أحدث المقالات
الحمد لله الذي أحاط بدقائق أسرار البلاغة، ومَلَك إيضاح المعاني بتلخيص البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث بدلائل الإعجاز، وعلى آله لوامع التبيان، وجوامع الفصاحة والبيان.
أما بعد؛ فإن القرآن الكريم كان وما يزال وسيبقى المعجزة الخالدة الدائمة في اللفظ والمضمون والأسلوب. فقد كانت معجزات الأنبياء السابقين متفوقةً عاليةً على تحديات عصورهم وأممهم .. أما القرآن فهو معجزة خاتم الأنبياء والمرسلين، المتفوقة العالية الخالدة الباقية على البشرية وعلى العالمين على مرّ العصور وكرّ الدهور.
إن دراسة أساليب البيان في القرآن الكريم، تُعدُّ عنايةً فائقةً بتنوع أساليب النصوص القرآنية وتدبرها وتأملها، واستنباط المنهج والأسلوب الذي يسري في نسقها، وجوانب الجمال الذي تتسم به.
وقد وجدت للعلماء – قدامى ومعاصرين – جهداً مبذولاً في أساليب البيان في القرآن الكريم، وذلك في كتب الإعجاز والتفسير البياني، ولم يفرد الباحثون كتاباً يجمع هذه النظرات الفنية ويناقشها، ويوضح سمات هذه الأساليب وعناصرها، ولهذا أردت أن أجمع هذه النظرات من كتبهم، وأبيّن ميزات كل أسلوب وأسسه، وأوازن بين جهود القدامى وجهود المعاصرين، وقد وجدت أن المعاصرين يقتبسون غالباً من القديم.
ولقد حاولت أن أستقصيَ البيان في القرآن الكريم في كتب الإعجاز، والبلاغة القرآنية، والتفسير وخاصّة التفسير البياني، والدراسات القرآنية.. في العصور القديمة والعصر الحاضر. وقد تمخّض عن هذا الاستقصاء وجود صعوبات كبيرة، وذلك لأن مادة البحث لا تقتصر على كتب التفسير – على ضخامتها – بل تشمل دراسات القرآن وكتب الإعجاز، وهذا ما يتطلب البحث في جزئيات فصول البلاغة القرآنية، فلا يوجد عنوانٌ محدّدٌ في أساليب البيان نفتش عنه ونقتبس مادة البحث منه، ولم ندرس المادة في فصول الأسلوب فقط، بل سعينا إلى توضيح شأن الأسلوب في اللفظ والمضمون والمعنى.
كما راجعت في هذا المجال كتب الأساليب والبيان، وبحثنا فيها عن لمحات الدارسين لدى الاستشهاد بالقرآن الكريم، ويضاف إلى هذا شمول البحث لجهود الدارسين منذ العصور الإسلامية الأولى، وهذا ما جعلنا نراجع المصادر المهمة في شاهد واحد، وتمثلت الصعوبة كذلك في الرجوع إلى كتب ذات اختصاصات مختلفة.
وأما بالنسبة إلى موضوع البحث فنراه موضوعاً جديداً، لأنه يقدم دراسة فنية لنظرات الباحثين، ويقيِّمها وفق مبادئ الفن والأسلوب، ويحدّد المعايير التي اعتمدها الباحثون من خلال مفهوم الأسلوب.
والقرآن الكريم يعرض علينا أساليب شتى استخدمها من أجل تحقيق أهدافه، فالحوار والمناقشة والجدل، وأسلوب القصة، والترغيب والترهيب، والموعظة والقدوة وأسلوب الكناية والتمثيل والاستفهام، ومخاطبة العقل والوجدان ومخاطبة الفطرة، وأسلوب القوة والتهديد بالانتقام والعذاب.. تعبّر عن تعدّد الأساليب وتنوع الوسائل.
إن المنهج القرآني لم يحدّد أسلوباً خاصاً ومعيناً وثابتاً من أجل الوصول إلى الأهداف وبلوغ الغايات، ولم تتوقف الأساليب القرآنية عند صيغةٍ معيّنة. إن ميزة الأساليب القرآنية أنها إبداعيةٌ ومتطورةٌ. فهذه الأساليب تتغير وتتبدل حسب الظروف والأوضاع.
إن التطور في الأساليب القرآنية تعكسه لنا الآيات الكريمة التي تحدّثت عن معجزات الرسل والأنبياء A، حيث نلاحظ التدرّج والتطوّر فيها مع مقدار وعي الإنسان ونمو إدراكه، واتساع دائرة معارفه وعلومه.
إن الإبداع في الأسلوب بما يتناسب والحاجة البشرية أمرٌ واضحٌ في الأسلوب القرآني، من حيث التجديد والابتكار، والملاءمة مع طبيعة المهمة، والتناسب مع الأهداف.
أما المصادر التي اعتمدها البحث فهي تشمل المصادر الواسعة والمتنوعة قديمة وحديثة: في دراسات القرآن، والبلاغة، والتفسير، واللغة، والإعراب، وعلوم القرآن، والنقد الأدبي، وعلم النفس، وعلم التربية، بالإضافة إلى التاريخ.
في كتب الإعجاز اعتمدت على (البيان في إعجاز القرآن) للخطابيّ، ورسالة (النكت في إعجاز القرآن) للرمّاني، و(دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة) لعبد القاهر الجرجاني، و(إعجاز القرآن) للباقلاني، و(المثل السائر) لابن الأثير، و(الطراز)، ليحيى العلوي، إضافة إلى نظرات الجاحظ في كتابيه: (البيان والتبيين)، و(الحيوان)، ووقعت على تأمّلاتٍ رفيعةٍ في كتب تتحدث عن علوم القرآن مثل (البرهان) للزركشي، و(الإتقان) للسيوطي، و(بديع القرآن) لابن أبي الإصبع.
أما بالنسبة إلى النتائج فأحب أن أضع هنا أهم نقاط البحث والنتائج التي تمخضت عنها هذه الدراسة.
كان عنوان الباب الأول (البيان اللغوي وصلته بالإعجاز في القرآن الكريم)، وقد أقمته على خمسة فصول. وخصّصت الفصل الأول لموضوع (الأسلوب والبيان)، فأشرت فيه إلى الأسلوب ومعانيه المختلفة، وعلاقة الأسلوب بالبيان والبلاغة.
فقد أكّد البحث أن العلاقة بين الأسلوب والبلاغة وثيقةٌ جداً، وإذا ما أردنا أن نحدّد عناصر أسلوبٍ معيّنٍ، فالمعين الأول في ذلك هو البلاغة، لا البلاغة التقليدية التي تنحصر موضوعاتها في علم المعاني والبيان والبديع، بل البلاغة التي تكون (مطابقة الكلام لمقتضى الحال).
كما عاد البحث إلى مجموعة من الدراسات النقدية الغربية، وما يسير مسارها من الكتب النقدية العربية، وانتفع بالمباحث المفيدة، وردّ الغثّ منها، فكان من الضرورة والحكمة الإفادة من الأشكال الفنية المعاصرة، والانتفاع منها بمزجها مع المحافظة على الشخصية الإسلامية.
ثم انتقلت إلى دراسة العوامل الرئيسة التي يبنى عليها الأسلوب وهي اللغة والإنسان والبيئة، وأشرت إلى أن هذه العوامل الثلاث تعمل معاً بطريقةٍ خاصةٍ، وتتفاعل فيما بينها على نحوٍ خاصٍّ، ومع عوامل أخرى في فطرة الإنسان، لتجتمع نتيجة ذلك في العمل الفني في عناصره كلّها، وفي الأسلوب بصورة خاصة. فالأسلوب إذن عنصرٌ هامٌّ، غايته الأساسية إبراز الموضوع المطروح والقضية المطروقة على نحوٍ يساعد على بلوغ الأهداف سواء الثابتة منها أو المرحلية.
ثم كان الفصل الثاني (فكرة النظم بين وجوه الإعجاز) بمثابة التخصيص بعد التعميم، لنقترب خطوةً نحو هدف هذه الدراسة.
وأشرنا إلى محاولات العلماء لبيان الإعجاز القرآني، وأبو عبيدة بمجازه فتح الطريق لدراساتٍ بلاغيةٍ تهدف إلى بيان الإعجاز القرآني عن طريق نظمه وتأليفه، وقدّمنا شواهد متعددةً تثبت جهود القدامى في هذا المجال.
ولعبد القاهر مكانةٌ كبيرةٌ في تاريخ البلاغة، بسبب وضعه نظريتي علمي المعاني والبيان، في كتاب (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة).
عندما حصر الجرجاني سرّ الإعجاز القرآني في النظم، فإنه لا ينكر بقية الأدوات من أسباب الإعجاز، وإنما يرفض أن تكون هذه الأدوات بنفسها قادرةً على بيان وجه الإعجاز، لأنها لا تملك في رأيه القدرة على أن تشتمل القرآن كله، بينما النظم الذي هو توخّي معاني النحو في معاني الكلم يملك ذلك. ويستطيع أن يهيمن على تلك الأدوات كلّها.
ثم جاء الفصل الثالث (إعجاز القرآن وآراء العلماء فيه) لنخطو به خطوةً جديدةً نحو هدف الدراسة.
أكد البحث أن الدراسات في الإعجاز القرآني وأسراره البلاغية، بدأ ينمو ويتّسع منذ نزل القرآن الكريم متحدياً العرب خاصّة والناس عامّة، على أن يأتوا بمثله أو بسورةٍ من مثله. فكتب في أسرار الإعجاز كثيرٌ من العلماء: كالجاحظ والرمّاني والخطابي والباقلاّني والقاضي عبد الجبار وأبو هلال العسكري، وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم.
وقد اختلفوا في أسرار الإعجاز، فردّه بعضهم إلى فصاحة لفظه، وبعضهم إلى دقّة نظمه، وحصره بعضهم في الصِّرفة، وأرجعه بعضهم إلى الأخبار المستقبلية، ورأى بعضهم أن الإعجاز يتم من عدّة وجوه.
أما في الفصل الرابع فقد أثبت البحث خصائص أسلوب القرآن الإعجازي، ومن أهمها الجمال الموسيقي، ولا شك أن العنصر الموسيقي في القرآن الكريم عجيبٌ، وهو الذي جعل العرب محتارين في أمر القرآن، وقد عجزوا عن معارضته.
ومنها الطريقة المتميزة في الاستدلال، لقد استفاد القرآن الكريم من أفانين القول في محاجّة الكفّار، وتصحيح زيغ المحرّفين، والوعد لأوليائه والوعيد لأعدائه، ما يخرج عن طوق البشر الإحاطة بمثل هذه الأساليب في أوقاتٍ متقاربةٍ أو متباعدة.
وقد توصل البحث إلى أن القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادةً لبناء أضخم عقيدة دينية.
أما الفصل الأخير فهو (كيف يتعامل المفسرون اليوم مع قضية بلاغة القرآن؟).
تعدّدت الدراسات والبحوث حول القرآن الكريم، وربما التفسير هو أحد أوسع المجالات التي ارتادها العلماء والمفسرون، أما بالنسبة إلى قضية الإعجاز فقد تطرّق جميع المفسرين إليها.
ونحن ذكرنا في هذه الدراسة آراء مجموعةٍ من المفسرين في العصر الحديث في قضية الإعجاز.
يرى سيد قطب أن البلاغة المعجزة للقرآن تنبع من الجمال الفني والتناسق فيها. ثم يضيف أن إعجاز القرآن لا ينحصر في اللفظ والتعبير والأداء، وإنما هو الإعجاز الشامل المطلق.
ويرى الطباطبائي أن إعجاز القرآن يكون من جميع الجهات، فلا ينحصر في بيان القرآن وجزالة أسلوبه فقط.
والنورسي يرى أن النظم القرآني هو الوجه الأوّل والأظهر من وجوه إعجاز القرآن الكريم، ولإظهاره وبيانه ألّف كتابه (إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز).
تلك هي أهم الموضوعات التي عالجتها في الباب الأول.
أما الباب الثاني فكان عنوانه (أنواع الأساليب في القرآن الكريم)، وقد أقمته على سبعة فصول، جعلت عنوان الفصل الأول (أسلوب الجدل والحوار)، فأشرت إلى أهمية الجدل والحوار في القرآن.
أكّد البحث أن القرآن الكريم جاء ليعلّم الإنسان كيف يكون الحوار طريقاً للفكر والعقيدة والعمل. جاء القرآن ليعلّم الإنسان كيف يحاور الآخرين على أساس الحجة والبرهان والدليل. وكيف ينفتح المسلمون على العالم من خلال الحوار، وكيف ينطلقون إليه في رسالتهم في أجواء الحوار، التي تحترم الإنسان الذي يختلف معها، لتقوده إلى أفكارها من موقع احترام الفكر والكلمة والموقف.
وقد ركّز الإسلام على الطريقة السلمية، التي تعتمد اللين والمحبة في كل أساليب الحوار والجدال، من أجل الوصول إلى المعرفة، وأطلق على ذلك كلمة (التي هي أحسن).
القرآن هو الذي استعمل الجدل والاستدلال والبرهنة بمختلف الطرق البرهانية الملائمة للإقناع بالحقائق التي حملها إلى الناس.
لقد ساق القرآن الكريم ألواناً من المحاورات التي دارت بين الرسل وأقوامهم، وبين المصلحين والمفسدين، عندما تتدبّرها ترى الأخيار فيها لا ينطقون إلا بالصدق الذي يدمغ الأكاذيب، وبالحق الذي يزهق الباطل.
ثم كان الفصل الثاني وعنوانه (الأسلوب القصصي)، فأشرت إلى أن القصص القرآني وسيلةٌ من وسائل القرآن الكريم الكثيرة إلى تحقيق هدفه الأصيل، والعناصر في القصة القرآنية تابعةٌ للهدف منها، وللعبرة التي سيقت من أجلها.
فقد توصل البحث إلى أن هدف القصة القرآنية الأصيل هو الدعوة والتربية. فتكون القصة القرآنية أداةً عمليةً ناجحةً لتربية النفس، وتقويم السلوك، وتصحيح الاعتقاد، وتوجّه الإنسان نحو عبادة الله الواحد الأحد، والخضوع لقدرة الله العظمى، وهيمنته التامّة على هذا الوجود.
من الطبيعي أن تقوم القصة بدورٍ فعّالٍ في مجال الدعوة، وأن يعتني بها القرآن تلك العناية البالغة، وأن تكون من أعظم وسائله للتربية والدعوة.
كما أضاف البحث أن القصة القرآنية هدايةٌ وعبرةٌ وتذكيرٌ دائمٌ بأحداث الأمم الغابرة، الذين تنكّروا لرسالات الأنبياء، وهدى القادة المصلحين. وإنما يجب على العقلاء الاتعاظ والاعتبار.
ثم جاء الفصل الثالث (الأسلوب التوكيدي)، فإذا وفّينا الأسلوب القصصي حقّه انتقلنا إلى أسلوبٍ آخر. إن التوكيد له طرق مختلفة، ونجد أن أسلوب التوكيد في القرآن الكريم جاء مطابقاً للحال والمناسبات، التي أنزل فيها بأروع صورةٍ وأجمل بيان، في ألفاظٍ متناسقةٍ لها وقعها وأثرها في النفوس.
وكان من حكمة الله تعالى أن خاطب الناس على قدر عقولهم، وبالوسائل التي تحرّك مشاعرهم، وتجذبهم إلى الخير والرشاد، ولذا تنوعت أساليب الخطاب في القرآن الكريم. وكان لأسلوب التوكيد في القرآن دورٌ كبيرٌ في العقيدة وإقناع المعاندين للإسلام.
فأما الفصل الرابع وعنوانه (الأسلوب المباشر والأسلوب غير المباشر)، فقد أشرت إلى أهمية المجاز في القرآن. ونحن حين نعرض لمجاز القرآن، فإنه ينبغي أن نفطن إلى أن القرآن الكريم نزل بالأسلوب الإلهي حاوياً كل أسباب البلاغة، حاملاً كل أنواع البيان.
أكّد البحث أن اللغويين والبلاغيين والنقّاد اهتموا بأنواع المجاز منذ أواخر القرن الثاني والثالث، وقد لقيت (الاستعارة) منهم عنايةً كثيرة، وللشريف الرضي دورٌ حافلٌ في مجازات القرآن، إذ ألَّف كتاباً مستقلاً في هذا الباب، وسمّاه (تلخيص البيان في مجازات القرآن)، فجاء (تلخيص البيان) متخصصاً في مجازات القرآن، ويشمل الاستعارة والتمثيل والتشبيه والكناية.
