أحدث المقالات

د. محمد حسين الصغير

بسم الله الرحمن الرحيم

والمراد بها معاني القرآن القابلة للتفسير، أو الرافضة له، أو المتوافقة عنده، وليس المراد بها أنواعه أو مناهجه، بل هي تبيين لمواطن الآيات التي تفسر، والآيات التي لا يعلمها إلا الله، فهي أقرب إلى الوجوه منها إلى الأقسام.

أحدها: ما أختص به الله تعالى بالعلم، فلا يجوز لأحد تكليف القول فيه، ولا تعاطي معرفته… مثل قوله تعالى: {إنَّ اللهَ عندهُ علمُ الساعة}ِ.

وثانيها: ما كان مطابقاً لمعناه، فكل من عرف اللغة التي خوطب بها عرف معناه، مثل قوله تعالى: {ولا تقتلواْ النفسَ التي حرَّمَ الله إلا بالحَقّ}.

وثالثها: ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلاً، مثل قوله تعالى: {وأقيمواْ الصلوة وءَاتوا الزكوةَ}.

ومثل قوله تعالى: {وللهِ على الناسِ حِجُّ البيتِ مَنِ استطاعَ إليهِ سبيلاً}.
وقوله تعالى: {وءَاتواْ حقهُ يومَ حصادِهِ}.

وقوله تعالى: {في أموالهمْ حقٌ معلومٌ}.

فإن تفصيل أعداد الصلاة، وعد ركعاتها، وتفصيل مناسك الحج وشروحه، ومقادير النصاب في الزكاة، لا يمكن استخراجه إلا ببيان النبي(ص) ووحي من جهة الله تعالى، فتكلف القول في ذلك خطأ ممنوع منه، يمكن أن تكون الأخبار متناولة له.

ورابعها: ما كان اللفظ مشتركاً بين معنيين فما زاد عنهما ويمكن أن يكون كل واحد منهما مراداً، فإنه لا ينبغي أن يقدم أحد فيقول أن مراد الله فيه بعض ما يحتمل إلا بقول معصوم، ومتى كان اللفظ مشتركاً بين شيئين أو ما زاد عليهما، ودل الدليل أنه لا يجوز أن يريد إلا وجهاً واحداً، أجاز أن يقال أنه هو المراد.

وفيما قسم القدامى نلمس وجوه التفسير المحتملة والمتيقنة التي تواضعوا عليها وعلى تسميتها، بينما نجد المحدثين يميلون إلى تقسيم آخر، يدور حول مرونة التفسير حيناً، وآداب المفسر حيناً آخر. فالدكتور بكري شيخ أمين يقسم التفسير إلى نوعين:

الأول: تفسير جاف لا يتجاوز حد الألفاظ، وإعراب وبيان ما يحتويه نظم القرآن من نكات بلاغية، وإشارات فنية، وهذا التفسير أقرب إلى التطبيقات العربية منه إلى التفسير وبيان مراد الله من هداياته.

الثاني: تفسير يجاوز هذه الحدود، ويجعل هدفه الأعلى تجلية هدايات القرآن وتعاليمه، وحكم اللّه فيما شرع للناس في القرآن على وجه يجتذب الأرواح، ويفتح القلوب، ويدفع النفوس إلى الاهتداء بهدى الله، وهذا هو الخليق باسم التفسير.

وهناك تقسيم آخر للآيات القابلة للتفسير، أو الرافضة له، أو المتوقفة عنده، وهذا التقسيم يدور حول أقسام القرآن، فقد ذكر الشيخ الطوسي (ت: 460 هجري) أن جميع أقسام القرآن لا يخلو من ستة: محكم، ومتشابه، وناسخ، ومنسوخ، وخاص، وعام.

فالمحكم ما أنبأ لفظه عن معناه من غير اعتبار أمر ينضم إليه سواء كان اللفظ لغوياً أو عرفياً، ولا يحتاج إلى ضروب من التأويل، كقوله تعالى: {ولا يُكلفُ اللهُ نفساً إلاّ وسعَهَا} وقوله تعالى: {قلْ هوَ اللّهُ أحدٌ}.

والمتشابه ما كان المراد به لا يعرف بظاهرة بل يحتاج إلى دليل، فهو يحتمل أكثر من أمر ومعنى، وإنما سمي متشابهاً لاشتباه المراد منه بما ليس بمراد كقوله تعالى: {يحسرتَى على مَا فرِّطتُ في جنبِ اللّهِ}.

وقوله تعالى: {وَالسَّموتُ مطويّتُ بيَمينهِ} وأمثال ذلك مما لا يحمل على ظاهره.
والناسخ هو الحكم الثابت بالنص الشرعي يزوال أمر الحكم المنسوخ.

والمنسوخ هو الحكم المرفوع بعد نزوله، ويمثل لهما معاً بآيتي النجوى، فقد نزل حكم الصدقة عند مناجاة النبي(ص) وعمل بذلك الإمام علي(ع) كما هو ثابت في التواتر، ورفع هذا الحكم، فالآية الأولى منسوخة بالآية الثانية قال تعالى: {يأيّها الذينَ ءامنوا إذا نجيتُمُ الرسولَ فَقَدمواْ بينَ يديْ نجواكمْ صَدَقةً ذلك خيرٌ لكمْ وأطهرُ فإن لم تجدواْ فإنَّ الله غفورٌ رحيمٌ}.

فقد ذهب أكثر العلماء إلى نسخها بقوله تعالى: {ءأشفقتمْ أن تقدمواْ بينَ يديْ نجواكمْ صدقتٍ فإذ لمْ تفعلواْ وتابَ اللّهُ عليكمْ فأقيمواْ الصلوةَ وءاتوا الزكوةَ وأطيعواْ اللهَ ورسولهُ واللهُ خبيرٌ بما تعملونَ}.

وأما العام، فهو كل لفظ يستغرق أفراده من غير حصر وأدواته كثيرة، وأبرزها (كل) كما في قوله تعالى: {كلُّ من عليها فانِ}.

ومن ألفاظ العموم: الذي، التي، وتثنيتهما وجمعهما، وأي، ما، من، شرطاً وأستفهاماً موصولاً، والجمع المضاف، واسم الجنس المضاف، والمعرف بآل، والنكرة في سياق النفي والنهي.

وأما الخاص، فما خصص فيه العام، إذ ما من عام إلا قد خص، ومخصصه إما متصل وإما منفصل.

فالمتصل خمسة: الاستثناء كقوله {كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجههُ} والوصف كقوله تعالى: {وربئِكُمُ التي في حُجُوركم مّن نسائِكُمُ التي دخلتُم بهنّ}.

والشرط كقوله تعالى: {كتبَ عليكُمْ إذا حضرَ أحدكُمُ الموتُ إن تركَ خيراً الوصيةُ} والغاية، كقوله تعالى: {وكُلوا واشربواْ حتّى يتبينَ لكمُ الخيطُ الأبيضُ} ويدل البعض من الكل كقوله: {وللهِ على الناسِ حجُّ البيتِ من استطاع إليه سبيلا}.

والمخصص المنفصل كالآية الأخرى تخصص في محل آخر، أو كتخصيص الكتاب بالسنة.

والحق أن هذه الأقسام ترجع إلى القرآن، ولا ترجع إلى التفسير، ففي القرآن محكم ومتشابه، وليس في التفسير محكم ومتشابه، وفي القرآن ناسخ ومنسوخ، وليس في التفسير ناسخ ومنسوخ.

 

الآداب الموضوعية للتفسير

أن الموضوعية في تفسير القرآن شرط أساسي وليس شرطاً احترازياً، فهو أساسي لتلقي معاني القرآن كما أرادها الله تعالى، وهو احترازي من النزوع إلى الهوى، والإغراق في الخيال، والتعرض لشطحات الميول، فالملتقي يريد معرفة هذا النص على حقيقته والغوص إلى أعماقه، والمفسر الحق هو الباحث الذي يحقق هذه الرغبة الملحة، وينهض بهذه المهمة الصعبة، متطلعاً إلى الأسرار القرآنية ناصعة أنيقة، ليحوز رضا الله تعالى، ويظفر بإقبال الناس، ويبلغ هدفه الأسنى.

وقد يبدو هذا الملحظأول الأمر- تعجيزياً وليس الأمر كذلك، فان قيل ما السبيل في تفسير الآيات التي يستفيد منها أهل المذاهب أدلتهم وأصول عقائدهم فيجاب: إن سرد ذلك مجرداً عن نزعة التعصب لا يعتبر من هذا الباب، وعرض جميع ذلك باعتباره منبعاً ثراً من منابع التشريع الإسلامي، لا يعني جرّ القرآن إلى ما ليس منه، بل هو أمر يدعو إلى الاعتزاز كونه ثروة علمية تضاف إلى التراث،ولكن الأمر يختلف جذرياً إذا سردت الصفحات وسودت الأوراق على أن المراد هذا دون ذاك تنكيلاً بمذهب، أو اعتدادا برأي دون برهان، فهذا ما لا يسمح به أدبياً وموضوعياً في تفسير القرآن العظيم، لأن هذا الملحظ كشف عن مراد نفسه، وتفسير القرآن كشف عن مراد الله تعالى، وهذا لا يمانع أن يختار رأياً يمثل وجهة نظره بعد التمحيص وإعمال الفكر والاجتهاد، يؤكد فيه ما يستفيده بالذات دون قطع على الله أن هذا هو المراد دون غيره من كلام الله، وإذا تحرج المفسر في هذا الإطار، والتحرج هنا ضرورة قائمة كان ما يتوصل إليه من التفسير دليلاً على الكشف والعرض والبيان، وليس مجالاً للهوى والمذهبية، وبذلك فلا يعد متعدياً لحدود التفسير الموضوعي، وإنما يعتبر عارضاً لبعض الوجوه المحتملة دون قطع بأحدها، إذ قد يكون المراد الحقيقي غيرها، إلا أنه قد اجتهد ضمن الضوابط والموازين العقلية أو الفنية أو اللغوية باختيار الأفضل، أو بإثبات الأظهر.
وقد تكون هذه المهمة عسيرة لا تتهيأ، وأداؤها صعباً لا يركب، وقد يكون الأمر كذلك، ولكن نظرة فاحصية إلى ما أصاب المسلمين من الخور والانهيار تدعو إلى ضرورة تعبيد هذا المنهج، وتخفف من وطأة مشاقه ومتاعبه، فقد شجعت لغة الاختلاف المتعمد والهوى المتبع ألسنة المستشرقين وأعداء الإسلام للنيل من كرامة الإسلام وعظمة القرآن، وكان الطريق أمامهم سهلاً وميسراً، إذ استغلوا هذا الخلاف لنفث سمومهم، ونشر دعاواهم الباطلة ضد الإسلام والمسلمين من جهة، وضد القرآن الكريم من جهة ثانية حتى تجرأ بعضهم فذهب إلى القول بتحريف القرآن نتيجة نقطة الضعف هذه في عدم الموضوعية الفكرية للتفسير، وعلى هذا فالالتزام بالموضوعية تنفي هذه الشبه من جهة، وتجعل المفسر خالص العمل لوجهه تعالى من جهة أخرى، وتلخص تفسير القرآن من التبعية من جهة ثالثة، وعند ذاك يجزم المتلقي للتفسير بسلامة قصد المفسر ونبل غايته، فيستقبل ذلك استقبالا تلقائياً يحبب إلى ذائقته القرآن، ويعنيه على الاستجابة الهادفة لأغراضه ومراميه.

إن لغة التهجم والاتهام التي نلمسها في كثير من أقوال المفسرين مع القطع بأنها لا تجدي نفعاً، ولا تغير معتقداً، ولا تثني إنساناً عن رأي يتبناه: فإنها لا تمثل القرآن، وأخلاق القرآن، ولغة القرآن، بل القرآن نفسه يشن حرباً شعواء على هذا النوع من الإسفاف واللامبالاة بشعور الآخرين مخطئين كانوا أو مصيبين، فضلاً عن كونه يدفع بالشباب إلى الهروب من حضيرة الدين، والتنكر لمبادئ القرآن، فتحتضنه البدع، وتتلاقفه الضلالات.

ومزية التفسير الموضوعي: أن يلتقي الهدف الديني بالهدف الفني، ففي الوقت الذي نحافظ فيه على جوهر القرآن من التمحل، نحافظ أيضاً على حقيقة اللغة من الضياع، فتتجمع من هذا وذاك قوة متجانسة ترعى القرآن واللغة معاً، وتحوطهما بسياج من التحرز والحفاظ.

لقد سبق في علم الله تعالى شرف اللغة العربية، فشرّف بها نزول القرآن بلغتها، فبقاء العربية منوط ببقاء القرآن، وبقاء القرآن منوط بسلامة تفسيره، وسلامة تفسيره مقترنة بآداب المفسر، وآداب المفسر كما تقتضي الإحاطة والحذر واليقظة والعلم، فكذلك تقتضي الموضوعية، والموضوعية أساس التفسير، وما سوى ذلك فأهواء تتبع، ومذاهب تبتدع.

أن ما يكون بهذا السبيل يمكن إجمال معالجة بالمؤشرات الآتية على سبيل المثال والنموذج لا الحصر والاستقصاء.

 

الآداب النفسية للتفسير

والمراد بالآداب النفسية مجموعة الصفات والملكات التي بتنامي بها الكمال الذاتي في تهذيب النفس وصيانتها عن الزيغ والانحراف بحيث يطمئن معها إلى الجانب الروحي عند الإنسان فضلاً عما يتمتع به من حيطة وحذر، وما يناسب ذلك إصلاح السريرة، ولزوم الطاعة ونقاء الضمير، مما يهيء للنفس التدبر في القرآن، والتفكر في أسراره، من صحة في الاعتقاد، وإخلاص في النية، وتفويض الأمور إلى اللّه، وطلب العون منه في مجال المعرفة والكشف والاستزادة العلمية.

إن ما يكون بهذا السبيل يمكن إجمال معالمه بالمؤشرات الآتية على سبيل المثال والنموذج لا الحصر والاستقصاء.

 

صحة الاعتقاد:

وهذا أمر ضروري تمليه طبيعة الإيمان بأن القرآن هو الكتاب المنزل على نبيه المرسل دون زيادة أو نقصان، والنظر إليه بمنظور مقدس، ليكون الباحث في مضامينه مفسراً جادّاً، تنبعث عقيدته من داخل النفس الإنسانية فيصبح ما يخطه يمينه نابعاً من صميم ضميره، حقيقة لا تقبل جدلاً، وعقيدة لا يداخلها ريب، يعمل بهديها ويستضاء بألقها. أما الغوغائية في التفسير والتي لا تمت إلى العقيدة بصلة الوعي الهادف فهي نوع من الهذر والثرثرة يعبر بهما عن ثقافة سطحية تعتمد التحريف تارة، والتضليل تارة أخرى، ويكون همها خلط الحابل بالنابل، وهدفها إلقاء الحبل على الغارب، دون أداء أمانة أو تحمل مسؤولية، وهنا يكمن الخطر الهدام الذي يهدد تراث الأمية ويستهدف مجدها الشامخ، لهذا يجب مراعاة ذلك بل مجابهته بالتحرز من كيد المنحرفين، وجملة من شبهات المستشرقين، وكثير من حملات ذوي العاهات النفسية والفكرية ممن يديفون السم بالعسل.

 

ب- الإخلاص والتفويض:

وإذا كان الاعتقاد خالصاً من كل شائبة، جاء إخلاص النية مكملاً للنفس الإنسانية من كل نقيصة، لا سيما إذا أقترن الإخلاص بالتوكل على اللّه والتفويض إليه، بتخليص النفس من الآفات والدواعي، وليتسم العمل بصحة الخاطر والفطرة، ونقاء القلب والسريرة، وأبرز مظاهر ذلك الحريجة في الدين، الورع عن المعاصي، والزهد في الدنيا، والتوجه نحو اللّه في السرّاء والضراء، وهذا ما يهب الإنسان من المواهب معيناً لا ينضب، فقد ورد في الأثر: «العلم نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء»على أن يكون هذا القلب مجانباً لهواه، متبعاً لأمر مولاه، متفقهاً في الكتاب للّه، يعمل بعلمه، ويعلمه غيره، فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) أنه قال: «من تعلم العلم، وعمل به، وعلم للّه: دعي في ملكوت السماوات عظيماً، فقيل: تعلم للّه وعمل للّه وعلم للّه».

 

ج- التدبر والتفكر:

التدبر في آيات القرآن، والتفكر بمعانيه ومراميه، من أبرز سمات المفسر الهادف، فكل آيات القرآن تدعو إلى التدبر، وكل معانيه تستأهل التفكر، وبهما يستعصم المفسر من الخطأ في التفسير، ويتحرز عن الإسفاف في التقرير، فتكون أحكامه عن بصيرة، وتصدر آراؤه عن دراية، إذ طبيعة التدبر الواعي والتفكر الجاد مصاحبة التأمل واليقظة والترصد، وكل أولئك مؤشرات دقيقة تستفرع الجهد، وتتحكم في الاجتهاد، وإذا استفرغ المفسر جهده، وأقام على الاجتهاد حقائق ما يتوصل إليه، كانت النتائج أكثر أصالة، والآراء أسد تصويباً، ووصل التفسير إلى الكشف مراد اللّه.

 

علم الموهبة:

وقد رجح السيوطي (ت:911) هجري أن يتمتع المفسر نفسياً بعلم الموهبة، وهو ليس من العلوم المكتسبة، ولا من الفنون التعليمية المحصلة، وإنما المراد به الفيض الرباني والعلم الديني استناداً إلى قوله تعالى: {وعملنهُ من لدنَّا عِلماً} واليه الإشارة بحديث: «من عمل بما علم، ورثه اللّه علم مالم يعلم» وهو بهذا علم يورثه اللّه تعالى لمن عمل بما علم.

ولعل المراد بعلم الموهبة: الإيحاءات التي تعترض خاطر الإنسان وتحتشد في ذهنه، فيصيبها في تفسيره دون تلقيها من أحد، أو اكتسابها من جهة، بل هي إنقداح بالفكر، وبداهة من الفطرة تشق طريقها إلى النفس استئناسا بشفافيتها ونقائها، ويكون مصدر ذلك حينئذ هو اللّه تعالى بالموهبة والإيحاء، لا بالكسب والمعرفة، ولا يتأتى ذلك لكل فرد، ولا يفوز به إلا الصفوة المختارة في كل جيل، وملاك ذلك هو الصفاء الروحي والتوجه نحو الله.

 

الآداب الفنية للتفسير

وهي مجموعة الفنون والعلوم والطاقات التي يتذرع بها المفسر لخوض لجج التفسير، فهي أدواته وآلاته، وهي قدراته وملكاته. وقد أورد السيوطي اختلاف الناس في تفسير القرآن، فهل يجوز لكل أحد الخوض فيه؟ قال قوم: لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن، وإن كان عالماً أديباً متسعاً في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار، وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي(ص) في ذلك، ومنهم من قال: يجوز تفسيره لمن كان جامعاً للعلوم التي يحتاج إليها المفسر.

والرأي الأول يقضي بأن يكون التفسير توقيفياً يختص بالنقل عن الأثر النبوي، وهذا يعني حجز الفكر، وإيقاف عملية الاستنباط، وهو معارض بالأثر نفسه؛ قال ابن مسعود: من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن.

وتثوير القرآن يعني التدبر فيه والتنقير عن معارفه، وفي هذا دعوة إلى الجد والاجتهاد وإعمال الفكر، وجميعها من غير المأثور، وقد ورد عن أبي الدرداء أنه قال: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يجعل للقرآن وجوهاً.

الرأي الثاني: وهو القائل بجواز تفسير القرآن مع ملكة الفنون، وقد ذهب إليه جملة من الأوائل.

فيقول الزركشي: ويجب أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر، وأن يتحرز في ذلك من نقص المفسر عما يحتاج إليه من إيضاح المعنى المفسر، أو أن يكون في ذلك المعنى زيادة لا تليق بالغرض، أو أن يكون في المفسر زيغ عن المعنى المفسر، وعدول عن طريقه حتى يكون غير مناسب له، ولو من بعض أنحائه، بل يجتهد في أن يكون وفقه من جميع الإنحاء، وعليه بمراعاة الوضع الحقيقي والمجازي، ومراعاة التأليف، وأن يوافق بين المفردات وتلميح الوقائع، فعند ذلك تنفجر له ينابيع الفوائد.

وقد أورد السيوطي اشتراط جملة من العلوم على المفسر، فمن فسّر القرآن بدونها كان مفسراً بالرأي المنهي عنه، وإذا فسرها مع حصولها لم يكن كذلك، وهذه العلوم هي: اللغة، النحو، التصريف، الاشتقاق، المعاني، البيان، البديع، القراءات، أصول الدين، أصول الفقه، أسباب النزول والقصص، الناسخ، المنسوخ، الفقه، الأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم.

