أحدث المقالات

 لماذا يجب عليّ أن أفعل الصدق؟ ولماذا يجب عليّ أن أترك الكذب؟ ولماذا كانت الأمانة حسنة يجب فعلها ؟ ولمَ كانت الخيانة قبيحة يجب تركها ؟ ترى ما هو المبدأ الذي يقرر هذه الأمور؟ ومن هي الجماعة التي تلزمنا بهذه الإلزامات؟ أهناك مبادئ ثابتة متقررة هي التي تصدر هذه الأحكام؟ أم إنَّ الجماعة الإنسانية بخبرتها الطويلة وتجربتها المديدة رأت في مثل هذه الأحكام حفظاً لنظامها وإبقاءً لنوعها فحكمت وألزمت().

كل هذه الأسئلة والإجابات المردّدة تستوقف الدارس للعقل العملي والفلسفة الخُلقية، ليتفحص الموقف بحيادية ووضوح، من أجل الحصول على إجابة شافية تحلُّ الكثير من العُقد أمام هذا البحث الجاد.

أعتقد أنَّ درس العقل العملي لـه من الأهمية العظيمة مكاناً لا يمكن لأيّ باحثٍٍ جادٍٍ تجاوز جدواه في مجمل العلوم، فالعقل العملي له آثار كبيرة وكثيرة في قطّاعات المعرفة المتنوعة، فالدور الذي يلعبه هذا العقل واستخداماته في ميادين المعرفة الدينية أعطى نتائج الأخيرة لوناً من الاستحكام البنائي، وأثّر في بلورة الأفكار في ميادين الصراع، عندما تتحول المعرفة إلى مقاتل يحمل كل لياقات الدفاع عن نفسه بجدارة.

بحثنا الراهن شمَّر عن ساعديه ليعرف تاريخ هذا العقل عند السلف من الحكماء ـ بما يتناسب مع عنوان البحث ـ ليطّلع من خلال هذه المتابعة على آرائهم فيه، وهل يمكن لحكمتهم التي عرضوها أن تجيب عن أسئلتنا التي طرحناها في صدر البحث بوضوح وشفافية؟

هل حملت أخلاق اليونان جواباً تأسيسياً يمكن من خلاله استجلاء فلسفة خُلقية أو ما يسمى بأخلاق نظرية، أسهمت بشكل وبآخر في تطوير البحث في فلسفة الأخلاق؟ لعل الخلاف في هذا المطلب يعمّق الهوَّة، ويدعونا إلى قراءة مستفيضة ودقيقة لهذا المطلب بالذات، وهذا ما يخرج البحث عن طبيعته، ويؤسس بحثاً مستأنفاً في هذا الموضوع، لكنّا نأمل من خلال ما نملكه من أدوات أن نصل إلى حل ٍناجع يحلُّ لنا العقدةالتي ابتلى بها التراث من دون إطالة أو تفصيل().

ولن يقتصر الموقف على حكماء اليونان، بل تتجاوز العقدة ذلك إلى حكماء المسلمين، فحتّى مع الإيمان بوجود منهج ٍمعين ٍفي فلسفتهم الخُلقية، لكن هناك كلمات أُخر لهم، قد تتعارض مع هذا المنهج، المنهج الذي لم يأت من فراغ، بل جاء جرّاء متابعة دقيقة، ونصوص موثقة، وشهادة كبار الباحثين في هذا الميدان.

إذن، ما هو السبيل للخروج من هذا المأزق؟ فمع تعالي الصيحات التي تحاول أن تفسر هذا التشويش بلون من التأويل غير المطاق، فتدعي صورة أُخرى، ومنهجاً آخر، لكلمات هؤلاء الحكماء().

يجب علينا ونحن نبحث بحثاً محايداً أن نجد حلاً لهذه الإشكالية، حلاً يتناسب مع الأُطر العامة لمناهج الحكماء، وهذا ما نحاول القيام به، ولكن بعد استعراض كلمات الحكماء في هذا الشأن، ومعرفة نصوصهم الصريحة في هذا المجال، وسوف تكون متابعتنا في الفقرة الأخيرة معضّدة بكلمات كبار الباحثين، الذين اختصوا في مجال الحكمة، يونانية كانت أم إسلامية، ومن ثمَّ يمكن لقراءتنا هذه الخروج بتصور عام مبلور حول الفلسفة الخُلقيَّة عند هؤلاء الحكماء .

وليكن خيارنا سقراط، نتابعه في هذا الصدد، لنرى ما يمكن أن يكون إسهاماً منه في هذا الشأن.

أوّلاً ــ الفيلسوف سقراط

يتفق جملة من الباحثين لتاريخ الفلسفة اليونانية على أهمية الدور الجديد الذي خلقه الفيلسوف سقراط في مجال التفكير التأمّلي اليوناني، فقد رفض هذا الفيلسوف السير وفق الاهتمام الذي كان يوليه الفلاسفة الذين سبقوه، والذين يطلق عليهم في الكتابات الفلسفية المعاصرة (الفلاسفة قبل سقراط)().

لقد سبق سقراط اثنا عشر مفكراً انصبّ اهتمامهم الأصلي على الجانب الفيزيقي والخارجي من الإنسان، ومن هنا جاءت تسميتهم بالباحثين عن الطبيعة أو أصحاب الفسيولوجيا، وذلك لأنهم لم يولوا اهتماماً للميتافيزيقيا بشكل عام، وصبّوا عنايتهم على طبيعة وتركيب الأشياء من حيث إنها كلّ. لكن سقراط تجاوز هذا الأمر، ورأى أهمية الدور الذي تحمله المسائل الأخلاقية، من هنا صرف عنايته لهذه الأمور.

