إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم إطلاقاً جوهر الحداثة الغربية، ولن نعرف كيف نتعامل معها أو نحاورها. فالفلسفة الوضعية التي رافقت صعود العصر الصناعي في الغرب كانت تعتقد بأن على العلم أن يحل محل الدين كذروة عليا لتشريع المعرفة وكل نشاط بشري على وجه الأرض. وهذه الثقة بالعلم والتكنولوجيا كانت مطلقة في ذلك الوقت. بعدئذ سوف تحصل الصدمات والخيبات، وسوف نكتشف أن العلم ليس كله خيراً وإنما له جوانب سلبية أو ضارة أو مدمرة أحياناً. لنفكر، ولو للحظة هنا، بالقنبلة الذرية التي أُلقيت على هيروشيما وناغازاكي أو بالأسلحة الجرثومية الفتاكة أو الاستخدامات الحالية لعلم الوراثة والتي تريد استنساخ النبات والحيوان بل وحتى الإنسان!… فالعلم سلاح فعال ذو حدين قد يستخدم في طريق الخير وقد يستخدم في طريق الشر تماماً كالدين.
ولكن في ذلك الوقت، أي في عصر أوغست كونت وأستاذه سان سيمون، ما كانت هذه المسائل تخطر على بال أحد قط. كان العلم يشكل هدفاً مطلقاً. كانوا يريدون الخروج من المجتمع الزراعي، الإقطاعي، الأصولي، المتخلف، والدخول في العصر الصناعي والتكنولوجي المتقدم. كانت البشرية الأوروبية عطشى لتحقيق التقدم على كافة الأصعدة والمستويات. وتحلم بالتوصل إلى عصر مزدهر لا أثر فيه للفقر أو للجوع أو للمرض. فتقدم الطب سوف يقضي على كل الأمراض ويجد علاجاً لكل الآفات.
لكن اوغست كونت، مؤسس الفلسفة الوضعية على أثر سان سيمون، لم يكن يؤمن فقط بالتقدم وإنما كان يركز أيضاً على أهمية الاستقرار والنظام. فالتقدم الذي يعني الانتقال من حالة دنيا إلى حالة عليا أو من حالة متأخرة إلى حالة متقدمة لا ينبغي أن يعني الفوضى والاضطراب. كان كونت مهووساً بمعالجة مسألة الفوضى السياسية والاجتماعية الناتجة عن الثورة الفرنسية. كان يريد أن يغلق مرحلة الثورة والتدمير وينتقل إلى مرحلة بناء النظام والتعمير كما ذكرنا سابقا. وهنا تكمن أهميته وعظمته.
فهو ككل فيلسوف كبير لا يفكر فقط بمصالحه الشخصية وإنما بمصالح الأمة أيضاً. ولهذا السبب عاش فقيراً طيلة حياته كلها، ولولا مساعدة بعض الأصدقاء والمعجبين لربما مات من الجوع.. فمن شدة انهماكه بالمصلحة العامة كاد أن ينسى مصلحته الشخصية وتسوية أوضاعه المادية. وكان يعتقد أن السوسيولوجيا الوضعية ينبغي أن تصالح بين شيئين لكي تستقيم أمور المجتمع: الأول هو التقدم، والثاني هو النظام. كان يقول بما معناه: لا يمكن لأي نظام شرعي أن يقوم ولا أن يدوم إلا إذا كان متوافقاً كلياً مع التقدم. ولكن لا يمكن لأي تقدم أن يحصل بفعالية إلا إذا أدى إلى ترسيخ النظام أو استتباب الأمن والنظام. كان كونت يتصور الأمور على النحو التالي: بعد المرحلة السلبية، ولكن الضرورية للثورة وتقويض النظام القديم، فإنه قد آن الأوان للانتقال إلى المرحلة الايجابية: أي مرحلة النظام والتعمير. فلا يمكن لفرنسا أن تعيش كل عمرها على الخضَّات الثورية والانقلابات. ولكن قبل بلورة سياسة جديدة فإنه ينبغي علينا أن نفهم الواقع أولاً. وعندئذ تكون السياسة مبنية على المعرفة العلمية الدقيقة بتركيبة المجتمع.
في الواقع إن كونت نقل المنهجية التجريبية من ساحة العلوم الفيزيائية لكي يطبقها على المجتمع نفسه ومختلف الظواهر الإنسانية. وهنا تكمن إحدى الميزات الأساسية للفلسفة الوضعية. فهي فلسفة علمية دقيقة لا تؤمن إلا بالحسابات والمعادلات الرياضية والقوانين الفيزيائية. إنها فلسفة مهووسة باكتشاف القوانين، سواء أكانت القوانين التي تتحكم بالظواهر الطبيعية والفيزيائية، أم القوانين التي تتحكم بتصرفات البشر وعقليتهم.. وكان كونت يعتقد أن البشرية كلها سائرة لا محالة باتجاه المرحلة الوضعية أو العلمية المحضة. ولكنها لن تتوصل إليها في نفس اللحظة. فالمجتمعات الأوروبية أو الغربية سوف تسبق غيرها إلى ذلك.
ولكن على الرغم من ألمعيَّته وعبقريته فإن دروس اوغست كونت عن الفلسفة الوضعية لم تلق إلا نجاحاً محدوداً لدى فئة من الأتباع الخلَّص.. وقد صدرت الأجزاء الستة منها وسط الإهمال واللامبالاة العامة. وبالتالي فلا ينبغي أن نتوقع أنه كان مشهوراً في عصره. فالواقع أن شهرته لم تنفجر إلا بعد موته. صحيح أن بعض العلماء والمثقفين الكبار كانوا يعرفون من هو، ولكن الجمهور العام لم يسمع باسمه إلا بعد فوات الأوان. كان كونت فقيراً، معزولاً، واقعاً باستمرار تحت تأنيب زوجته “كارولين” التي لم تغفر له فشله المستمر في ترشيح نفسه لمنصب الأستاذية في الجامعة. لنتصور الآن هذا الوضع الغريب الذي لا يكاد يصدق: اوغست كونت، الفيلسوف الأهم في عصره والمجدد الكبير، ليس أستاذاً جامعياً، وعشرات الناس العاديين أساتذة مرموقين في الجامعة الفرنسية!! … ولكنه فوجئ عام 1841 بنبأ سعيد قوّى معنوياته. فقد تلقى رسالة إعجاب حقيقية من الفيلسوف الإنجليزي الكبير جون ستيوارت ميل. وقد عبَّر له هذا الأخير عن سعادته للاطلاع على أعماله التي يعتبرها إحدى قمم الفلسفة الحديثة. فهل هذه هي بداية الاعتراف به؟ هل سيقطف ثمار عبقريته وجهده بعد طول انتظار؟ في الواقع أن سعادته لم تدم طويلاً. فها هي زوجته كارولين تقرر تركه ومغادرة البيت إلى غير رجعة! والحال هو أنها كانت قد هربت في السابق أكثر من مرة، ولكنها كانت تعود إلى البيت بعد فترة قد تطول أو تقصر. أما هذه المرة فإنها لن تعود. ولكنها سوف تظل تراسله على مدار السنوات. فحبهما كان من النوع الذي لم ينطفئ جيداً… لقد ظل لهبه مشتعلاً تحت الرماد… و الدليل على ذلك هو أن كارولين ظلت تعود لحضور دروسه في إحدى كنائس باريس. كانت تجلس بين الحضور كمستمع عادي مثلها في ذلك مثل أي شخص آخر. فلماذا كانت تعود؟ هل تفهم في الفكر أو في الفلسفة يا ترى؟ أم أن حنينها إلى هذا الرجل المريض والعبقري أكبر من أن يقاوم؟ لا أ حد يستطيع الجواب على هذا السؤال.
مهما يكن من أمر فإن الجامعات الفرنسية ظلت ترفض طلباته المتكررة لكي يصبح بروفيسوراً. وفي كل مرة كان يُمنَى بالخيبة ويشعر بأن قيمته لم تُقَدَّر ولم تحترم. ولكنه في عام 1843 فقد حتى منصبه كمصحح للأوراق، أوراق الامتحانات! وهو منصب متواضع ولكنه كان يؤمن له مبلغاً من المال. وعندئذ استنجد بالفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل، وكان غنياً. فهبَّ بكل شهامة لمساعدته، بل وطلب التبرعات من بعض الشخصيات الكبرى في انجلترا. ثم أرسل له المال المتجمع لكي يعيش عليه حتى مات. فبعض الناس يعرفون قيمة المفكرين، وما كان ممكناً ترك كونت يموت من الجوع قبل أن يكمل مهمته أو رسالته.
وفي عام 1844 شهدت حياة فيلسوفنا منعطفاً مهماً على كلا الصعيدين الفكري والحياتي. فبعد أن أسس علم البشرية من خلال كتابه الضخم “دروس في الفلسفة الوضعية”. راح يتنطَّح للمهمة التالية ألا وهي: تأليف كتاب بعنوان “نظام السياسة الوضعية”. وكان يهدف به إلى تأسيس ليس فقط سياسة جديدة وإنما أيضاً دين جديد للبشرية، دين يحل محل اللاهوت المسيحي القديم الذي “أكل وقته” كما يقال. ولكن في هذه الفترة بالذات حصل حادث استثنائي غيَّر مجرى حياته وأثر أكبر التأثير على فلسفته اللاحقة. لقد أثر عليه إلى درجة أن بعضهم راح يتحدث عن كونت الأول، وكونت الثاني. بل وراح بعض تلامذته يتراجعون عن تأييده لأنه خان فلسفته الأولى أو تراجع عنها بحسب رأيهم. ما هو هذا الحدث الخطير الذي هزّ أوغست كونت هزا؟ إنه حدث عاطفي بحث أو قصة حب عذرية بالكامل! وبالتالي فمفاجأتنا مع هذا الرجل الغريب الأطوار لم تنته كليا بعد. فقد التقى صدفة بفتاة تصغره بسبعة عشر عاماً ووقع في حبها بشكل صاعق. وكانت بنت عائلة أرستقراطية محترمة وتدعى “كلوتيلد دوفو”. وعلى الرغم من أنها كانت ضعيفة الصحة بل ومصابة بمرض خطير إلا أن حبه لها كان جارفاً ويتجاوز كل تفسير. وبعد أن أرسل لها رسائل غرامية مشبوبة أجابته قائلة: سوف أكون صديقتك إلى الأبد، ولكن صديقتك فقط، ولن يحصل شيء بيننا. ورد عليها بأنه يقبل هذا الشرط ولا يطلب إلا ودها وصداقتها…
ولكن هذه الضربة العاطفية غير المتوقعة أثرت على مجرى تفكيره وفلسفته. ففي السابق كان يعتقد بأن العلم الوضعي هو الأعلى والأهم بالنسبة للبشرية. ولكنه الآن أصبح يضع العاطفة البريئة فوق العلم وفوق العقل وفوق كل شيء. هذا هو التحول الكبير الذي طرأ على اوغست كونت. قال لها بما معناه: إن كتابي القادم سوف يكون عبارة عن أوبرا ضخمة تعلن الأولوية العليا والاجتماعية للحب الكوني ليس فقط على القوة وإنما أيضاً على العقل. أتوقف هنا لحظة وأقول بأن الحضارة الأوروبية أو الغربية لو اتبعت خط كونت هذا لما فقدت قلبها أو روحها لاحقاً. فالعلم، والصناعة، والتنظيم، والتقدم، كلها أشياء مهمة لتأسيس الحضارة بدون شك. وقد أدت بالفعل إلى تأسيس أكبر حضارة تكنولوجية على سطح الأرض. ولكن ليت أن هذه الحضارة لم تهمل الروح، أو العاطفة، أو القلب. ليتها لم تفرغ نفسها من الحب الكوني الذي دعى إليه اوغست كونت في المرحلة الثانية من حياته الفكرية. كنا عندئذ قد توصلنا إلى حضارة متكاملة مادياً وروحياً، تكنولوجياً وإنسانياً، قلباً وقالباً… ولكن يبدو أن الكمال ممنوع على هذه الأرض.
لو عاملت الحضارة الغربية الشعوب الأخرى بإنسانية مثلا لما شهدنا مرحلة الاستعمار مثلاً وكل المآسي الناتجة عنها. ولما كانت الشعوب العربية والإسلامية سوف ترفض هذه الحضارة أو تنظر إليها نظرة اشتباه وارتياب. ولما كانت حصلت أشياء وأشياء شوهت هذه الحضارة في نظر شعوب عديدة. فالواقع أن هذه الحضارة تحتوي على أشياء كثيرة إيجابية: كالعقلية المنظَّمة، والمنهجية العلمية، والتفكير العقلاني النقدي، والنظافة في الساحات العامة والشوارع والبيوت وكل شيء، والدقة في التعامل والمواعيد، وتقدم الطب والعلاج، الخ… ولكنها فضلت استخدام القوة مع الآخرين أحياناً من أجل الهيمنة عليهم أو استغلالهم. وهذا ما أساء الى الجانب الإيجابي والمشرق فيها. فلم يعد الناس يستطيعون التمييز بين إيجابياتها وسلبياتها. وهكذا راحوا يرفضونها جملة وتفصيلاً. وكان موقفاً متطرفاً بدوره أيضاً، بل وضاراً بالنسبة لنا. فالتفاعل مع الحضارة، أو مع الأشياء الإيجابية فيها، يبقى هو الطريق الصحيح من أجل تقدم شعوبنا ومجتمعاتنا.
مهما يكن من أمر فإن اوغست كونت راح يتخلى عن خط القوة لكي يتبنّى خط الحب، هذا الحب الكوني الذي يشمل البشرية جمعاء. والفضل في ذلك يعود إلى قصة حب شخصية وعذرية طرأت على حياة هذا الفيلسوف المنعزل والمنخرط في بحوثه الوضعية الجافة. وهكذا أصبح صوفياً يمجد القيم المثالية بعد أن كان مشغولاً فقط بتأسيس الحضارة العلمية التكنولوجية: أي حضارة القوة والسيطرة ليس فقط على الطبيعة وإنما أيضاً على البشر. لقد استفاق كونت من غفلته وعرف أن هناك قيماً أخرى في الحياة غير قيم الصناعة والتكنولوجيا والتقدم المادي. ولكن للأسف فإن الحضارة الغربية لم تتبع كونت الثاني وإنما ظلت متعلقة بكونت الأول. بل واعتبرت أن كونت الثاني خان كونت الأول كما سبق وقلنا…
ولكن ملاحقته لهذه الحبيبة العذرية أزعجت عائلتها فطردوه من المنزل ومنعوه من رؤيتها. وبعد أن دافع دفاعاً مستميتاً عن حقه في التواصل البريء معها سمح له والدها برؤيتها وهي على فراش الاحتضار! وكان منظراً مؤثراً لم ينسه كونت في حياته كلها، أو ما تبقى منها. والواقع أنه عاش بعدها عشر سنوات أو أكثر قليلاً. وخلال هذه السنوات أصبحت ذكراها مقدسة بالنسبة له. بل وراح يحتفل بها كل عام مع بعض مريديه وأتباعه باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الفلسفة الوضعية! فمن قال بأن الفلسفة الوضعية لا قلب لها ولا إحساس؟ من قال بأنها كلها ماديات وتكنولوجيات ومنهجيات موضوعية جافة؟
أليست خيانة لاوغست كونت أن نتبع القسم الأول من فلسفته ونهمل الثاني؟ فهل النجاح المادي هو كل شيء في الوجود يا ترى كما يعتقد معظم الغربيين حاليا؟ أم أنه توجد مكانة للحب، للكرم، للتضحية من أجل الآخرين، للعطاء؟ في الواقع إن حب كونت القصير الذي لم يدم أكثر من سنة هو الذي ألهمه حب البشرية بأسرها. وراح يعتبر ذلك جزءاً لا يتجزأ من الفلسفة الوضعية. ولكن تلامذته تخلوا عنه بدءاً من تلك اللحظة… وكان في طليعتهم للأسف الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل. فقد كان مادياً صرفاً ولا يعترف بقيمة أخرى غير قيم التقدم المادي والتكنولوجي. وكان من بينهم أيضاً “ليتري” صاحب القاموس الفرنسي الشهير الذي يحمل اسمه. ولكن “ليتري” حمل عليه أيضاً لسبب آخر وهو: طريقة معاملته القاسية لزوجته السابقة كارولين ماسان. ومعلوم أنها حاولت الاتصال به أكثر من مرة لنسيان الماضي وللحفاظ على نوع من الصداقة ولكنه رفض بإصرار. وقد رد عليها برسالة يقول فيها: “كوني مقتنعة بأن قراري لا مرجوع عنه وأني لن أراك أبداً… فعلى الرغم من أنها أصغر منك باثني عشر عاماً فإن ملاكي الحارس “كلوتيلد” أعطتني عاطفة المحبة التي لم أنلها منك طيلة حياتي كلها”…
في الواقع ان أوغست كونت كان يبحث طيلة حياته عن لحظة حب، عن لحظة صفاء وبراءة وإنسانية، ولكنه لم يجدها. وفجأة تظهر في حياته “كلوتيلد” المريضة وتمنحه هذا الحب المقدس. وكانت الشرارة، وكان الاتصال الروحي العميق الذي يتجاوز الماديات… لم يعد كونت بحاجة إلى أحد بعد اليوم، وسوف يظل يعيش على هذا الحب، أو قل على ذكراه، حتى آخر لحظة من حياته. وبالتالي فليس الحب الجسدي هو وحده الذي ينقصنا، وإنما أيضاً الحب الروحاني، الحب الإنساني، الحب الذي يتعالى على كل شيء… ولأن الحضارة الغربية نسيت هذه النقطة في أحيان كثيرة فإنها أصبحت حضارة بلا قلب ولا روح ولا إحساس..
أخيرا سوف نقول ما يلي :لقد رفض كونت الانخراط في العمل السياسي المباشر واكتفى بتأسيس “الجمعية الوضعية” التي اتخذت الشعار التالي: النظام والتقدم. ينبغي تحقيق النظام والتقدم ولا شئ غيرهما. وقالت بأن هدفها يكمن في العمل من أجل حلول عهد السلطة الروحية الجديدة. ثم نشر كتاباً بعنوان “خطاب حول مجمل الفلسفة الوضعية”. وكان مكتوباً بشكل شعري ويمثل خلاصة لفلسفته كلها. ويبدو أن حبه العذري “لكلوتيلد” قد جعله يُشعِر أو يستشعِر أخيراً! ففي السابق كان يكتب بشكل موضوعي جاف، أي بارد ورديء، وأما الآن فقد أصبح ينشد القصائد!.. وهذا الكتاب أعجب كثيراً السياسي الفرنسي الشهير “جول فيري” الذي سيلعب دوراً كبيراً في تطبيق الفلسفة الوضعية على فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر. ومعلوم انه هو مؤسس المدرسة العلمانية المجانية الإجبارية في فرنسا. وهو الذي قضى على الأمية. وفي هذا الكتاب الشعري يحدّد أوغست كونت مفهوم دين البشرية لأول مرة. ويقول بضرورة وجود سلطة روحية تقف في مواجهة السلطة المادية. ثم راح التوجه الديني للفلسفة الوضعية يتزايد أكثر فأكثر كلما تقدم كونت في العمر. وراح يعتقد بضرورة وجود إدارة روحية تشرف على المجتمع بعد انهيار المسيحية أو انحسار تأثيرها بسبب التنوير والثورة الفرنسية. وقال بما معناه: على أنقاض العصر اللاهوتي ينبغي أن تنهض سلطة روحانية جديدة لكي تحكم المجتمع والرأي العام. وهذه السلطة الروحانية ينبغي أن تحل محل السلطة البابوية على رأس الغرب. وهدفها جمع الشعوب الأوروبية، بل وأكبر قدر ممكن من الأمم الأخرى في ظل التواصل الأخلاقي العالي المستوى