الشيخ محمد رخش خورشيد(*)
خلاصةٌ
كيف يمكن الحديث عن الله؟ يمثِّل هذا السؤال تحدِّياً كبيراً في مجال اللغة الدينية، وقد نشأَتْ إحدى الإجابات عنه من فلسفة تحليل اللغة عند لودفيج فتجنشتين، الذي شكَّل ظهوره نقطة تحوُّلٍ حاسمة في تاريخ الفلسفة الغربية. وقد جعل تحليل ماهية اللغة محطّ اهتمامه في كلتا المرحلتين من تطوُّره الفكري والفلسفي؛ ففي فلسفته الأولى اعتقد أن العالم تحدُّه حدود اللغة، ورأى أن كلّ اسمٍ واحد يقابله شيءٌ واحد في حالة الواقع التي تمثّلها. وقد أدَّتْ هذه النظرية التي طرحها في رسالته المنطقية الفلسفية إلى ظهور مذهب الوضعية المنطقية، الذي كان يعتبر أنصاره قابلية التحقُّق المعيار الوحيد لكون القضية ذات معنىً؛ وبالتالي كانوا يحكمون على كلّ ما لا يقبل التحقُّق التجريبي بأنّه خالٍ من المعنى، ليخرج بذلك كلٌّ من: الدين، والأخلاق، والجماليات، والفنّ، من دائرة البحث العلمي. وأما في المرحلة الثانية من حياته الفكرية فقد قدَّم فتجنشتين تحليلاً جديداً عن اللغة كان أشبه بمراجعةٍ نقدية لرسالته المنطقية الفلسفية، واعتقد فيه أنّ اللغة بمثابة لعبةٍ يختصّ فيها كلّ مجال لغويّ بقواعده الخاصة، ويمكن تقييمه من خلال تلك القواعد أيضاً، ولذلك فمن الخطأ بمكانٍ تطبيق معيار المعنى في القضايا التجريبية على القضايا اللاهوتية، واعتبر الأخيرة بموجبه فارغةً من المعنى. إنّ نظرية فتجنشتين ـ على الرغم من النجاحات التي حقَّقتها بشأن إشكالية لغة الخطاب الدينيّ ـ تواجه صعوباتٍ في تفنيدها، ولم تتمكّن من حلِّها نهائياً.
تمهيدٌ
لعل أكبر تحدٍّ يطرح في مجال لغة الدين هو كيفية الحديث عن الله. وقد وجد معظم الفلاسفة ـ ممَّنْ عالجوا هذه المعضلة ـ مشكلات الخطاب الديني في محمول القضايا الكلامية([1]). فهل يمكن حمل المحمولات الحقيقية على الله سبحانه وتعالى أم لا؟ لقد جرَتْ محاولاتٌ حثيثة للعثور على إجابة عن هذا السؤال، كما قد تمّ فعلاً تقديم حلول عديدة بهذا الصدد، والتي يمكن مناقشة كلٍّ منها بطريقةٍ أو بأخرى.
إننا في هذه الدراسة الماثلة بين يدي القارئ الكريم نحاول أن نتقصّى إجابةً عن إشكالية لغة الخطاب الديني، وذلك على ضوء آراء فتجنشتين، ولا سيَّما نظريته المتأخِّرة عن اللغة. ومن أجل ذلك، يجب أوّلاً أن نتعرَّف على نظرية فتجنشتين المبكِّرة في كتابه (رسالة منطقية فلسفية) ـ والذي نسمّيه من الآن فصاعداً بـ (الرسالة) ـ، ومن ثمّ يجب أن نوضّح العلاقة بين نظرية فتجنشتين المتأخِّرة في كتابه التحقيقات الفلسفية ـ والذي سنعبِّر عنه من الآن بـ (التحقيقات) ـ وبين نظريّته في الرسالة، وبعدئذٍ سوف نقوم بتوضيح المكوّنات الأساسية لنظرية فتجنشتين المتأخّرة، وتحليلها؛ لنتمكَّن من دراسة اللوازم والنتائج المترتّبة عليها في المجال الديني.
فتجنشتين المبكِّر
من المشتهر أن نظرية الألعاب اللغوية التي أدلى بها فتجنشتين هي بمثابة مراجعة نقدية لنظريته السابقة (الصورة في المعنى)([2])، وعلى الطرف النقيض منها. لذلك فمن الواجب أوّلاً أن نلقي نظرةً إجمالية وموجزة على نظرية الصورة في المعنى؛ ليكون بمنزلة تمهيدٍ للدخول في نظرية الألعاب اللغوية.
لقد كشف فتجنشتين في إحدى مراحل حياته أن جميع المشكلات الفلسفية تنشأ عن سوء فهمنا لمنطق اللغة، ولذلك ركَّز اهتمامه على تحليل ماهية اللغة، وظنّ أنه بإبداعه لنظرية الصورة في المعنى قد تمكّن من حلّ جميع المشكلات الفلسفية، فترك الفلسفة، وامتهن التعليم في قريةٍ تقع جنوب فيينا([3]).
إن نظرية الصورة في المعنى التي تعبّر عن المرحلة الأولى من تأمُّلات فتجنشتين الفلسفية هي نظرية ذات أثرٍ بالغ على الأوساط العلمية والفلسفية آنذاك، وقد يمكن فهم مضمونها من خلال عبارته في الرسالة، حيث قال: «الاسم يعني الشيء، الشيء هو معناه»([4]).
ويعتقد فتجنشتين في الرسالة أنه يمكن تحويل جميع القضايا (العلامات القضوية) إلى الذرّات المنطقية، وهي الأسماء التي لا معنى لها سوى ما تمثِّلها من الأشياء الخارجية. وهنا ينبغي الانتباه إلى أن الاسم في الرسالة هو مصطلحٌ تخصُّصي؛ إذ ليست الأسماء الخاصة من وجهة نظر فتجنشتين نفس ما ننظر نحن إليها عموماً ـ أي مثل: السيدة أو السيد سميث ـ، بل كان يقصد بها الأسماء الخاصة منطقياً للأشياء البسيطة. الاسم البسيط أو العلامة البسيطة هو اللفظ الذي لا يصف حامله، بل يحدِّده أو يدلّ عليه، ولذلك يمكنه أن يكون حاكياً عنه ليس إلاّ([5]). وهذه الذرّات ـ كما يظهر من اسمها ـ لا يمكن تحليلها. إنّ هذا التحليل اللساني والدلالي لفتجنشتين سوف تسفر عن نتيجةٍ ميتافيزيقية وفلسفية، مفادها: إن اللفظ إذا كان يقابل مدلولَه تقابل واحدٍ بواحد، ولم يكن المعنى سوى مدلوله المحقّق في الخارج، فيجب حينئذٍ أن تكون مدلولات الأسماء أيضاً بسائط في الخارج، بحيث لا يمكن وصفها، وإنما يمكن تسميتها؛ لأنها لو كانت قابلةً للوصف فلا محالة يمكن تحليلها إلى أجزاء، هي في الواقع المعاني البسيطة([6]).
يعرض فتجنشتين، وفقاً للتحليل الذي يقترحه للمعنى، صورةً عن العالم، ويطبّق ذلك على اللغة أيضاً. فكما أن اللغة تحلّل في النهاية إلى القضايا البسيطة، التي تتركَّب من الذرات المنطقية، أي الأسماء، كذلك العالم يحلّل إلى حالات الواقع، التي تتكوَّن من الأشياء (مدلولات الأسماء).
المعنى وعدم المعنى
كان من البديهيّ أن يخلص ما قدّمه فتجنشتين من التحليل إلى هذه النتيجة، وهي: إذا لم تكن قضية مطابقة لحالة الواقع (المدلول الخارجي للقضية) التي تدّعي تمثيلها فيمكن أن نعتبرها كاذبة. على سبيل المثال: إذا قلنا بأن ستراسبورغ هي عاصمة بريطانيا؛ فإنها تكون ذات معنىً، وفي نفس الوقت كاذبةً أيضاً. وهذا بخلاف ما إذا قرأنا هذه القضية بشكلٍ مقلوب؛ فإنها ستصير عندئذٍ مهملةً بالكامل. والحاصل أنّ القضية التي تتكوَّن ذراتها المنطقية من أسماء الأشياء إذا لم تمثِّل واقعة من وقائع العالم الخارجي فإنها ستكون قضيةً ذات معنى وكاذبةً في نفس الوقت. وأما في ما يتعلَّق بالأسماء فيمكن القول: إنه إذا لم يكن لها مدلولٌ في الخارج فإنها ستكون فارغةً من المعنى؛ لأنّ معناها ليس إلاّ مدلولها. وعلى ذلك إذا ذُكِرَ لك اسم يطرق سمعك لأوّل مرّةٍ، ولم يوضَعْ لشيءٍ في العالم من قَبْلُ، فإنه سيكون خالياً من المعنى، بينما إذا ذُكِرَتْ قضية لم تسمعها سابقاً، وكانت الأسماء التي تتضمّنها ذات معنىً، فإنها لن تكون مهملةً، كأنْ نقول مثلاً: قُتل الشاه ناصر الدين القاجاري بيد طفلٍ.
ما لا يمكن التحدُّث عنه فلا بُدَّ أن نصمت عنه
لقد اختتم فتجنشتين رسالته بهذه الجملة: إن ما لا يستطيع الإنسان أن يتحدَّث عنه ينبغي له أن يصمت عنه([7]).
إنها كانت آخر جملةٍ كتبها فتجنشتين في الرسالة، وهو تعبيرٌ آخر عن كلامه في بداية الرسالة: حدود لغتي تعني حدود عالمي([8]). لقد كانت هذه الجملة عند حلقة فيينا تحظى بأهمِّيةٍ قصوى؛ حيث أنكروا بموجبها ما عدا القضايا التجريبية كقضايا ذات معنى من الناحية المعرفية، الأمر الذي كان يؤدّي إلى إنكار الجماليات والأخلاق والفنّ والدين([9]). ولذا يبدو من الصعب أن نتكلَّم عن فتجنشتين المبكِّر من دون أن نذكر شيئاً عن مذهب الوضعية المنطقية.
لقد كانت الرسالة من وجهة نظر حلقة فيينا من الأهمِّية بمكان لدرجةٍ تحوّلها إلى كتابهم المقدَّس([10])، وبنوا على تعاليمها أسس الفلسفة الوضعية. لقد كانت تعتمد المدرسة الوضعية على مبدأ أساسٍ يُسمّى بمبدأ التحقُّق، الذي هو بمنزلة حجر الزاوية للوضعية المنطقية. ويمكن تعريف مبدأ التحقُّق ـ وفقاً لما قاله آير ـ في ما يلي: «إنّ القضية تعتبر ذات معنىً حقيقيّ إذا وفقط إذا كانت إما تحليليّةً؛ وإما قابلةً للتحقُّق التجريبي»([11]).
ويقصد من كون القضية ذات معنىً حقيقي أنها تكون قابلةً لإظهار صدقها أو كذبها. ولقد كانت النقطة ذات الأهمِّية تكمن في هذا المبدأ. فمثلاً: قضية (هناك طاولة في المطبخ) تعني بأننا إذا ما ذهبنا إلى المطبخ فبإمكاننا أن نجرِّبها باستخدام بعض الأدوات([12]). وحتّى إنْ أمكننا إنكار فهم الوضعيين لعبارات الرسالة الأخيرة فلا يمكننا القول بأنّ مدرسة الوضعية المنطقية ليست نتيجةً لأفكار فتجنشتين المتمثِّلة في الرسالة. إن القضايا المتعلِّقة بالله سبحانه وتعالى ستكون قضايا زائفةً؛ لأنها لا تقبل التحقُّق التجريبي، وبالتالي لا يمكن إثباتها أو دَحْضها عن طريق الحواسّ. إنّ هيمنة الوضعية المنطقية كانت تؤدّي إلى تهميش البحث اللاهوتي والدين، وجعله غير مستحقٍّ للدراسة والنقاش.
الفلسفة المتأخِّرة
بعد انتهائه من كتابة الرسالة ترك فتجنشتين الفلسفة لبعض الوقت؛ إذ ظنّ بأنّه قد حلّ بنظريّته جميع المشكلات الفلسفية. ولكنّه في المرحلة الثانية من تطوُّره الفكري، المتمثلة في كتابه التحقيقات، قام بمراجعةٍ نقدية للرسالة. يقدِّم فتجنشتين في البند الأوّل من التحقيقات صورةً عن نظريته في الرسالة، نقلاً عن أغوسطين، ويوجّه إشكالاً واضحاً إليها: «إن من يصف تعلّم اللغة بهذه الطريقة (نظرية الصورة في المعنى) يفكر بدرجةٍ أولى ـ كما يبدو لي ـ في أسماء من قبيل: (طاولة) و(كرسي) و(خبز)، وفي الأسماء الأعلام، ولا يفكِّر إلاّ في مرحلةٍ لاحقة في أسماء بعض الأعمال والصفات؛ وهو يفكِّر في باقي أقسام الكلام على أنها شيءٌ يمكن معرفته بديهيّاً»([13]).
نعم، الإشكال الواضح الذي يتوجَّه نحو الرسالة هو أن النظرة التي تقدِّمها الرسالة عن اللغة عاجزةٌ عن تبرير كلّ ما يخصّ اللغة البشرية المعقَّدة. ويمكن أن نضرب الأعداد مثالاً على ذلك ـ وهو المثل الشهير الذي ساقه فتجنشتين نفسه ـ، حيث لا يقابلها شيءٌ في الخارج، على العكس مما تقوله نظرية الصورة في المعنى ـ فعدد الخمسة مثلاً لا يحكي عن شيءٍ محدَّد في الخارج ـ، بل على رأي فتجنشتين «تقف التفاسير عندها»، ولا يبقى سوى تعاطي الإنسان مع الألفاظ واستعماله لها. وكمثالٍ آخر يضرب فتجنشتين لفظة «هذا» أو «ذلك»، حيث لا يمكن لنا تحديد ما تمّ وضعهما له من الأشياء في العالم الخارجي([14]).
قال فتجنشتين في الرسالة ـ وهذه بنظري أهمّ قضيّة فيها ـ: «والاسم يعني الشيء، والشيء هو معناه»([15]) وعلى ذلك اعتقد بأنه إذا لم يكن ما سُمّي باسمٍ ما متحقِّقاً في العالم الخارجي فإن ذلك الاسم سيكون بلا معنى. ولكنْ في التحقيقات يعارض قوله في الرسالة، حيث قال: «عندما يموت السيد (ف) سيقال: إن حامل الاسم قد مات، وليس إن مدلول الاسم قد مات. وسيكون قولنا لشيءٍ من هذا القبيل بلا معنى؛ لأنه إنْ لم يعُدْ للاسم مدلولٌ فإن القول: «إن السيد (ف) قد مات» يصبح عديم المعنى»([16]).
نظريّة الألعاب اللغويّة
يحاول فتجنشتين في التحقيقات أن يقدِّم تنظيراً جديداً بشأن المعنى. ويمكن تلخيص ذلك على النحو التالي: معنى كلّ لفظة أو قضية هو كيفية استعمالها عند العُرْف، وليس ما ترسمه اللغة؛ إذ كما أوضَحْنا في ما سبق يمكن للفظة أن لا تكون في الأصل صورةً لشيء. وعلى ذلك فلا ينبغي أن نسأل من أجل فهم معنى اللفظة عما ترسمه، بل عما تعمله.
ويرى فتجنشتين بأن اللغة عبارةٌ عن مجموعةٍ من الأفعال المتشابكة التي لا يتيسر تعلّم اللغة وفهمها إلاّ من خلال تعلُّم تلك الأفعال. إنه يسمّي هذه العملية بـ (التدرُّب)([17])، ويوضّحها عبر مثاله الشهير ـ البنّاء ومساعده ـ، ويستخدم مصطلح الألعاب اللغوية لتسمية نظريته([18]).
وفي التعريف الذي يقدِّمه فتجنشتين عن اللعبة اللغوية يسمّيها بالكل الذي تكوِّنه اللغة والأعمال التي تنضوي تحتها([19]). ومن البديهيّ جداً أن هذا التفسير للغة في الطرف النقيض من تحليله السابق؛ حيث كان تحليله الأول يعتبر اللغة عبارةً عن مجموعة من العلامات، بينما تولي نظرية الألعاب اللغوية الأهمِّية لعنصر الاستعمال في اللغة. ويرى فتجنشتين أن الكلمات أشبه ما تكون بقطع الشطرنج؛ حيث إنّ معنى كلّ قطعة هو الدَّوْر الذي تؤدِّيه في اللعبة([20]).
لقد وجد فتجنشتين تماثلاً بين اللغة واللعبة، وادّعى بأنّ قواعد النحو تشكِّل لعبةً لغوية، كما أن قواعد الشطرنج تشكِّل لعبة الشطرنج، ومَنْ يلعب وفقاً لقواعد مختلفة فإنّه لا يلعب خطأً، بل يلعب لعبةً أخرى([21]).
ويضيف فتجنشتين: إنه يصعب إيجاد تعريفٍ عامّ ودقيق لمصطلح اللعبة. فكِّروا في مختلف أنواع الألعاب،من قبيل: البيسبول، وكرة القدم، ولعبة الورق، والألعاب الجماعية، والألعاب الثنائية، والألعاب الفردية، والألعاب غير التنافسية. ليس هناك قاسمٌ مشترك بين هذه الألعاب، بل ثمّة سماتٌ مشتركة بين مجموعةٍ من الألعاب وبين مجموعةٍ أخرى منها، والتمثيل الذي يقترحه لذلك هو الحبل الذي تكمن قوّته في التفاف الخيوط وتماسكها، كما يقارن هذا التماثل أيضاً بالتشابه الأُسَري الذي يتشابه فيه أعضاء الأسرة مع بعضهم البعض، دون أن يتشابهوا في سمةٍ خاصة بالضرورة([22]).
وقد نستطيع أن نجد إحدى نقاط الاختلاف بين الرسالة والتحقيقات في البند 340 من الجزء الأوّل من التحقيقات، حيث يقول فتجنشتين: «كيف تشتغل اللفظة؟ هذا ما لا يمكن التكهُّن به. يجب أن ننظر إلى استعمالها، وأن نتعلم منه»([23])، بينما كان يحاول في الرسالة أن يفرض على اللغة أفكاراً ناشئةً من أحكامٍ مسبقةٍ حول كيفية المعنى([24]).
وعلى الرغم من أنه لم يأتِ في ما تمّ نشره من كتابات فتجنشتين ذكرٌ صريح عن ملامح فكرته، إلا أنّه يمكن أن نجد عناصر من كتاباته تشرح رأيه بشكلٍ عام. يعتقد فتجنشتين في نظريّة «الاستعمال في المعنى» بأنّه للوصول إلى فهم معاني الجمل يجب أن ننتبه إلى استعمال الكلمات في الحياة اليومية، بدلاً من الانتباه إلى معاني الكلمات([25]).
شكل الحياة
يبدو أنّه من الضروريّ لفهم رأي فتجنشتين المتأخِّر عن اللغة أن نأتي بإيضاح عن مصطلح «شكل الحياة»([26]). في البند 23 من الجزء الأول من التحقيقات نواجه هذه العبارة: شكل الحياة. يقول فتجنشتين في هذ البند: «في هذا المقام، على اللفظة (لعبة لغوية) أن تُبْرِزَ أنّ تكلُّمَ لغةٍ ما يُعَدُّ عملاً أو شكل حياةٍ»([27]). والآن؛ ومن أجل إيضاح قصده من شكل الحياة، يبدو مناسباً أن نذكر مثاله في الجزء الثاني من التحقيقات، حيث يقول: «لو كان الأسد يستطيع التكلُّم لما كنّا نستطيع فهمه»([28]). وقد يمكن تبيين المقصود من هذه العبارة من خلال الرجوع إلى فكرة شكل الحياة. افرضوا أنّ أسداً جاء من بلاد الأساطير، ويمكنه التحدُّث باللغة العربية بطلاقةٍ. هنا يعتقد فتجنشتين أن اشتراكنا في معرفة اللغة العربية لا يكفي لنا في فهم مراد الأسد، فيمكن مثلاً أن يستيقظ هذا الأسد في منتصف الليل، قائلاً: «يا له من صباحٍ ممتع! يجب أن أبدأ بالسفر»، ثمّ يخلد إلى النوم مجدّداً. افرضوا أن الفارق الوحيد بين هذا الأسد وغيره من الأسود هو التحدُّث باللغة العربية، وأما في غير ذلك فهو يشبه الأسود الأخرى، وعندئذٍ فهو قد تكلَّم وعمل وفقاً لطريقة الحياة عنده، ولكنْ حتّى نحن الناطقون باللغة العربية لا يمكننا أن نفهم مقصوده، إلاّ إذا كنا أسوداً، أو عشناً على الأقلّ حياة الأسود. إذن، لفهم لغةٍ خاصّة يجب أن نعيش مثل الناطقين بتلك اللغة، ونشارك في لعبتهم. لفهم لغة عالم الرياضيات يجب أن نكون علماء رياضيات أو أن نعمل مثلهم، ولفهم لغة بنّاءٍ يجب أن نكون بنّائين([29]).
والآن، وبعدما تعرّفنا إجمالاً على نزعة فتجنشتين المتأخِّرة في اللغة، ثمّة سؤالٌ يطرح نفسه، وهو: ما هي الثمرات المترتِّبة على هذه النظرية في مجال لغة الدين؟ وهل يمكن التخلُّص بالاستناد إليها من الإشكاليات التي أثارها الوضعيّون؟ وهل ستحلّ مشكلة لغة الخطاب الدينيّ على ضوء هذه النظرية؟
الفلسفة المتأخِّرة ولغة الدين
على ضوء ما تقدَّم حول نظرية الألعاب اللغوية يبدو معقولاً جدّاً إمكانية استخدام هذه النظرية لمواجهة أنصار المذهب الوضعيّ، والإجابة عمّا يثيرونه من التحدِّيات، وبالتالي تخليص القضايا الدينية من مشكلة انعدام المعنى؛ وذلك أن اللغة الواقعية والمعرفية هي واحدةٌ من عددٍ لا متناهٍ من الألعاب اللغوية التي يمكن وجودها، بل لا يمكن تطبيق قواعد لعبة لغوية على لغةٍ لا تتبع قواعد تلك اللعبة؛ لمعرفة ما إذا كانت الأخيرة ذات معنى أم لا؟ فإنّه حينئذٍ يشبه بأن نطبِّق قاعدة لمسة اليد في كرة القدم عند ممارسة كرة اليد. إذن، فالقضايا الدينية لها قواعدها الخاصّة بلعبتها اللغوية.
إنّ عدم قبول القضايا الدينية للتحقُّق لا يوجِّه إشكالاً إلى حقيقةِ كونها ذات معنى. وعلى ضوء ذلك، يمكننا أن نفهم مقصود فتجنشتين حينما قال: «ليست المعتقدات الدينية غير منطقيّةٍ فقط، بل لا تدّعي المنطقيّة أيضاً». فهو لا يريد من اللامنطقية هنا المعنى السلبيّ للكلمة، بل يقصد أن المتديِّنين لا يستدلّون على معتقداتهم كما يفعل العلماء التجريبيون. إنه يعتقد بأنه ينبغي استخدام هذا المعنى المذموم لأشخاصٍ من قبيل: «الأب أوهارا»، الذي يعتبر المعتقدات الدينية على غرار الفرضيات العلمية قابلةً للرفض أو الإثبات. «سأقول بكلّ حزمٍ: إن أوهارا غير منطقيّ. وإذا كان ذلك اعتقاداً دينياً سأقول: إنه مجرّد خرافة»، ولكي نفهم الفرق بين هاتين اللعبتين بشكلٍ أفضل يمكننا أن نستعين بتوضيح فتجنشتين نفسه. يقول فتجنشتين: «افرض مثلاً أننا نعرف أشخاصاً يتنبّؤون بالمستقبل، بحيث يمكنهم التنبّؤ بما سيحدث خلال سنواتٍ كثيرةٍ قادمة، ويصفون يوم القيامة. فحتى إنْ كان يوجد هذا الشيء، وحتى إنْ كانت التنبّؤات أكثر إقناعاً ممّا وصفته، وطبعاً إنه شيءٌ غريب، فإن الاعتقاد بهذا الحدث لن يكون أبداً اعتقاداً دينيّاً». وفي المقابل، قد يؤمن الإنسان بيوم القيامة، ويعتقد به اعتقاداً دينياً، ومع ذلك يعلم بأنه ليست هناك أدلّةٌ علمية دقيقة لإثبات هذا المعتقد. ففي هذين المثالين يمكن علمياً أن يتنبّأ الشخص الأول بوقوع يوم القيامة بدقّةٍ، ويترقَّب وقوعه، ولكنْ مع ذلك لن يكون اعتقاده اعتقاداً دينيّاً مطلقاً؛ بينما الشخص الثاني سيكون لديه اعتقادٌ دينيّ، رغم أنّه لا يملك أدلّةً لإثبات معتقده بطريقةٍ علمية. ويكمن الفرق بين هذين الشخصين في شكل حياتهما، بحيث يتحكَّم الإيمان بيوم القيامة في جميع تفاصيل الحياة لدى المعتقد به؛ بينما يعيش مَنْ لا يملك مثل هذا الاعتقاد حياةً مختلفة بالكامل. إذن، لا يتيسَّر الحكم والتقييم حول صحة اعتقاد الإنسان المتديِّن أو خطئه إلاّ إذا شاركنا في لعبته اللغوية وعِشْنا مثله؛ بل بشكلٍ عامّ لا يمكن التعليق على لعبةٍ لغوية خارجاً منها([30]).
وكما يبدو فإن هذه النظرية لا تستطيع أن ترسم معنىً معرفياً للغة الدين، ولذلك يبدو أن البيان الإجمالي لنظريّة أوستين في باب معرفيّة اللغة لا يخلو من فائدةٍ.
ينتقد أوستين في مقالٍ هامّ، تحت عنوان: «كيف نفعل الأعمال بالكلمات؟»، النظرة القائلة بأنّ المهمة الرئيسة للغة هي الوصف وتقديم القضايا المعرفية. ويذهب في نظريته، التي اشتهرَتْ بـ «نظريّة أفعال الكلام»، إلى أن اللغة أحياناً تنجز فعلاً، ولكنْ لا تبيِّنه. كذلك يعتقد أوستين أن اللغة العُرْفية في معظم الحالات خاليةٌ من بيان الواقعيّات المَحْضة. فعلى سبيل المثال: قد يقول عمدة البلد: «الطريق مفتوح»، ويُفْتَح الطريق فعلاً بأداء هذه الكلمات من قِبَل العمدة.
إنّه يسمّي هذه الجمل بالجمل الأدائية، وهي التي تتعلَّق بأمرٍ يفوق الصدق والكذب. فعلى سبيل المثال: إنْ كان القائل شخصاً غير عمدة البلد، أو لم يكن القانون يسمح بفتح الطرق بهذه الطريقة، فلم يكن إظهار جملة «الطريق مفتوح» يؤدّي إلى النتيجة المرجوّة([31]).
من جهةٍ أخرى، يُنبِّه أوستين إلى أننا لسنا نتحدَّث فحَسْب، بل قد نلفظ الجمل بطاقةٍ خاصةٍ، أو قد نسأل أشياء، أو نجيب عن سؤالٍ، أو نبدي رأياً، أو ننسِّق موعداً وما إلى هنالك، ويسمّي هذه النماذج بالفعل المتضمّن في القول، إذ يمكن عادةً أن نعتبر هذا الفعل مساوياً لما نفعله عند بيان قولٍ([32]).
وبالعودة إلى مبحث التمييز بين الجمل الإخبارية والجمل الأدائية يستنتج أوستين أخيراً أنّ كلا هذين الصنفين هما من أصناف الأفعال المتضمّنة في القول، وهذا يعني أنّ بيان الواقعية يعتبر فعلاً كلامياً، ومن قبيل: الجمل الأدائية. وعلى هذا الأساس يقول عن الجمل الإخبارية بأنّها قد تكون بطريقةٍ أو بأخرى مدمّرةً أكثر من أن تكون كاذبةً. فمثلاً: إنّ جملة «الملك الفرنسي الراهن أصلع» هي جملةٌ من الأنسب أن يقال: إنّها فارغة من المعنى، بَدَلاً من أن يقال: إنّها خاطئة.
ونحن إذا ما شكَّكْنا، مثل أوستين، في معرفية اللغة فيمكننا أن نلتزم بسهولةٍ بما يستلزمه قول فتجنشتين في لغة الخطاب الدينيّ. ولكنْ مع ما ذكرنا كلّه فإنّ نظرية فتجنشتين في تحليل اللغة ولوازمها في مجال اللغة الدينية لا تخلو من النقد والمناقشة.
مراجعاتٌ نقديّة
على الرغم من أن جهود فتجنشتين ـ على حدّ تعبير بربور ـ أعادَتْ اللاهوت إلى حلقة النقاش والبحث العلمي، وجعلت علماء اللاهوت مدينين له([33]).
ولكنْ مع ذلك يبدو أنّه تَرِدُ انتقاداتٌ على هذه النظرية:
1ـ إن هذه النظرية تنقض نفسها؛ لأنّها لم تلتزم بمبادئها، حيث تكلَّم فتجنشتين نفسه عن مختلف أصناف الألعاب اللغوية، وهو خارجٌ منها، فإنّه تكلَّم بلغة الفلسفة، بينما تكون لعبة لغة الفلسفة وفقاً لنظريّته مختلفة عن لعبة لغة اللاهوت وغيره.
2ـ وأما الإشكال الآخر الذي يتوجَّه إليها فهو أنّ هذه القراءة بشأن لغة الدين تختلف تماماً عما تدَّعيه الأديان؛ لأن الأديان جاءت لهداية عامّة الناس، والتكلُّم معهم بلغتهم العرفية. ولذلك فإنّ غير المتدينين الذين كانوا يواجهون دعوة الدين ـ وهم وفقاً لنظرية فتجنشتين خارجون عن لعبة لغة الدين ـ ومع ذلك كانوا يحاججون الأنبياء؛ وكان بعضهم يقبل الدين؛ كما كان البعض الآخر يرفضه.
3ـ إنّ هذا التفسير من اللغة يلغي إمكانية تقييم الأديان، وستتبعه حالةٌ متطرفة من التعدُّدية الدينية والتسامح.
4ـ إن هذا التفسير للغة الخطاب الديني يختلف عمّا يفهم المتديِّنون منه عموماً؛ لأن أقصى ما يمكن الالتزام به في ضوء هذا التفسير هو أن لغة الدين غير معرفيّةٍ، ولا يمكن النقاش في صدق قضاياها أو كذبها. بينما لا يعترف المتديِّنون بذلك في خصوص أفكارهم ومعتقداتهم.
5ـ إنّ لهذه النظرية لوازم خلاف الوجدان، فعلى أساسها لا ينبغي أن يقع الحوار البنّاء والبحث والنقاش المنطقيّ بين أصحاب العلوم، في حين أنّنا نرى علماء الكيمياء والفيزياء يتباحثون فيما بينهم، كما أنّ علماء اللاهوت يجادلون الفلاسفة، وإنّهم فيما بينهم يمتلكون تفاهماً عُرْفيّاً صحيحاً.
6ـ لعلّ من لوازم هذه النظرية في المجال الديني هو نشوء نزعةٍ إيمانية متطرّفة تعتبر الدين أمراً ينبغي أن نعتقد به ونعمل طبقاً له، بَدَلاً من أن نفهم عنه شيئاً، وكأنّ هذه النظرية تحيي قضية «اعتقد كي تفهم» في القرن العشرين مجدَّداً.
حصيلة البحث
إن النظرية التي أدلى بها فتجنشتين في المرحلة الأولى من تطوُّره الفكري والفلسفي بشأن ماهية اللغة يمكنها فقط تحليل جزءٍ يسيرٍ من اللغة، وأسفَرَتْ فيما بَعْدُ عن نشوء مدرسة الوضعية المنطقية. وأما في المرحلة الثانية من تطوُّره الفكري فقد أحرز فتجنشتين تقدُّماً في تحليل اللغة، وذلك نتيجة زيادة اهتمامه بدَوْر الإنسان وأفعاله في العملية المعقَّدة للّغة، واعتبر اللغة بمثابة لعبةٍ يجب تعلّم قواعدها، واللعب وفقاً لها. إنّ لكلّ مجالٍ لغوي لعبته المتميِّزة، وقواعدها الخاصة. إنّ هذا التعريف للّغة لا يمكنه أن يُقدِّم معنىً معرفيّاً عن القضايا الدينيّة، بل إنّه يواجه إشكالاتٍ في هذا المجال.
الهوامش
(*) باحثٌ في الحوزة العلميّة في قم، وطالبٌ في مرحلة الماجستير في قسم فلسفة الدين ـ جامعة طهران.
([1]) بيير ألستون وينجر ملتون ومحمد لكنهاوزن، دين وچشم أندازهاي نو: 43، ترجمة: غلام حسين توكلي: 43، انتشارات دفتر تبليغات إسلامي حوزه علميه، قم، (1997).
([2]) Picture theory of meaning.
([3]) جون هيتون وجودي غروفز، قدم أول لودويگ ويتگنشتاين: 64، ترجمة: محمد فيروزكوهي، انتشارات شيرازه، (2002).
([4]) Wittgenstein, Loudwig, Tractatus Logico ـ Philosophicus, (2002), Translated by D, F. Pears and B. F. Mc Guiness. P 15.
([5]) ويليام دونالد هودسون، لودويگ ويتگنشتاين: 30 ـ 31، ترجمة: مصطفى ملكيان، انتشارات هرمس، (2014).
([7]) Wittgenstein, Loudwig, Tractatus Logico ـ Philosophicus, (2002), Translated by D, F. Pears and B. F. Mc Guiness.Guiness.p 89.
([8]) Wittgenstein, Loudwig, Tractatus Logico ـ Philosophicus, (2002), Translated by D, F. Pears and B. F. Mc Guiness.p 68.
([9]) دان ستيفر، فلسفه زبان ديني: 110، ترجمة: أبو الفضل ساجدي، انتشارات مركز مطالعات وتحقيقات أديان ومذاهب، (2005).
([11]) Ayer, Alfred Jules (1949), Language, Truth and Logic, p 1.
([12]) Ayer, Alfred Jules (1949), Language, Truth and Logic, p 113.
([13]) Wittgenstein, Loudwig, Tractatus Logico ـ Philosophicus, (2002), Translated by D, F. Pears and B. F. Mc Guiness. p 2.
([14]) Wittgenstein, Loudwig, Philosophical Investigations, (1958), Translated by G, p 18.
([15]) Wittgenstein, Loudwig, Tractatus Logico ـ Philosophicus, (2002), Translated by D, F. Pears and B. F. Mc Guiness. p 15.
([16]) Wittgenstein, Loudwig, Philosophical Investigations, (1958), Translated by G, p 20.
([18]) ويليام دونالد هودسون، لودويگ ويتگنشتاين: 94.
([19]) Wittgenstein, Loudwig, Philosophical Investigations, (1958), Translated by G, p 5.
([20]) Wittgenstein, Loudwig, Philosophical Investigations, (1958), Translated by G, p 150.
([21]) أوزوالد هانفلينج، فلسفه پسين ويتگنشتاين: 231، ترجمة: مينو حجت، انتشارات هرمس، (2018).
([22]) دان ستيفر، فلسفه زبان ديني: 164.
([23]( Wittgenstein, Loudwig, Philosophical Investigations, (1958), Translated by G, p 109.
([24]) ويليام دونالد هودسون، لودويگ ويتگنشتاين: 95.
([25]) محمود كريمى ورحيم أمرايي، «بررسي ونقد ديدگاه ويتگنشتاين متأخر در باب دين»، مجلة فلسفه دين، العدد 5، السنة السابعة، 1389هـ.ش.
([27]) Wittgenstein, Loudwig, Philosophical Investigations, (1958), Translated by G, p 11.
([28]) Wittgenstein, Loudwig, Philosophical Investigations, (1958), Translated by G, p 223.
([29]) ويليام دونالد هودسون، لودويگ ويتگنشتاين: 97 ـ 98.
([30]) المصدر السابق: 102 ـ 104.
([31]) دان ستيفر، فلسفه زبان ديني: 168.
([33]) إيان بربور، علم ودين: 285، ترجمة: بهاء الدين خرمشاهي، (2000).