الشيخ عبد المجيد معاديخواه(*)
هناك عدة تساؤلات حول الحوارات الأخيرة بشأن القرآن، والتي مهدت إلى تنظيرات تمسّ عقائد متجذرة ومصيرية تتعلق بالسؤال القائل: «هل القرآن الكريم هو كلام الله الذي نزل به جبرئيل ×؟ فقد قرأنا في عددين من صحيفة كارگزاران في شهر إسفند من عام 1386هـ ش نظريةً للدكتور عبد الكريم سروش، ومفادها أن القرآن الكريم هو ثمرة الشجرة المحمدية الطيبّة بإذن الله الذي لا تسقط من ورقة إلا بإذنه وعلمه.
ولا أريد الخوض في تفاصيل هاتين الرؤيتين، بل أريد التعرض إلى تساؤلات توضح الفوارق بينهما ضمنياً.
1ــ هل أخطأتُ في تلخيص فرضية الدكتور سروش؟
إن كنت أخطأت فأرجو توجيهي إلى مكمن الخطأ.
2ـ ماذا يعني التأكيد المكرَّر للقرآن الكريم على دور الأركان الأربعة في نظام الوجود (وحملة العرش الإلهي) في (نزول) و(تنزيل) هذا الكتاب وآياته؟ وهل ينسجم هذا التعبير مع القول بأن السماوات السبع التي تحدث عنها القرآن مراراً ليست سوى فرضية بطليموس التي أكل الدهر عليها وشرب؟!
3ـ أليس التأكيد على تقسيم السماوات والأرض في القرآن يثبت عدم انسجامه مع هيئة بطليموس؟ قال تعالى: {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى}.
ألا يُمهِّد حديث القرآن عن (العرش) بعد السماوات العلى الأرضية ــ في الأقل ــ إلى رؤية تفوق الرؤية السائدة؟ ألا نشاهد مفهوماً مثل (العرش) و(الكرسي) في القرآن بوضوح، بحيث لا يمكن حدّهما في إطارٍ ضيق: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}.
4ــ إذا لم يكن لدى النبي الخاتم ‘ ــ وفقاً لنظريتكم ــ سوى معلوماته الخاصة والكشف والشهود البشريين فما هو المسوغ والمبرر الذي جعله يذهب إلى عصمة كتابه من الخطأ؟ قال تعالى: {… وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.
في حين أنكم ــ خلافاً لصريح هذه الآية ــ تقولون بأن هذا القرآن يأتيه الباطل.
5 ــ ألم يتحدث القرآن الذي جاء به النبي ‘ عن قبح الاعتماد على الظن، وحثّ مراراً على التمسك بالعلم في كل تحركاتنا؟ قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.
فإذا كان الأمر كذلك كيف تخلى النبي نفسه عن هذه القاعدة، واتبع نظرية لم يكن له علم بها؟
6ـ أيّ منطق استند إليه النبي في قوله بأن ميزة هذا الكتاب عن غيره تكمن في خلوّه من جميع أنواع الشك والريب؟ قال تعالى: {ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}.
في حين أن نظرية سروش تثبت أن القرآن مشحون بالريب، فأيّ كتاب يمكن وصفه بأنه {لا رَيْبَ فِيهِ}؟ ألا يصح ذلك بالنسبة لكتاب فوق مستوى البشر؟ ألا تدل مفردة (ذلك)، والإشارة للبعيد، على مستويات أخرى لهذا الكتاب لا زلنا نجهلها؟ ألا يجدر بنا، بدلاً من اتهام النبي بالكذب، أن نتهم أنفسنا بعدم التعمق في المستويات السماوية لهذا الكتاب؟ ألم ينصحنا المولوي مراراً بقوله: «بدلاً من تأويل القرآن الكريم على نحو خاطئ يجدر بنا تأويل أنفسنا»؟
7 ــ ما هو مفهوم قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المَثَانِي وَالقُرْآنَ العَظِيمَ}؟ ألا يمكن صرف مثل هذه الآيات إلى مستويات هذا الكتاب، والتي وردت في بيانها الكثير من الروايات المتعلقة ببطون القرآن الكريم، من قبيل: قول الإمام: «ظاهره أنيق، وباطنه عميق»؟
وكيف وصل بنا الأمر إلى هذه السطحية، بحيث لا نجد تفسيراً للسماوات الواردة في أدبيات القرآن الكريم سوى هذه القشرة الخارجية؟ وما هو دور العقل والتدبر؟
8 ــ إذا رأينا كل شيءٍ محدوداً في شخصية محمد بن عبد الله ‘، وأن القرآن هو ثمرة تلك الشجرة الطيبة، مع الإصرار على نفي الأبعاد الإلهية، فأي فرق يكون بين النبي وغيره من الأولياء الذي صدرت عنهم كلمات هي غاية في العرفان الإلهي، من قبيل: نهج البلاغة، ودعاء عرفة، ودعاء مكارم الأخلاق، التي هي بأجمعها ثمار صدرت عن أشجار طيّبة؟
9ـ لو غضضنا الطرف عن الفارق الأساسي بين القرآن الكريم والنصوص العرفانية، التي يعبّر عنها بالقرآن الصاعد، وانتقلنا إلى هذا السؤال: ما هو الفرق بين القرآن الكريم والسنة النبوية؟ وما هو المعيار في التفريق بين كل ما يصدر من ثمار عن تلك الشجرة الطيبة، مع أنه ليس هناك من مجال للمقارنة بين الحديث النبوي والقرآن الكريم، لا في المستوى الأدبي ولا في المحتوى، وهل هناك من سبب معقول يدعو النبي إلى التخلي عن أسلوبه القرآني رغم تمكنه منه في كثير من الأحيان؟ وهل نعرف أديباً أو فيلسوفاً أو عارفاً أو صاحب أسلوبٍ يتخلى عن أسلوبه الخاص في مؤلَّفاته؟ وهل تشعر سماحتك بهذه الازدواجية في نفسك.
10ــ أي منطق يجيز لنبي من أنبياء الله أن يقول: خُتِمَتْ بي النبوّة؟ مع أنه يعترف بأنه بشر، فلو قلنا بعدم إلهية القرآن ألا يعد هذه الادعاء مخالفاً للعلم والأخلاق؟ أعتذر من ساحة النبوّة عن تمادي القلم في طرح مثل هذه التساؤلات اضطراراً، وإساءة الأدب إكراهاً.
11ــ ألا تدل الروايات المتواترة من قبل الفريقين بقطعية الوحي على حقيقة أن القرآن من وادٍ آخر، ولم يكن بإمكان محمد بن عبد الله أن يأتي ببعض آياته متى شاء ذلك.
وفي هذا المجال أكتفي بالإشارة إلى الفارق بين هذا النوع من الروايات المتواترة وما عمد إلى الاستناد إليه مراراً من حديث (تأبير النخل) المختلق، والذي يتهم به النبي زوراً وبهتاناً، حيث ينسب إلى النبي أنه تفوّه ذات يوم بأمر لا علم له به، رغم أن القرآن يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، الأمر الذي ترك تأثيرات سلبية على حياة أهل المدينة اقتصادياً، أيصحّ اللجوء في استحداث النظريات والفرضيات إلى مثل هذه الانتقائية، التي يمكن أن نجمعها في مصنَّف يمكن تسميته بـ «جامع الشطحيات»؟!
12ــ لقد تأوّه الإمام علي × لرحيل النبي ‘، وعبَّر عن انقطاع الوحي بأنه فاجعة لا تقاس بها فاجعة أخرى، وهذا ما لا ينسجم مع نظرية تصرّ على نفي سماوية القرآن.
13ــ هناك روايات تواترت في كتب الفريقين حول عرض القرآن على رسول الله مرة واحدة في كل سنة، حيث كان جبرئيل يقوم في كل رمضان بعرض القرآن على النبي، وخاصّة في السنة الأخيرة من حياة النبي، حيث تكرر العرض فيها مرتين، فقد كان النبي في كل رمضان يعتكف في المسجد عشرة أيام، وأما في عامه الأخير فقد تضاعفت مدة الاعتكاف، وقد بين النبي أنّ سبب ذلك هو عرض الكتاب عليه مرتين، وذلك بأمر من جبرئيل ×، وبذلك فقد تأكد النبي من دنو أجله. إنّ هذه الروايات من الكثرة بحيث لا يمكن التشكيك في صحتها.
14 ــ كيف يمكن في ضوء نظرية سروش تفسير الآيات التي تحذر النبي من التفرّد والتسرّع، وتأمره بانتظار الوحي حتى يكتمل من تلقاء نفسه، من قبيل: قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}؛ وقوله تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}.
سماحة الدكتور عبد الكريم سروش، عندما سُئلتم ذات يوم: هل إن الدكتور سروش ينكر نزول القرآن من عند الله، ويقول بأنه كلام محمد؟ أجبتم قائلين: «ربما كان قائل ذلك أراد المزاح، أو أن له غايات سياسية أو شخصية». وصلتُ إلى ذروة الفرح، وسارعتُ إلى قراءة الحوار الذي كنت أتوقع أنه سيبدد آخر الشكوك في هذا المجال، ولكنني فوجئت بأن هذا الحوار يصبّ في هذا الإنكار أكثر من ذي قبل، فأعدت قراءته مراراً وتكراراً علّني أحصل على بارقة أمل، ولكن دون جدوى. واستعنت ببعض الأصدقاء الذين توقَّعت أن يكون عندهم الحل إذا كان سبب المشكلة يعود إلى غبائي، ولكنني لم أجد فيهم من يوضِّح لي التناقض بين إنكارك الصريح لسماوية القرآن ونفيك القاطع لأن تكون ممَّن يذهب إلى إنكار القرآن.
سماحة الدكتور سروش، إنك إذ تجرّد قلمك من غمده، وتقول غاضباً: «لماذا يصرّون على اتهامي، ولا يأخذون إنكاري لهذه التهمة بنظر الاعتبار»، تصرّ في الوقت نفسه، وتصرِّح في حوارك مع مايكل هوبنغ، قائلاً: «أما أنا فأذهب إلى رأي آخر، حيث لا أتصور أن النبي قد تكلم بلغة قومه مع انه يتمتع بعلوم ومعارف مختلفة، وإنما كان النبي مؤمناً بما يقول حقيقة، فكانت تلك هي لغته، وكان الفكر فكره، ولا أتصور أن علمه بشأن الأرض والكون وتكوين الإنسان أكثر من علم المعاصرين له؛ فإن العلم الذي وصلت إليه الإنسانية حالياً لم يكن للنبي علم به، وهذا لا يؤثر على النبوّة سلباً؛ لأنه إنما كان نبياً، ولم يكن عالماً أو مؤرخاً».
أخي العزيز، ألا يعدّ قولك: «إن النبي لم يكن في علمه أفضل ممن عاصره من أبناء الجاهلية» تشكيكاً في القرآن الكريم؟ وهل هذا هو رأيك في جبرئيل واحد حملة العرش الأربعة أيضاً؟
إنما تقدمتُ بهذه التساؤلات راجياً الحصول على إجابات تزيح الشكوك التي تقضّ مضجعي، وأدعو في الختام مردِّداً قوله تعالى: {رَبَّنَا… وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا}.
الهوامش
(*) أحد الباحثين الناشطين في مجال دراسة تاريخ الثورة الإسلامية في إيران.