إدوارد سعيد
(أنسنية بلا ضفاف)
د.حازم خيري
“مهيارُ وجهٌ خانهُ عاشقوهْ”
أدونيس
لم أر إدوارد سعيد فى حياتى سوى مرة واحدة، كان ذلك قبل رحيله بشهور قليلة، فى محاضرة رائعة، ألقاها فى قاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة فى مارس عام 2003، وكانت بعنوان: “فلسطين وعمومية حقوق الإنسان”. بدا الرجل ساعتها – كما تخيلته دائماً – عملاقاً، رغم وطأة المرض ودنو النهاية! أذكر أن الحاضرين استقبلوه بحفاوة بالغة، تليق بمكانته الرفيعة، حتى أنهم ظلوا يصفقون له زمنا طويلا، وكانوا من مشارب شتى! وأذكر كذلك أنه بعد فراغ إدوارد سعيد من إلقاء محاضرته، أقبل عليه الكثيرون لمصافحته، وكنت أحدهم بطبيعة الحال، غير أنى لم أكد أقترب من المنصة التى كان إدوارد سعيد يجلس إليها، حتى خانتنى شجاعتى وتهيبت مصافحته، احتراما واجلالا للرجل، وهو ما سأظل أذكره بألم، وأندم عليه ما بقى لى من سنوات، طالت أم قصرت، فى ذمة الحياة!.
إدوارد سعيد لم يكن مفكرا فذا فحسب، ولكنه كان أيضا نموذجا فريدا، حتى أن الناظر إليه لم تكن عيناه لتخطيء أنسنيا فذا، أودع ذاكرة الحياة أروع ما يملك، وهو بصيرة ثاقبة، وقدرة عبقرية على النقد والإبداع! وأراني في هذا المقال قاصرا جهدى، على رصد وتحليل الاسهام الادورى المهيب فى مجال الفكر الأنسني، بكل ما ينطوى عليه من روعة وثراء، علاوة على سعيي لبيان مدى تأثير هذا الاسهام على رؤيتى للفكر الأنسني، على تواضعها، مقارنة بالاسهام الادورى! أفعل ذلك رغم قناعتي المحزنة والمحبطة بوقوف المناخ الثقافي المهيمن حاليا فى عالمنا العربي حائلا دون تحقيق أُمنيتي، وأظنها كانت أمنية ادوارد قبلي، أن يجد هذا الفكر له ملاذا آمنا فى ربوعنا، فعلى الساحة تتصارع تيارات ثقافية بالية، لا تُسمن ولا تُغني من جوع، يبرع أنصارها وهم كثر، بشكل لافت، فى الترويج لأفكارهم، المعلبة والمشفرة والمغلقة على النقاش، بدعوى صلاحيتها لكل زمان ومكان، هازئين بذلك من سنة كونية تقضي بديمومة التغير والتطور!.
بيد أنه قد يكون ملائما، قبل أن أمضي قُدما فيما أنا عازم عليه، تذكير قارئي الكريم بأن أحدا من الناس لا يعيش فى فراغ اجتماعى، فاذا أردنا أن نُعيده إلى الحياة فلابد لنا من وصف بيئته. إذ أنه ليس من الحكمة أن نتكلم عن العظماء دون أن نحاول تفسير شخصيتهم وعبقريتهم، وهما شيئان يمتنعان على الفهم بغير الرجوع إلى البيئة التى نشأوا فيها. وهذا هو عين ما أنوى فعله فى السطور التالية، فكما كانت حياة ادوارد سعيد فريدة وثرية، كذلك كانت بيئته التى نشأ وعاش فى كنفها! لذا، فتناولنا لهذه البيئة يساعدنا بلا شك على تتبع ارهاصات النزوع الأنسنى، الذى صاحب إدوارد سعيد، طوال حياته، وملك عليه عقله وقلبه، حتى أنه لم يدخر جهدا فى التبشير به والدعوة إليه، على نحو لافت ومُلهم!.
وقد يكون ملائما أيضا، التنبيه إلى الخصوصية الادورية فى الاحساس بالألم، بمعنى أنه ليس للقاريء الكريم أن يتوقع وجود تماثل، أو حتى تقارب، بين القلق الادورى – على سبيل المثال – وأنماط القلق الشائعة فى مجتمعاتنا المتخلفة، على خطورتها وأهميتها، والتى غالبا ما يقف العوز المادى وراءها! فكما سنرى، كان ادوارد سعيد ابنا لأسرة فلسطينية موسرة، حتى أنه تلقى تعليما غربيا راقيا، أهله بدرجة يُعتد بها لاستيعاب ونقد الثقافة الانسانية على نحو، آراه مذهلا وعبقريا! غير أنه – أقصد ادوارد بالطبع – ظل حتى رحيله، معتقدا فى مسئولية ذلك النمط من التعليم عن قطع وشائج الصلة بينه وبين ثقافته العربية، على خلاف الكثيرين ممن قد يرون فيه فرصة ذهبية، لا مجال لتعهدها باللوم! وهو ما يعضد قولنا بالخصوصية الادورية فى الاحساس بالألم، على تشابهها النسبي، مع خصوصيات غيره من أصحاب العبقريات، فى كل زمان ومكان..
ولسوف أستند فى تناولي للبيئة التى نشأ إدوارد سعيد وعاش فى ربوعها إلى مذكراته الشهيرة “خارج المكان”، والتى أقدم ادوارد على كتابتها بعد تلقيه تشخيصا طبيا يُفيد اصابته بسرطان الدم (اللوكيميا). فقد شعر الرجل بأهمية أن يخلف سيرة ذاتية عن حياته فى العالم العربي، حيث وُلد وأمضى سنواته التكوينية، كما فى الولايات المتحدة حيث ارتاد المدرسة والكلية والجامعة!
ولعل فى وصف الناشر العربي، وهو دار الآداب البيروتية، للمذكرات بأنها نص غنائي وجميل الصنعة، يبلغ أحيانا درجات عالية من الصراحة بقدر ما هو، فى الآن ذاته، حميم ومرح. يكشف فيه ادوارد دقائق ماضيه الشخصى، ويستعرض لقراءه معالم البيئة التى كونت شخصيته ومكنته من أن ينتصر، ليصبح بحق واحدا من أهم وأبرز أنسنيي العصر الحديث – أقول لعل فى هذا الوصف الموجز والبليغ لـ “خارج المكان”، تعضيدا لقناعتي بأهميتها فى الكشف عن إرهاصات النزوع الأنسني لدى ادوارد سعيد، خاصة وأن ادوارد نفسه، فى مقدمته لتلك الطبعة العربية الأنيقة من المذكرات، يُورد ما يعزز هذه القناعة، وهو قوله([1]): “..آمل أن لا أبدو متبجحا إن قلت إن الجديد فى (إدوارد سعيد) المركب الذى يظهر فى خلال هذه الصفحات، هو عربي أدت ثقافته الغربية، ويالسخرية الأمر، إلى توكيد أصوله العربية، وإن تلك الثقافة، إذ تُلقى ظلال الشك على الفكرة القائلة بالهوية الأحادية، تفتح الآفاق الرحبة أمام الحوار بين الثقافات“!.
قارئي الكريم، لندلف الآن سويا إلى “خارج المكان”، ولسوف نجد إدوارد، وقد أبهرنا كعادته، عبر مُضيه قُدما فى قراءة عميقة ومبهره لجوانيته، بدا فيها كمن يحادث نفسه، لا كمن يكتب إلى جمهور واسع وعريض من القراء، فى شتى أنحاء العالم، فها هو يعقد ألستنا بالدهشة، إذ يقول([2]): “إن الأرق عندى حالة مباركة أرغب إليها بأى ثمن تقريبا. فليس عندى ما هو أكثر تنشيطا، من أن أطرد عنى فورا ظلال الوسن لليلة خسرتها، غير إعادة تعرفى فى الصباح الباكر، على ما كدت أخسره كليا قبل بضع ساعات أو استعادتى إياه. بين الحين والآخر، أرى نفسي كتلة من التيارات المتدفقة. أؤثر هذه الفكرة عن نفسي على فكرة الذات الصلدة، وهى الهوية التى يُعلق عليها الكثيرون أهمية كبيرة. تتدفق تلك التيارات، مثلها مثل موضوعات حياتى، خلال ساعات اليقظة. وهى، عندما تكون فى أفضل حالاتها، لا تستدعى التصالح ولا التناغم. إنها من قبيل النشاز، وقد تكون فى غير مكانها، ولكنها على الأقل فى حراك دائم فى الزمان وفى المكان وبما هى أنواع مختلفة من المركبات الغريبة، لا تتحرك بالضرورة إلى أمام، وإنما قد يتحرك أحيانا واحدها ضد الآخر، على نحو طباقي ولكن من غير ما محور مركزى. إنه ضرب من ضروب الحرية، على ما يحلو لى أن أعتقد، على الرغم من أنى بعيد كل البعد عن أن أكون مقتنعا كليا بذلك. ونزعة التشكيك هذه هى أحد الثوابت التى أتشبث بها بنوع خاص. والواقع أنى تعلمت، وحياتى مليئة إلى هذا الحد بتنافر الأصوات، أن أؤثر ألا أكون سويا تماما وأن أظل فى غير مكانى“!
إدوارد يعطينا إذن مفتاح شخصيته، ويُعرى لنا فى جرأة وشفافية ارهاصات نزوعه الأنسني! أليس يحدثنا فى الاقتباس السابق عن القلق الذى لطالما رافقه فى رحلة الحياة، والذى ساعدت على خلقه والاحتفاظ به فى حالة تأجج دائم، ظروف البيئة التى نشأ فيها؟! ثم، أليس يحدثنا فى الاقتباس نفسه عن رؤيته لنفسه ككتلة من التيارات المتدفقة، تكون فى أفضل حالاتها، عندما لا تستدعى التصالح ولا التناغم؟! وهو حديث يشى فى مجمله بالولع الادورى بالحراك الدائم والتشكيك المستمر! وأخيرا، أليس يكشف لنا إدوارد عن إيثاره ألا يكون سويا تماما وأن يظل فى غير مكانه؟! وكلها أمور تُهيىء صاحبها لولوج عالم الفكر الأنسني، على نحو ما سنرى لاحقا. إذن، ما الذى بقى لي وأنا بصدد الحديث عن بيئة إدوارد التى نشأ فيها، وساهمت فى صياغته على هذا النحو الفريد والعبقري؟ أغلب الظن أنه لم يبق أمامي سوى السعى لرصد وتحليل الحوادث التى تفسر القلق الادورى، واللاتناغم الادورى، إضافة إلى الولع الادورى بالحراك والتشكيك الدائمين!
ولتكن البداية حديث إدوارد فى مذكراته عن طفولته، وتساؤله القلق عن مدى مسئولية البيئة التى نشأ فيها عن بقاءه فى غير مكانه طيلة حياته، فهما يساهمان، ولو جزئيا، فى إفهامنا دواعى ومسببات القلق الادورى والولع بالحراك الدائم والتشكيك المستمر. وكيف لا؟! وادوارد يحدثنا فى مذكراته عن طفولة حبيسة لقيود منزلية صارمة، حالت بينه وبين الاحساس بالذات فيما يتجاوز هذه القيود، وأجبرته أن يخطو خطواته الأولى على طريق خلق الذات، مُقتديا فى ذلك بوالديه، لأنهما كانا أيضا نتاج عملية خلق للذات! ومُجسدا فى الوقت نفسه قول ماركيز: “لا يُولد البشر مرة واحدة وإلى الأبد يوم تلدهم أمهاتهم، إنما تجبرهم الحياة على أن يلدوا أنفسهم بأنفسهم“! وإدوارد يحدثنا أيضا عن تأثير الارساليات والمؤسسات التعليمية الكولونيالية، التى أُجبر على التعاطى معها، خاصة خلال رحلته التعليمية، والتى ساهمت فى تعزيز اتجاهه نحو خلق الذات بالذات!
يقول إدوارد فى “خارج المكان” عن طفولته([3]): “كنت دوما فى غير مكانى. لم يترك لى نظام الضبط والتربية المنزلية الجامد الصارم، الذى حبسنى فيه أبي منذ سن التاسعة، أى متنفس أو أى مجال للاحساس بالذات فى ما يتجاوز قواعده وترسيماته. هكذا أصبحت (إدوارد) مخلوق والدى، تراقبه فى عذاباته اليومية ذات داخلية مختلفة كليا عنه، لكنها على درجة من فتور الهمة، بحيث تعجز، فى معظم الأحيان، عن مساعدته. وكان (إدوارد) أساسا، هو الابن ثم الشقيق وأخيرا الصبى الذى يرتاد المدرسة ويفشل فى محاولاته التقيد بالأصول (أو يتجاهلها ويتحايل عليها). وقد كانت عملية خلقه واجبة الوجوب لأن والديه كانا هما أيضا نتاج عملية خلق للذات بالذات. فلسطينيين ينتميان إلى بيئتين مختلفتين ومزاجين متغايرين جذريا، يعيشان فى القاهرة الكولونيالية. ابنى أقلية مسيحية تعيش هى نفسها ضمن حومة من الأقليات، ليس لأى منهما سند سوى الآخر. وهما يفتقدان، فوق ذلك كله، إلى أية أعراف يهتديان بها فى سلوكهما، باستثناء مزيج غريب: من عادات فلسطينية من فترة ما قبل الحرب، وحكم أميريكية مجمعة على نحو انتقائي من الكتب والمجلات ومن السنوات العشر التى أمضاها أبي فى الولايات المتحدة (التى لم تزرها أمى إلا العام 1948)، ومن تأثير الارساليات والتعليم المدرسي المتقطع ومن ثم الهامشي، ومن مواقف بريطانية كولونيالية تمثل الأسياد وسواد البشرية التى يحكمها هؤلاء الأسياد فى آن معا، وأخيرا، من نمط حياة عاينه والداى حولهما فى القاهرة وحاولا تكييفه مع ظروفهما الخاصة. فهل يمكن لـ (إدوارد)، والحال هذه، أن يكون إلا فى غير مكانه“؟!.
ولندع إدوارد يروى لنا تجربته مع واحدة من أهم وأبرز المؤسسات التعليمية الكولونيالية التى أُجبر على الدراسة فيها، خلال رحلته التعليمية، وهى كلية فيكتوريا بمصر، ولسوف يرى القاريء الكريم أن حديث ادوارد عن تجربته تلك من شأنه تعزيز قناعتنا بكونها – إلى جانب التجارب الأخرى المشابهة لها – ساهمت بصورة أو بأخرى فى تعزيز قلق إدوارد ولا تناغمه واتجاهه نحو خلق الذات بالذات، فقد أدرك إدوارد فى كلية فيكتوريا أنه يواجه قوة كولونيالية جريحة وخطرة – قصد بها إدوارد بريطانيا العظمى –، بل وقابلة لأن تؤذيه، ووجد نفسه مُجبرا على تعلم لغتها واستيعاب ثقافتها لكونها هى الثقافة السائدة آنذاك.
يقول إدوارد فى مذكراته[4]4): “اتسمت حياتنا فى فكتوريا كولدج بتشوه كبير لم أدركه حينها. كانت النظرة السائدة إلى التلامذة أنهم أعضاء، تمموا دفع اشتراكاتهم، فى نخبة كولونيالية مزعومة يجرى تعليمها فنونا إمبريالية بريطانية قضت نحبها، مع أننا لم نكن ندرك ذلك تماما. علمونا عن حياة إنكلترا وآدابها، وعن النظام الملكي والبرلمان، عن الهند وأفريقيا، وعن عادات واصطلاحات لن نستطيع استخدامها فى مصر أو فى أى مكان آخر. ولما كان الانتماء العربي وتكلم اللغة العربية يُعدان بمثابة جنحة يُعاقب عليها القانون فى فكتوريا كولدج، فلا عجب أن لا نتلقى أبدا التعليم المناسب عن لغتنا وتاريخنا وثقافتنا وجغرافية بلادنا. وكانوا يمتحنوننا بصفتنا تلامذة إنكليزا، نجر أذيالنا متخلفين سعيا إلى تحقيق هدف مُبهم، يستحيل تحقيقه أصلا، من صف إلى صف آخر ومن سنة دراسية إلى سنة دراسية تالية، يواكبنا أهلنا طوال ذلك المسار منشغلى البال علينا. ثم إنى أدركت فى قلبي أن فكتوريا كولدج قطعت نهائيا الأواصر التى تشدنى إلى حياتى السابقة، وأن ادعاء أهلى أنى مواطن أميركى قد تهافت، فقد بتنا ندرك جميعنا أننا دونيون نواجه قوة كولونيالية جريحة وخطرة، بل وقابلة لأن تؤذينا، ونحن مجبرون على تعلم لغتها واستيعاب ثقافتها لكونها هى الثقافة السائدة فى مصر“.
ويظل تأكيد إدوارد فى مواضع أخرى عديدة من مذكراته على مسألة نفوره من الكولونيالية وممثليها، وكذا تأكيده على حرصه على خلق ذاته بذاته، تعضيدا لقناعتنا – المُعبر عنها سلفاً – بالدور المهم الذى لعبته بيئة المنشأ فى تغذية القلق الادورى وكذا تحفيز التوجه الادورى لخلق الذات بالذات. فها هو إدوارد يرفض معاملة المصريين له ولذويه فى أربعينيات القرن الماضي، كأجانب أو كخواجات، رغم احساسه بهويته العربية، إضافة إلى رفضه أن يُختزل إلى مجرد نسخة ممجوجة للشخصية الكولونيالية. يقول إدوارد عن ذلك([5]): “..مع حلول الأربعينيات – يقصد أربعينيات القرن الماضي –، لم نعد مجرد (شوام) بل صرنا (خواجات)، وهو اللقب التبجيلي الدال على الأجانب الذى يحمل دائما لسعة عداء عندما يستخدمه المسلمون المصريون. وعلى الرغم من أنى كنت أتكلم باللهجة المصرية ولى مظهر المصري الأصلي، فقد كان ثمة ما يشي بي. وكنت أستنكر التلميح إلى أنى أجنبي نوعا ما، مع أنى أدرك فى العمق أنهم يعتبرونني أجنبيا، على الرغم من أنى عربي… كان هذا اللقب – يقصد لقب الخواجة – يقرحنى تقريحا، فقد رفضت هذا التعيير من جهة بسبب نمو إحساسي بهويتى الفلسطينية.. ومن جهة ثانية بسبب وعيي الناشيء لنفسي بوصفى، على العموم، كائنا أكثر تعقيدا وأصالة من أن أُختزل إلى مجرد نسخة ممجوجة للشخصية الكولونيالية“!
ولعل فيما أورده إدوارد فى مذكراته بشأن تقييمه لمسألة رحيله إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1951، ما يعفيني من المضي قُدما فى الاستشهاد بالمزيد من الأحداث التى تعج بها مذكرات إدوارد، والتى تفسر فى مجملها القلق الذى لطالما رافق إدوارد منذ كان صغيرا، ذلك القلق الذى ساعدت على خلقه والاحتفاظ به فى حالة تأجج دائم، ظروف البيئة التى نشأ فيها إدوارد والتى عرضنا سلفا لقبس منها. أقول لعل فيما أورده إدوارد ما يعفيني من المضي قدما فى سرد المزيد من الأحداث التى تؤكد – إضافة إلى ما سبق – رؤيته لنفسه ككتلة من التيارات المتدفقة، تكون فى أفضل حالاتها، عندما لا تستدعى التصالح ولا التناغم! علاوة على تفسيرها لايمان إدوارد بخلق الذات، وولعه بالحراك الدائم والتشكيك المستمر، وإيثاره ألا يكون سويا تماما، وأن يظل فى غير مكانه! فقد تحدث الرجل على نحو لا لبس فيه ولا غموض عن رحيله إلى الولايات المتحدة بوصفه مغامرة، إذ أنه لم يملك ساعتها إلا فكرة غامضة جدا عما كانت ستؤول إليه حياته لو أنه لم يقدم على تلك المغامرة، وهو الحديث الذى يشي بكون مغامرة الحلم الأمريكى وتداعياتها إنما جاءت تتويجا لمسببات القلق الادورى المتجذر!
وعليه، أستأذن قارئي الكريم فى أن أختم حديثى عن تلك البيئة الاستثنائية التى نشأ فيها ادوارد سعيد والتى شاركت فى صياغته على هذا النحو الفريد والعبقري، بهذا التقييم الادورى المشار إليه توا. يقول إدوارد سعيد، فى مذكراته “خارج المكان“، عن مسألة رحيله إلى الولايات المتحدة الأمريكية([6]): “..ما أزال أندهش إلى الآن من مجرد خطورة المغامرة التى انطوى عليها قدومى إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1951. لست أملك إلا فكرة غامضة جدا عما كانت ستؤول إليه حياتى لو أنى لم أجيء إلى أميركا. ولكن الذى أعرفه أنى بدأت فيها بداية جديدة، متناسيا، إلى حد ما، ما تعلمته من قبل، لأعيد تعلم الأشياء ابتداء من الصفر، مبتكرا، مخترعا ذاتى، أحاول وأفشل، أختبر وألغى ما اختبرته، لأعاود البدء من جديد، سالكا سبلا مباغتة هى، فى الغالب، أعسر السبل قاطبة“. ويمضى إدوارد قدما فى تقييمه للمسألة نفسها([7]): “ولا أزال، إلى هذا اليوم، أشعر بأنى بعيد عن البيت، مهما بدا الأمر مضحكا. ومع أنى لست متوهما أنى كنت سأعيش حياة (أفضل) لو بقيت فى العالم العربي، أو عشت ودرست فى أوروبا، فلا يزال يلازمنى بعض الندم. وهذه المذكرات هى، فى وجه من وجوهها، استعادة لتجربة المغادرة والفراق، إذ أشعر بوطأة الزمن يتسارع وينقضي. ولما كنت قد عشت فى نيويورك باحساس موقت، على الرغم من إقامة دامت سبعة وثلاثين عاما، فقد فاقم ذلك من ضياعي المتراكم، بدلا من مراكمة الفوائد“!
أسس دراسة الأنسنية – منظور إدوري:
ليس سهلا على المرء بالطبع أن يتصدى لسبر غور الرؤية الادورية لأسس دراسة الحركة الأنسنية فى الولايات المتحدة. لأنه إذا كان إدوارد سعيد لا يُبارى فى المضمار الأنسني، كما يعرف القاصي والداني، فكيف لرؤيته المُشار إليها فى عنوان هذه الجزئية أن تُقارب على نحو مُرضي، وصاحبها أحد أهم وأبرز رموز الحركة الأنسنية الأمريكية، بل والعالمية أيضا، فى العقود الأخيرة، وربما لعقود أخرى قادمة، أظنها عديدة! من هنا أرانى فى تناولي لهذه الجزئية الشائكة قانعا من الغنيمة بالاياب، كما يقولون! فليتك قارئى الكريم تقبل ذلك منى..
إلتحق الطالب إدوارد سعيد بجامعة برنستون فى الولايات المتحدة فى خمسينيات القرن الماضي، ودرس فيها الانسانيات، على أيدى أساتذة يتمتعون بالكفاءة العظمى. وأسست قراءاته فى تاريخ الموسيقى والأدب والفلسفة لكل ما حققه فيما بعد باحثاً ومدرساً. إذ أتاحت له الشمولية الرزينة لبرنامج الدروس فى برنستون فرصة التحرى الذهنى فى حقول كاملة من المعرفة، وبحد أدنى من الحرج! وفقط عندما اتصلت تلك المعارف بنقد سزاثمارى المحفز أو بالتمكين الرؤيوى الذى منحه إياه أستاذ من طراز بلاكميور، وجد إدوارد نفسه يُنقب أعمق فأعمق من مستوى الإنجاز الأكاديمي الرسمي. وبدأ، بطريقة ما، فى بلورة منحاه الفكرى المتماسك والمستقل. وخلال الأسابيع الأولى من سنته الثانية أدرك ضرورة أن يفعل المزيد لتنمية انبهاره المبكر بالتعقد والفجائية – وخصوصاً بالتعقدات والالتباسات المتعددة التى تنطوى عليها عمليتا الكتابة والخطابة –، وهو انبهار لازمه طوال حياته! والمفارقة فى الأمر أن الذى حفز إدوارد إلى ذلك هم الأساتذة الأكثر تقليدية من حيث المقاربة والمزاج، بمن فيهم كواندرو فى اللغة الفرنسية، وأُوتس فى الكلاسيكيات، وطومسون ولاندا وبنتلى وجونسون فى اللغة الانجليزية. وفى الموسيقى، أجبر إدوارد نفسه على اقتحام عقبة درس الهارمونى والطباق، ثم انتقل لمتابعة السيمينارات التاريخية والوضعية الغنية عن بيتهوفن وفاغنر خصوصا، حيث صار إليوت فوربز وإدكُون مثالين يُقتدى بهما([8]).
ونظراً لارتباط الانسانيات، وهى مجال دراسة إدوارد، وأحد المواد التى قام بتدريسها ابتداء منذ عام 1963 وحتى رحيله، فى جامعة كولومبيا التى تقدم، منذ ما يقرب من قرن وبدون انقطاع، مجموعة من المواد الأساسية قبل التخرجية، شهيرة بل أسطورية فى تمثيلها التربية العقلية. مُفاعلها الشغال، الذى تأسس عام 1973، هو سلسلة مواد تُدرس على مدار سنة كاملة عنوانها الانسانيات، تُعرف الطلاب بأمهات الأعمال الأدبية والفلسفية فى الثقافات الغربية، صارت مؤخرا تُعرف باسم الانسانيات “الغربية” تمييزا لها عن مواد موازية معروضة تحت تسمية الإنسانيات “الشرقية” أو “المشرقية” أو “غير الغربية“([9]) – أقول إنه نظراً لارتباط الانسانيات، بالسيرة الأكاديمية لادوارد إلى هذا الحد، أجدنى مُلزما بالبحث عن معنى محدد لها، على نحو يُجنبنى وقارئي الكريم غموضها النسبي!
بالكشف فى معجم New International Dictionary نجد أن لفظ humanity – ويُستخدم عادة فى صيغة الجمع ـ، يعنى “فروع المعرفة الرفيعة، وبخاصة الدراسات الكلاسيكية القديمة، والأدب المحض العلمانى، باعتباره متميزا عن المعرفة اللاهوتية”. وعند التحول إلى معجم Dictionary of Education and Instruction نجد أن الانسانيات تتكون من فروع دراسية معينة ذات “اتجاه نحو تهذيب الانسان“، فى مقابل العلوم الطبيعية “التى تعمل على النمو بالمواهب العقلية بصفة خاصة“. ونجد فى المعجم نفسه أن الانسانيات كانت داخلة فى نطاق ما يسمى “بالتربية التحررية”، وأن هذه كانت “تتكيف لظروف ومطالب الإنسان الحر والانسان المهذب (الجنتلمان)“، وكان يقابلها “التربية العلمية“. ويقول جون نيومان، وهو مرجع ثقة فى هذا الموضوع، إن “التربية التحررية” وفق هذا المنهج هى “ثقافة عقلية تُدرب فيها العقلية لا بقصد صياغتها فى ضوء هدف محدد أو عارض، أو من أجل حرفة أو مهنة محددة، أو من أجل دراسة أو علم، بل من أجلها هى بذاتها“. صفوة القول ان الانسانيات تعنى حسبما يرغب الدارس. إما الدراسة العلمانية فى مقابل الدراسة اللاهوتية، وإما الدراسة الاجتماعية والخلقية فى مقابل الدراسة الذهنية، وإما الدراسة الذهنية فى مقابل الدراسة العملية([10]).
قلنا إن إدوارد سعيد قام بالتدريس فى جامعة كولومبيا من عام 1963 وحتى رحيله، وهو ما وفر له مكانا متميزا أشرف من خلاله على الحركة الأنسنية الأمريكية، وأسلافها الأوروبيين، وذلك فى القرن الماضي، وفى بدايات القرن الذى يُظلنا الآن، نظراً للصلة الوثيقة التى تربط الأنسنية بالتربية وبالبرامج الجامعية خصوصا. تلك الصلة التى تتبدى جلية واضحة بين مادتى الأدب والانسانيات اللتين درسهما ادوارد سعيد، وبين الحركة الأنسنية. فالأنسنية ومادة الأدب بما هما انكباب على دراسة الكتابة الجيدة والقيمة، مترابطان – فى رأى ادوارد – أيما ترابط، تشد وثاقهما صلة قوية. كما أن مادة الانسانيات، على تنوع معانيها، تُعد مضمارا للمفكرين الأنسنيين. فطبقا لادوارد، تتعلق مادة الانسانيات بالتاريخ العلمانى، وبمنتجات العمل البشري، وبالقدرة البشرية على التعبير الكلامى([11]). فى حين يتمثل صميم الأنسنية فى الفكرة العلمانية القائلة إن العالم التاريخى هو من صنع بشر من رجال ونساء، لا من صنع ربانى، وإنه يمكن اكتناهه عقليا، وذلك وفق المبدأ الذى صاغه جان باتيستا فيكو فى مؤلفه الرائع “العلم الجديد“، إذ قال فيه إننا كبشر فى التاريخ نُدرك فقط ما قد أنتجناه. أوبعبارة أخرى، إننا نستطيع أن نعرف الأشياء وفقا للطريقة التى بها صُنعت([12]).
وفى كتابه الأخير “الأنسنية والنقد الديمقراطي“([13])، ركز ادوارد اهتمامه على دراسة الحركة الأنسنية والممارسة النقدية، استنادا إلى قناعته بأن الأنسنية مذهب نقدى يوجه سهامه إلى الأوضاع السائدة داخل الجامعة وخارجها، مذهب يستمد قواه وقيمه من طابعه الديمقراطي العلمانى المنفتح، وهو الموقف الذى لا تتبناه بالتأكيد الأنسنية العيابة والمتزمتة التى ترى إلى ذاتها على أنها تكوين نخبوي! وكذا قصر ادوارد اهتمامه فى الكتاب نفسه على دراسة الحركة الأنسنية فى الولايات المتحدة الأمريكية، استنادا إلى قناعته بأن قسماً كبيرا من محاجته ينطبق على سائر البلدان! فادوارد عاش فى الولايات المتحدة خلال القسط الأوفر من حياته البالغة كما أسلفنا، وكان خلال تلك العقود الأربعة، مدرسا وناقدا وباحثا ملتزما بالفكر الأنسني. ذلك هو العالم الذى عرفه إدوارد أكثر من سواه!
من هنا تأتى أهمية محاجة ادوارد الرئيسية المشار إليها توا، والمتمثلة فى قوله بأنه خلال السنوات الممتدة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى ضعه لدراسته، لم تعرف الحركة الأنسنية فى الولايات المتحدة مجرد أزمة متواصلة لا شك فيها، وإنما عرفت تحولات أساسية، صامتة حينا، وأحيانا محرومة ممن يقدرها حق قدرها. فبحسب ادوارد، طرأت تغييرات فى الأسس ذاتها التى قام عليها الفكر الأنسني والممارسة الأنسنية لزمن طويل فى الولايات المتحدة وسائر العالم. وكان لادوارد – إن هو أراد – أن يُغفل تلك التحولات، بكل بساطة، وأن يستمر كما فى السابق، على طريقة النعامة، خاصة وأنه الرجل الذى لطالما كتب بحماس عن قضايا خاسرة، وارتبط فطريا بها خلال معظم سنى حياته. بيد أنه لما كان ادوارد سعيد قد أقنع نفسه، بالاقلاع عن لعب دور النعامة، فقد رأيناه تواقا لاقناع غيره بأن الهرب من الواقع والانكفاء العاطفي إلى حنين ماضوى، أقل علمية وأقل إثارة بكثير من التعامل مع المسألة على نحو عقلانى ممنهج، إيمانا منه بأن هذا هو ما تقضي به قواعد الأنسنية، على نحو لا مجال للطعن فيه.
يقول إدوارد فى دراسته إن الحرب الباردة كانت جزءا من نمط شامل بدت فيه التهديدات للحركة الأنسنية فى الولايات المتحدة منبثة فى طبيعة الفكر ذاته عن حالة البشرية عموما. ويقول أيضا إن السطر الأخير لقصيدة كافافى “فى انتظار البرابرة” يوحى، فى سخريته الأنيقة، بفائدة وجود الآخر المعادى فى مثل تلك الظروف، إذ يقول كافافي: “كان هؤلاء البشر نوعا من حل”! من هنا – والكلام لادوارد – لم يكن مفاجئا أن يربض شبح الحرب الباردة على صدر الممارسة الأنسنية لجيلين على الأقل، ناهيك عن الرطانة اللامتناهية عن الحرية ضد الكليانية، وحديث كويبلر الساخر عن أن القيم التى يؤمن بها الكليانيون واضحة كلياً، فيما القيم التى يحملها المؤمنون بالديمقراطية غامضة كل الغموض!
ولا يكتفى إدوارد بتأكيد الرواج الذى لاقته فكرة المفكر أو الباحث الأنسني غير الملتزم، المختص بحقل ثقافى بعينه، فى النصف الثانى من القرن العشرين. بل نراه يذهب إلى حد القول إنه، كباحث أكاديمي ومدرس للأدب الغربي، نشأ فى حضن فكرة الاختصاص هذه، وهى – فى رأيه – فكرة أيديولوجية فى العمق ومترسملة ومؤسساتية إلى أعلى الدرجات. علاوة على أنها، فى أقل تقدير، رسخت فهما سياسياً وجامداً إلى أبعد حد للتاريخ الأدبي. فطبقا لادوارد، كانت ثمة حقبات تاريخية متعاقبة ومؤلفون رئيسيون ومفاهيم رائدة قابلة للبحث والتحليل المقارن، غير أن أيديولوجيا حقل الاختصاص ذاته لم تكن قابلة للفحص الجذرى أبدا. وهو الأمر الذى رآه ادوارد سعيد ناجما عن موقف غير قسرى، وإن يكن ظفراويا، تجاه الواقع الأمريكى الذى يُفترض أنه الأفضل بين الأمم!
وكان صدور سفر نورثروب فراي بعنوان “تشريح النقد” عام 1957، هو الذروة وفى الآن ذاته التعبير التجاوزى والنزق إلى حد غريب لتلك الآلة المعقدة بل محمومة الحركة. إذ كان الهدف من وراءه ليس أقل من السعي إلى توليفة بلايكية – يونغية(*) للنظام الأنسني وقد انتظم فى عالم مصغر، يكمن فى قلبه – قلب اختراع فراى – ما يسميه بلايك “الألوهة البشرية”، وهو انسان كونى يمارس مهمته تجسيدا لمعيار مركزى أوروبي مسيحى ـ يهودي. بيد أن الملفت هو ما كان للتصاميم والتقاليد والتداوم فى التقاليد الأدبية التى اقترحها آرنولد وفراى وإليوت واتباعهم المختلفون، على ما بينهم من اختلافات، من سمات عديدة مشتركة، فكلها تقريبا ذكورية وصادرة عن مركزية أوروبية، تحركها الأنواع الأدبية أو “النماذج الأصلية”، كما كان فراى يسميها. وهو ما استوقف ادوارد سعيد، ودعاه للتساؤل عما إذا كان ما أنتجه فراى، بما هو التوليفة الأخيرة لنظرة كونية داخل النزعة الأنسنية الأمريكية، يُعد بحق نظرة كونية ليبرالية، يعززها الازدهار والقوة العاتيان، أم أنه مجرد زينة لتجميل واقع قذر..!
فمن منظار الشروط الجامدة لنظام فراي، لم يكن للرواية ولا للمسرح مثلا صلة فعلية بالظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية المخصوصة (ناهيك بالظروف الايديولوجية) المؤدية إلى نشوئهما. والأكيد أن فكرة وجود نوع أدبي يسمى كتابة “نسوية” أو “أقلوية” لم يدخل قط نظام فراي، ولا هو دخل عالم الفاعلية أو العمل الانسنيين الذى مثل فراي مترتباته النضالية الهادئة. ثم إن القومية، مثلا، لم تلعب أى دور فى السرديات التى يناقشها فراي. ولم تحظ سطوة مؤسسات مثل النظام الملكي والشركات الكولونيالية ووكالات استيطان الأراضى بأى اهتمام من جانب فراي على الاطلاق، لا فى قراءته لأعمال شكسبير أو جاين أوستن أو بن جونسون. ويبدو التغييب أشد وطأة عندما يتناول أمهات الأعمال عن ايرلندا من سبنسر إلى و. ب. ييتس وأوسكار وايلد وجيمس جويس وبرنارد شو، علما أنه يقع فى صميم هموم هؤلاء جميعا مسائل رسم حدود الأرض وتملكها بالذات.
هكذا، وبكل بساطة، أسقط فراى ومعاصروه، و“النقاد الجدد” من قبلهم، الصراع حول الملكية، سواء أكانت ملكية الأراضي أو الحدود الأمريكية أو الأقاليم الكولونيالية، على الرغم من حضور ذاك الصراع فى انتاج بلايك نفسه، الذى تأثر به نظام فراي، ناهيك عن ديكنز وجاين أوستن وفينيمور كوبر وهرمان ملفل ومارك توين وجميع المؤلفين الذين ارتقت أعمالهم إلى مصاف الأعمال الكلاسيكية. حتى أن مفردة “العرق” لا ترد أصلا عند فراي. أما العبودية – التى كان لها علاقة ما بالحفاظ على ملكوت السموات على الأرض – فلم تحظ بأى اهتمام عند فراى ومثلها الأدب الذى أنتجه الأرقاء والفقراء والأقليات! وهو ما يعزز تساؤل ادوارد عما إذا كان ما أنتجه فراى مجرد زينة لتجميل واقع قذر!
وفى اطار سعيه للبرهنة على أن تحولات أساسية، صامتة حينا، وأحيانا محرومة ممن يقدرها حق قدرها، قد طرأت فى الأسس ذاتها التى قام عليها الفكر الأنسني والممارسة الأنسنية لزمن طويل فى الولايات المتحدة، تناول ادوارد سعيد بالنقد عنصرين رآهما يلعبان دورا مهما ولافتا فى النظرة الكونية الأنسنية التى أوجزنا للتو وصف ادوارد لها، وإن لم يحظيا بما يستحقان من الاعتراف: العنصر الأول، هو الفكرة القائلة إن الأدب يوجد ضمن إطار وطنى افتراضى. والعنصر الثانى، هو الافتراض أن الأشياوات الأدبية والأشعار الغنائية والمسرحيات المأساوية أو الروايات تنوجد فى شكل ثابت أو على الأقل فى شكل يمكن التعرف إليه بانتظام. وكما هو متوقع، أثبت إدوارد أن البلبلة أصابت الافتراضين معاً!
فطبقا للرجل، يكتنف مقدار كبير من الشك والنقصان الفكرة القائلة إن قصيدة غنائية لوردزورث هى نتاج الأدب الانجليزى فى القرن الثامن عشر أو هى نتاج عبقرى فرد، أو إنها تحتل موقع العمل الفنى المختلف والمتمايز عن أعمال أخرى، مثل المناشير السجالية والرسائل والنقاشات البرلمانية والبيانات الدينية أو القانونية أو سواها. تلك الشكوك وما يضارعها من أبحاث عن الجماعات وصلات النسب بين الكتاب والتشكيلات الاجتماعية والطبقات والبنى التحتية، وكذلك الصلات بين المعرفة والسلطة، قد بددت الأطر القومية والجمالية والحدود والتخوم تبديدا كليا تقريبا! فلم تعد – والكلام لايزال لادوارد – كلمات مثل “المؤلف” و“العمل” و“الأمة“، بالتالي، مقولات موثوقة كما كانت من قبل. على أن هذا لا يعنى قط إنكار وجود المؤلفين والمؤلفات، وإلا كان هذا جنونا، وإنما يعنى تعقيد واختلاف أنماط تمظهرهم إلى درجة التشكيك فى أى اطمئنان يساورنا عندما نجزم أن وردزورث كتب هذه القصيدة “أ” أو “ب”، وهذا كل ما فى الأمر. فلا وردزورث ولا القصيدة “أ” أو القصيدة “ب”، بما هما مجموعة أفكار، تقع بمنأى عن التمحيص التشكيكي لحدودها وفاعليتها التفسيرية والعمق المعرفي.
ولم يفت إدوارد، كعادته، أن يُدهشنا بقوله إن هذه الأفكار المُعرضة للتحدى لم تختف، ولو أنها أحيانا تُثير الكثير من الشكوك والوساوس، وهو ما يجعلها غير صالحة للاستعمال! يقول إدوارد هذا، رغم اقتناعه، مثلا، بأنه يُعد جنونا الادعاء بأن الكتاب والموسيقيين والرسامين ينتجون أعمالهم كأنما على صفحة بيضاء! فالعالم موسوم أصلا، عميق الوسم، ليس فقط بعمل الكتاب والفنانين السابقين، وإنما أيضا بكم ضخم من المعلومات والخطابات، تتحشد فى الوعى الفردى اليوم، مع المدى السيبرنيطيقى والأرشيف الضخم من المواد التى تدهم المشاعر من كل حدب وصوب، بحيث لا يعود بمقدورنا – برأى ادوارد – القول بثقة كاملة أين ينتهى الحيز الفردى أو الخاص وأين يبدأ الحيز العام، ذلك أن حركة سير جديدة صاخبة تجرى بين الحيزين، يتداخل الواحد منهما فى الآخر ويعدل فى تكوينه!
وفى الاطار نفسه، تحدث ادوارد عن تزامن نهاية الحرب الباردة، التى يقول بأنها جُندت واستُخدمت خلالها الرؤية المركزية الأوروبية فى مهمات زادت من تشويه سمعتها، مع عدد من التغيرات المهمة الأخرى التى عكستها الحروب الثقافية خلال الثمانينيات والتسعينيات: من قبيل النضالات ضد الحرب فى فيتنام، وكذا النضالات ضد التمييز العنصري داخليا، وانبثاق وتضافر مجموعة مبهرة من الأصوات الشقاقية – تؤسس على اعادة اكتشاف أصوات شقاقية أقدم عهداً –، سُمع عنها وشوهدت عبر أرجاء العالم أجمع، وذلك فى قطاعات تاريخية وأنثروبولوجية وأقلوية وغيرها من القطاعات المهمشة والمُعارضة فى الفروع الرئيسية للانسانيات والعلوم الاجتماعية. إضافة إلى حديث إدوارد المهم عما لاحظه من حدوث تغير عظيم فى صفوف طلابه فى جامعة كولومبيا، إذ أنهم تغيروا من غالبية من الذكور البيض، درسهم أول الأمر عام 1963، إلى الرجال والنساء المتعددى الاثنية واللغة الذين درسهم لاحقا. وهى أمور رأى ادوارد أنها أسهمت فى التغير الزلزالي البطيء فى المنظور الأنسني فى مطلع هذا القرن.
ولم يكتف ادوارد بذلك، فرأيناه يزخم وجهة نظره بحديث آخر عن نجاح الدراسات الأفريقية الأمريكية، بما هى حقل أنسني جديد – وإن يكن قد تأجل اعتماده طويلا إلى حد التحول إلى فضيحة، أو قُمع تمظهره بما هو حقل أنسني مُمثل فى العالم الأكاديمى –، فى تحقيق أمرين اثنين: أولا، وضعها موضع تساؤل الشمولية الشعارية، بل المنافقة، للفكر الأنسني الكلاسيكي ذى المركزية الأوروبية؛ وثانياً، تأسيسها أهميتها وراهنيتها الخاصتين بما هى مكون أساسي من مكونات الأنسنية الأمريكية فى الوقت الراهن. فبحسب ادوارد، أبان هذان التحولان بدورهما كيف استغنت الفكرة الأنسنية الأمريكية لمدة طويلة جدا عن التجارب التاريخية للأمريكيين الإفريقيين وللنساء والجماعات المحرومة والمهمشة، وهو ما فضح اتكاءها على فكرة عملية عن الهوية الوطنية منقحة ومختصرة جدا، طبقا لأكثر التعبيرات تأدبا، ومحصورة تأكيدا فى مجموعة صغيرة، كان يُظن أنها ممثلة للمجتمع الأمريكى بأسره، مع أن الفكرة تتغافل فعلا عن قطاعات واسعة منه، قطاعات لو اندمجت لكان اندماجها أكثر أمانة للتدفق المستمر وأحيانا للعنف المزعج اللذين هما أبرز سمات واقع الهجرة والتعدد الثقافي فى امريكا.
وفى ختام تحليله الرائع والممتع للتحولات الأساسية، الصامتة حينا، والمحرومة أحيانا ممن يقدرها حق قدرها، التى طرأت فى الأسس ذاتها التى قام عليها الفكر الأنسني والممارسة الأنسنية لزمن طويل فى الولايات المتحدة، يقرر ادوارد سعيد إن من يلقى نظرة استرجاعية على معظم تاريخ الحركة الأنسنية الأمريكية فى القرن العشرين مُضطر للقول إنها ابتُليت بلون من المركزية الأوروبية لا يمكن أن يبقى من غير مساءلة. فاقتصار الدروس الجامعية على عدد قليل من الروائع الغربية المترجمة والمبجلة الزاما، وتضييق الدائرة عما يتكون منه عالم الغربيين، وتجاهل تراثات – إسلامية وهندية وصينية وأفريقية..إلخ – ولغات تبدو خارجة عن تصنيف ما هو محترم أو مكرس، كل هذه الأمور يرى ادوارد وجوب التخلص منها أو على الأقل اخضاعها لنقد أنسني جذري. فمعرفة الكثير عن تراثات أخرى، وهو ما يراه ادوارد حاصلا، يجب أن يحول بين الأمريكيين وبين الظن بأن الأنسنية يُمكن أن تكون ممارسة غربية حصرا! وبعبارة أخرى، يحتاج الفكر الأنسني ومادة الانسانيات فى الولايات المتحدة – فى رأى إدوارد – إلى اعادة تأمل واعادة تزخيم. لأنهما ما إن يتحولا إلى تراث – كما المومياءات – حتى يفقدا الهوية الفعلية ويصيرا مجرد أدوات تبجيل وقمع!
أنسنية إدوارد في إطار الممارسة:
يقول المفكر الأنسني إقبال أحمد، في تقديمه المتميز لكتاب “القلم والسيف”، الذي يضم مجموعة حوارات مهمة وممتعة، أجراها الإعلامي البارز دافيد بارساميان مع إدوارد سعيد([14]): “ادوارد سعيد واحد من الأشخاص النادرين الذين عرفت حياتهم تطابقا مدهشا بين المثاليات والواقع، والتقاء بين المبدأ المجرد والسلوك الفردي. ومنذ أن نشر كتابه ذائع الصيت “الاستشراق” في عام 1978، فان كلمة (جريئة) قد استُخدمت غالبا لوصف كتاباته الثرية. في الحياة الفعلية، فان جرأته ملموسة، وهي مصدر الهام وراحة للأسرة والأصدقاء. وقد تذكرت حادثة جرت قبل بضع سنوات. كان ثلاثة من الأصدقاء يتناولون طعام الغداء في بيروت مع فايز أحمد فايز، الشاعر الباكستاني الذي فر من استبداد محمد ضياء الحق – رئيس باكستان حينذاك – المدعوم أمريكيا ليتخذ له ملجأ لا كالملاجئ في لبنان الذي كانت تمزقه الحرب الأهلية. كان إدوارد سعيد منسجما تماما بينما راح فايز يلقي قصيدة (أغنية المهد لطفل فلسطيني). عندها بالضبط اندلعت معركة حامية بالأسلحة النارية في مكان قريب. هرب الندل مسرعين إلى الداخل، ولم يبق سوانا نحن الزبائن في الباحة. توقفت غريزيا عن ترجمة قصيدة فايز من الأوردو إلى الإنكليزية، ونظرت بتساؤل إلى صديقنا الثالث الذي يعرف بيروت ومقاتليها جيدا. حثني إدوارد قائلا: “هيا تابع” وكأنه لم يحدث شيء غير عادي، وتابعنا..“!
ولمن يسأل: من هو إقبال أحمد الذي أسوق إلى قارئي الكريم كلماته في حق إدوارد سعيد؟ أُجيب: إقبال أحمد هو أستاذ العلوم السياسية، المولود في الهند عام 1933، والمُتوفى في باكستان عام 1999. وهو المحارب الذي وجد في ذاته انجذابا فطريا نحو الحركات الممثلة للمقهورين والمضطهدين، أينما كانوا، سواء في أمريكا أو البوسنة أو الشيشان أو جنوب لبنان أو فيتنام أو العراق أو شبه القارة الهندية! إذ كانت له دراية واسعة بالتاريخ، وكان يُطالب دوما بالنأي بالدين والقومية عن النهب والعنف، باعتبارهما مدخلا ملكيا للأصولية والشوفينية والإقليمية! إقبال هو من حزن إدوارد لموته ورثاه بقوله([15]): “إن الأنسنية والعلمانية لم يملكا صديقا أفضل من عالم السياسة وداعية السلام إقبال احمد“! فهلا شاركتني، قارئي الكريم، الاعتداد بكلمات إقبال أحمد في حق رفيق دربه؟! شريطة ألا يحول ذلك الاعتداد – بطبيعة الحال – دون احتفاظي وإياك، بهامش من الشك، يسمح لنا باختبار مدى صدق تلك الكلمات، على نحو ما سأفعل لاحقاً!
ولسوف أُوجز، لنفسي ولك، أيها القارئ الكريم، بعض أهم وأبرز القناعات الادورية المرتبطة بممارسات ادوارد سعيد الأنسنية، والتي لا بد وأن أكون قد عرضت لها أو لغيرها، ولو على نحو متناثر وغير مباشر، في الجزئية السابقة، في إطار عرضي لدراسة إدوارد الثمينة للحركة الأنسنية والممارسة النقدية في الولايات المتحدة الأمريكية، لما لذلك من أهمية في تمكيني وإياك من اختبار ذلك التناغم الجبار، الذي تحدث عنه المفكر الأنسني إقبال أحمد، بين قناعات ادوارد سعيد وبين ممارساته الأنسنية. غير أنى أتوقع أن تتفهم، أيها القارىء الكريم، أن الاقتباسات الادورية التالية([16])، بما تنطوى عليه من قناعات ادورية، أعجز بحق، وأظن غيري يعجز أيضا، عن وصف مدى روعتها وجلالها، قابلة، وبشكل عبقرى ومُلهم، لأن تنسحب، على قضايا عامة، مهمة وخطيرة، تتجاوز بكثير ما يحدث داخل أروقة الجامعة والدوائر الأكاديمية، ذلك العالم الذي عرفه إدوارد سعيد، مدرسا وناقدا وباحثا قانعا بالفكر الأنسني، أكثر من سواه:
1- “إنني أتعامل مع النقد بجدية شديدة، تصل إلى درجة الإيمان بأنه، حتى في خضم معركة يقف فيها الفرد..بجانب أحد أطرافها، يجب أن يكون هناك نقد ذاتي. فلابد من وجود وعي نقدي، كي تكون هناك قضايا ومشاكل وقيم وحتى حيوات نناضل من أجلها..فينبغي على النقد أن ينظر لنفسه بوصفه عنصرا يُثري الحياة، وفى حالة تضاد بناءة مع كل أشكال الطغيان والسيطرة والاستغلال؛ فأهداف النقد الاجتماعية هي المعرفة اللاقسرية وغرضها الحرية الإنسانية“!
2- “..الفكر النقدي لا يخضع للإيعاز بالالتحاق بالصفوف للمشاركة في حرب على هذا العدو الرسمي أو ذاك. فبعيدا عن تصادم الحضارات المُصنع مسبقا، يفترض بنا الانكباب على عمل دءوب مشترك على الحضارات المتشابكة والآخذة بعضها من بعض والمتعايشة بشكل أعمق مما توحي به أنماط الفهم الاختزالية المزيفة. غير أن طريقة الفهم الأرحب هذه تتطلب وقتا وأبحاثا صبورة ومزيدا من النقد، وتتغذى من الإيمان بمجتمع فكرى يصعب الحفاظ عليه في عالم قائم على استعجال الفعل وردة الفعل. فالأنسنية تغتذى من المبادرة الفردية ومن الحدث الشخصي وليس من الأفكار المسقطة ومن احترام السيادة. فيجب قراءة النصوص على أنها نتاجات لها في التاريخ حيز معين تعيش فيه بشكل مجسد“.
3- “..انظر إلى كامل تاريخ النزعة الأنسنية والمذهب النقدي ـ وهما مترابطان حكما ـ في أكبر عدد من الثقافات والحقبات الزمنية تستطيع إحصاءه، تجد أن ما من إنجاز إنساني عظيم تحقق إلا وحوى مكونا هاما من مكونات الجديد أو كانت له صلة به، أو قبول بما هو الأجد بين كل ما هو صحيح ومثير في فن تلك الحقبة أو فكرها أو ثقافتها..هذه القاعدة العامة..تنسف جذريا الأطروحة الرجعية القائلة إن تبجيل ما هو تراثي أو إتباعي يتعارض حكما مع التجديدات في الفن والفكر المعاصرين. وهو بعيد كل البعد عن ملاحظة فالتر بنيامين الأقسى ـ والأصوب ـ التي تقول إن كل وثيقة من وثائق الحضارة إنما هي أيضا وثيقة همجية. وهى فكرة تبدو لنا أنها أساسا حقيقة إنسانية مأساوية عظيمة المغزى. لا يستحقها الأنسنيون الجدد إطلاقا وهم الذين يرون إلى أن الثقافة المكرسة لن تكون صحية أساسا إلا إذا كانت نقية، وخلاصية على نحو تبسيطين، فى نهاية المطاف. ولكن ما دامت أميركا، تمثل لجميع الوافدين إليها الجديد، وعدا وأملا، يوجد، على ما يبدو، سبب وجيه جدا لربط الأنسنية الأميركية ربطا محكما بطاقات ونخعات ومفاجآت وتعرجات ما هو دائم الوجود وبالجديد والمختلف الذي يصلنا..“.
4- “..لا يمكن أن توجد نزعة أنسنية حقة ينحصر مداها في التبجيل الوطني لفضائل ثقافتنا ولغتنا ورموزنا. فالأنسنية هي بذل كافة جهود المرء في اللغة من أجل أن يفهم منتجات اللغة في التاريخ ويدرس لغات أخرى وتواريخ أخرى ويعيد ترجمتها ويتعاطى معها. وبحسب فهمي لأهميتها اليوم، ليست الأنسنية طريقة في تدعيم وتأكيد ما قد عرفنا “ه” وأحسسنا “ه” دوما، و إنما هي وسيلة تساؤل وإقلاق و إعادة صياغة للكثير الكثير مما يقدم لنا اليوم على أنه يقينات مسلعة، معلبة، مغلقة على النقاش، ومشفرة على نحو غير نقدي، بما فيها تلك الموجودة في روائع، يجري حشرها جميعا في حظيرة “الكلاسيكيات”. يصعب القول إن عالمنا الفكري والثقافي كناية عن مجموعة بسيطة وبديهية من خطابات الخبراء: إنها بالأحرى تنافر مضطرب من المدونات غير المحسومة..“.
5- “لعل الحماسة الدينية أخطر ما يتهدد المشروع الأنسني، طالما أنها في طبيعتها كلية العداء للعلمانية والديمقراطية، بل هي تشكل، في أشكالها السياسية الأحادية، أكثر أشكال اللاإنسانية تزمتا وأشدها انغلاقا على النقاش إطلاقا..والأكيد أن الحفاظ على منظور علماني متكامل هو جزء أساسي من الرسالة الأنسنية..إن التعصب الديني هو التعصب الديني كائنا من كان الداعي إليه أو ممارسه. ولا عذر لمن يكون شعاره (إن تعصبنا الديني خير من تعصبكم الديني)“!
6- “..صحيح أنه في مقدور المرء أن يكتسب الفلسفة والمعرفة، غير أن قابلية الذهن البشري لارتكاب الخطأ (بديلا من تحسنه المطرد) مستمرة مع ذلك. لذا يوجد في المعرفة الإنسانية دوما شيء غير مكتمل جذريا، شيء مؤقت وناقص وقابل للطعن والمجادلة..وهو ما يصيب كل الفكرة الأنسنية بخلل تكويني مأسوي لا قبل لها أن تتخلص منه..يجب الاعتراف بالعنصر الذاتي في المعرفة والممارسة الأنسانويين والتصالح معه نوعا ما، طالما أن لا فائدة ترجى من محاولة تحويل الأنسنية إلى علم حيادي وحسابي“.
7- “إني أعتقد اعتقادا جازما أن النزعة الأنسنية مُطالبة بأن تنقب في صنوف الصمت المختلفة، وفى عوالم الذاكرة، للجماعات المرتحلة الناجية بالكاد من الفناء، كما في أمكنة النبذ والحجب، لتستخرج نمطا من الشهادات لا تجد طريقها إلى تقارير المراسلين، مع أنها تتعلق أكثر فأكثر بالكيفية التي بها تنجو من الطحن والمعس والإجلاء – التي هي من أبرز سمات العولمة – بيئة مستغلة استغلالا مضاعفا واقتصاديات وأمم صغرى كفافية، وشعوب مهمشة أكانت تقع خارج عواصم المركز (الامبريالي) أو داخله“.
8- “..الأنسنية لا تمت بصلة إلى الانكفاء ولا إلى الإقصاء. بل بالعكس تماما: إن هدفها هو التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية على التحرر والتنوير. وعلى القدر ذاته من الأهمية يقع التمحيص النقدي لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. فلن يوجد قط سوء تأويل لا يمكن مراجعته وتحسينه وقلبه رأسا على عقب. و لن يوجد قط تاريخ لا يمكن استعادته، إلى حد ما، وفهمه بشغف بكل ما فيه من عذابات وإنجازات. وعكسا، لن يوجد قط مظلمة سرية معيبة أو قصاص جمعي وحشي أو خطة سيطرة إمبراطورية معلنة لن يمكن فضحها. بالتأكيد، تقع هذه كلها أيضا في صميم التربية الأنسنية، على الرغم من الحكم بالتخلف الأبدي الذي تصدره كل الفلسفة المحافظة الجديدة المزعومة على طبقات وأعراق بأكملها مبرهنة – إذا كانت البرهنة هي الكلمة المناسبة – بواسطة أسوأ التأويلات الممكنة للداروينية، إن بعض البشر يستحق الجهل والفقر والمرض والتخلف وفقا لأحكام حرية التجارة، فيما بشر آخرون تستطاع قولبتهم بواسطة برامج المصانع الفكرية وسياساتها لتحويلهم إلى نخب جديدة“.
9- “..إذا كنا لا ندرك أن جوهر الأنسنية هو إدراك التاريخ البشري بما هو مسار متواصل من معرفة الذات وتحقيق الذات، ليس بالنسبة إلينا وحدنا، الأوروبيين والأميركيين البيض الذكور، وإنما بالنسبة لجميع الناس، فهذا يعنى أننا لم ندرك شيئا على الإطلاق. توجد تراثات حصيفة أخرى في العالم ، توجد ثقافات أخرى، يوجد عباقرة آخرون . تحضرني هنا عبارة رائعة لليو سبتزر، ألمع قارئ نصوص أنتجه هذا القرن، الذي أمضى آخر سنوات حياته بما هو مفكر أنسني أميركي من أصل أوروبي، يقول: (الأنسني هو من يؤمن بقوة العقل البشري على سبر أغوار العقل البشري). لاحظ أن سبتزر لا يقول “العقل الأوروبي”، ولا يكتفي بالحديث عن “القانون” الغربي. إنه يتحدث عن العقل البشري وحسب..بالتأكيد يمكن للمرء أن يقبل، كما أنا أقبل، وجود إنجازات أعظم وانجازات أقل شأنا في الفنون، بل وجود انجازات لا تستحق الاهتمام كليا (فما من أحد يستطيع أن يحب كل شيء، في نهاية المطاف) ولكنني لن أسمح أن يقال إن شيئا أو إنسانا يفقد صفته الإنسانية ويُسقط من الحساب نهائيا لمجرد أنه ليس من أهلنا أو لأنه ينتمي إلى تراث مختلف عن تراثنا، أو أنه صادر عن منظور وتجربة مغايرين أو ناجم عن مسارات إنتاج مختلفة عن مسارات الإنتاج عندنا، كما هو حال صول بلو في عبارته المرعبة في تعاليها: (جدوا لي قرينا لبروست بين قبائل الزولو)“.
10- “..أول ما أفكر فيه، باستخدامي كلمة أنسنية، هو الرغبة في تحطيم السلاسل التي كبل بها وليم بلايك فكرنا بغية توظيفه في عملية تأمل تاريخية قياسية. كما أنه يمكن الحفاظ على الأنسنية عبر شعور جماعاتي مشترك مع بحاثة آخرين ومجتمعات أخرى وعصور أخرى، إذ ليس من أنسني بعيد عن العالم. وكل مجال مرتبط بسائر المجالات كلها، وما من شيء يحدث في العالم يمكن أن يبقى معزولا وسليما من كل التأثيرات الخارجية. فعلينا أن نتناول موضوع المظالم والمعاناة، وإنما في إطار مندرج بشكل واسع في التاريخ والحضارة والواقع الاجتماعي الاقتصادي. ويقوم دورنا على توسيع حقل النقاش“.
11- “..الأنسنية هي متراسنا الوحيد، إن لم أقل الأخير، في مواجهة السياسات اللاإنسانية والمظالم التي تمسخ تاريخ البشرية. وقد بتنا نمتلك هذا الحقل الديمقراطي المشجع جدا والمتمثل بهذه الشبكة الافتراضية، المفتوحة للجميع، وعلى مستوى لم يكن للأجيال السابقة ولا لأي طاغية أو أرثوذكسية أن تتصوره“.
تلك كانت أهم وأبرز القناعات الادورية المرتبطة بممارسات إدوارد سعيد الأنسنية، جمعتها وأوردتها بنصها، لخطورتها وأهميتها، كما أسلفت، في اختبار ذلك التناغم الجبار – بين قناعات ادوارد سعيد وبين ممارساته الأنسنية –، الذي تحدث عنه المفكر الأنسني إقبال أحمد، في تقديمه المتميز لكتاب “القلم والسيف”، والمشار إليه سلفا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لإغراء القارئ العربي – على ندرته – بالإقبال على قراءة الروائع الادورية، على ارتفاع ثمنها، وكذا إقناعه بالتحول عن قراءة أعمال جوفاء، هي بحق “جعجعة بلا طحن“، رغم ما تلقاه من حفاوة، أراها لا تستحقها! أقول هذا، وأنا أعلم من غيري، بصعوبة أن تجد الروائع الادورية في أجواءنا الثقافية البالية من يتعهدها بالاهتمام الكافي!
على أية حال، لتكن معالجتى لممارسات إدوارد سعيد الأنسنية، محكومة بطبيعة القضايا التي لطالما كانت مضمارا لهذه الممارسات، فقد استرعى انتباهى أن نشاطات إدوارد وأعماله، على تنوعها وثراءها، تتمحور حول قضايا بعينها، ملك اهتمام إدوارد بها عليه عقله وقلبه! إذ لا يكاد يخلو حديث أو كتاب أو محاضرة أو ندوة أو حوار لادوارد سعيد من التأكيد على موقفه الأنسني من قضايا مهمة، فى مقدمتها الاستشراق وفلسطين واستقلالية المفكر، جمع بينها جميعا كونها قضايا شائكة ومثيرة للجدل، إضافة إلى كونها – ويالسخرية الأمر – قضايا خاسرة، دافع عنها إدوارد بحماس وارتبط فطريا بها خلال معظم سنى حياته! وهو الموقف الذى لم يتحول عنه ادوارد أو يتنكر له حتى رحيله!
قضية الاستشراق:
ارتبط اهتمام ادوارد بهذه القضية، على نحو مُلفت، بسعيه الدءوب لتكوين سبيل جديد لنفسه! وتأثر هذا الارتباط كثيرا، باعتقاد ادوارد في قول فيكو إن البدايات لا تُكتشف، بل تُصنع وتُخلق وتُصاغ، وأيضا اعتقاده المتجذر، والذى ساعد على بلورته لاحقا اشرافه من مكانه المتميز فى جامعة كولومبيا على الحركة الأنسنية الأمريكية، فى أهمية اعادة تأمل وتزخيم الفكر الأنسني فى الولايات المتحدة، خشية أن يفقد الهوية الفعلية ويصير مجرد أداة تبجيل وقمع!
ففي مطلع الثلاثينات من عمره، كان ادوارد قد أكمل الأشياء التقليدية، ووضع كتابه الأوّل، “جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية“، وبعض المقالات. غير أنه وجد نفسه مُطالبا بأن يجد سبيلا جديدا لنفسه، وكان اختيار المنهج شكلا من أشكال البداية، لكن المركزى فيه بالطبع كان مشكلة القص أو النص السردي! ولم يلبث الأمر أن تكثف منذ اهتمامه بالبنيوية وميشيل فوكو، ومدى وملاءمتها. وخلال سنتي 1972 – 1973، أنهى ادوارد كتابه “بدايات: القصد والمنهج“، فى بيروت، حيث قضى السنة الأكاديمية متفرغا، وحيث بدأ دراسة العربية، على يد أنيس فريحة، وقرأ معه النصوص الحديثة والكلاسيكية، إلى جانب التراث، كالغزالي وابن خلدون، فضلا عن العديد من النصوص التاريخية والشعرية ([17])!
ومع اندلاع حرب اكتوبر 1973، رأى ادوارد أن ما يجرى على الأرض فى الشرق الأوسط، علاوة على ما اكتسبه عبر تجربته الشخصية، لم يكن يتوافق أبدا مع ما يُكتب فى وسائل الاعلام الأمريكية على سبيل المثال. وأخذ يتصور فكرته القائلة أن ما يراه المرء ويقرأه فى الغرب كان جزءا من نظام تمثيل لم تتم بعد دراسة تاريخه ونطاقه على نحو منهجى ومعمق! وكذا فكرته حول استبدال هذا النظام – نظام الهيمنة واساءة التمثيل الذى يحمل اسم الاستشراق –، بفضاء يسمح للشعوب أن تكتب تواريخها الخاصة بها! وفي شتاء 1974، وأثناء قيامه بتصحيح مسودات كتابه “بدايات: القصد والمنهج”، بدأ ادوارد إبان وجوده في هارفارد، العمل على انجاز ما سيصبح لاحقا رائعته “الاستشراق“، والتى أظنه وجد فيها، على نحو مُبهر ومُلفت، سبيله الجديد الذى كان يبحث عنه([18])!
وبالنظر إلى الافتراض الذى بدأ به ادوارد “الاستشراق”، دراسته الرائدة والشهيرة، نجد أنه جاء مغايرا تماما للافتراضات التى اصطُلح على البدء بها فى الدراسات الغربية، المعنية بالشرق، فقد بدأها ادوارد بالافتراض التالي([19]): “إن الشرق ليس حقيقة خاملة من حقائق الطبيعة. فهو ليس مجرد وجود ثمة، بالضبط كما أن الغرب نفسه ليس مجرد وجود ثمة. وينبغى أن نأخذ بجدية ملاحظة فيكو العظيمة أن البشر يصنعون تاريخهم، وأن ما بمقدورهم أن يعرفوه هو ما صنعوه، وأن نسحب هذه الملاحظة لتنطبق على الجغرافية: ذلك أن مواضع وأقاليم وأقساما جغرافية كالشرق والغرب، من حيث هى كيانات جغرافية وثقافية – دون أن نقول شيئا عن كونها كيانات تاريخية – هى من صنع الانسان. ومن ثم، فان الشرق، بقدر الغرب نفسه تماما، هو فكرة ذات تاريخ وتراث من الفكر، والصور، والمفردات التى أسبغت عليه حقيقية وحضورا فى الغرب ومن أجل الغرب. وهكذا فان كلا من هذين الكيانين الجغرافيين يدعم الآخر وإلى حد ما، يعكسه“!
وفى تبريره لاقدامه على تبنى مثل ذلك الافتراض الجديد والجرىء، تحدث ادوارد عن انسجامه مع استناده فى الدراسة نفسها إلى “النقد الأنسني”، بغية توسيع مجالات النضال المتوافرة وإحلال فكر وتحليل أكثر عمقا، على المدى الطويل، مكان التماعات الغضب الوامضة اللامبررة التى لطالما أسرته هو وغيره([20]).
وللقاريء الكريم أن يلاحظ مدى إصرار ادوارد، فى تبريره، على أن يسمي ما قام به “أنسنية“، وهو يعلم جيدا أنها الكلمة التى ترفضها بازدراء الدراسات النقدية المغلوطة فى عصر ما بعد الحداثة، وهو ما يعضد قولي بولاء ادوارد سعيد لقناعاته الأنسنية، واصراره المدهش على أن تأتي ممارساته تجسيداً لها. وكنت أوردت سلفا، تأهبا لمثل هذا الموقف، قول إدوارد بان أول ما يفكر فيه، باستخدامه كلمة “أنسنية“، هو الرغبة في تحطيم السلاسل التي كبل بها وليم بلايك الفكر بغية توظيفه في عملية تأمل تاريخية قياسية. اضافة إلى قوله بامكانية الحفاظ على الأنسنية عبر شعور جماعاتي مشترك مع بحاثة آخرين ومجتمعات أخرى وعصور أخرى، إذ ليس من أنسني بعيد عن العالم. وكل مجال مرتبط بسائر المجالات كلها، وما من شيء يحدث في العالم يمكن أن يبقى معزولا وسليما من كل التأثيرات الخارجية. وكذلك قوله بوجوب تناول موضوع المظالم والمعاناة، وإنما في إطار مندرج بشكل واسع في التاريخ والحضارة والواقع الاجتماعي الاقتصادي. على أن يضطلع المفكرون بمهمة توسيع حقل النقاش!
وفى رده على مراجعة جايمس كليفورد العميقة، المنشورة عام 1988 فى الدورية المرموقة “التاريخ والنظرية“، بما هى أحد فصول كتاب كليفورد النافذ “محنة الثقافة“، والتى تحدث صاحبها عن وجود مفارقة كبيرة فى صميم كتاب “الاستشراق“، وهى النزاع بين انحياز ادوارد الأنسني المعلن والمؤكد، وبين نزعة العداء للأنسنية التى ينطوى عليها موضوع الكتاب ومقاربة ادوارد لذلك الموضوع! إذ نعى كليفورد على ادوارد “الانتكاسة إلى أنماط التأصيل ذاتها التى يهاجمها (كتاب الاستشراق)“، وكذا تذمر من أن الكتاب “متورط على نحو ملتبس، بعادات الاجمال التى تتبعها النزعة الأنسنية الغربية“. اضافة إلى استطراد كليفورد فى مكان تال من مراجعته المهمة قائلا: “إن وضعية ادوارد النقدية المعقدة، بما فيها من تنافرات لا يمكن رفضها على أنها مجرد شواذ من الشواذات، وانما هى عرض من أعراض ما يعانى منه الكتاب من محنة قلقة“، مضيفا أن “مراوحات الكتاب – يقصد الاستشراق – هى من خصائص تجربة تزداد شمولا“([21]).
أقول إن إدوارد فى رده على مراجعة جايمس كليفورد، يقرر أن النقطة المثيرة فيها هى الطريقة التى بها يصف كليفورد الفكر الأنسني على أنه متفارق أساسا مع النظرية المتقدمة التى شدد عليها بنوع خاص واستلهمها، نظرية ميشال فوكو. حتى أنه اتفق مع قول كليفورد أن تلك النظرية المتقدمة قد تخلصت، إلى حد كبير، من أنماط التأصيل والاجمال التى تغلب على الفكرة الأنسنية. غير أن ادوارد لم يلبث أن استدرك كعادته قائلا إن كليفورد كان على حق فى غير وجه.
فوفود النظرية الفرنسية إلى الجامعات الأمريكية والانجليزية، خلال الستينيات والسبعينيات، أدى إلى اسداء هزيمة قاسية، إن لم نقل ضربة قاضية، للتراث الأنسني، على يد قوى البنيوية وما بعد البنيوية، وقد بشرت هذه وتلك بموت الانسان بما هو مؤلف، مؤكدة غلبة الأنظمة المعادية للأنسنية كما تعبر عنها أعمال ليفي شتراوس وفوكو ذاته ورولان بارت. وادوارد، وإن كان واحدا من أوائل النقاد الذين تناولوا النظرية الفرنسية وناقشوها فى الجامعات الأمريكية، بيد أنه ظل غير متأثر – كما لاحظ كليفورد عن حق – بما تحمله تلك النظريات من عداء للايديولوجيا الأنسنية. وهو ما يُرجعه ادوارد إلى اقتناعه الراسخ، والمشار إليه سلفا، بامكانية نقد المذهب الأنسني باسم الفكرة الأنسنية، وامتناعه عن اختزال النزعة الانسنية إلى تيار من تيارات التأصيل والاجمال كالتى يتبينها كليفورد. وكذا عدم اقتناعه بالحجج التى قدمتها البعد حداثية، على اثر نشوء البنيوية الضد أنسنية، بمواقفها الرافضة لـ “كبريات سرديات التنوير والتحرير“، بحسب تسمية جان فرانسوا ليوتار الشهيرة. اضافة إلى ما يقول عنه إدوارد إنه مقدارا لابأس به من نشاطيتة السياسية والاجتماعية، طمأنه إلى أن البشر فى أرجاء العالم الأربعة يمكن أن تحركهم أفكار العدالة والمساواة، ولا تزال تحركهم فعلاً([22])!
وفى اطار الحرص نفسه على تأكيد موقفه الأنسني إزاء قضية “الاستشراق“، وضع ادوارد كتابا آخرا مهما، بعنوان “الثقافة والامبريالية“، بسط فيه جناحيه فوق عالم أعظم مدى ورحابة من العالم الذى غطاه مؤلفه “الاستشراق“، ليكشف عن التواطؤ الكلي والتشابك الحميمي بين الامبريالية والثقافة التى أنتجتها مجتمعاتها. وتجاوز ادوارد هذا ليكشف أبعادا مقموعة للثورة ضد السيطرة الامبريالية فى جميع بقاع العالم غير الأوروبي، ويوجه نقده الأنسني إلى الاستعلائية المضادة الممثلة فى القومية الشوفينية والأصولية ونظريات الصفاء العرقي أو الثقافي! ولسوف أختم سعيي للبرهنة على أنسنية التعاطي الادورى مع قضية الاستشراق، بفقرة شيقة ورشيقة، تحدث فيها ادوارد عن كتابه “الثقافة والامبريالية“، وعن نفسه، بقوله([23]):
“..هذا الكتاب كتاب منفى. لقد نشأت، لأسباب موضوعية لم يكن بوسعى السيطرة عليها، عربيا ذا تعليم غربي. ومنذ أقصى لحظة أستطيع استذكارها، أحسست بأنني أنتمي إلى كلا العالمين، دون أن أكون كلية جزءا عضويا من أى منهما. لكن، خلال سنوات حياتى، حدث أن تلك الأجزاء من العالم العربي التى كنت أشد ألفة بها قد غيرتها تماما الاضطرابات المدنية أو الحروب أو أنها، ببساطة، زالت من الوجود. ولفترات طويلة من الزمن، كنت وما أزال خارجيا لامنتميا فى الولايات المتحدة، وبشكل خاص حين حاربت، وعادت بعمق، ثقافات العالم العربي ومجتمعاته (التى لا أزعم لها الكمال). بيد أنني حين أقول (منفى) فأنا لا أعني ما هو حزين أو محروم. بل على العكس، ذلك أن انتماءك إلى كلا ضفتى الفالق الامبريالي يتيح لك أن تفهمهما بسهولة أكبر. وعلاوة، فإن نيويورك، المدينة التى اُنجز فيها هذا الكتاب كله، هى بطرق عديدة جدا مدينة النفى النموذجية؛ وهى تضم فى طوايا ذاتها البنية المانوية الثنوية للمدينة الاستعمارية كما يصفها فرانتز فانون. وقد يكون ذلك كله نشط نمط الاهتمامات والتأويلات المجازف بها هنا؛ لكن ما لا ريب فيه أن هذه الظروف أتاحت لى أن أشعر وكأنني أنتمى إلى أكثر من تاريخ واحد ومن جماعة واحدة. أما السؤال عما اذا كانت هذه الحالة قابلة للاعتبار بحق بديلا ناجعا للاحساس المعتاد بالانتماء إلى ثقافة واحدة وللشعور بحس بالولاء لأمة واحدة، فإنه ينبغي أن يُترك للقارىء – يقصد ادوارد قارىء كتابه “الثقافة والامبريالية” – ليختار إجابة عليه“!
قضية فلسطين:
قلت سلفاً إنه لا يكاد يخلو حديث أو كتاب أو محاضرة أو ندوة أو حوار لادوارد سعيد من التأكيد على موقفه الأنسني من قضايا بعينها، جمع بينها جميعا كونها شائكة ومثيرة للجدل، إضافة إلى كونها قضايا خاسرة، دافع عنها إدوارد بحماس وارتبط فطريا حتى رحيله! وأرانى قانعا أن هذا القول يصدق أكثر ما يصدق على موقف ادوارد سعيد من قضية فلسطين، فلطالما أكد الرجل أن الفكرة القائلة إن على الفلسطينيين، في رفضهم التطبيع، مقاطعة كل الإسرائيليين من دون تمييز، تُشكل سلاحا بالغ العمومية، يفتقر في النهاية إلى الفاعلية ويرتد عليهم بالضرر! إذ أن عليهم – في رأي ادوارد – أن يوضحوا للإسرائيليين بما لا يقبل الشك أن كفاحهم لا يهدف إلى طردهم من الشرق الأوسط، إذ لا يمكن إعادة الساعة إلى ما قبل 1917 أو ما قبل 1948! وكما اعتاد الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا أن يؤكد، إبان عملية التحول السياسي فى بلاده عن نظام العزل أو الفصل العنصري اللاإنساني، على حقوق البيض في جنوب أفريقيا، اعتاد ادوارد أيضا أن يؤكد أن على الفلسطينيين بدورهم أن يؤكدوا للإسرائيليين أنهم يريدون لهم البقاء والمشاركة معهم في الأرض على أساس المساواة، فمن هنا فقط يمكن مناشدتهم على أساس الحقوق المدنية والإنسانية والسياسية لكل سكان فلسطين. وفى الوقت نفسه عارض ادوارد بقوة سيطرة الإسرائيليين على الفلسطينيين واستمرارهم في احتلال أرضهم وحرمانهم إياها. بيد أنه رأى أنه لو قال الفلسطينيون للعناصر الديمقراطية في المجتمع الإسرائيلي إنهم يطمحون إلى الأهداف نفسها، أي التساوي في الحقوق والحياة الكريمة في ظل الأمن والسلام، لأمكنهم التعاون معها. شريطة – والكلام لادوارد – أن يقوم الفلسطينيون بذلك بناء على إدراك دقيق لطبيعة المجتمع المدني الإسرائيلي، مثلما فعل الفيتناميون تجاه الولايات المتحدة الأمريكية والجزائريون تجاه فرنسا([24]).
كذلك قال ادوارد بوجوب تواقت ذلك مع حديث الفلسطينيين عن أوضاعهم الداخلية وكيفية إعادة ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل. ذلك أنه يستحيل عليهم كشعب الاستمرار في المعاناة الصامتة تحت طغيان النخب الفلسطينية الحاكمة وفسادها. فمن مصلحة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة – فى رأيه – استمرار سلطة فلسطينية، تتسم بهذا القدر من الضعف والفساد والافتقار إلى الشعبية، لبعدها التام بطبيعة الحال عن الديمقراطية والحوار بين الأنداد. لهذا، طالب ادوارد الفلسطينيين بالعمل الجاد على إيصال كفاحهم إلى ما أسماه “الولاية الإسرائيلية“، للمناداة هناك بالسلام والعدالة للشعبين، في دولتيهما المتجاورتين والمستقلتين. وقال بأن الفلسطينيين سيبقوا في تخبطهم وتحملهم آلام الاحتلال وأهواله من جهة، والحكم الفلسطيني اللاانساني من جهة ثانية، إلى أن يقوموا بذلك، على أن يقوموا به من دون عقدة الذنب من مخاطبة العدو، وعلى أساس التمييز الواضح بين تجار الآلام والقوى الحقيقية الساعية للسلام في إسرائيل. فاليهود – طبقا لإدوارد – ليسوا مستعمرين عاديين. نعم، عانوا المحرقة، ونعم انهم ضحايا مناهضة السامية. لكن كلا، لا يمكن لهم أن يستخدموا هذه الحقائق ليستمروا، أو يشرعوا، بتشريد شعب آخر لا يتحمل أي مسؤولية عن أي من هذه الحقائق السابقة المؤلمة([25]).
نتيجة لآراءه تلك، كانت حياة ادوارد، فى بعض الأحيان، عُرضة للتهديد من مجموعات عنيفة، وكانت تلك التهديدات جدية إلى حد أن الـ “اف. بي. آي” كانت تحذره بأن عليه أن يكون منتبها. وقد كان متنبها إلى أفضل حد ممكن، ولكنه لم يصغ أبدا إلى أي مشورة من صديق أو خبير بأن يذهب في عطلة أو يتجنب اللقاءات في الأماكن العامة أو أن يخفف من موقفه الأنسني إزاء قضية فلسطين. وحتى حين كانت تلك التهديدات لحياته تترافق مع حوادث اغتيال فعليه، وحتى حين اُغتيل عصام سرطاوي في باريس وأبو جهاد في تونس، ظل إدوارد يعيش حياة طبيعية على نحو لافت للانتباه. ولعل فى عدم توقف التهديدات بالقتل بعد انضمام منظمة التحرير الفلسطينية إلى المباحثات في مدريد، ولا بعد أن وقع ياسر عرفات – رئيس المنظمة آنذاك – على اتفاقية مع إسرائيل، تأكيدا لأنسنية الموقف الادورى، إذ أن كل ما حدث هو تغير مصادر التهديد فحسب! ففي العالم العربي حيث تتزامن المصالح الأجنبية المتزايدة مع انهيار الإرادة المستقلة ووجود الفساد الداخلي وفي جو من الانهيار العام، فان أصحاب القناعات الأنسنية يُعتبرون على أنهم خطرون من قبل الحكومات التي تحكم بالإكراه وليس بالقبول([26]).
صفوة القول ان ادوارد ظل ملتزما بعمق بتحرير فلسطين دون أن ينسى أبدا محدوديات القومية، اقتناعا منه بأن رؤيا متمركزة ذاتيا للعالم تصيبنا جميعا بالعدوى! وهو ما يتفق مع كونه المناضل الذى عمد دوما لتكريس العالمية في السياسة والثقافة وعلم الجمال كمعادل للخيارات الطائفية. وكما قال مرة فإنها مسألة ما إذا كنت ستدخل التاريخ بذراعين مفتوحتين أو قبضة مضمومة([27])!
قضية استقلالية المفكر:
في إطار برنامج محاضرات ريث في الولايات المتحدة الأمريكية([28])، وفي سبيل تعضيده لفرضيته حول الدور العام للمفكر كلامنتم وهاو ومزعج للوضع القائم، أكد إدوارد سعيد أن المفكر فرد ذو دور اجتماعي محدد في المجتمع، لا يمكن اختزاله ببساطة لأن يكون عضوا كفئا من طبقة يقوم بعمله وحسب. فالحقيقة المركزية بالنسبة لإدوارد هي أن المفكر فرد وُهب قدرة لتقديم، وتجسيد، وتبيين رسالة، أو رؤية، أو موقف، أو فلسفة، أو رأي إلى جمهور ولأجله أيضا. وهذا الدور ـ والكلام لإدوارد ـ له مخاطره أيضا، ولا يمكن للمرء أن يلعبه دون الشعور بأن مهمته هي طرح الأسئلة المربكة علنا، ومواجهته التزمت والجمود، وأن يكون امرؤا لا تستطيع الحكومات أو الشركات الكبرى احتواءه بسهولة، والذي مبرر وجوده هو أن يمثل هؤلاء الناس والقضايا التي نُسيت بشكل روتيني أو كُنست تحت البساط. وطبقا لإدوارد، يفعل المفكر ذلك على قاعدة المبادئ العامة: أن الناس جميعا مؤهلون لتوقع معايير سلوك لائقة فيما يخص الحياة والعدالة من القوى الدنيوية أو الأمم، وأن انتهاك هذه المعايير عمدا أو دون عمد يتطلب أن يشهد المفكر ضدها وأن يقاتل بنبل وشجاعة.
وهذا لا يعني دوما، من وجهة نظر إدوارد ، أن ينتقد المفكر سياسة الحكومات المختلفة، بل الأصح هو أن يفكر – المفكر – بأن مهنته حافظة لحالة اليقظة الدائمة، والرغبة المستمرة في عدم السماح لأنصاف الحقائق أو الأفكار الموروثة بتسيير المرء معها. وهو ما يتطلب بالضرورة طاقة عقلية شبيهة بالطاقة الجسدية للرياضيين، تغني المفكر، ولو أنها لا تجعله شعبيا على وجه الخصوص. فالمفكر الحقيقي، في مفهوم إدوارد سعيد للكلمة، لا هو مهدئ ولا هو باني إجماع، بل هو شخص يراهن بكل وجوده على حس نقدي حي، حس عدم الاستعداد لقبول الصيغ السهلة، أو الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والمكيفة باستمرار لما يجب أن يقوله الأقوياء أو التقليديون، وما يفعلونه. ليس فقط على نحو معارض سلبيا، بل أن يكون مستعدا لقول ذلك علانية وعلى نحو نشط.
وكعادته، يضرب ادوارد لسامعيه وقرائه مثلا بنفسه، قائلا إنه لما عرضت عليه وسائل الإعلام المختلفة، مرات عديدة، أن يعمل مستشارا بأجر، رفض فعل ذلك، ببساطة لأن ذلك عني أن يكون حبيسا لمحطة تليفزيونية واحدة أو مجلة بعينها، ومحكوما أيضا باللغة السياسية الجارية ومنظومة المفاهيم الخاصة بهذه المؤسسة أو تلك. وعلى نحو مماثل، أعرض ادوارد دوما عن أي اهتمام بالاستشارات المدفوعة الأجر للحكومة أو المعارضة، حيث لم يكن لديه فكرة عن أي استخدام يمكن أن تُوظف أفكاره له فيما بعد. وتلك ممارسات أراها – وأظنك تشاركنى الرأى أيها القاريء الكريم – تجسيدا أمينا للقناعة الادورية بالدور العام للمفكر، كلامنتم وهاو ومزعج للوضع القائم، لا كمن يخدم ربا سياسيا على نحو ضعيف التمييز، فيرى كل الشياطين في الجانب الآخر! فالمفكر الحقيقي – من وجهة نظر إدوارد – هو القادر على حسم الاختيار بين أن يقدم الحقيقة على أحسن وجه يستطيع، وبين أن يسمح لراع بعينه أو سلطة بعينها أن توجهه.
تأثير الاسهام الادورى على رؤيتى للفكر الأنسني:
قارئى الكريم، أما وقد فرغت من عرضي الموجز لأهم قناعات ادوارد سعيد وأهم ممارساته الأنسنية، أظنك الآن تبينت معى أن الرجل كان أشبه بعداء أسطوري، يعدو بسرعة ومهارة فائقتين، على حاجز وهمي، يفصل بين الشيء ونقيضه! ولسوف أسعى جاهدا فى السطور التالية لاطلاعك، قدر استطاعتي، على مدى تأثير الاسهام الادورى فى مجال الفكر الأنسني على رؤيتى للفكر نفسه.
يقول ادوارد فى تقديمه للترجمة العربية لرائعته “الثقافة والامبريالية“([29]): “إن الأمر فى نظرى ليقع على مشارف اللغز أو السر؛ لماذا ساعد “الاستشراق” فى باكستان، والهند، وأفريقيا، واليابان، وأمريكا اللاتينية، وأوروبا، والولايات المتحدة، على إطلاق العديد من أنهاج الانشاء الجديدة، وأساليب التحليل الجديدة، واعادات تأويل للتاريخ والثقافة، فيما ظل تأثيره فى العالم العربي محدودا؟!“. ذلك هو القول الادورى المُلهم، أوردته بنصه، لأهميته فى تحفيزي على السعي، في حدود الإمكانيات المتاحة، للإفادة من الإسهام الادورى! ولكم أحزن حين يساورنى الشك بأن رؤيتي المتواضعة للفكر الأنسني، والتي أُشير إليها لاحقا، لربما لم تكن لتُرضي استاذى ادوارد سعيد لو أنه كان بيننا اليوم! بيد أن قناعتي، بأن رؤيتي تدين للإسهام الادورى دينا عظيما، تُغريني دوما بالكثير من الثقة والتفاؤل!
بدأت معرفتى بادوارد سعيد، عبر قراءتى لمقالاته الممتعة، التى اعتاد على كتابتها لجريدة “الأهرام ويكلي“، وهي جريدة مصرية، تصدر باللغة الانجليزية عن مؤسسة الأهرام. كنت أتطلع بشغف بالغ لمطالعة تلك المقالات الادورية، حتى أنه لم يكن عندى ما هو أكثر امتاعا من أن أحلم بالمستقبل غير عثورى، على عدد من الجريدة، به مقال لادوارد، كدت أفقد الأمل فى العثور عليه! إلى هذه الدرجة شُغفت بالفكر الادورى، رغم أنى لم أكن ساعتها أعلم عنه أكثر مما ذكرت توا!
وبمضي الوقت وجدتني أزداد شغفا بالفكر الادورى واعتقادا فى قدرته على مساعدتى على خلق الذات بالذات، وذلك لسببين: أولاً، اعتزاز ادوارد باستقلاليته كمفكر، وولعه بالنقد الأنسني. فلا أظن مفكرا عربيا، قبل ادوارد أو بعده، عبر بنفس الدرجة من الوضوح والروعة عن رأيه فى قضية استقلالية المفكر وحقه فى النقد! فادوارد هو القائل بأن استقلالية المفكر لا تعني دوما أن ينتقد المفكر سياسة الحكومات المختلفة، وانما تعنى أن تظل المهنة الفكرية – مهنة المفكر – حافظة لحالة اليقظة الدائمة، والرغبة المستمرة في عدم السماح لأنصاف الحقائق أو الأفكار الموروثة بتسيير المرء معها. وهو ما يتطلب بالضرورة طاقة عقلية شبيهة بالطاقة الجسدية للرياضيين، تغني المفكر، ولو أنها لا تجعله شعبياً على وجه الخصوص. فالمفكر الحقيقي، والقول لا يزال لادوارد، لا هو مهدئ ولا هو باني إجماع، بل هو شخص يراهن بكل وجوده على حس نقدي حي، حس عدم الاستعداد لقبول الصيغ السهلة، أو الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والمكيفة باستمرار لما يجب أن يقوله الأقوياء أو التقليديون، وما يفعلونه. ليس فقط على نحو معارض سلبيا، بل أن يكون مستعدا لقول ذلك علانية وعلى نحو نشط!
ثانياً، ارتباط الفكر عند ادوارد بالأخلاق، على نحو مذهل، حتى أنه يصعب الفصل بينهما! على خلاف ما نراه فى مجتمعاتنا العربية! فها هى شخصية عربية شهيرة، أشهر من نار على علم كما يقولون، يُقال اليوم أن كتاباتها وأحاديثها التليفزيونية تُباع بالكلمة، دلالة على أهمية ما يكتبه ويقوله صاحب هذه الشخصية! صحيح أنه احتل فى خمسينيات وستينيات وربما سبعينيات القرن الماضى موقعا لصيقا برمز نخبوي عربي بارز، فى دولة عربية بارزة. وهو ما قد يقدم لنا تبريرا لما يتمتع به الرجل اليوم من شهرة واسعة. لكن المدهش والمثير للاستغراب هو أن كتابات الرجل وأحاديثه، التى تلقى كل هذا الرواج الذى أشرت إليه توا، تأتى فى معظمها انتقادا لأوضاع راهنة، يدافع الرجل نفسه – وربما فى نفس الكتابات والأحاديث – باستماته عن أوضاع مماثلة، ربما كانت أبشع، ارتُكبت فى الماضي، تحت سمعه وبصره، دون أن يهتز لها ضميره!
المهم، قادنى تعمقي التدريجي، فى كتابات ادوارد المختلفة، إلى فكرة الافاده من دعوته، فى “الاستشراق”، إلى إطلاق العديد من أنهاج الانشاء الجديدة، وأساليب التحليل الجديدة، واعادات تأويل للتاريخ والثقافة، فى شتى أرجاء العالم! وبالفعل، وضعت أول دراسة لى، بعنوان “آلام العالم العربي“، وهي دراسة مسحية، تعج بالمعلومات أكثر مما تعج بالتحليل! عمدت فيها لسبر غور الآلام العربية، تلك التى نحسها ولا ندرى أسبابها! والدراسة عبارة عن مقارنة بين فترتين مهمتين فى التاريخ العربي، الأولى فترة الخضوع للاستعمار الأوروبي، والثانية فترة الاستقلال السلبي، وهى الفترة من زوال الاستعمار وحتى اليوم!
فبرحيل الاستعمار الأوروبي عن عالمنا العربي، تنفست الأمة العربية الصعداء، بيد أن أن لحظة الاستقلال الحقيقي تلك لم تدم طويلا، فسرعان ما حلت النخب العربية الحاكمة محل المستعمر الأوروبي، وراحت تعمل جهد طاقتها على تكريس الأوضاع العربية المتردية، التى خلفها الأوروبيون، من خلال ممارسات، تماثل في مضمونها الممارسات الاستعمارية، بل تتجاوزها في أحيان كثيرة إلى ما هو أسوأ! وبذلك دخل العالم العربي ما أسميته، فى دراستي، بحقبة الاستقلال السلبي، تلك الحقبة التي اتسمت بخصائص عديدة، لعل أهمها مساندة القطبيين الأعظم لاستقلال الدول العربية استقلالاً سلبياً! علاوة على عدم تخلي الولايات المتحدة وحلفائها عن تلك المساندة، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك كتلته الشرقية، لعدم انتفاء دوافعها، باستثناء الدافع الخاص باحتواء المد الشيوعي!
وكنت قد نشرت “آلام العالم العربي” على حسابي، فى طبعة رديئة، لم تُوزع منها سوى نسخ قليلة! غير أنى خرجت منها بنتائج أراها مهمة، لعل أهمها أن سقوط عالمنا العربي في براثن الاستقلال السلبي جاء ممهوراً بعدة أسباب، يتحمل أبناؤه مسئولية بعضها ولا يتحملون مسئولية البعض الآخر. فقد حبذت القوتان الأعظم الاستقلال السلبي للعالم العربي وساندتاه، خدمة لمصالحيهما. وما كان عالمنا العربي ليملك حيال تلك الأوضاع شيئاً، اللهم إلا تثمينه للعوامل الداخلية المؤهلة لاستقلاله الحقيقي. وللأسف، لم يحدث ذلك، فقد غلبت الثقافة العربية الإسلامية الأسيرة أبناء هذا العالم على أمرهم، ونالت من قدرتهم على إدراك وقوعهم في براثن الاستقلال السلبي. وساعد على ذلك بالطبع نجاح الأوروبيين (وأذنابهم)، إبان خضوع العالم العربي لحكمهم في قمع محاولات تحرير الثقافة العربية الإسلامية الأسيرة، لاقتضاء مصلحتهم بقائها في محبسها.
وحول ما اذا كان الأمر يختلف اليوم عما كان عليه في نهاية الحقبة الاستعمارية الأوروبية؟ أجابت الدراسة بنعم، إذ أنها رأت أن الأمر يختلف كثيراً! فالقوة العظمى الوحيدة في العالم، وهى الولايات المتحدة الأمريكية، لم تنفك منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحتى وقت وضع الدراسة نفسها، تُعلن مناوئتها للاستقلال العربي السلبي، وتدعو لاستبدال استقلال عربي حقيقي به، بزعم مواءمة ذلك لدواعي الأمن القومي الأمريكي، والغربي بصفة عامة! بيد أنه، وطبقا للدراسة نفسها، يظل ضروريا عدم إغفال الحذر في التعاطي مع الولايات المتحدة، لكونها دائمة الإعلاء لمصالحها عما عداها، فقد ظلت تساند النخب العربية الحاكمة لعقود عديدة، قدمت خلالها الدعم والمساندة لتلك النخب في مواجهة مواطنيها!
ورغم اقرارى الآن، بعد مرور عدة سنوات على كتابتى لـ “آلام العالم العربي“، بامكانية القول بتواضع العمل فى مجمله، أرانى أعتز به كثيرا، فقد كان له تأثير كبير – كما سنرى – على توجهى الأنسني! والذى يزيد اعتزازي بالعمل أنه كشف لى عن أن هناك حاجة ماسة لمباشرة البناء والهدم في أقدس هيكل عند الإنسان العربي، وهو ثقافته العربية الإسلامية الأسيرة، حتى يصبح استعباده أمراً مستعصياً وحتى يتثنى له العودة إلى التاريخ وتبوء مكانته اللائقة به.
وهو ما ناقشته باستفاضة فى دراسة ثانية لى بعنوان “الاغتراب الثقافي للذات العربية”، توصلت فيها إلى أن الذات العربية تعانى مما أسميته الاغتراب الثقافي، وقصدت به تنازلها عن حقها الطبيعي فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة! وللأسف الشديد – وهذا بعض ما كشفت عنه الدراسة – وجد الاغتراب الثقافي من يحيطه بأسباب الرعاية، منذ سقطت بذرته الأولى في أرضنا العربية عن غير قصد في أعقاب وفاة النبي(ص). فقد تعاطى المسلمون الأوائل مع مسألة النظام السياسي للدولة الوليدة طبقا لخبرتهم العربية السابقة على ظهور الإسلام، وهى متواضعة بطبيعة الحال. وذلك لاتسام التعاطي الإسلامي مع تلك المسألة بالغموض النسبي، وفاتهم أن ذلك الغموض النسبي مقصودا لذاته، فالمسألة ذات طبيعة متغيرة، والتعاطي الكفء معها كان ميسورا لهم لو أنهم ثمنوا الزخم الأيديولوجي للإسلام والقبس الإلهي الذي أودعه الله أجساد البشر. وإذا كان عدل الصحابة الأجلاء وفيض محبة الناس للإسلام قد عصم المسلمين الأوائل من شرور ذلك النبت الخبيث، فان الآخرين العربي و غير العربي لم يتورعا – فيما بعد – عن تعهده بأسباب الرعاية، التماسا للإفادة منه، لذا نما واستحالت أشواكه أنيابا حادة، أدمت – ولا زالت تدمي – الأجيال العربية المتعاقبة، وأعجزتها – ولازالت تعجزها – عن التعاطي الكفء مع نفسها ومع عالمها.
وخلصت الدراسة إلى وجوب تدشين ثورة ثقافية فى عالمنا العربي، تنأى عن التجديف فى المقدسات أو الشطح فيما ليس من ورائه نفع، وتدعو لتثمين ذلك القبس الإلهي الذي أودعه الله أجسادنا، وهو العقل. فإعمال العقل طريق المعرفة، ومن لا يعمل عقله لا يمكنه أن ينقد شيئا، ومن لا ينقد شيئا فانه مغترب وسيظل على اغترابه. وخلصت الدراسة كذلك إلى أن السبيل الأكثر فعالية لاستعادة الذات العربية لحقها المسلوب هو تثوير تعاطيها مع ثقافتها العربية الإسلامية، ليتسنى لها أن تصبح ذاتا فاعلة، لديها القدرة على توظيف القبس الإلهي الساكن فيها، وبالتالي تحقيق الإفادة القصوى من الزخم الأيديولوجي للإسلام. فبدون انعتاق الملكات الخلاقة والإبداعية من رق المحرمات الثقافية، يصبح إدراك الذات العربية لثقافتها إدراكا ميتا لا حياة فيه ولا رجاء منه. كما لم يفت الدراسة أن تؤكد أنه لا ينبغي أن تخيفنا الثورة الثقافية، لأنها لن تلبث أن تؤتى ثمارها – إن عاجلا أم آجلا – كنوزا معرفية متناثرة، ننفقها في اجتثاث أوضاعنا المتردية والعود الأحمد للتاريخ الإنساني. اضافة الى تأكيدها على وجوب عدم الاكتراث بقول تجار الآلام إن الثورة الثقافية تعني – بالحتمية – الفوضى واختلاط الحابل بالنابل، فتلك مزاعم يعوزها المنطق السليم، لأننا نريدها – وهى بالضرورة كذلك – أداة في يد المجتمع المغترب، يقهر بها اغترابه، ويعزز بها وجوده الإنساني.
وفى دراسة ثالثة لى بعنوان “الآخر فى مواجهة الذات العربية“، شاء حظها العاثر أن تخرج طبعتها مليئة بالأخطاء، عمدت لرصد وتحليل ثقافة الآخر، وذلك خلال فترة زمنية بعينها، تبدأ من لحظة رحيل الاستعمار الأوروبي عن العالم العربي وتنتهي مع انتهاء الدراسة نفسها. وتمثل الاسهام المهم، وربما الوحيد، لهذه الدراسة في استخدامها المعيار الأنسني للتمييز بين الذات والآخر، وإن جاء ذلك على نحو متواضع بعض الشيء! فساعتها والحق يُقال لم أكن على دراية كافية بطبيعة الفكر الانسني أو الاسهام الادورى فيه! لذا اكتفيت فى تعريفي للأنسنية بتأكيد أمور بعينها، لعل أهمها تمثل جوهرها فى التعريف بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وتمثل هدفها فى التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. إضافة إلى تأكيدي على القول الادورى بأن الأنسنية ليست طريقة لتدعيم وتأكيد ما قد عرفناه وأحسسناه دوما، وإنما هي وسيلة تساؤل وإقلاق وإعادة صياغة للكثير مما يقدم لنا اليوم على أنه يقينات معلبة، مغلقة على النقاش، ومشفرة على نحو غير نقدي، بما فيها تلك الموجودة فيما اصطلح على كونه آراء وأعمال خالدة يجري تغليفها برقائق المحرمات الثقافية.
وطبقاً للمعيار المذكور، يُعد الإنسان العربي ذاتا ما لم يدرك جوهر الأنسنية وهدفها، بغض النظر عن الأسباب الكامنة وراء غياب ذلك الإدراك، والتي يعد الاغتراب الثقافي – بحق – أهمها وأبرزها على الإطلاق. أما الآخر، وطبقا للمعيار نفسه، فهو من يقف وراء إهدار الذات العربية لجوهر الأنسنية وهدفها، أي وراء عدم إدراك تلك الذات لهما، وذلك عبر سعيه المحموم لتكريس أسباب ذلك الإهدار، وفي مقدمتها الاغتراب الثقافي كما أسلفنا. غير أن الآخر المقصود فى الدراسة لم يكن الآخر العربي فحسب، بل هو كل من يدرك جوهر الأنسنية وهدفها ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون إدراك الذات العربية لهما، بهدف حرمانها من جني ثمار ذلك الإدراك. ففي ذلك الأمر يستوي الآخران العربي وغير العربي، باعتبارهما مصدرا لا ينضب للآلام العربية!
وفى دراسة رابعة لي، أرانى تسرعت كثيرا فى نشرها، وفى قبولى لأن يكون عنوانها “الانسان هو الحل”!، سعيت لبلورة رؤيتى للفكر الأنسني، تلك الرؤية التى استخدمتها كنموذج تفسيرى فى دراستى “دون كيخوته المصرى”، وأعدت اكتشافها، ربما بشكل أفضل نسبيا، فى مجموعة مقالات مهمة، تُعنى بالفكر الأنسني، نشرتها على شبكة الانترنت، أذكرها هنا بحسب ترتيب كتابتها:
· بناء الذات الأنسنية.
· هدر العقل العربي.
· المرأة فى الفكر الأنسني.
· التثمين الأنسني لجوهر الأديان.
ففى تلك المقالات، والتى أنوى نشرها مُجمعة، مع هذا المقال، فى كتاب بعنوان “مقالات فى الفكر الأنسني”، يستطيع القاريء الكريم أن يلمس إلى أى مدى تأثرت رؤيتى للفكر الأنسني بالاسهام الادورى. فلولا حديث ادوارد عن النقد الأنسني، ما اكتشفت امكانية أن ترزخ ذات، عربية كانت أم غير عربية، تحت نير الاغتراب الثقافي، ولولا تعرية ادوارد لعقيدة المركزية الأوروبية فى الفكر الغربي، ما تعرفت على الآخر الغربي، ولولا تأكيد ادوارد الدائم على استقلالية المفكر، لكنت أرانى واحدا من تجار الآلام، أدافع عن الآخر المحلى بكل ما اُتيت من قوة وعلم! ولسوف أختم حديثى الذى أظنه قد طال بعض الشيء، إن لم يكن كثيرا، بعرض موجز لأهم ملامح رؤيتى للفكر الأنسني، ليعلم قارئي إلى أى مدى شُغف كاتب هذه السطور بادوارد سعيد وفكره الأنسني، والذى أرى فى كتاب ادوارد الأخير “الأنسنية والنقد الديمقراطي” أصدق تعبير عن روعته وجلاله!
“الأنسنية” – عندى – هى أن يحقق الإنسان أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين لقول الأنسنية بأن الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للانسنية، والتى نُوجزها فيما يلي(1):
1- معيار التقويم هو الإنسان.
2- الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة.
3- تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها.
4- القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه.
5- تأكيد النزعة الحسية الجمالية.
والإنسان – فى رأيي – يُعد أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع في المجتمعات المتخلفة، ومنها مجتمعاتنا العربية، هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! وباستخدام المعيار نفسه، يُعد آخرا كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. فتطور التاريخ الإنساني – في رأيي – لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. أقول صراعا ثقافيا، استنادا لتعريف إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فاحتياجات الإنسان ليست مادية فحسب، فهي تتجاوز الاحتياجات المادية، على خطرها وأهميتها. وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته وتداخلها…
فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يُغذيه الآخر ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي لمحو هويتها الثقافية وهدر ثروتها العقلية..!!
الهوامش:
[1]) إدوارد سعيد، ترجمة فواز طرابلسي، خارج المكان، (بيروت: دار الآداب، 2000)، ص 10.
[2]) نفس المرجع، ص ص 358ـ 359.
[3]) نفس المرجع، ص ص 42ـ 43.
[4]) نفس المرجع، ص 233.
[5]) نفس المرجع، ص 244.
[6]) نفس المرجع، ص 276.
[7]) نفس المرجع، نفس الصفحات.
[8]) نفس المرجع، ص ص 338ـ 339.
[9]) إدوارد سعيد، ترجمة فواز طرابلسي، الأنسنية والنقد الديمقراطي، (بيروت: دار الآداب، 2005)، ص ص 18ـ19.
[10]) ثيودور مايرجرين (محرر)، ترجمة يوسف ميخائيل أسعد، معنى الانسانيات، (القاهرة: دار المعرفة بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، 1972)، ص ص 33ـ 77.
[11]) إدوارد سعيد، الأنسنية والنقد الديمقراطي، م.س.ذ، ص ص 31ـ32.
[12]) نفس المرجع، ص 27، 52.
[13]) يستند الكاتب فى عرضه للتحليل الادورى للأسس التى قام عليها الفكر الأنسني والممارسة الأنسنية فى الولايات المتحدة الأمريكية، إلى كتاب إدوارد سعيد الأخير، وهو بعنوان: الأنسنية والنقد الديمقراطي.
*) نسبة إلى الشاعر والفنان الانجليزى وليام بلايك والعالم النفسانى السويسري كارل يونغ. والمقصود هو التوليفة التى يُقيمها فراي بين فكرة بلايك عن “الألوهة البشرية” وبين مقولة “نموذج أصلي”، بما هو مستودع اللاوعى الجمعى عند يونغ.
[14]) راجع نص المقدمة التى كتبها إقبال أحمد: إدوارد سعيد، حوارات مع دافيد بارساميان، ترجمة توفيق الأسدى، القلم والسيف، (دمشق: دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الاعلامية، 2004)، ص ص 7ـ22.
[15]) راجع نعي إدوارد لصاحبه إقبال أحمد في الجارديان:Edward Said, Eqbal Ahmad, The Guardian, Friday May 14,1999.
[16]) جُمعت الاقتباسات الادورية من هذه الأعمال: مجلة البلاغة المقارنة (ألف)، (القاهرة: قسم الأدب الانجليزى والمقارن وقسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة)، العدد الخامس والعشرون، بعنوان إدوارد سعيد والتقويض النقدى للاستعمار، 2005. إدوارد سعيد، الأنسنية والنقد الديمقراطي، م.س.ذ. – ، “النزعة الانسانية السور الأخير فى وجه البربرية ـ 25 عاما على صدور كتاب (الاستشراق)”، لوموند دبلوماتيك، الطبعة العربية، أيلول/ سبتمبر 2003، www.mondiapolar.com/article_print1707.html
[17]) ادوارد سعيد، ترجمة وتحرير صبحى الحديدي، تعقيبات على الاستشراق، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1996)، ص ص 140ـ141.
[18]) نفس المرجع، ص ص 144ـ 145.
[19]) ادوارد سعيد، ترجمة كمال أبو ديب، الاستشراق، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 2003)، ص 40.
[20]) ادوارد سعيد، “النزعة الانسانية السور الأخير فى وجه البربرية ـ 25 عاما على صدور كتاب (الاستشراق)”، م.س.ذ، ص 3.
[21]) إدوارد سعيد، الأنسنية والنقد الديمقراطي، م.س.ذ، ص ص 24ـ25.
[22]) نفس المرجع، ص ص 25ـ28.
[23]) إدوارد سعيد، ترجمة كمال أبو ديب، الثقافة والامبريالية، (بيروت: دار الآداب، 1997)، ص 71.
[24]) إدوارد سعيد، نهاية عملية السلام ـ أوسلو وما بعدها، ( بيروت: دار الآداب للنشر والتوزيع، 2002)، ص ص 246ـ256.
[25]) نفس المرجع، نفس الصفحات.
[26]) راجع نص المقدمة التى كتبها إقبال أحمد: إدوارد سعيد، حوارات مع دافيد بارساميان، القلم والسيف، م.س.ذ، ص ص 7ـ22.
[27]) نفس المرجع، نفس الصفحات.
[28]) للمزيد حول الرؤية الادورية لاستقلالية المفكر راجع: ادوارد سعيد، ترجمة حسام الدين خضور، الآلهة التى تفشل دائما، (بيروت: التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، 2003).
[29]) إدوارد سعيد، الثقافة والامبريالية، م.س.ذ، ص9.