أحدث المقالات

ترجمة: محمد عبدالرزاق

مقدمة ـــــــ

يعتبر كتاب (بحار الأنوار) أكبر الموسوعات الروائية الشيعية، الأمر الذي منحه ومؤلّفه مكانةً مرموقة لدى علماء الشيعة، فنال احترام الفقهاء والمتكلّمين والمحدّثين؛ وهي تلك الطبقة التي لم تكن على وئام ــ في العديد من الجوانب ــ مع الفلاسفة والعرفاء.

وفي عهد مرجعية الزعيم الشيعي آية الله العظمى البروجردي ظهرت تعليقات من قبل العلامة محمد حسين الطباطبائي ــ وهو من الشخصيات المرموقة في الفلسفة والعرفان ــ على كتاب البحار، وقد وقع خلافٌ بين الفقهاء والمتكلّمين من جهة، والفلاسفة والعرفاء من الجهة الأخرى، في بعض ما ذهبت إليه تلك التعليقات النقدية؛ حتى آل الأمر إلى إيقاف صدورها.

في خضمّ هذه الأجواء، نشرت صحيفة كيهان في العدد (44) مقالاً بعنوان: العقل والدين.. بين المحدث والحكيم، للكاتب محسن كديور، وهو من أنصار الحكمة المتعالية، تحدّث فيه حول أحداث التعليقات وإيقافها، وقد انطلق الكاتب يقول: mإنّ معارضة صدور تعليقات العلامة الطباطبائي مؤشرٌ على استمرار الفكر الإخباري في عصرنا، أما مقالنا فهو محاولة للتعرّف على الأبعاد الغامضة لهذا الفكرn([1]).

واضحٌ، أنّ مثل هذه الدراسات المشحونة ببعض الشعارات والنوازع والأهداف الخاصّة ليس بإمكانها الوصول إلى نتائج واقعية. وسنحاول ــ من خلال بحثنا هنا ــ الكشف عن الحقيقة، عبر ثلاثة محاور، يتناول الأوّل والثاني منها دراسة أسباب تعليق صدور كتابات الطباطبائي وملابسات ذلك، وفي الفصل الثالث نتعرّض لأسلوبية الكاتب في مقالته.

الخلاف التاريخي بين الفلسفة والكلام ـــــــ

ذكرنا آنفاً أن السبب وراء منع صدور التعليقات كان ما أثارتهُ من خلاف بين المتكلّمين والفقهاء وبين الفلاسفة والعرفاء، وهو أمر طبيعي؛ فالاختلاف بين هذين المذهبين حاصلٌ في الأصول والفروع على حدٍّ سواء، كما في بحوث معرفة الخالق والتوحيد وتوحيد الأفعال، وموضوع الحدوث والقدم، والعلم والقدرة الإلهية، والبداء، والجبر والتفويض، والمعاد الجسماني، والخلود في العذاب، وحقيقة النبوة، والملائكة، وجبرائيل، ووحدة الوجود و.. وكذا في جانب الأحكام والأخلاق، كما في موضوع الغناء، والحبّ، وإسقاط الواجبات و.. إذاً فالخلاف الدائر بين مؤيّدي الفلسفة ومعارضيها ليس قضيّةً عابرة يمكن تهميشها ببعض الكلمات واللافتات.

الأمر الأهمّ في طبقة الفقهاء والمتكلّمين، اشتمالها على أسماء بارزة من تلامذة الأئمة الأطهار ( أمثال: هشام بن الحكم، وأبي جعفر مؤمن الطاق، وهشام بن سالم، وحمران بن أعين، والفضل بن شاذان، والمتكلّمين النوبختيين؛ حيث كان الجميع يعارض المزاج الفلسفي، ويقال: إنّ هشاماً بن الحكم كان له كتاب ردّ فيه على أرسطو في التوحيد([2])، ويذكر الرواة أنّه mكان يحيى بن خالد البرمكي قد وَجَدَ على هشام بن الحكم شيئاً من طعنهِ على الفلاسفة وأحبَّ أن يغري به هارون (الخليفة)n([3]).

وقد ذكر النجاشي للفضل بن شاذان كتاباً في الردّ على الفلاسفة([4])، ناهيك عن إقصاء الحلاج من قبل الفقهاء والمتكلّمين في عهد الغيبة الصغرى([5]).

ولتسليط الضوء على الموضوع، نتناول ثلاث نقاط من موارد الخلاف ــ على نحو الإيجاز ــ :

1 ـ مسألة الحدوث والقدوم ـــــــ

يذهب المتكلّمون والفقهاء إلى القول بأن لا قديم سوى الله، وأن كلّ ما عداه حادثٌ ــ سواء كان مادياً أو مجرّداً ــ إلاّ أن الفلاسفة الإسلاميين قابلوهم بآراء مخالفة في هذا الباب؛ ممّا أحدث سجالاً حادّاً بين الطرفين؛ وبمطالعة سائر العصور المختلفة نستنتج أن أساطين الفقه والكلام قد قطعوا بالحدوث ونفوا القدم، انطلاقاً من النصوص الدينية الدالّة على ذلك.

يقول الشيخ الصدوق: mالاعتقاد بقِدَمِ غير الله كفرٌ بالإجماعn([6])، ويقول الشيخ المفيد: mمن قال بالقدم خارج عن الملّةn([7])، وفي السياق عينه، يرى السيد المرتضى: mأنْ لا قديم سوى الله، وما سواه حادث ذو بدايةn([8])، ويقول شيخ الطائفة الطوسي: mإنّ القدم من صفاته ــ عز وجل ـn([9])، أما أبو الفتح الكراجكي فيقول: mلا قديم سواهُn([10])، وقد ذهب إلى هذا القول كلٌ من أبي صلاح الحلبي، والسيد أبي المكارم ابن زهرة الحلبي، mفقالا بالحدوث واستدلا عليهn([11])، وهكذا الحال بالنسبة لإمام المفسّرين الطبرسي؛ حيث قال بأنّ القدم من صفاته ــ عزّ وجلّ ــ ولا شريك له فيه([12])، وقال الطوسي نصير الدين: mلا قديم إلاّ اللهn([13]).

واعتبر العلامة الحلي كلّ ما سوى الله حادثاً([14])، وقال أيضاً: mمن اعتقد بقِدم العالم كافرٌ إجماعاً؛ وفي هذا يكمن الفرق بين المسلم والكافر وحكمه حكم الكفّار يوم القيامة بالإجماعn([15]).

أمّا الشيخ جعفر كاشف الغطاء، فقد عدّ الاعتقاد بقدم المجرّدات من الكفر([16])، ويقول الميرزا القمي في هذا الباب: mوكان الحقّ تعالى حيث لم يكن معهُ شيء آخر، لذا لا شريك لهُ في القديم أيضاً، وهذا ما أجمعت عليه الأديان كافةn([17])، وقد ذهب النجفي صاحب الجواهر إلى القول mبأنّ كتب الحكماء السابقين ممّن قال بقدم العالم هي في عداد كتب الضلالn([18])، ويورد الشيخ الأنصاري في باب القطع: mلقد أجمعت الشرائع السماوية على حدوث العالم الزمانيn([19]).

لقد باتت مسألة الحدوث واحدةً من أهمّ قضايا الفلسفة والكلام، وكان بعض الفلاسفة يطلقون بعض التعابير، من قبيل: الحدوث الدهري، والحدوث الذاتي، إلاّ أن هذا الأمر لم يقلّل من الخلاف الواقع في الآراء، وقد لامَ الفيلسوف المعروف في القرن الثاني عشر إسماعيل الخواجوئي على الحكيم الكبير الميرداماد ربطه بين حديث: mوكان عرشه على الماءn وبين مسألة الحدوث والقدم([20]).

أما الفيلسوف القاضي سعيد القمي ــ وهو من الفلاسفة البارزين أيضاً ــ فقد نفى أن يكون مختار الملا صدرا الحدوث الحقيقي([21])، وأخيراً يقول آية الله العظمى الحاج السيد أحمد الخوانساري: mإجماع الملّيين على الحدوث الزماني، لا الحدوث الذاتي، ولا الحدوث الثابت من جهة الحركة الجوهريةn([22]).

2 ــ المعاد الجسماني ـــــــ

وهو من المسائل التي يتفق سائر المسلمين على أهميّتها؛ حيث يقول فخر الدين الرازي في هذا الصدد: mلا يمكن الجمع بين الإيمان بما جاء به النبي 2 وإنكار الحشر الجسمانيn([23]).

ويقول شيخ الطائفة المفيد في حاشيته على اعتقادات الصدوق، في معرض ذكره لتسبيح وتقديس فرقةٍ من أهل الجنة وتكبيرهم وسط الملائكة ــ : mلا يوجد بشر يتمتّع بالتسبيح والتقديس، مستغنياً عن الأكل والشرب، إنما هذا قولٌ شاذ على الإسلام، وأظنّهُ من النصارى.. فإن القرآن والإجماع مخالفان لهn([24])، وقد اعتبر نصير الدين الطوسي المعاد من ضروريات الدين([25]).

وقد وَرَد في كلامٍ للعلامة الحلي: mالمبحث السادس في إثبات المعاد البدني، وقد خالف الفلاسفة هذه المسألةn([26])، ورأى أنّ المعاد الجسماني من ضروريات الدين المحمّدي([27]). وقال الشهيد الثاني: mإنّ المعاد الجسماني من ضروريات دين محمد2n وmإن المسلمين مجمعون على ذلك، إلاّ الفلاسفة نفوا الجسماني وقالوا
بالمعاد الروحيn([28])، أمّا الألمعي الشيخ جعفر كاشف الغطاء، فقال بأنّ إنكاره كفرٌ([29]).

وخلافاً لمدرسته الفلسفية، اعترف ابن سينا بصحّة الخبر في ذلك ــ نظراً لأهمية الموضوع ــ قائلاً: mإنّ الحكماء مقلّدون في باب المعاد؛ حسب رأي الحكيم الطالقاني والمحقق صاحب الشوارقn([30]).

ومن الطبيعي أن تتباين آراء الفلاسفة في هذا الجانب؛ مثل الملا صدرا الذي قدم نظرياته المخالفة لما ذهب إليه الفقهاء والمتكلّمون الشيعة([31])، وهناك العديد من الفلاسفة الذين يخالفون رأيه، فعلي مدرّس الزنوزي مثلاً ــ وهو من الحكماء البارزين([32]) ــ اعتبر في mسبيل الرشادn نظرية الملا صدرا مخالفةً لظاهر الروايات المنقولة([33]).

ويروي الدكتور ديناني: mلقد كان لآية الله السيد محمد حسين الغروي الإصفهاني ــ المعروف بالكمباني ــ رسالة في المعاد، وقد سار على نهج الحكيم الزنوزي في ما كتبه فيهاn([34]). كذلك انتقد آية الله الميرزا أحمد الآشتياني مذهب الملا صدرا في المعاد، معتبراً الرأي الصحيح لديه مطابقاً للعقل والنصوص القرآنية، بل إنّ جميع الأديان تنصّ عليه، وهو من ضروريات الدين الإسلامي([35]).

ورفض آية الله الميرزا محمد تقي الآملي ــ الفقيه والفيلسوف المعروف ــ فكرة صدر المتألهين في المعاد، وقال: إنه معتقدٌ بما اعتقد به الله وملائكته ورسله وأنّه مستنبط من القرآن([36])، ويعقّب بعض المعاصرين على هذا الكلام؛ فيقول: mوحاكاه في ذلك السيد أبو الحسن القزويني ضمن مقالاته الفلسفية التي كتبها في باب المعادn([37])، كما اعتمد آية الله العظمى أحمد الخوانساري على الكتاب والسنّة في ردّ الملا صدرا([38]).

أما التصعيد الذي شهده موقف الحكيم الميرزا أبي الحسن جلوة وضياء الدين الدري الإصفهاني([39]) فهو ــ في حدّ ذاته ــ بحاجة لدراسة مستقلة([40]).

3 ــ إسقاط التكليف ـــــــ

لا تزال العبادة عند الشيعة من وسائل التقرّب إلى الله ــ عزّ وجلّ ــ حتى وإن نال الإنسان درجات سامية من الكمال، ولهذا نرى علياً % شهيداً في محرابه، والحسين مقيماً لصلاته في ظهيرة عاشوراء، إلاّ أنّ العرفاء يخالفون هذا الرأي ويقولون: mعندما ينكشف الباطن ويصبح معلوماً بمخالفته للشريعة، فإنه يسقط الواجب والتكليف، فلا واجب على المقرّبينn([41]).

ويمكن مراجعة معتقدات العرفاء في باب سقوط التكليف في mكلشن رازn للمحقق اللاهيجاني([42])، وكذلك ديباجة الكتاب الخامس من مثنوي جلال الدين الرومي([43])، وقد عرّف ابن سينا العرفاء بقوله: mالعارف ربما ذُهل فيما يصار إليه، فغفل عن كل شيء، فهو في حكم من لا يكلّف، كيف؟ والتكليف لمن يعقل التكليف حال ما يعقله، ولمن اجترح بخطيئة إن لم يعقل التكليفn([44]).

وفي ختام هذا الحديث، لابد لنا من ذكر بعض النقاط:

1 ــ إنّ خلاف العرفاء والفلاسفة ليس مختصّاً بالفقهاء والمتكلّمين، بل هناك خلافات فيما بين الاتجاهات الفلسفية والعرفانية نفسها، يقول العلامة الطباطبائي في ميزانه([45]):mولذلك رام جمعٌ من العلماء ــ بما عندهم من بضاعة العلم على اختلاف مشاربهم ــ أن يوفّقوا بين الظواهر الدينية والعرفان، كابن عربي، وعبدالرزاق الكاشاني، وابن فهد، والشهيد الثاني، والفيض الكاشاني. وآخرون أن يوفقوا بين الفلاسفة والعرفان كأبي نصر الفارابي والشيخ السهروردي صاحب الإشراق، والشيخ صائن الدين محمد تركه، وآخرون أن يوفقوا بين الظواهر الدينية والفلسفة كالقاضي سعيد وغيره، وآخرون أن يوفقوا بين الجميع كابن سينا في تفاسيره وكتبه، وصدر المتألّهين الشيرازي في كتبه ورسائله، وعدّة ممّن تأخر عنه؛ ومع ذلك كلّه، فالاختلاف العريق على حاله لا تزيد كثرة المساعي في قطع أصله إلاّ شدّةً في التعرق، ولا في إخماد ناره إلاّ اشتعالاً: ألفيت كلَّ تميمةٍ لا تنفعn([46]).

2 ــ لا يعني التعارض الحاصل بين المذاهب الفلسفية والمذهب الكلامي كون جميع الفلاسفة في جبهة ضدّ سائر المتكلمين؛ فقد يلتقي بعض الفلاسفة معهم في بعض نقاط الاشتراك كموضوع المعاد، كما لا يعنى ذلك سلبهم حقّ النقاش وإبداء آرائهم بما خالفوا الفقهاء والمتكلمين، وأن نعتبر ما ذهب الفقهاء إليه مطلقَ الصحّة لا خطأ فيه.

يُذكر أنّ تعدد المشارب الفلسفية ــ المشائية، الإشراقية، العرفانية ــ واتساع رقعتها، نشأ عنه تعدّد أساليب التعاطي مع المواضيع الفلسفية، وكانت هذه الدراسة مقارنة بين مذهب الفقهاء والفلاسفة بشكل عام دون تفصيل، هذا أولاً، وثانياً: إنها لا تبغي إثبات أو تبنّي رأي ما، إنما كان هدفها الإشارة إلى النـزاع المتجذّر ومدى أهميّته بين الجانبين.

3 ــ ليست جميع الآراء الفلسفية من متبنّيات العلامة الطباطبائي بالضرورة، وإن كان محسوباً على هذا التيار ومن مؤيديه؛ فهو يرفض إسقاط التكاليف ــ جملةً وتفصيلاً ــ سواء كانت من المحرّمات أو الواجبات([47]).

تعليقات البحار، أسباب المنع وملابسات المواقف ـــــــ

وصلت الزعامة الشيعية في العقد السابع والثامن من القرن الرابع عشر الهجري إلى آية الله العظمى السيد حسين الطباطبائي البروجردي، وكان ذا شخصية مميزة([48])، جَمَعَ بين المنقول والمعقول من العلوم، فدرس الفلسفة عند كبار أساتذة هذا الاختصاص في حوزة إصفهان، وهما: الشيخ الملا محمد الكاشي، والشيخ جهانكيرخان القشقائي، وقيل: mإن جهانكيرخان كان مهتمّاً كثيراً بهذا الطالب المميّز، وكان مخاطبَهُ الأوّل في محاضراتهn([49]).

على أيّة حال، كان عالماً في شتى المجالات وله مدرسته الفقهية، وكان على صلة بالفلسفة والعرفان.

وقد سمعت آية الله السيد موسى الشبيري الزنجاني المعاصر يقول: mلقد كان آية الله البروجردي على وشك تحريم العلوم العقلية إلى جانب السيد محمد رضا سعيدي ــ آية الله الشهيد سعيدي ــ وكان هو أيضاً مخالفاً للفلسفة، إلاّ أنّ تدخل البهبهاني وغيره من العلماء منع من حصول ذلكn.

أما مخالفة البروجردي لتدريس الفلسفة في حوزة قم فهو أمرٌ مفروغ منه؛ فقد أبدى رفضه لها سواء بالتصريح بالنهي عن ذلك أو عن طريق إظهار عدم ارتياحه لممارسة ذلك العمل في حوزات قم.

ووفقاً لآراء البروجردي ومذهبه الفقهي، يتضح لنا مدى وقْع بعض تعاليق العلامة الطباطبائي الجريئة على بحار المجلسي، لا سيما في مواضع النـزاع بين الفقهاء والفلاسفة. ويذكر أحد المقرّبين من البروجردي: mكان ــ ونظراً لزعامته الشيعية ــ معجباً كثيراً بالعلامة المجلسي، حتى أنّه يتفاخر أحياناً بصلة القرابة معه، وبما أنّ المجلسي يعتبر من أركان التشيّع؛ لذا كان لا يرى مصلحةً في تعدّي حدودهn؛ فمنع صدور التعليقات.

لقد التقيتُ العديد من العلماء الكبار، ممّن كان على صلة بآية الله البروجردي، وقد أقرّ بعضهم بأنّ البروجردي كان قد عطّل صدور تعليق بعض العلماء الأعلام على البحار، كذلك روى لي الميرزا أبو الحسن الروحاني حكاية استدعاء الآخوندي (ناشر التعليقات) من قبل البروجردي وقضية المنع([50])، ثم سألتُ حجّة الإسلام والمسلمين السيد جواد العلي ــ حفيد البروجردي ــ عن الموضوع، وقال بصريح العبارة: mأصدر آية الله البروجردي حكم المنع، بعد أن أمر السيد أحمد خادمي بإحضار الآخوندي وإبلاغه بمنع نشر البحار مع هذه التعليقة، أو أن تنشر بدونها إذا لزم الأمرn؛ فذهبتُ إلى الآخوندي، وسألته عن الموضوع، فأجاب بالقول: mلقد كان آية الله البروجردي مستاءً كثيراً عندما دعاني إلى بيته وطلب منّي عدم نشر التعليقةn.

وهناك عالمٌ آخر كان مخالفاً لاستمرار نشرها، وهو آية الله العظمى السيد محمود الشاهرودي (1394هـ)، وكان من المراجع الكبار في النجف، ولهُ مقلّدون كُثر من الشيعة([51])، وقد سمعتُ آية الله السيد موسى الشبيري الزنجاني يقول: mلقد أصدر آية الله الشاهرودي فتوى بتحريم نشر التعليقة على البحارn.

وقفات نقدية مع مقالة: العقل والدين ـــــــ

نحاول ــ من خلال هذه الوقفة ــ دراسة أسلوبية طرح بعض المسائل في المقال، فمن شروط النقد البنّاء التزام الحياد والدقّة في النقل.

وهنا أودّ الإشارة إلى جملة نقاط:

1 ــ جميعنا يعلم قصّة التيار الإخباري في النصف الأول من القرن الثالث عشر، وما تعرّض له من لكمات قاسية؛ فضعف كثيراً حتى يكاد يكون قد تلاشى؛ فكيف يمكن للتيار الإخباري أو لأفكاره أن تحيا من جديد في عصر زعامة آية الله البروجردي؟

2 ــ يبدي الكاتب تأسّفه ــ تعريضاً بمراجع التقليد آنذاك ــ تجاه موقف العلماء، متسائلاً عمّا إذا كانت آراؤهم ــ هي الأخرى ــ بحاجة للتصويت والإقرار، وهو تأسف لا مبرّر له؛ فالعلماء أعلم بواجباتهم ومواقفهم.

3 ــ يلاحظ في بعض الأحيان خروج الكاتب عن دائرة النقد العلمي بكلام مشين تجاه شخصية كبيرة كالعلامة المجلسي؛ حتى أنه لا يذكر اسم العلامة المجلسي كما يذكر العلامة الطباطبائي.

4 ــ إنّ الاجتهاد والنقد البنّاء سمةٌ في خطاب فقهاء الشيعة؛ لذا بإمكاننا الإفادة ــ ضمن هذا الإطار ــ من سيرة ومؤلّفات العلامة المجلسي، على أن تطرح أفكاره بعيداً عن الانحياز وبحيادية تامّة، وأن لا يخرج الطابع النقدي عن صورته، فيغلب الانتقاد على البحث والتحقيق؛ فلم تنقل بعض المواضيع بشكل سليم، فمثلاً تتكرّر عبارة المجلسي الحماسية دون الإشارة لمناسباتها، وقد تعرّض كلام المجلسي في باب العقل والحديث للتحريف أكثر من مرّة، والهدف من وراء ذلك تهميش مكانته ووصفه بالسطحية ــ وسنفصّل القول في ذلك تباعاً ــ بينما كانت آراء العلامة الطباطبائي تدعّم وتذكر بأساليب منمّقة جداً.

5 ــ يعتبر العقل عند الشيعة نوراً قدسياً ورسولاً باطنياً، أما في ماهيته وحدوده فهناك اختلاف واسع ــ على صعيد الأصول والفروع ــ بين الفقهاء والمتكلمين والمحدّثين والفلاسفة والعرفاء، وهذه مسألة هي الأكثر تعقيداً من مباحث علم الكلام والفلسفة والفقه، من قبيل تعريف العقل في الفقه والفلسفة، وتعارض العقل مع
النقل و..

إنّ التحقيق في جميع المذاهب والبحوث العقلية أمرٌ ليس في حدود هذا المقال، وما يهمّنا من ذلك استعراض الأسس الفكرية لطرفي النـزاع، أي الفقهاء والمحدّثين في قبال الفلاسفة والعرفاء.

فقد عرّفوا العقل، كلٌّ حسب مدرسته، مع فرض أقسام له، كالشيخ الرئيس في mالنجاةn، والخواجة في mالتجديدn، والجرجاني في mالتعريفاتn، والملا صدرا في mالمبدأ والمعادn و mالأسفارn.

لم تحدّد المقالة معالم العقل وحدوده عند الفلاسفة والفقهاء، بل اقتصرت على خطوط عامة، كما لم تدرس المقالة ماهية العقل في المذهب العرفاني، وما هي علاقة العقل مع العشق العرفاني وعالم الكشف والشهود، أو ما يصطلح عليه الكاتب mالإدراك المعنوي عن طريق العبودية الخالصةn.

إن هذا العشق في كلّ القلوب

فاق عقلاً وعلوماً ناجحة

ما هو الأرجحُ: عشقٌ أو عقول؟

إن الركائز عند أصحاب الدليل من خشب

ويا لها من أصول واهية.

هل ــ حقاً ــ قواعد الاستدلاليين خشبية؟ وإذا كان كذلك، فلماذا كلّ هذه الاستدلالات؟ وإذا لم تكن خشبيةً واهية، فكيف الجمع بين العرفان والعقل؟ كذلك الحال في معنى العقل عند المجلسي، وما هي دلالته في العقائد والأحكام؟

لم تتناول المقالة هذه المواضيع بصورةٍ تامة؛ لأنّ كاتبها كان في معرض دفاعه عن نظريات العلامة الطباطبائي، ولابد له من أن يبتعد عن النقد والتحليل الدقيقين.

أما الجوانب المطروحة حول العلامة المجلسي، فامتازت بشكلٍ خاص وبدافع خاص أيضاً.

لقد فصّل العلامة المجلسي ــ وهو الجامع للمعقول والمنقول ــ في بحار الأنوار معنى العقل وماهيته، سارداً ستة أقوال في ذلك([52])، ورد بعضها في كتاب الأسفار للملا صدرا([53])، وقد تعاطف المجلسي مع اثنين منها، مخالفاً تفسير الفلاسفة، لا سيما فيما يخصّ العقول الأولية الصادرة عن الحقّ تعالى، أي العقول العشرة وارتباطها بالأجرام السماوية كما في علم الهيئة عند بطليموس، والاعتقاد بتجرّدها وقدمها المستلزم لإنكار العديد من ضروريات الدين، كحدوث العالم وغيره، معتبراً ذلك تدخّلاً في اختصاص الآخرين.

لقد سعى صاحب المقال ــ دون أن يشرح معاني العقل في المذاهب الفكرية ــ أن يقدّم العلامة المجلسي مخالفاً لمطلق العقل ومعانيه، وهو أمر يحتاج إلى دراسة في حدّ ذاته؛ لابتعاده عن دائرة الإنصاف. إنّ البحث الشامل لمعنى العقل عند المجلسي وما فيه من سلبيات وإيجابيات، بحاجة لمطالعة جميع كتبه وآثاره، ونظراً لقصر المدة الزمنية لصدور المقالة لم يتسنَّ لي الإلمام بجميع المصادر، وقد اتضح بطلان مدّعيات الكاتب بالبحث والتنقيب.

جاء في القسم الثاني من المحور الأول للمقالة أنّ المجلسي يعتبر الروايات السبيل الوحيد لمعرفة الله وتوحيده وغير ذلك من المعارف، وهو ادّعاء باطل؛ فقد قدم في البحار([54]) ستة براهين عقلية على إثبات وحدة الصانع، ثم تعرّض للأدلّة النقلية. وقد تمسّك في كتابه: حقّ اليقين([55]) بأدلّة عقلية فيما يخصّ إثبات وجود الخالق والمعاد.

جاء في بحار الأنوار: mوالثالث قياس عقلي برهاني، تعرف العقول عدله، أي حقيّته، ولا يسع لأحد إنكاره، لا القياس الفقهي الذي لا ترتضيه العقول السليمة، وهذا إنما يجري في أصول الدين لا في الشرائع والأحكام التي لا تعلم إلاّ بنص الشارعn([56]).

6 ــ تهافتَ كلام الكاتب في نقل أقوال المجلسي، ممّا قاده للإخفاق في التحليل والاستنتاج؛ فعلى سبيل المثال، نقل في القسم الأول من المحور الأول للمقال نصّاً جاء فيه أنّ التعقل هو السبيل الوحيد للخلاص من هفوات العقل، ذلك التعقّل الموافق لقانون التشريع، وبعد مراجعة المصدر في بحار الأنوار لاحظنا عدم وجود نصّ كذلك، إنما تحدّث النص عن الرياضات الطويلة والتأملات الصحيحة المطابقة للشرع([57])، رادّاً ــ بعد ذلك ــ على العقل النظري والفلسفي.

كما نسب نصّاً آخر للمجلسي جاء فيه أنّ باب العقل مغلق أمام معرفة الإمام، وهذا قياس فقهي، ويحتمل أن يكون معناه ــ كما ورد في البحار: mنفي القياس العقلي والبرهاني في الشرائع والأحكامn([58]) فإنْ لم يكن الكاتب يحتمل هذا الوجه تعيّن عليه نقل الوجهين فيما يخصّ العقل عند المجلسي، لا أن يتخيّر ما يصبّ في مصلحته بانتقائية بحتة.

7 ــ في القسم الأول من المحور الأول أيضاً، نقل كلاماً ناقصاً مع شيء من التحريف؛ حيث قال: إنّ الاعتماد على العقول والآراء وحدها دون الرجوع للشرع باطلٌ وفاسد وضالّ ومضل، وهو ما تطرّق إليه المجلسي ضمن حملة ردوده على الفلاسفة، وما ذهب إليه في العقل النظري والفلسفي، فلم يكن مقصوده مطلق العقل، ناهيك عن التصرّف في العبارة، وأصلها كالآتي: mولمّا سلكوا سبيل الرياضات والتفكّرات من الحكماء الذي ضلّوا وأضلوا، فأنكروا النبوّة والكتاب مستبدّين بآرائهم الفاسد..n([59]).

كذلك في خاتمة القسم الثاني من المحور الأول ثمّة نصّ ناقص: mنستغيث بالله إذا ما اعتمد الناس في أصولهم العقائدية على عقولهم..n([60])، والحال أنّ ما يسبق هذه العبارة وما بعدها مرتبطٌ بانتقادٍ لاذع للفلاسفة، وكلّه لم يُذكر في النص المنقول، مع أنّ هذه الجملة لا تنفصل دلالتها عن التكملة، والأمر هنا يدور حول العقل النظري أيضاً.

8 ــ ورد في عبارات كثيرة ــ في معرض نقل كلام العلامة المجلسي ــ التعابير التالية: mعقلك ضعيف قاصرn و mعقلك كثير الخطأn و mلا سبيل لنا سوى التمسّك بالأخبارn فاصطبغ الكلام بشيء من السخرية والتندّر، وعندما ينقل كلام المجلسي في القسم الثاني من المحور الأوّل يستهلّه بالقول: mإنّ عقولنا قاصرة عن درك هذه المسائل وفهمها..n، ويظهر أنّ هذه الإقحام يوحي بنسبة القول للمجلسي.

9 ــ استعرض الكاتب في القسم التاسع من المحور الأوّل موضوع تعارض العقل والنقل عند المجلسي، وجاء فيه أنّ المجلسي لم يتردّد في ترجيح الدليل النقلي فيما
إذا تعارض مع الدليل العقلي، فهو ــ مبدئياً ــ لا يعترف بالدليل العقلي فضلاً عن ترجيحه.

ونعلّق: أوّلاً: إنّ الكاتب لم ينقل دليلاً واحداً على موضوع التعارض عند المجلسي.

ثانياً: إنّ المجلسي ــ كما ذكرنا سابقاً ــ لا يقول بالدليل العقلي.

ثالثاً: لا توجد علاقة بين تحليل واستنتاج الكاتب في خصوص موضوع التسليم بأخبار الأئمة ومسألة التعارض بين العقل والنقل، فالذي ذهب إليه المجلسي هو أنّ علوم الأئمة مدهشة وشأنهم معجز، لذا في حالة وصول أخبار صحيحة عنهم وعجز العقل عن دركها لا تطرح الأخبار؛ لقصور العقل عن فهمها.

وللمفارقة ينقل الكاتب في خاتمة القسم التاسع من المحور الثاني نظرية العلامة الطباطبائي والتي لا يطرح الرواية فيها وإن لم يعمل بها.. دون أن يعلّق على ذلك بشيء!

10 ــ جاء في القسم الثاني من المحور الأول أن الروايات تمثل مصادر العلامة المجلسي الوحيدة في باب الاعتقاد، وهي دليله على معرفة الله وتوحيده وصفاته والمعاد، وهذا ليس صحيحاً؛ فقد ذكر المجلسي في كتاب الاعتقادات أدلّةً من القرآن والآيات معاً([61])، كما قسّم في بحار الأنوار أمور الدين إلى قسمين:

أ ــ ضروريات الدين التي لا تحتاج في العلم بها إلى نظر واستدلال.

ب ــ ما لا يكون من ضروريات الدين؛ فيحتاج في إثباته إلى نظر واستدلال، وهو على ثلاثة أقسام:

1 ــ ما يستنبط بحجّة من كتاب الله، بحيث أجمعت الأمّة على معنى الآية، ولم يختلفوا في مدلولها، فلا يصحّ أن تكون من المتشابهات.

2 ــ السنّة المتواترة التي أجمعت الأمة على نقلها أو على معناها.

3 ــ قياس عقلي برهاني، تعرف العقول عدله، أي حقيّته، ولا يسع لأحد إنكاره، لا القياس الفقهي الذي لا ترتضيه العقول السليمة، وهذا إنّما يجري في أصول الدين لا في الشرائع والأحكام التي لا تُعلم إلاّ بنصّ الشارع([62]).

11 ــ ينقل الكاتب عن المجلسي في كتاب الاعتقادات قوله بكفر من اعتقد بتجرّد غير الله، وليس هذا رأي المجلسي إطلاقاً؛ فلم نعثر ــ بعد مراجعة الكتاب ــ على هذه العبارة، إنّما الذي ذهب إليه العلامة المجلسي ــ كسائر الفقهاء ــ هو الحكم بكفر من اعتقد بقِدم غير الله([63])، وقد ثبت ــ بعد البحث والتدقيق ــ أنّ المجلسي أطلق القول في المجرّدات، فقال في بحار الأنوار: mلا يظهر من الأخبار وجود مجرّد سوى الله تعالىn([64]) وفي كتاب: حقّ اليقين أيضاً هناك كلام مشابه لهذا، إلاّ انه لم يصل إلى حدّ التكفير([65]).

وللمجلسي أيضاً بحثٌ موسّع حول حقيقة الروح، رفض فيه تكفير القائلين بتجرّدها، فقال في بحار الأنوار: mفما يحكم به بعضهم من تكفير القائل بالتجرّد إفراط وتحكّم، كيف، وقد قال به جماعة من علماء الإمامية ونحاريرهمn([66]).

12 ــ يتحدّث الكاتب عن تأويلات للعلامة المجلسي، ثم يتساءل عمّا إذا كان من الممكن استخدام التأويل في غير هذه المواضع، إلاّ أنه لم يحدّد مواضع التأويل، ولعل مراده التأويلات الفلسفية والعرفانيّة.

13 ــ ثمّة استنتاجات من آراء المجلسي الفقهية لم تعتمد على الدليل المحرز والمصدر الموثوق، وجلّها قابل للطعن؛ ومن هذه الدعاوى ما مرّ آنفاً في الفقرة رقم عشرة.

14 ــ وصفت المقالة الملا صالح المازندراني بأنه إخباري، دون أن تقدّم دليلاً على ذلك، والحال أنّ الوحيد البهبهاني يصنّفه في عداد الأصوليين، فقد صنّف جملة كتب أصولية وفقهية منها: شرح المعالم، والحاشية على شرح اللمعة، وشرح زبدة الأصول للشيخ البهائي([67]).

15 ــ جاء في المقالة اشتمال كتاب بحار الأنوار على بعض الإسرائيليات، مع أنّ المجلسي من المعارضين لتلك الروايات الإسرائيلية في قصص الأنبياء، فبحار الأنوار كتابٌ جامع للروايات حسب معايير ومصادر حدّدها المجلسي وشرحها سلفاً.

16 ــ يوحي الكاتب بوجود خلاف بين المتكلّمين والفقهاء في بعض المسائل البديهية، من قبيل انتفاء حجية خبر الواحد في غير الأحكام، ورفض الأخبار الضعيفة والموضوعة، أو مسألة الإسرائيليات والقصص الأسطورية، أو ما كان يمارسه بعضهم من وضع الأحاديث.

17 ــ لم يقدّم الكاتب دليلاً على ادّعائه أنّ المجلسي يعتبر الروايات كلّها في مستوى واحد، فمن المعلوم أنّ خطاب المعصومين لم يكن في مستوى واحد، بل كان يختلف باختلاف طبقات المجتمع، إلاّ أن طرح مثل هذه الادّعاءات إنّما جاء مقدّمةً لتأويل أو تعليل الأحاديث، فيما يصبّ في غرض مبيّت.

18 ــ يقول صاحب المقال: إنّ احترام الشخصيات الدينية والعلمائية مغاير للإذعان بآرائهم ونظرياتهم؛ فلا تقليد في هذا الجانب، ويجب أن لا نجعل من كل رأي مخالف لرأي العلماء ما يشبه قميص عثمان، ثم إنّ المتكلمين يبحثون في الأصول المعرفية مع أنّ أكثرهم ليسوا من ذوي الاختصاص، كالخواجة نصير الدين الطوسي والعلامة الحلّي، فلماذا كل هذا الضجيج؟

في الحقيقة، يتمحور هذا السجال حول موضوعين:

الأوّل: فيما يخصّ ضروريات الدين والمذهب والانطباعات الخاطئة للفلسفة والعرفان، وهنا بإمكان الفقيه أن يبدي رأيه وإن لم يكن من ذوي الاختصاص.

الثاني: فيما يخصّ جملة من الأحكام، كالحرام والحلال([68]) وهي مسائل فقهية لها رجالها؛ لأنّها أمور تعبدية لابد من التقليد فيها. فليس في بيان الآراء والأحكام الدينية والدفاع عنها ضجيج.

19 ــ غالبية الموضوعات الفقهية والكلامية تطرح وكأنها ممّا تفرّد به المجلسي وحدَهُ. من ذلك مسألة التفكير والخوض في صفات الخالق، والجبر والتفويض، فهي كلّها ممنوعة عند المجلسي، لكن نابغة الفقه والأصول الشيخ الأنصاري نفسه يقول: قبل أنْ نترك الاستدلال العقلي في الأحكام علينا أن نترك الاستغراق في المسائل العقلية النظرية فيما يتعلّق بأصول الدين، فنحن بهذه الطريقة سنعرض أنفسنا لهلاكٍ دائم وعذاب مستمر، وقد أشيد لهذا الجانب في معرض النهي عن الاستغراق في مسألة القضاء والقدر([69]).

كذلك يذكر الكاتب أنّ العلامة المجلسي يشكّك في نوايا أولئك الذين يخوضون غمار العلوم العقلية باعتمادهم على العقل والاستدلال، وهو ما لا يختصّ بالمجلسي، إنما يرجع إلى اختلاف في الأسس والخلفيات الفكرية المسبقة، وقد شاركه في ذلك العديد من الفقهاء، كالفقيه الأصولي الكبير الميرزا القمي، حيث قال في الفلاسفة: mوالحاصل باليقين أنّ منهج هؤلاء مغايرٌ لسبيل الإسلام.. وأنّ قواعدهم لا تنسجم مع قواعد الإسلام، لا في المعراج الجسماني مع استحالة الخرق والالتئام، ولا في ركوب الملائكة على الأبلق من الخيول..n.

ويقول في موضع آخر: والحق أنّ أولئك الذين يثبتون العقول بأنها دين الرسول متخذين من روايات العقل والجهل دليلاً على مدّعاهم قد ابتعدوا كلّ البعد عن المراد والدلالة الحقيقية للروايات، إنّما المراد من العقل في تلك الأخبار ما كان مناطاً للتكليف ([70]).

20 ــ عمد الكاتب في الخاتمة إلى القيام بمقارنة بين الإخباريين وأصحاب النظريّات الجريبية في الغرب، معتبراً إياهما مخالفَين للاتجاه العقلي، مع فارق يكمن في أنّ مجيء الحركة الغربية كان مصاحباً لعصر الاكتشافات والتكنولوجيا التجريبية، أمّا الإخباريون فقد ظهروا في عصر التخلّف التجريبي عند المسلمين.

وهذا التحليل التاريخي ليس بتامّ؛ لأسباب:

أولاً: لم يحدّد المقصود من مفهوم الإخباري، هل هو الفقهاء والمتكلّمون والمحدثون؟ أم الإخباريون المتطرّفون؟ وأياً كان الجواب يبقى ناقصاً؛ فكثير من كبار الإخباريين كان لهم اطلاع على علوم زمانهم كالرياضيات وغيرها.. كما جاء في كتب التراجم، بل إنّ العلوم التجريبية لم تكن ــ أساساً ــ بالمستوى المطلوب، فليس لأرباب الأفكار الأخرى ادّعاء تولّيهم زمام هذه العلوم، لا سيما الفلاسفة، حيث كان تركيزهم على الجانب النظري، فكانوا يدافعون بشدّة عن طبيعيات أرسطو وفلكيات بطليموس، وقد بلغ ازدهار مدارسهم وتطوّرها ذروته قبل أربعة قرون.

وهكذا الحال بالنسبة للعرفان والتصوّف والفلسفة، حيث شهد هذا القرن الحادي عشر الهجري بروز شخصيات هامّة في هذا المجال، أمثال الشيخ البهائي، ومير فندرسكي، والميرداماد، والملا صدرا الشيرازي و.. وقد فرض العرفان سيطرته على الساحة عموماً؛ حتّى كان الشيخ البهائي يرتدي زيّ الدراويش للتقية([71])، وكان المجلسي الأول يحاول هدايتهم عن طريق التشبّه بأوضاعهم وطقوسهم([72]).

إنّ صدام العرفاء والمتصوّفة مع الفقهاء حقيقةٌ تأريخية، شهدها العهد الصفوي، وقد تغلّب في محصّلتها الفقهاء، بالإضافة إل نهضة الحركة الإخبارية خارج إيران وتسرّبها إلى إيران، ومن ثم تفكّكها، وهيمنة الفقهاء والأصوليين الكبار.

ليس هذا فحسب، بل شهدت الفلسفة والعرفان في القرن الرابع عشر والعصر الحاضر نهوضاً كبيراً، ومع ذلك كلّه لم يقدّموا لنا، لا الفلاسفة ولا العرفاء ولا المتصوّفة ولا.. تقدّماً في العلوم التجريبية الجديدة في إيران كما حصل في اليابان؛ إذاً فالخلل والنقص كامنٌ في جانب آخر.

إنّ هذا الموضوع وأسبابه لابدّ من التفتيش عنهما في مؤامرات اليهود والنصارى خلال الأربعة قرون الماضية، والمتمثلة في الهجمات الروسية والإنجليزية والأوروبية على العالم الإسلامي، لقد بدا ذلك في المشروع الأمريكي والصهيوني، بالإضافة لغارات الأوزبك والعثمانيين من الشرق والغرب، وعوامل داخلية، كاستبداد ملوك إيران، وبث التفرقة وتمزّق الصفّ على مستوى الفرق الإسلامية، فصارت شيخيةً وصوفية وبابية، علاوةً على التيار المتأثر بالنظريات الغربية والشعوبية والماسونية، وغير ذلك من عوامل وأسباب جديرة بالتتبع والدراسة بغية معالجتها.

وها هو العالم اليوم يعيش مأزقاً حقيقياً على الصعيد الفكري والاقتصادي والسياسي، ويحيا في ظلّ تزايد متلاحق في المخططات الدنيئة، ويظلّ السبيل الوحيد في النجاة هو الرجوع للإسلام الصحيح ومبادئ التشيّع.

*   *     *

الهوامش

(*) عالم دين، ونجل محمد باقر ملكي الميانجي، أحد وجوه المدرسة التفكيكية.

[1] ــــ كيهان أنديشه، العدد 44: 17.

[2] ــــ الشيخ أبو العباس أحمد بن علي النجاشي، رجال النجاشي: 433، تحقيق: السيد موسى الشبيري الزنجاني 1407هـ، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم.

[3] ــــ بحار الأنوار 48: 189.

[4] ــــ رجال النجاشي: 307.

[5] ــــ المحدّث القمي، تتمة المنتهى: 380 ــ 383، منشورات مكتبة الداوري، قم، الطبعة الثالثة. 1397هـ.

[6] ــــ توحيد الصدوق: 233، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم.

[7] ــــ بحار الأنوار 57: 241.

[8] ــــ المصدر نفسه: 243.

[9] ــــ المصدر نفسه: 241.

[10] ــــ الكراجكي، كنـز الفوائد 1: 33، طبعة بيروت.

[11] ــــ بحار الأنوار 57: 247، نقلاً عن تقريب المعارف وغنية النـزوع.

[12] ــــ الطبرسي، مجمع البيان 1: 244، منشورات شركة المعارف الإسلامية، 1379هـ.

[13] ــــ العلامة الحلّي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 56، منشورات مكتبة مصطفوي، قم.

[14] ــــ المصدر نفسه: 57.

[15] ــــ العلامة الحلي، أجوبة المسائل المهنائية: 89، مطبعة الخيام، قم.

[16] ــــ كشف الغطاء، الطبعة الحجرية، باب الطهارة.

[17] ــــ الميرزا القمّي، أصول الدين: 16، مراجعة: رضا استادي، منشورات مكتبة مدرسة چهلستون مسجد جامع، طهران.

[18] ــــ الشيخ مجتبى القزويني، بيان الفرقان 4: 162.

[19] ــــ الأنصاري، فرائد الأصول: 11.

[20] ــــ الملا إسماعيل الخواجوئي، الرسائل الاعتقادية، ق 2: 471، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، منشورات درا الكتاب الإسلامي، قم، 1411هـ.

[21] ــــ القزويني، بيان الفرقان 1: 130.

[22] ــــ آية الله السيد أحمد الخوانساري، العقائد الحقة: 166، مكتبة الصدوق، طهران، 1399هـ.

