ودَوْرها في إثراء فرضيات البحث الفقهي
شرح المفهوم وتقديم صورة تعريفيّة
المقصود بهذه القاعدة (المحتملة) أنّ الأصل في المشرِّع الديني أنّه يمارس عمليّة التشريع وطرائق بيانه والكشف عنه ـ ولو غالباً ـ من خلال الطريقة الإنسانيّة العقلائيّة العامّة، لا من خلال ابتكاره طرقاً جديدة لا يعرفها العقلاء في وضع القوانين وبيانها والكشف عنها، ولا من خلال التعهُّد بهجران طرائق العقلاء في التقنين.
فإذا نظرنا في تجربة المقنِّن الديني فالمفترض أنّنا نجد مقنِّناً عقلائياً يمارس بيان قوانينه وتشريعاته بالطرق السائدة، ومن ثَمّ فافتراض أنّه ابتكر طريقةً جديدة في التقنين تحتاج إلى معطيات إضافيّة، فإذا لم تتوفَّرْ تلك المعطيات فإنّنا نتعامل معه على أنّه انتهج النهج البشري العقلائي في عرض منظومته التشريعيّة.
وهذا يعني أنّنا أمام فرضيّتين أساسيّتين:
الفرضية الأولى: إنّ المقنِّن الديني قد ابتكر طريقةً جديدة له في جعل القوانين والكشف عنها، وإنّ هذه الطريقة لم تكن مألوفةً في حياة العقلاء، بل قد يمكن القول بأنّها فريدة من نوعها، وإنّ طرائق العقلاء لا يمكن اعتبارها سبيلاً لفهم منهاجيات المقنِّن الديني في إنشاء التشريعات أو في بيانها.
ووفقاً لهذه الفرضيّة التي تُعتبر أصلاً في الأداء القانوني للمشرِّع الديني يلزم أن نرجع إلى موروث هذا المقنِّن؛ لنكتشف منه ـ حصراً ـ طريقته في التشريع، لا أن نرجع إلى طرق الآخرين لنُسقطها على تجربة المقنِّن الديني.
الفرضية الثانية: إنّ المقنِّن الديني لم يقُمْ بابتكار طريقةٍ فريدة من نوعها في البيان التشريعي، بل مارس هذه العمليّة كما يمارسها العقلاء تماماً، فهذا هو المنطق الذي استخدمه، والذي على أساسه بإمكاننا فهم تجربته وتفسيرها.
ووفقاً لكلتا الفرضيّتين لا مانع من الاستثناء. فعلى الفرضيّة الأولى يمكن أن نقول بأنّه وإنْ أتى بطريقةٍ مبتكرة، والأصل في نشاطه هو المغايرة والتمايز عن التجربة العقلائيّة في التقنين والتشريع، ولا يُخرج عن هذا الأصل إلاّ بدليل، لكنْ من الممكن أن يعتمد هذه الطريقة أو تلك عند العقلاء.
وأما على الفرضيّة الثانية فنقول: إنّ مقتضى المسار العام لتجربة المقنِّن الديني أنّها لا تغترب عن النهج الإنساني في التشريع والتقنين، بل هي على المسار نفسه، لكنْ من الممكن أن تطوّر في هذا المسار، أو أن تخرج عنه في بعض الأحيان القليلة التي تحتاج في إثباتها الوقوعيّ إلى شاهدٍ.
ولا نقصد بالمرجعيّة الإنسانيّة العقلائيّة في التقنين الشرعي أنّ المشرِّع الإلهيّ لا تحوي تشريعاته شيئاً لا يعرفه العقلاء، ولا أنّ مضمونه التشريعي لا جديد فيه، ولا أنّ قوانينه لا امتياز فيها، فنحن هنا لا نبحث في المضمون التشريعي وما تحويه الأحكام الشرعيّة، إنّما نبحث في النهج والطرق التي سار عليها المشرِّع الديني عندما مارس عمليّة التشريع، والكشف عنها وإبرازها للناس.
كما أنّنا لا نبحث في طرق فهم النصوص الدينيّة والاجتهاد فيها، وهل أنّ هذه الطرق بشريّةٌ أو لا؟ إنّما نبحث في نفس الأداء الإلهيّ والنبويّ كيف كان؟ وأيَّ سبيلٍ سلك؟
وخلاصة القاعدة المزعومة هنا: إنّ المشرِّع الدينيّ انتهج نهج العقلاء في طرائق تشريعهم، إلاّ ما خرج بالدليل.
نحو مستندٍ ترجيحيّ للقاعدة / الأصالة المدّعاة
إنّ المستند الترجيحيّ الأساس الذي يمكن الاعتماد عليه في إثبات النهج الإنسانيّ العقلائيّ في التشريع الدينيّ، هو:
أوّلاً: الرصد التاريخي للتجربة، فهذا الرصد يوضِّح لنا أنّ هذه التجربة ليس فيها شيءٌ أساسيّ مختلف عن أساليب الإنسان في البيان القانوني، بل والجعل القانوني.
ففي النصوص الدينيّة توجد فكرة التعليل التي تكشف عن أنّ المقنِّن اعتمد العلل لممارسة التقنين، وهذا شأنٌ بشري.
كما نجد الطرق المتعارفة ـ ولو آنذاك ـ في البيان القانوني على مستوى اللغة.
ونجد نهج التدرُّج في البيان ونهج العقوبة على المخالفة، ونهج الشدّة والخفّة الكاشفتين عن درجات الأحكام، وغير ذلك.
فنحن لا نلمس أنّ الطابع المافوق إنساني وعقلائي له حضورٌ في التجربة القانونيّة الدينيّة، بل عادةً ما نجد تشابهاً بين هذه التجربة وكثير من تجارب البشر، دون أن يمنع ذلك من الاستثناء والامتياز هنا أو هناك، كما قلنا آنفاً.
ثانياً: عدم ظهور أيّ مؤشِّرات على استغراب أو انتقاد أو حتّى ظهور تساؤلات حول الطريقة الجديدة التي استخدمها المشرِّع الدينيّ في بياناته، فإنّه لو كان قد اعتمد طريقةً ما فوق عقلائيّة، مجافياً الطرق العقلائيّة في العمليّات والبيانات التشريعيّة، لظهرت مرحلةٌ يمكن تسميتها بمرحلة محاولة فهم الطريقة الجديدة، ومع ذلك نحن لا نجد شيئاً يُذْكَر في هذا المجال. وهذا شاهدٌ واضح على أنّ المسلمين وغيرهم قد تلقّوا هذه الطرق التشريعيّة على أنّها مأنوسةٌ غير غريبة ولا جديدة عليهم… نعم، مضمونها كان جديداً في جملةٍ من الأحكام الشرعيّة، لكنّ طريقة التشريع لم تكن ظاهرةً مجافية للنَّمَط العقلائي.
هذان الشاهدان يقدِّمان ترجيحاً لفرضيّة البحث هنا، ولا نريد منهما أكثر من مستوى الترجيح.
حدود القاعدة واستشراف النتائج
انطلاقاً ممّا تقدَّم يمكن لنا أن نفهم الظاهرة القانونيّة الدينيّة ضمن الأطر التالية:
1ـ إنّها ظاهرة عقلائيّة إنسانيّة في مسارها العام، ومن ثَمّ يمكن فهمها من خلال الذهنيّة البشريّة في التقنين، دون أن يمثِّل ذلك إسقاطاً زائفاً.
2ـ إنّ ذلك لا يمنع من أن يستبدّ المشرِّع الدينيّ أحياناً بطرقٍ خاصّة به غير مفهومة عقلائياً، كما قيل في مثل اعتماده القرائن المنفصلة في البيان، شرط أن نتمكَّن من إثبات هذا المدَّعى بالشواهد والأدلّة.
3ـ النتيجة الأكثر أهمِّيةً لهذه القاعدة هي ذات بُعْدٍ إيجابي وسلبي:
أـ أمّا البُعْد السلبي فيكمن في أنّ أيَّ طريقةٍ تشريعيّة غريبة عن العقلاء وغير مفهومة لا يمكن نسبتها إلى المشرِّع الديني إلاّ بدليلٍ قويّ؛ لأنّها تسير على خلاف المسار العام في طريقته ونهجه.
ب ـ وأمّا البُعْد الإيجابي فيكمن في أنّ أيَّ طريقةٍ تشريعيّة يعرفها العقلاء، وتكون متوالمة مع نهجهم في التشريع والبيان القانونيَّين، فمن الممكن أن يكون الشارع الدينيّ قد انتهجها بالفعل في إدارته لحركة تشريعاته.
ومعنى ذلك أنّ واحدة من أهمّ وأخطر طُرُق فهم التجربة القانونيّة الدينيّة هو فهم طرائق البشر وأساليبهم العقلائيّة في التقنين. فإذا رأينا أسلوباً تقنينيّاً يمارسه العقلاء فهذا معناه ـ تلقائيّاً ـ إمكان أخذه افتراضاً من افتراضات العمليّات التشريعيّة للمقنِّن الديني.
نماذج من أمثلةٍ توضيحيّة
ولكي نوضِّح الفكرة أكثر، مع إيجازٍ، نشير إلى بعض الأمثلة المختصرة والسريعة:
المثال الأوّل: إنّ في حياة العقلاء أصولاً قانونيّة وتشريعات تحظى بالديمومة ولو النسبيّة، وهناك تشريعات يُنشئها العقلاء لإدارة مرحلةٍ زمنيّة أو وضعٍ زمنيّ أو ظرفي معيَّن.. هذا أصلٌ عقلائي في التقنين.
وعليه، فمن الوارد جدّاً أن يكون المشرِّع الديني قد انتهج هذا النهج في قوانينه، وعلى الفقيه في كلّ بحثٍ فقهي أن يطرح هذا الموضوع بوصفه فرضيّةً من فرضيّات المسألة الفقهيّة.
المثال الثاني: إنّ المقنِّنين من العقلاء كما يمارسون بيان القانون، قد يتدخَّلون في وضع معايير غالبيّة لضبط موضوعات القوانين، والغَرَض هو ضمان الالتزام بالقانون نفسه، حتّى لا تحدث استنسابية وأخطاء تقديريّة من الرعيّة والعاملين بالقانون. وهذا ما نسمّيه بالشخصية الموضوعيّة للمقنِّن (نسبةً لموضوع القانون والحكم).
معنى هذا الكلام أنّ المعايير النسبيّة الهلامية تضرّ بالمقنِّن، فلو قال: إذا وجدْتَ نفسك مُتْعَباً فلسْتَ ملزماً بالعمل… فإنّ هذه الطريقة من البيان القانوني وإنْ كانت سليمةً، لكنّها هلاميّة، فقد يستغلّها الموظَّفون، وقد يتوهَّم موظّفٌ أنّه مُتعب، وتضيع الحدود الدقيقة لمفهوم التعب… إنّ هذا ما يدفع المقنِّن للتدخُّل في وضع معيار موضوعي غالبي ـ بدل عنوان التعب ـ لضمان تحقُّق أغراضه القانونيّة؛ فيقول مثلاً: إذا كان لديك العارض الصحّي الفلاني أو الفلاني أو الفلاني يمكن لك التغيُّب عن العمل، فهو قد استبدل عنوان التعب بالعارض الصحي المحدَّد، والذي يفضي بطبعه إلى التعب وفق تشخيصٍ طبّي غالبي.
وعليه، فمن الممكن أنّ المقنِّن الديني قد فعل ذلك في منظومة تشريعاته التي بأيدينا؛ لأنّ هذا السبيل سبيلٌ عقلائيّ ينتهجه العقلاء في وضع القوانين. فمن الممكن أن يكون التعب هو معيار الإفطار وقَصْر الصلاة في السفر؛ لكنَّ المشرِّع وضع مسافةً أو زماناً معيَّناً للقَصْر، بدلاً عن عنوان التعب؛ لكون ذلك أضبط آنذاك في تحقُّق الموضوع.
وهذا كلُّه يعني أنّ الفقيه عندما يريد أن ينظر في النصوص الدينيّة الأمّ يلزمه قبل ذلك أن يَعِيَ جيّداً الإمكانات والطرائق البشريّة ـ وخاصّة التي كانت متداولة تاريخيّاً في ظرف النزول ـ في ممارسة التقنين وبيانه، ثم يحمل معه هذه الطرائق بوصفها فرضيّات إمكانيّة يُحتمل أنّ المشرِّع الدينيّ قد استخدمها في ممارساته التشريعيّة.
وهذا الأمر سوف يفتح عيون الفقيه على أكثر من فرضيّةٍ في تجربة المشرِّع الدينيّ، وخيارات دلالة النصوص، بدل أن يُبْقيه حبيس الألفاظ والإطلاقات فقط.
وكلامُنا برمّته لا يعني ثبوت استخدام المشرِّع الديني لهذه الطريقة أو تلك، بقدر ما يعني لزوم حمل هذه الطرق بوصفها فرضيّات يلزم استحضارها في فهم النصوص الدينيّة؛ إذ حملها كفرضيّات قد ينبّه الفقيه أحياناً إلى مؤشِّرات قد تساعده على تكوين فهمٍ مختلف. فمثلاً: قد يفهم الفقيه حينئذٍ ـ وهذا مجرَّد مثال لا أُريد الآن أن أختاره ـ من قوله تعالى: ﴿…وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ…﴾ (البقرة: 185)، قد يفهم أنّ تشريع الإفطار في السفر كان لخصوصيّة العُسْر في الصيام فيه، فإذا تحوَّل الصيام في السفر (أعني حساب الفراسخ المعدودة القليلة) إلى صيام لا عُسْر فيه على الإطلاق فهذا يشير إلى تغيُّرٍ في طبيعة الحكم، الأمر الذي قد يذهب بالفقيه إلى تكوين فهمٍ مختلف لنصوص المسافة بوصفها معياراً في السفر، فإمّا يربطها بتساوي الزمان والمسافة آنذاك، أو يقول بأنّ النبيّ مثلاً وضع هذه المسافة باعتبار كونها موجبةً نوعاً للتعب آنذاك، فيكون قد مارس الشخصيّة الموضوعيّة للمقنِّن، والتي قلنا بأنّها شخصيّة عقلائيّة في التقنين.
وما قلناه لا يختصّ بفرضيّة عقلائيّة المقنِّن الدينيّ، بل يجري حتّى لو فرضنا أنّ له طريقةً خاصّة، لكنّ اعتباره مقنِّناً عقلائيّاً يرفع من احتماليّات هذه الفرضيات، ويلزمنا أكثر بالاهتمام بها، ومن ثَمَّ فما يسير عليه الدرس الفقهي أحياناً من عدم خطور بعض الفرضيّات في ذهن الفقيه أثناء البحث، وكأنّها منتفيةٌ مسبقاً، سببه هذه الذهنيّة التي تحصر أداء المقنِّن الدينيّ بأسلوبٍ محدَّد، وتقصر عن الاطّلاع أو عن استحضار الأساليب الأخرى التي يعرفها البشر أيضاً، مع أنّ كلّ الأساليب تكاد تكون متساوية النسبة لبعضها في الفرضيّات البحثية موضوعيّاً.
أحبَبْتُ طرح هذه الفكرة بوصفها ورقةً للتداول، لا أكثر؛ لكي نضيء في العملية الاستنباطيّة على فرضيّات أكثر أثناء البحث الاجتهادي، والله الموفِّق والمعين.