وقبل أن ندخل في عرض آرائه، يجب أن نؤكد على حقيقة تاريخية، وهي عدم وجود ما يؤكد لنا بكل وثوق واطمئنان، صحة الآراء التي نسبت إلى هذا الفيلسوف؛ لأنَّ سقراط لم يترك لنا كتاباً أو أثراً يمكننا من خلاله قراءته وتتبع آرائه، بل كل ما وصل إلينا عنه لا يعدو كونه عن طريق (ارستوفان وأكسانوفان وأفلاطون)، فهؤلاء هم الذين نقلوا إلينا آراء الرجل، كما لا ننسى الأمور التي نقلها أرسطو إلينا، >أرسطو الذي ولد على الأرجح بعد حوالي ثلاثة عشر عاماً من العام الذي ـ تبعاً لرواية أفلاطون ـ حوكم فيه سقراط وحكم عليه بالموت<().

مضافاً إلى أنَّ أكسانوفان كان قد حكم عليه بالنفي لمدة ثلاثين عاماً من مدينة أثينا، قبل محاكمة (سقراط) بسنتين، وبالإضافة إلى هذا وذاك فإنَّ ارستوفان كان خصماً لدوداً لسقراط، فكيف يمكن استجلاء الموقف الواضح مع كل هذه الأمور التي تجعل الباحث في حيرة؟!

أجل؛ الحقيقة تجعلنا أمام خيارات صعبة للغاية، يصعب من خلالها تصديق ما يقال بأنَّ سقراط ردَّ الأحكام الخلقية على الأفعال الإنسانية إلى مبادئ عامة تتخطى الزمان والمكان. فإنَّ استشفاف هذا الأمر من خلال محاورات أفلاطون أمر في غاية الصعوبة، إن لم نقل انه ممتنع في نظر البحث العلمي الجاد.

لكن البعض من الباحثين آمن بمثل هذا الرأي، ولم يجد مانعاً من تسمية سقراط مؤسس الفلسفة الخلقية، ودعم موقفه هذا بمجموعة من النصوص التي وردت إلينا عن طريق المحاورات(). وفي قبال هذا الرأي يميل محرّرو الموسوعة الفلسفية الانجليز إلى عدم اعتباره فيلسوفاً بالمعنى الدقيق، حتى وإن كان ملهماً لأفلاطون في أفكاره(). وهناك من يرى بأنَّ سقراط لو اقتصر على التبشير بالخير، والحض على الفضيلة من الناحية العملية وحسب، لم يكن مستحقاً بأن يسمى فيلسوفاً بالمعنى الصحيح().

تعدّد الآراء في مسيرة وأفكار هذا الرجل، كاشفٌ جليٌ على عدم اتضاح الرؤية فيه، فضلاً عن آرائه، لكن هناك شبه اتفاق على دور سقراط الجديد في دراسة الإنسان وسلوكه، وصرف عنايته لهذا الأمر، وقد لمس الخطأ في دراسة ما وراء الإنسان من طبيعة، من دون البحث في الإنسان نفسه، وتفحّص أخلاقه التي يجب عليه التحلي بها، فما فعله الفلاسفة الذين سبقوا سقراط لم يكن مقبولاً لديه؛ لأنهم حاولوا أن يدرسوا العالم ويتفحّصوا بدايته وأصله، لكن سقراط الذي تنبّه إلى ضرورة البدء بالإنسان نفسه لم يسايرهم في منهجهم، وانطلق من الإنسان ليصنع الأخلاق.

نعود لنتابع بداية تطور الأخلاق عند هذا الفيلسوف علّنا نجد إجابة للأسئلة التي طرحت في بدايات البحث، ولعل أول سؤال يواجه الدارس في هذا المجال، هو الأسباب التي دعت إلى ولادة علم أخلاق على يد هذا الفيلسوف؟

الأسباب التي أدّت إلى ولادة علم الأخلاق يحدّثنا عنها إميل بوترو عالم الأخلاق الفرنسي حينما يعبّر في كتابه (دراسات في التربية والأخلاق) بأنَّ علم الأخلاق ولد في اللحظات التي استولى فيها العقل على أزمة الحياة الإنسانية، وقد كانت من قبل بيد الدين().

لقد كانت في ذهن سقراط الكثير من الأفكار، كان يرى أنَّ النهوض بالإنسانية يجب أن يكون من خلال تجسيد الأخلاق، وكانت الفلسفة لا تمارس الدور المهم الذي يربّى الإنسان، بل كانت في المرحلة التي سبقت سقراط معنيَّةً بإعطاء تفسير ٍللوجود الخارجي على وجه أخص، أما الاهتمام بالإنسان وسلوكه فكان يشغل فيها مكاناً ثانياً، لكن ما إن بدأ النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد، حتى زعزعت السفسطائية المبادئ الأخلاقية والاجتماعية لدى الناس، ومارست الجدل ضد ما يسمى بالفلسفة آنذاك. لقد كان للسفسطائية دور أساسي في دعوة سقراط لممارسة الوعظ، والدعوة إلى الإصلاح، وبناء الشخصية التي تطمح للخير والسعادة، لقد تصدى لمغالطتهم ودحضها، ونحا بالتفكير الفلسفي حينها منحاً جديداً، يركّز على الأخلاق وتعاليها.

لقد رأى سقراط أنَّ الإنسان بدوره يبحث عن السعادة، السعادة التي لا تتأتى إلا من خلال الفضيلة، فعندما يعلم الإنسان الفضيلة، فلن يكون ذلك حافزاً له للوقوع في الشقاء، بل إنّ ذلك مرشد له لتحصيل السعادة.

وقبل أن نختم الحديث حول هذا الفيلسوف نطرح السؤال الأساس على فلسفته العامة ونقول: هل حملت فلسفة سقراط تأسيساً نظرياً واضحاً في البعد الأخلاقي؟

لقد مارس سقراط دور المرشد الأخلاقي في المجتمع، وقد حاول أن يستخلص تعاليماً عمليةً رفيعةً، لكن لا يمكن أن نقول إنّ هذه التعاليم تمتلك تأسيساً نظرياً جليّاً في فلسفته العامة. ولهذا يرى عادل العوا بأنّا >لا نجد في فلسفته النظرية مبدأ واضحاً يمنع امتهان المرأة واستعبادها أو يحرم الرأفة بالعبيد<(). بل كل ما يمكن أن نجد في فلسفة هذا الرجل، أنها دعت إلى السعادة والخير، الفضيلة التي تمثّل الخير في تعاليم فلسفته، وهو ـ الخير ـ ماهية الشيء بوصفه غاية، ولم يزد سقراط على هذا شيئاً محدداً.

لقد نُقلت إلينا من أفلاطون الكثير من المؤلفات، حُفظت جميعها في عدة مجلدات، وقد كان لهذا الرجل دور مهم في نشر آراء أُستاذه سقراط كما أشرنا فيما تقدّم، وكان لفلسفته تأثير على كل الفلسفات المتأخرة التي جاءت بعده، فحيثما وجدنا فلسفة وجدنا آثار أفلاطون فيها().

لم يكن هناك فرق كبير متميز بين آراء أفلاطون وأُستاذه، بل الامتزاج والالتقاء لم يفارق آراء التلميذ وأُستاذه كثيراً، فقد كان لسقراط تأثير كبير على أفلاطون، وتداخلت آراؤهما في كثير من الميادين، حتّى عبّر أرسطو عن رأيهما بأنه في جميع الأشياء واحد. هذا الامتزاج الذي دعا الدكتور الراحل عبد الرحمن بدويإلى إنكار دور سقراط في التأثير على أفلاطون، ووصف سقراط بأنه أشبه ببطل الروايات، استخدمه التلميذ وسيلة ليصوغ المحاورات على المنهج الذي بدا له انه هو المنهج الصحيح في اكتشاف الحقيقة، وهو المنهج الجدلي. ومن هنا، فلا >نستطيع أن ننسب إلى سقراط إلا أشياء ضئيلة مما ذكره أفلاطون منسوباً إليه، ولا يمكن أن ننظر إلى محاورات أفلاطون على أنها صورة تاريخية حقيقية لما حدث بالفعل بالنسبة إلى سقراط، وكلما تقدّمت السن أو تأخر تاريخ المحاورات كان ما يمكن نسبته إلى سقراط حقيقة أضأل وأقل<().

وفي قبال هذا الإفراط نجد تفريطاً من الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل، فقد ذهب إلى أنَّ أفلاطون لم يكن صاحب نظرية المثل، بل إنّ هذه النظرية هي لأُستاذه سقراط، وأنَّ المحاورات التي قام بها أفلاطون كانت تحكي عن أفكار سقراط بالفعل، فأفلاطون >لم يهتد إلى نفسه ويعبّر عن فكره بطريقة مستقلة إلا في المحاورات الأخيرة التي لا تحتل فيها شخصية سقراط مكانة رئيسية، أو لا تظهر فيها على الإطلاق<().

 وقد ذهب الدكتور فؤاد زكريا إلى أنَّ هذا الرأي الذي يدافع عنه رسل لم يرق لكثير من مؤرخي الفلسفة، وقد ذهب القلة منهم إليه في طليعتهم برون بيرنت
(
J.Burnet
) الذي يظهر أنَّ (رسل) قد تأثر به كثيراً في هذه المسألة().

وبغض النظر عن تقويم هذه النتائج والآراء، فإنَّ الإيمان بواحدة منها يعود إلى دراسة تاريخية ٍمستأنفةٍ، والبحثُ الحالي غير قادر ٍعلى الإجابة فيها، فكل هذه التعارضات تدل على الحقيقة التي أكدناها فيما سلف، حول الشكوك التي انتابت مصداقية هذه الأقوال والمحاورات، بالإضافة إلى التشابه الحاصل في مجمل هذه الأفكار.

لقد اُشتهر بكون أفلاطون مؤسساً لنظرية المُثل، التي باتت تُعرف فيما بعد بنظرية المُثل الأفلاطونية، فقد كان لها دور مهم في تطوير النتاج الأخلاقي في تلك الفترة من الزمن، وأسهمت إسهاماً مباشراً في تدعيم المنطلقات الأخلاقية لأفلاطون بالذات.

وكما أسلفنا في مطلع هذه الدراسة، فإنَّ الذي نطمح للإجابة عنه من خلال متابعة تراث سقراط وأفلاطون، هو مبدأ هذه الواجبات الأخلاقية؛ لأنَّ البحث في الأخلاق النظرية إنما يكون عن الواجب وعن الملزم للإتيان بهذه الأفعال، فهل الملزم للإتيان بالصدق والأمانة، والمبعد عن الكذب والخيانة، أمرٌ متعال ٍقبلي، خارج عن إطار التجربة والمواضعة ؟ أم الجماعة الإنسانية هي التي تلزم الفرد بهذه الأحكام؟

لم يكن هناك وضوح لهذه الرؤية، ولم يكن هؤلاء الفلاسفة سوى مصلحين مارسوا دورهم بكل لياقة وسماح، لقد سعوا إلى تخليص المجتمع من عادات مغلوطة ورثوها عن السلف، فكان ما وصل إلينا من تراث ٍيمثّل صحوةً مبكرةً في تلك الفترة من الزمن، ولم تكن محاورات أفلاطون تحمل جواباً حول ذلك، بل حملت محاوراته التركيز على فكرة السعادة والخير، انطلاقاً من وعظهم ودورهم في الحياة الإصلاحية، وهذا هو شأن المصلحين.

أجل؛ إنَّ محاورات أفلاطون وتراثه لا تسعفنا في الجواب عن ذلك، بل لم يكن اهتمامهم بهذا الأمر، بل كانوا يركّزون على مبدأ السعادة والخير وما شاكل ذلك، هذه الأمور التي لا ترتبط ببحثنا الحالي، ولا تجدي في الإجابة عنه، لكن الدكتور توفيق الطويل في كتابه (الفلسفة الخُلقيَّة)، أصرَّ إصراراً غير مبرر على أنَّ سقراط وأفلاطون كانا مؤمنين بما ورائية الإلزام الأخلاقي، وحاول من خلال المحاورات التي نقلت إلينا عن أفلاطون، أن يستشف موقفهم بكونهم >أول من توخى إيجاد مقياس
(
Criterion or Standard
) ثابت تقاس به خيرية الأفعال وشرّيتها <(). وإنَّ رد الأحكام الخلقية الإنسانية على الأفعال الإنسانية إلى مبادئ عامة تصدق في كل زمان ومكان، قد جاء أخيراً على يد سقراط، والملفت للنظر أنَّ الدكتور توفيق عاد في نهاية المطاف بعد هذا الإصرار الذي كرره في كثير من صفحات كتابه، فأغفل ذكر هذا الاهتمام عند قراءته لنصوص أرسطو، أرسطو الذي لديه تصريحات كثيرة في الكتاب الذي اعتمده الدكتور الطويل لعرض آرائه، وهو الأخلاق النيقوماخوسية، حيث يقرر بكل صراحة بأنَّ الجماعة الإنسانية هي التي تلزم بهذه الأحكام، وليس هناك من مقياس ثابت متقرر أولي قبلي يمكن لـه أن يحدد السلوك، ومع هذا كله فلم نلحظ إشارةً من الدكتور الطويل لهذا الأمر سوى إشارة عابرةً تؤكد بأنَّ أفلاطون قد استخفّ بعالم الشهادة، وحاول أن يعلو على دنيا الحس، الأمر الذي لم يكن مقبولاً لدى أرسطو، الذي كان على عكسه يميل إلى الواقع، وينفر من عالم الغيب، ويتوخى التمسك بدنيا التجربة الإنسانية، وقد أشار لهذا الأمر من دون تحليل ووقفة تأمل.

لا نريد أن ندخل في سجال مع ما كتبه الدكتور الطويل، بقدر ما كانت فرصة لمناقشة هذه الآراء التي تحاول أن تستفيد من كلمات الحكماء ما لا يمكن استفادته، فقراءة النصوص إنما يكتب لها النجاح والموفقية ما دامت متمسكةً بصفة الموضوعية والحياد، أما لو تجاوز الأمر ذلك، ووفد الباحث إلى النص متلبساً بلباس الذاتية والنتائج المسبقة، فلن تكون قراءته للنصوص قراءة جادة تبحث وتفحص عن الحقيقة الغائبة، الحقيقة التي طالما بحث عنها الدارسون من دون أن يصلوا إليها؛ لأنَّ الحياد قد جانبهم في كثير من الأحيان.

لا نحاول أن ندّعي الحياد في هذه النقطة، بقدر ما نريد أن نؤكد على أنَّ المحاورات التي وصلت إلينا من أفلاطون لا تؤكد ما ذهب إليه البعض من كونه أكَّد على قبليَّة الإلزام الأخلاقي، وإنما الذي يدّعيه البحث المتابع، إنَّ هؤلاء الحكماء لم يكونوا سوى وعّاظ مارسوا دورهم في الإرشاد والنصيحة والحثِّ على السعادة التي تكون من خلال الفضيلة، وهذا الأمر لا يعادل الإيمان بقبلية الإلزام الأخلاقي().

ثالثاً ــ الفيلسوف أرسطو

من سقراط وأفلاطون ننتقل إلى الفيلسوف الكبير أرسطو، هذا الرجل الذي أقام الفلسفة على وجه نظري سليم، وإليه يعود الفضل في تأسيس باب البرهان، ويقينية المعرفة، ونريد هنا أن نستجلي موقف هذا الفيلسوف من قضية الإلزام الأخلاقي.

يذهب الكثير من الباحثين في الفلسفة اليونانية، على أنَّ أرسطو تابع أسلافه من الحكماء في كون السعادة مطلباً إنسانياً يجب السعي إليه()، وهذا يعني أنَّ التراث المعرفي الأرسطي في حقل الحكمة العملية لم يكن يحمل أي أُسس نظرية تبشّر بدور أرسطي لتأسيس مبادئ أخلاقية على الإطلاق، بل إنَّ النتاج الذي وصل إلينا لا يعدو توجيهات تدبيرية للسلوك، وهي دعوة صادقة لأجل تحقيق السعادة، وليس في نيتها تأسيس مبادئ أساسية للمذهب الأخلاقي. ومن هنا قيل بأنَّ الوصف الدقيق لأخلاق اليونان، هو أن يقال في حقها بأنها أخلاق سعادة لا أخلاق واجب، فهي تجيب عن السؤال الذي يستفهم عن السر الذي يدعوني لقول الصدق؟ بأنه يحقّق السعادة لك().

هناك تفاصيل ذكرت في الأبحاث المختصة، وطرحت في نفس الوقت اتجاهات متعددة في إشكالية السعادة بالنسبة للإنسان، فهل السعي نحوها يمثل حالة تكوينية لديه ؟ أم إنَّ السعي يقرر جراء وقوعه في الوضع المدني الاجتماعي؟

وبعبارة أُخرى، هل السعادة هدف يتوخاه الإنسان نتيجة لتكوينه وفسلجته؟ أم إنَّ ذلك آت ٍمن وضعه ككائن يعيش في مجتمع مدني؟

هناك مجموعة من الملاحظات على هذا الطرز من التفكير، إذ حتى مع الإيمان بمثل هذا التحليل، وأنَّ الالتزام بالاُسس الأخلاقية سوف يلبّي تلك الحاجة والمطلب الإنساني المتمثّل بالسعادة، فلن تكون السعادة أو الخير مرتكزين صالحين لإنتاج وتوليد الاُسس النظرية للواجبات العملية، بل إنَّ هذين المفهومين لا يتحددان إلا وفق الإيمان بمرتكزات أخلاقية سابقة.

نعود لنلاحظ البحث الأخلاقي لدى هذا الفيلسوف، فقد دللت أبحاث أرسطو في كتابه (الأخلاق النيقوماخوسية)، والذي يعتبر من الكتب المهمة التي وردت إلينا من تراث هذا الفيلسوف، على أنَّ البحث في العقل العملي لا يمكن أن يكون بحثاً منضبطاً بالمعنى الدقيق، فهو ليس على حد الأبحاث التي تُطرح في العلوم الضرورية.

قسّم أرسطو المعرفة كالتالي:

أوّلاً ـ المعرفة بالضروري أو الحكمة النظرية، ويقع تحتها:

1 ـ العقل الحدسي.

2 ـ العلم.

ثانياً ـ المعرفة بالممكن، وتنقسم إلى:

1 ـ الصناعة أو الفن.

2 ـ الحكمة العملية، وهذه تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

أ ـ الفرد

ب ـ الأُسرة

ج ـ الدولة()

لقد قرّر أرسطو بشكل لا يدع مجالاً للريب والمناقشة المنهج المناسب لعلم الأخلاق في دائرة البحث والاستنتاج، وإليك نصوصاً من كتابه الأخلاق النيقوماخوسية تؤكد الحقيقة التي تمسّك بها وأكدها في أكثر من موضوع. سنقوم بعرض نصوص متعددة لأرسطو في هذا المجال، وإكثارنا من النصوص له ما يبرره، حيث إنا نريد أن نؤكد منهج أرسطو الذي خلط فيه بين العقل والحس، لكي نجيب المتأولين الذين يروق لهم تأويل اتجاه الحكماء، فعندما أراد أرسطو أن يقرّر نقطة الانطلاق في مثل هذا العلم نصَّ قائلاً:

>يجب الابتداء بالأشياء المشهورة الواضحة. تكون الأشياء مشهورة على وجهين: يمكن أن تكون كذلك إما بالإضافة إلينا، وإما بصفة مطلقة، ربما يلزمنا أن نبتدئ بالتي هي مشهورة بالنسبة إلينا، ومن أجل ذلك كانت الأخلاق والإحساسات الطيبة هي التمهيد الضروري لأي كان، دراسة منتجة مبادئ الفضيلة والعدل وبالجملة مبادئ السياسة<().

وبعد أن أوضح نقطة الانطلاق، تساءل عن جدوى دراسة الأحداث لهذا العلم، فربط المسألة بالمنهج المتبع في دراسة هذا العلم، وعلل قائلاً:

>من أجل هذا كان الشباب قليل الصلاحية لدرس السياسة درساً جديّاً، فإنه ليس لـه تجربة في شؤون الحياة، وبهذه الشؤون على التحقيق تشتغل السياسة وتستخرج نظرياتها… ما دام أن الفرض الذي يرمي إليه علم السياسة ليس مجرد معرفة الأشياء، بل هذا الفرض هو عملي قبل كل شيء<().

فالعلوم في نظر أرسطو متفاوتة ومختلفة في نفس الوقت، وليس السير في كل العلوم على حد ٍواحد. ومن هنا، فلا ينبغي> أن يتحتم الضبط في كل مؤلفات العقل بقدر سواء، أكثر مما يتحتم ذلك في كل مصنوعات اليد، فإن الخير والعادل الموضوعين اللذين يدرسهما علم السياسة، هما محل لآراء مختلفة كثيرة التباين مترامية الأطراف<().

وقال أيضاً في تقرير هذه الحقيقة:

 >وبهذا التحفظ السمح ينبغي أن يتقبل كل ما سنقوله هنا، وأنَّ العقل المستنير لا يطلب التحقيق والضبط في كل نوع من الموضوعات إلا بمقدار ما تقتضيه نفس طبيعة الشيء الذي يعالج، وربما يكون من وضع الشيء في غير محله أن ينتظر من الرياضي احتمال مجرد، أو أن يطلب من الخطيب استدلالات منتظمة الشكل <().

لا نتصور أنَّ باحثاً يطلب الحقيقة يمكن لـه بجرة قلم تجاوز كل هذه التصريحات التي قررت بوضوح لا لبس فيه منهج الأخلاق عند الفيلسوف أرسطو، والملفت للنظر أنَّ بارتلمي سانتهلير في حاشيته التفسيرية على هذا النص الأخير تنبه إلى خطأ أرسطو في رأيه، فتساءل بقوله:

> إذا كان البيان ليس لـه استدلالات مضبوطة، فإنَّ علم الأخلاق يمكن أن تكون له هذه الاستدلالات، وقد كان يمكن لأرسطو أن يجد استدلالات سقراط وأفلاطون منتجة تماماً كاستدلالات أي رياضي <().

وبغض النظر عن إكبار سانتهلير لأخلاق أفلاطون، وعن موقفه المتشنج من أخلاق أرسطو، لكن ما فهمه من كلمات أرسطو هو الفهم الصحيح الذي تعضده كلمات كبار الباحثين في ميدان العلم والفلسفة.

يجب أن يعذرنا القارئ الكريم عن هذا الإسهاب والتطويل في نقل نصوص أرسطو؛ لأنَّ هذه المسألة جدُ مهمةٍ في مثل هذه الأيام، بعد انتشار قراءات متنوعة تحاول أن تقرأ كلمات هذا الرجل باتجاه آخر.

وتأسيساً على ما تقدم، ولكي لا نستأثر بفهمنا للنصوص، نرجع لكلمات كبار الباحثين، لنتابع قراءتهم لهذه النصوص كيف تجلت، وكيف كان مفادها.

إنَّ نصوص الكثير من الباحثين في النتاج اليوناني الأرسطي تقرر بوضوح مكان الحكمة العملية في منظومة أرسطو الفكرية، فهي لا تعدو كونها من المعرفة بالممكن، ولا تصل إلى حد العلم بالضروري واليقين الذي لا يزول.

وهذا خير شاهد على أنَّ أحكام العقل العملي عند أرسطو تخضع للتجربة واتفاقات الجماعة الإنسانية، وليس هناك مقياس قبلي أولي سابق للخبرة والتجربة تؤسس الأخلاق في ضوئه وهداه. وسوف نقوم بعرض الكثير من الكلمات لجملةٍ من الباحثين في هذا المجال للتدليل على ما أكّدناه في توجهات أرسطو العملية.

كلمات كبار الباحثين حول آراء أرسطو الأخلاقية

كلمات الباحثين في فلسفة أرسطو لا تدع مجالاً للشك في موضع الحكمة العملية لديه، وسوف نعرض جملة من هذه الكلمات من أجل تدعيم البحث، واستيضاح رأي هذا الفيلسوف بعيداً كل البعد عن التأولات غير المبررة.

بارتلمي سانتهلير في مقدمة كتاب (علم الأخلاق إلى نيقوماخوس) أخذ على أرسطو بأنه لا يعتقد بأنّ علم الأخلاق والسياسة قابل لضبطٍ كبير، بل يلوح عليه الظن بأنَّ هذا العلم يجب أن يكتفى من أمره بالعموميات البسيطة القابلة للنزاع قلة أو كثرة، ومن ثمَّ فأرسطو>أجاد الوصف ولم يجد التقدير والتوجيه، فقد سبر غور الحياة ورسم منها صوراً بالغة حد الضبط، ولكنه لم يرتق كما ينبغي إلى ما هو أعلى منها، كأنما هو يرى أن يكتفي بوصفها دون أن يتصدى إلى الحكم عليها، ولا إلى قيادتها على الأخص. ويغلب أنه ينسى ـ على رغم مزاعمه ـ أنّ الأخلاقي يجب أن يكون مرشداً لا مؤرخاً<(). ومن هنا، فإنَّ >التجربة شيء نفيس جداً يحسن أن تتبوأ مركزها في علم الأخلاق، ولكنه لا يلزم البتة أن يعدَّ لها فيه إلا مركز ثانوي، فإنَّ المرء متى اعتزم أمراً عظيماً فعلمه بما ينبغي أن يفعل هو أولى من أن يعلم المرء ماذا يفعل غيره، فإنَّ ضميره يلهمه دائماً ما هو أحسن مما يستفيد من تجارب الغير<. إنَّ أرسطو >يتمسك أكثر من اللازم قليلاً بالواقعيات، ولا يتمسك البتة على القدر اللازم بالمعقولات. وإنَّ هذا الخلط الغير مألوف في جميع فروع العلم على رغم ما يظن به عادة، أما في علم الأخلاق فهو نمط فاسد؛ لأنَّ الأفعال فيما هو داخل في حدود الحرية لا يعبأ بها إلا على قدر أقل مما يعبأ بالمصادر والنيات التي تحدثها <().

أما فكتور دلبوس في كتابه (فلسفة كَنْت العملية) فقد عزا الخلاف الدائر بين أرسطو وكَنْت في تصورهما للعلاقة بين النظرية والتطبيق، ففي عرضه لفلسفة كَنْت أشار دلبوس إلى أنَّ أرسطو يرى بأنَّ> النظرية تترتب على التطبيق، وأحياناً يمكنها أن تختفي أمام التطبيق. أما كَنْت فيرى أنَّ النظرية هي التي تنظّم وتتحكم في التطبيق، ويجب بالتالي أن توضع بصرف النظر عن التطبيق. صحيح أنَّ الأخلاق وضعت لتطبق على الإنسان، لكن يجب تأسيسها أولاً قبل تطبيقها <().

أما الباحثون العرب، الذين تخصصوا في المحافل والجامعات العلمية في الفلسفة وتاريخها، فقد أكدوا هذا المعنى أيضاً، وقرروه في أكثر من كتاب ومقالة، فالدكتور يوسف كرم في كتابه (تاريخ الفلسفة اليونانية) عندما عقد بحثاً لشرح أخلاق أرسطو قرر بأنَّ علم الأخلاق هو من أعقد العلوم، ومن أقلها احتمالاً للضبط، ومن ثم فهو من أكثر العلوم اقتضاء للخبرة والحنكة، فموضوعاته في رأي أرسطو هي كذلك في الأكثر، ويمكن أن تكون بخلاف، لا كالرياضيات التي موضوعاتها كذا بالضرورة، فالمنهج المناسب >هنا هو الذي يصعد إلى المبادئ (أي الاستقراء) لا الذي يصدر عنها (القياسي)؛ ذلك لأنَّ المعاني الخلقية معقّدة متغيّرة كما قلنا. وليس من اليسير كشف العلة فيها…فالأخلاق علم جدلي<().

 أما الدكتور عادل العوا، فقد أشار في كتابه (المذاهب الأخلاقية) بشكل واضح لا لبس فيه على أنَّ > الحكمة العملية والعقل العملي يختلفان في نظر أرسطو عن العلم، ولا يمكن أن يكون البحث في الأخلاق بحثاً دقيقاً بالمعنى الرياضي لمفهوم دقة العلم<().

ويتساءل الدكتور أحمد محمود صبحي عن النسق الضروري للفلسفة الأخلاقية عند أرسطو، فيقول: هل هو في الصدور عن المبادئ أو في الصعود إليها؟ فيقرر حينها وجوب >الابتداء بالوقائع المشاهدة الواضحة؛ لأنَّ المبدأ الحق في كل الموضوعات ـ في نظره ـ إنما هو الواقع، وهذا يعني استبعاداً تاماً لصدور الأخلاق عن مبادئ أو عقائد أو على الأصح ميتافيزيقيا <().

ولكي نؤصّل هذه الفكرة أكثر وأكثر، نتابع الدكتور محمد عابد الجابري في عرضه لكلمات أرسطو من خلال كتاب (الأخلاق النيقوماخوسية)، لنطالع موقف أرسطو من موضوع الأخلاق، وما هو المنهج المتبع في تحليلها وفهم قواعدها العامة؟

حاول الجابري في كتابه (العقل الأخلاقي العربي) أن يقدم لنا صورة مشفوعة بالتحليل لكتاب (الأخلاق) لأرسطو، وسوف نعرض منها ما يهمنا في معرفة المرتكزات الأساسية لدى الفيلسوف أرسطو في بحثه الأخلاقي، لكي نحصل على إجابةٍ شافيةٍ حول المبدأ الذي يحكم بالواجبات الأخلاقية عند هذا الفيلسوف.

بدأ أرسطو بذكر موضوع علم الأخلاق، وهو أفعال الإنسان وما ينجم عن هذه الأفعال من حيث طلب الإنسان للخير، وليس ذلك إلا لأنَّ الخير هو ما يطلبه الكل كما قرر ذلك، لكن ما هي مسائل هذا العلم ؟ يجيب الجابري بأنَّ كلمات أرسطو دالة على أنَّ مسائل هذا العلم هي الأحوال التي تكون عليها هذه الأفعال ومفعولاتها من حيث الحسن والقبح والنفع والضرر، أما المنهج المتبع في هذا العلم فلا يشك الجابري في كونه الاستقراء الذي يقوم على دراسة الجزئيات والخلوص منها إلى ما يمكن أن يكون من المبادئ والكليات. وعند السؤال عن السرِّ الذي يكمن وراء عدم استخدام المنهج الاستنتاجي أو الفرضي في مثل هذا العلم. يجيب الجابري من دون أي تأوّل للكلمات، بأنَّ أرسطو يعتقد بأنَّ مثل هذا المنهج إن >صلح في الرياضيات والعلوم البرهانية عامة، فلا يصلح لميدان الأخلاق الذي هو ميدان الاختلاف وتعدد الآراء والعادات والأمزجة… الخ<(). يعود أرسطو بعد ذلك ليؤكد ـ كما يقرر الجابري ـ بأنه ليس هناك فضائل خلقية تكون فينا بالطبع؛ لأنَّ الأخلاق يمكن اكتسابها والتعود عليها.

ينصُّ أرسطو على أنَّ الفعل المختار هو ما أوجبته الرَّويَّة، ويتساءل الجابري عن الفرق بين الرَّويَّة والعقل، فيقول: بأنَّ العقل يبحث (في الأمور دائمة البقاء)، أي في الكون والحركة، وفي الكائنات الرياضية وهي عقلية محض، وفي الأشياء التي هي موضوع الطبيعيات… الخ. ففي هذه الموضوعـات يسـود حكـم العقـل الـذي قوامـه السببيـة وعـدم التناقـض والتعامـل مـع الكليـات و(القوانين). أما أفعال الإنسان فهي كما سبق القول، أمور جزئية يطبعها التعدد والاختلاف والنسبية(). ثمَّ بعد ذلك يقرر بأنّا في >مجال الأخلاق لا نصدر أحكاماً كلية عامة، بل ندرس كل حالة على حدة، وهذا هو معنى (التروي)<(). فهناك فرق إذن بين الرَّويَّة التي تكون في المتغيرات والأمور الجزئية، وبين العقل الذي يعني بالبحث عن مبادئ الأشياء وعن قوانينها الكلية الدائمة الثابتة.

يبدو أنَّ كلمات ناقد العقل العربي قد أصابت كبد الحقيقة في فهم كلمات أرسطو والاستفادة منها. أما التأويل المتعسف لكلمات الحكماء، الذي يوليه البعض اهتماماً بالغاً، فهو لا يغير من الواقع والحقيقة شيئاً، فقد اتضح مما تقدم موقف هذا الحكيم، وتبين أنَّ البرهان لا يمكن أن يكون لـه مجال في ميدان الأخلاق وفق وجهة نظر هذا الفيلسوف؛ لأنَّ الملزم لهذه الأمور ليس بأمر بدهي أولي قبلي، وإنما هو آتٍ من التأديب والممارسة، وليست السعادة التي آمن بها أرسطو يمكن أن تكون مرجعية صالحة لهذه الإلزامات الخلقية؛ لأنَّ السعادة لا يمكن أن تتلمس إلا وفق الأفعال التي تتطابق مع الفضيلة، والفضيلة يجب أن تتطابق مع الإلزامات والقواعد الخلقية، هذه القواعد التي لا مجال للبرهان الأرسطي فيها، بل إنها راجعة إلى التأديب والإلزام من قبل الجماعة التي رأت في مثل هذه الأمور إبقاءً للنوع وحفظاً للنظام.

نختتم كلامنا حول أرسطو بكلمات ناقد العقل العربي حينما وصف الحقيقة فقال:

>هنا في مجال العقل العملي لا مجال للمعرفة اليقينية الضرورية، لا مجال للبرهان، بل المعرفة هنا ترجيحية؛ لأنها تقوم على الاستقراء والموازنة بين الأمور، أساس الأخلاق في الموروث اليوناني الأفلاطوني الأرسطي، إذن، هو العقل الذي يعني في الوقت نفسه المعرفة والتجربة<().

لقد اتّضحت لنا من خلال ما قدمناه آنفاً الفكرة العامة لموضوع الأخلاق في الفلسفة اليونانية، واتضح لدينا أيضاً موقف أرسطو بالذات من الفلسفة الأخلاقية، وما هو المنهج العام في التعامل معها، ورأينا كيف كانت متابعات كبار الباحثين في الفلسفة اليونانية لهذا الأمر، الذين أشاروا إلى المنهج الأرسطي التجريبي بنحو من الأنحاء في مثل هذه المواضيع، فهو منهج يعتمد على دقة ملاحظة الواقع وتحليله، ولا يعتمد في تحديد السلوك الإنساني والخير المرجو على أُمور ميتافيزيقية، وإنما يتخذ الواقع ركيزة أساسية في الانطلاق.

اعتقد أنَّ ما قمنا به في هذا المجال يعدُّ كافياً للإيمان بأن معطيات العقل العملي في التراث الفلسفي اليوناني، هي ليست مرتكزة على أساس ما ورائي، وإنما هي ـ برأي أرسطو على أقل تقدير ـ معطيات بعدية تجريبية مشهورة، غير محكومة بالمنهج اليقيني البرهاني على الإطلاق. وستكون لنا في متابعة لكلمات الفلاسفة الإسلاميين، والمسائلة عن الاتجاه الذي تبلور لديهم في فهم معطيات العقل العملي، فهل تابعوا أسلافهم اليونانيين في هذا الفهم؟ أم كان لهم رأي آخر، كل هذه الأسئلة سنحاول الإجابة عنها في دراسة قريبة بإذن الله.

*   *   *
 
الهوامش



 


(*) باحث في الحوزة العملية الدينية، متخصّص في الفلسفة، من العراق.



() هناك تياران تصارعا الإجابة عن طبيعة مدركات العقل العملي، تيار ذهب إلى عقليتها، وتيار ذهب إلى كونها من القضايا المشهورة التي لا واقع لها، والرأي الأخير هو للحكماء، وقد حدثت قراءات مختلفة حول نسبته إليهم، وستتضح لك الحقيقة في الصفحات القادمة.

()هناك تشويش وعدم اتضاح في نصوص الفلاسفة اليونانيين في معرفة مبدأ القضايا الأخلاقية، سنحاول الوقوف على ذلك فيما بعد.

() قدّم العديد من الفلاسفة والكتاب المتأخرين قراءة تأويلية لنصوص الفلاسفة المتقدمين، تفسّر نصوصهم بتأويلٍ غير مطاق، فنصوص المتقدمين تشير بشكلٍ واضح ـ وهذا ما يتطابق مع المنهج الذي اتخذوه ـ إلى مسلك الاعتبار والمواضعة. نعم، هناك نصوص أُخرى تؤشر إلى الاتجاه الآخر، فعلى الباحث حشد الشواهد والنصوص للرأي الذي يتفق مع المنظومة الفكرية لهؤلاء الفلاسفة.

() لاحظ: الموسوعة الفلسفية المختصرة: 186، نقلها عن الإنجليزية فؤاد كامل، جلال العشري، عبد الرشيد صادق، راجعها وأشرف عليها وأضاف شخصيات إسلامية الدكتور زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلو مصرية، لم تذكر الطبعة ولا سنة الطبع.

() المصدر السابق، نفس المعطيات.

() ذهب إلى هذا القول الدكتور توفيق الطويل في كتابه الفلسفة الخلقية، نشأتها وتطورها: 21-22، ط. الأُولى، نشر منشأة المعارف بالإسكندرية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1960م.

() لاحظ: الموسوعة الفلسفية المختصرة: 46، مصدر سابق .

() عادل العوا، المذاهب الأخلاقية، عرض ونقد 1: 42، مطبعة الجامعة السورية ـ دمشق 1958م.

() محمد يوسف موسى، تاريخ الأخلاق: 73.

() عادل العوا، المذاهب الأخلاقية  1: 41، مصدر سابق.

() كل مؤلفات أفلاطون هذه هي على صيغة محاورات، سوى واحد منها.

() عبد الرحمن بدوي، أفلاطون: 86.

() من مقدمة الدكتور فؤاد زكريا لكتاب حكمة الغرب لبرتراند رسل 1: 12، ترجمة الدكتور فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، العدد62.

() يمكنك العودة للتأكد من نص رسل إلى: المصدر السابق 1: 90ـ91.

() توفيق الطويل، الفلسفة الخلقية: 26.

() هناك ملاحظات متعددة على ما ذكره الدكتور توفيق الطويل، نترك الحديث عنها إلى دراسات أُخرى.

() لاحظ: عمّار أبو رغيف، قراءات في حكمة الغرب الحديثة، ولتر ستيس وإشكاليات الحكمة العملية: 67، ط. الأُولى، مركز رعاية الدراسات الجادة، دار الفقه للطباعة والنشر 1426هـ .

() ذهب لذلك الأستاذ بروشار، وتبعه على ذلك الدكتور عبد الرحمن بدوي، لاحظ: عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة 1: 122.

() لقد استقينا هذا التقسيم من كتاب المذاهب الأخلاقية للدكتور عادل العوا 1: 84، بتصرف.

() أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس 1: 177، ترجمه من اليونانية إلى الفرنسية وصدَّره بمقدمة ممتعة في علم الأخلاق وتطوراته وعلق عليه تعليقات تفسيرية بارتلمي سانتهلير، أُستاذ الفلسفة اليونانية في الكوليج دي فرنس، ثم وزير الخارجية الفرنسي، ونقله إلى العربية احمد لطفي السيد، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة 1924.

() المصدر السابق: 174 .

() المصدر السابق: 172 .

() المصدر السابق: 173.

() المصدر السابق، حاشية سانتهلير: 173.

() المصدر السابق، مقدمة سانتهلير: 69 .

() المصدر السابق نفسه.

() فكتور دلبوس، فلسفة كنتْ العملية: 314، نقلاً عن الأخلاق عند كَنْت عبد الرحمن بدوي: 38، وكالة المطبوعات ـ الكويت 1979م.

() يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية: 185، منشورات لجنة التأليف والترجمة والنشر ـ القاهرة 1355هـ / 1936م.

() عادل العوا، المذاهب الأخلاقية 1: 86 .

() أحمد محمود صبحي، الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي، العقليون والذوقيون أو النظر والعمل: 19، دار المعرفة الجامعية 2000م.

() محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية: 267، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. الأُولى، آذار ــ مارس 2001م، ويشير إلى كتاب الأخلاق المعروف بـ (نيقوماخيا)، ترجمة حنين بن إسحاق: 68ـ 88، حققه وقدم له عبد الرحمن بدوي.

() أُنظر: المصدر السابق: 273.

() المصدر السابق نفسه.

() المصدر السابق: 108.



Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً