أحدث المقالات

عبد العالي العبدوني

قد يتفق معي القارئ الكريم في مسألة أن الأستاذ إدريس هاني هو من بين المثقفين العرب القلائل الذين جمعوا بين الدربة المعرفية الإسلامية الإمامية وبين الموروث الإنساني ولو في حدود معتبرة، وربما الكثير يتفق معي في أنه أحد المثقفين الدينيين القلائل الذي يمكنه مقاربة الأمور الأكثر إنسانية بخطاب شرعي يكاد لا يحس به، فهو في مقام المحاكمة والنقد وإعادة التصويب يطفق مستعملا لمفاهيم أصولية وفقهية إلى جانب المنطقية حتى، كما لو أن القارئ الجاهل بالتراث الشرعي هو أمام خطاب إنساني صرف.

 

لكن ليس هنا موضوعنا ولا محل بحثنا، فما نحن في مقام بحثه هو ذلك التزاحم النفسي المعرفي الذي يظل ناضحا بين أسطر كتابات الأستاذ هاني، ولعله هنا بل يظل أكيدا أنه هنا يمكن مقاربة روح الأزمة لدى المثقف الديني على العموم والمثقف المتشيع على الخصوص، فالمجال التواصلي بما هو سلطة يظل ربقة عالقة في عنق هكذا باحثين لا يريدون تميزا ولا يريدون تهميشا، يبحثون عن منطقة وسطى حيث التلاقي لأنه بهكذا منطقة يظل للعيش قيمة لا بمخالطة ولا بمجانسة.

 

فغرض هذه الورقة هو وضع اليد على أشد الإشكالات المعرفية التي استفزت الأستاذ إدريس هاني ومعايرتها نفسيا معرفيا، دون وجود النية في عرض أبحاثه على أهميتها، ولا بسط القول في مسامها، بل هي عملية مقاربة نفسية لأفكاره في المناطق الأكثر سخونة.

 
العنوان الأول: برودة الماضي وحرارة الحاضر:  
 

الأستاذ إدريس هاني، والذي أثبت نفسه على مستوى العالم الإسلامي، مفكر محايث لواقعه الثقافي يعايش أزماته عن قرب دون أن يتصدى لهمه المعرفي من برج عاجي أراده أساسا للمحاكمة والتصويب.

 

بل أن ما يمنحه من أبحاث يشكل معاناة يومية تقض مضجع المثقف الديني المغربي، حيث هناك الغلبة للخطاب العلماني بتشخصاته المملة المكرورة، وتكسراته المنهجية المتخبطة والمرهونة بالصرخات المعرفية في الغرب. فمشروع الأستاذ هاني جرح مفتوح لم يندمل بعد ولن يفعل، على الأقل في المستقبل القريب.

 

وبهذه الأزمة الكبرى التي يعيشها في ذاته طفق يتصدى لإحدى المواضيع الأكثر أهمية على المستوى المعرفي وهي ثنائية الإسلام والحداثة، حيث انطلق من معتقد أصلي اعتمده منذ البداية واستعد للتدليل عليه ألا وهو معتقد التلاقي من على أرض معرفية إمامية بحت.  

 

ففي ورقة مقدمة ضمن ندوة تحت عنوان " الحداثة والسؤال الديني في ضوء مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري "، نجده يؤصل لمنهج معرفي مقاربي جديد على أساس التدليل على التلاقي الحداثي الإسلامي.

 

لقد أسس هاني منهجيته المعرفية لقراءة الشأن الديني على أساس لازمة أساسية وهي تحرير العقل " تحرير العقل العربي والإسلامي من آثار جروحه الغائرة ونفض غبار الهزيمة والاحتياط وخيبات الأمل التي تجعله عقلا مرشحا لتبني كل أشكال الإختزال الفكري والتنظيري " ( 1 ) فأزمة العقل العربي الإسلامي ذات جنبتين: سيكولوجية متجلية في الإنجراحات والتعبيرات التعويضية والهذيانية، مؤسسة على أساس صدمة الحداثة والهزائم السياسية والعسكرية والتنموية ، وجنبة معرفية متشكلة في المأزق البراديغمي الذي يعيشه العقل والمتأثر حتما بالجنبة السابقة مما يدفعه إلى الهامشية والانفعالية الوجودية ذات التعاقلية السلبية خالصا إلى مقتضى محوري هو أن " ليس له ( أي العقل العربي الإسلامي ) منها اليوم إلا الاستعـارة ( يعني من عقل الحداثة )، بل وأسوأ أشكالها، استعارة خردتها المستعملة. يحدث هذا في السلع والخدمات والقيم والأفكار والتصورات. فالعقل العربي والإسلامي المعاصر إذن، هو في نهاية المطاف ليس له من هذه الحداثة، سوى سقط المتاع" ( 2 ).

 

نفس الملاحظة تجلت تعيينا بمناسبة مقالة أخرى مطولة تحت عنوان " التبني الحضاري والتجديد الجذري – نحو مشروع رؤية جديدة للفكر الإسلامي المعاصر " والتي نشرت بدورها في الكتاب المشار إليه في الهامش، حيث تم التركيز على موطن التمأزق الذي يعرفه العقل العربي الإسلامي المعاصر، ذلك أنه " بدل أن ننشغل بسؤال الحداثة وآليات تحصيلها، انشغلنا بسؤال كيف نبرهن على جاهليتها جملة وتفصيلا " ( 3 )، مستشهدا بكتابات محمد قطب بوصفه أجلى وجه لتيار إصلاحي ديني على رأسه سيد قطب وأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي ووحيد الدين خان.

 

بمعنى أن مأزق العقل العربي الإسلامي متجلي في الإقصاء لكل ما هو ليس بفكر نتاج تربة إسلامية بالمعنى المتبنى. وهو توجه يشكل ثمرة صدمة الحداثة داخل العالم الإسلامي بالإضافة إلى الإنتكاسات السياسية، كما سبق ونوه إلى ذلك في مقاله السابق.

 

وعلى أثر تشخيصه لموطن الأزمة طفق الباحث بوضع آلية منهجية تضمن الوجود القووي للإسلام داخل الحداثة دونما إحساس بنقيصة أو هامشية فعل وتنظير ملحوظة.

 

فوضع أساسين لهذه المنهجية تتجلى في التبني الحضاري والتجديد الجذري، فماذا يقصد بهذين الأساسين.

 

– التبني الحضاري: هو مشروع يتعدى السؤال: كيف يكون المسلم مسلما وكفى، في كل الظروف والشروط الممكنة. فهذا خلاص فردي وأخروي. ليصل إلى السؤال : كيف نجعل ، مسلما نموذجيا متقدما ناميا سيد دورته الحضارية، في ظروف معينة وشروط محددة، فهذا خلاص جماعي دنيوي وأخروي، برسم معذرية أمة وكائن مستخلف. بخلاف المعذرية الفردية الغالبة على التصور السابق.

 
وهو عين ما يصطلح عليه في القاموس الديني بالتمكين في الأرض.
 

– التجديد الجذري: مقتضاه إعادة تفكيك الأنساق التاريخية إلى مستوى التعاليم، أن نعيد الظاهرة إلى مستواها الغير المنظوم، فهو تحرير للتعاليم من كل أشكال الفهم المتركزة على نمط معرفي، لعله لم يعد له حضور فاعد زماننا.

 

مما يفيد أن هذا الأساس هو بحث عن إيجاد مقاربة معيارية للتعاليم بعيدا عن تشكلاتها التاريخية والسياسية، حتى يتسنى تحقيق التفاعل المبحوث عنه مع الواقع.

 

وعليه فإنه وبعد تحرير العقل العربي بجعله يهتم " بالبحث عن مخارج الأزمة ومداخل الحل، ولا يلهي نفسه بالبحث عن مداخل الأزمنة التاريخية " ( 4 ) يتسنى التعامل بإيجابية مع الحداثة بوصف هذه الأخيرة مجرد صيرورة اجتماعية تاريخية لا أقل ولا أكثر وأنها موجود حيوي بالقوة والفعل في ثقافة ما، وموجود بالقوة داخل الثقافة الإسلامية لكنه مغيب بالفعل.

 

وللبحث عن مكنة التلاقي اضطر المفكر الإسلامي إلى اعتماد مفهومين أعمل عليهما منهج التبني الحضاري والتجديد الجذري وهما " مفهوم التكييفانية الخلاقة " و " مفهوم الثابت المتحول ".

 

منطلقا من بديهة وهي أن الدين " يدعي أنه يوفر خلاصا فرديا وجماعيا وسعادة روحية ومادية في الآن وفي المال. فهو إذ يفعل ذلك، يرى أن تعاليمه لا تخاطب متلقيا يعيش فراغا ثقافيا واجتماعيا وتاريخيا. إذ المتلقي قبل إنشاء الخطاب يتمتع بقدر من الماء. فهو ليس كائنا عاريا منتزعا من مجاله أو تاريخ. الدين لم يشأ غلا أن يخاطبه بلغته وبرموزه التي تعكس جاع ثقافته وخبرته ومرآة عقله وفكره ومنعكس معاشه وتقلباته ومطارح وجوده. وإذن، فالإنسان، هذا المتلقي، مشارك برسم التاريخ والاجتماع في صياغة المعنى " وما دام أن الحداثة " ما هي إلا نتيجة صراع جماعي وتراكم وصيرورة وفعل. "، مما يجعل تعامل المكلف مع الدين تعاملا مرهونا بالزمان والمكان، ومن هنا مدخلية صلاحية الإسلام بل وحيويته في الجواب على بعض الإشكالات التي تعرفها الحداثة، ولهذا نجد الأستاذ هاني اعتبر الدين على العموم والإسلام على الخصوص هو الحل الوحيد للجواب على سؤال المعنى الذي تتخبط فيه الحداثة، بل حتى أن هذه الأخيرة يكون من اللازم عليها أن تستدمج داخل الدين الإسلامي ما دام الدين نفسه "  يمثل انقلابا دينيا في صيرورة الأديان السماوية بل إنه الصورة التاريخية الأكثر وضوحا للاهوت التحرر والتحرير التي شهدها تاريخ الأديان، من هنا إذ لا نرى أي إشكال في علاقة الإسلام بالحداثة ".

 

فالإمكان الحداثي متيسر مع الإمكان الإسلامي وفق هذا الأساس التأسيسي، هذه كانت صورة مصغرة عن مجمل نظرية المفكر الإسلامي إدريس هاني بخصوص موضوعة الإسلام والحداثة.

 

أما الآن فننتقل إلى طرح الآلية المفاهيمية والمدماك المنهاجي لتحقيق الإمكان الحداثي والإمكان الإسلامي.

 

في الحقيقة أن المفكر الإسلامي إدريس هاني حاول أن يؤسس لتأويل جديد يمكن من استقراء النص من داخله بلحاظ التكاملية، وهي عملية استقرائية إلى جانب أنها جيدة، نجدها بأنها ممتعة " أعني بتحرير النص، الإنصات للنص خارج تلك الأطر المذكورة. بمعنى أوضح، أن نقرأه ضمن رؤية مفهومية جديدة لهذه الأطر، تمكن المتلقي من أواليات الإستنطاق " ( 5 ). 

 

فالتأويل الذي يذب عنه الأستاذ هاني متحدد في تلك " علاقة تكوينية بين العقل والنص، تجعل ما يجري داخل النص مثالا لمايجري داخل العقل. أو بتعبير أوضح، إن الآلية التي يتم بها إنتاج المعنى، هي نفسهاالآلية التي يتم بها فعل التعقل. بهذا المعنى إذا حررنا النص من هذه الأطر، فالعقلسيتحرر بالتبع. وهذا التحرر الذي أتحدث عنه لا يتحقق إلا في إطار المنظور التأويلي " ( 6 )هذا المنظور الذي يتركز على مقدمة جد هامة وهي أن التشاكل قائم بين بنية اللغة وبين بنية العقل، " فنحن حينما نتقل، نخضع إلى حد ما إلى إكراهات السياق ولعبة الإستبدال والإكمال والإشارة والإختزال و.." ( 7 ).

 

وداخل الجسم القرآني نجد ثمة تعاليم تنطوي على معاني ودلالات، عصية يستلزم على العقل أن يسمو إلى مستواها حتى تتسنى " قابلية التخاطب مع النص ، أي أن يكون في قامة لعبة الحضور والغياب لطيف المعنى " ( 8 )، فالتأويل عند مفكرنا هي عملية تحري كبيرة تتبع آثار المعنى الهارب، ولا تلقي بالا للخداعات المتكررة، بل تعكف على البحث في المتدثر بين تلافيف الخطاب. ف " النص على هذا الأساس يظهر بقدر ما يخفي، إنها لعبته الأزلية، وعلى المتلقي حينها أن يواكب اللعبة على طول الخط. النص لا ينطوي على معنى واحد، وأظن أن هذه حقيقة معروفة في تراثنا أيضا، وإن ظلت حقيقة مغيبة. والآن أصبح تعدد المعنى أمرا واضحا بشكل كبير مع الثورة السيميوتيكية والهرمنيتيكية. اليوم نحن مكرهون على الإعتراف بهذه الحقيقة " ( 5 )وهو خروج من المأزق الأرسطي الذي وقع فيه أتباع الظهور الوحيد والمعنى الفريد واستبداد الفهم الرسمي.

 

فالنص عند هاني " حمال وجوه. وهي وجوه متكاثرة. نحن نتحدث عن سبعة وجوه وقراءات مشروعة للنص، كما تحدث بعض القدامى. والسبعة في لسان العرب كما تفيد معنى العدد، فهي تفيد مطلق الكثرة أيضا. إن النص القرآني ينطوي على مخزون من المعنى لا نهائي. وكل نص هو كذلك لأن تلك هي بنيته. " فالإختلاف قائم في المضمون الذي يحبل به المعنى، الذي يحضر وغياب بحسب السياق اللغوي الموضوعي " والعقل المتحرر المتماهي مع هذه البنية النصية أو مع هذه اللعبة النصية، هو الذي يستطيع أن يكسب لياقة تأويلية تجعل النص يتحرك مع حركة الواقع " مما يؤدي إلى اضمحلال الإثنينية القائمة بين النص والعقل.

 

بمعنى آخر العملية التأويلية تتجلى في المسك بالمعاني الغائبة والمتفلتة بإعمال لحاظ القراءة المتكوثرة للنص في إطار حركته مع الواقع، وهذا عين تحقق الإمكان الحداثي مع الإمكان الإسلامي، فهو كد معرفي صرف يجعل من التزامنية هي محور التحرك التأويلي.

 

ف " النزولات التأويلية هي مصداق لهذا الدوران، ( كما بدأنا الخلق نعيده أول مرة ) الآية. لأن القرآن نفسه مصداق لعموم الخلق. فالمورد الأول يعيد نفسه، لكن بشكل هرمينوتيكي، أي عودة المثال. فالشيء بذاته لا يعاد، لاستحالة إعادة المعدوم كما يقول ابن سينا وعموم الفلاسفة، لكن العودة هنا هي عودة المثال. فالمحدود لا يمكن أن تستمر حركته إلا إذا كانت دائرية " ( 9 ) وعليه فإن استنطاق النص القرآني دائم لم يستكمل كل ظهوراته، فالأزمة أزمة قراءة.

 

فالمنظور التأويلي الذي يتبناه المفكر هاني قائم على أساس الكمون النصي من أجل إجراء استنطاق محايث للواقع، وطبعا هكذا قراءة لا يمكن أن تتحقق إلا وفق منهجه المتجلي في التجديد الجذري والتبني الحضاري. كما أن عملية التأويل هي " آلية التوليد المزدوج " إذ أنها لا تكتفي بإنتاج المعنى وتحريك النص، بل إنها تعمل على حمايته من الإنزياح. 

 

كان هذا توصيف لفكرة المفكر هاني بخصوص الإسلام والحداثة مع إشارة إلى المنهج التأويلي الذي يرتضيه، وإن بشكل مجمل.

 

والآن بعد أن أنهينا التوصيف المجمل لنظرية المفكر الإسلامي إدريس هاني ننتقل إلى إجراء قراءة نقدية هادفة إلى إجراء تكامل للنظرية.

 
العنوان الثاني : المنظور الهانائي على المحك:
 

الحداثة عند المفكر هاني هي مجرد " صيرورة اجتماعية تاريخية لا أقل ولا أكثر "وهي بهذا المصداق سهلة الإستدماج مع الإمكان الإسلامي. طبعا تعريف كهذا للحداثة لا يمكن بتاتا أن يشكل شبهة إشكالية بين إثنينية الإسلام والحداثة. فهل حقا التوصيف الهانائي توصيف سليم للحداثة ؟ أم أن الأمر أوسع من ذلك ؟

 

الحقيقة تقال أن مفهوم الحداثة وتشخيصها من أصعب الأمور على الإطلاق، لأنها شكلت ومنذ قرون قليلة ثمرة وجهات نظر شخصية، فهناك من يرى في الحداثة المعيش المتسارع بطبيعته، وهناك من يرى فيها استدماج لثالوث الإقتصاد والإدارة والسياسة ( ماكس فيبر ) المتمفصلة في البعد العقلاني، وهناك من يرى في الحداثة سمات مركزية متجلية في الذاتية، والعقلانية، وغياب الغايات ( هايدغر ) لذلك يخلص هذا الفيلسوف إلى غياب المعاني الكبرى والمقولات والقيم الكبرى.

 

فالطرح الهانائي للحداثة يظل سليما وفق للتوصيف الشخصي، لكنه يفقد هذه الناجعية إذا ما قرأناها بلحاظ المنظورات العالمية المتكثرة. فالرؤية المتبناة عند مفكرنا لا تكاد تثير إشكالية معرفية تذكر بل إنها بطبعها ملتصقة مع الدين الإسلامي الذي يعرف حراكا خارجيا وداخليا، فالصيرورة ماهوية داخل أي فكر مرتهن بالواقع وضابط له. 

 

إن أس المشكلة التي نبحث عنها مع مفكرنا هو المسك بتعريف معياري للحداثة وغض الطرف عن تشخصاتها، وهي لعمرنا مسألة جد صعبة نظرا للتوليدات الكثيرة للمفهوم وللجهاز المعرفي الحابلة به كلمة " الحداثة ". ربما يكون الأسلم إعادة تجديد النظر في الجسم الديني برمته من أجل تحقيق التمكين في الأرض – الجسم الديني المتحدث عنه هو التجليات المعرفية المتعلقة به وقوعيا – فالمخاض علمي والهدف الإشتغال على الذات الإسلامية وتخليصها من العوائق الذهنية التي تجعلها تراوح مكانها، وبهكذا عمل يتحقق الدخول الحضاري المرغوب فيه، والمفكر الإسلامي إدريس هاني انتبه إلى هذا المطلب عندما صاغ منهجية جديدة أراد لها من التسميات " التبني الحضاري والتجديد الجذري "، فبهكذا منهجية يتحقق المنظور الهانائي في نظرنا دونما الدخول في مأزق ابستيمي بخصوص مفهوم الحداثة والتي هي مفهوم حربائي يعسر القبض على معناه الحدي، هذا بغض النظر على أنه قد يجرنا إلى سوء فهم عسير على التجاوز عند العقول المتبنية للحداثة المتشخصة أكثر من اللازم، والتي قد تنظر إلى الموضوع بمنظار المركز الذي تشغله فإن كانت حداثوية اعتبرت المشروع ضميمة لتصورها، وإن كانت متنكرة للحداثة اعتبرته فسقا وخروجا عن الطريق الشرعي السليم.

 

هذا فيما يخص انهيار الإثنينية بالقوة – طبعا إذا ارتضينا المقاربة الهانائية للحداثة ونحن نقبلها بوصفها إكراها واقعيا غير مرتفع – قبل أن تنهار بالفعل وفق عملية التحليل الهامة جدا والممتعة في نفس الآن التي قام بها المفكر الإسلامي إدريس هاني.

 

أما فيما يخص عملية التأويل وآلية التوليد المزدوج، فهو مجهود عصري لاستقراء النصوص التراثية التي تصب في نفس الخانة وهي عملية مهمة في حد ذاتها، لأنها تعيد الحياة للفكر الإسلامي بصيغة جديدة.

 

ذلك أن مبدأ الجري الثابتة للقرآن الكريم والمؤكدة في المأثورات المعتبرة، متجلية في الظهورات المتكثرة للمعنى الدفين للقرآن الكريم، مع الحفاظ في نفس الآن على الظهور الأولي وجعله ذي مصداق. بمعنى آخر أن الظهورات المتكثرة هي تجليات عمودية للنص وليست أفقية، بحيث تسمح بالحفاظ على مكانة النص وظهوره الأولي، فهو إثراء وتكوثر أكثر منه إقصاء وتفريد للمعنى. وهذا عين القول بآلية التوليد المزدوج بما هي آلية كاشفة للمعنى وحامية للنص من تخبطات الإقصاء.

 

الميزة الأساسية لتأويلية المفكر إدريس هاني تتجلى في تناصصيتها وعدم خروجها عن النسيج الخطابي للنص موضوع الاستنطاق، فهو مجهود منطقي قابع داخل العقل الأصولي بما هو عقل متمسك بظهوريات النص المتكثرة إن قراءة أو استقراءا أو استنطاقا، لكن هذا الإنطباع سريعا ما يهتز جزئيا أمام تطبيق عام أراده الباحث.

 

فبمناسبة إجرائه قراءة تأويلية للآية الكريمة " وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت " ( من سورة التكوير ) نجده قفز على المقدمات التي سبق وأن تركز حولها، ليرتئ اعتماد المقترب الأنتربولوجي لقراءة أزمة العار الأنثوي كما هي متجلية في ذهان الرجل الذكوري والتي يظل فيها المرء العربي ليس بدعا فيها. فالمأزق الذي فتحه المفكر إدريس هاني علينا في هذه الورقة ليس في تهاتر المنهجين، بل في ازدواجيتهما. لأن المقترب الأنتربولوجي على أهميته ليس تناصصيا بالمرة، بل هو تنقيب خارجنصي عن المعنى، ربما نستفيد منه في اكتشاف الملاك لكنه أبدا لا يمكنه أن يغدو استبطانا للنص أو استنطاقا له.

 

حيث إن الهام في الأمر أن التطبيق يكون تحقيق لمناط النظرية، لكنه عند المفكر هاني صار جريا إلى الأمام، ربما أراد من التطبيق توسيع لمدارك النظرية بالتفاعل مع النص من الخارج. لكن هذا قد يهدم النظرية أو على الأقل يجعلنا لا نضع يدنا بشكل كامل على تأويلية هاني، الأكيد أن المشروع لا زال في بدايته ولم يكتمل بعد على الأقل وفق ما وقع بين أيدينا من نصوص هانائية. فلم لا ننتظر مع المنتظرين ؟

 

بالجملة يشكل منظور المفكر الإسلامي إدريس هاني بخصوص التأويل – كما هو ثابت على الأقل من خلال حواره – تبنيا حضاريا بامتياز بعد أن جعل من شأنية الجري القرآني شأنية أممية وليست اجتهادا معرفيا فرديا، لكن للأسف لم نقف على تفعيل لمنهجية التجديد الجذري على الأقل وفق التوصيف المعرفي الذي ارتضاه، مما يجعل سؤالا يطرح نفسه بخصوص لازمة الجمع بينهما من عدمه، بمعنى آخر هل يتحقق التبني الحضاري في غفلة عن التجديد الجذري للأفكار أو المنظورات؟ أظن بأن المفكر الإسلامي إدريس هاني نسخ بفعله ما سبق وأن صرح به من لزومية بهذا الخصوص. فثمة معطيات معرفية دينية غير قابلة للتجديد لأنها عين التجديد فمعيرتها تجعل منها فوق الزمان والمكان، وربما هذا ما اكتشفه باحثنا وإن لم يصرح بذلك.

 

وفي الختام لا بأس من الإشارة إلى أن التعامل مع التراث كوقود لمحرك الحاضر نحو المستقبل هو أهم ما خلص إليه باحثنا، وهو بصدد تحقيق مطابقة ذلك مع الخارج حتى يتحقق لنا اليقين الموضوعي في أجلى صوره على صحة النظرية التي يدافع عنها. فالتدليل المنطقي على التصور والتصديق هو ما ينقص المشاريع الفكرية الكثيرة وهو عين ما يتجاوزه مفكرنا بمجهوداته النيرة، وإن كانت المعضلة النفسية تظل قائمة الذات كما نجدها متجلية في مشروعه حول محنة التراث الآخر. 

 
العنوان الثالث: على هامش المحنة..منحة
 

ليس من المتيسر التعامل مع كتاب انهمامي بالذات العارفة المهمشة، داخل مشهد ثقافي متشرب بالسلطة المعرفية المنغمسة في المعهود والمألوف، والتي تنتصب هامتها عاليا، على أساس دوغما إسمه ليس في الإمكان أن يكون أفضل مما هو كائن، بل وحتى ليس من المتصور تقبل مشروعية فكر ما شكل لسنوات عديدة ضحية عجرفته وتهميشه سعيا إلى إزاحته من المشهد.

 

والغريب في الأمر أن هذا الإنهمام الذي يدعي انطلاقته من أصل علمي ديني، يتطابق مع المعنى الوضعي في أحلك صورها، صحيح أنه البؤس الإيديولوجي، وخصوصا أن الذين يودون مناقشة المذهب الشيعي الإثنى عشري من الخارج المعرفي يتعرضون لهذا الموضوع بنوع من الصفاقة المعرفية.

 

حيث يحبون الكليشيهات والأحكام العامة الغير المؤسسة على شبهة دليل واحد، بل حتى أن هناك من طفق يتبنى المنظور الشريعتي واصفا التشيع بأنه تشيع صفوي، وهم لا يعلمون من الدولة الصفوية إلا الإسم ولا من التشيع إلا الرسم محاولين بهذه الإهطاعة الابستيمولوجية محاولة تدثير شقاوة الجهل المعرفي الذي يعيشون فيه، متحدثين عن كل شيء بدون أدنى مبررات الحديث عنه.

 

صحيح أن هذا الجو الاحتقاني لا يساعد على تعاطي معرفي مؤسس على المقاربة الاستدلالية، لأن المحك عند هؤلاء هو الإيديولوجيا الانسدادية لا أقل ولا أكثر.  

 

فالجنبة المعرفية المتحققة في كتاب محنة التراث الآخر ( 10 ) لا تتجلى في زخم المعطيات والمعلومات التي شكلت حافزا للقريحة الباحثة عن تكوين اليقين فيما تعتقد وفيما تفكر فيه وبه، بل الجنبة النفسية الفكرية هي الناضحة في تلافيف الخطاب وبين المسكوت عنه في النص، لذلك سوف نحاول أن نجري قراءة للخط المعرفي المحيط بالكتاب لا بجوهره، لعلنا نستطيع أن نستوعب ليس ملابسات البحث وحسب بل وحتى الخط الناظم لتصور المألوف للأشياء الفكرية وكيفية تسربها وتفويتها داخل سوق رمزي عملته هي الشرعية والمحظور.

 

سنحاول أن نظل تخوميين عسانا نمسك بالمعادل السحري والمتحكم في لعبة الضوء بين الظهور والإختفاء، بين القبول واللاقبول، بين المنحة والمحنة.

 

كثيرة هي اللحظات التاريخية التي جعلت سؤال المتقبل المعرفي واللامتقبل المعرفي تظهر إلى السطح كأزمة خلق القرآن حيث وجدنا تداولا سياسيا لهذه الفكرة فمن التقبل واعتبارها العمدة لسلامة العقيدة لتنقلب فيما بعد وكأنها حمولة كفرية ينبغي محاربة متبنيها، إلا أن هذه الأبحاث ظلت للأسف حكومانية فيما يتعلق بهذه اللحظات، يعني نظرنا إلى المسألة والحكم عليها وتعقبها من الشرعية إلى اللاشرعية ظل سياسويا محضا وكأن الفرمان السياسي هو الذي يقرر حركية الفكر والمعرفة غفلا عن الفاعلين الرمزيين، وأن المسألة تتعلق بتقريب فلان أو تيار فلان واستبعاد تيار فلان. هذا الكلام يظل صحيحا لمرحلة معينة من البحث لكنهأبدا لا يمكن أن يشكل التفسير الوحيد والأوحد، لذا يكون من المناسب محاولة استيعاب التخم المعرفي الذي دفع بالفكر الديني خلال مرحلة تاريخية معينة إلى الصعود مقابل فكر ديني آخر عرف اندحارا ظاهريا أمامه. صحيح أن هناك دراسات معرفية فذة حاولت فهم هذه اللحظة إلا أنها على جديتها ظلت أسيرة الإبيستمي المعرفي الذي تنطلق منه، تفكر داخل ثنائية الأنا والآخر، بعكس الكتاب الذي نحن بصدد قراءته وإن تفكيكيا، فهو مرافعة من أجل الإهتمام من أجل الإعتراف، وهنا النكتة التي يطيب لنا البحث فيها قليلا، ذلك أن الجميع يترافع مؤازرة لدفع أي اعتراف أو شبهة اعتراف تتسلل إلى ملف القضية، إلا أن قضية المفكر الإسلامي هاني مختلفة تماما فهو يسعى إلى استخراج اعتراف في ملف القضية حتى يربح الرهان، فمرافعته هي للحق العام، يحاول بسط أسباب تدثير هذا الإعتراف فالعملية معكوسة في هذا الكتاب.

 

منطلقا من حيثية علمية تاريخية لإثبات عملية التدثير هذه، للجواب على سؤال كيف تم التدثير ولماذا تم ذلك، صحيح أنه لم يذهب بعيدا في هذا المضمار وخصوصا أنه يتحوز الأدوات المعرفية الكفيلة بفتح الملف من جديد وأن لا يغلقه إلا بعد إحداث ثورة زنجية في هذا المجال، إلا أنه ولأسباب لا نفسرها إلا بأنها خضوع للإبيستمي الإسلامي الرسمي قافزا للاستدلال على أهمية نزع التدثير، والحال أن التدثير في حد ذاته تهمة كافية لوحدها لإدانة العقل الإسلامي الرسمي الذي يتعامل مع المعارضة المعرفية كما لو أنها موجودا جربيا يتعين إبعاده ووضعه في المخافر والمشافي ولم لا المقابر الجماعية بوصفه قضاء على الطاعون الذي ينهش لحم العقيدة الإسلامية من الداخل، ولنا وقفة مع أزمة القفز هاته التي قام بها المفكر هاني والتي سوف نرى بأنها مبررة، إلا أنها للأسف تكرس التصور الإستبعادي في أحلك صوره.

 

فلو عدنا قليلا إلى تموضع المفكر فسوف نراه يلعب دور المرافع للحق العام، والمرافع للحق العام لا يمكنه بتاتا أن يشخص ما هو هذا الحق إلا بميزان معياري، وهو عين السلاح الذي تلعب به الأدوات الإيديولوجية للدولة الحاكمة، بمعنى آخر أنه يؤسس ثم يعود فيهدم ما أسسه بخلفية ارتكاسية تكرر الأزمة من الخارج، لتشكل انعكاسا شقائيا للأزمة الداخلية.

 

والحال أن المرافع للحق العام يجب أن يتجاوز مزالق التشخيص ليحافظ على معنى " الحق " بأعلى صوره، وكذا لمعنى " العام " أيضا، فمحاربة التدثير لا تستقيم إلا بعنوان واحد هو محاربة التدثير لذاته، أما البحث عن بعض مصاديق المطابقة مع التصور الغالب داخل المشهد الفكري الإسلامي السني، هو قول بانعدام مبرر للتدثير والتهميش، لكنه قول أيضا بصحة التدثير عند المخالفة، وهذه هي الحلقة الإرتكاسية التي نوهنا إليها.

 

وخصوصا أن هناك من سوف يركز على المخالفات أكثر من المشتركات، وتظل اللعبة السياسية حاضرة، لم يتم القضاء عليها بقدر ما تم توطيدها وإن بصورة أكثر لطفا، حركة سيزيفية ترد الأمة إلى السفح كلما اعتقدت بأنها وصلت إلى قمة المشترك، وهذا عين ما تقوم به الحركة التقريبية منذ عشريات خلت دون نتيجة تذكر.

 

فورقة المنحة هي المتسلطة في هذا الباب والمفكر هاني يتعامل مع هذه الجهة التسلطية بطريقة استعطافية لا تخفى، سواء على المستوى الكلامي والحكمي وأيضا على المستوى الشرعي، هو بحث جار عن أوراق اعتماد متفضلة بتعبئة لاستمارة القبول من لدن اللوغوس المعرفي الديني المسيطر والمتحكم في قوالب الحلية والحرمة وكذا قوالب التوحيد والشرك، هي عملية عقيمة إلى حد ما.

 

والطريف في المسألة أن هناك من سوف يقوم بنفس العملية في الضفة الأخرى مطالبا بعدم تهميش فكر إسلامي ما، ومعتمدا نفس الشأنية، هي رحلة اعتماد لا أقل ولا أكثر.

 
 

فهل قدر الأمة الإسلامية أن تتبادل أوراق اعتمادها لدى الفرق الأخرى بطلب رامي إلى عدم التهميش، وبعدها يترك القول الفصل للوغوس الإسلامي سواء المتحكم على العموم أو المتحكم على الخصوص ؟ أم أنه حان الوقت لتأسيس لوغوس فكري جديد يقضي على هذه التفاصيل الإستبعادية والساكنة لأسباب أو لأخرى. يبدو أنه إن لم نقم بمراجعة علاجية وتشريحية حتى للوغوس الإسلامي لا يمكننا بتاتا أن نقضي على معضلة الإستبعاد من جذورها بقدر أننا سوف نستجلب فئات ما، باحثين عن منطقة هدوء نسبي علمانية بالضرورة.

 

أعتقد أن المعاملة العرفانية مع الموضوعة كانت لتكون أفضل، ليس فقط لأن العرفانيين لا يجرون وراءهم الأزمات الفقهية والشرعية فحسب، بل لأن الذوق العام يظل بشريا وهو مشترك صافي غير مخضب بخلفيات مذهبية، بخلاف المدماك الكلامي أو الشرعي، نفس الشيء ينجر للمقاربة الفلسفية التي تتعامل مع موجود معرفي خارجي متخلص من شنآن الحروب والغزوات والمراصد الجيو استراتيجية التي أدت وخلال قرون خلت إلى تجديد التصور، والبحث بطرح عقلاني أقوى على مبادئ الخلاف وعلى صحة ما يتحوز في اليد.

 

فحركة الفكر الأنفسي تتجلى أكثر في إطار المشترك الإنساني، لذلك ليس من المستغرب أن نقف على مقارنات ليس فقط بين المفكرين العرفانيين بين بعضهم البعض، بل نجدها تتسع لتشمل باقي الأديان، مما يدلل بشكل جيد على ارتفاع التوتر الشرعي بين هذه المدارس الفكرية، بخلاف ما يقع في قراءات فقهية بين مذهبين إسلاميين، بالأحرى بين ديانات متكثرة.

 

لذلك شخصيا لم أستطع فهم لماذا تم إغفال التلاقح العرفاني في أوراق المرافعة الهانائية، والتي كان من المؤكد أن تقدم دعامة قوية لكسر صرامة وصلابة اللوغوس الإسلامي الرسمي الذي يتخبط في تمظهرات النص المقدس، وطقوسيات التعبد. فمدار النية الحاكمة كفيلة بتليين الخطاب الديني الرسمي الإستبعادي إلى حد اضمحلاله عندما يصل مقام التلبس المطلق.

 
أزمة الحق العام في تمعيره:
 

كثيرا ما نسمع كلاما هنا أو هناك بأن الحق العام يجب حمايته من بعض الأفكار والتحركات التي تريد تحطيمه أو حتى تؤدي به في أضعف الأحوال إلى التفتت الجزئي، كثيرا ما نسمع بأن فلانا أو الحركة الفلانية تهم بالمس بالحق العام، لكن أبدا لم نطرح السؤال الوجودي الأساسي ما هو هذا الحق العام ؟.

 

الغريب في المسألة أن هذا الحق العام في مقام الجواب عنه، سوف يعرف تشذرا متكثرا ينزع منه صفة العموم، ليضحي الغالب، وهنا مربط الفرس عندنا في هذا المقام. وهو أن التشخيص ينطلق من أولويات الذات العارفة وتحديدها وفق ترسيمة تتفق مع المرغوبات والمراد منها، وهي ليست بالضرورة معبرة عن أولويات جمعية، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالذات العارفة الإسلامية التي تتعامل مع النص المؤسس وفق مداميك معرفية تهمها بالأولى.

 

فعندما تكون ذات عارفة قارئة لسطح الخطاب الديني، تكون أولوياتها ناتجة عن هذه السطحية في التعامل، وعندما تكون ذات قارئة لعمق الخطاب الديني فإن أولياتها تكون من سنخ قراءتها، وهكذا دواليك فيما يخص التعامل التأويلي، إذا تشخيص الحق العام يكون ثمرة للقراءة الرسمية للدين، وكلما تناقض هذا التشخيص مع تشخيص آخر لتحول في القراءة يدفع بالجهاز الرسمي إلى تهميش القراءة المعارضة أو المناقضة بوصفها قراءة غير شرعية.

 

ومن ثم يتم التعامل مع سلسلة الخطابات بوصفها شأنا سياسيا خاضعا لتدبير الشأن العام، وهنا على هذا المستوى تتحقق عملية الإنزياح بشكل قصري للهامش، وإعادة توضيب المشهد الفكري من جديد على أساس ثنائية الشرعية واللاشرعية.

 

فالمعضلة في مداميك القراءة الدينية، ليس في السلطة المدبرة للشأن العام لأن هذه الأخيرة تتحرك وفق استراتيجية مرسومة من قبل المدماك المعرفي الأوسع والأكبر الضابط لمجمل المجال المعرفي، ونحن بهذا الخصوص نعود إلى أصل الإشكالية مع المفكر الإسلامي هاني، وهي أنه ينظر في طول مشروعه لليد السلطوية المنفعلة، على أساس أنها المحرك الأول للمشهد الثقافي، والحال أن هذه مقاربة خاطئة لأن منظور السلطة ما هو إلا ثمرة معارف أدواتها الإيدلوجية من جامعات ومساجد وقنوات تثقيف ومعرفة. فكان حريا بالمفكر العتيد أن يهتم بالمدماك المعرفي الحاكم ويعمد إلى تفكيكه وإعادة تركيبه قبل أن يبحث فيما هو مهمش ولماذا هو كذلك، لكن خضوعه للظاهر دون الحقيقة جعل مجهوده على أهميته لا يمكن أن يحقق ما سعى إليه المفكر هاني. وربما هذا من بين الأسباب التي جعلته يتوقف مرحليا عن مشروعه – وإن كنا نتساءل حقا هل توقف فعلا – ليخوض في غمار المهجوس الفكري اليومي ويبحث عن أجوبة في خضم الزحام المعرفي الذي تشهده المنطقة.

 

فالحق العام الذي يحاول مفكرنا الدفاع عنه يظل لوحده محتاجا إلى إثبات في المقام، بخلاف الحراك الثبوتي الذي يتحركه المؤلف، ذلك التراث الإمامي غير مهمش في المشرق لأسباب معينة فإنه في المغرب ليس كذلك بل إنه يحتاج فقط إلى مجهود إثباتي أكبر، وعملية التوصيف والعرض لخصوصيات هذا التراث قد لا تفيد في المقام، وإن كانت في جميع الأحوال تظل ذات أهمية لا تنكر بوصفها ورقة تعريفية بالمجهود الفكري الآخر، ومحاولة الجواب على أسئلة لا زالت عالقة في بعض الأذهان. لأن الأمر يتعلق إلى إعادة تجذير للفكر التراثي الإمامي داخل المشهد الثقافي المغاير عن طريق إثبات وحدة المقومات وسعة الآفاق. 

 

هذا من جهة نسبية التهميش، إن وجدت، لكن ألا يرى معنا المفكر الإسلامي هاني بأن التراث الأكثر تهميشا هو التراث المخطوط والذي لم يعرف طريقه بعد إلى التحقيق والطبع، فكان من المناسب أن تجرى قراءة استبطانية لسياسة الطباعة والنشر في العالم العربي وتعقب مجال المهمش فعلا، لأنه لا يمكن أن نساير المفكر في هذا الأمر ما دامت معطيات التراث الإمامي متوافرة في المشرق ويسهل الوصول إليها لمن يبحث عنها، والدليل كتابه هو، إلا أننا نعتقد بأن البحث يكون أجدى لو تم التعامل مع المرضي عنه والغير المرضي عنه، في المشهد الثقافي.

 
هاني ومعضلة الشرعية:
 

المفكر الإسلامي إدريس هاني كان يفكر داخل سياج الشرعية، بوصف أن المائز بين الفكر الإسلامي السني والفكر الإسلامي الإمامي يتضاءل ليصل إلى اللاشيء، ما دامت بعض المختلفات المعرفية الدينية الموجودة داخل الإرث الإمامي لها بعض التفاصيل داخل الفكر السني.

 

وأنه على هذا الأساس ليس ثمة مبرر من أجل تهميش هذا الإرث، فمجمل العمل عبارة عن إثبات لشرعية الفكر الإمامي وأنه يظل داخلا في إطار المتقبل المعرفي الإسلامي.

 

هذه خلاصة وصلنا إليها في سفرنا الأنطولوجي مع الكتاب، لكن أين تتجلى المعضلة عندنا.

 

المعضلة متحققة من جهة الجنبة الإنقباضية والإنبساطية لمفهوم الشرعية، ذلك أن الجميع يعلم بأن الشرعية هي من البنى المعرفية المتحققة وفقا لمداميك أولية، وليست من المفاهيم المتمعيرة المتشخصة قبليا، بل هي ثمرة نتاج فكري ما.

 

فيكون عمل المفكر هاني خارج إطار التأسيس المفاهيمي الواجب العمل عليه ابتداءا، بمعنى عن أية شرعية نتحدث فإن كانت شرعية كبروية تتسع لمجمل الإنتاج البشري داخل سياج الإسلام، فهذا يجب تثبيته أولا في الوجدان العربي، لأن هكذا شرعية ظلت مغيبة داخل سياج صغروي أي الشرعية المذهبية، وبالتالي لا يكون من المتيسر التحدث عن شرعية كبروية قبل نقض الشرعية الصغروية وإلا كان المجهود كل المجهود حفرا في الماء.

 

والملاحظ أن نفس ما سبق وأن أوضحناه بخصوص الحق العام، هو نفس ما نستشكل به فيما يتعلق بالشرعية.

 
من السؤال التاريخي إلى الصلف الأنطولوجي:
 

التاريخ والحركة الزمنية هي أكبر مختبر يمكن من خلاله الإشتغال على معضلة الفكر العام والفكر الخاص، وسبب تهميش الفكر الخاص لحساب فكر عام.

 

لذلك لم يكن من بد إلا أن يبدأ المفكر هاني كتابه بما أسماه الكتابة التاريخية ونقد الخطاب التاريخي العربي، وأنه أضحى من المناسب تجديد النظر في التاريخ خصوصا بعد أن " استنفذ التاريخ القديم كل أغراضه، وأدى كل مهامه على صعيد التطاحن والتصارع السياسيين والمذهبيين، اللذين ظل الماضي العربي والإسلامي أسيرا لهما. " ( 11 )، فالتاريخ القديم ما هو إلا سعي سياسوي يتحرك في إطار تبخيس حقوق الآخرين ومدح السلطان والدعاء له بالنصرة، وهكذا إنتاج معرفي يجب أن يعاد فيه النظر وغربلته من جديد.

 

وهذه الملاحظة على أهميتها ودقتها في نفس الآن، تظل غير منتجة في فكر الأستاذ هاني فأزمته تتجلى في أنه ينطلق من أرضية فكرية مشتركة في التبني والتهميش ويحاول من خلال نفس الأرضية الإستبعادية تأسيس تبني، والحال أن هذا السلوك يظل غير مستساغ لأن الإستبعادي لا يمكن أن يكون متبنيا لمعرفة ما إلا إذا وقع التوافق على مستوى التفاصيل والأصول وإلا جعل منه موجودا معرفيا خصما خارجا عن دائرة الشرعية. مما يجعل من كتاب المفكر هاني سابق للأوان يحتاج إلى إعادة تأسيس على المبنى التعددي، لأنه إن ظل خارج هذا الإطار لا يتيسر إنتاج ثمرة فعلية لهكذا عمل.

 

ولهذا السبب بالذات نعتقد بأن المفكر الإسلامي إدريس هاني لم يمض قدما في مشروعه، ولا أن كتابه حقق ما كان ينتظر منه.

 
 الهوامش:

1 – إدريس هاني: الإسلام والحداثة – إحراجات العصر وضرورات تجديد الخطاب، منشورات دار الهادي ضمن سلسلة فلسفة الدين والكلام الجديد. الطبعة الأولى سنة 2005 الصفحة 62، مع ضرورة ملاحظة الأثر البسيكولوجي الناضح بشدة ليس فقط في محاولة قراءته، بل الأثر الناضح عليه كمثقف.  

2 – إدريس هاني: ن.م الصفحة 63.
3 – إدريس هاني: ن.م الصفحة 16.
4 ـ إدريس هاني: ن.م الصفحة 66.

5 – إدريس هاني: الإسلام والحداثة – إحراجات العصر وضرورات تجديد الخطاب، منشورات دار الهادي ضمن سلسلة فلسفة الدين والكلام الجديد. الطبعة الأولى سنة 2005 الصفحة 294.

6 – إدريس هاني: ن.م.ن.ص
7 – إدريس هاني: ن.م الصفحة 295.
8- إدريس هاني: ن.م.ن.ص.
9 – إدريس هاني: ن.م.ن.ص.

10 ـ إدريس هاني: محنة التراث الآخر  الصادر عن دار الغدير، سوف نجري قراءة تخومية للكتاب ولن نستغرق في الإحالة.

11 ـ إدريس هاني: محنة التراث الآخر الصفحة 19.

 

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً