نزلت هذه العبارة كجزء من آية تصف رجلا من بني إسرائيل، كانت تحيطه المعارف الإلهية كإحاطة الجلد إلى البدن، فكان يعيش ببدنه في الأرض وروحه محلقة مع السماء وقيمها وقوانيها، لكنه أخلد إلى الأرض فانسلخت عنه تلك المعارف الربانية لاتباعه الهوى.
وكلمة (أخلد) من (الإِخلاد) وهي تعني السكن الدائم في مكان واحد مع حرية الإِرادة، فجملة (أخلد إلى الأرض) تعني اللصوق الدائم بالأرض، وهي كناية عن عالم المادة وبهارجها، واللذائذ غير المشروعة للحياة المادية. كما يذكر ذلك في تفسير الأمثل.
وهنا نكتتان:
الأولى: أن العلم لا يرتقي بالإنسان كما يجب إلا مع تزكية النفس وتهذيبها والإقلاع عن كل ما من شأنه جلب اللذة الغير مشروعة لها.
ولذلك هناك فرق بين العلم والمعرفة، فالأول قد لا يتعدى كونه معلومات لا تؤثر في قرب وبعد الإنسان من الله، بل قد تكون سببا في تحويله إلى سلطة بيد صاحبه يستخدمها في تمكين هواه وملذاته الغير مشروعة.
بينما الثاني أي المعرفة، فهي اندماج للعلم مع التزكية والتهذيب، وبالتالي ارتقاء في سلم الكمال والقرب، وتعميق في خلال السير إلى الله لتلك المعارف ورفد التفس بمزيد من التقوى والخضوع لله. ومن زادت معارفه زادت عواطفه .
الثانية: الإخلاد الذي يعني الديمومة على نمط واحد مع امتلاك الإرادة للتغيير. وهنا قد تكون الديمومة في السكن في بيئة معينه رغم بعدها عن الله، أو في بلد معين رغم ظلم وجبروت حاكمه، أو في نمط فكري واحد أو قالب حياة واحد أو … الخ.
فقد اعتقد بمجموعة معتقدات وأخلد لها دون أدنى محاولة للمراجعة، بل تتحول لعصبية تميل بهوى النفس على هوى الله، وينطبق هذا أيضا على الأفكار، وكل ما يمكن أن يتحول إلى نمط واحد لا يتغير أو يتطور.
والإخلاد للدنيا وحب البقاء فيها أيضا ينطبق عليها كفكرة معنى الآية، لذلك نجد خوفا من فكرة الموت، لأنها فكرة ثورية تغييرية تدخلك في عالم غامض على فهمك وإدراكك، وتنقلك لتجربة أخرى تتطلع من خلالها على الواقع كما هو، وتصبح فيها أكثر قربا من الله.
فالموت للمؤمن عبور وقرب وتخلص من مشقات الدنيا، ورغم ذلك لا نستسيغه لأننها أخلدنا للدنيا ونمطها واعتدنا العيش بأسلوب واحد داخلها، ولم نسع حتى لتغيير واقعنا أو خوض تجربة جديدة نطور بها من سلوكنا وتجربتنا وخبرتنا في الحياة.
فإن وقع الموت علينا ونحن في سعي دائم للكمال و لتغيير الواقع للأفضل، فإن الروح ستعتاد هذا التغيير والانتقال، بالتالي حينما تنتقل لعالم جديد، ستعتبره انكشاف لواقع آخر، وبالتالي خوض تجربة جديدة تتكامل فيها الروح وتتراكم خبراتها بل قد تكتمل في ذلك العالم.
فالعيش بنمط واحد والخوف من التغيير الذي يعيشه الفرد، يؤسس لفكرة الخلود إلى الأرض أكثر، ويعمق حالة الخوف من الموت.
بالتالي يقتل في النفس إرادة التغيير والتطوير واكتساب خبرات جديدة، والاطلاع على تجارب بشرية جديدة.
فالانتقال من هذه الدار إلى دار أخرى، هي فكرة بذاتها ثورية كونها تنقل الإنسان من واقع اعتاده إلى واقع أكثر سعة وحقيقة بل وصدقا.
وهذه الفكرة الثورية تجعل الإنسان دوما في حالة تأهب، وترقب ومحاولات تغيير وعدم الركون لنمط حياة ونمط أفكار واحد، وهذا لا يعني هدم الثوابت، بل يعني تثويرها وتعميقها ومحاولة السير في طريق تكامل المعارف وكمالها.
إن الإخلاد هو نوع من النمطية الرتيبة، التي ترسخ في دواخلنا الخوف من كل شيء خارج هذا النمط.
بينما السعي للكمال والتكامل هو غاية وجودية تتطلب ثقافة الخروج الدائم من الأنماط كافة، لا بهدم الثوابت وإنما بتعميقها وتكاملها والسير بها نحو كمالها اللائق بها، من حيث فهمنا وتطبيقنا لها في هذه الدنيا.
خلاصة:
رفض النمطية والتدجين، ومحاولة النهوض وتغيير الواقع، والغربلة والمراجعة والمراكمة، والنقد البناء لأجل البناء وتقريم المسير كلها أنماط سلوكية مطلوبة، وعنوانها ثقافة الخروج، حتى لا نعتادعلى الدنيا، ونتقبل فكرة الموت كخطوة تغييرية تخرجنا من ثقافة الدنيا الضيقة إلى سعة أرحب حيث ينكشف في ذلك العالم لنا الواقع كما هو فيزداد إدراكنا وكمالنا.
اعبر نحو برزخك بعدم الإخلاد للدنيا، واخرج نحو الأزل. ففطرنا على الكمال وهو ما يتطلب حركة تصاعدية تغييرية لا إخلاد فيها.