وما أشترطه يجب أن يقترن بالذائقة الفنية، وجودة الاختيار، وحسن التأمل والتتبع، ونفاذ البصيرة والقريحة، فيتصرف تصرف الناقد الخبير عند تدافع الاشكالات وتزاحم الإيرادات، وتوهم التداخل في النصوص، أو إدعاء التناقض في الآيات كما يزعم ذلك جملة من المبشرين وحفنة من المستشرقين، فينظر النص في دلالة سياقه، والجملة وما يتصل بها من شرط أو خبر أو جزاء، وظاهرة التجوز والنقل عن المعاني الأولية إلى المعاني الثانوية، ورد الألفاظ إلى ضدها أو نظيرها أو مرادفها للاستعانة على كشف معانيها، وسبر النص في منطوقه ومفهومه، ووجه الخطاب في لحنه وفحواه، وكل أولئك إمكانات ولفتات لابد من توافرها ليكون عطاء المفسر خصباً، وحديثه مرناً، بعيداً عن الجمود والقوقعة، والاستقلال في الاستنباط.

وهذه العلوم يجب أن تشق طريقها في التفسير مبينة له دون طغيانها عليه، فلا ضرورة لذلك، بل ولا ينبغي أن يكون التفسير مشحوناً بها بمناسبة وغير مناسبة، فيعود مضماراً لها، ويتجنى من خلالها على التفسير، وإنما المفروض أن تكون دلائل وإمارات يتوصل معها إلى فهم القرآن، لا أن تكون كل شيء في تفسير القرآن.

والملاحظ تقارب آراء العلماء في هذا الجانب حتى نقل الخلف عن السلف؛ فالشروط الفنية تكاد تكون واحدة عن الجميع، إلا أنها تتفاوت تأكيداً واستحسانا. بقي أن نقف مع اللغة والبلاغة وقفة متأنية، لأنهما العلمان اللذان يفتقان ما في القرآن من خصائص ومميزات وإشارات، ولأنهما يقربان المنهج الموضوعي بعيداً عن التأثر الجانبي.

اللغة لم تكن هملاً دون ضوابط، وقيمتها الجمالية ليست مجهولة المعالم، وقد جاء القرآن فكان حدثاً جديداً في تطوير هذه اللغة، يخطط لمستقبلها، ويدعو إلى نموها وصقلها والحفاظ عليها، ومن هنا اتجهت آراء العلماء إلى جعلها لغة علمية يحددها الضبط، وكان النص القرآني حافزاً لهذا الاتجاه فنشأت مدرستان عن ذلك:

الأولى: تقول أن اللغة وفروعها إنما اتسعت للحيطة على القرآن من الألحان فيه، والاحتراز من الوقوع في الخطأ اللفظي أو المعنوية عند تبينه، فيكون عمل اللغة ضابطاً وقائياً للعرب عن اللحن والخطأ، ولغير العرب عن التبديل والتحريف.

والثانية: تقول أن التحقيق في اللغة والضبط لها قد عاد ضرورة لا للاحتراز عن اللحن والخطأ بل لفهم القرآن فهماً أصيلاً بعد أن دخل غير العرب في الإسلام فتكون اللغة هدفاً أساسياً وتعليمياً في وقا واحد لفهم النصوص القرآنية.

وفي كلا الأمرين يبدو للباحث أثر القرآن الكريم في حفظ اللغة، وأثر اللغة في ضبط القرآن، وتحيل النحو الصدارة في هذا المقام من بين علوم اللغة فارتبط بالقرآن من حيث صحة القراءة وشذوذها، واتصل بعلم القراءات المختلفة ووجوه تصحيحها ورفضها، فكان دوره المهم في بيان موقع مفردات القرآن، مضاهياً بل متفوقاً على دور اللغة في التأصيل والاشتقاق، وقد حققا معاً علاقات النظم القرآني وأصول التأليف في ربط ما تقدم من الآيات بما تأخر وبالعكس، واتحدا في إنجاز معرفة الجذور الأولية للألفاظ وكيفية محلها من الجمل والتراكيب، فاقترنت الظواهر اللغوية بالظواهر الفنية، وأتسع الملحظ النصي لشمول الملحظ الجمالي، وقد شارك هذا في تيسير قراءة القرآن وضبطها على الوجه الأصح والأفصح، وساعد في الكشف عن طاقاته وتأثيرها في النفس الإنسانية، فكان شأن النحاة كشأن المعجميين واللغويين من الواعين بهذا إلى تفسير القرآن في حدود اللغة.

ومما تقدم يبدو لنا مدى حاجة المفسر إلى الدراسات التخصيصية الدقيقة، والفنون العلمية المتشعبة التي تمهد له الطريق ليكون عمله في التفسير متسماً بالدقة، وجهوده مقاربة للسداد، فلا تغيب عنه شاردة بالأعراض، ولا يفرّ منه موروث بالتلكؤ، لتلتقي عنده اللغة بالأسلوب، والفكر بالخصائص، والفن بقرائن الأحوال.

وفي هذا الضوء تتحدد مسؤولية المفسر العلمية في ضوء موسوعيته الفنية، فمن لم تتوافر له الإمكانات المتعددة في جملة العلوم الإسلامية والعربية وما هو بإطارها وفي سياقها، فإقدامه على التفسير عملية انتحارية لا مسوّغ لها فناً، كما لا مبرر لها شرعاً، فالعدة والأداة مثلاً زمان لتفسير القرآن العظيم، العدة في العلوم المتعددة، والأداة في الذائقة الفنية التي تضع التأويل موضعه المناسب دون تجوّز أو تزيّد، فلا يدخل فيه ما ليس منه إلا ضرورة، ولا يخرج منه شيء حتى مع الضرورة، لهذا وسواه فالأمر صعب مستصعبٌ، وخوضه إقدام جريء، وقد يقصّر المفسّر حينئذٍ، ولكنه مأجور إن عمل بعلمه المتشعب، وأستخدمه بحسب طاقته في التفسير.

 

المصدر النقلي للتفسير

والمراد به تفسير القرآن الكريم بالمنقول من المأثور، سواء أكان هذا المأثور دراية قطعية متواترة كالقرآن، أم رواية تتقلب بين الظن والقطع فتكون قابلة للنفي والإثبات بحسب موازيين تقييم الروايات المتواترة، والمشهورة، وأخبار الآحاد.

فالأول: هو تفسير القرآن بالقرآن، وذلك عن طريق مجابهة الآيات بعضها لبعض، وعرض الآيات بعضها على بعض، ويستخرج _حينئذ _ من مقابلتها معنى اللفظ أو الجملة أو الآية، فيرجع إلى المحكم في تفسير المتشابه، وإلى المبين في معرفة المجمل، وإلى المسهب في تعريف الموجز، وإلى المعلن في استجلاء المبهم، وإلى الواضح في استنباط الخفي، وهكذا.

والثاني: تفسير القرآن بالرواية، وطريقه، إما أن يكون الروايات الصادرة عن النبي بما ورد تفسيره عنه، كأن يقرر القرآن أصلاً ويكون التفريع عليه بالسنة، أو يجمل أمراً يكون تبيينه في السنة قولاً أو فعلاً أو تقريراً.

أما أهل البيت فعند بعض المسلمين لا سيما الإمامية منهم أن روايتهم هي رواية النبي وهم أدرى بالقرآن من غيرهم.

وأما الصحابة فقد اختلف في حجية تفسيرهم؛ إلا أن تفسير الصحابي عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبي على رأي الحاكم في التفسير. وقد نازعه فيه ابن الصلاح وغيره من المتأخرين: بأن ذلك مخصوص بما فيه سبب النزول أو نحوه.

أما تفسير القرآن بالقرآن: فهو أرقى مصادر التفسير، وقد بحثنا حجيته مفصلاً في منهج هذا التفسير، وليس هذا موضعه، والقول فيه هنا يكون قولاً فيه كثير من التجوز.

وأما المصادر المأثورة فكونها مصدراً من مصادر التفسير شيء، وكونها طريقاً يأخذه المفسر في تفسيره منهجاً له فشيء آخر، وهنا نتحدث عنها باعتبارها مصدراً للتفسير أُخذ بها أو لم يؤخذ. أما منهجية ذلك فموضعه غير هذا.

قال الخوئي: وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول (ص) وذلك تعذر إلا في آيات قليلة.

وهذا هو الطراز الأول، لكن يجب الحذر من الضعيف فيه، والموضوع فإنه كثير.
والذي صحّ عن الرسول الأعظم (ص) من تفسير القرآن قليل جداً بحسب الروايات في جميع كتب التفسير، بل أصل المرفوع إليه منه في الغالب من القلة بمكان، وقد جمع السيوطي ذلك في صفحات معدودة من الإتقان. والحكمة فيه أن الله تعالى أراد أن يتفكر عباده في كتابه فلم يأمر نبيه بالتنصيص على المراد في جميع آياته.

قال الزركشي: واعلم أن القرآن قسمان: أحدهما ورد تفسيره في النقل عمن يعتبر تفسيره، وقسم لم يرد، والأول ثلاثة أنواع: إما أن يرد التفسير عن النبي (ص) أو عن الصحابة، أو عن رؤوس التابعين، فالأول يبحث فيه عن صحة السند، والثاني ينظر في تفسير الصحابي، فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان، فلا شك في اعتمادهم، وإن فسره بما شاهد من الأسباب والقرائن فلا شك فيه… وأما الثالث فهم رؤوس التابعين إذا لم يرفعوه إلى النبي ولا إلى أحد الصحابة (رض) فحيث جاز التقليد فيما سبق، هكذا هنا وإلا وجب الاجتهاد.

وقد اعتبر الزركشي الإمام علياً (ع) ضمن الصحابة ولم يفرد له حديثاً إلا أنه أعتبره مقدماً في الصناعة ثم ابن عباس، وهو تجرد لهذا الشأن، والمحفوظ عنه أكثر من المحفوظ عن علي، إلا أن ابن عباس كان قد أخذ عن علي(ع).

وعلى هذا يكون الإمام علي(ع) مصدر ابن عباس في التفسير فهذا أولى بالرجوع إليه في هذا الفن.

قال السيوطي: أما الخلفاء فأكثر من روي عنه فهو علي بن أبي طالب فعن أبي الطفيل قال: شهدت علياً يخطب وهو يقول: سَلوني، فو الله لا تَسألوني عَن شيءٍ إلا أخبرتُكُم، وسَلوني عَن كِتابِ الله، فو اللهِ ما مِن آيةٍ إلا وأنا أَعلَمُ، أَبِليلٍ نَزَلت أم في نهارٍ، أم في سَهلٍ أو جَبَلٍ.

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود، قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإن علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن.

ومما يؤيد هذا ما قاله ابن أبي حمزة عن علي (ع) أنه قال: لو شئت أن أوقر سبعين بعيراً من تفسير أم القرآن لفعلت.

وقد علل محمد عبد العظيم الزرقاني، كثرة التفسير عن الإمام علي (ع)، واشتهاره به دون من سبقه من الخلفاء بما يأتي:

الإمام علي (ع) قد عاش بعدهم حتى كثرت حاجة الناس في زمانه إلى من يفسر لهم القرآن، وذلك من اتساع رقعة الإسلام، ودخول عجم في هذا الدين الجديد، كادت تذوب بهم خصائص العروبة، ونشأة جيل من أبناء الصحابة، كان في حاجة إلى علم الصحابة، فلا جرم كان ما نقل عن علي أكثر مما نقل عن غيره، أضف إلى ذلك ما امتاز به الإمام من خصوبة الفكر، وغزارة العلم وإشراق القلب، ثم أضف أيضاً اشتغالهم بمهام الخلافة وتصريف الحكم دونه.

وقد أشار الإمام علي نفسه إلى حقيقة كونه عدلاً للقرآن، فكثيراً ما يتحدث عن أهل البيت ويريد نفسه قال: وكيفَ تَعمَهونَ؟ وَبَينكُم عِترةُ نَبيكُم، وهُم أزمَّةُ الحقِّ، وأعلامُ الدينِ وألسنةُ الصِدقِ، فأنزِلُوهُم بأحسنِ منازلِ القُرآنِ.

بينما يدفع ذلك ابن تيمية فيقول: يجب أن يعلم أن النبي (ص) بيّن لأصحابه كل ما في القرآن كما بيّن لهم ألفاظه.

إلا أن هذا المصدر عن الصحابة يجب أن يرصد بكثير من الحيطة والحذر، لما دسّ عن طريقهم في القرآن من قبل اليهود والنصارى، وما كثر في ذلك من الإسرائيليات والانحرافات، وما زوّر من الأحاديث التي وضعت في العصر ين الأموي والعباسي، ترويجاً لمبدأ، أو دعماً لفكرة، مما لم تصح نسبته، ولم يثبت صدوره.

ولقد كانت حاجة الصحابة إلى معرفة الأحكام تلجؤهم إلى الاستعانة بأهل الكتاب أحياناً ممن يثقون به، ويعتمدون حسن سيرته، فيسألون، فيجاب بما لم ينزل الله به سلطاناً، فيحرف الكلم عن مواضعه، ولا يبلغ الحق نصابه، وقد حصل من هذا وذاك خلط كبير، وتضييع لكثير من الحقائق، صدر قسم منها جهلاً، والقسم الآخر عناداً وتزويراً حتى عادت المسألة ذات بال عند المسلمين، فتحرّج قوم، وتجوّز آخرون، حتى أورد السيوطي بأن ما نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب، وقف عن تصديقه وتكذيبه لما يروى أنه قال (ص): إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم.

ويبدو أن هذا الحديث على فرض صحته لم يعمل به، ولم يوضع موضع التنفيذ، لأننا نشاهد بالعيان كتب التفسير قد ملئت غثاء وهراء بأقوال أهل الكتاب وأحاديثهم المدعاة، فقد يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه، وقد يحملونه ما لم يرد فيه، من تعيين أسماء وحوادث، والتنصيص على أماكن وبقاع، والتأكيد على خصائص وصفات لا مسوغ للخوض فيها، بعد أن طوى عنها القرآن كشحاً، وضرب عنها صفحاً.

بقي فنٌّ له أهميته القصوى في إستكناه المصدر النقلي، والوقوف على أسراره وكنوزه، والتمرس في جملة أحاديثه ورواياته، ذلك هو علم الجرح والتعديل في أحوال رواة الحديث الشريف. فقد ألقت السياسة بثقلها على الرواة، فكان من يروي كاذباً، ومن ينقل متجاوزاً، ومن هو ليس ثقة في نفسه، ومن هو غير دقيق في حفظه، ومن هو فاسق في عمله، إلى جنب هؤلاء الرواة الثقات العدول، وحتى الثقة قد تحمل على الاشتباه حيناً، فكيف بزمر الوضاعين، وجمهرة الكذبة الفجرة، إن علم الجرح والتعديل الذي اضطلع به العلماء الإثبات يعطيك الصورة الواضحة عمن تروي، فهناك الضعيف، وهناك المدلّس، وهناك المجهول، وهناك المدخول في عمله، وهناك الثقة، وهناك العدل الثقة، وهناك المقبول، وهناك الموثق، وهناك الثبت الصحيح، وهناك من يروي بسند غير معتبر، وهناك من يروي عمن لم يرَ، وهناك من يتقوّل ويضيف، وهناك غير هنا وذاك، كل التفصيلات لمن أراد التفسير النقلي أو بالمأثور فعليه ضبط هذا الفن ضبطاً دقيقاً، لئلا يقع في الإسرائيليات والكذب والمنتحل والموضوع.

 

المنهج الأثري

والمراد بالأثر هو: الأثر الصحيح الوارد عن النبي وآله، أو الصحابة والتابعين مرفوعاً إليه فإن أعياك ذلك (أي فهم القرآن بالقرآن) فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو مما فهمه من القرآن.

ومدرك هذا التفسير السنَّة الشريفة، والرواية الثابتة الصحيحة عن الأهل أو المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصحابة أو من في حكمهم من أوائل التابعين.
أ ـ السنة الشريفة: لاشك أن السنة شارحة للقرآن، ومبينة لمجمله، وموضحة لغامضه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله:

ألا أني أوتيت القرآن ومثله معه يعني السنة.

ولا شك أن السنة القطعية الصدور عن النبي وأهل البيت هي عدل القرآن، في شرح كلياته وتفصيل مجملاته، إلا أنه يجب الحيطة في دراسة مصدرها وسندها، والتثبت من صحتها وصدورها، لأن الكذابة كثرت على الرسول وأهل بيته، فالتحرز في ذلك طريق الاطمئنان، والاحتياط سبيل النجاة.

وزيادة على ما تقدم ينبغي رصد الإسرائيليات من الروايات التي نشرها أهل الكتاب مما لم ينطق به النبي، ولم ينبس به معصوم ببنت شفة، ورصد ذلك يعني طرحه، وعدم الأخذ به، كما رد العلماء كثيراً من ذلك وشككوا في نسبته إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بل واعتبار كل ذلك موضوعاً عليه، ولا من دليل نصّي أو ديني أو تاريخي على صحته.

أما الوارد عنه قطعياً فهو ليس من هذا الباب، وحجته ثابتة على الناس، ولا يجوز التعدي منه إلى غيره.

وقد تقدم في مصادر التفسير ما يدل على ذلك.

ب ـ الرواية الثابتة عن الصحابة أولاً، وعن التابعين ثانياً. وليس المراد هنا أقوالهم المجردة على أصح الآراء، فإنه لا يجوز التفسير بمظنون الرأي، ومجرد الاعتقاد، وإنما أخذا بقول الحاكم في المستدرك إن تفسير الصحابي الذي شاهد التنزيل له حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. لأن الصحابي شاهد قرائن الأحوال ومقتضيات المقام ومناسبة الحال، نظراً لقرب عهد الصحابة من الرسول… ودراية الثقات منهم بأسباب النزول مضافاً إلى الفهم العربي المحض الذي تميزوا به، هذا إذا كان الصحابي ثقة ثبتاً ذا فهم عربي أصيل، إذ لم يكن كل الصحابة من الثقات، ولم يكن كلهم على فهم عربي واحد للنصوص، بل وكان قسم منهم يعتمد النظر إلى ما يقوله أهل الكتاب من اليهود والنصارى، لا سيما في قصص الأنبياء، وأخبار بني إسرائيل، وسرد أسماء لأعلام وأماكن وبقاع لم ينص عليها أثر من كتاب أو سنّة. واختلاف الصحابة في جملة من التفاسير ينبئ عن ذلك، ويرد إلى تفاوت الفهم عندهم.

ويبدو أ ابن عباس وابن مسعود (رض) يحتلان المنزلة الكبرى من بين مفسري الصحابة، فقد كان ابن عباس يلقب بحبر الأمة، وترجمان القرآن، وقد دعا له رسول الله بالتفقه بالدين ومعرفة وتعلم التأويل كما في بعض الآثار، وهو ذو حس عربي أصيل، واجتهاد بمعاني كتاب الله وهو يعتمد على التفسير القرآني للقرآن والسنة، والاجتهاد المستند إلى اللغة وشواهد الأبيات، وكتب التفسير حافلة بآرائه، وله تفسير مجموع من كتب التفاسير. وكذلك الحال بالنسبة لابن مسعود فقد قال: والذي لا إله إلا هو ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته.

وتأتي حجية هؤلاء في التفسير بعد النبي وآله، فما كان موافقاً لكتاب الله وسنة نبيه أخذ به من قوليهما، وأقوال أخيارهم، وما كان مجانباً لهما ضرب به عرض الحائط وهذا لا يقدح بمنزلتهما، وإنما يرد إلى سند الرواية عنهما، أو للالتباس الذهني الذي يقع فيه غير المعصوم، وإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه آية في التفسير.

وهؤلاء التابعون منهم من صحت طريقته، وحمدت منهجيته، ومنهم من فسد رأيه، وتلاشت موضوعيته فيجب إخضاع كل واحد منهم إلى مقاييس الجرح والتعديل فيما تعارف عليه أهل الرجال، وهذا يعني أننا نجد الموثق منهم كالحسن وقتادة ومجاهد. والمجرح كأبي صالح والسدى ومقاتل وغيرهم.

ويبدو أن الطبري (ت: 310ه‍) في أغلب أجزاء تفسيره المرسوم ب‍ (جامع البيان في تفسير القرآن) يعتمد اعتماداً كلياً على التفسير بالمأثور، فلا نكاد نجد رأياً إلا وقد اسند برواية إلى النبي أو السلف من صحابة أو تابعين، فالآية أو جزؤها كالعبارة القرآنية التي تحمل رأياً واحداً يثبته لها ثم يسند منشأ ذلك الرأي في رواية متسلسلة السند، وإن كان في ذلك عدة آراء فهو يجزئها رأياً رأياً ويصوغها تفسيراً تفسيراً ثم يعقب على كل رأي بالروايات القائلة به، ولنضرب لذلك مثلاً في قوله تعالى: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) يورد اختلاف أهل التأويل على الشكل التالي:

1.    قال بعضهم عني بالسوء كل معصية، ثم يسرد جملة من الروايات تنتهي بإسنادها إلى كل من: زياد بن الربيع وأبي بن كعب وعائشة ومجاهد. وكلهم قالوا بهذا المعنى المذكور.

2.    وقال آخرون معنى ذلك من يعمل سوءاً من أهل الكفر يجز به، ثم يعقب هذا الرأي بذكر من قال ذلك عن طريق من حدثه به حتى ينتهي إسناد لك إلى الحسن وابن زيد والضحاك.

3.    وقال آخرون معنى السوء في هذا الموضع الشرك، ثم يعقب هذا الرأي بذكر من قال ذلك عن طريق من حدثه به حتى ينتهي بسنده إلى ابن عباس وسعيد بن جبير.

ثم يختار الطبري رأياً في الموضوع فيقول: أن كل من عمل سوءاً صغيراً أو كبيراً من مؤمن أو كافر جوزي به، وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية لعموم الآية على كل عامل سوء من غير أن يخص أو يستثنى منهم أحد، فهي على عمومها….

 

منهج الرأي في التفسير

والمراد به هو التفسير بالاستحسان والترجيح الظني، أو الميل النفسي لاتباع الهوى، ولا يعني ذلك الاجتهاد أو الاستنباط القائم على أساس من الكتاب والسنة النبوية فإن ذلك من التفسير بالمأثور على وجه من الوجوه.

وقد روى العامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من فسر القرآن برأيه وأصاب الحق، فقد أخطأ.


وكره جماعة من التابعين وفقهاء المدينة القول في القرآن بالرأي: كسعيد بن المسيب، وعبيدة السلماني، ونافع، ومحمد بن القاسم، وسالم بن عبد الله، وغيرهم. وروى عن عائشة أنها قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفسر القرآن إلا بعد أن يأتي به جبرئيل.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمقتضى هذه الرواية لا يفسر القرآن إلا بعد الإيحاء بمعناه من قبل الله تعالى. فالأجدر بمن تبعه من المسلمين أن يتحرجوا عن التفسير بالرأي لما في ذلك من الجرأة على الله.

قال ابن تيمية: فأمّا تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام، ولهذا توقف جماعة من السلف الصالح عن تفسير ما لا علم لهم به، فعن ابن عباس: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.

وقد روي أن أبا بكر(رض) سئل عن قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) فقال أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.

وهذا التحرج منبعه وأصله: أن المراد بالتفسير هو إيضاح إرادة الله والكشف عن إثباتها في كتابه العزيز، وهذا ما لا يصح إلا بالأثر الصحيح، أو بالظواهر الدالة على صحة هذا النص، والرأي لا يحقق ذلك.

وقد أوضح الزركشي أدلة عدم جواز التفسير بالرأي بقوله:

ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.

وقوله تعالى: {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.

وقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}.

فأضاف البيان إليهم. إلا أن هناك حديثاً بنسب إلى النبي هو:

القرآن ذلول ذو وجوه محتملة، فاحملوه على أحسن وجوهه. والحديث إذا قطع بصحته فيه دلالة ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد في كتاب الله تعالى، لأن أعمال الرأي بحسب القرائن الحالية والمقالية المتصلة والمنفصلة، وإخضاعها إلى المتبادر العرفي من دلالة الألفاظ لا يعد من التفسير بالرأي، نعم الاستقلال بالفتوى، ووضع التأويل من قبل النفس وبحسب الظن والهوى، دون الرجوع إلى مستند من النبي وآله. أو الاستبداد بالفهم القرآني بعيداً عن ظواهر القرآن الكريم، والعمل بخلاف ما تدل عليه يعتبر من التفسير بالرأي المنهى عنه، لا سيما إذا ضم إليه المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، فقيل فيه بما يشتهى، لهذا حمل أبو الليث النهي عن التفسير بالرأي إلى المتشابه من القرآن لا على القرآن جميعه.

وقد انقسم العلماء إلى فريقين بالنسبة للتفسير بالرأي، فقد تشدد فيه قوم ـ كما أسلفنا ـ فلم يجرؤوا على تفسير القرآن بالرأي، وأن كانوا علماء في الأدلة الفقهية أو النحوية أو الأخبار أو الآثار وحدبوا على المأثور فحسب، ووقف الآخر موقفاً مجانباً لهذا الفريق، فأجازوا لأنفسهم ولغيرهم ممن ملك قياد اللغة والأدب، واطلع على علوم القرآن والشريعة، أن يفسروا القرآن، إلا أنهم خلطوا حينذاك بين التفسير بالرأي، وبين الاجتهاد القائم على أساس الاجتهاد.

ولهذا نجد الذهبي قد خلط بين الأمرين فذهب إلى أن التفسير بالرأي لو كان محرماً لوجب أن يحرم الاجتهاد ويستغنى عن العقل.

على أن كثيراً من التفاسير المعتبرة كأسرار التأويل للبيضاوي، ولباب التأويل في معاني التنزيل للخازن، والبحر المحيط لأبي حيان، وإرشاد العقل السليم لأبي السعود، وروح المعاني للالوسي تعتمد التفسير إلا أن أغلب ما ورد فيها من رأي متوهم؛ يقود في أرجح الأحوال إلى الاجتهاد القائم على أساس الموازين الشرعية.

 

المنهج اللغوي

وهو المنهج الذي عني بالجانب اللغوي، وتمحض لاشتقاق المفردات وجذورها، وشكل الألفاظ وأصولها، فجاء مزيجا بين اللغة والنحو والحجة والصرف والقراءات، وكان مضماره في الكشف والإبانة استعمالات العرب وشواهد أبياتهم، فابتنى الأصل اللغوي بكثير من أبعاده على الغريب والشكل والشوارد والأوابد في الألفاظ والكلمات والمشتقات، وقد سخرت بهذا اللغة العربية طاقاتها المتعددة لخدمة القرآن واستشهد بها على تقرير قاعدة، أو تقعيد نظرية، أو بناء أصل لغوي أو نحوي أو صرفي، فتبلورت في هذا السبيل عدة مسائل في الفروع والجزئيات والأصول والقواعد وعاد النص القرآني يقذف بإشعاعه حجة اثر حجة في سماء المعرفة اللغوية، وجلاء معاني الاستعمالات العربية.

وقد أثر في هذا الجانب هوى المتخصصين، ورغبة العلماء الباحثين فشكلوا بذلك مدرسة خاصة بهم تميزت أبعادها في البحث عن لغة القرآن ومجاز القرآن وغريب القرآن ومعاني القرآن ومفردات القرآن.

ولعل ابن عباس (ت: 62 هجري) هو أول من اعتمد المنهج اللغوي في تفسيره بعدد من آيات القرآن الكريم، وقد سأله نافع بن الأزرق ونجدة بن عويمر تفسير عدد من الآيات الكريمة، واشترطا أن يأتيهما بما يؤيد ذلك من كلام العرب، ففسر ذلك على شرطهما.

وقد نسب لابن عباس الأستاذ بروكلمان كتاباً اسمه غريب القرآن، وأدّعى وجود نسخة منه في برلين.

إلا أن رؤوس هذا المنهج في التفسير ثلاثة دون منازع:

1.                      أبو زكريا الفراء (ت:207هجري) في كتابه معاني القرآن.

2.                      أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت:209/2210 هجري) في كتابه مجاز القرآن.

3.                      أبو إسحاق الزجاج (ت:311هجري) في كتابه معاني القرآن.

ويلحق شأوهم ويداني تخصصهم ابن قتيبة في كتابيه:

تأويل مشكل القرآن، وغريب القرآن.

أما أبو زكريا الفراء (ت:207هجري) فقد بحث في تراكيب الجمل، والأعراب، والاشتقاق، ووقف عند القراءات، وقد عني بالإيقاع الموسيقي للألفاظ، والميزان الصرفي للمفردات، وملاحظة النسق الصوتي في الفواصل، وقد قارن بين وزن الشعر، ووزن القرآن، ومراعاة السياق، وترتيب السجع، بما يعتبر جميعه منهجاً لغوياً، وان تعرض فيه لمباحث بلاغية أملتها الضرورة عليه كالتشبيه والتمثيل والمجاز والاستعارة، وهو في كل ذلك لم يخرج عن منهجه اللغوي الأصيل الذي شاركه في معاصره أبو عبيدة.

وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى( ت: 209/210هجري) فالمتتبع لكتابه مجاز القرآن قد يظنه بلاغياً بحسب عنوانه، إلا أنه يفاجئ بأنه كتاب لغوي يتتبع المفردات والمركبات الجملية تتبعاً لغوياً جدياً، وان كان الكتاب لا يخلو من لمسات بلاغية، ولكنه طالما يقصد بالمجاز المعنى اللغوي، وقد يقصد به الميزان الصرفي للكلمة، وقد يعني به نحو العرب وطريقتهم في التفسير أو التعبير، إلا أنه على أية حال يمثل التيار اللغوي في التفسير وإن أكد على فنون التعبير عند العرب، فهو يبدأ بالسور ثم الآيات ويتناولها بالشرح اللغوي بحسب ورودها على ترتيب المصحف، مستشهداً بالفصيح من كلام العرب على إرادة المعنى المطلوب من خطب وأقوال وأشعار.

وأما أبو إسحاق الزجاج (ت: 311هجري) فقد عرض في كتابه: (معاني القرآن) التفسير النقلي، ولكنه ابتنى على التفسير اللغوي أغلب فصوله، فأولى لذلك الأهمية الكبرى، وبين أمام آرائه الدليل من كلام العرب وأساليبهم، افتن في تخير ذلك مؤكدا على نظرته إلى التعبير القرآني في ملائمته للبيئة العربية، كما يناقش من ألفوا قبله كأبي عبيدة والفراء، ويخلص من وراء ذلك إلى إثبات الأعجاز القرآني عن طريق الأسرار الجمالية، وقد أثنى عليه الزركشي فقال: ومعاني القرآن للزجاج لم يصنف مثله.

وأما ابن قتيبة فيمكن أن يلحق بهؤلاء في حدود معينة، وهي تناوله للألفاظ، والنغم الموسيقي وتآلف الحروف، وبحث الفواصل وانسجامها مما يعتبر بحثاً بلاغياً أحياناً، والحق أنه استدرج كثيراً من الفنون البلاغية والتفسير البياني للقرآن.

 

المنهج البياني

وهو المنهج الذي تدور مباحثه حول بلاغة القرآن في صوره البيانية من تشبيه واستعارة وكناية وتمثيل ووصل وفصل وما يتفرع من ذلك من استعمال حقيقي أو استخدام مجازي أو استدراك لفظي، أو استجلاء للصورة أو تقويم للبنية، أو تحقيق في العلاقات اللفظية والمعنوية أو كشف للدلالات الحالية والمقالية. والبحث في هذا الجانب يعد بحثاً أصيلاً في جوهر الأعجاز القرآني ومؤشراً دقيقاً في استكناه البلاغة القرآنية.

وقد بدأ هذا الفن في جملة من أسراره الجاحظ (ت: 255ه‍)، فخصص كثيراً من مباحثه في كتابه (نظم القرآن) إلى استيفاء جمال العبارة، واستخراج ما فيها من مجاز وتشبيه بمعانيهما الواسعة غير المحددة، إلا أن هذا العرض من قبل الجاحظ جاء مجزءاً ومفرقاً ولم يكن متفرغاً للقرآن كله بل لبعض من آياته _كما يبدو _ وذلك من خلال معالجاته البيانية في نظم القرآن والبيان والتبيين. حتى إذا برز الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت: 471ه‍)، في كتابيه: دلائل الأعجاز و أسرار البلاغة فكانت الحال مختلفة، فالجرجاني عالم واسع الثقافة، مرهف الحس، متوقد الذكاء، وقد استخدم ذلك في استنباط الأصول الاستعارية والأبعاد التشبيهية، والمعالم المجازية لآيات القرآن الكريم، وأخضعها باعتبارها نماذج حية للتطبيق العلمي، وهذه النماذج تتضح بها معاني القرآن في صوره البيانية، وجوانبه الفنية، فهو أوسع بكثير من الجاحظ في هذا المضمار، إلا أن الصورة التكاملية للقرآن مفقودة في كلا الكتابين على عظم قدرهما البلاغي، ومفتقرة إلى السعة لتشمل القرآن أجمع، حتى إذا جاء جار الله الزمخشري (ت: 538ه‍)، فتح لنا عمق دراسة جديدة في البلاغة القرآنية التطبيقية، انتظمت على ما ابتكره عبد القاهر الجرجاني، وما أضافه هو من نكت بلاغية، ومعان إعجازية، اعتمدت المناخ الفني فعاد تفسيره المسمى الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل كنزاً من المعارف لا تنتهي فرائده، وقد تجلى فيه ما أضافه من دلالات جمالية في نظم المعاني، وما بحثه من المعاني الثانوية في تقديم العبارة وعائدية الضمائر، والتركيب اللغوي، وتعلق العبارة بعضها ببعض من وجهة نظر بلاغية تعتمد على عنايته بالكناية والاستعارة والتشبيه والمجاز والتمثيل والتقديم والتأخير، عناية فائقة فهو يفصل القول في الفروق المميزة بينها، ويشير من خلالها إلى المعاني الثابتة، وهو كثير التنقل بالألفاظ القرآنية من الحقيقة إلى المجاز، إذا كان المعنى الحقيقي يختلف عن نظريات المذهب المعتزلي وصميم أفكاره ونكاد نقول: إنّ خير تفسير في العربية تحدث في بلاغة القرآن، وأعجازه وسر نظمه وروعة أدائه هو تفسير الزمخشري وكم كنا نود لو برئ من الهوى، إذ كان تفسيره الأول والأخير في عالم التفاسير. وقد أخضع تفسيره هذا للوجهة الكلامية عند المعتزلة ودافع عنها، وحمل عليها كثيراً من الآيات القرآنية وأضاف إليها الدلالات النفسية التي تستنبط كمعنى آخر للآية، أو كوجه ثان لها، فكأنه يبحث عن معنى المعنى الذي قرره عبد القاهر الجرجاني في دلائل الأعجاز. وللزمخشري إشارات دقيقة في التنكير والتعريف، والفصل والوصل، والمجاز اللغوي والمجاز العقلي وفي التمثيل والتشبيه. وامتاز الزمخشري على عبد القاهر. إن عبد القاهر قد وجه عنايته بنظريته إلى المعاني ومدى علاقتها بالنظم، ولم يعر أهمية لبديع القرآن، بينما اهتم بذلك الزمخشري وجعله أساساً يندرج تحت مفهوم البيان باعتبار البديع أشكالاً وقوالب وصوراً، تفنن بها القرآن وأبرزها على نحو فني تتميز به أساليب القول.

وبعد هذا، فلا نغالي إذا قلنا: إنّ الزمخشري من أوائل العلماء البلاغيين الذي كرسوا الجهد في الكشاف لاستجلاء الأعجاز من خلال الاستعمال البياني في التفسير، وله لقطات أجاد بها في كثير من المواضع ففي قوله تعالى (الرحمنُ على العرشِ استوى) يبحث موضوع الاستواء والعرش في ضوء ما تستعمله العرب من المجاز والكناية، ويضرب لذلك الأشباه والنظائر من القرآن وأقوال العرب فيقول: لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك، مما يردف الملك، جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون ملك، وان لم يقعد على السرير البتة، وقالوا أيضاً لشهرته في ذلك المعنى، ومساواته ملك في مؤداه، وان كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر، ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة بمعنى أنه جواد أو بخيل، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت، حتى أن من لم يبسط يده قط بالنوال، أو لم تكن له يد رأساً قيل فيه يده مبسوطة، لمساواته عندهم قولهم هو جواد، ومنه قول الله عز وجل: وقالت اليهود يد الله مغلولة _أي هو بخيل بل يداه مبسوطتان _أي هو جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط، والتفسير بالنعمة والتمحّل للتشبيه من ضيق العطن، والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام.

ومع هذا لم يسلم هذا الكتاب القيم من الطعن، فقد حمل عليه قاضي الإسكندرية: أحمد بن محمد بن منصور المنير، وناقشه بكثير من آرائه المذهبية بكتاب اسمه: الانتصاف.

وقد سار على نهج الزمخشري في استجلاء الصور البيانية للقرآن الكريم جمع من المعاصرين، وتفوق عليه بعضهم بتحقيق أجزاء من الصورة الفنية للقرآن التي ترسم المواقف، وتصور المشاهد، وتشخص العقليات، حتى عاد ما كتب حديثاً، منهجاً جديداً في إضافته يمثله كل من:

 

1-  الأستاذ أمين الخولي في: محاضرات في الأمثال القرآنية ألقاها على طلبة الدراسات العليا في كلية الآداب جامعة القاهرة/ مخطوط.

2-  الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ في:

أ‌-        التفسير البياني للقرآن الكريم.

ب‌-   الأعجاز البياني للقرآن الكريم.

3-  محمد حسين علي الصغير (المؤلف) في:

الصورة الفنية في المثل القرآني/ دراسة نقدية وبلاغية.

المنهج الصوفي أو الباطني للتفسير

ولا يراد به تفسير تلك الطبقة التي بلغت من النقاء والصفاء ما امتزجت به، بالحب الإلهي المطلق أو الجمال الروحي المحض، وإنما المراد به تلك الآراء الغريبة التي تفسر القرآن تفسيراً باطنياً بعيداً عن ظواهر الكتاب، ودلالة السنة، وسيرة المتشرعة، ففسروا القرآن بأهوائهم حتى حملوا الشريعة – والقرآن مصدرها الأول – على أفكار اتسمت بالحلول تارة. وقالت بالتجسيد تارة أخرى معتمدين على فيوضات والهامات تخيلوها عين الصواب، وهي مجانية للرشد ومنحرفة عن الصراط المستقيم.

ويعدل في أغلب هذا المنهج عن الظواهر العربية وينتقل به من الماديات إلى المعنويات ويفسر الحسي بالعقلي، والملموس بالذهني.

وإمام هذا الفن هو الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي (ت: 638 هجري) في تفسيره للقرآن، وبه يذهب إلى التفسير تفسيراً عرفانياً تارة، وباطنياً صوفياً تارة أخرى، ويومي إلى الإشارات أحياناً، مما خالفه به كثير من الباحثين، ونحن لا نحمل أقواله إلا على المحمل الحسن. ففي قوله تعالى: (ولاتأكُلُوا أمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالباطِلِ وَتُدْلُوا بِها الى الْحُكّامِ) يقولون: لا تأكلوا معارفكم ومعلوماتكم بباطل شهوات النفس ولذاتها، بتحصيل مآربها، واكتساب مقاصدها الحسية والخيالية باستعمالها وترسلوا إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء.

وفي قوله تعالى: {إنَّ أوّلَ بَيْتٍ وُضَعَ لِلنّاسِ لَلّذي بَبكّةَ مُبارَكاً} يرى أن البيت هنا إشارة إلى القلب الحقيقي.

وفي قوله تعالى: {يآيُّها الّذينَ آمَنواْ إذا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم وَأيديَكُم إلى الْمَرافَقِ}.

يقول: إذا قمتم: انبعثتم عن نوم الغفلة، وقصدتم إلى صلاة الحضور والمناجاة الحنيفية، والتوجه إلى الحق، فاغسلوا وجوهكم، أي طهروا وجود قلوبكم بماء العلم النافع الطاهر المطهر، من علم الشرائع والأخلاق والمعاملات التي تتعلق بإزالة الموانع عن لوث صفات النفس (وأيديكم) أي: وقدركم عن دنس تناول الشهوات والتصرفات في مواد الرجس إلى المرافق إلى قدر الحقوق والمنافع.

إن هذا التجوز الفضفاض في الكلمات والمعاني والدلالات جعل كثيرا من العلماء يصفون الصوفية بالجهل تارة وبالكفر تارة أخرى.

قال الزركشي: فأما كلام الصوفية في تفسير القرآن، فقيل ليس تفسيراً، وإنما هي معان ومواجيد، يجدونها عند التلاوة كقول بعضهم في: {يأيّها الّذينَ آمَنُوا قَاتِلوا الّذينَ يَلونَكُم مِن الكُفّار}.

إن المراد النفس، فأمرنا بقتال من يلينا، لأنها أقرب شيء إلينا، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه.

وحجة الصوفية في منهجهم التفسيري المعتمد على الباطن رواية يروونها عن رسول الله (ص):
(لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولك حد مطلع)، وبنوا على هذا منهجهم الغريب، ولعل المراد بالحديث غير ما يذهبون إليه، وقد عالج ذلك الشيخ الطوسي والسيوطي.

وحملاه على وجوه بعيدة عن الفهم الصوفي. بينما دافع عن وجهة نظر بعض التفسير غير الظاهري الشيخ تاج الدين بن عطا اللّه الإسكندري (ت: 709هجري) فقال:

اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام اللّه وكلام رسوله بالمعاني العربية، ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان، وتم إفهام باطنه تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه وقد جاء في الحديث: (لكل آية ظهر وبطن) فلايصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة: هذا إحالة لكلام اللّه وكلام رسوله، فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا، وهم لم يقولوا ذلك، بل يقرون الظواهر على ظواهرها مراداً بها موضوعاتها، ويفهمون عن اللّه تعالى ما أفهمهم.

إن علماء الشرع قد يقبلون بعض التفسير الصوفي، أو الاشاردي أو الرمزي إذا توافرت فيه شروط أربعة:

1ـ أن لا يكون التفسير منافياً لظواهر النظم القرآني.

2ـ أن يكون شاهد شرعي يؤيده.

3ـ أن لا يكون له معارض شرعي أو عقلي.

4ـ أن لا يدّعي إن المراد وحده دون الظاهر.

ولعل هذا التقرير هو أسلم الوجوه في قبول أو رد التفسير الصوفي أما غرائب التفسير، وشواذ التأويل فلا تؤخذ بعين الاعتبار ولا يقوم دليل نصي أو تاريخي على صحتها، ومن ذلك ما حكاه الكواشي في تفسيره عن قول من قال في (رَبّنا وَلا تُحَمِلنا مَا لا طَاقّةَ لنا بِهِ).

 

انه الحب والعشق.

فهذا واضح أن مما لم ينزل الله به من سلطان ولا يعد من التفسير بشيء بل القول به لا يخلو من السذاجة المخلة أو الحمق المفرط، ويجب تنزيه القرآن عن هذا المستوى المتهافت.

وليس التفسير الفلسفي أو العرفاني، من هذا المنهج بل هو تفسير مزج إلى جنب الحب الإلهي الحسي الفلسفي، وجمع بين الحكمة والفكر الإشاري، فهو يجنح إلى الفلسفة من وجه، والى عوالم الإلهام من وجوه، أثر في المنهج الأفلاطوني حيناً، والمنهج الإسلامي حينا آخر، فقد يحتج لفكرة فلسفية في القرآن فنجد تتابع الألغاز، وترادف المعميات كما هو الحال عند متتبعي النهج الفلسفي، فنجد الفارابي (ت: 339 هجري) لدى احتجاجه على فكرة واجب الوجود وقدم العالم في تفسيره قوله تعالى:(هُوَ الأوّلُ وَالآخِرُ).

 

يقول الفارابي:

إنه الأول من جهة انه منه، ويصدر عنه كل موجود لغيره وهو أول من جهة أنه أول بالوجود لغاية قرب منه، أول من جهة أن كل زماني ينسب إليه يكون فقد وجد زمان لم يوجد معه ذلك الشيء ووجد إذ وجد معه لا فيه، هو أول لأنه إذا اعتبر كل شيء كان فيه أولاً أثره، وثانياً قبوله لا بالزمان. هو أخر لأن الأشياء إذا لوحظت ونسبت إليه أسبابها ومبادئها وقف عنده المنسوب، فهو آخر لأنه الغاية الحقيقية في كل طلب.

فهو يعني هنا أن العلة الكاملة التي هي ذات الله تعالى هي نفسها مصدر إيجاد الممكنات المشتملة على كل شيء عدا الباري عز وجل. فهذا وإضرابه من التفسير يعتبر منهجا فلسفياً وليس باطنياً، وقد نجد من يتجه اتجاها عرفانياً في تفسيره، ولكنه يسير في حدود يفسح فيها المجال في صياغة العبارات الواضحة، ولكنها سابحة في مناخ الحب الإلهي كما هو الحال عند البروسي، والنيسابوري في تفسيريهما.

وقد تبين لنا مما تقدم إننا لا نريد بهذا المنهج: المنهج العرفاني أو الفلسفي أو الصوفي بمعناه المتطور، وإنما نريد المنهج الباطني فحسب، وإنما سميناه: المنهج الصوفي أو الباطني لأن القدامى ممن كتب في علم التفسير وعلوم القرآن كالزركشي والسيوطي مثلا، قد تعارفوا فيما بينهم على تسميته بالمنهج الصوفي أو بالتفسير الصوفي وهم يريدون بذلك المنهج الباطني الذي لا يستند على قاعدة من لغة أو نص أو شرع:

وتسميته بذلك من باب التجوز في الألفاظ، والتوسع في المعاني.

 

المنهج العلمي للتفسير

وهو المنهج الذي يذهب إلى استخراج جملة العلوم القديمة والحديثة من القرآن، ويرى في القرآن ميداناً يتسع للعلم الفلسفي والصناعي والإنساني في الطب والتشريع والجراحة والفلك والنجوم والهيئة وخلايا الجسم، وأصول الصناعات، ومختلف المعادن فيجعل القرآن مستوفياً بآياته لهذه الحيثيات بل متجاوزاً لها إلى العيافة والزجر والكهانة والطيرة، والضرب بالحصى، والخط على الرمل، والسحر والشعبذة مما حرمه الإسلام وعارضه القرآن.

ولعل الغزالي (ت: 505ه‍) هو أول من استوفى القول في هذا المجال، وذهب في فهم القرآن إلى أن كل ما أشكل فهمه على النظار واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه.

وقد اعتبر جماعة من العلماء هذا تعميماً مبالغاً فيه، مما جعلهم يلجأون إلى إنكار التفسير العلمي جملة وتفصيلاً بل ويحملون على القائلين به حتى عدّ عملهم هذا من المغالاة التي لا طائل معها، بينما اعتبره الآخرون ليس بذي جدوى على القرآن، والقرآن غني عن هذا التكليف الذي يوشك أن يخرج به عن هدفه الإنساني الاجتماعي في إصلاح الحياة.

وممن اشتهر بالتفسير العلمي حتى عاد به متسماً، العالم المصري الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره (الجوهر في تفسير القرآن الكريم المشتمل على عجائب بدائع المكونات وغرائب الآيات الباهرات) فقد حشده بالعلوم الطبيعية والكونية والنفسية والصناعية، وعالج به المكتشفات والاختراعات العصرية، وتناول به الطب والتشريح والجبر والهندسة والفيزياء والكيمياء وعلم النبات والأحياء والتواريخ. فهو يضع الآية على بساط البحث أدبياً وفلسفياً وعلمياً ثم يتبعها بحكايات وأحاديث وعجائب ولطائف على حد تعبيره، ثم يسرد لازم الحكاية ومتعلقها، ومباحث العلم الحديث فيها روحياً أو جغرافياً أو فلكياً أو تشريحياً أو صناعياً أو طبياً أو هندسياً، حتى يحمل النص أكبر مما ينبغي أن يبحث عنه، بل حتى ينتقل بالقرآن من مهمته التشريعية إلى مهمات جانبية أخرى، ويقصد من وراء هذا كله إلى تيسير الفهم العصري للقرآن، أو مواكبة القرآن للعلم الحديث، أو ضرورة تلقي المسلمين لجميع هذه العلوم، أو لاعتقاده بأن القرآن بعد إشارته لهذه العلوم فهو يريد معرفتها والتخصص في جملتها، ثم يشرع في بلورة كل ذلك بأسلوب إرشادي ودعائي مطول يتوسع فيه توسعاً شاملاً، ففي حديثه عن جزء آية من قوله تعالى:

{وَمِنْ أَيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّليلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ}.

يبحث نوم الإنسان في الليل والنهار، وحل ابن سينا للمعضلات العلمية أثناء النوم، وما ذهبت إليه نظرية أنشتاين، والمراد الكنائي لمعنى النوم ما دام العلم قد كشفه مما يعتبره معجزة، ثم ينتقل إلى بحث ثلاث عجائب، الأولى في حياة روحية لأحلام اليقظة، يتناول بها الانتقال الفكري والتباين والنظر المضاعف مستنداً في ذلك إلى كتب روحية ومجلات علمية وأمثال ذلك، والعجيبة الثانية في اكتشاف جريمة غريبة بعد عشر سنوات عن طريق الرؤيا والأحلام، والعجيبة الثالثة في حيوان يبقى إحدى وثلاثين سنة بلا طعام أو هواء ويظل حياً، ثم يسرد بعض مقالات إخوان الصفاء في المقام إتماماً للفائدة كما يقول ويتعرض لنوم الطيور والحيوانات من هذا الخلال، ثم يبحث موضوع: كيف يمكنك أن تفسر ما تراه كل يوم من الظاهرات الكيمائية. ويعرض لكائن حي يعيش ألف سنة ثم يتبع ذلك بزيادة إيضاحية للمراد من جزء الآية، ويأتي على حياة الحبوب وأصل النبات، وإن لذلك حياة ضئيلة كحياة النائم، ثم يسرد تجارب أهل الهند قديماً، بعد كل هذا التفصيل والتشريق والتغريب يعقد عدة مباحث للموضوع نورد بعضها: الكلام على النوم وساعاته وما يناسبه، النوم وحاجة الإنسان الشديدة له، أوقات النوم وعدد ساعاته، فراش النوم، تجديد الهواء في قاعات النوم والفراش، ثم الكلام على الحركات المختلفة النافعة لصحة الإنسان تفسيراً لقوله تعالى: {وَابْتِغاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ}.

إن هذا الابتغاء إنما يكون بالحركة، ويورد ما جاء في كتاب: قانون الصحة المنزلية للأستاذ (جون سايكس من مباحث تتعلق في هذا الباب) وهي: الرياضة البدنية، فوائد الرياضة البدنية، أنواع الرياضة البدنية المختلفة، العوم والتجديف، ركوب الدراجات، المشي، الجمباز، التمرينات الحربية، ركوب الخيل، الصلاة.

فهذا الجزء من الآية قد استوعب هذه العناوين، واستغرق عدة صفحات كبيرة، وعلى هذه فقس ما سواها.

وباستقراء هذا المنهج نجده يحتوي على علوم عدة، ومباحث جمة لا علاقة لأغلبها بفن التفسير، حتى يصح لنا أن نقول أن في كتاب الجواهر كل شيء إلا التفسير.

وقد سار على منواله جمع من المثقفين المعاصرين ممن يعرفون بسلامة القصد في هذا المجال، كالأستاذ عبد الرازق نوفل في القرآن والعلم الحديث، والأستاذ عبد الغني الخطيب في: أضواء من القرآن على الإنسان ونشأة الكون والحياة، والأستاذ مصطفى محمود في عدة كتب. وقد توصل الجميع في ذلك إلى عدة آراء صائبة، خلاصتها أن القرآن يواكب العلم، وهذا أمر لا ريب فيه، ولكنه ابتعاد في القرآن عن منهجه وغايته العليا. نعم يجوز لنا أن نطلق على هذا وإضرابه اسم المنهج الموضوعي، لو اختيرت مواضيع من القرآن تبحث في الكون والحياة والسماء والعالم والفلك والطب وكتبنا فيها كلا على حدة مما يعني مشاركة القرآن في إرساء قواعد هذه العلوم، وهذا مما لا مانع فيه.

 

المنهج التاريخي للتفسير

للمنهج التاريخي عدة دلالات سنعرضها على التوالي:

أ ـ يميل بعض الباحثين إلى تفسير القرآن تفسيراً تاريخياً، ويعنون بذلك تفسيراً زمنياً بحسب مراحل النزول، وهذا يعني الابتداء بسورة العلق تفسيراً والانتهاء بآية الكمال للدين والإتمام للنعمة، أو بالآية (281) من البقرة على اختلاف الأقوال في أوائل النزول وخواتيمه طيلة ثلاثة وعشرين عاماً.

وهذا المنهج مع أنه شاق في العمل، فهو عمل غير مثمر وغير مجد من عدة وجوه:
الأول: أشكال حصر الترتيب الزمني لانقطاع الرواية في ذلك لاسيما وأن الاختلاف واقع حتى في أوائل ما نزل منه وخواتيمه، فكيف بالقرآن كله وغاية ما ضبط العلماء مكيه من مدنيه على اختلاف في جملة عديدة من الآيات.

الثاني: لو تم هذا المنهج، لكنا قد جزّأنا القرآن ورتبناه ترتيباً جديداً يتنافى مع ترتيبه التوقيفي الذي أجمع عليه العلماء، أي أن ترتيب السور بموضعها من المصحف، وترتيب الآيات بمواضعها من السور عمل توقيفي من الله تعالى، ولا يجوز لأحد أن يضع شيئاً منه مكان شيء آخر على أرجح الأقوال.

الثالث: تشويه التسلسل الترتيبي الذي عليه المصحف الآن بما لا مسوغ له شرعاً وعرفاً وذائقة فنية، مما يجعل النظم القرآني مفككاً، والوحدة الموضوعية متلاشية، وهو أمر حدب على تبويبه القرآن الكريم.

إن الدعوة إلى هذا المنهج بهذا الفهم والمراد لا تحظى بكثير من التأييد، ولا تتسم بطابع من الموضوعية، فليس القرآن حوادث بمجموعه حتى تنظم تاريخياً، ولا وقائع حتى ترتب زمنياً، ولم أجد من المفسرين من التزم بهذا المنهج أو سار على غراره، نعم قد يتفق أن تكون بعض الحوادث متعاقبة الوقوع فتفسر تاريخياً وهذا من الندرة بمكان، وان كان لا مانع فيه.
ب ـ نعم هنالك جانب تاريخي في القرآن لم يستهدف كما أراده الإسلام، وهو الجانب التطبيقي في تواريخ الأمم السابقة والقرون الغابرة، وذلك باستخدام القياس التمثيلي عليها، وإدانة الشاهد بحسب جرائم الغائب على أساس ما ورد في ظلم الظالمين والجبروت في الأرض، والطغيان الفردي الذي اتسم به كل من فرعون وهامان وقارون واضرابهم، فيدان كل ظالم على أساس ما ورد بتاريخ هؤلاء، والأمور تقاس بنظائرها وكذلك الحال بالنسبة للأمم المتعاقبة كمدين وعاد وثمود وبني إسرائيل وتحذير كل أمة ممّا أصاب تلك الأمم في ضوء التفسير التاريخي لأعمال أولئك، وهذا تفسير حيوي تحذيري من صميم أهداف القرآن، ومقتضيات تأصيله لقضايا كل زمان ومكان في الاستفادة من العبر، والقياس على الأمثلة، والاعتبار بما مضى، لصيانة ما بقي.

ج‍ ـ وقد يراد بالمنهج التاريخي غير هذا وذاك مع مناقشتنا للأول، وإقرارنا للثاني، بل يراد به تفسير القرآن باعتبارات تاريخية تنظر إلى الأمة التي نزل فيها وإلى لغة تلك الأمة، وكيف طور هذا القرآن من دلالاتها اللغوية فاكسبها تصرفاً جديداً تلقاه المستعملون لهذه اللغة بالقبول والتطوير، فكانت اللغة أداة للتعبير عن قيم وحضارات لا يمكن تجاهلها.

 

المنهج الموضوعي للتفسير

ويميل الأستاذ أمين الخولي رحمه الله تعالى: إلى دراسة القرآن موضوعاً موضوعاً، لا أن يفسر على ترتيبه في المصحف الكريم سوراً، أو قطعاً، وأن تجمع آياته الخاصة بالموضوع الواحد جمعاً إحصائياً مستفيضاً، ويعرف بترتيبها الزمني، ومناسباتها وملابساتها الحافة بها، ثم ينظر فيها بعد ذلك لتفسر وتفهم، فيكون ذلك التفسير أهدى إلى المعنى، وأوثق في تجديده.

وهذا الرأي يعني أن يقوم جملة من المتخصصين على دراسة شذرات ونجوم من القرآن كل حسب تخصصه، فيجمع مادة موضوع من مواضيع القرآن ويستقصيها إحصاء لتكون هيكلاً مترابطاً يشكل وحدة موضوعية متكاملة واحدة، ثم يقوم بتفسيرها بحسب منهجه فالمتخصص بالأحكام يبحث آيات الأحكام والمتخصص بالعقائد يحصي آيات العقائد وهكذا… فالفن القصصي في القرآن يفرد في مبحث خاص، والبعد التشبيهي يبحث في كتاب، والمثل القرآني يصدر في رسالة وهكذا… وقد استجاب لهذا المنهج عدد غير قليل من الأساتذة بالجامعات في الوطن العربي، فوجهوا طلابهم في الدراسات العليا لاحتضان هذه الفكرة فتخصص قسم منهم بأجزاء من القرآن الكريم بدراسته موضوعياً.

والسير بهذا المنهج يغني الباحث والطالب في سبر المواضيع والإطلاع على أسرار القرآن العظيم مبوية وممنهجة، لاسيما وأن السلف قد سار على طريقة تفسير سوره وآياته بحسب ورودها من المصحف، وفي ذلك غنى واكتفاء لطالبي المنهج السابق، والمنهج الحديث ييسر كثيراً من الجزئيات المتناثرة، ويقوم بعملية التقاء ووصلة لآخر الموضوع بأوله، ولشارده بوارده.

وفي هذا المنهج كشف للصور المتعددة من الموضوع الذي يعرض له القرآن أكثر من مرّة، كالحديث عن موسى وبني إسرائيل مثلاً، إذ يقوم المفسر التقليدي بالحديث عنها في جزء من التفسير والعودة إليه في جزء آخر، بينما يقوم هذا المنهج بإحصائها وترتيبها، ويكشف بذلك قدرتها على استنباط حقائق الأشياء بالصور المختلفة التي حاولها القرآن بحسب مناسبة النزول وقرائن الأحوال، وهنا يظهر العمق البلاغي للقرآن أكثر فأكثر، حيث يكون الإلمام بالموضوع، والإحاطة به قد استوعبا جميع الجهات والوجهات فيصبح التفسير جامعاً مانعاً.

وقد سبق بعض الأوائل إلى هذا المنهج من حيث لا يقصدون، ولعل من أهم مظاهر هذا المنهج عندهم هو التفسير التشريعي الذي عني بفقه القرآن وأحكامه، وقد عاد مناخاً للكشف عن الخلاف المذهبي عند المسلمين، فكل يعزز وجهة نظره الفقهية، وكل يلتمس الدلائل القرآنية التي تؤيد رأياً يميل إليه، فعاد كل تفسير من هذا النّوع سجلاً لفتاوى مذهب مؤلفه، حتى وضح فيه التعصب المذهبي والخلاف بالأحكام الشرعية، وقد تطرف به البعض حتى عاد تفسيره أداة لنفي آراء بعض المسلمين واثبات الأخرى، فحمل قويهم على ضعيفهم، ولجت مع هؤلاء وهؤلاء السياسة المعاصرة لكل منهم فأثبتت ما أرادت، ونفت ما يعارض مصلحتها، فتكوّن بذلك مزيج مما اختطت المذاهب وارتأت السياسة.

ومع ما تقدم، فإن هذا المنهج قد كشف عن قدرات اجتهادية في الاستنباط والقياس ووجوه اعتماد الأحكام.

ونحن نورد هنا أهم ما أطلعنا عليه من هذه التفاسير:

1ـ للحنفية عدة تفاسير في الموضوع أهمها:

أ ـ أحكام القرآن للجصاص.

ب ـ التفسيرات الأحمدية في بيان الآيات الشرعية لأحمد بن سعيد.

2ـ وللجعفرية عدة تفاسير أهمها:

أ ـ كنز الفرقان في فقه القرآن، للمقداد السيوري.

ب ـ فقه القرآن، لقطب الدين الراوندي.

ج‍ ـ زبدة البيان في أحكام القرآن ـ للأردبيلي:

د ـ قلائد الدرر في تفسير آيات الأحكام بالأثر، للشيخ أحمد الجزائري النجفي.

3ـ وللمالكية عدة تفاسير أهمها:

أ ـ أحكام القرآن، لأبي بكر بن العربي.

ب ـ الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، وهو تفسيره الشهير، ويؤكد فيه على جانب الأحكام واستخلاصها.

4ـ وللحنابلة عدة تفاسير أهمها:

الإكليل في المتشابه، والتنزيل، لأحمد بن تيمية.

5ـ وللشافعية عدة تفاسير أهمها:

أ ـ أحكام القرآن، لأبي الحسن الطبري المعروف بالكيا الهراسي.

ب ـ القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز، لأحمد بن يوسف الحلبي.

6ـ وللزيدية عدة تفاسير أهمها:

أ ـ منتهى المرام، شرح آيات الأحكام، لمحمد بن الحسين.

ب ـ الثمرات اليانعة والأحكام الواضحة القاطعة، لشمس الدين بن يوسف.

وهكذا الحال عند الخوارج، وأهل الظاهر لكل تفسير المذهبي الخاص بأحكامه.

 

عن موقع مجلة التقريب نت

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً