پرينت دوم مصحح 2
انصارى
19/3/87 – 27/4/87
أخلاقية النقد وثقافة الانتقاد
سيد حسن إسلامي(*)
ترجمة: صالح البدراوي
المقدمة
النقد من مستلزمات ازدهار العلوم وتطورها، وبالرغم من أنّ هذه المسألة تبدو وكأنها من البديهيات، إلاّ أنّ النقد قد تمّ نسيانه من الناحية العملية، وتخلّف عن أداء واجبه الأساسي أو استُبدل استخدامه إلى المدح والثناء، بدليل أنّ هذه الثقافة لم تُشرعن كممارسة ثقافية لحد الآن. وسعيت جهدي في هذه المقالة إلى فتح ملف هذه القضية، من خلال إعادة قراءة أدب النقد في الثقافة الإسلامية.
وعليه، فقد قسّمتُ المقالة إلى سبعة أقسام:
– نظرتُ في البداية إلى مكانة النقد من زاوية أُخرى.
– ثم تطرقتُ بعد ذلك إلى تعريفه، والقول بفصله عن التعاريف الشخصية.
ثم انتقلت في القسم الثالث للإشارة إلى بعض الأفكار والمقولات الشائعة حول النقد ونقدها.
وتحدّثت في القسم الرابع عن الأساليب المتداولة وغير الصحيحة في التعامل مع النقّاد، وشرحت بعضاً منها.
واختصّ القسم الخامس بتوضيح بعض الأساليب غير الصحيحة للنقّاد.
وجاء في القسم السادس ذكر عشر نقاطٍ أساسية حول ماهية النقد، ودور النيّة في عملية النقد.
وفي القسم السابع والأخير تعرّضت إلى أخلاق النقد، وأشرت إلى بعضٍ الأُصول الأخلاقية التي يجب على الناقد أن يتحلى بها.
المدخل
لطالما سمعنا وقرأنا بأنّ النقد من ضرورات تطور وازدهار العلوم والحياة الاجتماعية السليمة، وكان الكتّاب الكبار يدعون الآخرين إلى نقد مؤلفاتهم ويتقبّلون النقد من هذا وذاك. حتى وجدنا هذه العبارة المعروفة على أغلفة بعض الكتب والقائلة: «إنّ حياة العلم بالنقد والردّ». وعلى الرغم من كل ذلك، فالظاهر أنّه ما زال أمامنا طريق طويل لكي يصبح النقد وثقافة الانتقاد في جميع الميادين، بما فيها التأليف، أمراً طبيعياً وتلقائياً؛ خاصة وأنّه توجد موانع متعددة، أوصدت طريق ازدهار الثقافة النقدية، وجعلت من النقد ضرورة غير مقبولة إلى حدّ ما. ولم نلحظ وجود إجماع حول مفهوم النقد. وهناك آراء متعددة أسقطت النقد عملياً عن حيز الانتفاع. كما أنّ ردود الفعل الشديدة وغير الأخلاقية أحياناً تحول دون مواصلة النقّاد لعملهم، ولم نلحظ وجود أُسس واضحة لكيفية استخدام النقد في المجالات المختلفة، مما يؤدي أحياناً إلى أن ينسى النقّاد الثوابت الأخلاقية عند نقدهم لآراء الآخرين وأفكارهم، واستخدامهم النقد كأداة لتصفية الحسابات الشخصية وما شاكل ذلك. وسنشير في هذه المقالة، إلى هذه القضايا بشكل مختصر، ونتداول الحديث عن بعض جوانبها.
أولاً – ضرورة النقد:
المفروض أنّه يجب أن لا يكون هناك نقاش حول أصالة النقد وضرورته، ولكن مع ذلك فإنّ الأمر ليس كذلك، إذ من الناحية العملية هناك الكثير ممن يقولون بأنّ النقد والتخريب هما من سنخ واحد، ويشطبون على لزومه بعلامة النفي. ولو يؤمن أحدنا فعلاً بضرورة النقد، فإنّه سيتخذ أقل ما يمكن من المواقف السلبية تجاه النقد، ولكن ردود الأفعال العنيفة لأُولئك الذين تتعرض مؤلفاتهم للنقد، هي شهادة صادقة على أننا لم نقف بعد على ضرورة هذا الموضوع.
ويكفينا دليلاً على ضرورة النقد أن نعلم، بأنّ المؤلفات الكبيره والأفكار الجادة والخالدة في التأريخ، إنّما هي نتاج لعملية النقد. وكمثال على ذلك يكفي أن نلقي نظرة على تأريخ مسائل الفلسفة الإسلامية؛ لكي ندرك كيف أنّ النقد القاسي للمتكلمين المنتقدين للفلسفة قد ساهم في تطور الفلسفة. وكثيراً ما يؤكد الشهيد مرتضى مطهري على هذا التأثير في مؤلفاته المختلفة، ويبين كيف أنّ الكثير من المتكلمين الذين لم يتسالموا يوماً مع الفلسفة، لعبوا دوراً أساسياً في تطورها من خلال انتقاداتهم الجادة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الانتقادات غير الصحيحة للمتكلمين، ساعدت الفلاسفة على القيام بتنقيح المسائل الفلسفية حسب رأيه، إذ يقول:
«لقد قلنا مراراً بأنّ الطعون التي وجهها المتكلمون للفلاسفة وأقوالهم، كانت ذات فائدة كبيرة، أي أنّها طوّرت الأفكار، فعلى الرغم من أنّ أقوالهم لم تكن صحيحة، لكنها أصبحت السبب في ظهور الأقوال الجيدة للفلاسفة»([1]).
ويقول أيضاً:
«لقد كان للمتكلمين تأثير كبير في الفلسفة الإسلامية. ولكن ليس بمعنى أنّهم تمكّنوا أن يحملوا الفلاسفة على القبول ببعض ادعاءاتهم، بل بمعنى أنّهم كانوا يدعون الفلاسفة إلى المنازلة دائماً، ويطعنون في أقوالهم، ويشككون بها وينتقدونها، ويخلقون أمام الفلاسفة أحياناً بعض المآزق التي لا مخرج منها. وهذه الطعون والشكوك كانت تحمل الفلاسفة على الرد والبحث عن الحلول للإشكالات التي يثيرها المتكلمون»([2]).
لقد كان المتكلمون يشككون في الأُصول الموضوعة من قبل الفلاسفة من جهة، وبالمقابل يأتون بمسائل جديدة. وكنموذج على ذلك، الخلافات التي أثاروها حول مسألة (العليّة) والتي تمثل أساس الفكر الفلسفي([3])، وبداية موضوع العلة هي حاجة الممكن للعلة([4])، ومسألة مساوقة الوجود مع الشيئية([5])، ومسألة زيادة الوجود على الماهية([6])، ومسألة إعادة المعدوم([7])، وحتى مسألة أصالة الوجود، والتي تعتبر محور الفلسفة الصدرائية، لها مصدران حسب رأي الشهيد المطهري: الأول أقوال العرفاء؛ والآخر مناقشات المتكلمين([8]). وكذا الحال بالنسبة للفخر الرازي الذي ساهم هو الآخر في تطور العلوم في العالم الإسلامي من خلال انتقاداته وتشكيكاته المختلفة([9]). ولا يختص هذا الأمر بالفلسفة فقط، بل إنّ جميع العلوم الإسلامية مدينة بشكل أو آخر لنقد النقّاد المنصفين والمغرضين. فكتاب (المفضل) المعروف الذي يضم تقريرات الامام الصادق(ع)، هو حصيلة انتقادات الزنديق المعروف ابن أبي العوجاء. كما أنّ الكتب القيّمة للمتكلمين حول النبوة تعد بمثابة الإجابة عن انتقادات أُولئك الذين لم يعترفوا بقضية النبوة([10]).
إنّ نظرةً خاطفة على ثقافة الكتابة والتأليف خلال الخمسين سنة الأخيرة تبيّن هذه المسألة بشكل أوضح. وكتاب العلاّمة الطباطبائي (أُصول الفلسفة والمذهب الواقعي) جاء كحصيلة للانتقادات المادية للدكتور تقي آراني على الفلسفة الإلهية. والكتب الأُخرى من قبيل: (الإسلام وحق الملكية)، (الإسلام وحقوق المرأة)، و(الإسلام وحقوق الإنسان)، جاءت أساساً كردّ على الانتقادات الموجهة ضد الإسلام والمسلمين في هذه المجالات. وكمثال على ذلك، فإنّ كتاب (قوانين حقوق المرأة في الإسلام) للشهيد المطهري، هو عبارة عن إجابة مفصلة على الانتقادات التي كتبها أحد القضاة العاملين في القضاء حول بعض المواد في القانون المدني.
ديوان الأرض الجرداء (The waste land) للشاعر توماس. اس. اليوت – (1888ـ 1965)، والذي يعدّ أحد الروائع الأدبية للقرن العشرين والتي عادت بجائزة نوبل على منشدها، مدينة للانتقادات المتينة للناقد الأدبي الإنجليزي عزرا پاوند([11]). وكتاب لودويك ويتكنشتاين الموسوم باسم (الأبحاث الفلسفية)، الذي يُعدّ من كتب القرن العشرين المؤثرة، والذي ترك بصماته على ميادين أوسع من نطاق الفلسفة، إنما جاء كنتيجة للانتقادات المستمرة لأصدقاء ويتكنشتاين. فهو ينتقد في هذا الكتاب آراءه السابقة حول القدرة الخيالية للغة التي سبق وأن ذكرها في كتابه (الرسالة المنطقية ـ الفلسفية) بشدة، معتبراً ذلك على أنّها حصيلة الانتقادات التي صدرت عن أصدقائه، إذ يقول:
«منذ أن عاود ذهني الاهتمام بالفلسفة ثانية بعد انقطاع دام ستة عشر عاماً، وجدت نفسي مضطراً إلى الاعتراف بوجود بعض الأخطاء فيما كتبته في كتابي الأول. وقد ساعدتني الانتقادات التي وجهها فرانك رامزي لآرائي والمناقشات التي دارت بيني وبينه حولها خلال العامين الأخيرين من حياته، على فهم هذه الأخطاء بالمستوى الذي لم أكن قادراً على تقييمها شخصياً. بل وأكثر من هذه الانتقادات الثابتة والقوية، فإنّي مدين لبعض الانتقادات التي صدرت عن أحد الأساتذة في جامعة (سرافا)، والذي عمل لسنوات عديدة دون انقطاع على مناقشة آرائي»([12]).
إنّ المدح والثناء الذي يصدر عن هذا وذاك يصبح سبباً يحول دون التطور، ويؤدي إلى التخريب، بنفس المستوى الذي يكون فيه الانتقاد ضرورياً لحصول التطور ونضج الفرد. يشير نيكولاي آستروفسكي بشكل واضح إلى هذه المسألة في الرسالة التي أرسلها إلى شولوخوف الحاصل على جائزة نوبل . فهو يريد أن يرسل الرواية التي كتبها إلى شولوخوف، بشرط أن يقوم الأخير بنقد ما كتبه بكل قسوة، ويبين مواطن الضعف فيها بكل صدق وإخلاص:
«أريدك أن تصدقني القول، فإن لم يعجبك فلا تجاملني. ولتذهب الرواية إلى الجحيم. وإذا كتبت بأنّها مجرد (لغو) فهذا يكفي لبقية…الأصدقاء، إنّ أصدقاءنا يخشون المساس بمشاعر الآخرين. وهذا سيئ للغاية. والمديح لوحده عامل مخرب للإنسان، بل إنّ الشخصيات القوية إذا تم مدحها من قبل الناس بشكل مفرط، فإنّها ستكون مرشحة للضياع. ويجب على الأصدقاء الحقيقيين أن يقولوا الحقيقة، حتى إذا كانت مؤلمة»([13]).
وبناءً على ذلك، فإنّ ضرورة النقد تتأتى من ضرورة التأليف والكتابة، فالذي يؤمن بضرورة الكتابة، لا بّد لـه أن يؤمن بضرورة النقد أيضاً. وانطلاقاً من هذه المسألة، فإنّ بعض الكتّاب كانوا يطالبون الآخرين بنقد مؤلفاتهم بعد الفراغ من تأليفها، وأحد هؤلاء الأشخاص هو الملا محمد مهدي النراقي الذي طلب من الملا محمد حسن القزويني بأن يميز النقي من غيره في كتابه (جامع السعادات) بعد الفراغ من تأليفه قائلاًً: «أن أنظر فيه بعين النقد والانتخاب، وتمييز القشر من اللباب، والتبر من التراب، والباطل من الصواب»([14]).
وهكذا من الممكن أن نتحدث بشأن ضرورة النقد، ولكني سوف أتناول هذا الموضوع بالتفصيل في مكان آخر([15]).
ثانياً ـ مفهوم النقد:
على الرغم من مرور أكثر من ألف عام وكلمة (النقد) تستخدم في مجال المدونات الشعرية والنثرية، وما لهذا المصطلح من استخدامات واسعة قد يصل إلى حجم كتاب كامل، وهذا هو أحد وجوه استخدامه، فلم يحصل لحد الآن إجماع في وجهات النظر حول المراد بهذا المصطلح ومعناه. هذه الصعوبة غير ناجمة عن غموض وتعقيدات مفهوم النقد، بل ناجمة أساساً عن الثقل العاطفي السلبي الذي ينطوي عليه هذا المفهوم. وبالنتيجة يتم التلاعب بهذا المفهوم من أجل التهرب منه أو التقليل من شأنه، وما يبقى منه هو شيء في حدود «الأسد الذي لا لُبدة له ولا ذنب ولا بطن» كما يقول الشاعر جلال الدين مولوي، وهذا الذي لم يخلقه الله تعالى بعد.
فبعض هذه الجهود يُراد منها إعطاء تعريف معيّن للنقد، بحيث لا يذهب إلى تعقب مثالب وعيوب الآخرين. والبعض يسعى إلى فصل مفهوم النقد عن الانتقاد. والبعض الآخر يريد من خلال إضافة بعض القيود الخاصة على مفهوم النقد، إعطاؤه معنىً جديداً. متناسين بأنّ مفهوم النقد ومعناه يجب أن نتوصل إليه من عمق استخدامه الاصطلاحي والثقافي بدلاً من هذه المحاولات والآراء الشخصية، ومن خلال سبر أغوار المعاجم والقواميس، والدواوين الشعرية، والمؤلفات النثرية، والاستخدامات المتنوعة لهذا المصطلح بإمكاننا الوقوف على معناه بصورة جيدة، واستبداله مكان المعاني الشخصية.
ومن ضمن المعاني المختلفة للنقد والتي ذكرتها بشكل تفصيلي في مكان آخر استناداً للمصادر المدونة([16])، هو المعنى المستخدم اليوم في حقل التدليف، وهو عبارة عما يلي: «الحكم الدقيق على كتاب ما»([17]). إنّ عدم الاكتراث لهذه المسألة أدى إلى أن يستخدم النقد عملياً في مدح الآخرين وتبجيلهم، وفرصةً للتكسب، وأن يؤول هذا الأمر في النهاية إلى اضمحلال الثقافة النقدية وركاكة المؤلفات العلمية.
ثالثاً ـ النظريات الشائعة:
توجد بعض المعتقدات الشائعة والمتداولة حول النقد، والتي أدت في نهاية الأمر إلى ضعفه وخمولـه بدلاً من تقوية الثقافة النقدية والتمهيد للتأليف السليم والأصيل. وإحدى هذه النظريات تقول: بأنّ النقد يجب أن يكون مقترناً بالإرشاد وتقديم البديل. وبناءً على هذا الرأي، فإنّ الشخص الذي يحق له انتقاد كتاب ما، هو الذي يكون قادراً على تحديد سبيل معين يمكن من خلاله إزالة العيوب الموجودة فيه. وهذه العقيدة قائمة على المبدأ غير المبرهن والقائل: بأنّ نقد الكتاب والتوجيه والسعي باتجاه تطويره وتحسينه أمران متلازمان. في حين أنّه لا يمكن من الناحية المنطقية أن نتوقع من الناقد مثل هذه القابلية. ولربما لم تكن القابلية الذهنية للشخص وقواه الفكرية والعلمية بالمستوى الذي يستطيع معه تقديم الحل المناسب لمشكلة ما، ولكنه يمتلك القدرة على اكتشاف أصل المشكلة. وبتعبير آخر، يمكن تقسيم النقد إلى نوعين من المهارة الخاصة: أحدهما اكتشاف النقص؛ والآخر تقديم الحل. فعندما أقرأ نصاً ما قراءه نقدية، فالمتوقع مني أمران: الأول أن أُبيّن ضعف النص وركاكته، والآخر أن أسعى باتجاه إزالة ذلك الضعف. ولو كنت أمتلك هاتين المهارتين فبها ونعم، ولكن عدم امتلاك المهارة الثانية لا يعنى من الناحية المنطقية بأنّ المهارة الأُولى لا وجود لها أو لا ينبغي استخدامها. وبناءً على ذلك، إذا قام أحد الأشخاص بنقد كتاب ما، فلا يمكن أن نردّ عليه بالقول: «إذا كنت قادراً على أن تأتي بأفضل من ذلك فهات ما عندك».
والعقيدة الشائعة الأُخرى حول مفهوم النقد تقول: بأنّ الذي ينتقد فناً من الفنون يجب أن يكون متخصصاً في ذلك الفن، ومن لا يمتلك مستوى علمياً معيناً لا يحق له أن ينقد. هذا النقد الموجه على ما يبدو بإمكانه أن يدمر مبدأ النقد من الناحية العملية، فإذا كان المراد بهذه النظرية أنّ الذين لا يمتلكون الإمكانية العلمية المطلوبة، يجب عليهم أخلاقياً عدم الخوض في المجال الذي يحتاج إلى الاختصاص، وأن لا يمارسوا النقد والحكم على النصوص.
هذا الكلام من حيث المبدأ هو كلام صحيح، ومن يصدر حكمه حول موضوع معين بدون خلفية علمية ومعرفة كافية، فهو من الناحية العلمية والاجتماعية يضع نفسه موضع سخرية واستهزاء الجميع، ويرتكب من الناحية الأخلاقية عملاً رذيلاً أيضاً. إنّ السمع والبصر واللسان وجميع الجوارح الإنسانية لها مسؤولياتها الخاصة في هذا المجال([18]). وبناءً على ذلك، فإنّ هذه النقطة تعتبر من الأُصول الأساسية للأخلاق الإسلامية، والتي تقول: بأنّ إصدار التقييم ووجهات النظر في إيّ باب من الأبواب يجب أن يكون مسبوقاً بالعلم والوعي.
ولكن، إذا كان المقصود بها أنّه في حالة قيام ناقد غير متخصص بنقد كتاب معين، فإنّ مؤلف ذلك الكتاب مجاز أخلاقياً بعدم الاكتراث بذلك النقد، فهذا الكلام خطأ وغير صحيح، وعندما يتم التطرق إلى موضوع التخصص، فالمقصود به غالباً هذا التفسير.
من هنا، فإنّ اللجوء إلى مسألة التخصص، يمثل حربةً لإخراج الناقد من هذا الخندق وإسكاته.
وكمثال على ذلك، لو أنّ شخصاً لا معرفة لـه بالطباعة وطريقة عرض الصفحات، رأى صفحات كتاب معين بأنّها مائلة أو غير مطبوعة بشكل جميل ومنسّق، وعبّر عن رأيه، وقال: بأنّ هذه الصفحات كذا وكذا. فهل بإمكان الناشر أو المؤلف منع هذا الشخص من إبداء وجهة نظره ورأيه على اعتبار أنّه لا معرفة له بأُصول الطباعة، ويقال له: بما أنّك لست متخصصاً في هذا المجال، فلا يحق لك أن تقيّم وتنقد وتبدي وجهة نظرك. وهنا يجب أن نفصل بين مسألتين: إحداهما هي المسؤولية الأخلاقية للناقد؛ والأُخرى ردة الفعل الأخلاقية للشخص الموجّه إليه النقد.
من الناحية الأخلاقية لا يحق لأيّ شخص أن يصدر حكماً بشأن موضوع يجهله. ومما لا شك فيه بأنّ من يريد أن يبدي رأيه بشأن مسألة ما، يجب أن يمتلك العلم الكافي حولها، وأن لا يجعل نفسه عرضة للسخرية بآرائه الجاهلة. وهذا الأمر يأخذ جانب المسؤولية الأخلاقية للناقد بعين الاعتبار. والمسألة الأُخرى هي أن نأخذ المسؤولية الأخلاقية للشخص المنتقد بعين الاعتبار. بمعنى هل أنّه مجاز أخلاقياً بأن يرفض نقد الناقد غير المختص في ذلك المجال، استناداً إلى هذه النقطة فقط، ولا يسلّم به، ويمنعه من إبداء رأيه، ويقول بأنه لا يحق له أن ينتقد؟
هناك من يؤمن بأنّ النقد يقتصر استخدامه على بعض الأفراد فقط، الذين سبق وأن حصلوا على بعض المواصفات والمؤهلات العلمية الخاصة. ووفقاً لما ينقله شمس الدين قيس الرازي، فإنّ أكثر الشعراء يجمعون على أنّ الشعراء الكبار هم القادرون فقط على تحمل مسؤولية نقد الشعر، ومن لا يستطيع أن ينظم شعراً جيداً، لن يمتلك القدرة على نقد الشعر أيضاً([19]). ولا يزال هذا الاعتقاد موجوداً اليوم بشكل من الأشكال لدى بعض الأفراد. وكمثال على ذلك، فهم يدّعون بأنّ الشخص الوحيد القادر على نقد قصة معينة يجب أن يكون كاتباً قصصياً. والشخص الوحيد القادر على تحديد العيوب الموجودة في خارطة بناية معينة يجب أن يكون مهندساً معمارياً وهكذا. وقد أدى هذا الاعتقاد إلى التهجّم عادة على النقّاد بدعوى عدم تخصصهم في مجال معين، ومنعهم عن إبداء رأيهم. ونتيجةً لذلك. برزت هذه المقولة الشائعة من أنّ الناقد يجب أن يكون متخصصاً في المجال المراد نقده، ولهذا السبب فقد أُصيب الأشخاص الذين نُقدوا من قِبَل نقّاد غير متخصصين في ذلك المجال بنكبة كبيرة. ولو سلّمنا بأنّ المتخصصين في مجال معين هم الذين يحق لهم فقط إبداء رأيهم بذلك الاختصاص، فسوف نواجه ثلاث مشاكل رئيسة، هي:
1. امتلاك التخصص
2. مسألة الحوار
3. الدليل
مشكلتنا الأُولى هنا تكمن في مسألة إحراز التخصص والصلاحية العلمية؛ لأنّه عادةً عندما يتعرض شخص ما إلى النقد، بإمكانه الادعاء بأنّ ناقده لا يمتلك الكفاءة العلمية. وكمثال على ذلك، فإنّ كارل ماركس (1818ـ 1883) الذي كان يرى بأنّ عمله عمل علمي ومتخصص، كان يدّعي بأنّه يتقبل أيّ نقد علمي([20]). ولكنه قبل ذلك قام بتعريف النقد العلمي بالشكل الذي يروق لـه، واعتبر الناقدين لـه بأنّهم غير مؤهلين، بدعوى عدم امتلاكهم لذلك الشرط. فلو تبلورت قاعدة معينة بحيث يحق بموجبها للأطباء فقط إبداء رأيهم بشأن المسائل الطبية وانتقادها ومناقشتها، بالنتيجة سوف يصبح بالإمكان إخراج غير الأطباء من دائرة اللياقة النقدية بكل سهولة. وكما أنّه لا يحق لأيّ شخص أن يفتتح عيادة طبية بدون الحصول على ترخيص من الجهات القانونية الطبية، فلا يحق لأيّ شخص أيضاً أن يبدي رأيه في الأُمور الطبية بدون امتلاكه الأهلية العلمية المدعمة بالوثائق القانونية المعتبرة.
وبناءً على ذلك، يحق للمهندسين الأعضاء في نقابة المهندسين فقط ممارسة النقد بشأن المسائل الهندسية، وفي المسائل الأدبية يحق فقط لأعضاء اتحاد الأُدباء ممارسة النقد، ويحق لأعضاء اتحاد الكتّاب فقط نقد الشؤون المتعلقة بالكتابة وهكذا.
وهنا تظهر أمامنا المشكلة الثانية؛ أي معضلة النقاش والحوار. فالمشكلة التي ستبرز أمامنا هي ظهور مجاميع متخصصة ومتعددة في المجتمع، وكل مجموعة ستعطي الحق لأفرادها فقط بإصدار الأحكام وممارسة النقد في مجالها التخصصي. وبنفس الشكل الذي لا يحق فيه لكاتب أديب أن يوجه نقده لطبيب ما ـ لأنّه لا يفقه شيئاً عن الطب، ولا يمتلك التخصص اللازم في هذا المجال ـ فإنّ هذا الإجراء سوف يؤدي بالنتيجة إلى عدم تمكن الطبيب أيضاً من الإدلاء برأيه بشأن كتاب ذلك الأديب أو نقده. فإذا قبلنا بهذه النتيجة، سنغلق عندها مبدأ الحوار والنقاش بوجه الشرائح المتخصصة المختلفة: لأنّ أيّ عمل من الأعمال بحاجة إلى نوع من التخصص، والمجتمع مملوء بالأعمال التخصصية، وليس بإمكان أيّ شخص أن يتخصص في مختلف الأُمور. ولذلك فإنّ الفرد سيمتلك الأهلية اللازمة للنقد في دائرة محدودة جداً فقط.
وإذا تجاوزنا هاتين المشكلتين، فالمشكلة الأساسية تتمثل في أنّه لا يوجد أيّ دليل منطقي على أنّ النقد الذي يمكن الاستماع إليه والأخذ به هو نقد الأفراد المتخصصين فقط. فعلى سبيل المثال، لو أردتُ أن أعرف هل هذا الغذاء ـ الذي تم إعداده وطبخه من قبل طباخ ماهر ومحترف ـ طعمهُ مالح أو مسيخ؟ فليس من الضروري أن أكون خبيراً بأصول الطبخ، بل يكفي أن تكون حاسة الذوق لديّ جيدة. ويُنسب إلى جورج برنارد شو ـ الكاتب الإنجليزي الساخر ـ أنّه قال: «لا أستطيع أن أضع البيض، ولكن استطيع أن أحكم على طبق الأومليت أفضل من أي دجاجة». ومن الممكن أن يمضي شخص سنوات عديدة بالعمل على مشروع معين وأن يخرج عمله بالنتيجة على هيئة سيارة فاخرة، ولكن من الممكن للمستهلك الذي لا يملك أيّة معلومات عن علم الميكانيك، بمجرد أن يجلس خلف مقود السيارة، أن يكتشف نقصاً معيناً فيها ويشير إليه مباشرة. وقد يكون هذا الشخص غير قادر على صنع مسمار قلاووظ (برغي) واحد، ولكنه يمتلك قابلية العثور على العيوب المعقدة في السيارة. ولا توجد بالأساس أيّ ملازمة منطقية بين التخصص والقدرة على إيجاد شيء ما أو إبداع عمل أدبي وبين نقده.
بعض الناس يمتلكون ذهنية مركبة، والبعض الآخر يمتلكون ذهنية تحليلية، فالذين يمتلكون ذهنية تركيبية، يركزون قدراتهم على الإبداع والخلق، والذين يمتلكون ذهنية تحليلية، يمتلكون القدرة على التحليل والنقد أكثر من أيّ شيء آخر. إنّ شخصاً كالفخر الرازي لم يكن يمتلك القدرة على صياغة برنامج فلسفي منسجم، ولكنه ربما كان أفضل من الفلاسفة الذين كانوا ينظّرون للنظم الفلسفية، حيث كان قادراً على تشخيص العيوب الموجودة في نظام فلسفي معيّن أو استدلال فلسفي بكل وضوح.
وخلاصة القول، يجب أن نركز وجهات نظرنا على موضوعة النقد بذاتها، وعلى صحتها أو عدم صحتها، بدلاً من التركيز على صلاحية الناقد أو عدم صلاحيته. وهذه النظرية تستند إلى منهجين أخلاقيين كبيرين في القرآن الكريم.
ففي المرحلة الأُولى يجب على الجميع أن يتحدثوا بشكل موثق وثابت. إذن، من الناحية الأخلاقية فالجميع ملزمون بعدم الإدلاء برأيهم جهلاً، وبدون امتلاكهم الصلاحية اللازمة في الأُمور التي تقع خارج دائرة معرفتهم. ولكن بعد أن يصدر أيّ حديث مهما كانت دوافعه، ومن قبل أيّ شخص، يجب على المؤمنين وبدون التركيز على مصدر الحديث أن يقوموا بتقييم ذلك الحديث ويميزوا بين الغث والسمين فيه. والأمر الإلهي سبحانه وتعالى للجميع في المرحلة الأُولى كما يلي: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا< (سورة الأحزاب: 70).
ولكن في المرحلة الثانية، وبحسب قول الله سبحانه وتعالى، فإنّ العباد الذين تشملهم بشارة الحق تعالى هم الذين يجعلون كل همهم في تمييز الصحيح من السقيم، واختيار القول الحسن وحسب: >وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ< (سورة الزمر: 17ـ18).
هذا النوع من الأفراد هم الذين هداهم الله؛ لأنّهم من التواضع بمكان، بحيث إنّ اهتمامهم بشخصية المتحدث لن تمنعهم من البحث عن الحقيقة والانصياع للحق، كما أنّهم من الحكمة بمكان بحيث إنّهم يحتملون القول السديد من أيّ شخص، ويعلمون بأنّ الحقيقة إنّما تولد من رحم التزاوج بين الأقوال المتعددة، ومن خلال المواجهة بين القول الحق والباطل فقط يُعرف الحق بشكل أوضح، ويُدحض الباطل وينزوي. لذلك، فقد جعلوا هذه الحكمة للإمام الهمام عليّ بن أبي طالب(ع) نصب أعينهم دائماً، حيث يقول: «اضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب»([21]). فهم يعلمون جيداً بأنّ الحياة وازدهار العلوم وتطور المعرفة البشرية، إنّما هي نتاج النقد والتمحيص، كما أنّ الانتقادات ليست صادرة جميعها من قبل المتخصصين. وما أكثر المواقف التي وقف فيها العلماء ضد النظريات العلمية وعارضوها بكل شدة باسم التخصص، كما حصل في الاعتراضات الأُولى على النظرية النسبية لأنشتاين([22]). الشاعر سعدي بدوره يوضح هذه المسألة المنطقية بعد أن ينقل قصة الأربعمئة رامٍ الذين أخطأوا الهدف بأجمعهم، وتمكن طفل مغمور ويجهل فنون الرمي من إصابة الهدف فيقول:
عندما لا يصدر من الحكيم السديد الرأي تدبير سديد
حان الوقت الذي يصيب الطفل الجهول الهدف بسهمٍ خطأ([23])
لا يمكننا الاستنتاج من الحديث أعلاه، ولا ينبغي أن نستنتج بأنّ التخصص وعدم التخصص سواء، وأنّ العالم والجاهل هم على حد سواء أيضاً. فلا هذا الهدف هو المطلوب، ولا مثل هذا الأدّعاء يمكن الدفاع عنه. بل، إنّ المقصود بذلك، هو الاهتمام بالمسألة التالية، وهي: أنّ الحق والحقيقة من الممكن أن يكونا في ذلك المكان غير المتوقع من قبلنا تماماً. وعلى قول مولى المتقين(ع): «فإنّ أكثر الحق فيما تنكرون».([24]). والعالم هو ذلك الشخص الذي يجعل الشعار التالي: «أُنظر إلى القول، وليس للقائل» نصب عينيه، وحلقةً في أُذنه، ودليلاً لأفكاره. ومن يتصرف وفقاً لهذا الأُسلوب سوف لن يراوده القلق بشأن الناقد هل هو متخصص أم لا. بل سيهتم فقط لكي يرى، هل أنّ هذا الكلام حق أم باطل. وقد تطرقنا إلى ذكر هذه المسألة بتفصيل أكثر مع الإشارة إلى حالات النقض والإبرام التي حصلت بشأنها في مكان آخر([25]).
رابعاً ـ الأساليب غير السليمة في التعامل مع النقّاد:
إنّ أفكاراً من هذا القبيل أدت إلى عدم بروز ثقافة سليمة ومتينة في مجال النقد، وإلى لجوء بعض أصحاب الأقلام إلى الاستعانة ببعض الأساليب غير الأخلاقية لمواجهة منتقديهم، وإلى السعي عملياً لإضعاف النقّاد، وبالتالي إضعاف أنفسهم ـ على المدى البعيد ـ بدلاً من الاستفادة من آرائهم، والدخول في مناقشة نقدية ومجدية معهم.
ولا يمكن هنا الإشارة إلى جميع هذه الأساليب، ولعلها غير قابلة للإحصاء، ولكن من أهمها ما يلي: الظن بدوافع الناقد؛ النقد المقابل؛ إهانة الناقد؛ المؤاخذة الأخلاقية.
1ـ الظن بدوافع الناقد
اعتاد بعضنا على أنّه إذا قام شخصٌ ما بكتابة نقد معيّن لإحدى مقالاتنا أو كتبنا، فإنّنا بدلاً من أن نهتم بـ (المدّعى) نتوجه صوب (المدّعي) ونسعى لمعرفة السبب للقيام بمثل هذا العمل. فالذي يُقدم على هذا العمل، يفترض في نفسه بأنّ أحداً لا يقوم بنقدي إلاّ إذا كانت له معي عداوة، أو أن يكون عمله هذا جزءاً من مؤامرة أوسع. وبسبب هذه الافتراضات فإننا نشهد غالباً أثناء الرد على الانتقادات الموجهة، بعض التصريحات أو الإشارات الضمنية حول العقد الشخصية للناقد، أو تبعيته السياسية، أو سعيه لطلب الشهرة، وما إلى ذلك. وقد تمّ إيضاح هذا الموضوع بأُسلوب ساخر في المقالة الموسومة باسم (پاسخ دندان شكن)، أي الرد القاطع، حيث يقول الكاتب: «بما أنّ الكثير من القرّاء الذين يقرؤون ردودكم…يريدون أن يعرفوا (الدافع) من وراء النقد لما كتبتموه قبل أن يعرفوا صحة رأي الناقد من عدمه، فعليكم أن لا تخيّبوا آمال هذا النوع من القرّاء، ولكن إيّاكم والصراحة الكثيرة عند قيامكم بالكشف عن هذه الدوافع. إذ يجب أن تسيطروا على القارئ من خلال إشاراتكم المبهمة، بحيث يفهم بأنّ هذا النقد البسيط إنّما هو جزء من مؤامرة كبرى، وأنكم لا تريدون الخوض في جزئياتها لأسباب معينة. ولا تنسوا خاصة الإشارة إلى بعض الخصوصيات الشخصية للكاتب.
وإنّ ذكر بعض العبارات في هذا الشأن لها فائدة عظيمة، من قبيل: «إذا لم يحصل أحد الطلبة على درجة النجاح في مادة معينة لدى أحد الأساتذة، فلا يعدّ ذلك مبرراً لأن يمسك القلم ويحاول أن ينتقم من طلاب ذلك الأُستاذ وأصدقائه…»([26]).
الذين اعتادوا على هذا الأسلوب دائماً يمتلكون دوافع جاهزة تحت اليد لكي يقدّموها لهذا وذاك مباشرة. وهم أيضاً خبراء هذه الدوافع دائماً، وهم من يدّعون بها ويحكمون عليها.
إنّ أُسلوب الظن بدوافع الناقد، وعدم الاهتمام بمبدأ النقد في ثقافتنا، هو من السعة والانتشار بحيث إنّ الكلام الآتي والذي قد قيل قبل أكثر من ستين عاماً كأنّ مداده لم يجف لحد الآن:
«لا يوجد شخص قد اعتادت مسامعه على سماع النقد. ولا يوجد أي كاتب، شيخاً كان أم شاباً، يعتقد أنّه من الممكن وجود عيب أو نقص في كتاباته، وإذا كانت موجودة، فيجب على من يريد إظهارها أن لا يكون لديه قصد الإيذاء والعداء. ومهما تبالغون في عظمة كتابٍ ما، وتكتبون فصولاً في مدح ذلك الكتاب وإظهار محاسنه، بمجرد أن تلاحظوا ملاحظة صغيرة عنه، فإنّ الكاتب الجليل ينزعج ويعرض بوجهه عنك إذا صادفك في الطريق معتبراً إيّاك شخصاً حسوداً وسيء الخلق»([27]).
والذين ينتهجون مثل هذه الأساليب فإنّهم يغالطون أنفسهم ولا يشعرون، ويختلقون لأنفسهم مبررات واستدلالات، وصغرى وكبرى من قبيل: زيد انتقدني. ولكن لزيد دوافع ونوايا سيئة، ومن يتصف بمثل هذه الدوافع، يجب عدم الأخذ بانتقاداته. إذن، فإنّ انتقادات زيد غير مقبولة.
ويعبر أبو العلاء المعري عن هذه النظرة بقوله:
تكلّم بالقـول المضلل حاسـدٌ وكل كلام الحاسدين هراءُ([28])
في حين أنّ الإمام عليّاً (ع) يقول بأنّ سوء الظنّ هذا دليل على إدبار الشخص([29]).
ويستند أُسلوب الظن بدوافع الناقد إلى مبدأين خاطئين:
الأول: اعتبار الناقد بأنّه عدوّ.
والآخر: إنّ كلام العدوّ لا قيمة له.
ولهذا فإنّ إثبات هذين المبدأين أمرٌ في غاية الصعوبة، وحتى إذا كان بالإمكان القول بأنّ الناقد شخص مغرض، فلا يمكن منطقياً الاستنتاج من هذه المسألة بأنّ نقده لا قيمة لـه؛ وذلك لأنّ القضية خلاف ذلك، فإنّ هذا العدوّ هو الذي يمكن أخذ الدرس والعبرة منه؛ لأنّه قد شخّص عيبنا بشكل جيد، ولم يتوان في إظهاره وبيانه.
وهذا ما دعى الإمام الخميني(قده) للتعليق على هذا الأمر بهذه الطريقة: «لا يستطيع المرء أن يتعلم من أصدقائه، ويجب عليه أن يتعلم من أعدائه…أصدقاء المرء، هم الأعداء الحقيقيون للإنسان، وأعداء الإنسان هم أصدقاؤه الحقيقيون»([30]).
كما أن السيد باستاني بعد أن ينقل مثلاً شعبياً عن أهالي مدينة أرومية والذي مفاده أنّ من الأفضل إحالة تقليم شجرة العنب إلى الأعداء؛ لأنّهم يزيلون الأغصان والأوراق الزائدة دون هوادة أو مراعاة في ذلك. ثم يصل إلى هذه النتيجة: «فيما يتعلق بالكتابات التي يكتبها الأشخاص أعتقد بأنّ الذين لا يتعاطفون مع الكاتب أو لا يحسنون الظن به، لعلهم يتمكنون من نقد كتابات ذلك الكاتب بشكل أفضل وأكثر إيجابيةً»([31]).
وبما أننا نجهل دوافع الآخرين عادةً، واعتدنا من الناحية العملية أن نفسر سلوكهم على أساس الدوافع الواقعية أو الخيالية، فإنّ الأُسلوب الأنجع يتمثل باعتماد مبدأ حسن الظن تجاه أيّ شخص، إلاّ إذا ثبت خلاف هذا المبدأ. وهذا الأُسلوب سيكون مبعثاً لإحساسنا براحة الضمير من جهة، ومانعاً لسوء الظن بالآخرين، وسبباً لتوسيع علاقاتنا الإنسانية مع الآخرين من جهة أُخرى.
ويبين مولى المتقين الإمام عليّ (ع) في قول مقتضب هذا الدرس الأساسي والحيوي بقولـه: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك مايغلبك منه، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً»([32]).
النتيجة المستحصلة من عدم الأخذ بالمبدأ المذكور أعلاه، وانتهاج أُسلوب الظن بالدوافع مع الناقد، هي الجهل بالذات، واتهام الآخرين، والإبقاء على المشكلة دون حلّّ. ولذلك فإنّ استخدام هذا الأُسلوب على المدى البعيد، سيكون سبباً في قطع التواصل مع الواقع، ومسخ الحقيقة، والتأخّر عن ركب التطور وبناء الذات.
وإحدى النماذج اللامعة للتعامل السليم مع النقد واجتناب الأُسلوب الظنّي هو المرحوم محمد جواد مغنية في لبنان، والذي يعتبر دليلاً جيداً لأهل الفكر والرأي. ففي عام 1968م صدر كتاب تحت عنوان (نقد الفكر الديني) بقلم الكاتب الماركسي السوري صادق جلال العظم. تناول فيه الكاتب نقد الفكر الديني، وكان لهذا الكتاب ردود فعل واسعة في المحافل الدينية، حتى إنّ عمل الكاتب هذا انسحب إلى محكمة لبنان، وتم إيقاف هذا الكتاب بسبب إثارته للنعرات الدينية والطائفية. وفي مثل هذه الأجواء العصيبة اتخذ آية الله محمد جواد مغينة موقف التأييد إزاء هذا الكتاب بدلاً عن سوء الظن، وإهانة الكاتب، وكتب قائلاً: إنّ المجتمع الإسلامي يجب أن يكون مستعداً للمواجهة العلمية مع هذا الكتاب ويلجأ إلى نقده، وإذا لم يحصل ذلك فإنّ الخاسر الحقيقي هو الإسلام فقط. ولم ينس العظم هذا التصرف الحكيم وأخذ يشير في مؤلفاته الأخرى إلى هذا العالم الشيعي بكل تقدير وتبجيل. ومن جملة ما قاله في حوار طويل أجراه معه صقر أبو فخر، أشار إلى ما قام به الشيخ مغنية بقوله:« كتب الشيخ المجتهد محمد جواد مغنية يومها ما معناه: لا أُوافق على أيّ من الآراء الواردة في الكتاب، لكن جدير بالفكر الإسلامي أن يتنبه إلى القضايا التي يطرحها العظم، والمسائل التي يثيرها، وأن يهتم بها ويعتني بمعالجتها؛ لأنّه إن لم يفعل، فالإسلام هوالخاسر الأكبر»([33]).
وكان موقف الإمام موسى الصدر على هذه الشاكلة أيضاً، وبدلاً من التعرض للناقد، فقد اهتمّ بالنقد([34]).
2ـ النقد المضاد (نقد النقد):
يسعى البعض عند تعرضهم لنقد الآخرين إلى توجيه نقد في المقابل لذلك الناقد، بدلاً من قبول أو رفض مبدأ النقد والبحث عن الحقيقة؛ لأنّهم يعتقدون بأنّ أفضل طريقة للدفاع هو شنّ هجوم مضاد، معتبرين ميدان النقد ميدان حرب ومعركة عسكرية، فهم لا يأبهون القيام بأي عمل بأُسلوبهم هذا، ابتداءً من تأشيرهم على «الأخطاء المطبعية للمقالة وصولاً إلى الأخطاء الإملائية والإنشائية فيها»([35])؛ لكي يبيّنوا للآخرين بأنّ الناقد لم يكن أهلاً للنقد، وفي هذا الخضمّ يتم نسيان أساس المشكلة. وتصبح أخطاء الناقد وكأنّها مبرر للخطأ الأساسي للكاتب. وهذه المسألة أدت بالتالي إلى أن لا يجرؤ أحد على توجيه النقد لإخوانه. يقول الامام عليّ(ع) بشأن هذا التخوف: «ما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه، إلاّ مخافة أن يستقبله بمثله»([36]). إنّ عملية النقد المضاد هي نوع من المغالطة المنطقية، حيث يطلقون عليها تسمية «وأنت كذلك». وهنا، عندما يجد الشخص (أ) شبهةً ما على الشخص (ب)، ويرصد الخطأ الذي ارتكبه، فإنّ الشخص (ب) يؤكّد في معرض ردّه بأنّ «هذا الانتقاد لا يشملني أنا فقط، بل إنّه يشملك أنت أيضاً». والدليل الوحيد الذي يذكره الرادّ هنا على صحة عمله، هو أنّ الناقد يشاركه أيضاً في هذا الخطأ.
3ـ إهانة المنتقد:
عندما يتعرض الشخص إلى الانتقاد أحياناً، لا يكتفي بالنقد المضاد، بل يتهجّم على الشخص المنتقد مباشرة، متّهماً إيّاه بعدم الأهلية. وأغلب الذين يستخدمون هذا الأُسلوب يعتبرون أنفسهم أفضل من المنتقد من حيث الكمّ. فلو كان كاتباً على سبيل المثال، يستند إلى حجم كتاباته، ويدّعي القول بأنني قد ألّفت كذا عددٍ من الكتب، وعندما كنت أكتب كان المنتقد حينها في رحم أُمّه. وإذا كان معلماً، يستند إلى ماضيه السابق ويقول منذ عشرين عاماً وأنا أُعلمّ الآخرين، ويأتي الآن من يريد أن ينتقدني ويعلّمني ولم تمض عليه سنة واحدة في التعليم. وتُلاحظ ردود الأفعال هذه على الأكثر، عندما يكون الناقد من الجيل الجديد والمنتَقَد من الجيل السابق، حيث يمكن أن نلاحظ الكثير من العبارات التالية، من قبيل: (أنت الذي لا تميز الألف من الباء تنتقد عملي!)، أو (ما زالت رائحة الحليب في فمك!)، أو يستخدمون عبارات أكثر بلاغة، من قبيل: (لا تتخيلوا أنفسكم قادرين على الردّ على المدافعين عن مذهب أهل البيت)، أو (أقوال المبتدئين ـ بما يسمى بالنقد ـ أو الذين تعدّ أقوالهم في هذا المجال بمستوى المبتدئين)، أو (ما يزال البعض كالأطفال في هذا المجال)، أو (أما للنقد من أُسس ومعايير؟)، أو (هؤلاء النقّاد ـ إذا جاز التعبير ـ المتلونون)، وغير ذلك من العبارات. ففي بعض الكتب المؤلفة كثيراً ما نلاحظ أشخاصاً يستخدمون في الغالب حربة واحد فقط بوجه النقد، ألا وهي إهانة الناقد([37]).
إنّ لهذا الأُسلوب إشكاليتين أساسيتين: أولهما الخطأ الأخلاقي؛ والأُخرى هي الفشل المنطقي. فالذي يلجأ إلى استخدام هذا الأُسلوب، يقلل من شأن منتقده بدعوى السن والجنس والمكانة الوظيفية أو الاجتماعية للناقد، وهذا خطأ أخلاقي، وعمل مخالف للتعاليم القرآنية الصريحة. والسبب الداعي لاستخدام هذا الأُسلوب هو أنّ الشخص يرى نفسه أفضل من ناقده، وهذا هو عين التكبر، وتعد هذه رذيلة شيطانية. والإشكال الآخر هو أنه لا توجد أيّ ملازمة منطقية بين الوضاعة الظاهرية أو الواقعية للناقد وبين عدم صحة كلامه، ولربما يصدر قول شريف من إنسان وضيع وحقير، وهذه مسألة لا يُلتفت إليها غالباً.
ومن جهة أُخرى، فالذي يكون مستعداً لتقبل انتقادات الآخرين دون الالتفات إلى عمر الناقد وجنسه ومكانته الاجتماعية، يدلل على أنّه بصدد التحري عن الحقيقة، ويوافق على أنّ النقد طريق ذو مسلكين، وهذا الحق محفوظ للآخرين أيضاً، وذلك بأن يكون للآخرين الحق في التعبير عن رأيهم مقابل رأيه. فعندما أقوم بإصدار كتاب وأجعل نفسي بموقع المحقق والباحث، وأُعطي لنفسي الحق بأن أجعل من الآخرين جمهوري المخاطب، وأطلب منهم قراءة كتابي، ضمن الناحية المنطقية والأخلاقيه يجب أن أتقبل تقييمهم، حتى وإن كان مؤلماً. وإن لم أفعل ذلك، أكون قد عبّرت عن نفسي بأني شيء آخر، ومختلف عنهم.
والنتيجة، فإنّ «وصف الناقد بأنواع الصفات السلبية، واتهامه بالغرضية والجهل، وبأنّه يتجاوز الحدّ المسموح لـه، وأمثال ذلك، هي من علائم المواجهة غير الأخلاقية مع الناقد»([38]).
4 ـ المؤاخذة الأخلاقية:
يُستخدم هذا الأُسلوب أساساً إلى جانب الأساليب الأُخرى في الكتابات التي تكتب بعنوان الردّ على الانتقادات. ويُستفاد من هذا الأُسلوب بالكيفية التالية: عندما يتعرض الشخص للانتقاد عادةً، ويريد الآن أن يردّ على هذا النقد، يقوم بوضع إصبعه على الحالات اللاأخلاقية الواردة في عمل الناقد، ويدعوه إلى مراعاة الضوابط الأخلاقية. ويقترن هذا العمل غالباً بالإشارة إلى (ضرورة مراعاة الأدب) في القول والكتابة، والتقيد بـ (آداب النقد)، أو الابتعاد عن (التسرع)، أو مراعاة جانب (الحذر)، وأخيراً (اجتناب الغفلة).
وكمثال على ذلك، يقول أحد الذين ردّ على من انتقده في نهاية كلامه: «أقترح على الناقد الكريم من الآن فصاعداً أن يلتزم بآداب النقد، وتعلّم قواعد كيفية نقد الآخرين»([39]).
وكتب آخر في معرض ردّه على أحد النقّاد يقول: «لا بدّ من القول إنّ انتقاد أساليب الكبار وأفكارهم ووفقاً للضوابط، عملٌ جائز، بل وضروري، ولكن قبل أي شيء يجب أن يقترن بمراعاة الأدب، وبدافع الحرص، وبقصد التحري عن الحقيقة والكشف عنها»([40]).
ويرد الآخر بهذا الشكل: «إنّ التقييم النقدي لكتاب ما إذا كان مقروناً بمراعاة آداب النقد، فإنّ ذلك مدعاة لليُمن والبركة، وسبباً لشفافية العلم والمعرفة وازدهارهما»([41]). ثم يوصي بناءً على حساسية بعض المواضيع من قبيل: فلسفة الدين، بهذا الشكل: «عند نقد ودراسة الكتب والمؤلفات الصادرة في هذا الباب من المواضيع، يجب أن نتوخى جانب الحذر، وأن نجتنب التسرع، والتعاطي الحماسي والعاطفي مع الآراء المتباينة أو المخالفة، وكذلك اجتناب استخدام العبارات الخطابية، والأهم من ذلك كلّه ينبغي أن لا نبادر إلى نقد هذا الأدّعاء وتقييمه قبل الفراغ من فهمه بشكل صحيح ولائق»([42]).
ويكتب آخر في معرض ردّه على من انتقده: «كنت آمل لو أنه التزم جانب الحيطة ولو قليلاً في الإفصاح عن تلك الانتقادات»([43]).
وأخيراً يوصي شخص آخر الناقد في معرض ردّه عليه بأنّ: «يطّلع على جانب من منهج النقد، ويقرأ على الأقل كتاب (النقد الأدبي) بجزئيه بقلم الاستاذ الدكتور عبد الحسين زرّين كوب عدة مرات؛ لكي يعلم من هو الخبير في هذا الأمر»([44]). هذه العبارات والتوصيات التي نلاحظها في بداية أو وسط أو نهاية الكثير من الردود، تتلخص جميعها حول تنبيه الناقد إلى ضرورة الالتزام بالضوابط الأخلاقية ومراعاة الأدب. والشخص الذي يتعرض للنقد يتخذ هنا دور المعلم الأخلاقي ويحذّر الناقد من الأخطاء المرتكبة من قبله، ويطالبه بأن يبتعد عنها في المستقبل بشكل مؤكد. ووجود هذه التوصيات في مؤلفاتٍ ينبغي لها أن تتعلم منهج النقد وآدابه يعدّ أمراً طبيعياً. ولكن الأمر ليس كذلك عند الرد على الانتقادات. كما أنّ متن هذه الإجابات ليست منهجاً لتعلم النقد لكي تذكر فيها الأُسس العامة لأخلاق النقد وكيفيته، بل هي عبارة عن جملة من الادعاءات التي يصدرها الكاتب ضد الناقد، أو على الاقل دفاعاً عن نفسه. من هنا، فإنّ كل ما مذكور فيها أمّا أن يكون ضد الناقد أو لصالح الكاتب في أغلب الأحيان.
إنّ الإشارة إلى مراعاة الأدب والالتزام بأدب النقد في هذا النوع من الكتابات، يعني ضمنياً بأن الناقد قد تخلى عن الالتزام بالأدب في انتقاداته. والدعوة إلى تعلّم أُصول النقد تعني بأنّ الناقد غير مطّلع على تلك الأُصول. وهذا الأمر هو الذي يؤدي إلى أن يصل هذا الطلب بالالتزام بالأخلاق إلى نقطة في بعض الأحيان بحيث تُؤدى عملياً بأيّ صيغة من الصيغ غير الأخلاقية، ويرى المجيب أو الرادّ بأنّه مخوّل لكي يتّهم الناقد بشكل غير مباشر بالجهل، والغرضية، والتسرّع في إصدار الأحكام، والإفراط والتفريط، والتطرّف، وإغماض الحق، وإهمال الضوابط التي يعرفها حتى أطفال المدارس! وغيرها من الاتهامات. في حين أنّ الكثير من هذه اللواصق، هي غير لاصقه في الواقع.
لقد تابعت وبشكل مستمر الكثير من الانتقادات والردود عليها في عدة مجالات. ويُشار بالبنان في هذه الردود إلى هذه النقطة غالباً وهي: أنّ الناقد لم يراع الجانب الأخلاقي، أو أنّ الناقد الذي انتقد فلاناً وفلاناً كان يهدف إلى غرض معيّن. ولكن من خلال مراجعاتي المكررة للمتن المكتوب من قبل الناقد، أو من خلال علاقاتي الشخصية ومعرفتي الشخصية بالناقد والراد عليه في بعض الحالات، استنتجت بأنّ هذه الادعاءات لم تكن صحيحة. وحقيقة الأمر تكمن في أنّه من الصعوبة بمكان أن ندعو الآخرين إلى توخّي الحذر من السقوط في هذا الفخ ومراعاة الضوابط الأخلاقية في الكتابة. وعلى الرغم من كل ذلك، يجب أن نتغلب على هذا المنهج اللاأخلاقي الخاطئ، والذي نتهم فيه منتقدينا دائماً بالسمات اللاأخلاقية، وأن نتمسك بالمنهج السامي الوارد في القرآن الكريم في باب التعامل مع أعدائنا. وحتى العداوة الحقيقية مع طرف ما يجب أن لا تحيدنا عن جادة الصواب باتجاه إغماض الحق إطلاقاً. والأعداء الوهميون والأصدقاء لهم مكانهم الخاص.
إنّ استخدام السيناريوهات أعلاه وأُسلوب المؤاخذات الأخلاقية غير ممكنة لسببين:
الأول: في حالة عدم قيام الناقد أساساً بإساءه الأدب، واتهامه في النهاية من قبل الرادّ عليه بالإساءة ضمنياً ـ أو بشكل مباشر أحياناً ـ بهذه الدعوات الأخلاقية، فإنّه سيكون بذلك قد ارتكب سلوكاً غير أخلاقي.
والثاني: إنّ الناقد لم يلتزم جانب الأدب فعلاً. وفي هذه الحالة أيضاً يجب على الشخص المنتقَد أن يردّ على النقد الموجه إليه، لا أن يلعب معه دور معلم الأخلاق. إنّ عدم مراعاة الأدب ليس مانعاً أمام النقد السليم، إذ من الممكن أن يقوم المرء بذكر حقائق أساسية وملاحظات دقيقة باستخدام مصطلحات ركيكة. فالدقة في توضيح النقص أو النقد مسألة، وامتلاك أو عدم امتلاك الأُسلوب المناسب مسألة أُخرى.
وعلى افتراض أنّ الناقد بذيء اللسان، فهذه البذاءة لا يجوز أن تصبح مبرراً لكي نتجاهل أصل القضية، ونأخذ برأس الناقد ولحيته بسبب لحن أقواله، ونخضعه للمؤاخذة الأخلاقية. المسألة المهمة هنا تتلخص في أن نترك مسألة التأكد من عدم تصرف الناقد بشكل غير مؤدب إلى الشخص الذي سيقوم بالردّ على النقد الموجه إليه. وبالنتيجة فهو حر في أن يعتبر أيّ عبارة غير مرضية أينما يجدها على أنّها غير مؤدبة. وهنا بالذات يصبح المدّعي هو القاضي أيضاً، فهو الذي يفسر الأمور كيفما يشاء، وهو الذي يقضي في الأمر أيضاً.
من هنا، لا يمكن أن نتهم الناقد بسهولة وتسرّع، بأنّه قد وضع أُصول الأدب والأخلاق تحت أقدامه، خاصةً وأنّ الشخص المنتقد يُصاب بالتوتر غالباً، ويقدّم أسوأ التفسيرات عن العبارات المستخدمة، ويتمسك بالاتجاه الذي ينظر للناقد على أنّه متجاوز على حدود الأدب والاحترام. لذا من الأفضل إحالة مسألة الحكم على كون الناقد شخص مؤدب من عدمه إلى القرّاء، والتركيز في الردّ على محتوى النقد فقط.
خامساً ـ الأساليب الخاطئة في النقد:
إذا كان لبعض الكتّاب الذين يتعرضون للنقد، تعاملاً خاطئاً مع منتقديهم، فإنّ قسماً النقّاد أيضاً لا يستخدمون الأُسلوب المناسب لطرح أفكارهم، وبالتالي فقد استمر هذا المنهج الخاطئ بين النقّاد والمنقودين، وانتهى إلى إصابة النقد بالركود.
والأساليب الخاطئة المستخدمة في النقد متعددة، وتبدأ من أُسلوب الكتابة واللغة المستخدمة حتى تصل إلى طريقة الاستدلال وآفاق النقد. وسنشير هنا إلى بعض من هذه الأساليب، والتي منها: اللغة غير المهذبة: التعميم؛ الاستهداف الشخصي؛ عدم تحديد مستوى النقد.
1ـ اللغة غير المهذبة
استخدام العبارات الخشنة والوقحة، والسب أحياناً في مناهجنا النقدية، يعدّ بمثابة مرض مهلك أدى إلى تراجع ثقافتنا وأُسلوب تفكيرنا. واستخدم الغزالي هذا الأُسلوب ضد معارضيه ومنهم الفلاسفة، ولكن منتقده ابن رشد استخدم هذه الحربة أيضاً واعتمد أساليب مشابهة في منهجه([45]). والغزالي بعمله هذا قلل من أصالة العلم ومن مكانته العلمية أيضاً، مما أدى بالتالي إلى عدم أخذه بالضوابط النقدية، واستخدم منافسوه هذا الأُسلوب الخاطئ في أغلب الأحوال أيضاً.
إنّ إهانة المنافس وتسقيطه، ليس دليلاً على قوتنا، بل يعكس عجزنا عن النقد السليم. والسخرية هي من سنن المشركين وأساليبهم في مواجهة رسل الله سبحانه وتعالى، فكانوا يخفون عجزهم في الردّ على ادعاءات المعصومين تحت غطاء الاستهزاء والسخرية. ولكن ما الذي يدعونا إلى استخدام هذا الأُسلوب مع المسلمين وأبناء جلدتنا. هذا النوع من الأدب المنحطّ، والاستهزاء ببعضنا البعض في استخدام عبارت من قبيل: «الغزالي وأترابه وأذنابه»، «كم هم حمقى أُولئك الذين…»، و«هذه الفرقة من الجهل بحيث…»، لن تنفع لا في تطور العلم وازدهاره، ولا ترسخ أُسسنا العقائدية، ولا تؤدي إلى تحقيق سلامتنا الأخلاقية والإيمانية، بل تستمر في الإبقاء على تخلفنا.
ولا يحاول بعض النقّاد الاستفادة من لغة مناسبة للنقد بقصد أو بغير قصد، ويلجؤون إلى الاستفادة من بعض المصطلحات الخشنة، والعبارات المثيرة. على الرغم من أنّ النقد ثقيل في نفسه، وهذا النوع من العبارات لا تؤدي سوى إلى تشويش أجواء البحث العلمي.
وكمثال على ذلك، كتب أحد النقّاد في نقده لأحد الكتب ما يلي: «إنّ أُسلوب هذا الكتاب غير مهني تماماً، وذو طابع صحفي، وتوجد فيه الكثير من الأخطاء الأدبية. إذ تلاحظ فيه العبارات الغير محبوكة، والألفاظ الرديئة، والمترادفات العديمة التأثير، والجمل الزائدة، وعدم ترتيب الجمل، والأخطاء اللغوية الصريحة، وعدم جمالية الخطوط، والاستعمال الخاطئ والمضحك للفواصل، وغيرها من الإرباكات المزعجة المنتشرة في جميع نواحي الكتاب… كل ذلك، لا يدلّ فقط على قلة مؤونة الكاتب، بل يكشف عن الهذر والتعبير عن المزاج الشخصي، وبالنتيجة عن هذيانه في الكتابة.
وخلاصة القول، يلاحظ في أُسلوب هذا الكتاب الكثير من أُسلوب بابا شمل والملا نصر الديني في الكتابة. من هنا، فإنّ أُسلوب الكتاب أقرب إلى اللغظ الفارسي منه إلى الفارسية الفصيحة…وهذا الميت لا يحتاج إلى كلِّ هذا العويل والنياح. وأقول جازماً بأنّه توجد في كل ورقة من هذا الكتاب خطأة واحدة على الأقل. بحيث وقفت متحيراً في أمري هل أُصحح كلمة (خَسَن) أم كلمة (خُسين)… والواقع أنّ كلّ ما هو جيد في هذا الكتاب يعود للآخرين، حيث اقتبسها الكاتب منهم، وكلّ ما هو تافه عديم الجدوى، هو من نسج الكاتب! بحيث لو وضعنا الأُمور المنقولة والمقتبسة جانباً، وقمنا بفحص الأُمور التي جاء بها الكاتب فقط، سنستنتج بأنّ هذا الكتاب تافه وغير مهني».
وبعيداً عن صحة هذه الادعاءات من عدمها، يتبيّن لنا أنّ مشكلة هذه الكتابة تكمن في الأُسلوب والعبارات المستخدمة فيها. وكان بوسع الناقد أن يكتب جميع هذه الملاحظات في إطار مقبول عرفاً واجتماعياً وأن لا يتخلى عن قول الحق، ولا يهين مؤلف الكتاب بهذه الصورة.
لقد أدى استخدام هذا الأُسلوب في النقد إلى تشبيه النقّاد بالوقاحة والسماجة، وأن يُعبّر عنهم الكتّاب بعبارات سلبية. من هنا، يجب أن نبذل ما في وسعنا لكي نتوصل قدر الإمكان إلى استخدام لغة تكبح جماح الثقل العاطفي المندفع في أساليبنا النقدية، ونبتعد بالتالي عن الأساليب الخشنة والجارحة. ويوصي بعض الكتّاب إلى الاستفادة من الأُسلوب الساخر أحياناً بمثابة الملح على الطعام لتلطيف أجواء النقد الحادة، فيقولون: «الكتابة الجارحة، وإطلاق كلمات الشتم والقذع الأدبي وغير الأدبي غير مقبولة بأيّ شكل من الأشكال، ولا يملك أيّ ناقد مثل هذا الحق في التهجم. والحد الأدنى من النكهة التي من الممكن تبريرها في عملية النقد، مع المزيد من التحوّط، هو قليل ممن الأُسلوب الساخر والذي يختلف عن السخرية والاستهزاء. ويجب تشخيص هذا الخيط الرفيع من الفرق بين هذين الأُسلوبين»([46]). ولكن يبقى شرط الاحتياط هذا دليلاً على صعوبة هذا العمل. من هنا، أرى أنّه من الأفضل الاستفادة من لغة مباشرة وعادلة، بدلاً من اللجوء إلى استخدام أيّ نوع من أنواع الأساليب الساخرة التي ربما تقود إلى السخرية.
2 ـ التعميم
المقصود بالتعميم هو أن يقوم أحد الكتّاب بالإشارة إلى موضوع معيّن في مجلةٍ متخصصة، لها مخاطبوها وجمهورها الخاص، ولكن يأتي أحد النقّاد ويقوم بنقد كلامه ثم ينشر كلامه في وسيلة إعلامية أكثر انتشاراً كالصحف. لربما يحصل هذا العمل اضطراراً في بعض الحالات.
وكمثال على ذلك قد تكون المجلة التي قامت بنشر الموضوع، غير مستعدة لنشر النقد المتعلق بهذا الموضوع لأسباب خاصة. ففي هذه الحالة، يصبح الناقد مجازاً لكي يستعين بوسيلة إعلامية أُخرى. ولكن عندما لا يوجد أي مانع بهذا الخصوص، فإنّ القيام بتعميم النقد يؤدي إلى تشويش أجواء البحث، وإثارة المسائل الجانبية، ويؤول في نهاية المطاف إلى الإضرار بالناقد.
من هنا، يجب العمل على دفع العملية النقدية باتجاه يقوم فيه أيّ شخص إذا كان لديه نقد معيّن حول موضوع ما، بطرح نقده أمام الجميع وفي ظرف معيّن؛ لكي يساهم من خلال عمله هذا بتطوير عملية التأليف والكتابة وازدهارها، وليس باستخدام النقد كحربة للانتفاع بها في مسائل أُخرى.
3 ـ أُسلوب الاستهداف الشخصي
قد تواجه الناقد أحياناً مشكلة خاصة مع أحد الأفراد لا سمح الله، ويلجأ إلى استخدام النقد كحربة للتشفي من غريمه. هذه المسألة لا يمكن تشخيصها بسهولة، وبعض الكتّاب يتهمون منتقديهم المعروفين وغير المعروفين بالغرضية والعداء. ولكن الناقد هو الذي يعرف جيداً ما إذا كان هدفه من النقد تحري الحقيقة، أم تصفية حساباته مع الآخرين. وهذا ما يؤكده الإمام الخميني(قده) بقوله: «إنّ المرء يعرف إذا أراد أن ينتقد، هل هذا النقد بنّاء أم انتقام. هو الذي يعرف ذلك، أي غالباً ما يعرف»([47]).
وقد تنسحب هذه الشخصنة أحياناً إلى القضايا الخاصة للأفراد، ويسعى النقّاد من خلال تتبعهم لعيوب الشخص وعثراته والتجاوز على حرمة خلواته، وبذلك فهم يضعون أولى الأصول الأخلاقية تحت أقدامهم؛ لتبرير انتقاداتهم، ودعم حجّية أقوالهم من خلال التقليل من شأن خصومهم! متجاهلين أنّهم بعملهم هذا قد ينجحون في إسقاط مكانة الخصم، لكنهم بالمقابل سوف لن يحصلوا على أيّ امتياز([48]).
4 ـ عدم تحديد مستوى النقد
إحدى الآفات المنهجية في بعض الانتقادات تتمثل في عدم تحديد مستوى الكتابة النقدية. فمن الممكن أن ننقد أيّ كتاب من زوايا مختلفة.
وكمثال على ذلك، من الممكن أن ينقد الناقد المقالة من حيث الشكل والبناء، ويقوم بدراستها من الزاوية البنيوية حصراً . ومن الممكن أن يتجاهل ناقد آخر المسألة الأولى تماماً، ويذهب إلى تناول الآراء المطروحة في المقالة فقط برؤية نقدية. ومن الممكن أن يقوم ناقد ثالث بتتبع عيوب الكتاب وإظهارها من الزاوية الفنية للكتاب، كطريقة الإخراج، والطباعة، ونمط الصفحات، وحجم الحروف المستخدمة في الطباعة. وبالقدر الذي يكون فيه الناقد قادراً على الفصل بين هذه المستويات، بإمكانه أن يتأمل بجعل نقده يحظى بقبول أكثر. ولكن بعض النقاد يخلطون بين هذه المستويات عملياً، بسبب الغفلة أو عدم القدرة على التشخيص أو لأسباب أُخرى، ويقدّمون نقداً لا يزعج مؤلّف الكتاب فحسب، بل يثير غضب القارئ أيضاً.
وكمثال على ذلك، من الممكن عندما ينقد الشخص كتاباً ما أن يقوم بنقد آراء المؤلف نقداً بناءً، ثم ينتقل مباشرة إلى التحدث عن أُسلوب الكتابة أو شكل تصميم الكتاب أو الأخطاء المطبعية. هذا التصرف يؤثر سلباً على نقده من جهة، وسيقلل من فاعليته من جهة أُخرى. ومن يأخذ بهذا المنهج النقدي إنّما يدلل بعمله هذا بأنّه لا يعلم بوجود تباين بين المواضيع الأساسية والهامشية، وينظر لها بمعيار واحد. من هنا، يجب على النقّاد أن يتعلموا بأن يوضحوا مسؤوليتهم من خلال نقدهم للنص، وأن يقوموا بتحديد المستوى في انتقاداتهم طبقاً لميولهم وإمكانياتهم؛ ليساهموا بعملهم هذا في تطوير الكتابة والثقافة النقدية وازدهارهما.
هذه الأمور تسببت بقيام الكتّاب ومنتقديهم إلى التخندق في جبهات متقابلة، وبدلاً من التعامل فيما بينهم، يلجؤون إلى الحصار ومقاطعة بعضهم البعض، ويجعلون هذا القول على طرف ألسنتهم من أنّ (الباطل يموت بموت ذكره)، مع التأكيد بأن يرى كلّ منهم نفسه يمثل الحق وخصمه الباطل. إنّ وجود هذا الاعتقاد هو الذي تسبب في بقاء المسائل الأساسية لتفكيرنا على حالها دون السعي لتحليلها ودراستها، وآل إلى الرد والإنكار وأن يتّهم بعضنا البعض بعدم الفهم. ويمكن أن نعثر على هذه القضية بين أوساط المؤيدين والمعارضين للفلسفة بكل وضوح، حيث لم يتم في مجتمعنا المعاصر حوار بنّاء بين هذين التيارين، ولكن ثقافة الرفض والإنكار والرمي بالجهل متداولة بينهما. والفرضية الأساسية لكلا الجبهتين مبنية على أساس أنّ خصمهم جاهل، وهذا النقد صادر عن الجهل، ولا يركنون إلى أنّ هذا النقد قد يكون صادراً عن الفهم والدراية. ويدّعي المعارضون للفلسفة بأنّ «هؤلاء السادة لم يدركوا نشوة النفحات الربانية»([49])، أو أنّهم لا يمتلكون «موسوعة معرفية». وبالمقابل يقول الفلاسفة بأنّ «هؤلاء ليسوا رجال ميدان الفلسفة بكل جزئياته ودقائقه»، أو «لا الأستاذ الفلاني يعرف شيئاً عن الفلسفة والعرفان ولا لتلاميذه قدم سبق في هذا الوادي»، أو «إنّ الكثير من المتمسكين بالحديث، لم تصل إلى مشام أرواحهم نفحة من رائحة توحيد الأفعال، وهم من المفوضة والمعتزلة تماماً». هذه المساجلة والرمي المتبادل «بنار الجهل»، حتى لو استمرت إلى قيام الساعة، سوف لن تجدينا نفعاً، ولن تنقلنا خطوة واحدة إلى الأمام في فهم الأُمور وإدراكها([50]).
سادساً ـ أُسس النقد العشرة
1- النقد هو عبارة عن إبداء الرأي، والإعراب عن وجهة النظر بشأن موضوع معيّن، وهذا الحق ضرورة من ضرورات الشعور وعقل الإنسان. النقد محاولة لإصدار الحكم، وقد تكون هذه المحاولة موفقة أحياناً أو غير موفقة في أحيان أُخر، ولكن ليس بالإمكان تحديد نسبة نجاحها مسبقاً. لذلك، فإنّ أيّ جدولة مسبقة تحول دون مشروع النقد وتوسيع الثقافة النقدية، تؤدي من الناحية العملية إلى إغلاق هذا المنفذ وسلب هذا الحق.
2- يحق للجميع ممارسة النقد، وهذا حق متلازم مع الذات الإنسانية، وضرورة من ضرورات الخطاب الإنساني. فلو كان لي الحق في قراءة كتاب معين. إذن، لي الحق أيضاً في الحكم عليه. وبمجرد أن يبدأ الإنسان بالتفكير حول مسألة معينة، وشاهد أيّ خلل أو نقص فيها لأيّ سبب كان، يكون النقد قد بدأ. من هنا، فإنّ النقد وليد الفكر والدراسة والتأمل. وليس بوسعنا أن نطالب شخصاً بقبول فكرة ما، ولكن عليه الابتعاد عن التأمل والتفكير فيها، وأن يعطّل قواه العقلية.
3- النقد مُرّ وغير مستساغ؛ لأنّه تنقيب عن العيوب. وأغلب الناس، يخشون من أن تذاع معايب أفكارهم، ولم يفلح أيّ تعريف أو تلطيف لحد الآن من تقليل حدة هذه المرارة، ويجعلها ذات طعم مقبول. وعلى ما يبدو ستبقى المحاولات المبذولة في هذا المجال غير موفقة أيضاً. وعلى الرغم من كل ذلك، هناك من يحاول التلاعب بمفهوم النقد، وتبديله بمفهوم المدح، وتحديد آفاقه بطرح شروط وضوابط معينة. ولكن، في حالة نجاح هذه الخدعة وتوصّلها إلى نتيجة تذكر، فإنّها ستؤدي في نهاية الأمر إلى إلحاق الضرر بعملية التفكير.
4- كما أنّ لكلّ شخص الحق في النقد، بالمقابل فإنّ لكلّ شخص الحق في الدفاع عن رأيه، وأن يصدر حكمه بشأن النقد الصادر بحقه، وينقده بالمقابل. وهذا الحق سيؤدي إلى إظهار الأبعاد المختلفة للحقيقة. وإذا كانت الانتقادات غير صحيحة، سوف تتوضح أخطاؤها أمام الملأ. وبهذا الشكل، ستتم دراسة أيّ فكرة من أبعادها المختلفة، وتتضح مواطن القوة والضعف فيها، وهذه العملية هي عين ثقافة تضارب الآراء التي تم التأكيد عليها في ثقافتنا الدينية. ويقول الإمام عليّ (ع) بهذا الصدد: «إضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب»([51]).
ويتحول النقد إلى أمر مجرد عن الشهامة والصحة عندما يتمتع الناقد فقط بحق النقَد، ويُجرّد الشخص المنتَقَد من القدرة أو الحق في الردّ، ويصبح في موقع تصبح فيها «الأحجار محظورة والكلاب طليقة». ولكن إذا كانت هذه الفرصة متيسرة أمام المؤيدين والمعارضين لفكرة معينة بشكل متكافئ، فلا ينبغي القلق عندها على عدم سلامة النقد.
5- من الممكن أن يكون للناقد نوايا سيئة أو غرض معيّن في بعض الحالات، حيث لا يمكن إنكار هذه الحقيقة، ولكن صعوبة المسألة تكمن في معرفة هذا الغرض والمرض.
ولا يمكن أيضاً اتّهام كلّ من يستخدم النقد بكلّ سهولة، بأنّه مغرض. من هنا، فإنّ الشخص الوحيد القادر على الادّعاء بغرضية الناقد هو الذي يمتلك في الواقع إطلالةً على عوالم الغيب، ويستطيع الغوص في أعماق الناقد ويتنبأ بما في داخله، وإلاّ فإنّ ادعاءه سيكون غير ذي جدوى؛ لأنّ هذه النزعة التعميمية القائلة بأنّه على كلّ شخص أن يعتبر منتقده مغرض وسيء النيّة موجودة.
6- في الحقيقة أنّ سوء النيّة يعمي بصيرة العقل، ويقول الشاعر ما معناه:
عندما حلّ الغرض، أُسدل الستار على الفن
وأصبح في القلب مئة حجاب إلى الحقيقة([52])
الثابت حقاً أنّ الأغراض والأمراض القلبية تصبح مانعاً أمام فهم الحقيقة كاملة، وإدراكها بشكل صحيح. من هنا، فإنّ الناقد المغرض ربما لن يكون بوسعه إدراك قوة فكرة ما بسبب هذه الرؤية الغرضية. ولكن تبقى هذه الحقيقة صادقة أيضاً بنفس المقدار الذي يصبح فيه الحب والشغف مانعاً يحول دون رؤية العيوب، وبنفس المقدار الذي يُعجب فيه المرء بفكرة معينة، فإنّه لن يتمكن ـ إذا كان له غرض تجاه المنقود ـ من الحكم عليها بشكل صحيح. إنّ الخوض في أمر ما والتعلّق به لا ينسجم مع الرؤية النقدية.
يقول الشاعر ما معناه:
كل فكرة تحظى باهتمامك ستغيب عنك عيوب تلك الفكرة([53])
وبنفس القدر الذي تم التأكيد فيه على الدور المخرّب للغرض في التوصل إلى الحقيقة في رواياتنا، فقد اعتبروا الحب عاملاً يؤدي إلى العمى عن الحقيقة أيضاً، فقد قيل: «عين المحب عميةٌ عن معايب المحبوب، وأذنه صمّاء عن قبح مساويه»([54]).
وبناءً على ذلك، إذا كان الكُره والبغض يؤديان إلى انحراف رؤية الإنسان، وتمنعانه عن رؤية الحقائق والإيجابيات، فإنّ المحبة والشغف يمنعانه أيضاً عن رؤية العيوب في هذا المجال. وهنا يكمن السر في أنّ الوضع المعرفي لكليهما واحد، ويصبح الاثنان مانعاً يحول دون الفهم الكامل للحقيقة. إذن، يجب أن نسعى إلى فهم المسائل بعيداً عن مشاعر الحب والبغض بشكل كامل. ولكن، طالما بقيت هاتان الحالتان موجودتان فينا ولا يمكن أن نخلو منهما، ونتصف بالتعاطف مع المسائل التي تحظى بمودتنا أو لدينا مشاعر الكره تجاه البعض، فمن الأفضل إذاً أن نسمح للاخرين بالتعبير عن آرائهم، وللنظريات التي بعضها مخلصة وبعضها الآخر مسيئة، لكي تزيل عيوب بعضها البعض بدلاً من الإشارة إلى الأغراض والأمراض، لنتمكن بالتالي من التعبير عن آرائنا بشأن أيّ فكرة تواجهنا من خلال امتلاكنا لرؤية أوضح. من هنا، فإنّ فائدة نقد النقّاد السيّئي النيّة لنظرية معينة، هي بنفس مقدار فائدة دفاع المدافعين عن تلك النظرية على الأقل.
7- إضافة لما ورد في النقطة أعلاه، فإنّ نقد الحاقدين، والنقد السيئ النيّة، إنّما هو لصالح فهم الرؤى وإزالة العيوب في الأعم الأغلب من الناحية العملية. فالذين ينحازون للدفاع عن شخصية معينة أو كتاب معيّن، يتعلقون به بدرجة كبيرة، بحيث لو أنّهم اكتشفوا الأخطاء والعيوب الموجودة فيه، فإنّهم يتجنبون الإفصاح عنها لأسباب معينة. ومن هنا، فإنّ الأعداء الذين يعبرون عن آرائهم النقدية بدون مجاملة ومحاباة، يكون نفعهم بشكل عام أكثر من ضررهم. ولهذا فلقد صدق من قال: «ليس بمقدور الإنسان أن يتعلم من أصدقائه. بل، يجب على الإنسان أن يتعلم من أعدائه. وعندما يتحدث بحديث معيّن، فلينظر ماذا يقول الأعداء، وليعلم بأنّ الأعداء هم من يعرفون تشخيص العيوب»([55]).
إذن، ليس العدو هو القادر الوحيد على أن يكون منتقداً جيداً، والأمر كذلك من الناحية العملية، بل وحتى يمكن اعتباره الناقد الأفضل؛ لأنّه يقوم بأداء المسؤوليات الملقاة على عاتق الأصدقاء بشكل مجاني بعد أن تخلّوا عن أدائها والالتزام بها، ولكن بدافع العداء. وبناء على ذلك، فإنّ الانتقادات المغرضة في الحقيقة، هي أكثر فائدة وتأثيراً، وأكثر استجابةً لإزالة النواقص والعيوب.
8- إنّ مسألة امتلاك الجميع لحق النقد، لا يعني أن جميع الانتقادات صحيحة. فلقد شهدنا الكثير من الانتقادات الواضحة في عدم صحتها. من هنا، فإنّ امتلاك الحق لا يعني القول بصحة جميع الانتقادات. ولكن المسألة المهمة هنا أنّه لا يمكن الحكم بصحة أو عدم صحة النقد مقدماً. وعليه، فإنّ الأوساط العلمية يمكن لها أن تعطي رأيها بشأن النقد بعد الإفصاح عنه.
إن الحكم بصحة أو عدم صحة النقد، إنّما ينطلق من ثباته أو عدم ثباته؛ لأنّ الباطل كما يعبر عنه القرآن الكريم، مثله كمثل الزبد على سطح الماء. ولكنّ الحق كالمطر النازل من السماء، يسيل على الأرض أوديةً بقدرها لينفع الناس بخيراته. ومن هذا المنطلق، يجب أن لا نخشى من الكلام ونقد الباطل. ولو كنا واثقين من أحقية موقفنا، فإنّنا سنشتري جميع الانتقادات بأرواحنا بما في ذلك الانتقادات الخاطئة، إذ سنستخدمها لصالحنا.
9- لا يخرج النقد عن إحدى حالتين:
إمّا أن يكون صحيحاً ومقبولاً، وفي هذه الحالة يجب أن نتقبله مهما كانت الجهة التي صدر عنها، ويجب أن لا تدفعنا شخصية الناقد إلى اتخاذ موقف معيّن.
وأمّا أن يكون نقداً غير صحيح. وفي هذه الحالة يجب الامتناع عن قبوله والموافقة عليه، ونبادر إلى الكشف عن نقاط الضعف الواردة في النقد واقناع الآخرين بذلك، بدلاً من الهجوم على الناقد ودوافعه. وبناءً على ذلك، لا يجوز لنا من الناحية الاخلاقية أن نركّز هجماتنا على الناقد، بدلاً من اللجوء إلى تقييم مواطن القوة في هذا النقد، وضعف الكلام الوارد فيه.
والحرب في النقد هي «الحرب بين الكلمات، وليس بين الأفراد». وقد علّمتنا الأخلاق الإسلامية بأن نكون من (نقّاد الكلام)، وليس من (نقّاد المتكلمين). وأيّ محاولة باتجاه إهمال مبدأ التحدث والنقد، والسعي باتجاه التحليل العلمي أو النفسي للناقد، تُعدّ تجاوزاً لهذا المبدأ السماوي، وخلافاً للمروءة الأدب العلمي. ومن الممكن استيعاب شخصية معينة واحترامها، وفي نفس الوقت القيام بنقد رأيه وكتابه. وبالمقابل يمكن أن نرفض شخصية معينة، ولكن نقبل بكلامه الحق. إنّ إقامة جسور الكلام باتجاه المتكلم، ومن ثم إهمال الأول والاهتمام بالمتكلم، يُعدّ عملاً غير محمود، ومخالف للتعاليم الدينية.
10- وللنقد أيضاً قواعده، حيث إنّ تخطّي هذه القواعد يؤدي إلى قلب النقد إلى القدح والهجاء، وأحياناً الإهانة. نعم، إنّ للنقد حساباته ووزنه، ويحتاج إلى الكفاءة والممارسة الطويلة والكافية. ولكن، الشخص الذي يريد أن يضع شروطاً معينة طبقاً لما يريده هو، بحيث تؤدي بالتالي إلى إلغاء مبدأ النقد، هذا الشخص غير مشمول بالنقد. إنّ معايير النقد وضوابطه يجب أن توضع بطريقة الاتفاق والإجماع عليها؛ بمعنى أن تحظى بتوافق الوسط العلمي عليها، وبما أنّه من الممكن أن يضع أيّ شخص قاعدة معينة، لذا يجب أن يكون هذا الوضع بحيث يؤيده أكبر عدد ممكن، وبتعبير آخر أن يشترك أكبر عدد ممكن في وضع هذه القواعد. ولذلك، فإنّ تعيين ضوابط النقد ليست من مسؤولية هذا الشخص أو ذاك، بل إنّ وضعها سيتم بمرور الوقت وعلى أيدي مختلف الأفراد، وتلك القواعد إذا كانت تنسجم مع الدين والاخلاق والعقل، ستبقى راسخة، ومهما كان لها من معارضين فإنّهم إلى زوال. وإذا لم يراع أحد هذه القواعد، ودخل في معترك النقد بدون الاهتمام بأُصول النقد وآدابه، وقدّم نقداً عارياً عن الشهامة والمروءة، فإنّه بعمله هذا إنّما يلحق الضرر بنفسه فقط، وليس بالشخص المعني بالنقد. وحتى من الممكن أن يجد هذا الشخص رواجاً لآرائه النقدية ويكسب الجولة، ولكن لا داعي للقلق؛ لأنّ البقاء والخلود في النهاية لدولة الحق والحقيقة، فإن: «للباطل جولة وللحق دولة».
الحقيقة تشبه الجوهرة المفقودة، التي يجب أن لا نأسف على البحث عنها وأخذها حتى لو وقعت في الوحل والمياه الآسنة. «يجب على المرء الاستماع إلى حديث الجميع لكي يكتشف من بين جميع الأحاديث ذلك الحديث الذي يتحدث بواسطته ربنا معنا ويقول: …يجب عليكم أن تصغوا للجميع، واقبلوا بالحق فقط»([56]).
سابعاً ـ أخلاقية النقد
النقاط الواردة أعلاه لا تعني أنّ المنتقد مجاز أخلاقياً بأن يقول كلّ ما يريد، وينتقد بأيّ صورة تحلو لـه. فإذا كان الناقد متمسكاً بالأخلاق، ويريد أن يكون مؤثراً، يجب أن يلتزم بأُصول النقد. ومن بين أُصول النقد المتعددة، يمكن الإشارة إلى أهمها وكما مبين أدناه:
1ـ البدء بالذات
يجب من الناحية الأخلاقية، في الحقيقة أن لا ننقد الآخرين على ما موجود فينا من الصفات. وبصفتي كمترجم، إذا كنت أفضل الترجمة الحرة على الترجمة الأمينة للنص، وأقوم بذلك وأنا لست ملتزماً قدر الإمكان بمراعاة الدقة في نقل مفاد النص الأصلي. يجب عليّ في هذه الحالة عدم انتقاد المترجم الذي يقوم بالترجمة النصّية الأمينة وأعيبه عليها.
وإذا كان الناقد بصدد تغيير سلوك الشخص المعني بالنقد، يجب عليه أن يكون متأكداً من عدم وجود ذلك العيب المقصود في شخصه، إذ لا يجوز للناقد أن يتحدث كالطبيب الذي يدخن، ويشرح للآخرين أضرار التدخين ويطالبهم بالإقلاع عنه، وحينها يقال:
الرجل يجب أن يستمع ويعى النصيحة وإن كانت مرقومة على الجدار
لا يمكن أن ننظر للإنسان على أنّه مجرد آلة حاسبة منطقية مجردة عن العواطف لكي ينظر إلى جميع الأُمور من زاوية الربح والخسارة، ويأخذ أيّ حق له من أيّ جهة كانت. وما أعظمه من مبدأ رفيع بأن ينظر الإنسان إلى القول فقط ولا شأن له بالناطق بهذا القول أو الحديث، ولكن المؤسف أنّ هذه النظرة لا مكان لها في تصرفات الجميع، وينظر الشخص غالباً إلى المتحدث قبل أن ينظر إلى الحديث، ويقيس مشروعية الكلام وصحته على أساس تصرفات المتحدث ومدى تمسكه بأقواله، وبخاصة في الأُمور التربوية والأخلاقية. ولقد أكّد الباري سبحانه وتعالى مراراً على هذه النقطة، وطلب من دعاة الحق بأن يكونوا هم المتمسكين بالحق، وأن تتطابق أقوالهم مع أفعالهم. وكما يقول الامام علي (ع): «أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله»([57]).
2 ـ كبح جماح الدوافع
أيّ نوع من أنواع الإشارة إلى الدوافع من قبل الشخص المعني بالنقد، يُعدّ بمثابة حركة باتجاه التهرّب من النقد وعدم الانصياع له. ولكن الناقد هو أعرف من أيّ شخص آخر بدوافعه.
وقد يجهل الناقد أحياناً عمق الدوافع التي تحركه، ويخفي الدافع الأساسي وراء دوافعه الأُخرى من حيث لا يشعر، ولكن بقليل من التفحص والصدق، بإمكان كلّ شخص أن يعرف محرّكه وما يدفعه إلى نقد الآخرين، >بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ< (سورة القيامة: 14ـ 15).
ولو أراد الإنسان أن ينقد الآخرين بدافع الحسد، ويتعقب مثالبهم، يجب أن لا يتصور بأن أحداً سوف لن يعرف دوافعه، بل على العكس «فإنّه بمجرد أن نُقدم على عمل ما بدافع الحسد، سوف لن يكون بمقدورنا أن نخفي ما يغلي في أعماقنا، وسيعرف المراقبون حقارة أخلاقياتنا بكل وضوح»([58]). ولا تنحصر هذه النقطة بموضوع الحسد فقط، بل تمتد إلى مسألة حب الجاه، والتظاهر بالفضل وأمثالها، فهي الأُخرى ستظهر وتذاع من قبل المراقبين عاجلاً أم آجلاً. ويعبر الإمام عليّ (ع) عن هذه الحقيقة بكل وضوح، فيقول: «ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»([59]).
فالناقد هو إنسان أيضاً بكل نقاط ضعفه وقوته. ولا يمكن أن نتوقع منه التخلي دفعة عن جميع دوافعه أو إنكارها، ولكن: «على الرغم من كل هذه الملاحظات، ينبغي على الأقل عدم التخلي عن الشهامة والإنصاف، بحيث لو حصل ذلك، فإنّنا سنواجه شخصاً مخادعاً وناقداً (سيئاً)([60]).
3 ـ استخدام اللغة المناسبة
إحدى الجروح الملتهبة التي يضغط عليها أغلب الأفراد المنقودين بإصبعهم، تتمثل بهذا الأمر، وهو أنّ المنتقد لم يلتزم جانب الأدب. ميدان النقد ليس ميداناً للسباب، فلو كان الناقد بصدد إثارة الأحقاد وتفريغ العقد النفسية، فتلك مسألة أخرى، ولكن لو كان المراد بالنقد العمل على إصلاح سلوك الشخص أو أقواله، فإنّ استخدام الأسلوب الفض واللهجة الجارحة من المحتمل جداً أن لا يكون له أيّ تأثير إيجابي على المنتَقَد.
فالنقد ـ بحدّ ذاته ـ جارح ومؤلم، وإذا كان الناقد بصدد التأثير، فيجب أن يخفّف من هذا الألم. وإن لم يستطع، فينبغي على الأقل أن لا يضيف عليه ألماً جديداً، ولا يصب على الجرح الناجم عن النقد ملح الشتم والسب. ويجب على الناقد أن يجعل هذه الملاحظة نصب عينيه دائماً، وهي أنّ مصطلح النقد كلمة مقززة وتبعث على الهلع، لذا يجب عليه الابتعاد عن تلوينها بالعبارات الجارحة والمهينة في بعض الأحيان.
ولكن اللغة النقدية لها جانب آخر أكثر أهمية، ألا وهو دور المرآة العاكسة. ولسان كل شخص يعبر عن شخصيته، وإنّما نصدر أحكامنا على أيّ شخص عن طريق ما يصدر عنه من مصطلحات. ولغة الشخص في القول والكتابة وكيفية استخدامهما تعكس لنا أُسلوب تفكيره وذهنيته وفطرته وشخصيته. إنّ أسلوب الكلام لأيّ شخص واللغة التي يستخدمها، تظهر شخصيته بشكل لا إرادي، إلى الحد الذي يقول فيه شوبنهاور: بأنّ الأسلوب «يعبر عن ملامح تفكير الإنسان، وهو أكثر دقة من وجه الشخص وشكله لمعرفة خلقه وطبعه»([61]).
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه: ما المقصود باللغة المناسبة؟ الإجابة عن هذا التساؤل أمر مستصعب، ولا يمكن إعطاء قاعدة معينة يمكن من خلالها التمييز بدقة بين اللغة المناسبة واللغة الغير مناسبة في جميع الأحوال. ولكن من الممكن إعطاء بعض التوصيات التي يمكن من خلالها أن نطمئن إلى أنّ لغتنا هي لغة مناسبة، وذلك:
أ- الابتعاد عن الكلمات المهينة والكنايات.
ب- الابتعاد عن الأُسلوب الساخر: فميدان النقد ليس ميداناً لذكر اللطائف، أو الكتابة الفكاهية وتتبع مثالب الآخرين.
ج- استخدام اللغة المباشرة والصريحة: بعض الكلمات توصل المعنى في أغلب الأحوال إلى ذهن القارئ أو المستمع بصورة مباشرة وبدون أيّ إبهام؛ في حين أنّ بعض الكلمات الأُخر تتضمن معان ضمنية أُخرى بداخلها. وبسبب ما تنطوي عليه هذه المعاني من تنوع وسعة، لا يمكن التنبؤ بحضور أيّ منها في ذهن القارئ أو المستمع. وبهذا الصدد فقد ورد في بعض الكتب الإشارة إلى نوعين من اللغة: إحداهما اللغة المباشرة؛ والأخرى اللغة الضمنية أو التي لها معنى ضمني([62]). ومن الممكن أن تكون كل من هاتين اللغتين ملائمة للاستخدام. وعلى سبيل المثال، يجب استخدام اللغة المباشرة في الكتابات والمحاضرات العلمية والتقارير الرسمية، في حين قد تكون اللغة الضمنية هي الأنسب في الكتابات الساخرة والأساليب الوصفية.
وعلى أيّة حال، فإنّ الأخذ بمستويات اللغة واستخدام اللغة المناسبة والمباشرة في النقد، تظهر القدرة الفنية للناقد، ولطافة أُسلوبه من جهة، وتعكس التزامه الأخلاقي بالعمل الذي يؤديه من جهة أخرى.
د- الابتعاد عن المصطلحات البالية: بعض الكلمات من فرط استعمالها في مختلف المجالات تصبح بالتدريج كالعملة النقدية التي تفقد ملامحها على أثر الاستخدام المتكرر لها، ولا يمكن قراءة الكتابات الموجودة عليها، وبذلك تفقد معناها. وعندما تطرق أسماعنا مثل هذه الكلمات، نتمكن عن طريق الحدس والاحتمال والتصور الذي نحمله عن المتحدث، التوصل إلى المعنى المراد بها فقط، دون أن تخلو من الشكوك.
وعلى سبيل المثال، فإنّ بعض الأوصاف من قبيل: المحيّرة، الاستثنائية، المرعبة، الفريدة.. هذه المصطلحات لها من الاستخدامات الواسعة، والمتباينة، وحتى المتضادّة، بحيث لا يمكن البت بشكل قاطع أيّ معنى هو المقصود. وقبل أن يكون لهذه الكلمات بعد محدد من حيث المعنى، فلها أبعاد عاطفية كثيرة، وتبيّن بأنّ الناطق بها بصدد التعبير عن مشاعره وعواطفه الشديدة فقط. وقد يكون استخدام هذا النوع من الكلمات مسموحاً به فيما بين الأصدقاء والأحبة، ولكن لا يسمح إطلاقاً باستخدامها في مجال النقد، حيث المجال المفتوح أمام المزيد من سوء الفهم والتفسيرات السلبية.
وبعد التخلي عن هذه الابعاد العاطفية السلبية في الكلام، بإمكاننا أن نشعر بالتفاؤل من أنّ لغتنا أصبحت خالية من أسباب الإثارة، والأشواك المؤذية، ولا تزعج أحداً إلاّ ما ندر. وبناءً على ذلك، يمكن اعتبار اللغة المناسبة بأنّها اللغة المسالمة التي تهتم فقط بنقل وإيصال المعلومات بأقل نسبة ممكنة من التحريف. ومتى ما شعرنا بالإحراج حول ما إذا كانت لهجتنا ملائمة أو غير ملائمة، يكفي أن نفترض بأنّ الطرف الآخر سوف يتحدث معنا بنفس هذه اللهجة، ويوجه كلامه لنا؛ فلو وجدنا أن تلك اللهجة جارحة، يجب أن نقتنع بأنّ الأمر كذلك، وأن نفهم بأنّ الموت ـ وهو حقّ ـ يجب أن لا نتمناه لجيراننا فقط.
4 ـ الابتعاد عن الإطلاق في القول
يجب أن ننتبه إلى ضرورة الابتعاد عن أسلوب الإطلاق في الكلام عند ممارستنا للنقد. فلو كانت لدينا ملاحظات نقدية حول كتاب ما، يجب أن نحدد نقاط الضعف أو الفصول التي تحمل بعض الإشكاليات في الكتاب، بدلاً من القول بأنّ هذا الكتاب عديم الفائدة أو ضعيف. وهذه الرؤية تعكس دقة الناقد، وتمسّكه والتزامه الأخلاقي.
5 ـ تحديد المعايير
كل ناقد ينطلق من نقطة معينة، وينظر إلى المسألة من زاوية محددة، ويباشر النقد وفقاًً لمعايير خاصة. وهو بالتالي بشر له ذوقه ومزاجه الخاص به، ولهذا الذوق تأثير على الأحكام التي يصدرها الناقد. من هنا، فإنّ الناقد الذي يرى نفسه مسؤولاً من الناحية الأخلاقية أمام أقواله وكتاباته، يجب أن يوضح نقده بنقطتين أساسيتين له ولمخاطبيه:
الأُولى: أن يبيّن ما هي معايير تقييمه ونقده.
والثانية: ما هي حدود تدخل ذوقه في هذه القضية.
إن الاهتمام بهذين العنصرين يساهم في إزالة الكثير من الإبهامات. ويمكن إرجاع النقاط الخمس أعلاه، في الحقيقة، إلى مبدأين أساسيين:
الأول، طهارة ضمير الناقد.
والآخر، استخدام الأساليب المناسبة.
وبتعبير آخر، بداية يجب من الناحية الأخلاقية أن يكتسب الناقد الصلاحية. والثانية، أن يكون عارفاً بطبيعة روح الإنسان، وما ينطوي عليه من ظرافة؛ لكي يتمكن من أن يجعل نقده مؤثراً. فالشخص الذي يعيش حالة التعارض في داخله، ليس ناقداً جيداً. والشخص الذي لا يعرف مدى تحمل الأفراد والعصب الحساس فيهم، ليس ناقداً جيداً، والذي لا ينظر إلى النقد كأيّ فنّ من الفنون بحاجة إلى الدراسة والتعليم والمهارة، ليس ناقداً جيداً.
وعلى الرغم من كل المقدمات التي من الممكن أن يستخدمها الناقد، لربما هناك من الأفراد من يرى بأنّ النقد مُرّ. ولكن، هذه المرارة لا دخل لها بالناقد، إذ إنّ الحق طعمه مُرّ أيضاً، ولكنه مفيد: «إنّ الحق ثقيل مريء وإنّ الباطل خفيف وبيء»([63]).
إذن، يجب أن نعوّد أنفسنا على هذه المرارة، وأن نفضّلها على زلال الباطل؛ لأنّ «الحقيقة لا مناص من مرارتها، ومن هذه المرارة نحصل على السم القاتل للأذى والعداوة. ولكن معسول القول وإغماض الحقيقة أسوأ من تلك المرارة؛ لأنّ التبسم لأخطاء الصديق، يعني أن تراه على شفا جرفٍ هار ولا تمدّ له يد العون»([64]).
الهوامش
ملاحظة: لما كانت أغلب مصادر المقال فارسية، فإنّ تاريخ الاصدار أو الطبع بإزائها هو للسنة الهجرية الشمسية الفارسية، إلاّ ما كان مخصصاً بإزائه (م) للميلادي، و(ﻫ) للهجري القمري.
([1]) مرتضى المطهري، الهيات شفا (الإلهيات من الشفاء) 1: 182، انتشارات حكمت ـ طهران 1370.
([3]) السيد محمد حسين الطباطبائي، اصول الفلسفة وروش رئاليسم (أصول الفلسفة ومنهج الواقعية) 3: 189، شرح وتوضيح آية الله مطهري، انتشارات صدرا ـ طهران 1368.
([4]) مرتضى المطهري، علل گرايش به ماديگري (أسباب النزعة إلى المادية): 88، انتشارات صدرا ـ طهران 1372.
([9]) مرتضى المطهري، حركت وزمان در فلسفة اسلامي (الحركة والزمان في الفلسفة الإسلامية) 1: 25، انتشارات حكمت ـ طهران 1369.
([10]) حسن انوشه، ادبيات نقد در فرهنگ اسلامي (آداب النقد في الثقافة الإسلامية)، نامه فرهنك، السنة 12، العدد 44، صيف 1381، ص136.
([11]) حسن شهباز، سيري در بزرگترين كتاب هاى جهان (مطالعات في أضخم كتب العالم) 4: 401 ـ 402، نشر أمير كبير ـ طهران 1381.
([12]) لودويك ويتگنشتاين، پژوهش هاي فلسفي (أبحاث فلسفية): 26، ترجمة: فريدون فاطمي، نشر مركز ـ طهران 1380.
([13]) مصيبت نويسنده بودن (المصيبة في كونك كاتباً): 15، اختيار وترجمة: سيروس طاهباز، انتشارات به نگار ـ طهران 1368.
([14]) الملا محمد حسن القزويني، كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء (في علم الأخلاق): 19 المقدمة، مؤتمر الفاضلين النراقيين ـ قم، بدون تاريخ.
([15]) السيد حسن اسلامي، اخلاق نقد: 105ـ 112، نشر معارف ـ قم 1383؛ موانع نظرى توليد علم در حوزهاى علميه (المعوقات النظرية للإنتاج العلمي في الحوزات العلمية): 40، مقال ضمن مجموعة مقالات تحت عنوان: در آمدى بر آزاد انديشى ونظريه پردازى در علوم دينى (حصيلة الفكر الحر والنظريات الحديثة في العلوم الدينية): الدفتر الثاني، مركز إدارة الحوزة العلمية ـ قم 1384.
([18]) >وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً< (الإسراء: 36).
([19]) شمس الدين محمد بن قيس الرازي، المعجم في معايير أشعار العجم: 462، تصحيح: محمد بن عبد الوهاب القزويني، ومدرّس الرضوي، مكتبة زوار ـ طهران 1360.
([22]) كارل پوپر، اسطورة چارچوب: در دفاع از علم وعقلانيت (صياغة الأسطورة: في الدفاع عن العلم والعقلانية): 65ـ 66، ترجمة: علي پايا، انتشارات طرح نو ـ طهران 1379.
([26]) حسين معصومي الهمداني، پاسخ دندان شكن (الردّ القاطع)، مجلة نشر دانش، السنة 19، العدد 3، خريف 1381، ص7و8.
([28]) أحمد بن محمد المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 4: 320، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر ـ بيروت 1968م.
([31]) محمد إبراهيم باستاني پاريزي، خود مشت ومالي (اشتغل بتدليك نفسك أولاً):25، نشر نامك ـ طهران 1378.
([33]) صادق جلال العظم، حوار بلا ضفاف: 71، أجرى الحوار صقر أبو فخر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 1998م.
([37]) سيد حسن إسلامي، رؤياي خلوص؛ باز خواني مكتب تفكيك (أحلام النوايا الصادقة، إعادة قراءة للمدرسة التفكيكية): 322ـ 332، صحيفة خرد ـ قم 1383.
([38]) أحمد فرامرز قرا ملكي، اصول وفنون پژوهش در گستره دين پژوهي، (أُصول وفن البحث في إعادة نشر الدين) مركز إدارة الحوزه العلمية في قم 1383.
([39]) آينه پژوهش، السنة 13، العدد 76، ص87، المراد بذلك، القيام بنقل بعض العبارات التي أصبحت بمثابة (الكليشة) من كثرة تكرارها، ولا علاقة للأمر بكاتبها.
([46]) بهاء الدين خرمشاهي، آيين نقدكتاب، (أصول نقد الكتاب):12، نشر دانش، السنة4، العدد3، فروردين 1363.
([48]) للاطلاع على بعض هذه الأساليب غير الأخلاقيه في مواجهة الخصم راجع: سيد حسن اسلامي، مقال: در آمدي بر اخلاق مناظرة از ديدگاه اسلامي (المنافع العائدة على أخلاق المناظرة من وجهة نظر إسلامية): 160، مجموعة مقالات تحت عنوان: سنت گفت وگو مناظره با اديان ومذاهب (طريقة الحوار والمناظرة مع الأديان والمذاهب)، مركز إدارة الحوزة العلمية في قم 1384.
([50]) انظر موضوع السيد حسن اسلامي، آشتياني وسنت فلسفة ستيزي (الآشتياني ـ جلال الدين ـ وطريقة مواجهته لخصوم الفلسفة): 447، ضمن كتاب جلال حكمت وعرفان (جلال الحكمة والعرفان)، تحقيق وإعداد محمد جواد صاحبي، احياگران ـ قم 1384.
([51]) عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم: 442، مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم 1366.
([56]) إنجيل برنابا: 546، ترجمة: حيدر قلي سردار الكابلي، تنقيح جمشيد غلامي نهاد، نشر نيايش ـ طهران 1379.
([58]) لشك كولا كوفسكي، درس هايي در باب مقولاتي بزرگ (دروس في باب المقولات الكبيرة)، الدفتر الثالث: 45، ترجمة: روشن وزيري، انتشارات طرح نو ـ طهران 1381.
([60]) محمد علي اسلامي ندوشن، جام جهان بين (الكأس التي يُرى فيها العالم): 287، نشر جامي ـ طهران 1370.