ثم تطرّق البحث إلى جهود القدامى في هذا المضمار، وتطور المجاز على يد كل من الجرجاني والزمخشري بمؤلفاتهم القيمة.
وفي هذا المجال يجب أن نشير بإعجاب إلى ما حقّقه الأستاذ الخولي والأستاذ مصطفى صادق الرافعي وسيّد قطب، بجهدهم المتواصل في كتبهم عن إعجاز القرآن.
ثم انتقلنا إلى الفصل الخامس (الأسلوب الترغيبي والترهيبي).
بيّن البحث أن القرآن الكريم ربّى الأمة الإسلامية من خلال الترغيب في ثواب الله وجنّته ورضوانه، ربّاهم على التخلص من الشحّ، وأن ينفقوا في سبيل الله، ويؤثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن خلال الترهيب من غضب الله وعذابه، ربّاهم على التخلّص من شهواتهم، وجعل قيادها في أيديهم. إن القرآن الكريم هو الوثيقة الأهم، والمصدر الغني للتربية، وقد سلك في آياته أساليب متعددةً لتحقيق أهدافه، واتخذ وسائل متنوعةً للوصول إلى غاياته.
هكذا تتبعت أساليب القرآن في دعوته إلى الوحدانية، وأبرزت ألوان البلاغة فيها، في صورةٍ لا يغني في الدلالة على ما بها من جهدٍ إلا قراءتها وتدبّرها.
إن القرآن الكريم جديرٌ بالدراسة والبحث فيه من الناحية الترغيبية والترهيبية، للكشف عمّا اتخّذا من وسائل وأساليب تربوية، في مجال ضبط السلوك والحفز على العلم والعمل معاً.
إن هذين الأسلوبين من أهم الوسائل التي اتّخذها القرآن لتربية الإنسان. والإنسان بوصفه موضوع التربية، ينظر إليه القرآن الكريم بوصفه أهم الأركان الثلاثة التي يقوم عليها هذا الوجود، لأن الإنسان هو العنصر الفعّال، أما العنصران الآخران – وهما الحياة والكون – فمنفعلان ومتأثران.
ثم جاء الفصل السادس وهو (الأسلوب التمثيلي).
وتعرضنا في البحث للمثل بمعانيه المختلفة، وعلى ضوء هذا تنوعت الأمثال القرآنية وانقسمت إلى أقسام: فمن العلماء من قسمها إلى قسمين، ومنهم من يقسّمها إلى أكثر.
وتختلف الأمثال عن التمثيل، في أن التمثيل يقصد به من أول الأمر إبراز المدركات المعقولة والمعاني الخفية، في صورةٍ مألوفةٍ لبيان صفتها وحالها، أو تقرير معانيها وتمكينها في النفس.
إن التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل، واستنزاله من مقام الاستعصاء عليه، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي.
أما الفصل الأخير من هذا الباب فهو (الأسلوب الرمزي).
وقد أكّد البحث أن القرآن الكريم هو الأساس في القاعدة الإسلامية على مستوى المفاهيم والأحكام والمناهج والغايات والأهداف. وأن الكلام القرآني حجّةٌ في إيصال الأفكار والتشريعات إلى الناس.
ولا نجد مجالاً للحديث عن القرآن، بوصفه كتاب رموزٍ ومصطلحاتٍ بعيدةٍ في أسلوبها، عن السياق العام لأساليب اللغة العربية، بحيث يقف الناس أمامها حائرين، لا يجدون النور الذي يوضح لهم طبيعة المعاني. لأنهم يخافون أن يكون المراد من الآية معنى آخر غير المعنى الظاهر منها.
إن مسألة حجية ظواهر القرآن من القضايا البينة والواضحة، التي أجمع عليها العلماء من خلال حجية الظواهر كلها. وإذا كان القرآن يتحدث عن وجود متشابهاتٍ فيه، فالمقصود هو الكلام الذي يحتمل أكثر من وجهٍ في مدلوله.
أما الباب الثالث فقد خصصته للاستنتاج من أساليب القرآن المتنوعة، من خلال ما سبق من دراسةٍ نظريةٍ وتطبيقيةٍ، وكان عنوانه (الغاية من هذه الأساليب البيانية في القرآن الكريم)، وقد أقمته على سبعفصول:
ال الأول جعلت عنوانه (تصديق الإنسان بالرسالة)، وتحدثت فيه عن أهمية العقيدة، ثم تحدثت عن التفكير والتعقل في العقيدة، فذكرت أن الإسلام انطلق في حياة الناس من قاعدة أساسية في نظرته، وهي اعتبار العقل والتفكر قوةً صالحةً للحكم على الأشياء، وميزاناً لصحة القضايا وفسادها، حتى جاءت آياتٌ كثيرةٌ تحثّ على التعقل والتفكر وتمجّدها.
وأكّد البحث أن الإسلام عقيدةٌ تقوم على القناعة العلمية والعقلية، ولا قيمة للإيمان في الإسلام إلا إذا بُني على أساس العلم والوعي والمعرفة.
فقد تولّى القرآن الكريم توضيح الرسالة السماوية والعقيدة الإسلامية، بأسلوبٍ عذبٍ جذّابٍ، لا يمكن لتاليه أو سامعه إلا أن يستجيب لنداء الفطرة، ومقالة الحق بأنه تنزيل من حكيم حميد.
ثم كان الفصل الثاني وعنوانه (الإيمان بالله وبالغيب)، فذكرت أهمية الإيمان في حياة الإنسان، وأشرت إلى أن الإيمان يورث في نفس صاحبه الطمأنينة في القلب، والثبات في الحركة، لأن المؤمن يتجه إلى جهةٍ واحدةٍ يرتبط بها ارتباطاً شاملاً في كل شؤون حياته، فيجعلها محور تفكيره في هذه الحياة.
إن الإيمان في حقيقته ليس مجرد عملٍ لساني، ولا عملٍ بدني، ولا عملٍ ذهني، إن الإيمان في حقيقته عملٌ نفسيٌّ يبلغ أغوار النفس، ويحيط بجوانبها كلها، من إدراكٍ وإرادةٍ ووجدان.
ونجد القرآن الكريم وثيقةً حيّةً شاملةً لكل ما في الكون من ظواهر وموجوداتٍ، وأوضاعٍ تحكم سير الإنسان وسير الحياة، بوصفها مادةً حيّةً للتفكير الذي يؤدّي – بأقرب طريق – إلى الإيمان بوجود الله وبالغيب.
توصّل البحث إلى أن القرآن الكريم في العهد المكي لا يتحدّث إلا في العقيدة، حيث كان التركيز الأكبر على الإيمان بالله، لأنه هو الركن الأول في العقيدة. والقرآن يوثق هذا الإيمان في القلب، بأن يربط ذلك القلب بالله في جميع أحواله.
ثم جاء الفصل الثالث وعنوانه (الإيمان بالنبي (ص).
أشار البحث إلى أن الإيمان بجميع الأنبياء والرسل ع من أركان العقيدة، فعقيدة الإيمان بالله لا تنفكّ عن الإيمان برسله. والناس بحاجةٍ إلى رسلٍ ينبِّئونهم ويرشدونهم، ولذلك أرسل الله لهم الرسل بحكمته.
وأضاف البحث أن القرآن الكريم قد بيّن المصلحة من إرسال الرسل، وحاجة الناس إليهم، فمنها ما يشير إلى أن فوائد الرسالة التعريف بحقائق الدين، وأحكام الشريعة ليقوم الناس بالعدل. ومنها ما يشير إلى أن الناس لو تركوا دون إرسال الرسل، لاعتذروا من كفرهم وفعلهم السيئات بأنهم لم يرشدوا إلى الحق، ولم يأتهم من يدلّهم عليه، ويلفت أنظارهم إليه.
ثم انتقلنا إلى الفصل الرابع (الإيمان بالقرآن الكريم).
وقد أشار البحث إلى أن أية دراسةٍ نفسيةٍ تحليليةٍ لموضوع القرآن الكريم، تدلّنا على أنه كتاب من عند الله تبارك وتعالى.
القرآن هو المعجزة الكبرى الشاهدة على نبوة الرسول الأكرم، وهو الكتاب العربيُّ المبين الذي يُعيي العرب أن يأتوا بمثله، لكي يصدّقوا بنبوّته ويتّبعوه.
إن العقل الإنساني يقف حائراً أمام رحابة القرآن وعمقه وتنوعه، إنه بناءٌ فريدٌ ذو هندسةٍ ونِسَبٍ فنيّةٍ تتحدى المقدرة المبدعة لدى الإنسان.
كما أشار البحث إلى أن القرآن محفوظ من كل تحريفٍ وتبديل، وقد تفرّد القرآن الكريم في تاريخ النبوات والكتب السماوية بمزية الحفظ والخلود.
ثم كان الفصل الخامس وعنوانه (الاستقامة وعدم الانحراف وبيان عاقبة الطيبة والصلاح وعاقبة الشر والفساد).
أكّد البحث أن الأخلاق الكريمة هي الهدف الأسمى لبعثة الأنبياء ع، فمعنى ذلك أن كمال الإنسان هو الهدف الأسمى من خلقه.
إن عملية التكامل لا يمكن لها أن تنطلق في طريقها الصحيح، إلا من خلال تهذيب النفس وتصفيتها من شوائبها أولاً، ثم تزيينها بمكارم الأخلاق ومحاسن الطباع.
إن الغايات الأخروية أفضل طريق لإصلاح النفس والاستقامة، وقد كثر ذكرها في كلامه تعالى.
بعد هذا انتقلنا إلى الفصل السادس (تنبيه أبناء آدم إلى وساوس الشيطان).
توصّل البحث إلى أن الإنسان بحاجة إلى أن يعرف عدوه إبليس، وأن يتذكر ذلك دائماً.
إن هدف الشيطان هو إضلال البشر وجرّهم إلى الشقاء، ووسيلته في ذلك التغرير والمكر والخداع.
قضية عداوة إبليس للإنسان، من القضايا التي كرّر القرآن الكريم الحديث عنها في أكثر من سورة، فقد أعلن إبليس الحرب على الإنسان لمنعه من الإيمان، ومن التحرك الإيجابي في خط المسؤولية أمام الله، لإبعاده عن طاعة الله، وعن رحمته وجنّته، تنفيساً لعقدة إبعاده عن الجنّة، بإبعاد الأكثرية من أولاد آدم عنها.
أكّد البحث أن الشيطان لا يملك السلطة المباشرة على الإضلال، فلا يستطيع إضلال من يريد الهدى ويعمل في سبيل الله، ولا يقدر على إغواء من يريد الرشد ويسير على هداه، بل كل ما يستطيعه أن يمنّي ويغري ويضغط ويوسوس، فيتبعه كل من يعيش للأماني والإغراءات، وينحني عند الضغوط المتنوعة من دون مقاومة.
ثم وصلنا إلى الفصل الأخير وهو (التعليم والإقناع).
لقد جاء القرآن الكريم بالتعليم والإقناع البليغ، وبهذا الأسلوب سار القرآن في هديه، فبلغ من الإقناع مبلغاً لا يمكن أن يتاح لكتابٍ سواه. وله في هذا المضمار روائع خارقةٌ ليست في مكنة بشر.
وأضاف البحث أن أسلوب الاستفهام، وأسلوب ضرب الأمثال، من الأساليب التي استخدمها القرآن للإقناع، ومرجع ذلك أن الاستفهام في أصل وضعه يتطلّب جواباً، يحتاج إلى تفكير يقع به هذا الجواب في موقعه، وهذا يحمل المخاطب إلى توجيه كل اهتمامه لما يلقى إليه، ليتمكن من فهمه ثم الإجابة عنه.
ويدعو البحث بتواضع إلى الاستمرار في منهج الدراسة الموضوعية القرآنية، وذلك للتمكن من دراسة أساليب القرآن دراسة عميقة تفي بحقّه، وذلك ما حرصنا على الوفاء به في الدراسة المتواضعة، في حدود الموضوع الذي تعرّضنا له، ونسأل الله التوفيق لخدمة كتابه الكريم، وندعو بالخير إلى كل من مدّ لنا يد العون لإخراج هذا العمل إلى النور، وأن تنتفع به أمتنا الإسلامية أعزّها الله عز وجل، ونسأل الله أن يجعل هذا العمل مقبولاً ومما يُحمل باليمين. والله ولي التوفيق.
 
 
 
 
 
 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً