د. مصطفى ملكيان(*)
تمهيد ــــــ
تطلق (القضايا الأخلاقية) على جملة من القضايا التي تتمتّع بخاصّية من ناحية محمولها وموضوعها، تمتاز بها عن قضايا الحقول المعرفية الأخرى. وتتمثل هذه الخاصية في أنّ محمول القضية الأخلاقية لا يخرج عن الأوصاف العشرة التالية: (الحسن والقبح)، و(الصحيح وغير الصحيح)، و(يجب ولا يجب)([1])، و(الوظيفة والمسؤولية)، و(الفضيلة والرذيلة). وبالتالي إذا لم يخرج محمول القضية عن الأوصاف العشرة السابقة، وكان الموضوع بكيفيةٍ سنشير إليها لاحقاً، فالقضية (أخلاقية). وقد أجمع علماء الأخلاق تقريباً، بعد تبادل الآراء المختلفة حول عدد المفاهيم الأخلاقية، على المفاهيم العشرة السابقة. وأمّا موضوع القضية الأخلاقية فهو محلّ اتفاق، وهو يتمثل في (الفعل الإنساني الإرادي والاختياري)([2]).
والجميع يعلم أنّ (الإرادة) غير (الاختيار) اصطلاحاً؛ فإنّها أعمّ من الاختيار، ولا يهمّنا هنا متى يكون الفعل الإرادي اختياراً أيضاً؟ فالفعل قد يكون إرادياً وفي نفس الوقت لا يكون اختيارياً، وقد يكون إرادياً واختيارياً قي نفس الوقت. وعلى أيّ حال إنّ موضوع القضية الأخلاقية هو الفعل الإنساني الإرادي والاختياري، ومحمولها هو أحد المفاهيم العشرة السابقة.
وتقسم الأفعال الأخلاقية التي تشكل موضوعاً لدراسات الأخلاق إلى (أفعال دخلانية) و(أفعال برّانية). وبيان ذلك: إنّ الأفعال الاختيارية لا تؤثر فقط على أجسامنا، بل تؤثر على أرواحنا وأنفسنا أيضاً، وهذا التأثير حقيقي. ومن الأفعال الاختيارية التي تؤثر في باطننا الأفعال النفسانية، وهي أفعال ترتبط بعالم المعرفة والإيمان، والتي تمثل بعض حالاتنا الباطنية التي تهمّ علم الأخلاق، أي إنّها تقع موضوعاً للأمر والنهي الأخلاقيين.
إذن ما هي العقائد التي تستحق أخلاقياً أن ندافع عنها؟ وما هي العقائد التي لا تستحق ذلك؟ وبعبارةٍ أخرى: ما هي العقائد التي يجب أن نؤمن بها؟ وما هي العقائد التي يجب أن لا نؤمن بها؟ وما هي العقائد التي يجب أن نرتّب عليها الآثار، والتي يجب أن لا نرتّب عليها الآثار؟
يعدّ (كليفورد) أوّل مفكّر التفت إلى هذا المطلب في كتابه (الأخلاق الإيمانية)؛ حيث بيّن هناك ما نقوله في ما يتصل بالأخلاق الإيمانية. وقد اشتهر الكتاب بعدها شهرة عظيمة، وخاصّة بعدما تناول الفيلسوف الأمريكي (وليام جيمز) أفكاره بالدراسة والنقد([3])؛ فقد قبل بعض أفكار (كليفورد)؛ ورفض بعضها. ولكن ينبئ اهتمام هذا الأخير بهذه المسألة عن أنّ أصل المطلب حظي باهتمامٍ شديد من مفكّري أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد أيّد (وليام جيمز) ـ كما يظهر ذلك من التحقيق الذي ألقاه في شكل محاضرة، وعالجه بعد ذلك بشكل مبسط في كتاب (الإرادة المائلة إلى الإيمان) ـ نظرية (كليفورد)؛ حيث بيَّن ـ هناك ـ أنّه ليس لنا الحقّ أخلاقياً أن نؤمن بأيّ معتقد كان. وقال في معرض بيانه لكيفية اهتمام الأخلاق بعالم المعرفة والذهن: إنّ الناس تقع على ذمتهم مسؤوليات ووظائف بمقدار ما يحملون من عناوين؛ فإذا أنا حملت عنوان الأبوّة تقع عليّ ـ من حيث أنا أب ـ مسؤوليات ووظائف خاصة، وإذا كنت رئيساً تقع على عاتقي مسؤوليات ووظائف تناسب موقعي هذا، وإذا كنت ابناً لأبوين تقع عليَّ مسؤولية البنوّة. وبالتالي تقع على ذمتي مسؤوليات ووظائف بعدد العناوين التي أحملها. ومن جملة العناوين التي يحملها الإنسان أنّه وجود مفكِّر، وبالتالي يقع على ذمته مسؤوليات أخلاقية أخرى تناسب هذا العنوان، يطلق عليها اسم (المسؤولية العقدية أو العقلانية)([4]). وقد اهتم كثير من الفلاسفة بهذه المسألة بعد (وليام جيمز)، وخاصّة علماء (نظرية المعرفة) في العشرية الأخيرة من القرن العشرين. فلا يمكن القول: إنّ عالم المعرفة عالم غائب عن الأخلاق طالما أنّنا مطالبون برعاية الضوابط الأخلاقية فيه؛ فإنّ عالم المعرفة يمثل ساحة من ساحات روحنا، يتصرف فيه الروح تصرفاً (فعلاً) إرادياً، فيتعيَّن عليه أن يراقب نفسه، هل راعى الضوابط الأخلاقية أم لا؟ وتمثِّل هذه المراقبة مسؤولية عقدية بذمتنا.
والسؤال: ماذا تقول الأخلاق في ما يتصل بالذهن، الفكر، العقيدة، والعلم([5])؟
والجواب: إنّ الأخلاق تفتي بأنّ مراعاة ضوابط المنطق و(الفكر النقدي)([6]) واجبة على المفكرين؛ بمعنى أنه إذا نقضنا قاعدة منطقية فنحن لم ننقض قاعدة منطقية فحَسْب، بل ارتكبنا جرماً أخلاقياً.
مثلاً: إذا ارتكبنا مغالطة منطقية، فنحن لم نستدلّ استدلالاً خاطئاً فحَسْب، بل ارتكبنا ـ مضافاً إلى الخطأ المنطقي ـ جرماً أخلاقياً. وبالتالي يجب على المفكرين أن يتعلموا (المنطق)، و(الفكر النقدي)، الذي يعد علماً عملياً أكثر من المنطق. فإذا خالف شخص قاعدة منطقية فإنّه لم يصدّ العلم عن مسار تطوره ـ وهذا مطلب ناظر إلى مقولة الواقع ـ فحَسْب، بل سدَّ الطريق على تطوّره المعنوي ـ وهذا المطلب ناظر إلى مقولة القيمة ـ أيضاً([7]).
والسؤال: هل نرتكب هذه الأخطاء أم لا؟ مع الأسف الشديد يجب أن نعترف بأنّنا في عالم الثقافة كثيراً ما نقع في أمثال هذه الأخطاء (المخالفات المنطقية والأخطاء التي تترتّب على الفكر النقدي). وباعتبار أنّنا نقع في أمثال هذه الأخطاء ونحن في كامل وعينا تتبدل هذه الأخطاء إلى أخطاء أخلاقية، وبالتالي نحن في الواقع نعاني من انحطاطٍ أخلاقي. نعم إذا ارتكبنا خللاً منطقياً عن غير وعي منّا فقد ارتكبنا مخالفة علمية فقط، ولكنْ إذا ارتكبنا هذا الخطأ بكامل وعينا فقد ارتكبنا جرماً أخلاقياً، بالإضافة إلى الخطأ العلمي.
وإذا واجهنا مدّعىً ـ أيّ مدعىً كان ـ فيجب علينا التفكيك بين أربعة مقامات، وأن لا نخلط بينها. فإذا ادعى أحدٌ أنّ (ا. ب)([8])، وأظهر هذه العقيدة لنا، فيتحتم علينا التفكيك بين أربعة مقامات؛ حتى يتيّسر لنا الحكم عليها:
الأوّل: ماذا حدث حتى اعتقد هذا المدّعي بتلك العقيدة (ا. ب)؟ أي البحث عن العلل والعوامل التي أفضت به إلى الاعتقاد بهذه القضية في ضميره.
ومن العلل التي توجد الاعتقاد في ذهن الإنسان الاستدلال؛ فإننا قد نعتقد بأنّ (ا. ب) من جهة الدليل؛ وقد يكون ذلك بدون دليل، كما في كثير من الموارد([9]).
الثاني: ما هي الدوافع أو الأسباب التي تجعل هذا الشخص الذي يحمل المعتقد (ا. ب) يظهر ما يعتقده، ولا يخفيه في باطنه؟ فإنّ الشخص قد تكون لديه آلاف المعتقدات في ذهنه، ولا يفكر في إظهارها كلّها([10]).
الثالث: العقيدة (ا. ب) التي تكوّنت بأيّ نحو من الأنحاء في ذهن صاحبها، وبأيّ دليل من الأدلة قبلها، هل تطابق الواقع أم لا؟ صادقة أم كاذبة؟ حقّ أم باطل؟
وإذا دقّقنا النظر فنجد أنّ المقام الأوّل والثاني يعكسان ارتباط المعتقد بالقضية، فيما يعكس المقام الثالث علاقة القضية بالواقع.
الرابع: ما هي الآثار النفسانية التي تعرض على مَنْ يعتقد بالقضية (ا. ب)؟ وما هي الآثار الاجتماعية التي تترتَّب جراء التزام أفراد المجتمع بمفاد هذه القضية؟
فالبحث ليس في صدق تلك القضية أو في كذبها، بل إذا اعتقد شخص بهذه القضية (مَنْ يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومَنْ يعمل مثقال ذرة شراً يره) فإنّه يعيش حياة سليمة، بخلاف مَنْ لم يعتقد بالقضية، أو يعتقد بنقيضها.
فمثلاً: جاء في القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾. وقد يبحث مرّة عن صدق هذه القضية القرآنية أو كذبها؛ ومرة يبحث عن أنّ الشخص الذي يعتقد أنّ الذهاب إلى الله تعالى ذهاب فرديّ، بدون الأهل والأقارب وما أشبه ذلك، تعرض له آثار نفسانية إيجابية جراء الاعتقاد بمفاد هذه القضية القرآنية أم تعرض له آثار سلبية؟ فالمقام الرابع يبحث عن الآثار الفردية والاجتماعية المترتّبة على الاعتقاد بمفاد قضيةٍ ما. وهذا البعد محلّ توجه علماء الاجتماع وأهل السياسة، الذين يولونه أهمية كبيرة.
ومن الضرورة التفكيك بين المقامات الأربعة بوصفها لا يجمعها جامعٌ واحد. ولا يمكن الاستفادة من مقام من المقامات الأربعة لصالح مقام آخر منها. وإذا اتّخذنا موقفاً من مقام من المقامات الأربعة فلا يعني أنّه قد انتهى تكليفنا في ما يتصل بالمقامات الأخرى، بل يحتاج كلّ مقام إلى اتّخاذ موقف خاصّ به([11]). فيجب على المحققين أن يلتفتوا إلى نكتةٍ، وهي أنّ اهتمامهم في تعاطيهم مع المطالب التي تجابههم ينصبّ في الأعمّ الأغلب على المقام الثالث، فإذا قال شخص: إنّ بحثي معك في المقام الثالث، وجنح سريعاً إلى المقام الثاني، فقد ارتكب خطأ أخلاقياً.
وإذا تأملنا في أكثر الاستدلالات المتداولة بيننا فقد نرى الشخص منّا يقول ـ في معرض تحليله لفكرٍ ما: (سأثبت صدق هذه الفكرة أو كذبها، أي حقّانية الفكرة أو بطلانها)، أي إنّه يدعي أنّه في المقام الثالث، ولكنّنا نراه يجنح فوراً إلى المقام الثاني أو الرابع. وهذه الممارسة تعدّ من أكبر آفاتنا الفكرية، والتي لو مارسناها بوعيٍ لشعرنا بظلمة باطنية في وجودنا. فيجب علينا توضيح ماذا نريد أن نقوله، فإذا أردنا أن نقول: إنّ المطلب باطل، وليس حقاً، فنحن في المقام الثالث. وبالتالي يتعيّن علينا حصر البحث على مستوى هذا المقام، ولا يمكن لنا البحث عن القصد الشخصي الذي أدّى بصاحبه إلى إظهاره، ولا يمكن لنا متابعة الآثار الاجتماعية الناتجة من رواج هذا المطلب([12]).
وقد تعرّض (وليام جيمز) في كتابه (الإرادة مائلة نحو الإيمان) إلى المسؤولية العقلانية والعقدية، وأثار بحثاً دقيقاً في ما يتصل بـ(الاحتياط في مقام العقيدة). فكما أننا نحتاط في مقام العمل كذلك ـ بلحاظٍ أخلاقي ـ نحتاط في مقام العقيدة. وهو يسأل: ما هو تكليفنا بوصفنا أناساً نفكر؟ ثم شقّق الموضوع إلى قسمين، وجعل حاصل الشقّين يمثل تكليف الإنسان المفكِّر. يقول: الاحتمال الأوّل يتمثل في أنّ تكليف الإنسان بوصفه موجوداً مفكراً هو أن يسير في حركته الفكرية بحيث لا يترك أيّ فكرة صادقة تفلت عن ذهنه، فإذن يجب على الإنسان أن يسير بطريقة تجعله لا يقبل إلاّ القضايا الصادقة.
وإذا قال قائلٌ: «تكليفنا الأساس هو أن نعمل على أن لا تفلت منّا قضية صادقة، وبالتالي: نجعل كلّ قضية صادقة جزءاً من عقائدنا وذخيرتنا العلمية»، يجيبه قائلاً: إذا كان الأمر كذلك فحينئذٍ يجب قبول العقائد المدعَّمة بالدليل وغير المشفوعة بالدليل أيضاً.
وأمّا الاحتمال الثاني فإنّنا بوصفنا مفكّرين مسؤولون عن عدم قبول أيّ عقيدة كاذبة، وبالتالي لا يجوز قبول ـ باستثناء القضايا الصادقة ـ أيّ قضية كاذبة أو قضية لم يسعفها الدليل؛ إذ يحتمل أن تكون كاذبة، فإذا لم نردّها فقد صدّقنا بقضية كاذبة.
ما نحصل عليه من التحليل السابق هو إذا كان مقتضى المسؤولية العقلانية أن لا نقبل إلاّ العقيدة الصادقة فيجب قبول العقيدة التي لم يقم عليها دليلٌ؛ إذ لعلها تكون صادقة، فتفلت حينئذٍ قضية صادقة من بين أيدينا. وإذا كان مقتضى المسؤولية العقلانية أن لا نقبل العقيدة الكاذبة فيجب ردّ كلّ عقيدة لم يقم عليها دليلٌ؛ وذلك لأنّ الاحتياط يقتضي أن نفعل ذلك؛ إذ من الممكن أن تكون تلك العقيدة كاذبة وغير مطابقة للواقع. يقول (وليام جيمز): المشكل هو أنّ المسؤولية العقلانية في الجمع بينهما؛ فإنّ الإنسان ـ بلحاظ أخلاقي ـ موظف أن يسير في حركته الفكرية والعلمية بطريقة تكفل له أوّلاً: أنّ لا يتخلى ـ بقدر الإمكان ـ عن أيّ عقيدة صادقة، وثانياً: أن لا يقبل أيّ عقيدة كاذبة. وإذا بنينا على هذا فإنّنا نواجه صعوبة، وهي ـ كما يصرّ على ذلك نفس (وليام جيمز) ـ أنّ العقائد المستدلّة قليلة جدّاً في مقابل العقائد غير المستدلّة. فالنتيجة هي أنّ (وليام جيمز) وصل؛ من خلال التفاصيل التي ذكرها، إلى هذه النكتة: لا يجوز للإنسان أن يقبل أو يرد العقائد التي لم يقم عليها دليل، بل يجب عليه أن يتوقّف، أي يجب عليه أن يعلِّق الحكم. وبعبارة أخرى: يجب عليه في هذه الحالة السكوت. ولا يجب عليه أن يسكت في مقام الإظهار فحَسْب، بل يجب عليه السكوت في مقام العمل أيضاً، فلا يحقّ للإنسان أخلاقياً أن يتصرّف بطريقة توحي بأنّه يعتقد بتلك العقيدة. وهذا لا ينافي حرية البيان والكلمة، فغاية ما في المسألة أنّ حرية البيان مقيّدة بقيدٍ أخلاقي، أو أن حرية البيان مستدلّة استدلالاً أخلاقياً؛ فالأخلاق لا تقتضي أن يكون كلّ واحد حرّاً في بيانه، بل الأخلاق تقتضي أنّ الشخص الذي يحمل عقيدة، ويملك دليلاً عليها، حرٌّ في بيانها وإظهارها. ومن خلال حرية البيان من جهة أخلاقية نستطيع أن ندافع عن هذا الحقّ الإنساني، أي إنّ كل إنسان يملك الدليل على كلامه له الحقّ في أن يظهره وينشره.
ما نلحظه في مجتمعاتنا أنّه ثمة شريحة ليست قليلة من الناس تعادي كل عقيدة، وتسعى بكل جهدها إلى منعها من الظهور، في حين أنّها قد تكون مشفوعة بالدليل، فلا يحقّ لنا القول: هذا الشخص له دليلٌ على ما يدَّعيه، ولكنّ دليله ضعيف؛ لأنّه من حقه إظهار دليله حتّى يتسنّى للآخرين تشخيص الضعف الذي ينطوي عليه دليله، ثم يردّونه. فلا يمكن لنا الاستدلال على منع حرية الكلمة بمجرد أنّنا فهمنا أنّ مخالفنا لا يمتلك دليلاً على ما يدّعيه، أو أنّ دليله ضعيف قابل للدفع. ومن جهةٍ أخرى يمكن أن نقع في التفريط في جهة العكس، أي أن نتصوّر أنّ حرية الكلمة تعني أنّ لكل شخص الحقّ في أن يقول ما يشاء، فهذا لا يمكن الالتزام به أخلاقياً.
أمّا النكتة التي لها أهمية من جهة أخلاقية فهي أنّه إذا لم نستطع أن نقنع الطرف المقابل بمفاد ما نعتقده فلا يجوز لنا أن ننتظر منه أن يلتزم عملياً بما نعتقده. فإذا طرحنا عقيدة من العقائد عارية عن الدليل، أو مقرونة بدليلٍ غير تامّ عند المخالف، فتوقُّعنا من مخالفنا أن يلتزم عملياً بمفاد ما نعتقده توقّع غير أخلاقي. وأمّا إذا استدللنا على مفاد ما نعتقده ـ والمخالف لا يملك ردّاً على الدليل ـ فقد تحقّق الشرط للعمل بمقتضى العقيدة، لكنّه ليس شرطاً كافياً؛ فإنّ الشرط الكافي مرتبط بالحقوق، ولكنّنا نتوقّع أن يلتزم بمفاد عقيدتنا. وأمّا ما لم نسعف عقيدتنا بدليلٍ، أو ردّ المخالف دليلنا، فكيف يعقل منا أن ننتظر منه أن يلتزم عملياً بمفاد ما نعتقده؟! فانتظارنا هذا عمل غير أخلاقي. ففي حالة غياب الاستدلال يخلو الجو للخشونة، وبتعبير (برتراند راسل): إذا أردت منك أن تعيش مثل ما أريد أن أعيش أنا، أو تعيش كما يناسب ميلي أنا، فأوّلاً: يجب أن أستفيد في مخاطبتك من قوّة الإقناع؛ يعني: أقنعك بأنّ (ا. ب)، والاستفادة من قوّة الاستدلال لأجل إقناع الغير بما أعتقد. فإذا وظّفنا جميع طاقتنا الاستدلالية، واستخدمنا قوانا لإقناع الآخرين، فسيتيّسر لنا بعدها إقناع شريحة كبيرة من المجتمع بما نعتقده من الحقّ، وربما تبقى شرذمة قليلة لا يؤثّر فيها ما نعرضه عليها، ولا تقتنع بما نعتقد به.
ويمكن لنا الاستفادة من القوى المحرّكة والموجدة للداعي والقصد في قلوب الناس، أي القوى التي تشبه (اللطف) الذي يوظِّفه المتكلِّمون في باب العقائد؛ لإثبات ارتباط الإنسان بالله تعالى. وتتمثّل هذه القوى المحرّكة في إيجاد شرائط في المجتمع تقرب الناس إلى الالتزام بما نراه نحن حقّاً. ولكنْ تبقى مع هذا شرذمة قليلة من الناس لا تؤثّر فيها هذه الآليات، فعندئذٍ نضطر إلى اللجوء إلى القوة الثالثة القامعة، المتمثّلة في (النظام القضائي) والسجن وما أشبه ذلك. ولكن مقتضى الأخلاق أن نسير وفق هذا المسار، وهو أن نوظّف قوى الاستدلال والإقناع، واستخدام القوى التي تمكّننا إثارة الداعي في قلوب الناس، ثم نلجأ في نهاية المطاف إلى وسائل الردع، كآخر حلٍّ لذلك (ولا نوظّف وسائل القمع منذ البداية).
أمّا المطلب الثالث الذي يحتلّ مكانة مهمة في عالم الفكر فهو أنّ الفكر لا يخضع إلى عامل الزمان والمكان. فإظهار الفكر (المقام الثاني)، سواء كان مطروحاً في الزمان القديم أو في الزمان الجديد، في الشرق أو في الغرب، كلّ هذا لا يهمّ كثيراً. وما هو خلاف الأخلاق هو أنّه حين نواجه نظريةً أو فكرة ما نقول: هذه فكرة قديمة أو حديثة، غربية أو شرقية، أي إنّنا وضعنا زمان ظهور الفكرة أو مكان بروزها محلّ الاستدلال عليها.
الهوامش
(*) محاضرةٌ ألقاها د. مصطفى ملكيان، وهو أستاذٌ بارز في الحوزة والجامعة، ومفكِّرٌ معروف.
([1]) (يجب ولا يجب) الأخلاقيين في مقابل (يجب ولا يجب) القانونيين، وما شابه ذلك.
([2]) لا نريد الخوض في مفهوم الفعل؛ فإنّ فلسفة الفعل تعدّ من المباحث المهمة، منها: مثلاً: ما هو الفعل؟ فيمَ يفرق الفعل عن الحركة الطبيعية؟ متى يصح الإعلان بأنّ الفعل في حال الصدور؟ متى يصحّ القول بأنّ الحركة الطبيعيّة في حال صدور؟
([3]) وذلك بعد فترة وجيزة من انتشارها.
([4]) العقدية من العقيدة، لا من العقد.
([5]) هذه المفردات متفاوتة فيما بينها، في عين كونها مرتبطة، لكنْ نستخدمها في هذه المحاضرة بمعنى واحد.
([6]) علم جديد يدرس في المعاهد الغربية على مستوى جميع التخصُّصات بدون استثناء، ويعالج آليات الحوار والنقد التي تسلّط على النتاج الفكري والابتكارات العلمية.
([7]) في الحقيقة ارتكب ذنباً دينياً، مضافاً إلى الخطأ الفكري والمنطقي.
([8]) بعنوان أنّها عقيدة من العقائد.
([9]) يقع هذا المطلب موضوعاً لأبحاث علم النفس المعرفي وعلم الاجتماع المعرفي. والبحث وإنْ قيل فيه الكثير منذ وليام جيمز لكنّه ما زال إلى اليوم محلاًّ للمناقشة.
([10]) يطرح هذا البحث كذلك في علم النفس.
([11]) ثمّة استقلال عجيب بين المقامات الأربعة، وإنْ كان بينها ارتباطٌ ما، لكنْ في ضمن الاستقلالية التامّة بينها.
([12]) لا نقصد من الكلام عدم جواز البحث عن هذه الأمور، بل المقصود هو أنّه إذا أردنا البحث عنها فيجب التصريح بأنّنا في المقام الرابع.