دراسة في التطوّر والتحوّلات والمناهج
ـ القسم الثاني ـ
الشيخ الطوسي ودوره في تطوير علم الأصول
10 ـ العدة في أصول الفقه، لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (385 ـ 460هـ)([1])، مفسر فقيه رجالي أصولي، وإمام الشيعة في زمانه. انتقل إلى بغداد وهو ابن الثالثة والعشرين، وأقام فيها أربعين سنة، ورحل إلى الغري (بالنجف)، واستقر فيها إلى وفاته([2])، كان الطوسي تلميذاً للشيخ المفيد، ثم السيد المرتضى، ومحل اهتمامهما وخليفتهما، فلقّب بشيخ الطائفة. دوره في تاريخ الشيعة غني عن البيان، جعل الخليفة العباسي آنذاك (القائم بأمر الله) كرسي الكلام والإفادة له، فكان يدرّس الفقه على المذاهب الإسلامية إضافة إلى مذهب الشيعة([3])، شكل كل من مجلس الشيخ المفيد وداره، ودار العلم لسابور بن أردشير وخزانة كتبه، ودار علم الشريف المرتضى ومكتبته العامرة، المناهل العذبة لترعرع قابليات الشيخ الطوسي([4]).
تجاوز المذهب الشيعي في عصره مرحلة التقية، وصار يزاول نشاطه بصورة علنية([5])، لكن تعرّض المكتبات ـ خاصة الشيعية منها ـ للنهب والحرق، دفعت بالشيخ الطوسي إلى الإكثار من التأليف حفظاً للتراث الإسلامي من الضياع، حتى تعرّض هو بنفسه لهجوم السلاجقة، وأحرق بيته ومكتبته، فغادر بغداد إلى النجف.
من جملة تأليفاته التي شملت جميع العلوم الإسلامية: تهذيب الأحكام وهو شرح المقنعة للشيخ المفيد، الاستبصار وهو اقتباس من التهذيب، الفهرست، الرجال، اختيار معرفة الرجال وهو اختصار لرجال الكشّي، المبسوط، مسائل الخلاف، شرح المقدمة في المدخل إلى علم الكلام، شرح الشافي (شرح شافي أستاذه السيد المرتضى)، تفسير التبيان، مصباح المتهجد في عمل السنّة، المجالس في الأخبار و..([6]).
أما بالنسبة إلى الكتاب الأصولي المهم للشيخ الطوسي <العدة في أصول الفقه>، فيذكر الشيخ أغراض تدوينه كالتالي: 1 ـ سئل إملاء مختصر في أصول الفقه يحيط بجميع أبوابه على سبيل الإيجاز والاختصار. 2 ـ أن يكون هذا المختصر على ما يقتضيه مذهب الإمامية([7]).
هل عدّة الطوسي قبل ذريعة المرتضى أم بعدها؟
والمسألة المثيرة للجدل، هي أنّ الشيخ يدعي في مقدمة كتابه بأنه لم يسبقه أحد من الإمامية للتأليف في هذا العلم، بل يصرّح بأكثر من ذلك، ويقول: <فإنّ سيدنا الأجلّ المرتضى قدس الله روحه (وفي نسخة أدام الله علوه)، وإن كثر في أماليه وما يقرأ عليه شرح ذلك، فلم يصنف في هذا المعنى شيئاً يرجع إليه، ويجعل ظهراً يستند إليه>([8])، لكن غالباً ما نجده ينقل آراء السيد المرتضى واستدلالاته في جميع المسائل، وفي بعض الأحيان ينقل نص عبارات السيد المرتضى من <الذريعة>، وحتى تجاوز ذلك النقل المتعارف. فعلى سبيل المثال، في بحث القياس ينقل نص عبارة <الذريعة> من صفحة 649 إلى الصفحة 721 ولم يذكر لها مصدراً، في حين كان تلميذ السيد المرتضى، وملازمه طوال فترة الثلاثة وعشرين عاماً الأخيرة من عمر السيد المرتضى، فكيف لا يعرف بوجود كتاب <الذريعة>؟ وهو ينقل عنه في صفحات كثيرة، وفي كثير من الموارد يذكر أنّ الرأي للسيد، لكن لا يذكر له مصدراً (على سبيل المثال راجع صفحات 2, 13, 28, 68, 86, 87, 124, 170, 177, 189, 192, 199, 203, 209, 247, 296, 303 من الطبعة الحجرية بخط محمد صادق التويسركاني، 1314هـ)([9]).
وقد ذكر المحققون أسباباً كثيرة لهذا الأمر، منها أن يكون <العدة> مؤلفاً قبل <الذريعة>، لكن نرى الشيخ يذكر السيد المرتضى بدعاء (أدام الله علوه)، إلى الصفحة الرابعة والثلاثين، ومن الصفحة الثامنة والستين يدعو له بدعاء المرحومين، فالذريعة لم تؤلف سوى مقدمتها في حياة السيد المرتضى. لكن أقوى الاحتمالات هو أنه وقع فاصل زمني بين كتابة المقدمة والمتن الأصلي للكتاب، وفي هذه الفترة توفي السيد المرتضى وسقط كتاب <الذريعة> بيد الشيخ الطوسي ولم يكن سمع به من قبل، واستفاد الشيخ منه لنقل آراء السيد، لكنه لم ير ضرورة لذكر المصدر خاصة وأن المصادر آنذاك لم تكن شيئاً متوفراً لدى الناس حتى يستفيدوا من ذكر المصدر لمراجعته، وإن التكتم على المصادر مازال متبعاً حتى اليوم عند بعض كتابنا.
وكتاب <العدة> سفر عظيم، جمع بين دفتيه دورة كاملة في أصول الفقه، تكشف عن مستوى تبحّر الشيعة آنذاك في هذا العلم. عقد الشيخ كتابه في اثني عشر باباً، كل باب يتألف من عدة فصول. طرح في الباب الأول ماهية أصول الفقه، وحقيقة العلم وأقسام أفعال المكلف، وحقيقة الكلام وأقسامه، وما يجب معرفته من صفات الله تعالى، وصفات النبي‘، والأئمة×، وذكر الوجه الذي يجب أن يحمل عليه مراد الله سبحانه بخطابه. وقد خصص الشيخ الباب الثاني للكلام عن الأخبار، وما يتعلق بها، والباب الثالث في الأوامر، ويليه الكلام في النهي ثم في العموم والخصوص، ويتطرّق في الباب السادس إلى الكلام عن البيان، والمجمل، ثم الناسخ والمنسوخ، ثم يتكلم حول الأفعال، ويخصص الباب التاسع لبحث الإجماع، ومن ثم القياس، والاجتهاد، وفي آخر باب يناقش الحظر والإباحة.
ولا يسع المقام أن نتحدث عن الإبداعات العلمية للشيخ الطوسي، لكن بصورة مختصرة نستطيع القول: إنّه أدخل تغييرات على طريقة استخدام المصادر الأربعة في الاستنباط. أمّا الكتاب فقد أولاه من قبله ـ والشيخ المفيد بصورة خاصة ـ أهمية كبرى، لكن الشيخ لم يعتمد عليه بنفس الدرجة. أما بالنسبة للسنّة، فقد قام بدراسات مقارنة، ولم يفت بنصّ الروايات كالذين سبقوه، بل أصبح يعطي اللفظ من نفسه. كذلك قال بحجية الخبرالواحد خلافاً لأستاذه السيد المرتضى. واعتبر التعبد بخبر الواحد جائزاً عقلاً وشرعاً ضمن شروط خاصة ذكرها. وبالنسبة للإجماع وافق الشيخ رأي مشهور الإمامية، وذكر ـ كالسيد المرتضى ـ قاعدة اللطف للاستدلال عليه([10])، أما العقل فقد رسّخ المنهج المعتدل الذي ابتدعه أستاذه المفيد.
والطوسي صاحب ثاني وآخر مدوّن أصولي جامع شيعي وصل إلينا من القرون الخمسة الأولى.
الخطيب البغدادي ودوره في أصول الفقه
11 ـ كتاب الفقيه والمتفقه، لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (392 ـ 462هـ)([11])، كان أبوه خطيباً في بغداد، وحثه على الاستماع والتفقه، فرحل في طلب العلم إلى بلدان كثيرة منها البصرة ونيسابور والشام. وتفقه على المحاملي وأبي الطيب الطبري. هرب إثر حادثة البساسيري من بغداد، وجال في البلدان، وعاد إلى بغداد أواخر حياته. كان محدثاً ناقداً للحديث فقيهاً مفتياً مؤرخاً أديباً. له تصانيف كثيرة أشهرها <تاريخ بغداد>، وله أيضاً: الجامع، المتفق والمفترق، الكفاية، تقييد العلم و..([12]).
لم يقتصر كتابه الفقيه والمتفقه على أصول الفقه، وتطرق فيه إلى مواضيع أخرى، لكن خصّص حدود أربعمائة صفحة منه للمباحث الأصولية، وتكلم فيها عن معنى الفقه وأصوله ومسائله، وذكر الأدلة عنده، وهي: الكتاب والسنّة والإجماع. ثم تكلم عن القياس، ما يجوز منه وما لا يجوز، ثم عن المحكم والمتشابه، والأمر والنهي، والعموم والخصوص، والمبين والمجمل، والناسخ والمنسوخ، والحقيقة والمجاز، واستصحاب الحال، وحكم الأشياء قبل ورود الشرع بها، والجدل والتقليد.
الباجي والمنهجية التشريعية
12 ـ أحكام الفصول في أحكام الأصول، لأبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد التجيبي القرطبي المالكي الباجي (403 ـ 474هـ)([13]). من رجال الحديث، ولد بالأندلس ورحل إلى الحجاز وبغداد والموصل ودمشق وحلب، وعاد إلى الأندلس، فولي القضاء في بعض أنحائها. له مؤلفات كثيرة منها السراج في علم الحجاج، المنهاج في ترتيب الحجاج (أصول فقه مالك)، الإشارات (في أصول الفقه)، اختلاف الموطآت، شرح فصول الأحكام، بيان ما مضى به العمل من الفقهاء والحكام و..([14]).
وأهم ما يمتاز به كتابه، القالب الجدلي الذي صبّ مباحثه فيه، وكأنه يريد مجادلة <أحكام الفصول في أحكام الأصول> لابن حزم، بكتابه هذا. وهو لم يبحث في الأصول من حيث مادتها فحسب، بل خاض فيها خاصة من حيث أحكام وضعها، أي المقاييس والمعايير التي تخضع لها في تحديد المصطلحات الفنية المعتمدة فيها، وفي منطق تقسيمها من حيث كونها أصلاً أو ملحقة بالأصل، وفي طريقة الاحتجاج لها، لتثبيت صحتها وفاعليتها، ومعونتها للمجتهد، وفي منهج استخراج الفروع منها عن استنتاج بديهي أو استنباط قياسي، وهذا ما يسمى اليوم بـ<المنهجية التشريعية>([15]).
ويتناول الباجي المواضيع التالية في كتابه: أقسام أدلة الشرع وأولها القرآن، ويتكلم في مفصله ومجمله وبيانه. ثم الحديث، ويتكلم في أفعال النبي والأخبار والناسخ والمنسوخ. ثم يتكلم عن الإجماع وأحكامه. ثم القياس ومعنى الخطاب والعلة، وتعارض الأدلة. ومن ثم استصحاب الحال، والاستحسان، والاجتهاد، والتقليد. ويختم كتابه بالحديث عن ما يقع به الترجيح من الأخبار، وما يقع به الترجيح في المعاني.
13 ـ التبصرة في أصول الفقه، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي (393 ـ 476هـ)([16])، ولد بفيروزآباد، وتجول في البلدان طلباً للعلم. فبدأ رحلته من شيراز ونزل البصرة ومنها إلى بغداد، واشتهر بقوة الحجة في الجدل والمناظرة. بنى له الوزير نظام الملك المدرسةَ النظامية على شاطئ الدجلة، يدرس فيها ويديرها. له مصنفات كثيرة منها: التنبيه، المهذب، طبقات الفقهاء، المعونة في الجدل([17]).
ومصنفاته الأصولية ثلاثة، كلها مطبوعة، وأولها <التبصرة في أصول الفقه>. يقول في أوله: <فقد رأيت رغبة جماعة من أصحابنا في أن أصنف المسائل المختلف فيها، في أصول الفقه، فعملت هذا الكتاب>([18])، ويبيّن خلاله آراء الشافعية، ويتطرّق فيه للمواضيع التالية: الأوامر، النواهي، العموم والخصوص، الاستثناء، المجمل والمفصل، المطلق والمقيد، دليل الخطاب، الأفعال، النسخ، الأخبار، الإجماع، القياس، الاجتهاد والاستصحاب.
14 ـ اللمع في أصول الفقه([19])، وهو كتاب مختصر آخر في أصول الفقه للفيروزآبادي، شمل جميع مباحثه، لكن بشكل موجز، واستقرت آراؤه فيه لأنه دوّنه بعد <التبصرة>.
15 ـ شرح اللمع([20])، كذلك للفيروزآبادي، شرح فيه الكتاب المذكور أعلاه، وبسط الكلام فيه.
الجويني والأعمال الأصولية المميزة
16 ـ كتاب التلخيص في أصول الفقه، لأبي المعالي عبدالملك بن عبدالله بن يوسف إمام الحرمين الجويني (419 ـ 478هـ)([21])، أصله طائي، ولد بنيسابور، وأخذ الفقه أولاً عن أبي يعقوب الأبيوردي بجوين، ثم خرج إلى نيسابور وتفقه على أبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي. ثم ذهب إلى مرو ولازم فيها أبا بكر عبدالله بن أحمد القفال، فكان يأخذ العلم حيث وجد. تجول في خراسان وبغداد والحجاز، واستفاد من علمائهم. درس علم الكلام والأصول على ابن مجاهد الطائي، وتفقه على أبي بكر الأبهري، وسمع الحديث من الدارقطني وغيره. وأخذ البلاغة عن العسكري وكان عالماً مصنفاً. ومن أهم آرائه الأصولية أنه يعتقد بأنّ المسائل الأصولية قطعية، فلا تثبت بالأدلة الظنية([22]).
كان الجويني أشعري العقيدة شافعي المذهب. تسلّم التدريس والخطابة في المدرسة النظامية والجامع المنيعي بنيسابور. كما أنه قلّد زعامة أصحابه ورئاسة طائفته وفوّضت إليه أمور الأوقاف. له مصنفات في مختلف العلوم الإسلامية، منها: الكبير في أصول الدين، نهاية المطلب في دراية المطلب، العمد، الاجتهاد، الجدل، و.. كما له ثلاث مؤلفات في أصول الفقه، كلها مطبوع، واثنان منها مشروح عدة مرات([23]).
وتتضاعف أهمية كتاب التلخيص في أصول الفقه، إن عرفنا أنّ أصل الكتاب ليس له، فهو تلخيص لكتاب <التقريب والإرشاد> للباقلاني (338 ـ 403هـ)، من أعلام القرن الرابع (مرّ ذكره). فحفظ لنا بهذا التلخيص كتاب الباقلاني، وكشف عمّا توصل إليه الأصوليون في القرن الرابع. كما أنّ عمل الجويني على <التقريب والإرشاد> لم يكن صرف تلخيصه، بل أغنى كثيراً من مباحثه باستدلالاته ونقاشاته، وأضاف عليه بعض المطالب.
وأهم المسائل التي طرحت في هذا الكتاب المفصّل، كالتالي: حقيقة الفقه وأصول الفقه، حدّ العلم وحقيقته، حقيقة العقل، الدال والدليل والمستدل، حقيقة النظر، معنى التكليف والمكلف، الحسن والقبح، الواجب والفرض والندب، الصحيح والفاسد، اللغة والخطاب، المحكم والمتشابه، الحقيقة والمجاز، القياس، معنى الحروف، الأوامر والنواهي، الشرط، التخيير، الأحوال، العموم والخصوص، الاستثناء، التخصيص، دليل الخطاب، البيان ووجوهه، التعارض، شريعة من قبلنا، الأخبار، التواتر، خبرالواحد، الجرح والتعديل، الناسخ والمنسوخ، الإجماع.
أما كتابه الأصولي الآخر، فهو:
[17] الورقات([24])، فعلى الرغم من صغر حجمه، وهو لا يتجاوز وريقات؛ شرح من قبل عدد من العلماء، ويشمل جميع الأبواب الأصولية بصورة مختصرة. ويقع كتابه الأصولي الثالث:
[18] البرهان في أصول الفقه([25]) ـ من حيث الحجم ـ بين الكتابين المذكورين.
19 ـ كنز الوصول إلى معرفة الأصول، لعلي بن محمد فخر الإسلام البزودي الحنفي (400 ـ 482هـ)([26])، وقد تلقى الإمام البزودي علمه في سمرقند، واشتهر بعلم الأصول، وكان من كبار الحنفية. له تصانيف كثيرة، منها: شرح تقويم الأدلة في الأصول للقاضي أبي زيد الدبوسي، شرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة، كشف الأستار في التفسير و..
ونظراً لتعقيد ألفاظ كتابه وأهميته، تناول عدد كبير من العلماء شرحه، كعبد العزيز البخاري محمد بن محمود البابرتي وأبو المكارم الجاربردي، الهداد، الجونفوري، قوام الدين الأتراري، قوام الدين الكاكي، أبي البقاء محمد المكي، عمر الأرزنجاني، شمس الدين الكرلاني و..([27]).
وقد تناول هذا الكتاب المواضيع التالية: الخاص، العام، المشترك، المؤول، ظاهر النص، المفسّر، المحكم، الخفي، المشكل، المجمل المتشابه، الحقيقة والمجاز، الصريح والكناية. أقسام الدلالات: النص، الأمر، النهي، العام والخاص، الحقيقة والمجاز، معاني الحروف، الصريح والكناية، العزيمة والرخصة. كتاب السنّة: خبرالواحد، المعارضة، البيان، النسخ، الإجماع، القياس. تعليل الأصول: القياس، الاستحسان، الممانعة، المعارضة، دفع العلل، أقسام الأسباب والعلل والشروط، أهلية الأداء.
20 ـ قواطع الأدلة في الأصول، لأبي المظفر منصور بن محمد بن عبدالجبار السمعاني (426 ـ 489هـ)([28])، ولد الشيخ بمرو، ويعود أصله إلى تميم. كان أبوه قاضياً ومن مشايخ الأحناف، تأثراً بأبي إسحاق الشيرازي، غيّر مذهبه إلى الشافعية في بغداد. كان محل اعتناء نظام الملك في طوس. له مصنفات كثيرة، منها: الأوسط في الخلاف، البرهان في الخلاف، الانتصار لأصحاب أهل الحديث، الرد على القدرية و..([29]).
وأهم المواضيع التي تناولها في كتابه، كالتالي: أقسام الكلام ومعاني الحروف، الأوامر والنواهي، العموم والخصوص، دليل الخطاب، البيان، المجمل والمبين، الحقيقة والمجاز، الأخبار وموجبها وما يقبل منها وما لا يقبل، الناسخ والمنسوخ، الإجماع، استصحاب الحال، القياس، علة القياس، بيان الحكم، الاستدلال، الاستحسان، السبب والعلة والشرط، أسباب الشرائع، الاجتهاد، إختلاف القولين، التقليد، المفتي والمستفتي.
21 ـ أصول السرخسي، لأبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي (حدود 490هـ)([30])، الملقب بشمس الأئمة، لم تعرف سنة ولادته، واختلفوا في وفاته بين 473 إلى 500هـ. كان من كبار فقهاء الحنفية، وهو أصولي مناظر مجتهد([31])، له مصنفات كثيرة أشهرها: المبسوط (ثلاثون جزءاً في الفقه أملاه، وهو سجين بالجب في أوزجند)، شرح الجامع الكبير للإمام محمد، شرح السير الكبير للإمام محمد، النكت و..([32]).
أهم العناوين التي تناولها في كتابه، كالتالي: الأمر، الحقيقة والمجاز، الواجب، المشروعات، الخطاب، الاجتهاد، العام والخاص، الظاهر والخفي، النص والمشكل، المفسّر والمجمل، المحكم والمتشابه، معاني الحروف، الإجماع، الحكم، الأخبار، خبر الواحد، النسخ، المعارضة بين النصوص، المطلق والمقيد، الحجج الأربعة: الكتاب، السنّة، الإجماع والقياس، أفعال الرسول‘ الاجتهاد، شرع من قبلنا، الاستصحاب، تعليل الأصول، أقسام الأحكام وأسبابها وعللها وشروطها وعلاماتها.
الغزالي والقفزات النوعية في أصول الفقه
22 ـ المنخول من تعليقات الأصول، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي (450 ـ 505هـ)([33])، حجة الإسلام الفيلسوف المتصوّف، ولد بطوس، ورحل إلى نيسابور وبغداد والحجاز والشام ومصر. كان من أئمة الشافعية وله نحو مائتي مصنف، منها: تهافت الفلاسفة، الاقتصاد في الاعتقاد، البسيط، المعارف العقلية، فضائح الباطنية، شفاء العليل، الوجيز و..([34]). وقد دار جدل كبير بين الباحثين حول شخصيته وأسباب تقربه من السلطان، وحتى خلفيات ابتعاده عنه، وأسباب تفلسفه ثم تصوفه، ونتاجاته العلمية، ودوره في تاريخ العلم، وخاصّة في ضرب العقل. حتى شكك البعض في طريقة اقتباساته من كتب أستاذه إمام الحرمين الجويني، دون إعطاء المصدر([35])، لكن المقام لا يسع للدخول في هذا النقاش.
كتابه المنخول من تعليقات الأصول، كما يقول الغزالي نفسه، مقتبس من تعاليق إمام الحرمين وهو من أول تأليفاته([36])، سلك فيه الغزالي سبيل من قبله في تسلسل المباحث: الأحكام، حقائق العلم، كتاب البيان، القول في اللغات، كتاب الأوامر، القول في النواهي، العموم والخصوص، التأويل، المفهوم، عصمة الأنبياء وأفعال النبي، شرائع من قبلنا، الأخبار، النسخ، الإجماع، القياس، الترجيح، الاجتهاد والفتوى.
ويظهر الإمام الغزالي في كتابه الأصولي المهم:
[23] المستصفى من علم الأصول([37])، وهو من آخر ما كتبه، كالمجتهد المتحرّر والمحقق البارع الذي لا يتقيد بآراء سلفه. ويذكر نفسه ميزتين لكتابه هما:
1 ـ الترتيب: يقول في مقدمة كتابه: <صنفته وأتيت فيه بترتيب لطيف عجيب، يطلع الناظر في أول وهلة على جميع مقاصد هذا العلم، ويفيده الاحتواء على جميع مسارح النظر فيه>، وغرضه من ذلك <أن يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامع علم الأصول ومبانيه، ليسهل عليه الظفر بأسراره ومباغيه>. فبنى ترتيبه على أنّ مدار علم الأصول شيء واحد، وهو (الأحكام الشرعية)، إذ إنّ معرفة الحكم الشرعي وأحواله هو المطلب الأساسي لطالب علم الأصول، و(الحكم) لابدّ له من حقيقة في نفسه، ومن شيء ينتجه وهو الدليل الفقهي، ومن شخص يستنتجه وهو المجتهد، ومن طريقة يستنتج بها وهي طريق الاستدلال. فهذه الأركان الأربعة لعلم أصول الفقه([38]).
واعتبر الأحكام ثمرات، ولكل ثمرة صفة وحقيقة في نفسها، ولها مثمر ومستثمر وطريقة استثمار. الثمرة: الأحكام أي الوجوب، الحظر، الندب، الكراهة، الحسن والقبح، القضاء، الأداء، الصحة، الفساد، وغيرها. والمثمر: الأدلة أي الكتاب، السنّة والإجماع. وطرق الاستثمار: وجوه دلالة الأدلة، وهي أربعة، إذ الأقوال إما تدل على الشيء بصيغتها ومنظومها، أو بفحواها ومفهومها، أوباقتضاءها وضرورتها، أو بمعقولها ومعناها المستنبط منها. والمستثمر: المجتهد ولابدّ من معرفة صفاته وشروطه وأحكامه. وقد جعل المقدمة في المنطق الذي يعتقد أنه مقدمة لكل العلوم([39]).
2 ـ حاول الغزالي أن يميز المباحث التي ترد في كتب الأصول وليست من الأصول في شيء؛ فانتقد إدخال بعض مسائل الاعتقاد أو الفقه أو النحو أو غير ذلك، الأمر الذي كان سببه ـ في رأيه ـ تعلّق بعض الأصوليين بتلك العلوم([40]). وللإمام الغزالي تأليفات أصولية أخرى بعضها مطبوع، مثل:
[24] (شفاء الغليل في بيان مسالك التعليل)، حققه حمد الكبيسي، وطبع في بغداد. وأيضاً:
[25] (أساس القياس)، نشر في الرياض، سنة 1413هـ، وحقّقه فهد السدحان.
26 ـ التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني البغدادي الحنبلي (432 ـ 510هـ)([41])، ولد في بغداد، وتتلمذ على القاضي أبو يعلى، وسمع من الحسن بن علي الجوهري، وحدّث ودرّس وأفتى. صنف كتباً، منها: الهداية في الفقه، رؤوس المسائل، عقيدة أهل الأثر (منظومة) و..([42])، وتوفي مطلع القرن السادس، لكن بما أنه عاش 68 عاماً في القرن الخامس، وذكر هو في آخر كتابه عام 476هـ تأريخاً لفراغه من تأليف الكتاب، ونظراً لأهمية كتابه وتفصيله، أدرجنا اسمه ضمن دراستنا.
أبو الوفاء الحنبلي والموسوعية الأصولية
27 ـ الواضح في أصول الفقه، لأبي الوفاء علي بن عقيل الحنبلي البغدادي (431 ـ 513هـ)([43])، صحب العلماء من عدة مذاهب، وأخذ عنهم وبرز في فنون متعددة. فهو فقيه أصولي متكلم مناظر. كان يرى وجوب إتباع الدليل، لا الإمام أحمد وإن كان حنبلياً. له في الفقه كفاية المفتي، وغيره، وفي أصول الدين الإرشاد، وغيره، وكتاب الفنون في مختلف العلوم([44]).
توفي أبو الوفاء في أوائل القرن السادس، لكنه كسابقه عاش 69 عاماً في القرن الخامس، وهذا يقوي احتمال أن يكون كتابه مؤلفاً في القرن الخامس. لكن بما أنه حنبلي، ولقلة كتب الحنابلة الأصولية، ذكر هذا الكتاب يعيننا على فهم آرائهم. والأهم من ذلك كلّه، ميزة كتاب الواضح في أصول الفقه، ودوره في حركة علم الأصول، دفع بنا لإدخاله ضمن دراستنا.
أراد ابن عقيل بتأليف كتابه، جمع كل ما يختص بعلم أصول الفقه، والمناظرة فيه من مذهب وجدل وخلاف، يقول في آخرالجزء الأول من كتابه: واعلم أنني لما قدمت هذه الجملة من العقود والحدود وتمهيد الأصول، وميزتها عن مسائل الخلاف، رأيت أن أشفعها بذكر حدود الجدل وعقوده وشروطه وآدابه ولوازمه، فإنه من أدوات الاجتهاد، وأؤخر مسائل الخلاف فيه إلحاقاً لكل شيء بشكله، وضم كل شيء إلى مثله. فجمعت بذلك بين قواعد هذين العلمين: أصول الفقه والجدل، وأخرت مسائل الخلاف فيهما، فإنّ الأصول بالأصول أشبه وإليها أقرب، والخلاف بالخلاف أشبه([45]).
ويتشكل كتابه من ثلاثة علوم: المذهب؛ والجدل، وقد جعله على قسمين عند الأصوليين وعند الفقهاء؛ والخلاف، وقد تكلم فيه عن الأوامر والنواهي، فحوى الخطاب، الاستثناء، المجمل والمفسر، المحكم والمتشابه، أفعال النبي’، النسخ والأخبار، الإجماع، القياس، الاجتهاد. وقد كانت هذه الفنون الثلاثة قوام الدراسات آنذاك، وكان من الواجب على المتفقه دراستها وممارستها ليجيد فنّ المناظرة في الفقه مما يؤدي إلى وصوله درجة الافتاء([46]).
أما أهم ما امتاز الكتاب به، فهو أنّ ابن عقيل كان مواظباً على وضع طريقة جديدة في علمي: أصول الفقه وأصول الدين، وهي الطريقة المدرسية التي يمكن للقارئ ملاحظة تطوراتها في فصول كتاب الواضح، لا سيما في جزء (الخلاف)، ويسميها <طريقة النظر> أي طريقة علم المناظرة أو علم البحث، ويصفها كما يلي: <.. وإنما سلكت فيه (أي في كتاب الواضح) تفصيل المذاهب، ثم الأسئلة، ثم الأجوبة عنها، ثم الشبهات، ثم الأجوبة تعليماً لطريقة النظر للمبتدئين>، وهو السابق لهذا المنهج([47]).
استخلاص عام لحال أصول الفقه في القرن الخامس
كان ذلك كلّ ما عثرنا عليه من كتب أصول الفقه في القرون الخمسة الأولى من تاريخ المسلمين، بعد رسالة الشافعي، وأوردناها حسب التسلسل الزمني لها. وقد وجدنا أن القرن الخامس احتفظ لنا بكمّ هائل من المدونات الأصولية، ويمكننا تسمية هذا القرن ـ من ناحية حركة تدوين علم أصول الفقه ـ بقرن الشيعة؛ لأن كتاباتهم برزت في هذا القرن. وفي الوقت نفسه، بلغت الكمال المتوقع منها في إطار ذلك الزمان في القرن ذاته. فكتاب <الذريعة إلى أصول الشريعة>، أول كتاب أصولي شيعي وصل إلينا، وقد بلغ من الكمال ما يقارن المدونات السنّية المعاصرة له. من ناحية أخرى، يمكننا اعتباره أول كتاب في أصول الفقه المقارن، لأنه في كل مسألة يبيّن رأي أهل السنّة أولاً ثم يناقشه، ويبيّن رأي الشيعة فيها.
يرى بعض المحققين أنّ السبب في ظهور أصول الفقه متكاملاً عند الشيعة، أنهم استلموه من أهل السنّة متكاملاً، وغاية ما قاموا به أنهم أدخلوا آراءهم فيه حسب ما تقتضيه مبانيهم، والسبب الآخر هو انفتاح باب الاجتهاد عند الشيعة([48])، ويعتقد الكثير من كتّاب أهل السنّة في تاريخ أصول الفقه أنّ التطور الحقيقي لعلم أصول الفقه ـ بعد الشافعي ـ حدث على يد القاضيين: أبي بكر الباقلاني (403هـ) وعبدالجبار المعتزلي (415هـ)([49])، ومن بعدهم إمام الحرمين الجويني (478هـ) ومن ثم الغزالي (505هـ).
وكلما تقدمنا في القرنين الرابع والخامس، اشتدّ امتزاج أصول الفقه بالكلام والمنطق والمباحث الانتزاعية العقلية، وبمرور الزمن دخلت العناوين التي لا أثر عملي لها في أصول الفقه. كذلك اشتد التأكيد في التأليفات على مواطن الافتراق بين المدارس المختلفة، وحتى بدأ التركيز على مواطن عدم الالتقاء بين أتباع مدرسة واحدة. وتقدّمت أصول الفقه في ساحة الاستنباط الفقهي، ونقلت الفقه من مجرد استعراض النصوص الشرعية من الكتاب والسنّة إلى معالجة هذه النصوص واستخدام الأصول والقواعد([50]).
والآن نتناول المناهج التي جاءت هذه الكتب في ضوئها.
المناهج الأصولية، تعدّد الطرق وتنوّع المدارس
قسّم كتّاب تأريخ أصول الفقه، المدونات الأصولية على مناهج مختلفة، لكن بالنسبة للفترة التي نبحث فيها لم يذكروا سوى منهجين: 1 ـ منهج المتكلمين. 2 ـ منهج الفقهاء.
على سبيل المثال، نرى ابن خلدون يشير إلى أنّ ازدهار <أصول الفقه> وتهذيب مسائله وتمهيد قواعده العقلية قد تم بفضل أعمال أربعة أشخاص هم: القاضي عبدالجبار وتلميذه أبو الحسين البصري المعتزليان، وإمام الحرمين الجويني وتلميذه الغزالي الأشعريان، وأصبحت آثارهم مورداً لكل أصوليي الإسلام، مما حمل ابن خلدون على أن ينعت تأصيل هؤلاء المتكلمين ـ معتزلة وأشاعرة ـ لعلم الأصول بـ<طريقة المتكلمين>، وهي الطريقة التي شملت الشافعية والمالكية والحنابلة، مقابل <الطريقة الفقهية> التي اشتهرت بين الفقهاء الأحناف([51]).
1 ـ طريقة المتكلمين
يعتبر الباحثون تأليف الشافعي للرسالة تأسيساً لهذه الطريقة، فهي الأسبق نشأة والأكثر تطبيقاً، ولها أعلامها من عدة مذاهب إسلامية. وقد أوجد اهتمام هذه الطريقة بالموضوع دقةً وعناية بالمنهج.
وخصائص طريقة المتكلمين: 1 ـ تقوم على الاستدلال العقلي وتقديم النظر على الواقع الفقهي. 2 ـ تبرز استقلال علم الأصول وتبعده عن التقيّد بمذهب من المذاهب([52])، وتعتمد هذه الطريقة في استنباط الأحكام الشرعية على الأصول والقواعد، وإذا لم يتفق أحد الأحكام مع الأصول، تلغي الحكم وتستنبط مكانه حكماً آخر يتناسب مع الأصول([53])، وأهم الكتب الأصولية على طريقة المتكلمين ـ في القرون الخمسة الأولى ـ هي([54]): 1 ـ الرسالة للشافعي (204هـ). 2 ـ المعتمد لمحمد بن علي البصري الشافعي المعتزلي (436هـ). 3 ـ اللمع لأبي اسحاق الشيرازي الشافعي المعتزلي (476هـ). 4 ـ البرهان لإمام الحرمين الجويني الشافعي الأشعري (478هـ). 5 ـ القواطع لأبي المظفر السمعاني الشافعي (489هـ). 6 ـ المستصفى والمنخول لأبي حامد الغزالي الشافعي الأشعري (505هـ).
2 ـ طريقة الفقهاء (الأحناف)
سلك الأحناف طريقة تختلف عن طريقة المتكلمين، وهي استنباط القواعد من نصوص الأسلاف؛ فقواعد الأصول عندهم مستنبطة من الفروع، وهي عندهم عملية وليست نظرية([55])، ويستخدمون المنهج الاستقرائي، وكلما لم تتفق قاعدة مع فرع يغيّرون تلك القاعدة والأصل حتى تنطبق مع الفرع. وفي الحقيقة نراهم ـ كعلماء النحو ـ يبحثون عن قواعد غير مدوّنة، صدّر أسلافهم الأحكام في ضوئها. وقد سمّوا بالفقهاء؛ لأن الفقه يهتم بالفروع والأحكام الجزئية([56]).
إذن، تمتاز طريقة الأحناف بأمرين:
1 ـ كثرة المسائل والفروع التي قد تفيد المجتهد، لكنها تصعّب مهمة الدارس المبتدئ الذي يجد نفسه في خضم التفريعات، مما يفقده القدرة على معرفة القواعد الأصولية.
2 ـ التقريب بين علمي الفقه والأصول، الأمر الذي له فوائده إلا أنه يزيل الفوارق بين العلمين([57]).
واختلاف الأحناف عن الشافعية أكثر ما يكون في الطريقة لا في المباحث؛ فطريقتهم من ناحية عملية صالحة للجدل والمناظرة في الخلاف الفقهي؛ لذا نجد الفرق الأخرى تلجأ إليها عند الحاجة لترجيح مذهب أو قول على الآخر، كما فعل القرافي في كتابه تنقيح الفصول في علم الأصول([58])، لكن من ناحية أخرى خرجت طريقتهم عن الإطار اللامذهبي الذي كان يسلكه المتكلّمون، إلى المسلك المذهبي. فالمتكلمون يتحدثون عن الفروع باعتبارها تطبيقات للقاعدة الأصولية، وللتعرف على أثر الأصل في الفرع، أما الأحناف فيذكرون الفروع لإثبات القاعدة الأصولية وللاستدلال على صحتها؛ ولهذا جاءت كتبهم الأصولية مقدمات أو استدراكات على المؤلفات الفقهية، ونتيجة هذا التركيز الفقهي خلت مؤلفاتهم من المصطلحات المنطقية والمباحث الكلامية([59])، وقيل في سبب هذا الأمر: إنهم بدؤوا التأليف بعد اكتمال هذا الفن، وقيل: إنهم أنشؤوا هذه الطريقة للانتصار لمذهب معيّن.
وأهم المدونات الأصولية على طريقة الأحناف في القرون الخمسة الأولى([60]): 1 ـ رسالة في الأصول، لأبي الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي الحنفي (340هـ). 2 ـ الفصول في أحكام الأصول، لأبي بكر أحمد بن علي الجصاص الحنفي (370هـ). 3 ـ تقويم الأدلة في أصول الفقه، لأبي زيد عبدالله بن عمرالقاضي الدبوسي (430هـ). 4 ـ أصول البزودي (كنز الوصول إلى معرفة الأصول)، لأبي الحسن علي بن محمد فخر الإسلام البزودي (482هـ). 5 ـ أصول السرخسي، لمحمد بن أحمد السرخسي (490هـ).
نقاط الاختلاف المركزية بين طريقتي: المتكلمين والفقهاء([61])
1 ـ مدلولات الألفاظ اللغوية ومقتضياتها، كألفاظ العموم والأوامر والنواهي ومعاني الحروف والمشترك وغيرها.
2 ـ القضايا العقلية الكلامية ذات الصلة بعلم الأصول، كالتحسين والتقبيح وغيرهما.
3 ـ القضايا المنطقية مما يعدّونه من مقدمات علم الأصول، كالعلم والنظر والحدود ودلالة الألفاظ على المعاني والبرهان.
4 ـ القضايا الشرعية، كحجية أخبار الآحاد والأحاديث المرسلة، وحجية بعض المصادر التشريعية، كالقياس والاستحسان وشرع من قبلنا واجتهاد النبي.
5 ـ تعريف المصطلحات الأصولية وتباينهم في ذلك.
طريقة ترتيب المواضيع عند المتكلمين والفقهاء
يبدأ المتكلمون بالمقدمات ـ نتيجة ضرورة تركيز التصوّر عندهم ـ ثم يتبعونها بالأحكام فالأدلة، فالاجتهاد والتقليد. لكن الفقهاء ـ الحنفية ـ يشرعون بالأدلة بعد تعريف علم الأصول، وفي ثناياها يتناولون القضايا اللغوية ثم التعارض والترجيح، ويختمون مباحثهم بالحكم الشرعي وقضاياه([62]).
وتقديم الأحكام على الأدلة عند المتكلمين مردّه أنّ الأحكام هي المقصودة بالأدلة، ولهذا لابد من أن تسبق معرفتها معرفة الأدلة التزاماً منهم لمنهج منطقي يراعي الضبط والترتيب، فيقول الغزالي: «إعلم أنك إذا فهمت أنّ نظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة، لم يخف عليك أن المقصود معرفة كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة، فوجب النظر في الأحكام ثم في الأدلة وأقسامها»([63])، أما الحنفية، فقد اتجهوا مباشرةً للأدلة؛ لأنّ أصولهم قائمة على ضرورة الاستدلال لفروع أئمتهم وخدمتها قبل أن تقوم على المنطق الموضوعي المجرد([64]).
عناوين أصول الفقه لدى المتكلمين والفقهاء([65])
1 ـ أقسام اللفظ من حيث وضوح الدلالة على المعنى المراد: أ ـ المتكلمون: اللفظ على قسمين: النص والظاهر ويجمعهما المحكم. ب ـ الحنفية: يقسمون الواضح إلى ظاهر ونص ومفسّر ومحكم.
2 ـ أقسام اللفظ باعتبار خفائه وإبهامه في الدلالة على المعنى: أ ـ المتكلمون: المجمل والمتشابه. ب ـ الحنفية: خفي، مشكل، مجمل، متشابه.
3 ـ دلالة العام: أ ـ المتكلمون: ظنية. ب ـ الحنفية: قطعية.
4 ـ حمل المطلق على المقيد إذا كان الإطلاق والتقييد سبب الحكم: أ ـ الشافعية: يحمل المطلق على المقيد. ب ـ الحنفية: عدم حمل المطلق على المقيد، ويعمل بكل من النصين على حدة.
5 ـ اختلفا في طرق <دلالات الألفاظ على الأحكام> من حيث تقسيم الدلالات وأنواعها في بعض الحالات.
ونحن نتحفظ على أصل هذا التقسيم، لأننا نجد هذه الدعوى ـ تقسيم الكتب إلى منهجين ـ غير دقيقة؛ إذ لم يوضع علم الأصول بصورة مسبقة، كل كتاب على منهج معيّن، حتى يمكن تقسيمها بهذه الصورة. فلا معنى للقول بأنّ الشافعي وضع أصوله قبل فقهه. إذ لا يمكن لغير الفقيه أن يضع أصولاً للفقه. ولا ريب أنّ عملية الاستنباط الفقهي سابقة على علم الأصول([66])، بعض هذه القواعد كان مؤصلاً في علم الكلام، وبعضها في علم اللغة، وبعضها انبثق من علم الفقه، ولم يبن علم الفقه جميعه على أصول الفقه.
لكن على الرغم من ذلك كلّه، إذا أردنا أن نصنّف الشيعة ضمن هذا التقسيم، يجب أن نضعهم مع المتكلّمين؛ لأننا إذا قارنّا بين فهرس كتاب <العدة> للطوسي (460هـ)، وفهرس كتاب <المعتمد> لأبي الحسين البغدادي البصري المعتزلي (436هـ)، لا نجد فوارق مهمة بين موضوعات الكتابين، في حين نجد الفوارق كبيرة إذا قارنّاهما بأصول أبي بكر السرخسي الحنفي (490هـ)([67]).
خاتمة المطاف
من الأمور التي اتضحت خلال البحث، تأريخية الحاجة إلى علم أصول الفقه، ودور القواعد العقلية في تكوينه، ودور اللغة العربية في احتضان علم الأصول، حيث يبدو لنا من خلال مراجعة المباحث الأصولية الأولى، أنّ علم الأصول من علوم اللغة العربية، كما اتضح من خلال البحث التطور التدريجي لمسائل وأبحاث وموضوعات علم الأصول. ورأينا أنّ بعض الأمور التي نهى عنها السلف، قد عمل بها الخلف بعد ما توصل إلى تبرير لها. كذلك برّزنا دور العامل السياسي، وطلب الوحدة، والقضاء على الاختلاف، وسد الطريق أمام السلطان من توظيف الدين، في نشوء وتطور علم أصول الفقه.
الهوامش
(*) باحث في الحوزة العلمية، من العراق.
([1]) محمد بن الحسن الطوسي، العدة في أصول الفقه، تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمي، ط1، قم، المحقق، 1417هـ. يتألف هذا الكتاب من ثمانمائة صفحة في مجلّدين.
([2]) الزركلي، الأعلام 6: 84، 85.
([3]) محمد بن الحسن الطوسي، العدة في أصول الفقه: 10، تحقيق: محمد مهدي نجف، ط1، قم، مؤسسة آل البيت، 1403هـ.
([4]) الطوسي، العدة في أصول الفقه: 22 من المقدّمة، تحقيق: الأنصاري.
([5]) المصدر نفسه: 25، 26 من المقدمة.
([6]) المصدر نفسه: 49 ـ 54 من المقدمة.
([7]) منذر الحكيم، تطور الدرس الأصولي في النجف الأشرف، في جعفرالدجيلي (تجميع) 7: 178.
([8]) الطوسي، العدة: 4، تحقيق: الأنصاري القمي.
([9]) راجع حول هذا الموضوع: محقق «الذريعة» كرجي، تاريخ فقه وفقها: 168، 169، 183 ـ 186؛ وكذلك محقق «العدة»: محمد رضا الأنصاري، في العدة: 75 ـ 77.
([10]) درآمدي به تاريخ علم اصول: 112.
([11]) أحمد بن علي الخطيب البغدادي، كتاب الفقيه والمتفقه، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، ط1، السعودية، دار ابن الجوزي، 1417هـ.
([12]) موسوعة طبقات الفقهاء: 38، 39.
([13]) سليمان الباجي، أحكام الفصول في أحكام الأصول، تحقيق: عبدالمجيد تركي، ط 2، بيروت، دارالغرب الإسلامي، 1415هـ. يقع هذا الكتاب مع تعليقاته في ألف صفحة، ولكن حجم الكتاب الأصلي لا يتجاوز ستمائة صفحة.
([14]) الزركلي، الأعلام 3: 125.
([15]) الباجي، أحكام الفصول: 129، 130.
([16]) إبراهيم الفيروزآبادي الشيرازي، التبصرة في أصول الفقه، تحقيق: محمد حسن هيتو، ط2، دمشق، دار الفكر، 1403هـ. ويقع المتن الأصلي للكتاب في 513 صفحة.
([17]) الزركلي، الأعلام 1: 51.
([18]) الفيروزآبادي الشيرازي، التبصرة في أصول الفقه: 16.
([19]) الشيرازي، اللمع في أصول الفقه، تحقيق: محيي الدين ديب مستو، يوسف علي بديوي، ط2، دمشق، بيروت، دار الكلم الطيب ودار ابن كثير، 1418هـ. يقع هذا الكتاب في 250 صفحة.
([20]) الشيرازي، شرح اللمع في أصول الفقه، تحقيق: عبد المجيد تركي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1408هـ.
([21]) عبدالملك الجويني، كتاب التلخيص في أصول الفقه، تحقيق: عبدالله حولم النيبالي، شبّير أحمد العمري، ط1، مكة المكرمة، مكتبة دار البار، بيروت، دار البشائر الإسلامية، 1417هـ. يقع متن الكتاب في1500 صفحة في ثلاثة مجلدات.
([24]) محمد بن أحمد المحلي الشافعي، شرح الورقات في أصول الفقه، تحقيق: حسام الدين بن موسى عفانه، ط1، الرياض، مكتبة العبيكان، 1421هـ؛ ومحمد المارديني الشافعي، الأنجم الزاهرات على حلّ ألفاظ الورقات في أصول الفقه، تحقيق: عبدالكريم النملة، ط3، الرياض، مكتبة الرشد، 1420هـ.
([25]) عبدالملك الجويني، البرهان في أصول الفقه، تحقيق: عبدالعظيم محمود الديب، ط4، مصر، المنصورة، الوفاء، 1418هـ. مجلدين في 894 صفحة.
([26]) طبع ضمن شروح كثيرة منها: عبدالعزيز بن أحمد البخاري، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزودي، تحقيق: عبدالله محمود محمد عمر، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1418هـ.
([27]) حسين السغناقي، الكافي (شرح البزودي): 25 ـ 36، تحقيق: فخرالدين سيد محمد قانت، ط1، الرياض، مكتبة دار الرشد، 1422هـ.
([28]) منصور السمعاني، قواطع الأدلة في الأصول، تحقيق: محمد حسن الشافعي، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1418هـ. يقع الكتاب في تسعمائة صفحة.
([30]) محمد السرخسي، أصول السرخسي، تحقيق: أبو الوفاء الأفغاني، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1418هـ. يقع الكتاب في 730 صفحة. ويبدو أنه نفسه الذي مضى ذكره، وقد تضاربت الأقوال عنهما بشدّة.
([31]) موسوعة طبقات الفقهاء 5: 265، 266.
([32]) الزركلي، الأعلام 5: 315.
([33]) محمد الغزالي، المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق: محمد حسن هيتو، ط3، بيروت، دار الفكر المعاصر، ودمشق، دار الفكر، 1419هـ. يتألف متن الكتاب من 560 صفحة.
([34]) الزركلي، الأعلام 7: 22.
([35]) الصغير، (م.س.): 431 ـ 440.
([36]) الغزالي، المنخول من تعليقات الأصول: 16.
([37]) محمد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، تحقيق: محمد سليمان الأشقر، ط1، بيروت، مؤسسة الرسالة 1417هـ. يقع متن الكتاب في تسعمائة صفحة.
([39]) الغزالي، المنخول من تعليقات الأصول: 35، 36.
([40]) الغزالي، المستصفى من علم الأصول 1: 16.
([41]) محفوظ الكلوذاني، التمهيد في أصول الفقه، تحقيق: مفيد أبو عمشة ومحمد بن علي بن إبراهيم، ط1، مكة المكرمة، جامعة أم القرى، 1406هـ. يقع هذا الكتاب في أربعة مجلدات.
([42]) موسوعة طبقات الفقهاء 6: 234.
([43]) علي بن عقيل الحنبلي البغدادي، الواضح في أصول الفقه، تحقيق: جورج المقدسي، ط1، بيروت، دار نشر فرانتس شتاينر شتوتكارت، 1417هـ.
([44]) موسوعة طبقات الفقهاء 6: 198، 199.
([45]) ابن عقيل الحنبلي البغدادي، الواضح 1: 2م.
([48]) كرجي، تاريخ فقه وفقها: 320.
([49]) فياض العلواني، علم أصول الفقه، نشأته وتأريخه وتدوينه ـ2ـ: 43.
([50]) علي الفاضل القائيني النجفي، علم الأصول تأريخاً وتطوراً: 116، ط2، قم، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، 1418هـ.
([52]) محمد إمام، أصول الفقه الإسلامي: 46، ط2، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1419هـ.
([53]) أبو الحسن محمدي، مباني استنباط حقوق إسلامي: 14، 15، ط3، طهران، جامعة طهران، 1358ش/ 1979م.
([54]) إمام، أصول الفقه الإسلامي: 49؛ ومحمدي، مباني استنباط: 15؛ ومصطفى سعيد الخن، دراسة تأريخية للفقه وأصوله والاتجاهات التي ظهرت فيهما: 189 ـ 195، ط1، دمشق، الشركة المتحدة للتوزيع، 1404هـ.
([55]) عبد العزيز السعيد، ابن قدامة وآثاره الأصولية 1: 34، ط4، الرياض، كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود، 1408هـ.
([56]) محمدي، مباني استنباط: 14.
([57]) إمام، أصول الفقه الإسلامي: 50.
([58]) السعيد، ابن قدامة وآثاره الأصولية 1: 35.
([59]) إمام، أصول الفقه الإسلامي: 50، 51.
([60]) المصدر نفسه: 51؛ ومباني استنباط: 14؛ والخن، دراسة تأريخية للفقه وأصوله والاتجاهات التي ظهرت فيهما: 205 ـ 207.
([61]) إمام، أصول الفقه الإسلامي: 48.
([62]) خليفة بابكر الحسن، مناهج الأصوليين في طرق دلالات الألفاظ على الأحكام: 19، ط1، القاهرة، مكتبة وهبة، 1409هـ.
([63]) الغزالي، المستصفى من علم الأصول 1: 7، 8.
([64]) خليفة بابكرالحسن، مناهج الأصوليين في طرق دلالات الألفاظ على الأحكام: 19، 20.
([66]) محمود قانصو، المقدمات والتنبيهات في شرح أصول الفقه 1: 21، تقديم: محمد مهدي شمس الدين، ط1، بيروت، دار المؤرخ العربي، 1418هـ.
([67]) جلال جلالي زاده، اصوليان كرد ونقش آنان در تحول علم اصول: 16، 17، رسالة دكتوراه في الفقه والقانون الإسلامي، جامعة طهران، كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية. الأستاذ المشرف: أسعد شيخ الإسلامي، العام الدراسي 1376ش/1997م.