أحدث المقالات

دراسة مقارنة بين القصص القرآني والقصّة الكلاسيكية والحديثة

المقدمة ـــــــ

يتلخّص المدار الرئيس الذي يدور فيه بحثنا الحاضر في السؤال: على أيّ نوع من أنواع القصّة يصنّف القصصُ القرآني؟ لن أدّعي هنا الإجابة عن هذا السؤال بنحو يُرضي الباحثين كافّة، لا سيما الباحثين ذوي المعرفة والاطلاع الكافي على القصص القرآني، والخبيرين بالبحوث النظرية للأدب القصصي.

ربما كان الأفضل القول: إنّني أعتزم ـ في بحثي هذا ـ شرح أسس السؤال وأبعاده المختلفة، وأخال أنني إذا استطعت تحليل السؤال بنحو جليّ، فلن يُعدّ عدم الإجابة نقصاً عظيماً يحسُن التكتّم عليه، بل لقد تركتُ ـ عن قصد ـ نهايات القضايا مفتوحةً حتى ينحت كلّ قارئ ما يروقه من إجابات بحسب المقدمات التي يُطالعها في هذا البحث وما تتركه من انطباعات في ذهنه، ولا أشعر هنا بقلق حيال أن تأتي الإجابات متباينةً في ضوء تباين القرّاء ورؤاهم.

المقدّمات والفرضيات البنيوية ـــــــ

1 ـ لا جدال في وجود صنف أدبي معاصر يسمّى القصة؛ فظاهرة القصّة والرواية نوعٌ معروف بين صنوف الأدب والفنّ المختلفة، وبالمقدور تميّزها بوضوح عن سائر الأنواع الأدبية والفنية كالشعر، والسناريو، والمسرحية، والمقطوعة الأدبية و..

ونستطيع ملاحظة تصنيفات شتّى لأنواع القصّة، فثمّة في كتب التنظير للأدب القصصي تصنيفُ القصة إلى قصة قصيرة وطويلة ورواية، وتبويب الرواية إلى كلاسيكية وحداثية وما بعد الحداثية، وتقسيم الرواية إلى مغامراتية، وشخصانية، وتاريخية، وفكرية و.. وتصنيف القصص بنحو عام إلى قصص ترفيهية وتحليلية([1]).

ومما لا يتسنّى إنكاره وجودُ العديد من الكتب ناقشت القضايا النظرية في الأدب القصصي وتحدّثت عن القصة والرواية بالتفصيل، هذا على الرغم من عدم وجود أدوات وعناصر وتعاريف تأسيسية نهائية في حقل الأدب القصصي يسلِّم لها جميع الباحثين والمهتمّين؛ فبالنسبة لمعظم هذه التعاريف، لا تتوفر لحدّ الآن معايير محدّدة تميّز الخطأ من الصواب، وتوزع التعاريف إلى فئتين صائبة وأخرى مغلوطة. إن مثل هذه المعايير غير متوفرة في الوقت الحاضر لا بالنسبة للشكل الإجمالي للقضية ولا بالنسبة لأجزائها وتفاصيلها، لا بخصوص التعاريف العامة للقصّة والرواية، ولا فيما يتصل بعناصرها التفصيلية كتحوّل الشخصية، ونقطة العطف، والنقلة، والمشهد، والحادثة وغير ذلك؛ وحتى أوضح الأمور وأكثرها بداهةً كحجم الرواية، وتعدّد الشخصيات وتحولها في القصّة الطويلة والرواية، لا تخضع لأيّة معايير حاسمة يتفق عليها الجميع([2]).

ما نعلمه فقط هو وجود شيء اسمه القصّة والرواية يصوغ الباحثون لها أدوات وعناصر وتعاريف.. تعاريف تشبه ما في الأنواع الأدبية والفنية الأخرى من حيث إنها تضرب بجذورها في تقضي أعمال عظماء ذلك الفن، وتستمدّ رصيدها من عمليات التذوق المباشرة، وليس من نحت التعاريف وإبرام تعاقدات حاسمة مسبقة.

2 ـ لا ريب في ظاهرة اسمها: القصص القرآني؛ تشهد لذلك الكتب العديد المشتملة على القصص القرآني أو على بحوث نظرية حولها، ويصل عدد هذه الكتب إلى أكثر من مائة كتاب([3]).

نلاحظ في كثير من سور القرآن رواية قصّة بتمامها أو جزءٍ من قصة؛ فبعض السور ـ كسورتي يوسف ونوح ـ تمثل من بدايتها إلى نهايتها قصّةً تدور أحداثها حول محور شخصية واحدة، أما قصص شخصيات أخرى كالنبي موسى أو عيسى فتتوزع على سور عدّة.

من ناحية أخرى، وردت كلمات من جذر (قصص) بشتى صيغ الإسم والفعل 27 مرةً في القرآن، ورغم أن كلمة: قصّة، لم تذكر في القرآن، إلا أنّ واقعية القَصَص القرآني فضلاً عن تأسيسها للكثير من المؤلّفات، كانت مصدراً حتى لتأليف تفاسير قصصيّة للقرآن، منها على سبيل المثال تفسير السورآبادي لأبي بكر عتيق النيشابوري، وتفسير كشف الأسرار وعدة الأبرار لرشيد الدين الميبدي، وقصص الأنبياء لأبي إسحاق خلف النيشابوري، وهي تفاسير قرآنية تركّز على الطابع القصصي في القرآن.

وردت كلمة (قصص) 7 مرات في القرآن الكريم، كلّها على شاكلة كلمة (سَفَر)، وبصيغة المصدر، أي بمعنى متابعة الشخص والجري وراءه، واتّباع الأثر، والتقصّي، فكلمة قصص تعني في الاصطلاح ـ مضافاً إلى معناها اللغوي المصدري ـ القصّة والحكاية. ومعظم اشتقاقات هذه المفردة في القرآن الكريم جاءت بصيغ فعلية (نقصُّ، فاقصص، قصّي و..) ويمكن أخذها بمعنى التقصّي واتّباع الأثر([4]).

3 ـ على أيّ الأنواع القصصية المعروفة عصرياً تُصنّف القِصص القرآنية ومع أيّها تختلف؟ مع أيها ترتبط بعلاقة عموم وخصوص من وجه أو عموم وخصوص مطلق؟ وهل للقصص القرآني أساساً صلةٌ بالقصّة العصرية أم أنها ظاهرة أخرى ونوع مختلف؟ هل ثمّة في القصص القرآني عناصر القصّة المعاصرة وأدواتها ومستلزماتها، من قبيل بناء الشخصيات، الوصف، المشهد، الفعل القصصي، الرواية، التلخيص، الحوار، النثر القصصي، الصياغة، عنصر الشدّ والجاذبية، النقلة، الشخصية الرئيسية، الشخصية الفرعية، العقدة، التضاد، الإدهاش والإثارة، البطولة، البطولة السلبية، العطف، التحوّل، الحركية، الحادثة، المفصلية، الفكر، الرمز، القوالب المسبقة (الكليشات)، الشعارات، التعبير المباشر، انسيابية الذهن، الواقعية السحرية..؟ وهل ثمّة قواسم مشتركة ملفتة بين القصص القرآني والقصّة المعاصرة؟ ما هي أوجه الاختلاف البارزة بين الظاهرتين؟ هل أوجه الاشتراك ـ إن وجدت ـ بالمستوى الذي يجعل القصص القرآني نوعاً من أنواع القصص الحديثة؟ وهل أوجه الافتراق ـ إن وجدت ـ بالمقدار الذي يُقصي القصص القرآني ـ بالنظر لتعريف القصّة في العصر الراهن ـ عن دائرة الفنّ القصصي جذرياً؟ ونسأل في النهاية: ما هي أوجه الاشتراك والافتراق بين القصص القرآني والقصّة المعاصرة تحديداً؟ وما الرؤية أو الحكم الذي يمكن استخلاصه من هذه المشتركات والافتراقات؟

أ: القواسم المشتركة بين القصص القرآني والقصة المعاصرة
والرواية الكلاسيكية ـــــــ

1 ـ بناء الشخصيات:

إنّ التحولات التي تطرأ على الشخصية ـ والتي تكفل حركة القصة ـ عنصر يمكن ملاحظته في القصص القرآني أيضاً، كذلك تلاحظ فيها ظاهرة الاستعانة بشخصيات فرعية بغية مزيد من الإجلاء للشخصية الرئيسية المحورية في نماذج عديدة، ويمكن أن نضيف إلى ذلك عدم تطرّف الشخصيات أو عدم إطلاقها في القصص القرآني، وكذلك تعريف وعرض الشخصيات بأسلوب البيان المباشر، والتعبير عن سمات كلّ شخصية من خلال الفعل القصصي أو الحوار أو سائر الأساليب التعبيرية غير المباشرة.

1 ـ 1 ـ فيما يتعلق بالشخصيات الأصلية والفرعية، نشير إلى بعض الحالات بوصفها مجرّد نماذج:

أ ـ شخصية رئيسية: يوسف. شخصيات فرعية: يعقوب، أخوة يوسف، أخوه الأصغر، عزيز مصر، ملك مصر، زوجة العزيز، نسوة مصر، السجينان..

ب ـ شخصية رئيسية: موسى. شخصيات فرعية: والدة موسى، أخت موسى، زوجة فرعون، هارون، رجلٌ من شيعة موسى، السامري، المقتول، شعيب، ابنتا شعيب..

ج ـ شخصية رئيسية: إبراهيم. شخصيات فرعية: والد إبراهيم (أو عمّه)، إسماعيل، هاجر، سارة، نمرود..

د ـ شخصية رئيسية: آدم. شخصيات فرعية: حواء، هابيل، قابيل، الملائكة..

وقد تتحوّل بعض الشخصيات الفرعية إلى شخصية رئيسية، كيعقوب مثلاً، أو إسماعيل، أو فرعون.. وفي هذه الحال ستمارس شخصيات فرعية أخرى دورها في تكوين هذه الشخصيات الرئيسية الجديدة ورسم ملامحها.

وليست قليلةً الشخصيات الرئيسية التي سرد القرآن قصصها، وللمثال يمكن تسليط الضوء على الرسول الأكرم، عيسى، مريم، الخضر، نوح، يونس، زكريا، هود، صالح، العزيز، فرعون، ونمرود.

1 ـ 2 ـ فيما يخصّ الحالة الرمادية أيضاً ـ حالة عدم الإطلاق والوسطية بين الإيجابية المطلقة والسلبية المطلقة ـ ثمة نماذج جدّ ناصعة في القرآن الكريم، نشير أدناه إلى بعضها:

أ ـ يوسف:> اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ<(يوسف: 42)، الرجاء من رفيقه في السجن أن يذكره بخير عند الملك، ما يدلّ على عدم الإطلاق في شخصية يوسف.

ب ـ يوسف: >رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ<(يوسف: 33)، التنبيه إلى القدرة الإلهية المطلقة وإمكانية أن ينجو يوسف بفضل من الله وقدرته دون أن ينجرف إلى فساد أو يكون مضطراً لدخول السجن، وبالتالي جنوحه إلى السجن تفضيلاً له على الانزلاق إلى هاوية الرذيلة.

ج ـ يعقوب: >وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ<، جزعَ لفراق ولده جزعاً وبكى بكاءً ابيضّت له عيناه وعميت.

د ـ أخو يوسف: >لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ< (يوسف: 10)؛ فالحيرة بين الإيمان والنفاق، وتباين أحد الإخوة عن الباقين كما يظهر في منعهم أن يقتلوا يوسف.

هـ ـ موسى: نكثه العهد ثلاث مرات أثناء صحبته للعبد الصالح (الكهف: 65 ـ 82).

و ـ موسى: >خُذْهَا وَلا تَخَفْ< (طه: 21)؛ حيث تنقلب العصا إلى ثعبان؛ فيرتعب موسى للحظات ويتراجع إلى الوراء.

ز ـ موسى: >فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ< (القصص: 21)؛ حالة الخوف من الآخرين والخروج خفيةً من المدينة.

ح ـ موسى: >يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي<، الغضب الشديد حيال انحراف الأمّة وعدم توفيق أخيه هارون، والتحامل عليه بشدّة.

ط ـ إبراهيم: >أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي< (البقرة: 260)، يطالب إبراهيم بشواهد ملموسة ليطمئن قلبه.

ي ـ إبراهيم: >هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ< (الأنعام: 76)، يغيّر رأيه إثر أفول النجم.

ق ـ مريم: >يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً< (مريم: 23)، تتمنى مريمُ الموت نتيجة ضغوط الامتحان الإلهي وهوله.

ومن الضروري هنا الإلماح إلى نقطة على جانب كبير من الأهمية، تتمثل في أنّ معتقدات إسلامية صائبة قد تتناقض مع بعض النماذج المذكورة في الفقرة 2 ـ 1 تحت عنوان الحالة الرمادية، وما نسب فيها لشخصيات كبرى كأنبياء الله العظام، فهذه النماذج إذاً مرفوضة من الزاوية العقيدية، ولا ريب أننا أيضاً على مستوى العقيدة نلتزم ونؤمن بهذه التعاليم والأفكار، وما جاء في هذه النماذج يشير إلى ظاهر هذه الشخصيات من منظور قصصي بحت، وحسب ظواهر أقوالهم وسلوكهم؛ حيث يمكن رصد قواسم مشتركة ظاهرية لهم مع شخصيات القصص والروايات الكلاسيكية، وليس هناك أيّ إصرار على إلصاق هذا الطابع الرمادي بتلك الشخصيات الإيمانية الكبرى.

3 ـ 1 ـ تعريف الشخصيات بأسلوبي: البيان المباشر وغير المباشر (التأشير) ([5])، إذ يمكن مشاهدة كلا الأسلوبين في تعريف الشخصيات القصصية في القرآن الكريم؛ وهذه بعض النماذج:

أ ـ تعاريف مباشرة ليوسف: مستجاب الدعوة، من أتباع دين إبراهيم، له مقام كريم، حكيم وعالم ومدبّر.

ب ـ تعاريف غير مباشرة (التأشير إلى مميزاته الشخصية من خلال حواراته وحوارات الآخرين حوله، والأفعال القصصية وغير ذلك من المشاهد التي من شأنها التعريف)، يوسف عالم، يدل على ذلك مشهد تفسيره لأحلام صاحبيه في السجن وإرساله القميص إلى والده. ويوسف جميل؛ عبر مشهد تقطيع النسوة أيديهنّ حينما رأينه. ويوسف حكيمٌ في أقواله؛ وذلك من خلال بدئه بتفسير حلم السجين الذي سينجو قبل صاحبه الذي سيهلك. ويوسف ذو تفكير طبيعي مألوف وليس غيبيّاً ما ورائياً؛ وذلك من خلال اختياره السجن على الفساد. ويوسف نبي من أنبياء الله؛ تدلّ على ذلك حواراته مع رفاق سجنه.

وهناك موسى أيضاً؛ فهو قويّ البُنية؛ لأنه قتل رجلاً بمجرّد أن ضربه. وهو حادّ المزاج؛ يقبض على لحية أخيه هارون ويصرخ في وجهه.

وكذا يعقوب عليمٌ بتأويل الأحلام وتفسيرها؛ حين يعلّق على حُلم ابنه يوسف موصياً إياه بأن لا يقصّه على إخوته. كما أنّه متريّث وبعيد النظر؛ حيث يوصي أبناءه أن لا يدخلوا من بابٍ واحد، بل من أبواب شتى.

إنّ مواطن الاشتراك بين قصص القرآن الكريم والقصّة المعاصرة من زاوية ما يتعلّق بالشخصيات القصصية (رئيسية وفرعية، التحولات التي تطرأ على الشخصيات، رمادية الشخصيات، تعريف الشخصيات بأسلوب مباشر حيناً أو عن طريق الأفعال القصصية والحوارات وسائر مشاهد التعريف غير المباشر أحياناً أخرى) أوسع بكثير ممّا عرضناه بخصوص يوسف ويعقوب وموسى، بل إنّ هذا العنوان بحدّ ذاته (الشخصيات القصصية) يمكن أن يكون موضوع دراسة تفصيلية مستقلّة.

2 ـ العقدة:

من العناصر المشتركة بين القصّة المعاصرة والقصص القرآني اشتمالهما على عنصر العقدة، ويمكن لاستخدام عنصر العقد المساعَدَةَ بنحو كبير على تمتين بناء القصّة ومضاعفة جاذبيّتها، ومع أنّ اللجوء إلى العقدة لا يعدّ شرطاً لازماً ولا كافياً لجعل القصة شيّقةً ماتعة، إلاّ أن وجودها يمكن أن يسبغ على القصّة جاذبية وشدّاً كبيرين؛ وحالات العقدة في القصص القرآني كثيرةٌ جداً، وهذه بعض الأمثلة: هل ينجو يوسف من البئر؟ وهل ينجو من السجن؟ هل يستجيب لنزوات زليخا؟ هل يستعيد يعقوب ابنه المفقود؟ هل سيكون بمستطاع يوسف إدارة البلاد؟ هل سيُقتل موسى كسائر المولودين الذكور؟ هل يتحوّل الصندوق الذي يحمل موسى على الماء إلى تابوته؟ دخول العدو الأكبر لفرعون إلى قصر فرعون ـ وهو طفل صغير ـ هل سيكون من قبيل وقوع الصيد بيد الصياد؟ هل يلقي القبض على موسى وهو يهرب من أنصار فرعون؟ هل يستطيع موسى الانتصار على السحرة؟ هل يُقبض على إبراهيم بعد تحطيمه الأصنام؟ هل سيحترق في النار؟ هل يبقى إبراهيم على اعتقاده بألوهية القمر والنجوم والشمس؟ هل تنجو زوجة إبراهيم من تلك الصحراء القاحلة؟ هل.. هل..

وكما يُلاحظ، فإنّ قائمة هذه العُقد قد تطول جداً إذا أردنا الاسترسال فيها، لذلك نكتفي بهذه النماذج مع العلم أنّ ثمّة الكثير غيرها في قصص عيسى، ويونس، ونوح، ومريم و..

3 ـ عنصر الإثارة:

من المشتركات الأخرى بين قصص القرآن الكريم والقصّة المعاصرة، يمكن الإشارة إلى عنصر الإثارة أو الدهشة، نلاحظ في القصّة المعاصرة ـ بما في ذلك القصص الواقعية (real) التي تنتهج المنطق الواقعي المألوف ـ وقوع أحداث غير متوقعة، ومصادفات عجيبة مذهلة، وخوارق لا تصدّق، ومعاجز وغير ذلك من الأحوال والأحداث المدهشة التي تحبس بعضُها الأنفاسَ في الصدور، وتعدّ من أبرز أدوات الجاذبية والشدّ القصصي، ولا شك أنّ استخدام عنصر الإثارة مشهودٌ بنسبة أكبر في القصص السوريالية (ما فوق الواقعية) والعلمية، والخيالية، والسحرية و.. وطبعاً، لا يمكن أن نتوقع استخداماً مكثفاً من قبل القرآن لمثل هذا العنصر، ومع ذلك نشير فيما يلي إلى نماذج مثيرة وردت في القصص القرآني:

رائحة قميص يوسف وتأثيرها في شفاء والده من العمى. وصول رائحة قميص الابن إلى مشامّ الوالد عن بُعد مسافات شاسعة. تحوّل العصا إلى ثعبان. عصا موسى تبتلع سحر السحرة. إحياء الأموات بأنفاس عيسى. نوم عددٍ من الفتيان في الغار مدة 309 سنوات. نوم عزير لمائة عام وموت دابّته وبقاء طعامه طازجاً لم يفسد. انشطار نهر النيل العظيم وجفاف قاعه بصورة مؤقّتة. يونس في بطن الحوت. ولادة عيسى من أمّه دون أب. امتداد العمر بالنبي نوح إلى أكثر من ألف عام. تجلّي الله في الطور وإصداره الدساتير العشر بنحو خارق. قيادة أعظم تيارات الهداية في التاريخ من قبل رجل أمّي. تكلّم النبي عيسى في المهد. صيام السيدة مريم صمتاً. غرق الأرض كلّها تحت الماء وموت كلّ سكانها باستثناء ركّاب سفينة معينة. عدم احتراق إبراهيم في النار. تحدّث العجل الذهبي المنحوت.

4 ـ عنصر الحب والعاطفة:

يمكن اعتبار الحبّ العنصرَ الملاصق لكلّ الروايات الكلاسيكية والمعاصرة، إنّه العنصر الحاضر باستمرار بما يتلائم وثقافة القاصّ وشخصيته، وبألوان ودرجات شتى من التركيز أو الهامشية؛ فالحب هو الجزء المشهود بنحو واسع في مختلف صنوف القصص والروايات، ومن أسمى أنواع الحب وأكثرها روحانيةً وبراءةً، مروراً بصنوفه العادية المألوفة، وصولاً إلى أكثرها تطرّفاً وانحطاطاً وماديةً. وثمّة للحب في قصص القرآن الكريم إشارات نسجّل فيما يلي جانباً منها:

حب يعقوب ليوسف. حبّ نوح لابنه. حبّ إبراهيم لإسماعيل. حبّ زليخا ليوسف. حب ضيفات زليخا ليوسف. حبّ والدة موسى لموسى. حبّ بنات شعيب لموسى.

5 ـ عنصر الحوار:

الحوار من أبرز أدوات القصّة المعاصرة، ويعدّ منظرو الأدب القصصي الحوارَ ضرباً من (المشاهد) أو الفعل القصصي، ويعتبرونه ـ إلى ذلك ـ من العوامل المحرّكة للقصّة والتي تتقدم بأحداثها إلى الأمام، مضافاً إلى كونه من أدوات رسم الشخصيات المشاركة في الحوار. ومع أن بالإمكان معالجة هذا العنصر بشكل ضمني في مباحث أخرى([6])، إلاّ أننا نشير هنا إلى نماذج من الحوارات الواردة في القصص القرآني، كحوار الباري عز وجل مع ملائكته في سورة البقرة، وحوار مريم مع الذين وجّهوا لها تُهماً شائنة، والحوار بين موسى وهارون، وحوار موسى وشعيب، وحوار موسى مع العبد الصالح و..

إنّ اشتقاقات مفردة: قَوَل، بشتى الصيغ الفعلية (قال، يقول، قل..) غزيرة جداً في الآيات القرآنية، ولا سيما تلك الواردة بنحو متتابع يدلّ على حوار بين جانبين، بل هنالك أقوال تسرد من دون استخدام فعل (قال) أو مترادفاته، ومن دون إشارة إلى القائل، وأحياناً نطالع أقوالاً وجدانية أو حوارات ذاتية، كحديث يوسف مع إخوته ونعته لهم بالسوء والإساءة دون أن يسمعوا منه شيئاً.

وتعدّ الحوارات القصصية في القرآن الكريم في منتهى الإتقان والمتانة، وليس فيها أي إضافات أو كلمات ممكنة الحذف؛ ففي القصة المعاصرة، تظهر أحوال المتحاورين وأبعاد شخصيّتهم في سياق الأحداث وأساليب الكلام بما يتناسب وتوظيف الحوارات.

ويلاحظ في القصص القرآني الدور الذي يمكن أن يلعبه الحوار وتنوّع أساليبه، وتناغمه مع المتحاورين، مضافاً إلى إيجازه وسائر الجوانب الممكنة الاستخدام في هذا العنصر القصصي([7]).

6 ـ عنصر النزاع (الصراع والمجابهة و..):

يستخدم في الرواية الكلاسيكية والقصص المعاصرة عامل النزاع والتضادّ بين الشخصيات والمناخات بغية تمتين بناء القصة وتكريس جاذبيتها، وقد استفادت القصص القرآنية بدورها من هذه الأداة؛ إذ يمكن ذكر الأمثلة التالية للدلالة على ذلك:

أ ـ نزاع الإنسان مع الآخرين: نزاع أخوة يوسف مع يوسف، نزاع الأخ الصغير ليوسف مع إخوته، نزاع زليخا مع يوسف، نزاع موسى مع هارون، ومع فرعون، ومع السحرة و..

ب ـ نزاع الإنسان مع البيئة: يوسف في البئر، يوسف في السجن، موسى وسط النيل، الرسول الأكرم في الغار، أصحاب الكهف في الغار، يونس في بطن الحوت، إبراهيم في النار، هاجر في الصحراء القاحلة و..

ج ـ نزاع الإنسان مع نفسه (الصراع الداخلي): زليخا مع نفسها، نزاع من شاهدوا الأصنام التي حطّمها إبراهيم مع أنفسهم، نزاع من شهدوا كلام عيسى في المهد مع أنفسهم، إبراهيم مع نفسه عند مشاهدته غروب القمر والشمس.

وغير ذلك من صنوف النزاع والتوتر التي يمكن أن تضيف إلى جمال القصّة وجاذبيتها، كنزاع موسى (الوليد) مع جنود فرعون المكلّفين قتل المولودين الجدد، ونزاعه ـ وهو في الصندوق العائم على الماء ـ مع أمواج نهر النيل الصاخبة، ونزاعه ـ قائد بني إسرائيل ـ مع التيار الفرعوني، ونزاعه الذي أدّى إلى قتله رجلاً من جماعة فرعون، ونزاعه مع فرعون، ونزاعه مع هارون، ونزاعه مع السامري.. وكذا نزاع نوح مع قومه غير المؤمنين، ونزاعه مع ابنه، ونزاعه مع الطبيعة (المياه التي غمرت العالم)، نزاعه مع الطبيعة عبر انتظار نموّ الأشجار عبر سبعة أجيال و.. وهكذا أيضاً نزاع مريم مع من اتهموها وقذفوها، ونزاعها مع الطبيعة في حملها من دون زوج، ونزاعها مع نفسها إزاء تُهم الناس وتكليفها بصيام الصمت..

7 ـ عنصر الرمز:

في الشائع استخدام الرموز والحالة الرمزية لخلق طبقات وأغوار معمّقة في القصّة الكلاسيكية والحديثة، ورغم أن لهذا العنصر حضوراً أوفر بكثير في الشعر، إلاّ أنه ممكن المشاهدة في القصص والرواية أيضاً بكثرة؛ قضايا الرمزية ونماذجها التي سنسوقها هنا قد لا يتّفق عليها جميع الباحثين، وربما اقتضت مزيداً من الدراسة والتمحيص؛ لذا سنذكر ـ على وجه الإيجاز ـ نماذج اعتبرها بعض الباحثين أمثلةً للحالة الرمزية، تاركين مناقشتها بصورة وافية لفرصة أخرى من فرص البحث النظري حول الأدب القصصي.

ففي قصة يوسف، هناك البئر: رمز السقوط، والشمس: رمز الأب، وفي المنام القمر: رمز الأم، والأحد عشر كوكباً: رمز أخوة يوسف، وبيت عزيز مصر، والسجن، والبئر: رموزٌ للتقيّد والظلام والضياع، والذئب: رمز لأنفس أخوة يوسف الأمّارة بالسوء، والدلو وافتتاح الماء الزلال: رمزٌ لنفسية يوسف، والقميص: رمز العصمة، والسكين: رمز نفسية النسوة، ورائحة يوسف: رمز محبة الأب لابنه، والبقرة السمينة: رمز الخير والوفرة، والبقرة الهزيلة: رمز القحط.

كانت هذه نماذج مقترحة قد يتقبّل بعضها جميع الباحثين وقد يكون بعضُها الآخر مما يذهب إليه فريقٌ معيّن من أصحاب الاختصاص.

ومن بين النماذج الأخرى التي يتسنّى أن تعدّ رموزاً أدبية، يمكن الإشارة في قصّة آدم إلى القمح، والجنة، والهبوط إلى الأرض، والأسماء، والتضحية، والغراب، وهابيل، وقابيل، وهي فضلاً عن إمكانية تفسيرها بنحو موضوعي عيني، قد تتسع لرؤى وتأويلات رمزية، وفي قصّة موسى هنالك محطّات من قبيل الخضر، ومجمع البحرين، والسفينة، والجدار، والغلام، والسمكة و.. وفي قصّة إبراهيم يُشار إلى النار، والصنم الأكبر، وعنق إسماعيل، والسكين، والمنجنيق، ونمرود و.. وهي بمجملها حالات تتسع للتفسير الطبيعي الواقعي وللتفسير الرمزي في الوقت عينه.

8 ـ عنصر المشهد:

من الأدوات المهمّة في السرد القصصي للرواية الكلاسيكية والقصة المعاصرة، المشهد أو الظرف المستوعب للأحداث، وهو ما يتسنّى ملاحظته وفيراً في القصص القديمة والحديثة([8]).

في القاسم المشترك الأخير بين القصص القرآني والرواية الكلاسيكية، نشير إلى المشهد وإلى عنصري الزمان والمكان اللذين يعتبران من مكوّنات المشهد؛ فقد يُعرض المشهد بنحو مباشر أو عبر الحوار أو من خلال دلائل وإشارات معينة: يُلقى يوسف في البئر، يُؤتى بقميصه ملطّخاً بدمٍ مزيّف إلى والده، تُعرض الرؤيا التي رآها يوسف، يُخرق قميص يوسف من الخلف، يُلقى بقميصه على وجه أبيه، يتدلّى الدلو في البئر. وأيضاً: طفولة موسى، الصندوق العائم على نهر النيل، شباب موسى، امتتاحه الماء من البئر، مشاهدته بنات شعيب، مشي ابنة شعيب على استحياء و..

المكان (في قصّة يوسف): صحراء تبحث فيها إحدى القوافل عن الماء والآبار، الأماكن الأخرى هي البئر، والقصر، والسجن و..

الزمان (في قصة يوسف): غير محدّد، لا تُعلمنا الآيات بتاريخ دقيق للأحداث، عدّة أعوام يقضيها يوسف في السجن، تصوير شيخوخة يعقوب، تصوير فترة شباب الأخوة أبناء يعقوب و..

في قصة موسى أيضاً لا يحدّد الزمان والمكان على نحو الدقة، لكي يتجاوز القارئ تخوم الزمان والمكان إلى الصفة العامّة للقصة والعبر الممكنة الاستخلاص منها لكل الأجيال والأعصار.

ولو أردنا الخوض في سائر العناصر المشتركة لطال بنا المقام، إنما نكتفي فقط بالإشارة إلى وجود العديد من مواطن الاشتراك الأخرى بين القصص القرآني والفنّ القصصي عموماً، منها: السرد، والتلخيص، والصياغة القصصية، والنقلة، والتضاد، والبطولة، والبطولة السلبية، والعطف، والتحوّل، وحركة الأحداث، والحوادث المفصلية في القصة، والفكر، بل وحتى العناصر المنتسبة إلى ما بعد عصر الرواية الكلاسيكية من قبيل انسيابية الذهن، والواقعية السحرية.

ب ـ مواطن الافتراق بين القصص القرآني وفنّ القصة
الكلاسيكية والحديثة ـــــــ

1 ـ الخروج عن بُنية القصّة والرواية الكلاسيكية

لا تطالعنا في الرواية الكلاسيكية أجزاء صريحة تمثل مقدّمة الرواية ونصها الأصلي والنتيجة النهائية. ومع أن النص القصصي العام ينطوي بصورة طبيعية على هذه المكوّنات الثلاثة، إلاّ أنها غير متمايزة عن بعضها بشكل جلي وصريح أو على صورة فصول مستقلّة.

بينما نلاحظ في القِصص القرآنية وجود مقدّمة للقصة، ومثال ذلك
الآيات الثلاث الأولى من سورة يوسف، ثم نصل إلى النصّ الرئيس للقصّة، وهي
الآيات 4 ـ 100 من السورة عينها، وننتهي إلى الخاتمة أو النتيجة الصريحة، من
الآيات 100 ـ 111.

في كلا السورتين ـ نوح ويوسف ـ واللتين تمثلان بتمامهما قصّتين تعرضان جهاد هذين النبيين ـ كل واحدة منهما قصّة مستقلة تتحرك بنحو متواصل على امتداد السورة ـ نلاحظ المكوّنات المذكورة أعلاه، أي المقدمة والأصل والنتيجة.

2 ـ إطلاق أحكام عامة

يمكن رصد هذه الظاهرة في أصل القصّة وخاتمتها غالباً؛ فمثلاً: >لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ< (يوسف: 7) أو: >كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ< (يوسف: 22).

3 ـ الرسائل المباشرة

إطلاق رسائل مباشرة أو أحكام عامة مما يصرّ أصحاب الاختصاص على تحاشيه واجتنابه في العمل القصصي، رغم أن كافّة الروايات الكلاسيكية والشهيرة في العالم أطلقت ـ بنحوٍ أو بآخر ـ أحكاماً عامة ورسائل مباشرة، وفي القرآن الكريم نلاحظ هذه الظاهرة في العديد من القصص؛ وللمثال: >مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً< (المائدة: 32) أو: >فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ< (النمل: 51).

4 ـ واقعيّة الشخصيات

ليست الشخصيات الرئيسية ولا الفرعية في القصّة المعاصرة واقعيةً أو ذات طابع وثائقي؛ فكاتب الرواية يقتنص شخصياته من الأشخاص الذين يصادفهم أو يسمع عنهم طوال تجربته الحياتية، فينسج شخصيةً قصصية من صفات وخصائص عدّة أشخاص حقيقيين، وبالإمكان ـ على وجه التقريب ـ مشاهدة كافّة خصائص وسمات بطل القصة أو شخصياتها الفرعية في الأشخاص الذين نعايشهم أثناء حياتنا؛ فإذا سُئل مبدع قصّة أو فيلم سينمائي عن شخصيات عمله فسيقول ـ على أغلب الظن ـ : الشخصية الفلانية استوحيتها من والدي، وفلان استوحيت شخصيّته من جارنا السابق و.. وهكذا دواليك. ولكن إذا سُئل: هل الشخصية الفلانية التي أودعتها قصتك أو فيلمك السينمائي هي والدك بالضبط أو جارك السابق أو..؟ فسيجيب بالنفي طبعاً. والواقع إنّ مبدع العمل الأدبي أو الفنّي يستلهم السمات الوقائعية لشخصيات حقيقية بوصفها مادّةً خاماً يصنع منها شخصيته التي يصوغها بحسب إرادته؛ وهو بالتأليف ما بين الخصائص المستلهمة من عدة شخصيات، وبالتركيب ما بين هذه واللبنة الأولية، يخلق شخصيّةً جيدة لقصّته، إلى درجة يمكن القطع معها أنه مع من يتطابق بطلٌ من أبطال القصّة والرواية في العالم من الشخصيات الواقعية الحقيقية، ولولا ذلك لما كان المنجَز قصة أو رواية بالمعنى الصحيح للكلمة.

أما في القصص القرآني، فالشخصيات حقيقيّة وتاريخية؛ فموسى هو النبي موسى، ونوح هو نوح، بل حتى أسماؤهم هي ذات الأسماء الحقيقية التي كانت لهم تاريخياً، وليست أسماءً قصصية، ولا يمكن أن نجد في القرآن قصّةً فيها شخصية فنية غير واقعية.

هل توجد للرواية أو القصّة معايير حاسمة؟ ـــــــ

توخّيت في هذا البحث إثارة السؤال أكثر من تقديم الإجابة، إنه السؤال المطروح في بداية البحث: هل ما نعرفه باسم القصص القرآني ذو صلة بفن القصة والرواية الكلاسيكية والقصص المعاصرة؟ هل الظاهرتان متطابقتان؟ أم أنهما تفتقدان الصلة؟ هل ثمّة بينهما مساحات مشتركة أو مفترقة قد تتسع أو تضيق (العموم والخصوص)؟

لقد شهد التعريف العصري للقصّة تحولات كبيرة ولا زال مسار هذه التحولات جارياً لم يتوقف؛ فكثير من قواعد الرواية الكلاسيكية فقد مكانته في الرواية الحداثية وما بعد الحداثية، ولا مراء في أن انبثاق معايير وقواعد جديدة في ميدان الأدب القصصي من ضرورات الزمن وأحد المقتضيات الأكيدة للإجابة بنحو منطقي عن تطلّعات الجيل الصاعد؛ فالعشرات من مواطن التباين بين القصة الحديثة والقصة الكلاسيكية الغربية، كعرض آراء عامة والحياد عن اللغة القصصية، وإطلاق أحكام أخلاقية واجتماعية، وملاحظة بصمات الكاتب في ثنايا القصة، وانقلاب اللغة القصصية أو الخروج المؤقت عن سياقها، وانكسار الزمن، والعرض المباشر أحياناً لشخصيات القصّة، كل هذه التباينات بين القديم والجديد لم تؤدّ إلى عدم اعتبار القصّة الحديثة قصةً، رغم أنها ليست قصةً، على أن أنصار التطوّر في القوالب الأدبية والفنية، كانت لهم أحياناً وبموازاة تحوّلات الزمن والمجتمع، مواقف وآراء على درجة من التطرّف، بحيث ما كان يعدّ في السابق ـ على وجه التأكيد ـ من غير سنخ القصة، يعتبر اليوم من الفنّ القصصي دون أيّ نقاش. بل إن الكاتب المعاصر إذا قدّم رواية بالأسلوب الكلاسيكي، قد يتهم أحياناً ـ وفي سياق رؤية متطرّفة ـ بالكسل والماضوية وعدم المقدرة على مواكبة الزمن.

وإلى جانب ذلك، هناك الرواية المنظومة التي يعود ماضيها في إيران إلى ألف عام مضت، وقد شاهدنا في غضون العقود الأخيرة ولادة مشروع جديد في الشعر الإيراني وانبثاق الشعر الحرّ الذي يمكن اعتباره أيضاً من الحاجات الملحّة للجيل الجديد، وإحدى ضرورات تطوّر الأدب الفارسي.

في الماضي، حاول بعض المخلصين والمناصرين للإسلام والقرآن ـ ضمن خطوة تسطيحية ومشروع دفاعي لم يدرس بالقدر الكافي ـ حاولوا المطابقة بين شطرٍ من الآيات القرآنية والاكتشافات العلمية المعاصرة، ولم يفسحوا المجال اللازم للتحوّلات التي تستدعيها المفاهيم العلمية ولا للتطورات التي تقتضيها العلوم البشرية، وتستلزم أن تبقى أبواب التغيرات العلمية مفتوحةً على مصراعيها، فمثل هذه المقارنات السطحية والباعثة على الكبرياء الموقّت، قد تؤدي ـ إلى جانب وقتيتها وسرعة انقضائها ـ إلى أن تنقلب إلى ضدها، لقد كان الأجدى السعي للحؤول دون شيخوخة الآيات وسقوطها العلمي.

وفيما يتعلّق بموضوع البحث نواجه حالةً مماثلة؛ فتعريف القصّة مختلف حتى بين الشعوب والأمم، وقد اكتسب تباينات واختلافات جديدة؛ فمثنوي جلال الدين الرومي يعدّ قصةً مشهورة وواسعة الانتشار في الغرب، ويستخدم باولوكويلو في السيميائيون تقنيات المثنوي وأسلوبه، حيث انسيابية الذهن بارزة بنحو لا يقبل الجدل في المثنوي، ميلان كوندار يطلق الشعارات المدوّية عند بنائه شخصيات رواياته، ويمارس النصيحة المباشرة والأحكام العامة أحياناً، في حين لا تلتزم الرواية الكلاسيكية بأصولها وقواعدها ضرورةً، ويمكن رصد أنكى الأخطاء التي حذّرت منها كتبُ النقد الروائي في أعظم الروايات العالمية وأشهرها، وحتى أكبر عشر روايات عالمية لو حوكمت في ضوء قواعد كتابة الرواية المعروفة لدى الغرب، لما حقّقت أيٌّ منها درجة النجاح؛ فهل ينتقص هذا من أصحابها النوابغ؟ أم أن تعاريف الرواية الكلاسيكية ومعاييرها وأدواتها وأصولها ـ كما تطرحها دراسات النقد القصصي والروائي وتُدرَّس على نحو حاسم ـ ليست بالمعايير النهائية؟

وبكلمة واحدة: من ذا الذي يستطيع تسمية ولو رواية واحدة على مستوى العالم روايةً مثالية تستسيغها النظريات كافّة والآراء الخاصة بالأدب القصصي؟ وهل ثمّة شيء اسمه المواصفات المثالية للرواية؟ وإذا كان مثل هذا الشيء موجوداً على الصعيد النظري، فهل هو كذلك في ميدان التطبيق أيضاً؟

إنّ كثيراً من أدوات وعناصر القصّة المعاصرة ضاربة الجذور في ميول الإنسان العصري، ولا سيما الغربي، الذي اكتسب ميولاً ونزعات جديدة في غضون القرنين أو الثلاثة الماضية، خصوصاً بعد النهضة الأوروبية. إنّه إنسان هارب من المواعظ، ومن الكلام المباشر، ومن الاستنتاج، ومن القوالب الجاهزة، ومن إصدار الأحكام الكلية، ومن أحادية الأصوات، ومن كلّ ما يعتقد أنه سبب في انحطاط الأجيال الماضية. لكن هل ينبعث ذلك كلّه من فطرة الإنسان النقية؟ أم أنه نمط من ردود الفعل الدفاعية؟

يأخذ القرآن الكريم ـ سيكولوجياً ـ الإنسان المتلقي بنظر الاعتبار، ويتجانس مع الفطرة الإنسانية الأصيلة، ولا يروم الأدبَ لمحض الأدب، إنما يتوخّاه للتأديب والهداية والترشيد >يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ<.

المهم هو تأثير الكلام ـ ومنه القصّة ـ على فطرة المتلقي وهدايته، فأيّ القصص أكثر انسجاماً مع الفطرة: القرآن أم الرواية الكلاسيكية أم الرواية الحديثة؟

في قصص الأطفال، قد نصادف كلاماً وتوجيهات مباشرة، وإيضاحات تكميلية، واستنتاج نهائي، ورسالة، وشعارات، وغير ذلك من العناصر غير المجنّدة في فنّ القصة. وللوهلة الأولى يمكن إخراج هذه القصص من دائرة الفنّ القصصي والروائي بعامة، لكن ألا يجدر التريّث والتفكير بأن الطفل ـ وهو الأقرب إلى الفطرة الإنسانية النقية الخالصة ـ أكثر انشداداً إلى مثل هذه القصص التي تنطبع بسرعة على لوح نفسه النقي؟ هل جميع الـ 116 قصّة في القرآن هي من سنخ القصة؟ أم الرمزية؟ أم التجلّيات الأدبية؟ أم التنظير؟ أم مساعدة ذهن المتلقي؟ لماذا الإصرار على مطابقة قصص القرآن ـ بكلّ أشكالها ونماذجها ـ على تعريف القصّة الكلاسيكية أو حتى القصّة الحداثية والمابعد الحداثية؟ ما هي ضرورة هذه المطابقة؟

إذا أردنا اليوم دراسة عناصر القصّة الإيرانية ـ الإسلامية، سواء القصص القرآنية أو الآداب العامية أو الآداب القديمة والكلاسيكية، يتوجّب ـ أولاً ـ تنقية الذهن من عناصر القصّة المعاصرة، الكلاسيكية أو الحداثية، وهذه عملية مستحيلة طبعاً، ومن ثم النظر من زاوية عملانية تطبيقية، كيف يمكن للشذرات القصصية والاستخدامات المتفرّقة للعناصر القصصية في السرد غير القصصي أن تكون مفيدةً في التأثير على المتلقي، وعندئذ يمكن إعادة اكتشاف عناصر مثل هذا الإطار ـ النوع الأدبي ـ وتدوينها من جديد، بدون أيّ اكتراث بصلات هذه العناصر بعناصر الرواية المعاصرة أو إطار الرواية الكلاسيكية الغربية.

لا جدال في وجود مشتركات عديدة بين قصص القرآن والقصة المعاصرة، فالمحور الرئيس للعديد من القصص هو الحبّ أو الكراهية، مفترقان يلتقيان من جديد، وقريبان متوادّان يتنافران وينفصلان، وهذا المحور الدرامي مشهود بكثرة في القرآن الكريم: آدم والجنّة، موسى ووالدته، نوح وابنه و.. فالقرآن يأخذ بنظر الاعتبار الانشداد الفطري الشديد إلى الدراما عند الإنسان؛ لذلك نصادف مثل هذه الدراما في كلّ خطوة من مسارنا في الـ 116 قصّة القرآنية التي سجّلها المرحوم علي أصغر حكمت في (أمثال القرآن). لكن إذا لم نشأ مطابقة القصص القرآني على القصة المعاصرة والرواية الكلاسيكية، فمن سيؤاخذنا على ذلك؟

ثم على أيّ حدّ يمكن للنقاش حول (الشكل) أن يمدّ لنا يد العون في هذه الموضوعة؟ وما مدى صحّة التبويب الشكلي للقصص القرآني والسعي للمطابقة بينه وبين أحد الأشكال المعروفة للحكايات، أو الروايات الكلاسيكية، أو القصّة الحديثة أو..؟

ليست القصص القرآنية قصصاً يرويها إنسان لإنسان آخر، بمعنى أنه ليست هناك علاقة أفقية بين شيئين يقعان على عرض بعضهما، الشكل والمادة ليسا منفصلين في هذا الميدان، ولا يمكن غض الطرف عن مضمون العمل بذريعة التركيز على شكله؛ فالعلاقة بين قارئ القرآن ومؤلّف قصص القرآن علاقة عمودية، والآية الكريمة القائلة: >تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ< هي ـ في الواقع ـ إشارة إلى ميتافيزيقية القصص القرآنية، وأنّ هذه القصص أصيلة ليست زائفةً ولا تعاقدية؛ بل هي ضربٌ من التعبير عن الصور الأزلية، وبالإمكان متابعة آثار القصص القرآنية ضمن سياق استشراف للمستقبل (Flash Forword) في الروايات والأفلام السينمائية العظيمة في عصرنا الحاضر؛ فقصّة هاروت وماروت مثلاً، تشكّل روح الفيلم السينمائي الشهير (برلين تحت أرجل الملائكة) للمخرج فيم فيندرس، حيث يتكرّر الهبوط دائماً، والأكل من الفاكهة المحرمة هو الهبوط المتكرّر المستمر للإنسان.

وأخيراً فإن أنشودة السلامة التي حظي بها إبراهيم وسط ألسنة النار تجسّد ـ لكل الأجيال والعصور ـ حكاية المقدرة البشرية الهائلة.

*   *     *

 

الهوامش


 

(*) أستاذ مساعد في جامعة طهران ـ برديس قم.

[1] ــــ تأملات أخرى في القصّة: 15.

[2] ــــ القصّة، التعاريف والأدوات والعناصر: 12.

[3] ــــ المرتكزات الفنيّة للقصص القرآني: 25 ـ 28.

[4] ــــ المصدر نفسه: 31.

[5] ــــ تأملات أخرى في القصّة: 48.

[6] ــــ القصّة، التعاريف والأدوات والعناصر: 90.

[7] ــــ المرتكزات الفنية للقصص القرآني: 193 ـ 201.

[8] ــــ القصّة، التعاريف والأدوات والعناصر: 80.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً