د. علي آقا نوري(*)
على الرغم من أن رؤية الأصحاب ـ وتبعاً لهم متكلِّمي الشيعة في المرحلة اللاحقة ـ تكمن في الإيمان بعصمة الأئمة^ في الجملة، على ما اتّضح في بحث العصمة العلمية للإمام، وأبعاد اختلاف الأصحاب في هذا الشأن، فإن اعتبار الأئمة مفروضي الطاعة يمكن تفسيره في ضوء القول بعصمتهم العلمية. إن أساس العصمة العلمية للإمام يعود بنحوٍ من الأنحاء إلى العلم أيضاً، ولا سيَّما إذا اعتبرنا العلم الخاص للأئمة شاملاً لفهم حقيقة المعصية وتبعاتها، كما ورد في الروايات مثلاً: أن وجود روح القدس عند الإمام تؤدّي به إلى عدم الغفلة والتكبُّر والزهو([1]). وعلى الرغم من ذلك كان هذا الموضوع محطّ اختلاف هامّ بين أصحاب الأئمة من ناحية سعة متعلقه ومساحته الزمنية بالنسبة إلى الأئمة. إن البحث عن عصمة الأئمة والتنظير في هذا الشأن قد بدأ طرحه بقوّة في عهد الصادقَيْن’.
طبقاً لرواية أبي الحسن الأشعري: «اختلفت الروافض [يعني أصحاب الأئمة] في الرسول×، هل يجوز عليه أن يعصي أم لا؟ وهم فرقتان: فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الرسولﷺ جائزٌ عليه أن يعصي الله، وأن النبيّ قد عصى الله في أخذ الفداء يوم بدر، فأما الأئمة فلا يجوز ذلك عليهم؛ لأن الرسول إذا عصى فالوحي يأتيه من قبل الله، والأئمة لا يوحى إليهم ولا تهبط الملائكة عليهم، وهم معصومون فلا يجوز عليهم أن يسهوا ولا يغلطوا، وإنْ جاز على الرسول العصيان. والقائل بهذا القول هشام بن الحكم». وقال النوبختي والأشعري القمّي مثل ذلك. وبطبيعة الحال فقد نقل البغدادي أن عدداً من أصحاب الأئمة كفّروا هشاماً؛ بسبب قوله بعدم عصمة الأنبياء. هذا في حين أن هشاماً لم يُرِدْ بذلك صدور المعصية من النبيّ فعلاً، وإنما ذكر ذلك على مستوى الجواز فقط. ثم استطرد أبو الحسن الأشعري قائلاً: «والفرقة الثانية منهم يزعمون أنه لا يجوز على الرسول× أن يعصي الله ـ عزَّ وجلَّ ـ، ولا يجوز ذلك على الأئمة؛ لأنهم جميعاً حجج الله، وهم معصومون من الزلل»([2]). وقد نسب الشهرستاني ذات هذا القول والاستدلال إلى هشام بن سالم([3]). كما نقل القاضي عبد الجبّار المعتزلي هذا الرأي عن بعضٍ، ويمكن أن يكون مراده هشام بن الحكم([4]).
إلاّ أن الأشعري بطبيعة الحال لا يأتي على ذكر مساحة وحدود العصمة. وفي موضعٍ آخر ينقل عن سليمان بن جرير الزيدي أن عدداً من الإمامية لم يكونوا يرَوْن العصمة ثابتةً لأهل البيت، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يحبّون أن يكون الأئمة كذلك([5]).
وقال الشيخ المفيد أيضاً: إن نزراً قليلاً من الأصحاب لم يكونوا يقولون بعصمة الأئمة؛ وذلك بسبب شبهة طرأت عليهم([6]).
في البحث عن علم الإمام بالشريعة الذي لا يخطئ، والذي يعني بعبارةٍ أخرى: إثبات العصمة العلمية للأئمة، والذي يدور عليه محور اختلافهم، فقد أشَرْنا إلى هذا الاختلاف إلى حدٍّ ما([7]). وفي ما يلي؛ لكي نفهم آراء أصحاب الأئمة ورواة الأخبار، يمكن أن نذكر شواهد لكلا الطائفتين من (القائلين بالعصمة والنافين لها).
أـ الشواهد على القول بعصمة الأئمة
على الرغم من أننا قلّما نجد في الروايات ـ بالقياس إلى العلم الخاص، والنصّ، وكون الأئمة مفترضي الطاعة ـ حديثاً عن عصمة الأئمة، ولا سيَّما على النحو الذي يسود تصوّره حالياً، ولا يمكن بناء عصمتهم الفعلية وابتعادهم عن الزلل المعهود من البشر على أساس الأخبار المتواترة. ويبدو من ظاهر الكثير من التقارير الروائية المتنوّعة وكذلك السيرة العملية للكثير أنهم معصومون من الخطأ والزلل([8]).
يُضاف إلى ذلك أن هناك الكثير من التقارير التاريخية والروائية في باب الاعتقاد بأن الأئمة مفترضو الطاعة عند بعض الأصحاب وامتثالهم لأمر الأئمة. وفي هذا الشأن يمكن لنا أن نقدّم شواهد كثيرة عن اعتقاد محمد بن أبي بكر بعصمة الإمام عليّ×([9])، واعتقاد أبي خالد الكابلي بعصمة الإمام السجّاد×([10])، واعتقاد حمران بن أعين ومؤمن الطاقة بعصمة الإمام الباقر×([11])، وزرارة بن أعين([12]) وهشام بن الحكم([13]) وحنان بن سدير([14]) وسليمان بن خالد([15]) والبربري([16]) وخالد الجبلي([17]) ومنصور بن حازم([18]) وحسن بن زياد([19]) وعيسى بن سرمي([20]) وسعيد بن أعرج([21]) وغيرهم([22]) بعصمة الإمام الصادق إلى الإمام الهادي^.
وإن بعض الأصحاب، من أمثال: حمزة بن طيار، وحتّى ابن أبي يعفور، قالوا للإمام الصادق× ـ طبقاً لرواية الكشّي ـ ما مضمونه: «لو شطرت رمانة إلى نصفين، فحرَّمت شطراً وحلَّلت شطراً، قبلنا ذلك منك»([23]).
وكان جابر بن يزيد الجعفي يقول ما معناه: «حدّثني وصيّ الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، محمد بن عليّ×، حتى عدّه البعض لذلك مضطرباً»([24]).
وكان المعلّى بن خنيس بدَوْره يعتبر الأئمة أمناء الله في الأرض([25]).
وقد نقل النجاشي عن أبان بن تغلب أن شخصاً سأله قائلاً: «يا أبا سعيد، أخبرني كم شهد مع عليّ بن أبي طالب× من أصحاب النبيّ|؟ قال: فقال له أبان: كأنك تريد أن تعرف فضل عليّ× بمَنْ تبعه من أصحاب رسول الله|؟ قال: فقال الرجل: هو ذاك، فقال: والله ما عرفنا فضلهم إلاّ باتّباعهم إيّاه»([26]). وكان أبان من بين الأصحاب الذين يقولون بأن «الشيعة الذين إذا اختلف الناس عن رسول الله| أخذوا بقول عليّ×، وإذا اختلف الناس عن عليٍّ أخذوا بقول جعفر بن محمد×»([27]).
وعلى الرغم من أن هذه التعابير وظواهر هذا النوع من التقارير لا يمكنها أن تثبت العصمة العلمية للإمام، إلاّ أن لازم القول بهذه التعاليم هو أن أصحابها يعتقدون في الحدّ الأدنى بالعصمة العملية للأئمة، ويظهرون إصراراً في التمسّك بتعاليمهم.
وكان مؤمن الطاق بدوره يؤمن بعصمة الأئمة^، ولا يسوّغ صدور الذنب عنهم. وقد أجاب عن أحد المخالفين وردّ الاتهام بصدور الخطأ والكذب عن الإمام عليّ× ضمن تشبيهٍ جميل، ليثبت للإمام عصمة شبيهة لعصمة الملائكة([28]).
إن اشتمال الروايات على مضامين من قبيل: قيام بعض الأصحاب بعرض عقائدهم الكلامية على الأئمة([29])، وقبولهم بضمانة أهل البيت بدخولهم إلى الجنة([30])، وقبول بعضهم سماع الأخبار الغيبية من الأئمة بشكلٍ طبيعي([31])، يعبِّر بأجمعه عن إثباتهم لنوعٍ من العصمة للأئمة، ولا سيَّما في ما يتعلق بحدود فهم الشريعة.
يُضاف إلى ذلك أن نقل مختلف الروايات عن الأئمة، والتي تشير إلى كونهم مفترضي الطاعة، وفي بعضها عبارات تشير إلى عصمتهم، أو عصمة علمهم من الخطأ، يمكن أن تعكس اعتقاد رواة هذه الأخبار بمضامينها([32]). ومن ذلك، على سبيل المثال: ما يرويه حنان بن سدير، عن الإمام الصادق×، إذ يقول، بعد ردّه الموقف المتطرّف للغلاة، ما مضمونه: نحن خزنة علم الله، وترجمان الوحي، معصومون من الخطأ([33]). وبطبيعة الحال فإن عمدة الموارد التي ذكرناها نقلاً عن الأصحاب ترتبط بعصمة الأئمة في باب تفسير وبيان المعارف الدينية والشريعة بدلالةٍ ضمنية. ويبدو من المفيد التذكير بهذه النقطة، وهي أن بحث العصمة حتّى عصر الإمام الباقر× لم يكن ـ مثل سائر المفاهيم الكلامية الأخرى ـ قد دخل بَعْدُ ضمن دائرة المباحث الكلامية في المجتمع، وكان أئمة الشيعة يعرضون الأبحاث على الدوام طبقاً لما تقتضيه حاجة العصر. ومن هنا قلَّما نشاهد أقوال الأئمة في هذا الشأن، وتبعاً لذلك قلَّما نجد اختلافاً بين الأصحاب في هذا المجال. وقيل: إن ذروة هذا البحث ظهرت في عصر الإمام الرضا× فما بعد. وربما من هذه الزاوية يأتي تصريح الحسين بن سعيد الأهوازي ـ من أصحاب الأئمة ـ في النصف الأول من القرن الهجري الثالث بأن عصمة الأئمة موضع إجماع الإمامية، في موقفٍ له تجاه رواية حديث يقول بعدم عصمة الأئمة([34]). صحيحٌ أن كلامه هذا يعبِّر عن شيوع هذه الرؤية في تلك المرحلة، ولكنْ علينا أن ندرك أن هذا الادّعاء يعبِّر في الوقت نفسه عن موقف اتخذ تجاه شخص تحدّث عن عدم العصمة… ومع ذلك كله هناك شواهد تثبت أن بعض الأصحاب كانت لهم تساؤلاتٌ في هذا الشأن، وهو ما سنبحثه تباعاً.
ب ـ شواهد نفي العصمة
هناك الكثير من الشواهد والقرائن التاريخية والروائية المأثورة تثبت أن بعض الخاصة من الأصحاب لم يكن لديهم منذ البداية تصوّرٌ واضح عن عصمة الإمام، بل كانوا ينفون العصمة أحياناً.
قال الشهيد الثاني في كتاب حقائق الإيمان: «على ما يظهر من حال رواتهم ومعاصريهم من شيعتهم في أحاديثهم^، فإن كثيراً منهم ما كانوا يعتقدون عصمتهم؛ لخفائها عليهم، بل كانوا يعتقدون أنهم علماء أبرار، يعرف ذلك مَنْ تتبَّع سيرهم وأحاديثهم. وفي كتاب أبي عمرو الكشي& جملةٌ مطلعة على ذلك»([35]).
وقال السيد مهدي بحر العلوم(1212هـ) في كتابه الرجالي، على هامش الحديث عن الفضل بن عبد الملك البقباق: «...وقد تضمن جرأة عظيمة من البقباق على الإمام×، حيث نسب إليه ما ينافي اعتقاد عصمته. ومن هذا ونحوه قيل: إن عصمة الإمام× لم تكن ضروريةً عند السلف. وفيه نظرٌ. والصحيحُ خلاف ذلك»([36]). بَيْدَ أنه يمكن القول بهذه النقطة على نحو الإجمال، وهي أن هذا الموضوع بدوره من الموارد الاختلافية الهامة بين الأصحاب. فقد كان هناك نقاشٌ وجدل بين أصحاب الأئمة في موارد ليست بالقليلة حول شخصية ومكانة الإمام؛ فإن هؤلاء كانوا يسمحون لأنفسهم بالاعتراض على كلام الإمام أو سؤاله عن سلوكه وأدائه. ومن ذلك، على سبيل المثال: إنه رُوي عن الإمام الباقر× أنه قال: كان الإمام عليّ× يقاتل أعداءه في العراق، وكان أصحابه يقاتلون إلى جانبه، وكان بينهم خمسون شخصاً لا يعرفون حقّه في الإمامة.
وطبقاً لرواية الكشي كان خزيمة بن ثابت متردّداً في نصرة الإمام عليّ× في حرب صفين، حتّى استشهد عمار بن ياسر([37]).
وهكذا كلام ابن عباس، إذ يقول: «فما بال هؤلاء القوم (آل محمد) يفتخرون علينا، يقولون: إنهم أعلم منا»([38])، يعبِّر عن هذه الرؤية.
وعن نعيم بن دجاجة أنه كان يقول لأمير المؤمنين: «أما والله، إن المقام معك لذلٌّ، وإن فراقك لكفرٌ»([39]).
وإن سفيان ابن ليلى الهمداني كان من أصحاب الإمام الحسن×، ومع ذلك أساء لهذا الإمام المظلوم بعباراتٍ قاسية ولاذعة([40])، ومن ذلك، على سبيل المثال: إن من أهمّ الخلافات التي حدثت في بداية إمامة الأئمة^، واستتبعت اعتراض أصحاب الإمام الحسن على قراره في إبرام عهد الصلح مع معاوية، على ما سنشير إليه في محلّه. وهناك تقارير بشأن اعتراض أصحاب الإمام الحسين× بسبب تمسّكه بمضمون صلح الإمام الحسن×، وإصرارهم على وجوب إعلان الإمام للثورة([41]).
إن هذا الأمر الهامّ تجلى على نحوٍ أكبر في عصر الصادقَيْن فصاعداً، ولا سيَّما بالالتفات إلى طرح مسألة عصمة الأئمة، وكذلك ضبط آراء الرواة في المصادر والتراث المكتوب. وإذا تجاوزنا اعتراض أمثال: زيد بن عليّ على الإمام الباقر×، فإننا سنجد تقارير أوضح بشأن الأئمة اللاحقين. وكان أبو بصير البختري من أصحاب الصادقين’([42])، وعلى حدّ تعبير ابن الغضائري: «كان أبو عبد الله× يتضجّر به ويتبرّم»([43]). وطبقاً لبعض التقارير كان يتّهم الإمام الصادق× بحبّ الدنيا([44]). وذات مرّة طلب الإذن بالدخول على الإمام الصادق× فلم يؤذَنْ له، فقال بوقاحةٍ كاملة: «لو كان معنا طَبَقٌ لأذن»([45]). بالإضافة إلى ما تقدّم من أنه إذا لم يتّفق الإمام الصادق معه في رأيه كان يتهم الإمام بالغفلة وعدم اكتمال علمه أو عدم الصبر والتحمُّل([46]).
وفي رواية عن عيسى بن أبي منصور وأبي أسامة الشحّام ويعقوب الأحمر، قالوا: كنّا جلوساً عند أبي عبد الله× فدخل عليه زرارة، فقال: إن الحكم بن عيينة([47]) حدّث عن أبيك أنه قال: صلِّ المغرب دون المزدلفة، فقال له أبو عبد الله×: «ما قال أبي هذا قطّ، كذب الحكم على أبي»، قيل: لما خرج زرارة كان يقول: «ما أرى الحكم كذب على أبيه»([48]).
عن ابن مسكان قال: سمعتُ زرارة يقول: «رحم الله أبا جعفر [يعني الإمام الباقر]، وأما جعفر فإن في قلبي عليه لعنة». وقد تقدَّم أنه كان يقول: «صاحبكم هذا [يعني الإمام الصادق] ليس له بصيرةٌ بكلام الرجال»، أو كان يقول في جواب الإمام الصادق×، الذي قال له: «ما قال أبي هذا قطّ، كذب الحكم [بن عيينة] على أبي»، قال: «ما أرى الحكم كذب على أبيه»([49]).
بالالتفات إلى ظاهر هذه العبارة قد يُقال: إنه لا يعتبر الإمام ـ والعياذ بالله ـ كاذباً أو مخطئاً، ولكنْ يمكن حمل كلام زرارة على أن مراده هو أن الإمام إنما قال ذلك تقيّةً.
ورُوي أن أحد أصحاب الإمام الصادق× أشكل على نوع الثوب الذي كان يرتديه أثناء الطواف، أي إن ذلك الشخص كان يرى أن على الإمام الصادق× أن يتّخذ ثوباً أقلّ جودةً، مثلما كان يفعل الإمام عليّ بن أبي طالب×([50]).
وفي روايةٍ سأل الإمام الصادق× عبد الملك بن أعين عن سبب تسميته لولده ضريساً؛ فردّ عليه عبد الملك: ولِمَ سمّاك أبوك جعفراً؟([51]).
وعلى الرغم من عدم اتّضاح مستوى النقل بالمعنى والمضمون في هذا النوع من الروايات، وما هو مقدار الحذف والإضافات، ومن ناحيةٍ أخرى فإن الكثير من روايات أهل البيت^، إذا لم نقُلْ: كلّها، إنما نقلت إلينا بالمضمون والمعنى، ولكنْ مع ذلك كله فإن هذا النوع من المواقف يثبت في المجموع أن بعض الأصحاب لم يكن يرى للإمام تلك الهالة من القداسة، التي تردعه عن الاعتراض عليه أو توجيه الإشكال إليه.
وفي روايةٍ أخرى: إن عبد الرحمان بن سيّابة كتب رسالةً عتابية إلى الإمام الصادق× يقول فيها: «قد كنت أحذّرك إسماعيل: جانيك مَنْ يجني عليك وقد يعدي الصحاح مبارك الجرب»([52])، فكتب إليه أبو عبد الله× «قول الله أصدق: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، والله ما علمتُ، ولا أمرتُ، ولا رضيتُ»([53]).
وعلى أيّ حال فإننا عند دراسة التقارير الروائية التي تعكس نوع تعامل أئمة الشيعة^ مع مختلف طبقات الناس، ولا سيَّما أصحابهم، نواجه مجموعة من الأحاديث التي تعبّر عن اختلاف رؤية بعض الأصحاب، واعتراضهم على بعض مواقف وآراء الإمام×، بل قد نجد حتّى صدور اللعن من الأئمة بحقّ بعض كبار الأصحاب الذين لم يكونوا جميعاً يرَوْن الإمام شخصاً مفترض الطاعة، ومنصوصاً عليه بالإمامة، ومعصوماً عن الخطأ والزلل. كما أن اعتراض بعض الأصحاب على قبول الإمام الرضا× لولاية العهد نوعٌ من عدم اعتقادهم بعصمة هذا الإمام الهمام([54]).
ورُوي عن زرارة ـ على ما تقدَّم ـ أنه قال: «رحم الله أبا جعفر [يعني الإمام الباقر]، وأما جعفر فإن في قلبي عليه لعنة». وقد تقدَّم أنه كان يقول: «صاحبكم هذا [يعني الإمام الصادق] ليس له بصيرةٌ بكلام الرجال»، أو كان يقول في جواب الإمام الصادق× الذي قال له: «ما قال أبي هذا قطّ، كذب الحكم [بن عيينة] على أبي»، قال: «ما أرى الحكم كذب على أبيه»([55]).
وقد نسب إلى أبي بصير المرادي ـ بالإضافة إلى ما تقدَّم ـ أنه كان يقول: «إن صاحبكم لو ظفر بها [يعني الدنيا] لاستأثر بها»([56]).
ونقل عن يونس بن عبد الرحمن أنه قال، عند سماع قبول الإمام الرضا× بولاية العهد: «إنْ دخل في هذا الأمر طائعاً أو مكرهاً فهو طاغوتٌ»، أو «انقضت النبوّة من لدن آدم»([57]).
ويمكن لنا أن نمثِّل في هذا الشأن بمخالفة الأصحاب في مجال التفكير الكلامي في موارد، من قبيل: البحث في التجسيم، والشيئية، وصورة الله، والاستطاعة. كما يمكن التمثيل باعتراضات أمثال: زرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، ومؤمن الطاق، وهشام بن الحكم، وهشام بن سالم، وغيرهم([58]).
والبحث الآخر هو الاختلاف بين أصحاب الأئمة أنفسهم، الأمر الذي كان يؤدّي بهم أحياناً إلى الاحتكام عند الأئمة وسؤالهم في هذا الشأن. فقد رُوي عن الإمام الجواد× أنه كان يقول: لا إشكال في الصلاة خلف أصحاب هشام بن الحكم، ولكنّ علي بن حديد كان يقول: لا تصلّوا خلفهم([59])؛ أو أن الإمام الصادق× كان يقول ما مضمونه: أقول لحجر بن زائدة وعامر بن جذاعة: لا تسبّوا المفضَّل بن عمر، ولكنّهم لا يقبلون ذلك منّي([60]).
كما يمكن التمثيل باعتراض الأصحاب بشأن مواقف الأئمة^. فهذا البقباق يعترض على الإمام الصادق بسبب عدم إذنه بلقاء حريز، في حين أن يونس بن عبد الرحمن ـ طبقاً لنقل الكشي ـ نقل فقهاً كثيراً عن حريز([61])؛ أو اعتراض عبّاد بن صهيب وسفيان الثوري على الإمام الصادق× بسبب لبسه ثياباً فاخرة([62])؛ أو اعتراض أبي عون الأبرش وتعجّب الفضل بن الحارث على شقّ الإمام الحسن العسكري ثوبه حزناً على وفاة والده([63])؛ أو مخالفة الفضل بن شاذان على بعض أفعال الإمام الحسن العسكري× ووكلائه، حيث نجد الإمام ـ على ما رواه الكشّي ـ يقول: «هذا الفضل بن شاذان، ما لنا وما له… كلما كتبنا عليهم كتاباً اعترض علينا في ذلك…»، وأنه منع من دفع الناس الخمس والزكاة لوكيل الإمام([64]).
وعلى هذا الأساس، من خلال الرجوع إلى الكتب الرجالية، ندرك أن الكثير من الأصحاب رغم مخالفتهم في بعض الأحيان للأئمة، إلا أنه يمكن القول: إنهم يعتبرون في بعض الموارد رأي الأئمة في تفسير الشريعة، ولا سيَّما الفقه، متَّسماً بشيءٍ من العصمة، وبطبيعة الحال فإن إثبات العصمة لأقوال الأئمّة حتّى عصر الصادقين كان في أدنى مستوياته. ولكنْ بعد بيان هذين الإمامين بشأن خصائص الإمام والإمامة أخذ الكثير من الأصحاب اللاحقين للأئمة يفكِّرون بشكلٍ آخر. وبذلك فإن أكثرهم ـ كما تقدَّم أن ذكرنا ـ كانوا بعد الإمام الرضا× يقولون بعصمة الأئمة.
ومن الجدير بالذكر أنه طبقاً لبعض التقارير التاريخية والروائية، التي تحظى حالياً باهتمام واستناد المحافل العلمية والسياسية، كان الإمام عليّ× أيضاً لا يرى نفسه (في بعض الأمور) فوق أن يُخطئ. رغم أن نقد ودراسة أو تفسير هذه الروايات، أو العمل على الجمع بينها وبين الروايات الأخرى، وكذلك تطبيق الفرضيات الكلامية على بعض التقارير التاريخية والروائية، خارج عن قدرة كاتب هذه السطور، ولكنْ يمكن القول: لو بقينا نحن والتقارير الكلامية السائدة لن نستطيع ربط ما نحن فيه بالعقائد المشتركة لأصحاب الأئمة^.
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذٌ مساعِد في جامعة الأديان والمذاهب.
([2]) أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: 116. وانظر أيضاً: البغدادي، الفرق بين الفرق: 24؛ المقالات والفرق: 95 ـ 96.
([3]) انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 2: 65.
([4]) انظر: القاضي عبد الجبّار المعتزلي، المغني 20: 14.
([5]) انظر: الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: 821.
([6]) انظر: المفيد، أوائل المقالات: 91.
([7]) إن بعض علماء الشيعة، من أمثال: العلامة الطباطبائي، يفسِّرون مقولة العصمة في ضوء العلم الخاص للأئمة.
([9]) انظر: المصدر السابق: 46.
([11]) انظر: المصدر السابق: 177 ـ 186.
([12]) انظر: المصدر السابق: 153.
([13]) انظر: المصدر السابق: 258.
([14]) انظر: المصدر السابق: 306.
([15]) انظر: المصدر السابق: 361.
([16]) انظر: المصدر السابق: 359.
([17]) انظر: المصدر السابق: 422.
([18]) انظر: المصدر السابق: 420 ـ 421.
([19]) انظر: المصدر السابق: 424.
([21]) انظر: المصدر السابق: 427.
([22]) انظر: المصدر السابق: 478، 284، 509، 463، 553، 560، 576.
([23]) الكشي، رجال الكشّي، الرقم: 624، 653؛ التستري، قاموس الرجال 4: 13 ـ 63.
([24]) انظر: المصدر السابق: 192.
([25]) انظر: المصدر السابق، 382.
([26]) رجال النجاشي: 21؛ رجال الكشّي: 330 ـ 331.
([28]) انظر: ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب 1: 274.
([29]) انظر: رجال الكشّي: 418 ـ 429، وغيرها.
([30]) انظر: المصدر السابق: 431 ـ 432، 442، 448، 490، 524، 567، 575، 593، 608، وغيرها.
([31]) انظر: المصدر السابق: 445، 448، 446، 450، 587، 588، 595، 606، وغيرها.
([32]) انظر على سبيل المثال: مجموع كتاب الحجّة من أصول الكافي، وكذلك الروايات الموجودة في بصائر الدرجات. والأصحّ منها ما رُوي عن الإمام الباقر× في كتاب معاني الأخبار (للشيخ الصدوق): 131، وفي علل الشرائع (للصدوق أيضاً) 1: 150، حيث يقول: (الإمام منا لا يكون إلا معصوماً). وكذلك انظر: الروايات التفسيرية على هامش آية التطهير في تفسير القمّي، وتفسير فرات الكوفي، وكذلك تفسير نور الثقلين.
([33]) رجال الكشّي: 306، رقم: 155.
([34]) انظر: المجلسي، بحار الأنوار 52: 205، نقلاً عن: كتاب الزهد: 114.
([35]) الشهيد الثاني، حقائق الإيمان: 151.
([36]) بحر العلوم، الفوائد الرجالية 3: 187.
([38]) المصدر السابق: 55، 60 ـ 62.
([40]) انظر: المصدر السابق: 111.
([41]) انظر: أنساب الأشراف 3: 363 ـ 365.
([42]) انظر: رجال الطوسي: 441، 572؛ الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 93، الرقم 20؛ رجال النجاشي: 123.
([43]) رجال ابن الغضائري: 111.
([44]) انظر: الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 189، رقم 285؛ 192، رقم 294.
([45]) المصدر السابق: 179، رقم 297.
([46]) انظر: المصدر السابق: 171 ـ 172، رقم 292، 293.
([47]) عن كتب اللغة: «عيينة» بيائين مثناتين من تحت بعد العين المهملة المضمومة ثم النون. وقال العلاّمة ـ رحمه الله تعالى ـ في الإيضاح والخلاصة، وطابقه الحسن بن داوود في كتابه: «الحكم بن عتيبة» بالتاء المنتقطة فوقها نقطتين بعد العين والياء المنقطة تحتها نقطتين والباء المنتقطة تحتها نقطة، وكذلك ضبطه بعض علماء العامة أيضاً. المعرِّب.
([49]) المصدر السابق: 144، 149، 158، 209.
([50]) انظر: رجال الكشّي: 328 ـ 329.
([51]) انظر: الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 176، رقم 302. وانظر أيضاً: 201 ـ 202، رقم 353.
([52]) كان إسماعيل متّهماً بتعاونه مع أبي الخطّاب وأصحابه في الإعداد للقيام بثورةٍ مسلَّحة.
([53]) الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 396، رقم 734.
([54]) انظر: الصدوق، عيون أخبار الرضا× 2: 150 ـ 151؛ الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 492، رقم 943؛ 493، رقم 944. وانظر أيضاً: 496، رقم 953؛ الخوئي، معجم رجال الحديث 15: 236.
([55]) المصدر السابق: 144، 149، 158، 209.
([56]) المصدر السابق: 172. وللوقوف على ما يشبه هذا التعبير في وصف الإمام× انظر: المصدر السابق: 169.
([57]) رجال الكشّي: 493، 496، رقم 943، 944، 953.
([58]) انظر: المصدر السابق: 145 ـ 146، 148، 168، 169، 188، 156، 284، 540، وغيرها؛ الصدوق، التوحيد: 97 ـ 104، حيث ذكر عشرين حديثاً في رد أقوال هشام الجواليقي وهشام بن الحكم.
([59]) انظر: المصدر السابق: 279، رقم 499، 159.
([60]) انظر: المصدر السابق: 322، 407.
([61]) انظر: المصدر السابق: 336.
([62]) انظر: المصدر السابق: 391 ـ 392.