[23] ــــ العلامة المجلسي، حقّ اليقين: 369، المنشورات العلمية الإسلامية.

[24] ــــ السيد محمد علي قلعة كهنأي، ترجمة اعتقادات الصدوق: 112، طهران، منشورات الرضوي.

[25] ــــ الحلّي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 320.

[26] ــــ العلامة الحلي، نهج المسترشدين: 78.

[27] ــــ الحلّي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 320.

[28] ــــ الشهيد الثاني، حقائق الإيمان: 165 ـ 167، الطبعة الحجرية، سنة 1311.

[29] ــــ كشف الغطاء، الطبعة الحجرية، باب الطهارة.

[30] ــــ السيد جلال الدين الآشتياني، مقدّمة المبدأ والمعاد للملا صدرا: 48، منشورات المنظمة الفلسفية في إيران، 1354ش(1975م).

[31] ــــ جعفر السبحاني، خدا ومعاد: 103، تدوين: رضا استادي، منشورات التوحيد، قم، 1359ش(1980م)؛ وزين العابدين القرباني اللاهيجاني، بسوي جهان أبدي: 268 ـ 283، منشورات الطباطبائي، قم، 1385هـ؛ والقزويني، بيان الفرقان، ح3؛ والآغا جواد الطهراني، ميزان المطالب، ح2.

[32] ــــ روى لي بعض الأفاضل عن آية الله الكمباني قوله: إني أفضّل الزنوزي على الملا صدرا.

[33] ــــ رسالة مخطوطة للحوار العلمي الذي جرى بين آية الله جوادي آملي والسيد جعفر سيدان: 39، ويقول فيه آيه الله جوادي آملي أنّ هناك رأياً لصدر المتألهين في مسألة المعاد الجسماني، وقد أشكل الآغا علي حكيم على رأي الآخوند وقال: إنّ القول بعودة ذات البدن بإذن الله مخالف للروايات (انظر هذا الحوار في العددين الثاني والثالث من مجلّة نصوص معاصرة).

[34] ــــ الدكتور غلام حسين إبراهيمي ديناني، معاد أز ديدكاه حكيم زنوزي: 28، منشورات الحكمة، سنة 1368ش(1989م).

[35] ــــ آية الله الميرزا أحمد الآشتياني، لوامع الحقائق: 44.

[36] ــــ آية الله الميرزا محمّد تقي آملي، درر الفوائد، شرح المنظومة 2: 460.

[37] ــــ آية الله السيد رضي الشيرازي، مجلّة حوزة، عدد 51 ـ 52: 34.

[38] ــــ آية الله السيد أحمد الخوانساري، العقائد المحقّة: 166.

[39] ــــ الدكتور علي أصغر حلبي، تاريخ فلاسفة إيراني أز آغاز إسلام تا امروز: 547، نشر مكتبة زوار، سنة 1261.

[40] ــــ منوچهر صدوقي سها، تاريخ حكماء وعرفاء متأخرين صدر المتألهين: 23، منشورات المنظمة الإسلامية للحكمة والفلسفة في إيران، طهران، 1359هـ. ش (1980م).

[41] ــــ شرف الدين داوود القيصري، الرسائل القيصرية، رسالة التوحيد والنبوة والولاية، المقصد الثاني، الفصل الأول: 24.

[42] ــــ شرح كلشن راز: 304، منشورات محمودي.

[43] ــــ مثنوي مولوي، منشورات أمير كبير، الطبعة العاشرة، طهران، 1366ش (1987م).

[44] ــــ ابن سينا، الإشارات والتنبيهات: 394، مكتب نشر الكتاب، الطبعة الثانية، 1403هـ.

[45] ــــ في كون ابن فهد والشهيد الثاني من العرفاء نظر.

[46] ــــ الطباطبائي، الميزان 5: 305.

[47] ــــ الطباطبائي، شيعة دار اسلام ]الشيعة في الإسلام[: 65.

[48] ــــ كتب علوي البروجردي ـ صهر آية الله البروجردي ـ في مذكّراته حول حياة البروجردي عن لقائه بالعميد رزم آرا صانع البوصلة الخاصة بتحديد جهة القبلة، وذكر هناك مدى إعجاب رزم آرا بقدرات البروجردي في العلوم الرياضية والفلكية، طبعة مؤسسة اطلاعات، تاريخ 1381هـ.ش (2002م): 74.

[49] ــــ المصدر نفسه: 26.

[50] ــــ مجلّة كيهان انديشه، العدد 6: 69.

[51] ــــ تضمّن العدد السادس من مجلّة كيهان انديشه نبذةً مختصرة عن مكانة آية الله الشاهرودي العلمية.

[52] ــــ بحار الأنوار 1: 99 ـ 103.

[53] ــــ السيد جعفر سجادي، مصطلحات فلسفي صدر الدين الشيرازي: 156، منشورات زنان مسلمان.

[54] ــــ راجع: بحار الأنوار 3: 231.

[55] ــــ راجع: المجلسي، حقّ اليقين: 4، 11، 375، المنشورات العلمية الإسلامية.

[56] ــــ بحار الأنوار 2: 239.

[57] ــــ المصدر نفسه 1: 103.

[58] ــــ المصدر نفسه 2: 239.

[59] ــــ المجلسي، رسالة الاعتقادات: 17، تحقيق: السيد مهدي رجائي، مكتبة العلامة المجلسي بإصفهان، 1409هـ، الطبعة الأولى.

[60] ــــ المصدر نفسه: 17.

[61] ــــ المصدر نفسه: 20.

[62] ــــ بحار الأنوار 2: 239.

[63] ــــ رسالة الاعتقادات: 24.

[64] ــــ بحار الأنوار 1: 101.

[65] ــــ حقّ اليقين: 378.

[66] ــــ بحار الأنوار 61: 104.

[67] ــــ علي دواني، وحيد بهبهاني: 89، منشورات أمير كبير، 1362هـ.ش (1983م).

[68] ــــ وهو العشق المجازي أو التشبّب بالغلمان حسان الوجه، وهو حرام شرعاً، وقد ذكر مفصّلاً في الأسفار الأربعة 7: 174.

[69] ــــ رسائل الشيخ الأنصاري: 13، مكتبة مصطفوي، قم.

[70] ــــ السيد حسين المدرسي الطباطبائي، قم نامة، منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم. وفي ذيل الرسالة ردود المسائل الركنية للميرزا أبي القاسم القمي: 364.

[71] ــــ محمد علي كرمانشاهي، خيراتية 2: 397، تحقيق: السيد مهدي رجائي، منشورات أنصاريان.

[72] ــــ المصدر نفسه: 392.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً