د. علي آقا نوري(*)
تمهيد
لقد كانت مصادر ومناشئ علم الإمام الخاص، أو بعبارةٍ أخرى: أساليب وطرق الحصول على العلوم الغيبية ـ أيّاً كان نوعها ـ، من بين أهم الموارد الخلافية بين الأصحاب، واختلاف رؤيتهم حول علم الإمام في هذا الشأن، رغم اتفاقهم جميعاً على أن منشأ علوم أهل البيت يمثل نمطاً خاصاً وغير طبيعي، بحيث لا يتسنّى تحصيله لعامّة الناس. بَيْدَ أن بالإمكان ـ من خلال معرفة أنواع الروايات والتقارير المتوفّرة بين أيدينا ـ تقسيم الشيعة وأصحاب الأئمة الأطهار^ في هذا الشأن إلى ثلاثة أقسام:
1ـ الطائفة التي تؤكّد على مفهوم ختم النبوة، وتقول بأن علوم الأئمة الأطهار قد انتقلت إليهم بالوراثة وتعليم النبيّ الأكرم|، نافين بذلك أيّ نوع من الاتصال والارتباط السماوي بعد النبيّ الأكرم. وإن كيفية وسبل انتقال هذا التراث يمكن أن تكون مادّية، وعلى أساس المصادر المكتوبة، من قبيل: (الجَفْر، والجامعة، وكتب الأنبياء الماضين وما إلى ذلك)؛ كما يمكن أن تكون معنوية، من قبيل: (فتح ألف باب من العلم على الإمام عليّ× من قِبَل النبي الأكرم|، وما إلى ذلك). وقد أطلق بعض المحقّقين على هذه الجماعة ـ من خلال تعريفه الخاصّ للوحي ـ تسمية (المعتقدون بانقطاع الوحي). ويمكن تسمية هذا النوع من العلوم بـ (العلوم الموروثة أو المنقولة)، وهي العلوم الخاصة بالإمام عليّ× وأهل البيت^.
2ـ الطائفة التي سعَتْ من جهةٍ إلى التأكيد على ختم النبوّة؛ ولكنها من ناحية ثانية مالَتْ ـ في الوقت نفسه ـ إلى القول بأن الإمام، رغم استفادته من العلوم المكتوبة التي ورثها عن النبيّ|، لا يُحْرَم من العلوم السماوية والاتصال بالملائكة أيضاً. ومن هنا فإنهم أخذوا يستخدمون في حقّ الإمام مصطلح الإلهام والتحديث، دون الوحي، (واستبدلوا ذلك بمصطلح عمود النور، أو بواسطة الروح والملك، ومن خلال النقر والنكت). وإن الإمام من وجهة نظر هذه الجماعة ـ خلافاً للنبيّ الأكرم|، الذي كان يرى المَلَك ويسمع صوته ـ يكتفي بسماع صوت المَلَك، ولا يراه.
3ـ ذهبت طائفةٌ أخرى إلى أبعد من ذلك، وقالت بأن الإمام يسمع صوت المَلَك ويرى شخصه أيضاً. إن هذه الطائفة ـ التي أدّى كلامها إلى إثارة الشبهة أكثر من غيرها في ما يتعلق بالقول: إن الشيعة لا يبدون اهتماماً لمفهوم ختم النبوّة ـ تثبت للأئمة جميع أنواع العلوم، وترى أن الإمام مثل النبيّ| في ما يتعلّق بالاتصال المباشر بالسماء. وينقسم هؤلاء بدورهم إلى قسمين:
أـ الغلاة الذين لم يجدوا حَرَجاً في نسبة الأئمة إلى النبوّة.
ب ـ بعض أصحاب الأئمة الذين لم يسمحوا لأنفسهم باعتبار الأئمة أنبياء، رغم قولهم بأنهم يسمعون صوت الوحي ويرَوْن شخص المَلَك.
وعلى أيّ حال فإن جميع أتباع هذه الطوائف التي أشَرْنا إليها، وحتّى الذين كانوا يجيزون القياس للأئمة^، كانوا يعتقدون بعصمتهم، ويرَوْن طاعتهم فرضاً عليهم.
الطائفة الأولى: القائلون بوراثة الأئمة للعلوم عن النبيّ، دون إلهامٍ أو تحديث
وقد ذهب الأشعري القمّي في كتابه (المقالات والفرق) ـ في معرض تقرير الاختلاف بين أصحاب الإمام الرضا× ـ إلى بيان هذا الرأي، قائلاً: «وقال بعضهم بمقالة هؤلاء [أي إن الإمام يجب أن يحصل على علوم الدين من الطرق العادية لتحصيل العلم]… لا من جهة الإلهام، ولا النكت والنقر والمَلَك المحدِّث، ولا بشيء من الوجوه التي ذكرتها الفرقة المتقدّمة؛ لأن الوحي من جميع جهاته وفنونه منقطع بعد النبي بإجماع الأمة، وإن الإلهام إنما هو أن يلحقك عند الخاطر والفكر معرفة شيءٍ قد كانت تقدّمت معرفتك به من الأمور النافعة لك فذكرته، وذلك لا يعلم به الأحكام والفرائض والسنن وشرائع الدين على كثرة اختلافها وعللها قبل أن يوقف بالسمع منها على شيء… [وعليه يكون الإمام الجواد× قد] علم ذلك عند البلوغ من كتب أبيه وما ورثه من الأصول والفروع. وبعض هذه الفرقة يجوِّز له القياس في الأحكام، ويزعم أن القياس جائزٌ للرسل والأنبياء والأئمة. وكان يونس بن عبد الرحمن يقول: إن رسول الله كان يستخرج ويستنبط بوقوع ما أنزل عليه»([1]).
وفي ما يلي ننقل هذه الرؤية عن بعض الأصحاب. ويمكن لنا الإشارة من بينهم إلى: إبان بن تغلب، وهشام بن الحكم، وسدير الصيرفي، ويونس بن عبد الرحمن، والفضل بن شاذان.
نقل عن أبان بن تغلب ـ المعروف في الأغلب بوصفه راوي حديث في إطار الاتجاه الفقهي([2]) ـ روايات تشير إلى أنه كان يرى أن علم الأئمة^ مأخوذٌ عن النبي الأكرم|. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنه قال لمَنْ أشكل عليه؛ بسبب نقله الرواية عن الإمام الصادق×: «كيف تلوموني في روايتي عن رجلٍ ما سألتُه عن شيءٍ إلا قال: قال رسول الله»([3]). وقال في موضعٍ آخر، نقلاً عن الإمام الباقر×: إن رسول الله قال: «مَنْ أراد أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل جنة عدن التي غرسها الله ربّي بيده، فليتولَّ عليّ بن أبي طالب، وليتولَّ وليَّه، وليعادِ عدوَّه، وليسلِّم للأوصياء من بعده؛ فإنهم عترتي من لحمي ودمي، أعطاهم الله فهمي وعلمي»([4]).
وعلى الرغم من اشتهاره في الدخول ضمن سند هذا النوع من الروايات، ولكنّه يروي أحاديث في إثبات علم الأئمة بالأمور الخافية والمستورة أيضاً. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنه يروي عن رجلٍ من أهل الكوفة كان ينكر إخبار الإمام بشأن أموال للإمام كانت بحوزته، وكان يكتمها عليه، وكان يزداد إنكاراً كلما أكّد الإمام على صحّة كلامه، وفي نهاية المطاف التفت الإمام× إلى بعض أصحابه، وقال لهم: «أما والله لو كنتما أمناء الله وخليفته في الأرض وحجّته على خلقه ما خفي عليكما ما صنع بالمال، فقال الرجل عند ذلك: جعلت فداك، قد فعلت، وأخذت المال»([5]).
يمكن القول بأن هشام بن الحكم ـ حيث تقوم رؤيته على القول بأن الفلسفة الوجودية للإمام تكمن في حفظ الشريعة، ولا تخفى كفاية العلم الموروث في حفظ الشريعة ـ ينتمي إلى هذه الطائفة، وإن بالإمكان الحفاظ على الشريعة بواسطة العلوم التي ورثها الأئمة الأطهار^ عن النبيّ الأكرم|.
ولا سيَّما أنه في مناظرته مع الرجل الشامي يعتبر الإمام الصادق× عالماً بأمور السماء والأرض، ولكنّه يؤكّد في الوقت نفسه بأنه قد ورث هذا العلم عن النبيّ الأكرم|([6]). وفي رواية أخرى لهشام بن الحكم عن الإمام الصادق× يعتبر الأئمة عالمين بكتب الأنبياء الماضين، ويؤكّد على أن هذه الكتب إنما انتقلت إليهم بالوراثة([7]).
كما أن سديراً الصيرفي ـ بوصفه واحداً من أصحاب الإمام الصادق× ـ كان يُنكر أيّ نوعٍ من أنواع التحديث أو الإلهام للأئمة. ولكنّه يثبت ـ بطبيعة الحال ـ أن مصدر علم الأئمة يكمن في التوارث وعلم الكتاب. ففي رواية عن الإمام الصادق× يتمّ إنكار جميع أنواع مصادر العلم على الإمام، باستثناء الفهم المباشر لكتاب الله.
فعن دعائم الإسلام: «روينا عن جعفر بن محمد× أن سديراً الصيرفي سأله، فقال له: جعلت فداك، إن شيعتكم اختلفت فيكم فأكثرت، حتّى قال بعضهم: إن الإمام ينكت في أذنه، وقال آخرون: يوحى إليه، وقال آخرون: يقذف في قلبه، وقال آخرون: يرى في منامه، وقال آخرون: إنما يفتي بكتب آبائه، فبأيِّ قولهم آخذ، جعلت فداك؟ فقال: لا تأخذ بشيءٍ من قولهم. يا سدير، نحن حجّة الله وأمناؤه على خلقه، حلالنا من كتاب الله، وحرامنا منه»([8]).
وعلى الرغم من اقتصار هذه الرواية على علم الإمام بالحلال والحرام، إلاّ أن جميع الروايات الأخرى التي يرويها سدير الصيرفي لا نجد فيها موضعاً للإلهام والتحديث من الإعراب. يُضاف إلى ذلك أن رواياته تثبت أن مصدر علم غيب الأئمة هو الوراثة عن رسول الله| وعلم الكتاب([9]).
كما أن يونس بن عبد الرحمن(208هـ) ـ وهو من أصحاب الإمامين الكاظم والرضا’([10])، ويُعْرَف بكونه تلميذاً لهشام بن الحكم([11]) ـ كان مثل أستاذه، لا يؤمن بالإلهام والتحديث للأئمة^، ويرى أن مصدر علومهم كتبٌ ورثوها من النبيّ الأكرم|([12]).
وقيل: إنه ـ وربما بسبب هذه المحدودية التي كان يراها بالنسبة إلى علم الإمام ـ كان يجيز له القياس([13]). رغم أنه يرى أن الأئمة^ معصومون، وأن قياسهم سيكون تَبَعاً لذلك معصوماً عن الخطأ([14]).
ومن القائلين بهذا الرأي الفضل بن شاذان. فقد أشار الكشّي إلى اختلاف جماعتين من الشيعة في نيسابور، وفي هذا الخلاف كان الفضل بن شاذان يتزعم الجماعة التي تذهب إلى الاعتقاد بأن الإمام لديه علم بالحلال والحرام وتأويل الكتاب وفصل الخطاب، ولا يوحى إليه، وإنما تصلهم علوم النبيّ الأكرم| بالوراثة، ولا يعرف أحدٌ من الأئمة شيئاً من أمور الدين إلاّ بعلمٍ ورثه عن رسول الله صلوات الله عليه([15]).
وهذه المسائل تنسجم مع الموارد الموجودة في كتاب الإيضاح، المنسوب إلى الفضل بن شاذان، فقد أنكر في هذا الكتاب أيّ نوعٍ من الإلهام للأئمة، ونسب هذا الاعتقاد إلى أهل السنّة، وقال استناداً إلى كلامٍ للإمام عليّ×: «مع أن الشيعة لا تقول بذلك، ولا تؤمن بما تقولون به من الرأي والإلهام؛ والدليل على ذلك قولّ علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ: ما عندنا إلاّ ما في كتاب الله أو ما في الصحيفة». ولكنه ـ بطبيعة الحال ـ يشير بعد ذلك إلى أن القرآن يشتمل على كلّ شيء([16]). وفي المجموع فإن هذا الرأي؛ للإجابة عن شبهات المخالفين للإمامة الشيعية، أقرب إلى الفهم والإقناع بالنسبة إلى المخالفين.
الطائفة الثانية: القائلون بوراثة العلوم وانتقالها من النبيّ، مع إلهامٍ وتحديث
إن لهذه الرؤية ـ بالقياس إلى الرؤية السابقة ـ ارتباطاً أوثق بعلم الغيب المصطلح، حيث نرى هنا أثر توسّط وتدخّل الملائكة والروح بشكلٍ مباشر. إن أصحاب هذا الرأي، رغم قولهم بارتباط الإمام بالملائكة وعالم الغيب والقنوات غير الطبيعية؛ ولرفع شبهة القول بنبوّة الأئمة، والقول بوجود فارقٍ بين الحالة التي تعتريهم وبين الوحي، قالوا بأن هذا الارتباط هو من نوع التحديث والإلهام، ويعرِّفون الإمام بلقب المحدَّث([17]). إن هؤلاء يقولون بأن الملائكة يحدِّثون الأنبياء والرسل، وإن الأنبياء بدَوْرهم يرَوْنهم؛ في حين أن الإمام لا يستطيع رؤيتهم، وإنما يكتفي بسماع كلامهم، أو يتقبّل ما يُلقى في قلبه أو روعه من المفاهيم منهم. فالمحدَّث هو الذي يتلقّى أخبار الغيب من الملائكة([18]).
إن هذه الطائفة؛ في سعيٍ منها للتمييز بين الإمام والنبيّ، تطلق على الإمام في بعض الأحيان مصطلح العالم. ويمكن لنا أن نشاهد أمثلةً على هذا المصطلح في روايات زرارة بن أعين([19])، ومحمد بن مسلم([20])، وبريد بن معاوية([21])، وغيرهم من أصحاب الأئمة^.
وبالنظر إلى روايات هؤلاء يمكن الوقوف على هذه النقطة، وهي أنهم كانوا يرومون من هذا المصطلح معنى خاصاً؛ فإن حمران بن أعين ـ مثلاً ـ عندما يسأل الإمام الباقر× عن منزلة العلماء؟ يجيبه بالقول: إن العلماء هم أمثال: ذي القرنين وصاحب سليمان وصاحب موسى([22]). وكما هو واضحٌ فقد تمّ تشبيه العلماء ـ الذين هم الأئمة ـ في هذه الرواية بأشخاصٍ بعينهم. وإن هؤلاء الأشخاص وإنْ لم يكونوا أنبياء، ولكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا من الناس العاديين، بل هم أسمى وأعلى مرتبة منهم، بل وأعلى درجةً من سائر العلماء (طبقاً للمعنى السائد للعلماء)؛ وذلك لأن علوم هؤلاء الأشخاص قد تكون في بعض الأحيان أعلى من علوم الأنبياء([23]).
وفي رواية الحارث بن المغيرة يتّضح هذا المعنى بشكلٍ أكبر، فهو عندما سمع من الإمام الباقر× وصفه للإمام عليّ× بأنه كان محدَّثاً سأله قائلاً: هل تعني بذلك أنه كان نبيّاً؟ قال الإمام بعد إنكار هذا المعنى: إنه مثل: صاحب سليمان، وصاحب موسى، أو ذي القرنين([24]).
وفي الروايات المأثورة عن هذه الطائفة هناك تأكيدٌ على هذه النقطة أيضاً، حيث تعزو انحراف بعض الأشخاص ـ من أمثال: أبي الخطاب ـ إلى عدم فهمهم لمعنى المحدَّث. وبعبارةٍ أخرى: إن أبا الخطاب وأضرابه لم يتمكّنوا من التمييز بين الإمام المحدَّث وبين النبيّ الذي يوحى إليه([25]).
إن الاختلاف بين التحديث والإلهام والوحي في كلام هؤلاء الأشخاص لا يكمن في جعل اللفظ فقط، بل تمّ السعي في روايات هذه الطائفة إلى بيان التحديث والإلهام بشكلٍ يميِّزهما من الوحي.
ففي رواية محمد بن مسلم، عن الإمام الصادق×، أن المحدَّث [الإمام] يسمع صوت المَلَك، ولا يرى شخصه، بخلاف النبيّ الذي يسمع صوت المَلَك ويراه أيضاً([26]).
وقد بيَّن زرارة في روايةٍ له التمايز بين هذين المصطلحين بشكلٍ أوضح. فقد روى عن الإمام الباقر× أنه يقول بأن النبيّ هو الذي يرى المَلَك في منامه، ويسمع صوته، ولكنّه لا يراه بعينه؛ والرسول هو الذي يسمع صوت المَلَك، ويراه في النوم واليقظة (بالعين الجارحة)؛ وأما الإمام فهو الذي يكتفي بسماع صوت المَلَك، دون رؤيته (لا في النوم ولا في اليقظة)([27]). وبطبيعة الحال إننا لا نعلم كيفية سماع صوت المَلَك، رغم إمكان اعتباره من نوع المصادر غير العادية، التي لا يمكن لكلّ شخص أن يحصل عليها. ولا يمكن اعتبار التوفيق والعناية الإلهية الخاصّة مساوقة للوحي، واعتبار خاتمية النبيّ الأكرم| غير تامّة، ولا سيَّما أن القرآن يعتبر هذه العناية من مختصّات الأنبياء فقط.
وقد رُوي عن عبد الله بن أبي يعفور أحاديث بشأن علم الإمام، تثبت هذا النوع من التصوُّر. ومن ذلك مثلاً أنه سأل الإمام الصادق× عن معنى كون الإمام عليّ× محدَّثاً، حيث قال له: «إنا نقول: إن عليّاً كان ينكت في قلبه أو صدره أو في أذنه، فقال: إن عليّاً× كان محدَّثاً، قلتُ: فيكم مثله؟ قال: إن عليّاً× كان محدَّثاً. فلما أن كرّرتُ عليه قال: إن علياً× يوم بني قريظة والنضير كان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره يحدِّثانه»([28]).
ونقل في روايةٍ أخرى عن الإمام× أنه قال: «نحن حجج الله في عباده، وخزائنه على علمه، والقائمون بذلك»([29]). وإنْ أمكن حمل كلمة (خزائن علم الله) على وراثتهم لعلوم الأنبياء أيضاً.
وهناك مَنْ استنتج من رواية الكشّي في تقرير النزاع بين عبد الله بن أبي يعفور والمعلّى بن خنيس، ودعم الإمام الصادق× له، أنه كان يعتقد بالعلم الإلهامي، بمعنى أن عبد الله بن يعفور وإنْ كان ينفي نبوّة الإمام، ولكنّه إنما يعني بذلك أن الإمام لا يوحى إليه. وبحَسَب تقرير الكشّي يَردّ تعبير المعلّى بن خنيس بأن الأئمة أنبياء؛ إذ يقول: «الأوصياء أنبياء»، وفي المقابل كان عبد الله بن أبي يعفور يذهب إلى الاعتقاد بأن الأئمة علماء أبرار أتقياء، وفي هذا النزاع يأمر الإمام بالبراءة ممَّنْ يعتقد بنبوّة الأئمة^.
إن النزاع بينه وبين المعلّى بن خنيس حول ما إذا كان الأئمة أنبياء أو مجرّد علماء أبرار أتقياء يجب تحليله في هذا الإطار أيضاً؛ إذ إنه في هذا النزاع لا يعتبر الأئمة أنبياء، وإنما هم بالنسبة له مجرّد علماء أبرار أتقياء، بمعنى أن ارتباط الأئمة بالملائكة ليس من قبيل: ارتباط النبيّ، وإنما هو من سنخ التحديث. والدليل على ذلك هو أننا من جهةٍ لا نستطيع أن نتّهم المعلّى بن خنيس بالقول بنبوّة الأئمة؛ إذ يلزم من ذلك الخروج من ربقة الإسلام. كما أن سلوك الإمام الصادق× بعد ذلك لا يساعد على هذا الافتراض. يُضاف إلى ذلك أن المعلّى بن خنيس كان يشغل منصب الوكيل على أموال الإمام الصادق، ويُستبْعَد من مثله أن يتبنّى هذه الرؤية بشأن الإمام. وعليه فإن الفرضية الوحيدة المتبقّية هي أنه كان يعتقد بمراتب نبوية للأئمة، من قبيل: الإلهام والتحديث. وبطبيعة الحال فإن تحديد ما هي المرتبة النبوية التي وقع النزاع بشأنها يتّضح من خلال مقارنة هذه الرواية بالروايات الأخرى المشابهة لها، بل يمكن القول أيضاً بأنه حتّى خطأ أمثال: أبي الخطاب وأتباعه كان ناشئاً من عجزهم عن التمييز بين مفهوم المحدَّث ومفهوم النبيّ أيضاً. ففي روايةٍ مماثلة نجد حمران بن أعين يسأل الإمام الصادق×، بقوله: قلتُ لأبي عبد الله×: أنبياء أنتم؟ قال: لا، قلتُ: فقد حدّثني مَنْ لا أتَّهم أنك قلتَ: إنكم أنبياء، قال: مَنْ هو، أبو الخطّاب؟ قال: قلتُ: نعم، قال: كنتُ إذن أهجر، قال: قلتُ: فبِمَ تحكمون؟ قال: نحكم بحكم آل داوود، فإذا ورد علينا شيءٌ ليس عندنا تلقّانا به روح القدس»([30]).
وهو من قبيل: كلام بعض العرفاء؛ إذ يدَّعون الارتباط بالعالم الأعلى، ويقولون: «حدّثني قلبي عن ربّي»، ولم يقُلْ أحدٌ منهم: إنّي نبيّ.
إن السبب في ذهاب بعض الأصحاب ـ طبقاً لهذه الرواية ـ إلى الاعتقاد بنبوّة الإمام هو أن الإمام إذا أراد أن يكون مرجعاً يجب أن يكون له علمٌ مغاير لعلوم الآخرين؛ كي يتمكن من الإجابة عن مسائل لا يمكن لغيره أن يجيب عنها. وإن الطريق الوحيد لتحصيل هذ العلم ـ من وجهة نظر هؤلاء الأشخاص ـ هو الارتباط السماوي بين الإمام والملائكة. وكانوا يقولون بأن الذي يحظى بمثل هذا الارتباط يجب أن يكون نبياً؛ وذلك لأن هذا الارتباط يمثّل نوعاً من الاتصال الوحياني. وعلى هذا الأساس فإن ادّعاء بعضهم نسبة النبوّة إلى الأئمة ناظرٌ إلى مصدر علم الأئمة، ونوع ارتباطهم بالمَلَك. ومع ذلك يمكن القول: إن ابن أبي يعفور هنا، على حدّ تعبير بعضهم، كان ـ خلافاً للمعلّى بن خنيس ـ يقول بانقطاع الوحي (بمعنى التحديث والإلهام)؛ لأن التحديث عند البعض يمثّل نوعاً من الارتباط النبويّ بالسماء (الوحي).
الطائفة الثالثة: القائلون بعدم الاختلاف بين النبيّ والإمام في الارتباط بالمَلَك
في مقابل الطائفة السابقة، التي كانت تفرِّق بين الإمام والنبي في نَمَط الارتباط بالسماء، تذهب هذه الطائفة إلى عدم الاعتقاد بهذا الفرق. فهؤلاء يقولون بأن الأئمة مثل الأنبياء، يمكنهم رؤية المَلَك بالعين الجارحة. وهناك منهم مَنْ أغراه هذا الكلام وصرَّح بنبوّة الإمام، فخرج بذلك من دائرة التشيُّع. والبعض الآخر لم يتحدّث عن نبوّة الأئمة، بَيْدَ أن أشخاصاً، من أمثال: أبي الخطاب ـ بناءً على بعض الروايات ـ؛ حيث لم يفهموا طبيعة ارتباط الإمام بالملائكة بشكلٍ صحيح، اعتقدوا لذلك بنبوّتهم. ومع ذلك فإن البعض الآخر، من أمثال: أبي بصير، وإنْ لم يَرَ فرقاً بين الأئمة والأنبياء في ما يتعلَّق بالارتباط بالملائكة، ولكنّهم لم يلتزموا بلوازم ذلك، ولم يقولوا بنبوّة الأئمة. وفي رواية أبي بصير تمّ بيان علم الأئمة على ثلاثة أنحاء:
1ـ المشاهدة الحسّية لواسطةٍ أعظم من جبرائيل وميكائيل.
2ـ الإلهام في القلب.
3ـ سماع الصوت([31]).
وفي روايةٍ أخرى، عن ابن أبي حمزة، عن الإمام الصادق×، بَدَلاً من المشاهدة في اليقظة، ورد الحديث عن الرؤية في النوم([32]).
وفي بعض الروايات، بَدَلاً من ارتباط الإمام بالمَلَك، ورد الحديث عن روحٍ نزل على رسول الله| أكبر من الملائكة، ثم مكث في الأرض، وتلخصت مهمته بحفظ الأئمة وإخبارهم بما لا يعلمون([33]). وقد تمّ التصريح في بعض هذه الروايات بأن الإمام يرى الروح([34])، وفي البعض الآخر من الروايات لا يوجد تصريحٌ، وفي بعض الموارد هناك التزامٌ بالسكوت، بل حتّى اعتبار ارتباط الإمام بالروح وُصف على أنه من نوع الإلهام والتحديث([35]).
إن الإشارة إلى هذا البحث تأتي من باب أن الروايات المرتبطة بهذا الموضوع قد نقلت على ثلاثة أشكال، وهي:
1ـ إن بعض هذه الروايات يذكر أن نوع ارتباط الإمام بهذا الروح هو من سنخ التحديث والإلهام، ويؤكّد على أن الإمام لا يرى الروح([36]).
2ـ إن بعضاً آخر من هذه الروايات يرى أن نوع ارتباط الإمام بهذا الروح هو من سنخ الرؤية بالعين، وسماع الصوت بالأذن، والإلهام في القلب أيضاً([37]).
3ـ إن البعض الآخر من هذا الروايات لم يتعرَّض إلى نوع ارتباط الإمام بهذا الروح. وإن هذه الطائفة من الروايات بدورها تنقسم إلى قسمين، وهما:
أـ إن بعض هذه الروايات يكتفي بالحديث عن روحٍ كان مع الأئمة بعد النبيّ([38]).
ب ـ إن البعض الآخر من هذه الروايات يتحدَّث بتفصيلٍ أكبر عن خمسة أرواح بالنسبة إلى النبيّ الأكرم|: أحدهم روح القدس، وبواسطته تنتقل النبوّة، وعندما يلتحق النبي بالرفيق الأعلى يبقى هذا الروح مع الأئمة. وبناءً على هذه الروايات فإن هذا الروح لا ينام ولا يغفل ولا يسهو، ومن خلاله يرى الإمام جميع الأشياء، ويطّلع على خفايا الأمور([39]).
إن الطائفة الأولى تتألَّف من أولئك الذين كانوا يفرّقون بين الإمام والنبيّ في الارتباط بالمَلَك، ولا يرَوْن في تفريقهم هذا فرقاً بين الروح والمَلَك.
والطائفة الثانية تتألَّف من أولئك الذين لم يكونوا يفرّقون بين الإمام والنبيّ في الارتباط بالمَلَك، بل كانوا يرَوْن حتّى إمكان مشاهدة المَلَك بالنسبة إلى الأئمة.
وأما الجماعة الأولى من الطائفة الثالثة، والتي تكتفي بإطلاق الكلام حول ارتباط الروح بالأئمة بعد النبيّ، فأعضاؤها في الغالب يفرِّقون بين الإمام والنبيّ عند البحث عن ارتباط الأئمة بالملائكة([40]).
والجماعة الثانية من الطائفة الثالثة، فعلى الرغم من أن رواياتهم لا تأتي على ذكرٍ للفرق بين النبيّ والإمام في ما يتعلَّق بنوع الارتباط بالروح، ولكنْ حيث إن الكلام في بعضها يدور حول نقل النبوّة بواسطة هذا الروح يمكن أن يفهم منها أن الأئمة أنبياء أيضاً([41]).
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذٌ مساعِد في جامعة الأديان والمذاهب.
([1]) الأشعري القمّي، المقالات والفرق: 79 ـ 89. وعلى الرغم من وجود أصل هذه الرؤية في فِرَق الشيعة، فإننا لا نرى أثراً لـ (يونس بن عبد الرحمن) في البين. انظر: النوبختي، فرق الشيعة: 90.
([4]) الكليني، أصول الكافي 1: 902.
([5]) الصفّار، بصائر الدرجات: 221. وقد أشار أيضاً إلى بعض مقاطع هذه الرواية كلٌّ من: الصدوق في الخصال؛ والطبرسي في الاحتجاج.
([6]) انظر: الكليني، أصول الكافي 1: 271.
([7]) المصدر السابق: 77. وسواء أكان هذا الإرث مادّياً (كأن تكون هذه الكتب بذاتها قد وصلت إليهم من الأنبياء السابقين على شكل الجَفْر والجامعة وما إليهما)، أو معنوياً (من قبيل: ما قيل من أن النبيّ قد فتح ألف باب من العلم على الإمام عليّ، وكلّ باب ينفتح بدوره على ألف باب)، لا يؤثّر في أصل البحث القائم على أن الإمام× لا يرتبط بالسماء مباشرةً.
([8]) القاضي النعمان، دعائم الإسلام 1: 5؛ رسول جعفريان، حيات فكري سياسي إمامان شيعه (الحياة الفكرية والسياسية لأئمة الشيعة): 852، نقلاً عن تفسير الشهرستاني.
([9]) انظر: الكليني، أصول الكافي 1: 752.
([10]) انظر: رجال النجاشي: 644.
([11]) انظر: الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 872.
([12]) للوقوف على مثالٍ بشأن قوله: إن العلم بالوراثة انظر: الصفّار، بصائر الدرجات: 823.
([13]) الأشعري القمّي، الفرق والمقالات: 98.
([14]) النوبختي، فرق الشيعة: 9؛ الأشعري القمّي، الفرق والمقالات: 98.
([15]) انظر: الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 145.
([16]) الفضل بن شاذان، الإيضاح: 464.
([17]) انظر: الكليني، الكافي 1: 270 ـ 271.
([18]) ويبدو أن هذا النوع من العلم مقبولٌ حتّى عند بعض علماء أهل السنّة أيضاً، حيث ينسبون هذا المفهوم إلى الخليفة الثاني؛ إذ يروون عن النبيّ الأكرم| حديثاً يقصر فيه صفة المحدَّث على عمر بن الخطّاب. (انظر: صحيح البخاري 4: 149؛ سنن الترمذي 5: 286).
([19]) انظر: الكليني، أصول الكافي 1: 671.
([20]) انظر: المصدر السابق 1: 172.
([21]) انظر: المصدر السابق 1: 962.
([22]) انظر: المصدر السابق 1: 862.
([23]) من ذلك على سبيل المثال: إن صاحب موسى ـ على حدّ تعبير القرآن ـ كان يعلم أموراً لم يكن النبيّ موسى× نفسه يعلم بها. انظر في هذا الشأن: سورة الكهف: 6 ـ 28.
([24]) انظر: الكليني، أصول الكافي 1: 962.
([25]) انظر: المصدر السابق 1: 72؛ الصفّار، بصائر الدرجات: 23.
([26]) انظر: الكليني، أصول الكافي 1: 172.
([27]) انظر: المصدر السابق 1: 671. وانظر نظير ذلك في: الصفّار، بصائر الدرجات: 23.
([28]) الصفّار، بصائر الدرجات: 223.
([29]) الكليني، أصول الكافي 1: 391.
([30]) الصفّار، بصائر الدرجات: 254.
([32]) انظر: المصدر السابق: 232.
([33]) انظر: الكليني، أصول الكافي 1: 271 ـ 272. كما ورد الحديث في الروايات المتعلّقة بنـزول الروح في ليلة القدر عن هذا الروح أيضاً، انظر: الكليني، أصول الكافي 1: 242 ـ 352؛ الصفّار، بصائر الدرجات: 242 ـ 253، 231 ـ 233.
([34]) الصفّار، بصائر الدرجات: 231 ـ 233.
([35]) من ذلك ـ على سبيل المثال ـ نجد محمد بن مسلم، وزرارة بن أعين (انظر: الصفّار، بصائر الدرجات: 457)، أو حمران بن أعين (انظر: الصفّار، بصائر الدرجات: 451 ـ 452)، قد نقلوا هذا النوع من الروايات، دون أن يذكروا شيئاً عن رؤية الروح.
([36]) انظر: الكليني، أصول الكافي 1: 243.
([37]) انظر: الصفّار، بصائر الدرجات: 231 ـ 232.
([38]) انظر على سبيل المثال: الصفّار، بصائر الدرجات: 452 (الرواية رقم 5)، 453 (الرواية رقم 9)، 457 (الرواية رقم 21).
([39]) انظر: الكليني، أصول الكافي 1: 271 ـ 272؛ الصفّار، بصائر الدرجات: 454.
([40]) من ذلك ـ على سبيل المثال ـ يمكن الإشارة إلى كلٍّ من: حمران بن أعين (انظر: الصفّار، بصائر الدرجات: 452)، وزرارة بن أعين (انظر: المصدر نفسه: 457)، وعبّاس بن حريش (انظر: المصدر نفسه: 354).
([41]) من باب المثال نجد المفضَّل بن عمر قد نقل في روايته مثل هذا الكلام، انظر: الصفّار، بصائر الدرجات: 454؛ الكليني، أصول الكافي 1: 272.