([113]) الملاحم لابن المنادي: 113.
([114]) كمال الدين، 1: 272، ب 24، ح 21.
([115]) سنن أبي داوود، كتاب المهدي، ح4272.
([116]) ينابيع المودة: 445، باب 77.
([117]) عون المعبود شرح سنن أبي داوود 11: 248.
([118]) صحيح مسلم بشرح النووي 12: 203 .
([119]) قال المحقّق الصافي في ذكر مثالب هؤلاء المسمّين بالخلفاء: (ونحن نترك الكلام في نسب بني أميّة وعدم صحّة انتسابهم إلى قريش، مع أنّ هذه الأحاديث مصرِّحة بكون الأئمّة الاثني عشر من قريش، ولكن نقول: كيف يصحّ حمل هذه البشائر التي صدرت على سبيل المدح وإطلاق الخليفة على معاوية الذي حارب أمير المؤمنين×، الذي قال فيه سيد النبيّين|: «حربك حربي»، وأعلن بسبّه على المنابر، ودسّ السمّ إلى الحسن× سيّد شباب أهل الجنّة؟
وعلى مثل: يزيد بن معاوية، قاتل الحسين×، والفاسق المعلن بالمنكرات والكفر، والمتمثّل بأشعار ابن الزبعرى المعروفة؛ فرحاً بحمل رأس ابن بنت رسول الله| إليه، وهو الذي أمر مسلم بن عقبة أن يبيح أهل المدينة ثلاثاً، فقتل خلقاً من الصحابة، ونهبت بأمره المدينة، وافتضّت في هذه الواقعة ألف عذراء، حتّى قيل: إنّ الرجل من أهل المدينة بعد ذلك إذا زوَّج ابنته كان لا يضمن بكارتها، ويقول: لعلّها قد افتضّت في واقعة الحرّة، وقيل: تولَّد من النساء أربعة آلاف من تلك الواقعة.
وقد قال رسول الله|، في ما رواه مسلم: «مَنْ أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين». [مروج الذهب 3: 69].
وحُكي عن الواقدي أنّ عبد الله بن حنظلة الغسيل قال: والله ما خرجنا على يزيد حتّى خِفْنا أن نرمى بالحجارة من السماء، إنّه رجلٌ ينكح أمّهات الأولاد والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويَدَع الصلاة [تاريخ الخلفاء: 209]، وهو الذي أمر بغزوة الكعبة.
وذكر السيوطي وغيره أنّ نوفل بن الفرات قال: كنتُ عند عمر بن عبد العزيز، فذكر رجلٌ يزيد، فقال: قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فقال: تقول أمير المؤمنين، وأمر به فضرب عشرين سوطاً. [الصواعق المحرقة: 219؛ تاريخ الخلفاء: 209].
وذكر في الصواعق أنَّه قيل لسعد بن حسّان: إنّ بني أميّة يزعمون أنّ الخلافة فيهم، فقال، كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوكٌ من شرّ الملوك.
وكيف يصحّ حمل هذه الأحاديث وإطلاق الخليفة على عبد الملك الغادر الناهي عن الأمر بالمعروف.
قال السيوطي في تاريخ الخلفاء: لو لم يكن من مساوئ عبد الملك إلاّ الحجّاج وتوليته إيّاه على المسلمين وعلى الصحابة، يهينهم ويذلّهم، قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يُحْصى، فضلاً عن غيرهم، وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختماً، يريد بذلك ذلّهم، فلا رحمه الله ولا عفا عنه. [تاريخ الخلفاء: 220] .
أم كيف يطلق الخليفة على الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق، الشرّيب للخمر، الهاتك لحرمات الله تعالى، وهو الذي أراد الحجّ ليشرب الخمر فوق ظهر الكعبة، فمقته الناس لفسقه. [تاريخ الخلفاء: 250؛ تاريخ الطبري 7: 209]، وهو الذي فتح المصحف، فخرج ﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [سورة إبراهيم: 15]، فألقاه ورماه بالسهم، وقال:
تهدِّدني بجبّارٍ عنيد *** فها أنا ذاك جبّارٌ عنيدُ
إذا ما جئتَ ربَّكَ يومَ حشرٍ *** فقُلْ: يا ربِّ، مزّقني الوليدُ
فلم يلبث بعد ذلك إلاّ يسيراً حتى قتل. [مروج الذهب 3: 216].
أهذا معنى عزّة الإسلام، وخلافة رسول الله|؟
ونقل أنّه لّما ولي الحجّ حمل معه كلاباً في صناديق، وعمل قبّة على قدر الكعبة؛ ليضعها على الكعبة، وحمل معه الخمر، وأراد أن ينصب القبّة على الكعبة، ويشرب فيها الخمر، فخوَّفه أصحابه من الناس، فلم يفعل. [الكامل في التاريخ 5: 394].
وذكر المسعودي عن المبرّد: أنّ الوليد ألحد في شعرٍ له ذكر فيه النبيّ|، فمنه:
تلعَّب بالخلافة هاشمي *** بلا وحيٍ أتاه ولا كتاب
وقُلْ لله يمنعني طعامي *** وقل لله يمنعني شرابي
[مروج الذهب 3: 216].
وفي العقد الفريد: قال إسحاق بن محمد الأزرق: دخلتُ على منصور بن جهور الأزدي، بعد قتل الوليد، وعنده جاريتان من جواري الوليد ـ إلى أن قال ـ: قالت إحدهما: كنّا أعزّ جواريه عنده، فنكح هذه، وجاء المؤذِّنون يؤذِّنونه بالصلاة، فأخرجها وهي سكرى جُنُبَة متلثّمةً، فصلَّتْ بالناس. [العقد الفريد 2: 290].
وأخرج السيوطي في تاريخ الخلفاء عن مسند أحمد حديث: «ليكوننّ في هذه الأمّة رجلٌ يقال له: الوليد، لهو أشدُّ على هذه الأمّة من فرعون لقومه». تاريخ الخلفاء: 251.
فالصواب تسمية هؤلاء بالفراعنة، لا الخلفاء، وتشبيههم بالملاحدة والكفّار، لا بحواريّي عيسى ونقباء بني إسرائيل.
وإنْ شئنا لأشبعنا الكلام في مساوئ بني أميّة، ولكنْ نقصر على ذلك؛ مخافة الإطالة، ونقول: كيف رضي القاضي أن يجعل هؤلاء الجبابرة من خلفاء رسول الله|، الذين بشّر بهم، وأخبر بأنهم يعملون بالهدى، وإذا مضوا ساخَتْ الأرض بأهلها، وأنّ الأمّة لا تهلك ما لم يمضوا، وأنّهم بمنـزلة نقباء بني إسرائيل؟! تاريخ الخلفاء: 251.
وأعجب من ذلك إخراجه الحسن× من الحديث، مع أنّه خليفةٌ بنصّ جدّه رسول الله|، وإدخاله يزيد ومعاوية وبني العاص، الذين لعنهم رسول الله| في هذه الأحاديث! ثم لماذا لم يَعُدَّ منهم عمر بن عبد العزيز؟!). كفاية الأثر 2: 283 ـ 286.