أحدث المقالات

دراسة في دور  الحوزة والجامعة

 حوار مع د. الشيخ أحمد الأحمدي(*)

ترجمة: السيد حسن مطر الهاشمي

كيف تعامل قدامى المفكرين مع أسلمة العلوم الإلهية والإنسانية؟ ـــــــ

_ ما هو المراد من أسلمة العلوم برأيكم؟ وما هو الصحيح والخطأ منها؟

^ ربما كان التعبير بأسلمة العلوم غير دقيق؛ إذ لابدّ أوّلاً من تعريف العلم، فمثلاً، ماذا تعني أسلمة الرياضيّات؟ هل تعني هذه الأسلمة شيئاً لمن مارس الرياضيّات وتوصل فيها إلى إنجازاتٍ عظيمة كالخيّام وغياث الدين جمشيد الكاشاني والبوزجاني وأمثالهم؟ أو الخواجة نصير الدين الطوسي نفسه الذي زاول العمل في الرياضيّات والهندسة، حيث كان منكبّاً عليهما من الناحية العلميّة البحتة، وحقق كلّ تلك الإنجازات، خاصّة في الفلسفة منهما، من دون أن تخطر الأسلمة بباله إطلاقاً. ومع ذلك ألّف كتاب (أوصاف الأشراف) و(التجريد)، ودرس الفقه لسنوات طويلة. قالوا: إن الخواجة كان أستاذ العلامة الحلي في الفلسفة، وفي الوقت نفسه تلميذاً عنده في مادّة الفقه، وكذلك كتب الخواجة (منطق التجريد)، وشرحه العلامة في كتاب بعنوان (الجوهر النضيد في شرح التجريد) دون أن تخطر أسلمة المنطق ببالهما. وإنما كانا يتعاملان مع هذا العلم بوصفه أداة للتفكير الصحيح، كما يتمّ التعاطي مع الهندسة بوصفها أداة للبناء الصحيح، وهكذا بالنسبة إلى النجوم والهيئة وأمثالهما من العلوم التي كان للخواجة باعٌ طويلٌ فيها، وقد أقام مرصد مراغة الذي يعتبر من الإنجازات في العلوم التجريبيّة. وعلى هذا الأساس توظف الفلسفة لإقامة المرصد، والمرصد إنما يراد منه رصد حركات النجوم وحالاتها، ومن الطبيعي أننا إذا رصدنا النجوم سنحصل على فوائد جمّة، منها معرفة الأوقات الشرعيّة. كما نستفيد من الهندسة والحساب في بعض الأبواب الفقهيّة، ونستفيد من الرياضيّات في المواريث وأمثال ذلك، ونستفيد من الهندسة في تحديد القبلة. فمثلاً جاء في كتاب اللمعة الدمشقية، أنك إذا أردت جعل الكعبة بنفسها قبلة، فبما أنّ الأرض كرويّة ولا يمكن إصابة الكعبة بدقة من خلال رسم الخط من أي موضع بدأناه؛ لذلك لابد من القول بأن القبلة هي جهة الكعبة وليست عينها.

لقد دأب علماؤنا على الاعتقاد بآليّة هذا الصنف من العلوم، فحتى الفلسفة كانوا يتعلمونها لتقوية وتعزيز أسسهم الفكريّة من خلال الإستدلالات الفلسفيّة، وكأنّ الفلسفة تتخذ هنا طابعاً كلاميّاً. وفيما يرتبط بعلاقة الخالق بالعالم نلاحظ أنّ الفارابي يأتي ببحث الماهيات لتبرير الخلق، ثمّ يتناوله ابن سينا، ومن بعده شيخ الإشراق السهروردي والميرداماد؛ ليبحثوا في الماهيّة والوجود أيضاً، وكلّ ذلك من أجل بيان الخلق. حيث تمّ التداول في بحث الوجود والماهيّة أدواراً زمنيّة طويلة ناهزت سبعة قرون من التفكير المتواصل، ابتداءً من الفارابي في القرن الهجري الرابع، وانتهاءً بصدر المتألهين الشيرازي، حيث جاء لهذا البحث بصياغة جديدة في النصف الأوّل من القرن الحادي عشر.

فكيف تعامل هؤلاء العلماء مع العلوم، بل وحتى الفلسفة؟ إنهم لم ينقلوا المباحث التي ذكرها أفلاطون في رسالة تيماؤوس أو الكلام الناشز الموجود في كتاباته في عدّ النساء من جملة الممتلكات والمقتنيات وغير ذلك مما كان سائداً في الثقافة اليونانيّة، وإنما اقتصروا على نقل ما كان يتضمّن الجوانب الإلهيّة في هذه المباحث، بمعنى أنهم قاموا بتأصيل التفكير الإسلامي. فكانوا إذاً مضطرّين إلى الانتقائيّة في هذا النوع من المسائل، في حين أنهم لم يواجهوا أيّ مشكلة فيما يتعلق بالرياضيّات والهندسة والهيئة وما كان على هذه الشاكلة من العلوم الآليّة.

كان الحسن بن الهيثم البصري عالماً مشهوراً في علم الفيزياء، وقد انتدب لبناء سدّ أسوان في جنوب مصر، إلا أنّ قلة أدواته حالت دون تحقيق ذلك، وقد ألّف كتباً كثيرة وقيّمة في علم الفيزياء، إلا أنه كان من القناعة بحيث كان يؤلف الكتب من كدّ يمينه ويعتاش على أجور استنساخها، فكان متديّناً ومعتقداً وفيزيائيّاً في وقتٍ واحد.

إذن، لم تكن لدينا أيّ مشكلة فيما يتعلق بالعلوم الآليّة. وأمّا فيما يتعلق ببعض العلوم النظريّة والفلسفة وأمثالها، فكان علماؤنا يلجأون إلى الانتقاء، أو نقل الكلام الباطل فيها مع الإجابة عنه، أو يتمّ التوفيق بينه وبين الآراء الإسلاميّة، مع الحفاظ على الأصالة الفكريّة في جميع الأحوال، وطبعاً في الوقت نفسه كان يظهر بعض الأفراد من الذين يغرّدون خارج السّرب مثل محمّد بن زكريا الرّازي الذي كان يصرّح بآرائه المناهضة للدين، وعبد الله بن المقفع الذي كانت تصدر عنه بعض أنواع الشغب، وأبي العلاء المعرّي وأبي شاكر الديصاني وأمثالهم من الذين لم يخلُ منهم العالم الإسلامي، وهو أمرٌ طبيعيٌّ جدّاً، من دون أن يكون لهؤلاء موقعٌ مرموق في العالم الإسلامي، حيث كانت الأصالة والغلبة للتفكير الإسلامي.

وقد درس الكثير من العلماء على يد الأئمة^ كهشام بن الحكم الذي كان من مشاهير الفلسفة ويعتبر امتداداً لمدرسة الإسكندريّة، إلا أنه ما أن رأى الإمام الصادق حتى ألقى سلاحه بالكامل وأذعن لهُ منذ اللحظة الأولى، وأضحى من خلّص أصحابه، وكان فريداً من نوعه لما يتمتع به من الخلفيّات العلميّة السابقة.

إذن، لا تشكل العلوم الآليّة مشكلة، إذ لا يوجد معنىً لأسلمتها، فهي آلة لبلوغ الغايات والأهداف، وقد تكون تلك الأهداف بهيميّة لخدمة الشرّ كصنع القنابل الكيمياويّة والهيدروجينيّة والذريّة لقصف مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين مثلاً، وقد تكون إنسانيّة ولخدمة الخير. بخلاف العلوم الفكريّة والنظريّة والمبنائيّة التي تبرز من خلالها التحديات والخلافات بين العلماء، ولا يكون ذلك قسراً وتكلفاً، بل لأجل طول باعهم في تلك العلوم والمسائل.

يُمكنكم قراءة مقدمة ابن خلدون فهي ممتعة للغاية، وقد استسهلتها بادئ ذي بدء ولم أحسبها على هذا المستوى من العمق، ولكنني قرأت بعد ذلك بعض أبوابها لأكثر من مرّة وقد جاء فيها: عندما يستلم الناس مقاليد الحكم فيتجهون نحو الثراء شيئاً فشيئاً، يبادر أهل القرى والبوادي إلى ترك مواطنهم للسكن في المدن، الأمر الذي يؤدّي إلى ظهور الفساد بينهم مما يوجب الاختلاف. وهذا نعرفه إلى حدٍّ ما، إلا أننا حينما نمضي مع الكاتب أكثر نجد أنفسنا أمام قواعد دقيقةٍ في علم الاجتماع. فمثل هذا العالم يتعرّض لعلم الاجتماع ويستنبط منه هذه النظريات التي لا تتعارض والأسس الدينيّة، لكونه مسلماً يعتمد الرؤية الإسلاميّة في مجال عمله. وهكذا الأمر بالنسبة لعلم النفس والتاريخ أيضاً.

يقول السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر في كتاب اقتصادنا: هناك مذهبٌ اقتصادي، وهناك علمٌ في الاقتصاد، فلدينا في الإسلام مثلاً مذهبٌ اقتصادي، وأما علم الاقتصاد فإنما ننظر إليه بوصفه آلة، فالمذهب الاقتصادي يمكن تطبيقه بطريقة أو صيغة معيّنة. وعليه ينبغي الفصل بين العلوم النظريّة التي لا يمكن عدّها علماً بالمعنى الواقعي للكلمة وكذلك المسائل الفلسفيّة وبين العلوم الآليّة. فالعلوم الآليّة واحدة في جميع المواطن، أمّا العلوم النظريّة فبالإمكان مقارنتها بالعلوم النظريّة الأخرى وترجيح بعضها على بعض، كما صنع ذلك العلامة الطباطبائي في (أصول الفلسفة) مثلاً، فنقض الماديّة بالحكمة المتعالية.

ما هو المقصود الصحيح من أسلمة العلوم؟ ــــــ

إذن، فالمراد من أسلمة العلوم، بعض العلوم التي لها جذور متفرّقة في النصوص الإسلاميّة. فربما كتب بعد الثورة في إيران ما ينيفُ على المائة كتابٍ في الإدارة الإسلاميّة، لكن من دون أن تكون هناك قراءة موسّعة وشاملة في جميع الروايات والأحاديث ذات الصلة بأسس الإدارة بغية استنباطها وبيانها وتحويلها إلى مشروع عملٍ إداريّ يحظى بالأسس النظريّة والأساليب العلميّة، ومقارنتها بسائر المدارس الإداريّة الأخرى. ويمكننا اعتماد الإسلام مصدراً فيما يتعلق بالإدارة والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والحقوق والفلسفة والكلام وأمثال ذلك، كما تمّ تأليف كتاب (أسس الاقتصاد الإسلامي) الذي تبناه المكتب التنسيقي بين الحوزة والجامعة برئاسة سماحة السيّد الهاشمي الشاهرودي، فكان كتاباً رائعاً ونافعاً للغاية، ويمكن إدخاله في إطار الأسلمة.

وفيما يتعلق بالعلوم الآليّة، كما تمكن الصينيّون والشيوعيّون والنظم الرأسماليّة من توظيف الرياضيّات، كذلك يمكننا توظيفها أيضاً. لكن فيما يتعلّق بالعلوم الدينية يمكننا أن نستنبط أسسها من المصادر الإسلامية ومواجهتهم بها، وربما يصدف أحياناً أن لا نجد أيّ تعارض بينها. وحتى في الرياضيّات يمكنكم الأخذ بالأسس النظريّة فيها، فمثلاً لو كان لـ (فرجة) رأيٌ في العدد، وكذلك كان لـ (راسل) و(وايتهود) و(استيورات ميل) رأيٌ ثانٍ، وكان لابن سينا رأيٌ آخر، فيمكنك الأخذ بأسسهم النظريّة؛ إذ لا مشكلة تواجهك على الصعيد العملي.

_ هناك من الخبراء في هذا المجال من له رأيٌ في القسم الثاني الذي ذكرتم أنه يصطدم بالقيم والمبادئ، ويذهب إلى أنّ واقعيّة العلم في الحقيقة تقوم على أسلوبه، أي أنه يأخذ بعض الافتراضات المسبقة بنظر الاعتبار دون الالتفات إلى مصدرها. ثمّ يخضعه للتجربة والاختبار؛ لأنّ هذا هو ما يقتضيه أسلوب العلم وماهيّته دون أن يكون للدين وعدمه دخلٌ في ذلك.

^ إنّ ما هو المهم هنا هو معرفة مصدر هذه الفرضيّة. إذ لابدّ لكلّ فرضيّةٍ ما يبرّرها؛ فمن غير المعقول أن يتبنى شخصٌ الماديّة، ويتبنى الثاني الواقعيّة، والثالث المثالية، والآخر البراغماتية وما إلى ذلك من الاتجاهات والمذاهب عشوائيّاً، ليرى بعد ذلك ما ينتج عنها؛ موكلاً أمر ذلك إلى الصدف!

_ أجل، لكن إذا ثبتت فاعليّته مخبريّاً، صار إلى تطبيقه عمليّاً.

^ ما الذي يتمّ إثباته؟ فاعليته أم نفس ذلك الأساس؟ إذا قلنا: إن الذي يثبت عمليّاً هو نفس تلك النظرية، قلنا: ليس بإمكان العمل إثبات النظرية. وذلك للزوم الدور منه. فليس من الصحيح مثلاً أن نأتي بفرضيّةٍ ما، كأن نؤمن بالماديّة أو البراغماتية مثلاً، ثم نعمل بها لنرى مدى فاعليتها وكفاءتها؛ فالنظرية لابدّ من إثباتها بالبرهان والدليل قبل تطبيقها على المستوى العملي. هذا مضافاً إلى أنّ الاختبار والعمل شيءٌ واحد، وليسا شيئين مختلفين، فلا يمكن القول: علينا الاختبار أوّلاً ثمّ العمل بما اختبرناه، حيث إنّ الاختبار إنما يتمّ بالعمل.

_ لو تفضلتم بإيضاح الفرضيّات المسبقة في المجالات التي ترون إمكان أسلمة العلوم فيها.

^ لكلّ علم فرضيّاته التي تخصّه.

الفرضيات المسبقة لمقولة الأسلمة ـــــــ

_ إنّ نفس مفهوم الأسلمة هذا يقوم على بعض الفرضيّات المسبقة، فلو تفضلتم بتوضيح هذه النقطة.

^ لو أخذنا حقل الفلسفة مثلاً، فسوف نجد عشرات المدارس المشهورة والمغمورة فيها؛ حيث يأتي الفيلسوف وتكون له بدايات قد ابتدأ منها، ونهايات قد انتهى إليها. والبناء الذي يقيمه على سلسلةٍ من الأسس تكون له نتائج تناسبه، فمثلاً حينما يقيم الفيلسوف عمانوئيل كانط أسس المدرسة التحليليّة، ويتجه بعدها إلى الديالكتيك، ليقول بعدم جدوائيّة العقل النظري، ويلجأ إلى الأخلاق، فلا تكون هذه الأخلاق نتاجاً لعقله النظري. أو حينما يبدأ الفيلسوف هيجل بمقولات الوجود والعدم ويؤسّس نظامها الواسع والمعقد ليصل بمقولاتها إلى مائتي مقولة، عندها من الطبيعي أن تقوم أخلاقه وفلسفته وحكومته وعلاقاته الاجتماعية ودينه على تلك المقولات. وهكذا بالنسبة إلى ديفيد هيوم وديكارت ولايب نيتس وباركلي وغيرهم من الفلاسفة، حتى نصل إلى الفلاسفة التحليليين، حيث قام كلّ واحدٍ منهم بتأسيس سلسلة من الأسس وأقاموا عليها أبنيتهم. فما هو الشأن فيما يتعلق بالفلسفة الإسلاميّة؟ مثلاً هل تقوم الأخلاق والعلاقات الاجتماعيّة والعلوم السياسيّة في فلسفة صدر المتألهين الشيرازي على أصالة الوجود وأمثالها؟ فهناك كانت الأسس تؤدي إلى نتائج تناسبها، أمّا هنا فالأسس لا تنتهي إلى تلك النتائج. وإنما تصل على كل حال إلى الإيمان بالوحي، لأنها فلسفة إلهيّة، ولله دورٌ فيها، وإذا كان كذلك فإن الله يبعث الرّسل، والرّسل بدورهم يدعون إلى الأخلاق وتنظيم العلاقات الاجتماعية، وعليه نجد أنفسنا منساقين نحو الشريعة التي تقطع الطريق على أخلاق عمانوئيل كانط وهيوم وديكارت وأمثالهم؛ فهناك تنتج الفلسفة النظريّة فلسفة عمليّة، أمّا هنا فالحكمة العمليّة لا تستقى من الحكمة النظريّة من دون واسطة، وإنما يتمّ استعراضها في قالب الوحي والدين والشريعة. وطبعاً هي تقوم بنحوٍ من الأنحاء على الفلسفة النظريّة، إلا أنها ليست منها.

فانظروا إلى هذه الأسس والنظريات، وإلى مدى اختلاف نتائجها، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر الحقول الأخرى. فإذا تمّ تأصيل الدين وتمّ التأسيس لعلم الاجتماع من خلال اعتماد القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وأخذنا مثلاً قوله تعالى: ﭽ ﯾ ﯿ      ﰀ ﰁ  ﰂ ﰃ ﰄ             ﰅ ﰆ ﭼ ، وأضفنا إليها آيات أخرى وأقمنا مدرسة فلسفيّة على هذا الأساس، فسوف نحصل على نتائج مختلفة. ومن الممكن أن يكون لها في الكثير من المواطن تجانسٌ مع مدرسة في علم الاجتماع. فهذا يؤيّد ذاك، وذاك يؤيّد هذا في بعض المسائل أو جميعها. إذاً لابدّ من إثبات الفرضيّات للوصول بعد إثباتها إلى النتائج التطبيقيّة والعمليّة. وهذا هو المقام الذي يحتاج فيه الإنسان إلى بذل الوسع والوقت والجهد للحصول على الأسس والمبادئ وعرضها، وإذا لم نحصل على شيءٍ من ذلك نكون قد وصلنا إلى منطقة الفراغ، وكنا في سعةٍ من أمرنا.

الأسلمة بين آليات العلوم ومبادئها ـــــــ

_ تمام الأمثلة التي ذكرتموها للفلاسفة الغربيين والإسلاميين، تتعارض وأسلمة العلوم، فيقال في الفلسفة: إنها منهجٌ عقلي، حيث تدرس مختلف المباحث من خلال هذا المنهج، أي أنّ قوام المباحث الفلسفيّة في الحقيقة بالمنهج العقلي الذي تنتهجه. أو فيما يتعلق بعلم الاجتماع مثلاً، فالذين يدعون إلى أسلمة علم الاجتماع إنْ كانوا يؤمنون بالمنهج المتداول في علم الاجتماع، لا نحصل عندها إلا على علم الاجتماع من دون أن يكون إسلاميّاً أو غير إسلامي، فالجميع يتبع ذات المنهج والأسلوب. ولكن لو اتّبع أسلوبٌ آخر، كأن تنتهج في علم الاجتماع النزعة الإيجابية والإدراكية ذات الأساليب المختلفة، يمكن حينها القول بأنّ هذا غير ذلك الآخر، أمّا إذا قبلنا منهجاً واحداً في العلم فلا يمكننا لمجرّد وجود فوارق في موضوعاتنا واختلاف تطبيقاتنا أو أخذنا للفرضيّات من مصادر أخرى ومحاولة إثباتها بالمنهج المعهود، لا يمكننا لمجرّد ذلك أن نعطيها صبغةً إسلاميّة!!

^ إنّ أخذ الفرضيّة من مصدرٍ آخر يتنافى ومحاولة إثباتها بالمنهج، حيث لا يمكن إثبات الفرضيّة بالمنهج؛ فالمنهج في الحقيقة أسلوبٌ لتطبيق تلك الفرضية وتوظيفها. فلو كان مرادنا أن نقوم بعملٍ ميداني فيما يتعلق بعلم الاجتماع لا يكون هناك فرقٌ بين ما إذا كان المجتمع مسيحيّاً أو مسلماً أو زرادشتيّاً أو حتى ملحداً. فحينما نتوجّه مثلاً لدراسة مشاكل المجتمع الهندوسي بجميع طوائفه ميدانيّاً من خلال النظر في سلوكيّة الهنود وخصوصيّاتهم بدقة، لنقول بعدها: هذه هي معتقدات الهندوس وسلوكياتهم وعلاقاتهم الاجتماعيّة من زواج وغيره، وإيمانهم بتناسخ الأرواح وتقديسهم لمعابد الأصنام واحترام الأبقار وأمثال ذلك، فهذا نشاط ميداني يمكن تطبيقه على المجتمع الإسلامي أو المسيحي في السويد مثلاً للوصول إلى النتائج المترتبة على المنهج المتبع في علم الاجتماع، فإذا كان هذا هو المراد فلا علاقة له بالأسس والمبادئ، فهو نشاط ميداني لا يختلف باختلاف المواضيع وكونها إسلاميّة أو غيرها، كالرياضيّات التي هي من العلوم الآليّة. لكن إذا أردنا دراسة الأسس والمبادئ وما يقوم عليه المجتمع من الأصول كأن يكون شموليّاً أو فرديّاً، فستكون النتائج الحاصلة من دراسة المجتمع الشمولي مغايرة للنتائج الحاصلة من دراسة المجتمع الفردي. وفيما يتعلق بعلم النفس يواجه الطبيب النفسي مريضاً مصاباً بعقدة جنسيّة أو أنه يشكو من الكبر والغرور أو الحقد أو الحسد أو الكآبة، إلى غير ذلك من العقد المختلفة التي يصاب بها المريض نفسيّاً، فهنا يستخدم الطبيب أسلوباً واحداً لعلاج المريض مهما اختلفت عقدته، ويشرح الآثار المترتبة على هذه العقد التي تختلف درجاتها شدّة وضعفاً وقد تؤدّي أحياناً بفقد المصاب السيطرة على نفسه فيقتل صديقه أو ينتحر! لكن هناك أيضاً مبدأ يسأل: هل يرى علم النفس تأثيراً للاعتقاد بالحياة بعد الموت في تلك المسائل أو لا يرى له تأثيراً في ذلك، كأن يقال بخلود النفس أو أنّ النفس وجود مجرّد؟ إنّ لذلك تأثيراً على نفس فرضيّات علم النفس دون مناهجه وأساليبه، فلو علم الطبيب النفساني بأني مؤمن ببقاء النفس يمكنه عندها التعامل معي بنحوٍ آخر مؤثر في علاجي وفي ظهور تلك العقد، حيث يختلف علاج المؤمن بالله والمعاد عن علاج الملحد، إذ يمكن للطبيب أن يحول دون انتحار المؤمن بسهولة ومن دون العناء الذي يبذله في علاج الملحد.

_ معنى ذلك ـ إذاً ـ أنّه يمكن القول بعدم أهميّة صرف المنهج في الواقع، بل ربما كانت المناهج متساوية في جميع المواطن كالرياضيّات وغيرها، إلا أنّ الاختلاف يكون في الأسس والمبادئ.

^ إذا أردنا أن نؤصّل تكريم الإنسان في الإدارة، وأخذنا قول أمير المؤمنين حيث قال: mالناسُ صنفان: إمّا أخٌ لكَ في الدين أو نظيرٌ لكَ في الخلقn أساساً، فعندها ستختلف إدارتنا عن الإدارة الشيوعيّة التي تتعاطى مع الأفراد بوصفهم أدوات، من هنا تختلف الإدارات باختلاف الثقافات والبقاع. وقد سمعت أستاذاً إيطاليّاً جاء إلى إيران ـ قبل حوالي ثمان سنوات ـ يقول: يجب أن تختلف الإدارة الإيطالية عن الإدارة الألمانية اختلافاً كاملاً؛ وذلك لأننا نعتنق ثقافة وتقاليد مغايرة لثقافتهم وتقاليدهم، فالعلاقات في الكثير من أسرنا وثيقة ومتينة، فإذا أرادت الأم الخروج من المنزل لبعض شأنها، أوصت ابنها الكبير بمراقبة أخيه الأصغر والعناية به، في حين لا يوجد مثل هذا الشيء في ألمانيا وبعض البلدان الأخرى؛ وذلك لأنّ الأسرة فيها قد تفكّكت، فلا يمكن علاج مشاكلهم بالنحو الذي نعالج به مشاكلنا. وهكذا الأمر بالنسبة إلى إيران، هناك الكثير ممّن يتصوّر إمكان تطبيق منهجٍ في إيران مثلاً لمجرّد نجاحه في بلدٍ آخر. في حين أننا قد نحصل منه على نتائج معكوسة، وذلك لاختلاف الأطر والأسس والفرضيّات. إذاً فالأسس والمبادئ المختلفة تستدعي مناهج وأسليب مختلفة.

دور الحوزة والجامعة في مشروع الأسلمة ـــــــ

_ فيما يتعلق بالغاية من أسلمة هذه الحقول الخاصة من العلوم المتداخلة مع قيمنا الدينيّة، ما هو الدور الذي يمكن لكلّ من الحوزة والجامعة أن تضطلع به في هذا المجال؟

^ هذه المسألة ليست من الأمور التي يمكن لي أن أبتّ بها منفرداً؛ لأنها أمور أساسيّة ودقيقة تحتاج إلى رجال مدقّقين يفرغون ما بوسعهم ويعملون بإخلاص وبشكل دؤوب، حتى إذا طرأ في الأثناء خلل وضعوا أصابعهم على موضع الداء دون أن تأخذهم في الله لومة لائم مهما كان منصب اللائم أو موقعه، كالمريض الذي يراجع الطبيب فلا يختلف الأمر عند ذلك الطبيب عمّا إذا كان مريضه مرجعاً أو أستاذاً في الجامعة، فلابدّ من عرض الأمراض كما هي ومن دون مجاملات، للعمل على علاجها.

وقد أنجزت حتى الآن بعض الأعمال الجيّدة نسبيّاً، إلا أنها ليست كافية ولا ترقى إلى الأهداف والنتائج المطلوبة. وهناك بين أساتذة الجامعة الكثير من المؤمنين المتحمّسين والمخلصين ممّن درسوا في الحوزة العلميّة، وسعوا إلى التقريب بين الحوزة والجامعة، كما كان هناك في الحوزة الكثير من أمثال الشهيد المفتح والشهيد المطهّري ممّن عمل في هذا الاتجاه؛ فعلى الموجودين حاليّاً إكمال المسيرة من خلال تحديد الخطوط ورسم الطرق العمليّة في هذا المجال، وقد تمّ البدء بهذا المشروع ولابد من متابعته، وقد قام السابقون بواجبهم، وعلى الموجودين حاليّاً أن يخصّصوا الكثير من وقتهم للقيام بالعمل بجديّة أكبر.

نواقص مشروع الأسلمة في الواقع التطبيقي ـــــــ

_ ما هي النواقص فيما تمّ إنجازه حتى الآن وترون ضرورة رفعها؟

^ لم تبلغ تلك الأعمال الحدّ الذي يبيح لنا الغوص إلى هذا المستوى من العمق، ويمكن القول مثلاً بأن انتداب الأستاذ الجامعي للتدريس في الحوزة يؤدّي إلى امتزاج الثقافات. فحينما يدرّس الأستاذ الجامعي في الحوزة تغمره السعادة عند رؤيته الجدّ السائد بين الطلاب في متابعة الأبحاث والأسئلة والأجوبة الجيّدة التي يطرحونها، ومراعاتهم لحسن الاحترام المتبادل بين الطالب والأستاذ، ولا يمضي طويلُ وقتٍ حتى تتغيّر رؤية هؤلاء الأساتذة للحوزة العلميّة. وهكذا العكس، فالاجتماعات والنشاطات والتأليفات المشتركة، كما يحصل في السابع والعشرين من شهر آذر الايراني حيث يقام بحثٌ علميّ مشترك، يعتبر من الأمور الجيّدة للغاية.

لكن يبدو لي أنّ بالإمكان القيام بما هو أكثر وأجدى من ذلك لتعميق هذه العلاقة وتوسيعها. فمثلاً في الكثير من العلوم ـ ومنها الفيزياء النظريّة ـ علينا التعاطي مع الأساتذة والتباحث معهم بشأن المادة وتحوّلها إلى طاقة، وماهيّة الجاذبيّة والذرّة وما إلى ذلك، إذ يتعيّن على الذين يبحثون في المادّة في الحوزة العلميّة ملاحظة هذه التطوّرات من خلال استضافة أستاذٍ مختصّ في الفيزياء النظريّة ليفصّل في عدّة دروس ويشرح المسائل بشكلٍ جيّد ليقف السادة على التطوّرات الحاصلة في هذه الحقول؛ فقد حدثت قفزة كبيرة في مجال علم الأحياء والجينات الوراثيّة والنجوم وعلم الهيئة والكون، ويجب على الحوزة مواكبة هذه التطوّرات وعرضها على طلبة العلوم الدينيّة بهدف استيعابها. وأساساً فإنّ علم الهيئة القديم بأفلاكه التسعة المتشابكة، وخاصّة تلك العقول العشرة، لا تنسجم مضامينها مع الآيات الكريمة والروايات الشريفة، وقد قال العلامة الطباطبائي: إن العقول العشرة إنما كانت قائمة على أساس هيئة بطليموس، حيث أريد منها تبرير حركات تلك الأفلاك، فتم لذلك ابتكار عشرة عقول لتناسب تلك الأفلاك في عددها، فلو اتفق أن كانت تلك الأفلاك خمسة وعشرين، لكانت العقول أكثر مما هي عليه وهكذا. ولكن حاليّاً لا توجد مثل هذه المشكلة في علم الهيئة الحديث. إلا أنّ أصل البرهان القائم على ضرورة أن تكون هناك واسطة ورابط بين ذات الحقّ تعالى وبين الكائنات المادّية؛ من حيث إنّ الواحد لا يصدر منه إلا واحد، باقية على حالها، وليس لدينا رواية واحدة تؤيّد ما قيل في الأفلاك. بل هناك روايات تنسجم مع علم الهيئة الحديث، ويمكنكم في هذا الشأن مراجعة الرواية المنقولة في كتاب بحار الأنوار عن أمير المؤمنين×، وغيرها من الروايات الأخرى التي هي أكثر انسجاماً مع علم الهيئة الحديث، وعليه لابدّ من إعادة استعراضها بشكلٍ صحيح.

لقد اختلفت المادة حاليّاً عمّا كانت عليه في السابق اختلافاً كاملاً، فغدت أكثر انسجاماً مع الحركة الجوهريّة؛ ولذلك كان صدر المتألهين يعاني كثيراً ليوفّق بين الهيولى والصورة وبين الحركة الجوهريّة. والخلاصة إنّ علينا في أغلب المجالات إقامة هذه الصلة، وأن نحدّد لها السبل الواضحة، وكما قلت، لابد من إقامة الاجتماعات المشتركة بين الحوزويين والجامعيين.

الوحدة بين الحوزة والجامعة، العوائق والموانع ـــــــ

_ المحور التالي هو البحث في مسألة الوحدة بين الحوزة والجامعة، حيث أكد عليها الإمام الخميني كثيراً؛ فالمرجوّ منكم توضيح المراد من هذه الوحدة، وما هو رأي الإمام الخميني في هذا المجال؟

^ عندما طرحت هذه الفكرة فرح الإمام الخميني كثيراً؛ حيث كان يراها أساسيّةً، إلا أنه لم يبيّن سبلاً خاصّة لتطبيقها، إذ لم يكن وقته ليتسع لمثل هذه الأمور مضافاً إلى عدم ارتباطها به، حيث تتوقف على سلسلة من الأمور التنفيذيّة والعمليّة يضطلع بها أشخاص يتفرغون لهذه الغاية، وكما تقدم أن ذكرنا فإنّ فرص العمل المشترك كثيرة، فلو أقيمت الوحدة بين الحوزة والجامعة لاتخذت كثيرٌ من مشاكلنا الاجتماعيّة شكلاً أفضل مما هي عليه الآن، ولاختفت الفجوة المفتعلة التي ظهرت في عهد السلطة البهلويّة بين العلوم الجامعيّة والحوزويّة بالمرّة.

 

_ ما هي برأيكم الموانع التي تحول دون تحقّق هذه الوحدة؟

^ أقول ثانية إنّ من الأفضل أن تقوم تلك اللجنة التي ذكرتها بدراسة هذه الموانع. لكن لو ألقينا نظرة عابرة سندرك أن المانع الأول يكمن في انشغال كلّ واحدٍ بحياته الخاصّة. وهذا أمرٌ طبيعي في مجتمعٍ لا يسع المرء فيه التغلّب على مشاكل حياته الخاصّة إلا بالعنت. وطبعاً علينا في الوقت نفسه أن لا ننسى الخصوم الذين يتربّصون الدوائر ويعملون على إشاعة الفرقة والاختلافات الفكريّة بين هاتين المؤسّستين. وأحياناً يمكن للخلافات السياسيّة أن تكون أرضاً خصبة للتفرقة والتباعد، وكذلك جهلنا بمناهج بعضنا. وطبعاً على المؤسّسة الدينيّة أن تبادر ـ قبل الجامعة ـ للتقرّب منها وتمهّد الأرضيّة المناسبة لهذه الوحدة. وعليها أن تسعى إلى فهم لغة الجامعة وأن تتعرّف الأسلوب الناجع للتعاطي مع الجامعيين، وأن تفهم المناخ الذي يسود تفكيرهم ونفسيّاتهم، ومن ثمّ التحدّث إليهم بما يناسبهم؛ فعلى المؤسّسة الدينيّة أن تتصرّف من منطلق المسؤوليّة لإزالة هذه الفجوة. وإنني طوال مدة ارتباطي بالجامعيين من الطلاب والأساتذة، لم ألمس سوى المحبّة والحفاوة والتعاطف والتعاون والإخاء.

_ في الختام، إذا كانت هناك من كلمةٍ تودّون قولها؟

^ أرى أنّ الإخوة في مدينة قم والعاملين في مركز أبحاث الحوزة والجامعة، خاصّة سماحة السيّد الأعرافي الذي يتمتع بالمسؤوليّة والنشاط وله علاقة وثيقة بالجامعات، حيث يدرّس فيها مادّة التربيّة الإسلاميّة وغيرها من الموضوعات الأخرى، لديهم الكفاءة العالية لتوثيق وتعزيز هذه العلاقة. وقد حصل هذا المركز ـ ومنذ عام 1361ش/1982م وحتى الآن ـ على تجربة قيّمة في هذا المجال، وقد شكل رافداً مناسباً لهذا المشروع المبارك. ويجب علينا توسيع وتعميق هذه التجربة التي لم نحصل عليها إلا بعد إنفاق الكثير من الأموال. وأنا على أتمّ الاستعداد لتقديم ما أستطيعه من الخدمات إذا ما دعيت إليها. ومن الضروري إقامة الاجتماعات مع الشخصيّات القويّة والمخلصة من الحوزة والجامعة؛ لبيان نقاط ضعف النشاطات السّابقة، ودراسة المعطيات والأساليب، والنظر بدقة في الوضع الراهن والآتي، وتحديد الموانع وسبل القضاء عليها، وعدم الاكتفاء بما أنجز حتى الآن، وينبغي أن لا نقنع بهذا المقدار الذي تحقّق من الوحدة، فإننا إذا لم نسع إلى توثيق وتعزيز هذه الوحدة، فربما بادر الحاقدون إلى القضاء على هذا المقدار الذي تحقّق منها. إلا أن الجهود الجادّة والمشتركة ستعزز من هذه المعطيات وتساعد على رفع مستواها الكمّي والكيفي.

(*) أستاذ جامعي بارز، وعضو قيادة الثورة الثقافية، عضو الهيئة العلمية لجامعة طهران.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً