د. محمد مهدي شير محمدي(*)
ترجمة: محمد عبد الرزاق
تمهيد ــــــ
تعد عقيدة «الموعود» من المعالم المشتركة بين سائر الاعتقادات البشرية. إلا أن هذه العقيدة ـ كغيرها من التعاليم السماوية ـ لطالما كانت عرضة للتلاعب والتحريف، حتى بات عامل الخرافة فيها لدى الديانات السابقة مصدر تشويش لحقيقتها، والتشكيك في صورتها الواقعية. أما اليوم فلا تزال الصورة الأنصع لمستقبل موعود من مختصات الإسلام عموماً، والتشيع خصوصاً. ومع هذا كان تاريخ التشيع قد شهد ظهور بعض الخرافات في عقيدة المجتمع الإسلامي في ما يخص الاعتقاد بالمنتظر الموعود. وحتى في السنوات الأخيرة تعرض الاعتقاد بظهور الإمام الحجة#، وطبيعة تواصله مع المجتمع الشيعي، إلى المخاطر من خلال بعض التنظيرات وإخفاقاتها؛ فقد راح العديد من الناس يدعي الاتصال بالإمام، محقِّقاً بذلك لنفسه مكاسب عدة؛ بينما ذهب البعض الآخر إلى أبعد من ذلك، فنصّب نفسه ممثِّلاً عن الإمام# بين الناس، بل بلغ الأمر أن يدعي آخرون ـ سراً وعلانية ـ بأنهم هم المهديّ تحديداً. وكان القاسم المشترك بين جميع هؤلاء المنتحلين هو التظاهر بجملة من الأوصاف، من قبيل: «القدسية»، و«الزهد»، و«الغلو في التعبير»، و«الأحاديث الرمزية المغالطة والمخادعة». واللافت في هذا الموضوع أنه بإمكاننا لمس هذه الأوصاف ذاتها بشيء من التأمل في أحاديث وأفعال المنتحلين الأوائل، الذين أحدثوا ضجيجاً واسعاً، وحظوا بدعم القوى الاستعمارية الكبرى.
كذلك كان القاسم المشترك بين أتباع هؤلاء المنتحلين هو التلاقي في أوصاف من هذا القبيل أيضاً.
وكان البعض منهم استغلاليين، يحاولون أن يتخذوا من ذريعة اتباع الزعماء المنتحلين إطاراً خاصاً بهم يزيدهم منفعة وتكسباً، في حين كان البعض الآخرون السذَّج من عوام الناس، الذين تمّ استغلالهم واستدراجهم من قبل الآخرين. ويمكن ملاحظة هذه التفاصيل بين أتباع بعض المذاهب والفرق، أمثال: الشيخية، والبابية، والأزلية، والبهائية.
ومما يضاعف من درجة الاهتمام بتسليط الضوء على المنتحلين في الوقت الحاضر هو قراءتنا لجوانب من تاريخ ظهور الشيخية، والبابية، وغيرهما من الفرق والمنظمات شبه الاعتقادية. وكيف كان فإن عملة البابية والبهائية قد فقدت بريقها، لكن مطامع أعداء الإسلام في السعي من أجل المساس بعقيدة التشيع المهدوية ليس لها نهاية.
المهدوية، قراءة تاريخية ــــــ
لا شك أن مسألة الاعتقاد بالموعود، وتحقق السعادة الإنسانية في آخر الزمان، وظهور الرجل العادل، حاضرة في أفكار وتعاليم وأساطير جميع الأمم والمذاهب والفرق أيضاً. لكنْ تبقى العقيدة الأكثر مصداقية ـ في هذا السياق ـ هي من لدن تعاليم الإسلام، وخصوصاً مذهب التشيع. وقد حصَّن الإيمان بهذه العقيدة المجتمعات الإسلامية والشيعية من الوقوع في مطبّات الأفكار العدمية (النيهيليستية)، وبعث الأمل لديها بمستقبل الحياة الإسلامية. ولطالما كانت أهمية هذا المعتقد في دوره في تفاؤل المجتمع المسلم بالمستقبل ـ ولاسيما على صعيد التحولات السياسية ـ محلّ اهتمام ودراسة من قبل علماء التاريخ والحضارة الإسلامية، وكذلك حظي باهتمام دراسات المستشرقين أيضاً.
وفي الاتجاه ذاته كانت هناك مجموعة ـ عبر مراحل التاريخ الإسلامي ـ توظف هذه العقيدة بطرق استغلالية، فتقدِّم نفسها بوصفها المهدي المنتظر، أو الواسطة المتصلة به. وبذلك عمل هؤلاء الأفراد على خلق انحرافات على صعيد النشاطات السياسية، ومطالبة المجتمعات بحقوقها. أما إبان القرنين الأخيرين فقد اكتسب الموضوع صبغة أخرى، وصار موضوع السعي وراء تحريف هذه العقيدة أكبر من مسألة الانزلاقات الحاصلة داخل مجتمع المسلمين؛ حيث أضفت الأدوار والتدخلات الأجنبية طابعاً جديداً على خطورة الظاهرة، حتى صار من الواضح للعيان دور التنظيمات والمؤسسات الاستعمارية والصهيونية، وكذلك إفرازات الحداثة والغربنة، في بلورة الأفكار المنحرفة الطارئة على ساحة العقيدة المهدوية. وهنا نتساءل: هل كان ظهور الأفكار والخرافات الحداثوية، وأصنام الغرب الذهنية، في عقيدة الموعود الشيعية من فعل الجهات الأجنبية وحدها؟ بالطبع لم يكن الأمر هكذا أبداً. فصحيحٌ أن انتشار هذه الأفكار في البلاد الإسلامية ترك أثره على العقيدة المهدوية، إلا أنه كلما زاد التحريف والخرافة كلما زادت مطامع الأجنبي في استغلال هذه الثغرة.
قد يمكن افتراض كون ظاهرة هيمنة الحداثة على المذهب الشيخي، والاعتقاد بالركن الرابع، ومذهب التعددية «بلوراليسم» عند الشاه ولي الله الدهلوي في الهند، وكذلك الحركة السياسية المناهضة للاستعمار عند مهدي السوداني، ومفاهيم الوضعية عند بعض علماء مصر، حادثة طبيعية، أو هي فعل وانفعال طبيعة العصر ومقتضياته الفكرية الآخذة في التوسع، إلا أنه لا شك في نسبة ظهور البابية والأزلية والبهائية في إيران ـ والتي هي امتداد للشيخية ـ، وكذلك المذاهب والنحل المعاصرة لها، من قبل الأحمدية في باكستان، والسيكية في الهند، والوهابية في شبه الجزيرة العربية، لمؤامرات العنصر الأجنبي، واستجابة زعماء هذه الفرق للجهات الاستعمارية. فهذه الفرق لم تكن تحت وطأة الحداثة فحسب، بل هي مسيَّسة بأيادٍ استعمارية ومدعومة من قبلها. وقد شهد القرن الأخير أيضاً استجابات تلقائية وعفوية للحداثة بين مفكِّري الإسلام، إلى جانب تبني جماعات أخرى لتطبيق الحداثة العصرية على أرض الواقع. فظهور الحركات الداعية إلى تهميش الدين، ونبذ العلم، ومقاطعة الثقافة، على يد بعض الأفراد، أمثال: علي بن محمد الباب، والميرزا حسين علي بهاء الله، وأحمد الكسروي، جميعها تنتمي إلى هذه الجماعات آنفة الذكر. ولا شك أن معرفة أبعاد تأثر المجتمع الإسلامي بالحداثة، وكذلك ظهور الخرافات الحداثوية العصرية في مفاهيم المهدوية، من شأنها أن تكون انطلاقة للمجتمع المسلم نحو رسم مستقبله وفقاً للمسارات المؤدية إلى الموعود الحقيقي.
أما هدف البحث الحالي فهو تسليط الضوء على مجريات بلورة الحركة البهائية، والنفوذ عبر ذلك إلى الكشف عن مستوى تبعية هذه الفرقة للغرب، والوقوف على واقع المباني الفكرية العصرية، وكذلك الإسهام عبر بيان نمطية تقليد هذه الفرقة للحداثة والغرب في فتح الطريق أمام رصد مسارات التغلغل الغربي في كيان المجتمع الإسلامي، وتشخيصها أكثر من السابق. ولعل تاريخ صلاحية هذه الفرق قد انتهى من وجهة نظر الغرب، إلا أن سبر الأغوار في تفحص مراحل تأثر البهائية بالغرب من شأنه لعب دور موثِّر في فهم المخططات المستقبلية والمحتملة المشابهة لمثل هذه النماذج.
لقد رأينا في السنوات الأخيرة أن العقيدة المهدوية باتت تشهد عملية استحداث بعض النظريات الخرافية في هذا الخصوص؛ فراح البعض يسوِّق لنفسه عبر انتحال الصبغة التقديسية، ويدعي اتصاله بالإمام الحجة#، فاستقطب السذج من الناس حوله. وهذه الظاهرة المتكرِّرة هنا وهناك لا يمكن لها أن لا تستحوذ على اهتمام ومطامع الأجنبي. إن في مراجعة تاريخ ظهور البهائية، وكيفية جنوح طبقة من المجتمع الإيراني نحو هذه الفرقة، التي كانت باكورتها خرافات الشيخية، ومدعيات السيد كاظم الرشتي، من شأنها أن تنضوي على تحذير لعقلاء المجتمع في اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة تحديات ترويج مَنْ يدعي الاتصال بالإمام#، والوقاية من المخاطر.
يبقي أن للخوض في دراسة أبعاد البهائية عقباته ومشاكله الخاصة، وأهمها أن أعضاء هذه الفرقة، ولاسيما عقب الثورة الإيرانية، باتوا يعتمدون في عملهم على مبدأ السرية التامة أكثر من ذي قبل، لذا ليس هناك مصادر واضحة في دراسة الموضوع، أما المتوفِّر من كتابات فأكثره من نتاجات الكتّاب الإسلاميين الذين يرَوْن في البهائية تلك الفرقة المنحرفة.
ورغم أن عملنا المتواضع هو محاولة في الكشف عن زاوية أخرى لهذا الانحراف إلا أن ضرورة العمل البحثي تتطلب أيضاً تحليلاً للنصوص والمؤلَّفات التي تصدر عن البهائيين أنفسهم، وهي ضرورة متعسِّرة؛ نظراً لتعذُّر الحصول على تلك المصادر والكتابات.
ونظراً لكون كتابات البهائيين كثيراً ما تشهد تناقضات وغموضاً فإنهم حرصوا على كتمانها وسريتها طويلاً؛ للحيلولة دون وقوعها بيد المحققين والباحثين. وعقب الموقف الحازم للسيد البروجردي ضدهم من جهة، وانتصار الثورة الإسلامية من جهة أخرى، وجدنا أتباع البهائية أكثر حرصاً من السابق على إخفاء نتاجاتهم. ومع ذلك انصب جهد صاحب هذه السطور على تجميع مصادر بحثه بما يتجاوز المتوفِّر من المصادر العائدة لكتّابنا الإسلاميين المنتقدين لمبدأ البهائية. وعلى هذا الأساس حاولنا السعي وراء تحقيق هذه المهمة عبر الرجوع إلى الشبكة العنكبوتية، على أن ما تحتويه صفحات هذه الشبكة ليس إلا غربالاً لآراء البهائية، ومختارات من مبانيهم، ولا يمكن أن يعكس الصورة الكاملة لأفكارهم.
وبما أنهم حريصون كل الحرص على التلبس بلباس الحق والحقيقة نجدهم يقدِّمون أفضل مصادرهم لمخاطبيهم. ومع هذا كلّه فإن هذه النصوص لا تخلو من فائدة، على الرغم من عجزها عن بلورة أبحاث متكاملة عن الموضوع، ولاسيما أن أتباع هذه الفرقة يؤكِّدون دوماً على ضرورة التوفيق بين أسسهم الفكرية وبين عناصر الحضارة المعاصرة، الأمر الذي يقرِّبنا كثيراً من هدف البحث الحالي.
القسم الأول: مدخل إلى أهمية عقيدة الموعود ــــــ
1ـ مكانة الموعود عند الشعوب ــــــ
تعدّ فكرة الموعود والانتظار من أجل صلاح العالم في نهاية التاريخ البشري من أبرز معالم ثقافة الشعوب والتعاليم السماوية. وهي ما تسمى أحياناً بـ «العقيدة الألفية». ولعله يمكن القول: ليس هناك قوم لا يؤمنون بنظرة مستقبلية تجاه تاريخهم وحياتهم، حتى وصل الأمر إلى أن تجعل فلسفة التاريخ التفكير بالغاية في صدارة أبحاثها؛ معللة ذلك بقانون حتميات آخر الزمان. وبناء عليه فإن مَنْ يعتقد بالموعود له نظرة شاملة إزاء التاريخ، يفترض من خلالها اختتام الكون بالخير. وهنا يضع الفرد التاريخ نصب أعينه ليقرأ آخر سيرة لملوك البشرية بتفاؤل وسعادة.
كانت نظرة الإنسان ـ في العديد من الأساطير ـ تفاؤلية تجاه مبدأ التاريخ ومنتهاه، فهما يمثِّلان العصر الذهبي لدينا. لذا فهو يأمل في أن تكون خاتمة التاريخ ذهبية، كبدايته. وهذه الرؤية حاضرة في جميع المجتمعات والأديان بشيء من التفاوت في القوة والضعف والمنشأ، فقد يكون أحياناً هو الوعي الأسطوري، أو المعرفة المقدَّسة.
يمكن تعليل اهتمام الإنسان بهذا الوعي الذاتي بالجانب الفطري لديه، فالفطرة الإنسانية تبحث دوماً عن كمالها وكمال مجتمعها، وعليه هي تأمل في نيل كمالاتها وكمالات مجتمعها، المادية منها والمعنوية. ومن أجل ذلك تنطلق من أساطيرها أو تعاليمها المقدَّسة ـ التي وصلتها عن طريق الأنبياء ـ لتحقيق هذه الغاية، فتصنع معادلاً ذهنياً للمجتمع الكامل([1]).
كان الإيرانيون القدامى ـ في عصر آلهة الحب ـ ينتظرون ظهور وجه عملاق باسم «غرزاسبة»؛ كي ينشر النزاهة والمرؤة والصدق في العالم. وكان الهنود يحملون عقيدة مشابهة. وحتّى سكنة الجزيرة البريطانية (إنجلترا الحالية) كانو بانتظار رجل موعود اسمه «آرتور». أما الأماكن الأخرى فمنذ القدم وهم ينتظرون الموعود العالمي. وقد حملت أساطير حضارة ما بين النهرين مفاهيم في غائية الكون أيضاً.
2ـ الموعود في الديانات ــــــ
إن جميع ما ورد في الأساطير عن غاية التاريخ ونهايته كان قد تجلى أكثر في فكر الديانات السماوية. وقد يمكن التكهُّن بأن ذلك ناتج من كون الفقه الأسطوري مؤسَّساً على الوعي الديني أيضاً. لكن التعريف هو الذي شوّه صورته وعبث بها. وبعبارة أخرى: إن الوعي الأساطيري في موضوعة بداية الكون ونهايته تبلو بعد انحدار الفكر الديني إلى الأسطورة. وينص الفكر الديني على أن المجتمع؛ ونظراً لما ناله من سعادة الإيمان، كان قد قضى عهوده الذهبية، لكن مع مرور الزمن وفساد الناس ظهر الانحراف في كلامهم وسلوكهم ومعتقداتهم، إلا أن الخير سيعود مرة أخرى إلى المجتمع الإنساني، من خلال ظهور الرجل الموعود.
لقد كان أتباع الديانة الزرادشتية في جميع عصورهم التاريخية بانتظار المصلح([2])، الذي سُمِّي في كتاب الأفستا بـ«سوشيانت»، أي المرشد([3]). وإن آخر سوشيانت سيأتي في آخر العصور([4]).
كذلك يؤمن بنو إسرائيل بالمنجي الأخير، أي (ماشيح)، وهو المسيح المبشر بنجاة العالم([5]). وكلما تقدمنا مع الأديان تبدأ معالم الموعود تتكشف أكثر؛ ففي كتاب النصارى المقدَّس هناك تبشيرات أكثر وأوضح بخصوص موعود آخر الزمان([6]).
3ـ الموعود في الإسلام ــــــ
تحظى عقيدة انتظار الموعود بمكانة مرموقة في الدين الإسلامي، ولاسيما بين أتباع مذهب التشيع؛ انطلاقاً من مبدأ توقُّف أصول الدين (النبوة، والإمامة) على استمرار حجج الله في الأرض، وأن الأرض لا تخلو أبداً من الحجة الإلهية. فبعدما أرسل الباري عزّ وجلّ الأنبياء حججاً ومرشدين للبشر، واختتمهم بالرسول الأكرم| وصل الدور إلى خلفائه، وهم الأئمة الاثني عشر، أولهم أمير المؤمنين علي×، وآخرهم الحجة بن الحسن العسكري#، وهو الغائب خلف الحجب، كالشمس المستترة بالغيوم، يقوم بدوره الإرشادي في المجتمع، حتّى يأتيه الأمر الإلهي بالظهور. وللإمام مقام أسمى من النبوة، وهو بنجاح أصبح مستحقّاً لمنزلة الإمام.
حين يظهر إمام العصر والزمان# ليس العدل وحده الذي سيعّم المعمورة، بل ستبلغ العلوم والفنون أيضاً ذروتها، وتزدهر بالكامل. إن عصر الظهور لهو حقّاً عصر تبلور المجتمع الديني والمدنية التوحيدية على أساس نظرية الإسلام الكامل.
لقد نتج عن اعتقاد المسلمين ـ وخصوصاً المجتمع الشيعي ـ بالموعود مضاعفة الأمل بمستقبل المجتمع في تخطي الأزمات، وتحصين الناس من الانزلاق في فخ العدمية وضياع الذات. كما أدت هذه العقيدة ـ وهي الحلقة المكملة للمفاهيم الحسينية الاستشهادية ـ إلى اكتساب المجتمع الشيعي قدرة هائلة في السير نحو الأمام. فمن جهة نرى المسلم الشيعي يستلهم عبر عاشوراء الانتصار على الظلم، فيضحّي حتّى بنفسه من أجل الحق، ومن جهة أخرى هو يعلم أن العاقبة والمستقبل من نصيب المستضعفين. لقد انطلقت الثورات الشيعية عبر التاريخ بعزيمة راسخة، استلهمها أصحابها من «ثورة عاشوراء» و«انتظار أمل الموعود». وغالباً ما حققت مكاسب دنيوية كثيرة.
عودة الخرافة بلباس المهدويّة مؤخراً ــــــ
لقد أثار إدراك البعض لأهمية هذه القوة الكامنة، وأهمية عقيدة الموعود في التأسيس لانتماء فاعل داخل المجتمع على مدى التاريخ، وساوس شيطانية لديهم، ليلقوا على أنفسهم أو على زعمائهم اسم الإمام الموعود، وليكوِّنوا من حولهم هالة من السذّج للقيام بثورة ضد الحكومة القائمة؛ من أجل التأسيس لسلطة جديدة. من أمثلة هذه الحركات: ظهور الكيسانية([7])، والميمونية([8])، في العصور الأولى من التاريخ الإسلامي، وما أعقبها من ظهور الإدريسية([9])، والصباحية([10])، الذين أسَّسوا لحكومات مصغَّرة. وهنا لا بأس بالإشارة إلى الانحرافات التي ابتلي بها المجتمع، ولاسيما في السنوات الأخيرة.
لقد شهدت الآونة الأخيرة تزايداً في اهتمام طبقات المجتمع، ولاسيما الشباب، بموضوع المهدوية والانتظار. وهذا ما أدى بالفعل إلى ازدهار سوق الكتب والصحف. وعلى الرغم من أرجحية هذه الظاهرة المباركة، إلا أنها تنضوي أيضاً على مخاطر وتهديدات، ممّا يوجب علينا التركيز عليها، وإمعان النظر في ملابساتها. فمن المواضيع الحسّاسة المتطلبة للكثير من البحث والتدقيق الاهتمام المفرط بمسألة التشرُّف بلقاء الإمام الحجة#، حيث باتت هذه القضية مصدر تكسُّب بيد العديد من الأشخاص والكتب والجرائد حديثة العهد، التي سعت إلى استقطاب أكبر عدد ممكن من القرّاء والمشترين، عبر تسخين الأجواء، وإثارة الحوارات؛ بغية المضاعفة في أعداد النسخ المطبوعة.
عقب الاحتلال الأمريكي للعراق توافد جملة من العراقيين إلى إيران، ممَّن يرتدي ثياباً سوداء طويلة، وأوشحة خضراء اللون، فأخذوا يواظبون على صلوات الجمع في جملة من المدن الإيرانية، كطهران وقم وقزوين، ثم أطلقوا شعاراتهم في دعم شخص يدَّعي أنه نائب الإمام الحجة في غيبته، وفي عهدته التعرُّف على أصحابه وإعدادهم. وقبل مدة صار يزاول أنشطة في مدينة كرج، وبعد التعرُّف على مجموعة من النسوة الساذجات صار يوجِّه إليهنّ أوامره وتعليماته الخاصة. لقد وسع السيد (ح) من نشاطاته في بعض المدن الإيرانية، وكوَّن لنفسه أنصاراً وتلامذة، إلاّ أن تلامذته لم يحظوا بعدُ بالوصل به، ولم ينالوا سوى الاتصال ببعض الرؤوس المرتبطة به، ثم بعد تخطي مراحل عرفانية خاصة جاء الوقت لينالوا شرف ملاقاة السيد المذكور، فعقدوا معه اجتماعاً في إحدى المدن.
كان من جملة الأساليب المتَّبعة في الاستحواذ على مشاعر الناس تحديد النساء المتديِّنات، وبعد جمع المعلومات عن حياتهن يتمّ إعلامهنّ بأبراجهن وطالعهن، وتمنح كلّ واحدة نجمة ونوراً باسم أحد الأئمة المعصومين^، وتوجَّه إليها التعليمات وفقاً لهذه الآلية. ثم إن هذه التعليمات تكتسب صبغة خاصة في أيام المناسبات الدينية، فيتوجَّب على التلامذة مواصلة العبادة وغيرها ليلاً ونهاراً. وقد ورد في إحدى الصلوات، التي أطلق عليها صلاة قائم آل محمد، أنه يتوجَّب على المصلين عقب الفراغ من صلاتهم السجود على الأرض، وقول: «يا الله»، «يا كريم»، «يا رب»، ومن ثم قول: «إلهي بحقّ السيد» 351 مرة. ويذكر أنه يتوجب على أتباع السيد الاحتفاظ بسرية علاقتهم به، وعدم البوح بها حتّى إلى زوجاتهم، فقد أفهموهم بأن السيد على اتصال بالإمام المهدي#.
في مدينة قم أيضاً كان هناك شخص ادعى لبعض سنوات اتصاله بالمهدي#، ومن ثم ادّعى أنه المهدي تحديداً! كان هذا الرجل قد حفر في غرفته حفرةً، فكان يدخل الغرفة ويختبئ في الحفرة، ويوحي إلى زوجته وأخيها أن يخبروا أنصاره المنتظرين خلف الباب بأن الأرض طويت له، وذهب للزيارة، فكان أنصاره يصدِّقون القصة بمجرد دخولهم الغرفة وعدم عثورهم عليه. كما كان هذا المفتري يذهب معهم إلى مسجد جمكران مشياً على الأقدام، وعلى مشارف المسجد يخفي نفسه عن الأنظار تحت جسر مدخل جمكران، وسرعان ما تدَّعي الزوجة وأخوها أن الرجل غاب عن محبّيه غيبته الصغرى. لقد استطاع هذا الشخص أن يستقطب عدداً لا بأس به من الأنصار والمؤيدين، بمن فيهم ذوو المناصب أيضاً، لكنه حين اعتقل بصحبة أهم هؤلاء الأنصار، ووضع في سرداب، طلب منه أصحابه أن يستعين بصلاحيات إمامته، ويخلِّصهم من المأزق، وحين عجز هذا الإمام المزيَّف عن تلبية مطلبهم أدركوا خطأهم والخديعة التي وقعوا فيها.
أيضاً كان هناك شخص يدعى (م. ع) ادّعى الاتصال بالإمام المهدي# بشكل جادّ، وبعد مضي بضع سنوات وسَّع دائرة إعلانه عن ادعاءاته بنحو ملحوظ. وكان هذا الرجل في عام 1991م يعمل في مديرية تربية طهران كمعلم خصوصي، ثم حكم عليه وأدين؛ بسبب تلقّيه مبالغ غير قانونية من الطلاب، وفساده الإداري، وخلال المدة ذاتها سجن أكثر من مرة بسبب إصدار شيكات بلا أرصدة، ثم عكف لثماني سنوات على مزاولة نشاطه في موضوع الاتصال بالإمام#، وصار يعقد جلسات دينية لبعض النسوة، وبعد ازدهار هذه الجلسات راح يعمل على صياغة بعض الأدعية والأحراز الخاصة؛ لحلّ مشاكل جميع الناس، حتى ابتكر لنفسه طريقة العلاج بالأنوار.
في السنة الماضية حين تحدثت الأخبار عن رصد أجسام مضيئة في السماء جاء الرجل المذكور بمبادرة لافتة، حيث أعلن أن هذه الأجسام والصحون الطائرة هم أصحاب الإمام المهدي#. وكان يصف نفسه بأحد قادة الإمام وأصحابه، وأنه كان يذهب إلى الجزيرة الخضراء لتلقي الأوامر من الإمام أيضاً. ولم يكتفِ المدعو (م. ع) بهذه الافتراءات، وحين رأى الأجواء مساعدة بين أنصاره بدأ شيئاً فشيئاً تأسيس فرقة خاصة، من خلال تشريع بعض القوانين والتعليمات، ثم راح يمنح شرف (السيادة) والانتماء إلى الرسول| إلى أنصاره، زاعماً أن الإمام الحجة# قد أمر بذلك، وعليه تم إجراء مراسم خاصة أطلق عليها (…)، تم خلالها تقليد الحاضرين بأوشحة خضراء، تعبيراً عن (السيادة)، منحت من قبل الإمام#، بحيث بات من الواجب عليهم ارتداء الوشاح، وادّعاء لقب (السيد). ثم بعد أن بلغ أنصار (م. ع) السبعين ابتدع لهم شيئاً جديداً، فاصطحبهم إلى الاعتكاف في صحاري أطراف مدينة طهران لمدة أربعين يوماً؛ ليمارسوا عبادتهم وتهجداتهم؛ انتظاراً لظهور فرج الإمام#. وكان قد ادعى الرجل أن هذا الاعتكاف جاء بأمر من الإمام نفسه، وهو المتكفِّل بجميع نفقاته أيضاً، وأنه# سيبارك الاعتكاف من خلال حضوره في جميع الصلوات الخمس الواجبة، ليؤمّ المعتكفين! لذا طلب ـ في بادئ الأمر ـ من أحد أنصاره ـ وكان سائق أجرة ـ أن يقوم بمهمة التكبير للإمام# في تأدية صلاة الجماعة، لكن سرعان ما انكشف عجزه عن تأدية هذه المهمة بالشكل المطلوب، وراح الشك ينتاب بعض الحاضرين إزاء جميع ما قيل لهم، فبادر المدعوّ (م. ع) إلى عزل السائق، واستبداله بصبي في التاسعة من عمره؛ لكونه حسن المنظر من جهة، ولأنه إن أخطأ في شيء فسيغفر له الآخرون؛ لصغر سنه من جهة أخرى.
كانت هذه الجماعة ترى في المراجع عقبةً في الترويج لبدعهم ومعتقداتهم، لذا لجأوا إلى سلاحهم المعهود، فادَّعوا في اجتماعاتهم أن الإمام# يشجب مواقف العلماء العلمية، وأنه قال: إن المراجع قد انغمروا بحجابات الفقه.
ومن أولئك المفترين أيضاً السيد (ج. أ)، الذي كان قد أسس جمعية تزكية النفوس في جميع أنحاء البلاد، وعقد دورات تعليمية مختلفة في هذا الصدد. وقد طلب مؤخَّراً ممَّن يرغب في التقدُّم إلى دورات تزكية النفس التوقيع على استمارة مكوَّنة من (25) فقرة، ويتعين عليهم بعد ذلك الدخول في امتحانات تنظَّم أسئلتها من كتب الشخص المذكور، وبعد اجتياز الاختبار بنجاح يرشَّح الأفراد من قبل رئاسة الجمعية في قم للمشاركة في تلك الدورات. وطبقاً لبنود الاستمارة يتعين على السالك إلى الله قراءة كتب السيد قبل الشروع بمراحل تزكية النفس. وقد عمل هذا الشخص بصحبة مجموعة أخرى على الترويج للعديد من الانحرافات على مستوى البلاد خلال السنتين أو الثلاث الماضية، فكانوا يعقدون اجتماعات أسبوعية، معظمها في حديقة كبيرة تقع في منطقة (لواسان)، وهي تضمّ قصراً فاخراً أيضاً، وكانوا في هذه الاجتماعات يتداولون سبل التأثير على الطبقات الدينية، وبثّ الأفكار المنحرفة، وكانوا يرسلون رسلهم لتنفيذ الخطط في المحافظات.
ومن المفترين أيضاً (م. ك)، الذي كان ـ كأبيه ـ يعمل في الاتجاه ذاته، ويدّعي لنفسه الاتصال بالإمام#. وقد تمكَّن خلال العشر سنوات المنصرمة من ممارسة نشاطه في مناطق طهران القديمة، والعمل على نشر الخرافة والتزوير. وكان يدّعي الاتصال والنيابة عن الإمام#، دون أن يمرّ بمراحل الحوزة العلمية، مخالفاً بذلك صريح النصوص الروائية.
كانت أساليب الدعاية عند الأب والابن تختلف عما كان عليه السيد (ح. أ)، فقد اتبعا طرقاً تقليدية جدّاً من خلال توزيع المنشورات بين أنصارهما، وعلى جدران مدينة طهران.
وكان للأنصار مساعٍ عقيمةٌ ـ خلال السنوات الماضية ـ للتعريف بالسيد بين زائري مسجد جمكران، حتى وصل الأمر إلى توزيع أشرطة محاضراته عليهم مجاناً.
ومن المواضيع ذات الصلة والجديرة بالاهتمام قصة العثور على مخطوطة نسبت إلى الإمام في مساجد طهران ومسجد جمكران، وتم نشرها في صحيفة (خورشيد مكة)، ممّا أثار جدلاً واسعاً في الأوساط، وجاء في المخطوطة: «أنا المهدي المنتظر، أقمتُ الصلاة في مسجدكم، وأكلت ما أكلتم، ودعوتُ لكم، فادعوا لي بالفرج». واللافت في الرسالة المنشورة أنها لم تبدأ بالبسملة، كما أن ثمة أخطاء في نص الآية المنسوبة كتابتها إلى الإمام.
القسم الثاني: الحداثة والأصنام الذهنية ـــــــ
«الأصنام الذهنية» هي من مصطلحات (فرانسيس بيكن). فقد اشتكى هذا المنادي بتأسيس الحضارة الغربية الجديدة وفقاً للتجربة من وطأة ظلال الخرافة والمسلمات في الوصول إلى حقائق الوجود، لكن يبدو أن الثقة الزائدة بالتجربة والعلوم الحسية في عملية فهم الحقائق الوجودية تحولت إلى أصنام تلقي بظلالها على الحداثة والفكر الغربي، ولا تزال هذه الظلال تسعى إلى حجب جميع العالم. لقد كانت الحداثة أو التجددية ـ التي انطلقت من إيمان الغربيين بالاستقلالية في إبداع العالم الجديد ـ وليدة لظاهرة تهرُّب الإنسان الغربي من مسيحية القرون الوسطى (الكاثوليكية). وبناء عليه نفذ الإنسان الغربي عبر معتقدات الإنسان الدهري في اليونان القديمة ليتخذ من نفسه محوراً للوجود، ويدعي القدرة على الخلق والإبداع اليوم وفي الغد.
وحسب تعبير الحداثة: «لقد وصل الإنسان إلى مرحلة وجد فيها نفسه جديراً بالتحكم بالموجودات، ورأى بإمكانه ـ عبر العقل والتفكير ـ أن يعيد صياغة كل شيء كما ينبغي»([11]). وفقاً لهذا الاعتقاد فإن الإنسان العصري يمتلك الإرادة في صياغة الصورة الجديدة للعالم، ينظر فيها إلى نمط جديد لعلاقة الناس مع بعضهم البعض، ومع أنفسهم، ومع الكون من حولهم، إلى جانب وضع تعاريف جديدة لسعادة الإنسان واستقراره، وحتى للمبدأ والمعاد. ومع الاستمرار في استحداث الصور الجديدة، الذي يتم على أساس العلم والعقل وقدرات الإنسان العصري، تصل النوبة إلى تقديم مشروع جديد في صقل البنية السياسية ـ الاجتماعية.
كما اهتمت الحداثة بشأن أولئك المتعطشين للجوانب الروحانية، وصارت تقدم لهم ديناً جديداً، أو قراءةً منسجمة مع طبيعتها للأديان الإلهية. وهذا ما يفسِّر لنا ظهور الأديان الجديدة في الغرب، واهتمامهم البالغ بالعبودية. وإليك جانب من أسس وقواعد الإنسان الحديث:
1ـ جعل الدين لعبة الحداثة ـــــــ
ـ إلغاء الدين.
ـ تحجيم الدين في الأطر الشخصية الخاصة بالفرد، فلا يهتم إلا بالجوانب العاطفيه لديه.
ـ وفي غير هذه الحالة يقدم دين إنساني، أو يقدم تفسير إنساني للأديان، أو تجسد صور للديانات تتوافق مع ذاتيات الإنسان وأسسه.
2ـ إلغاء البعد القدسي والعقل الوحياني ـــــــ
ـ ترحل المعتقدات المقدسة إلى دائرة الأساطير واللاعقلانية.
ـ تنظم شؤون المجتمع ـ ومنها: السياسة، والاقتصاد، والثقافة ـ وفقاً لمتبنّيات العقل المحدود.
ـ تعميم الإباحية وعدم الالتزام بالأحكام الإلهية في العلاقات الاجتماعية.
3ـ الاعتداد الفائق بالمعطيات الحسية ـــــــ
ـ يتخذ من العلم التجريبي أساساً في المعرفة الوجودية، ووضع أسس المجتمع الإنساني.
ـ الاستعانة ـ في تحليل الأمور ـ بالفكر الوضعي كمكمِّل للمعرفة التجريبية.
4ـ زعم التفوق والأفضلية ـــــــ
ـ يعد الإنسان العصري نفسه أفضل من الآخرين، فينظر في سبيل ذلك إلى مبرّرات شبه عقلائية، أو عرقية وإقليمية، فيطبق أفضليته هذه من خلال استعمار الآخرين واستغلالهم.
ـ يرى الإنسان العصري ـ بما أنه الأفضل ـ أن من حقّه قيادة العالم.
ـ يصف جميع العالم على أنه وطن للجميع. ومن خلال هذه المؤامرة يلغي مسؤولية الشعوب تجاه أوطانهم الفعلية.
ويمكن أيضاً ذكر العديد من المفاهيم والأسس المتَّبعة في مقولة الحداثة الغربية، لكننا اكتفينا بما يفي بمقارنة البهائية بالحداثة.
القسم الثالث: البهائية في مراحلها الثلاث ـــــــ
1ـ ظهور مذهب « الشيخية»، وبدعة « الركن الرابع» ــــــــ
تعد الشيخية من الفرق الممهدِّة لظهور الفرقة البابية، والبهائية. فحسين علي خان النوري ـ مؤسِّس البهائية ـ كان قد أفاد من أفكار الشيخية بثلاث وسائط، بفارق أن جماعة الشيخية يعتبرون مذهبهم واحداً من الفرق الإسلامية، ومنها تتفرع بعض الفرق التي منها ما هو قريب جداً من الإسلام الشيعي والفقه الأصولي؛ أما بالنسبة لأتباع البهائية فيرَوْن أنهم أصحاب دين جديد. مع هذا فإن التعرف على النحلة الشيخية، والفرق المتفرِّعة منها، سيساعدنا في التعرف أكثر على خلفية ظهور البابية، والبهائية، والأزلية.
مؤسِّس الشيخية هو الشيخ أحمد الأحسائي. وهو رجل شيعي، ومن أتباع المدرسة الفقهية الأخبارية([12]). وقد وُلد في أجواء وعصر احتدام النزاع بين العلماء الأخباريين والعلماء الأصوليين، وعاصر تفاصيل ذلك في أيام طفولته. كانت ولادته في العقد السادس من القرن الهجري الثاني عشر، وسط أسرة شيعية، شرق شبه الجزيرة العربية. وكان مسقط رأسه في قرية «المطيرفي» في منطقة الأحساء.
تعلم الشيخ أحمد القرآن في سن الخامسة على يد أبيه الشيخ زين الدين الأحسائي، ثم تلقى دروسه في الأدب العربي ومقدّمات العلوم الدينية المتداولة آنذاك. ويروي لنا الشيخ شخصياً عن عهد صباه فيقول: عرض علي أحدهم في عالم الرؤيا تفسيراً وافياً لآيتين من القرآن، فجعلتني هذه الرؤيا أهجر الدنيا والدرس الذي كنّا في صدده.
لقد كانت هذه الرؤيا التي ذكرها الشيخ هي منعطف التحول الروحاني في حياته، وقد ظل متمسِّكاً حتى آخر عمره بالرؤيا والأحلام، التي يزعم أنها مصدر إلهامه، ووفقاً لها كان يؤسِّس نظرياته أيضاً.
وكثيراً ما كان يصرِّح بأنه يستلم الردود على مسائله من الأئمة^ في منامه، فإذا استيقظ أدرك أنها مطابقة تماماً لنصوص الآيات والأحاديث.
سافر الشيخ في شبابه إلى كربلاء، ومنها إلى النجف سنة 1186هـ([13])، فحضر في النجف دروس كبار مراجع التشيع. ويبدو أنه نال إجازة في رواية الحديث من قبل بعض الأعلام هناك. وعلاوة على الفقه والحديث كانت له أيضاً قراءات في الطب، والنجوم، والرياضيات القديمة، وعلم الحروف والأعداد، والطلسمات، والعلوم الغريبة([14]). وحين كان في البصرة على أعتاب العام 1212هـ بدأ البعض يرتاب في أحاديث الشيخ الرمزية. وبعد بضع سنوات عزم على زيارة الإمام الرضا×، وخلال هذه الرحلة أقام في مدينة يزد، وهنا حظي بإعجاب الأهالي؛ لما يحمله من علوم في شتى المجالات والعلوم الغريبة. وكان يبيت خلال هذه المدة في بيت الملا عبد الخالق اليزدي، وهو رجل يهودي يدّعي الإسلام([15]). لكنّه لم يبقَ في يزد، بل انتقل إلى طهران، وكرمانشاه. ومن ثم عزم مرة أخرى على زيارة مشهد الإمام الرضا×، وبين كرمانشاه ومشهد توقف هذه المرة في مدينة قزوين. وهنا واجه الشيخ مواقف رافضة لأفكاره من قبل عدد من العلماء، فقد وصفه علماء هذه المدينة بأنه صاحب الآراء المغالية والمتطرفة، وكان الملا محمد تقي البرغاني([16]) قد دعاه إلى النقاش، فتوصَّل الأخير، عقب جلسات المناظرة في عقيدته في خصوص المعاد الجسماني، إلى أنها مغالية، ومخالفة لأسس الإسلام. ومع إصرار الشيخ على آرائه وصل الأمر إلى تكفيره، وعدّه علماء قزوين مرتدّاً وكافراً، وحذَّروا الناس من مغبة اتباع آرائه أيضاً. ومع انتشار خبر التكفير في أرجاء المدينة لم يستحسن الشيخ أحمد المكوث فيها أكثر من ذلك، واختار الهروب.
كان خبر تكفيره يصل إلى المدن الأخرى قبل وصوله إليها؛ إذ كانت رسائل البرغاني تسبق وصوله في كل مرة، فلم تترك له محلاًّ للإقامة. هنا قرَّر الشيخ أحمد التوجه إلى مدينة كربلاء، إلا أن مراسلات البرغاني مع علماء العراق صعَّبت الأمور على الشيخ، فقرر الخروج من كربلاء والتوجُّه إلى الحج، وقبل بلوغه مكة وافاه الأجل على أسوار المدينة المنورة سنة (1241هـ)، ودفن في مقبرة البقيع.
يُذكر أن الشيخ كان يتمتع بـ «سيولة في الكلام»، ويحرص على إبداء رأيه في شتى المجالات. ولهذا السبب كان صاحب مؤلفات عديدة، فهو لا يترك سؤالاً إلا ويجيب عليه([17]). و«جوامع الكلام» هو من أبرز كتبه، حيث كان قد ألَّفه في مقابل «جواهر الكلام»، للشيخ محمد حسن النجفي. وهو مطبوع في جزئين، ويتضمن ردود الشيخ على ما يطرح من تساؤلات، بالإضافة إلى قصائد في رثاء الإمام الحسين×. ويأتي بعد هذا الكتاب «شرح الزيارة الجامعة الكبيرة»، وهو أهم مؤلفاته، وأشهرها، ويحتوي على أربعة أجزاء. ويمكن الإشارة أيضاً إلى قسم آخر من مؤلَّفاته، من قبيل: «حياة النفس في حظيرة القدس»، و«شرح العرشية»، و«شرح المشاعر»، و«العصمة والرجعة»، و«الفوائد»، و«مجموعة الرسائل»، و«مختصر الرسالة الحيدرية في فقه الصلوات اليومية».
يتبنى الشيخ نظريةً هي الأبرز في الإفصاح عن منهجيته الأم، مفادها أن العلوم والمعارف جميعها عند الرسول| وأهل بيته^، وأن السبيل الوحيد إلى نيلها هو التوسُّل بالمعصومين.
وهذا ما أكَّد عليه مراراً في طيات كتابه «شرح الزيارة الجامعة»([18]). وكان يعد المعصومين^ واسطةً للفيض الإلهي، لكنه يضيف في المضمار ذاته صفة الخالقية إليهم، حيث يرى «أن الله وبعد خلق المعصومين^ أذن لهم بمشيئته فخلقوا الموجودات الأخرى»([19]). وبناءً عليه فإن عقيدته في الإمامة هي من أخطر متبنياته بعد مسألة المعاد، وهي العقيدة التي أدت إلى تصنيفه وفرقته الشيخية في عداد المغالين، والمنشقّين عن الشيعة الإمامية، وإنْ كان هو ـ كغيره من علمائهم ـ يعتقد بخاتمية الرسول، ومبدأ الإمامة، وحضور المهدي المنتظر([20]). ويمكننا من خلال مراجعة كتاباته التوصل إلى كيفية تبلور الخرافة والبدع في كلامه، والتمهيد لظهور الفرق الأخرى. فمن نقاط افتراق الشيخ عن سائر علماء الشيعة طبيعة عقيدته بنواب الإمام المهدي#، فقد طرح في «جوامع الكلام» و«شرح الرسالة العرشية» أفكاراً مغايرة لآراء العلماء الشيعة، فهو يعتقد بأن الواسطة بين الإمام الغائب والناس هم الرجال الإلهيون، فالناس لا يمكنهم الاتصال مباشرة بالإمام، لذا لابد أن يقوم هؤلاء الرجال بدور واسطة الفيض والرابط بين الخلق والحجة. وقد أطلق عليهم اسم «القرى الظاهرة»، اقتباساً من القرآن الكريم. كما وضع لهم خصائص عديدة، منها: علمهم بعلوم الأئمة^ ومرادهم. وكان يسترسل في سرد هذه الصفات، بما يوحي للسامع أنه هو المعنيّ بها تحديداً، وبعبارة أخرى: لقد فتح الشيخ أحمد باب النيابة الخاصة للإمام# بعد غلقه سنة (329هـ)، وانطلاق الغيبة الكبرى.
ويعتقد أيضاً بأن الإمام الحجة# على هيئة الجسم الهورقليائي، ويعيش حياة روحانية برزخية، ومن الممكن أن يظهر في غير صورته الأصلية. وقد ورد في الرسالة العرشية، الموجودة في كتاب جوامع الكلام، رؤية خرافية، تنصّ على أن الإمام# يسكن عالم هورقلياء وبلاد جابلقا وجابلسا، في حين يجمع علماء الشيعة على أن الإمام# حاضر بين الناس على هذه الأرض، لا غيرها. وقد ذكر في وصف هذا العالم البرزخي وعالم هورقلياء أنه في الإقليم الثامن، وفي هذا العالم مدينتان باسم (جابلقا) و(جابلسا)، واحدة في المشرق والأخرى في المغرب، ولهذا العالم أربعة أنهر تصب في بركة واحدة، فإذا أردتَ سماع خرير المياه فيها تعين عليك وضع أصابعك في آذانك؛ منعاً لضوضاء الأصوات الأخرى، وهنا ستسمع صوتاً مميَّزاً هو صوت المياه، كما أن أهالي هاتين المدينتين يتحدثون بلغات مختلفة، فإذا التقوا ببعضهم البعض في أعالي السماوات تحدَّثوا فيما بينهم، فإذا وقفت في مكان هادئ منتصف الليل وأنصتّ ستسمع همهمةً، هي همهمة كلام أهل جابلقا وجابلسا.
خليفة الشيخ الأحسائي ـــــــ
تولى السيد كاظم الرشتي (1212 ـ 1259هـ) خلافة الشيخ أحمد الأحسائي بعد وفاته، وكان واحداً من أبرز تلامذته. وكان السيد كاظم ـ المولود أيام حكم الملك فتح علي ـ قد تلقى العلوم الابتدائية في مدينته، ثم انتقل في عنفوان شبابه إلى مدينة يزد؛ ليستزيد من درس الشيخ أحمد. وقد ذكرنا بأن الشيخ أحمد كان يقيم في منزل الرجل اليهودي. ثم انتقل السيد إلى كربلاء، فبقي فيها يدرِّس ويروِّج للشيخية حتى آخر أيامه، فقضى تسعة عشر عاماً من عمره خليفة للشيخ أحمد في التبليغ وشرح كتاباته. وله مؤلَّفات عديدة تربو على المائة وخمسين كتاباً ورسالة؛ كتبت معظمها بلغة رمزية غامضة غير مفهومة.
كما كان السيد كاظم ـ كأستاذه الأحسائي ـ يجيب عن كل سؤال، ويعدّ كل مقولة من المعارف والأسرار الإلهية المسكوت عنها. فمثلاً: ذكر في رسالة شرح الخطبة الطتنجية حول موضوع الملائكة في السماوات بأن لملائكة كل سماء رؤساء، فرئيس السماء الأولى إسماعيل، والثانية سيخائيل وسيمون وزينون وشمعون وعطائيل، والثالثة سيديائيل وزهريائيل، والرابعة صاصائيل وكليائيل وشمائيل، والخامسة طاطائيل وفشائيل، والسادسة سمهائيل ومشوائيل، والسابعة قرثائيل ورقيائيل، والثامنة ملائكتها كثيرة جداً، منها: نوفائيل وصرصرائيل و…. وعلى هذا المنوال من السياق والقافية يضيف عشرات الأسماء الأخرى.
يذهب البعض إلى أن مصدر العقائد المنحرفة في الشيخية هو السيد كاظم الرشتي نفسه، وأن الشيخ الأحسائي لم يكن يقول بها مطلقاً، ولاسيما أن أتباع الأحسائي الأقرب للتشيع الصحيح، والمعترفون بالفقاهة والمرجعية، يعدّون آراء الرشتي سبباً في إساءة فهم البعض للمذهب الشيخي؛ علماً أن السيد كاظم كان ـ كالأحسائي ـ ينسب نفسه إلى الإسلام والتشيع الاثني عشري([21]).
لقد أولى الرشتي اهتماماً بالغاً بفكرة الركن الرابع؛ فدأب على دعوة الناس إلى العثور على هذا الرجل الإلهي، فكان يدّعي أن أساس الدين في معرفة الأركان الأربعة: «الله»، و«النبي»، و«الإمام»، و«الباب»، أو الأصول الأربعة بدلاً عن أصول الدين.
وهو يعتقد بأنه ليس بإمكان الناس بلوغ معرفة الله والنبي والإمام؛ لتعذر الوصول إليهم. وعليه لابد لهم من اتباع الركن الرابع، أو الشيعي الحقيقي، ومن خلال معرفته يصلون إلى معرفة الأركان الأخرى. وبهذه الطريقة استطاع استقطاب العديد من السذّج، وتجمعهم حوله.
كما كان السيد كاظم يؤمن بامتلاك الشيخ الأحسائي للعديد من المقامات العلمية والروحية، وأنه هو التلميذ الأوحد، والوارث المباشر لمكنون علومه وأفكاره الدينية. وقد وصل بادّعائه إلى الحديث برمزية غريبة، يصاحبها شيء من الفكاهة، فكان يغالي أحياناً في لغته الرمزية كثيراً، من قبيل: ما ذكره في كتاب مجموعة الرسائل في رسالة الهيئة من أن سبب برودة الأرض ورطوبتها هو القمر، وأن المد والجزر في البحار من صنعه أيضاً، وأنه سمع بوجود أناس في مغرب الأرض صنعوا زجاجة تمتلىء ماءً حين يضعونها أمام القمر.
أو من قبيل: ما ذكره في كتاب شرح القصيدة في شرح كلمة (القبة) من أحاديث غاية في الغرابة؛ فتارة يصف قبّة ارتفاعها سبعة عشر فرسخاً من الدخان، أو قبة نحاسية يقطنها معاشر الجن؛ وتارة أخرى يتحدث عن قبة باسم مقبرة أهل العالم، وأن هناك قبباً أخرى متعددة، حتى قال: كن يقظاً وانتبه لي، فإن هذا الكلام لا يفهمه إلاّ أولو الألباب، فهناك العديد من القضايا العجيبة والغريبة أخفيها؛ لأني لا أجد أحداً لها، وفي صدري علوم كثيرة كلما ضاق بها حفرت في الأرض حفرة فبحت بها إليها.
ثم جاء بعد السيد كاظم تلامذته، فتولوا مهمة نشر الأفكار الشيخية. ولهذا تشعبت هذه الفرقة إلى فرق متعددة، تبنت مختلف العقائد، ابتداءً من التشيع الصحيح، وصولاً إلى السلوكيات الفئوية والبدع والأساليب الأخرى. ومنهم مَنْ سعى وراء تهذيب العقائد المتطرفة والمنافية لحكم العقل، ونفيها عن المذهب([22]). أما بالنسبة لعلي محمد الباب ـ وهو من تلامذة الرشتي المبرزين ـ فقد فتح صفحة جديدة في تاريخ صناعة الفرق المنحرفة بالاستناد إلى أفكار الشيخية الأولى.
2ـ نشأة البابية ــــــ
كان مؤسِّس الفرقة البابية السيد علي محمد الشيرازي معاصراً لدولة الملك فتح علي، وشرع في التبليغ لعقائده في عهد محمد شاه، حتى أعدم بأمر أمير كبير مطلع حكم ناصر الدين شاه. وهو الرجل الذي جاء بعد انحراف الشيخية، فوظَّف مذهبها للعبور من خلاله إلى مرحلة التجديد فيه، وصياغة شريعة عصرية تجمع بين تعاليم الإسلام والغربية المعاصرة.
ولد علي محمد في الأول من شهر محرم سنة (1235هـ) في شيراز، وكان والده يمتهن مهنة البزازة، فاشتهر بين أهالي شيراز بـ «سيد محمد رضا البزاز». وقد فقد علي محمد والده وهو في سنّ مبكرة، فظل تحت رعاية أمه فاطمة بيگ وخاله السيد علي. واستجابةً لوصايا هذا الأخير ذهب علي محمد في صباه إلى كتّاب «الشيخ عابد»؛ لتعلم القراءة والكتابة.
والشيخ عابد هذا هو من المذهب الشيخي، وكان قد تتلمذ على يد كل من الشيخ أحمد الأحسائي والسيد كاظم الرشتي. ثم ذهب علي محمد في شبابه إلى مدينة بوشهر؛ للتجارة، وفيها بالغ بالتظاهر بالرهبانية والعبادة، إلى جانب اتصاله بالكوادر البريطانية المستقرّة هناك. وفي سنّ التاسعة عشر رحل إلى كربلاء، فأدرك درس السيد كاظم الرشتي، وحظي باهتمامه واهتمام التلامذة الآخرين، ولاسيما الملا حسين بشرويه إي، فاطلع، إلى جانب العلوم المتداولة في مدرسة الرشتي، على التأويلات شبه العرفانية، والتفسيرات القرآنية، وتفسير الحديث، وفقاً للطريقة الشيخية. لكن سرعان ما توفي السيد كاظم الرشتي، وانبرى كلُّ واحد من تلامذته مدَّعياً خلافة أستاذه، إلا أن علي محمد كان أكثر جرأة من الجميع، فلم يكتفِ بخلافة الرشتي، بل وصف نفسه بأنه هو «الركن الرابع»، و«ذكر الإمام المعصوم بين الناس». ولهذا أسمى نفسه بباب الإمام#، مدعياً أن الإمام أوكل إليه إرشاد العباد. فما كان من الملا حسين بشرويه إي إلا أنْ آمن بدعواه في بادئ الأمر، فأطلق عليه علي محمد لقب «باب الباب».
شرع الباب في تقديم دعواه سنة (1260هـ) في سن الخامسة والعشرين، وبقي متمسِّكاً بها لمدة أربع سنوات؛ أي حتى نهايات العام (1264هـ)، حين ادعى المهدوية نفسها في شيراز، فقدَّم نفسه للملا حسين كإمامٍ للعصرٍ فآمن به الأخير مباشرة، وقد أطلق أتباع البابية على هذا العمل ـ الذي تم في دار الباب ـ عنوان «الظهور»، ثم تجمهر عدد من أتباع الشيخية ـ بأمر من الملا حسين ـ حول الباب، واعترفوا له بالإمامة (إمام العصر والزمان). وقد عرفت هذه الجماعة بين البابيين والبهائيين فيما بعد ـ وعددها 18 مع الملا حسين ـ بـ «أصحاب الحي»([23]). بعدها توجه الباب إلى مكة المكرمة، فادعى في بيت الله قيامه بالمهدوية علناً، داعياً الناس إلى امتثال أوامره. وبعد مدة وصل به الأمر إلى ادعاء النبوة، وأن الإسلام قد نُسخ، وبعث الله ديناً وكتاباً جديداً له، أطلق عليه اسم «البيان»، وهو يشتمل على كتابات وتفاسير الباب لبعض السور القرآنية باللغتين العربية والفارسية، حيث وصف نفسه في هذا «البيان» بأنه أفضل الأنبياء جميعاً، وأنه مظهر روح الله أيضاً.
وما كان يمكن للمؤمنين من الناس السكوت على مثل هذه الادعاءات الباطلة، فتزايدت الأصوات المناهضة له حتى بلغ الأمر بأنصاره إلى الاستعانة بالولاة الروس؛ ليبثوا فتنة عظمى داخل الدولة القاجارية المتداعية.
عندما كانت دعاوى الباب في حدود البابية ونيابة الإمام# أُلقي القبض عليه بأمر والي فارس سنة (1261هـ)، ورُحِّل إلى شيراز. وهناك أقيمت له مناظرة؛ ليطرح مدَّعياته على طاولة النقد والنقاش في محضر ثلّة من العلماء. وبعد أن خسر الجولة أبدى ندمه على ما فات([24]). وبعد هذه الحادثة ظل في بيت والده ستة أشهر تحت الإقامة الجبرية، ثم رُحِّل هذه المرة إلى مدينة إصفهان، وفيها حظي بإكرام الحاكم الگرجي، وهو من الروس، الذي سعى إلى فتح الطريق أمامه لنشر أفكاره. وقد أدّى به هذا الدعم المقدَّم لأن يتمادى أكثر من ذي قبل، ويزيد من ادعاءاته الباطلة، لكن الحال ما لبثت هكذا حتّى أجبر موقف المؤمنين الرافض للخرافات الولاة على إخراج الباب من إصفهان، ونفيه إلى (قلعة ماكو). وفيها تواصل دعم الروس له، فظّل يراسل أتباعه من القلعة، وكان يفرح كثيراً إذا سمع بقيامهم ببعض الفوضى والتمرد. وفي هذه الأيام بالذات كان يحضِّر لكتابه البيان والشريعة الجديدة. ثم توالت الضغوط على الدولة للحدّ من اتصال الباب بأنصاره، فنفي من (قلعة ماكو) إلى قلعة (جهريق) بالقرب من مدينة (أرومية) سنة (1264هـ)، ثم نقل بعد مدة وجيزة إلى تبريز، وأقيمت له محاكمة هناك بحضور عدد من العلماء، صرح خلالها الباب بمهدويته، وأَوَّلَ «بابية الإمام الحجة» ـ التي سبق أن نسبها إلى نفسه ـ بالنبوة وبابية علم الله، لكنه لم يتمكن من إثبات مدَّعاه، وعندما سئل عن القضايا الدينية عجز عن الإجابة، وتلكأ في التحدث بالعربية. وكانت المحصلة توبيخه بالعصي، فأعلن توبته رسمياً عما كان ينتحل، لكن هذه التوبة لم تكن نصوحاً، بل على غرار التوبة السابقة، حيث عاود الكرة مرة أخرى، وادّعى فيها النبوة. وعقب وفاة محمد شاه سنة (1264هـ) عمد أتباع الباب ـ بدعم من الولاة الروس والبريطانيين، وطمعاً في المناصب أو حتى الاستحواذ على الحكم المتداعي لناصر الدين شاه الفتي ـ إلى إثارة الفوضى والتمرد في البلاد، فقتلوا وسلبوا في بعض المناطق، لكنهم جوبهوا بموقف حازم من قبل أمير كبير. وكان من الميرزا تقي خان ـ الصدر الأعظم في دولة ناصر الدين ـ أن استحصل فتاوى من بعض العلماء([25]) أجازت له إعدام الباب مع أحد أتباعه في تبريز في 27 شعبان 1266هـ. أما زعماء الفرقة الآخرين فقد تشظَّت فلولهم، ونفيت الأسماء البارزة فيهم إلى العراق.
3ـ نشأة البهائية ـــــــ
كان الباب قد وصف نفسه في ما وصف على أنه المبشِّر بـ «الظهور» من بعده أيضاً، وقال عن الشخص الذي سيأتي من بعده «مَنْ يظهره الله»([26])، وحثَّ أنصاره على الإيمان به. وقد ترك الباب وصية وصف فيها الميرزا يحيى النوري (الصبح الأزلي) كخليفة له، فعمل بها بعض أصحابه، ورفضها البعض الآخر، فاختاروا الميرزا حسين علي النوري (بهاء الله)([27]) ـ وهو الأخ الأكبر للميرزا يحيى ـ خليفةً للباب. ولم يصفوه بالوارث له فحسب، بل اعتبروه هو النبي اللاحق الذي أظهره الله لهم. وكان الميرزا حسين علي يكبر الباب بسنتين، واستطاع بمرور الوقت أن يثبت وجوده وتفوقه على أصحاب الصبح الأزلي، وسائر المنتحلين لمنصب (مَنْ يظهره الله). لكن حب التفوق هذا كان قد قاده إلى إعمال العنف بشكل ملحوظ، بحيث تمت تصفية معظم أصحاب الحي، وخصوصاً المخالفين لمنصبه الجديد.
كان أتباع البهائية ينظرون إلى الباب بوصفه صاحب المقام الأسمى، والمبشِّر بظهور بهاء الله. ولهذا فهم يقارنون بين مقامه ومقام يحيى×، الذي بشر بظهور عيسى×. أما بالنسبة للميرزا حسين علي فقد حظي بدعم الأجانب ـ ولاسيما السفارة الروسية ـ في العهد الناصري، وبذل جهوداً كبيرة للإطاحة بسلطة القاجاريين، والانقضاض عليها. فكان أبرز ما خطَّط له محاولة اغتيال الملك الفاشلة، لكن وعلى صعيد آخر قام أنصاره بعزل أمير كبير، وقتله؛ تمهيداً لتسلُّل الأجنبي إلى مفاصل الدولة. وبعد أن نال مواطنه الميرز آقا خان النوري الصدارة العظمى، خلفاً لأمير كبير، باتت الظروف سانحة لنشاط بهاء الله وأتباعه، وبسط نفوذهم في أجهزة الدولة؛ أي إن هذه الفرقة حديثة العهد لم تحظَ ـ عقب عزل وقتل أمير كبير ـ بدعم السفارة الروسية والسفارة الإنجليزية فحسب، بل كان بعض رجالات البلاط الملكي حريصين على دعمها أيضاً. لكن مع هذا كله أدت الاغتيالات السياسية والطائفية إلى نفي بهاء الله والميرزا يحيى «الصبح الأزلي» إلى العراق، وخلف الحدود بالكامل.
لكنهم زاولوا المهنة ذاتها في العراق، مما حدا بالدولة العثمانية إلى نفيهم من العراق أيضاً، فنُفي بهاء الله إلى (أدرنة) أولاً، ومن ثم إلى (عكا) في فلسطين. كما نفي الميرزا يحيى إلى قبرص. وكان لحضور هؤلاء في مناطق الاستعمار البريطاني والصهيوني دورٌ في توطيد الأواصر بين الصهاينة والبهائية، حتى بلغ التقارب خلال العقود المتعاقبة إلى انتماء اليهود المفاجئ إلى العقيدة البهائية. ومن ثم تطورت المسألة إلى تضامن تنظيمي طائفي، فبات البهائيون يعملون ضد الإمبراطورية العثمانية؛ من أجل إسقاطها، وإقامة النظام الصهيوني مكانها.
وتبقى باكورة مشروع البهائيين في توسيع قاعدة أتباعهم على مستوى إيران قد بدأت منذ عهد مظفر الدين شاه القاجاري، ثم بلغ المشروع مراحل متقدمة في عهد أحمد شاه القاجاري، ورضا شاه البهلوي، حيث كان يتمتع البهائيون آنذاك بدعم كبير من قبل أجهزة الدولة. وكما نعلم فإن النمو السكاني للبهائية في إيران بدأ تقدمه منذ بداية خمسينيات القرن الماضي. واليوم يزعم المركز العالمي للبهائية بأن عدد أتباعه في العالم بلغ خمسة ملايين، معظمهم في إيران وفلسطين وأوروبا وأمريكا، مدعين في الصدد ذاته امتلاكهم لمناطق نفوذ وحضور فاعل في خمس قارات. ووفقاً لمزاعمهم ـ والتي لا تخلو من المبالغة ـ هناك أكثر من مليوني بهائي داخل إيران.
وكان البهائيون الذين أعدموا أو نفوا خارج إيران عقب انتصار الثورة الإسلامية من أثرى الأسر البهائية، وقد خضعوا للملاحقة القانونية بسبب ما كانوا يشغلون من مناصب حكومية، أو استيلائهم على أموال وثروات المال العام عبر اتصالهم بالحكومة البهلوية. ومن أبرز تلك الأسماء: أمير عباس هويدا، حبيب ثابت، هجبر يزداني، عبد الكريم أيادي، هوشك أنصاري، غلام رضا أزهاري. فلم تكن هيمنة هؤلاء تقتصر على المؤسسات الاقتصادية الكبرى فحسب، بل كانت لهم السيطرة أيضاً على أجهزة الأمن الخاص «السافاك»، وجزء كبير من الجيش.
كانت الخلافات قد نشبت عقب وفاة الميرزا حسين علي النوري (بهاء الله) حول التصدي لمنصب زعامة الفرقة، حتى وصلت إلى ابنه عباس أفندي (عبد البهاء)، ومن بعده إلى شوقي أفندي، ولقبه (ولي أمر الله). وبعد وفاة الأخير أحيل زمام الأمور إلى لجنة مكوَّنة من تسعة أشخاص، تتَّخذ من مؤسسة البهائية العالمية مقرّاً لها.
ويتولى (بيت العدل الأعظم) في مدينة (عكا) والمؤسسة العالمية مهام التشريع والتقنين، وتفسير نصوص وأحكام أئمة الفرقة الأوائل. وإلى جانب بيت العدل توجد دار الآثار (مركز الوثائق)، والمكتبة، ومشرق الأذكار (المعبد) أيضاً، بالإضافة إلى وجود مجالس هرمية في كل دولة تدعى «المجالس القومية»، ويقع على عاتقها توجيه تنظيمات أعضاء الفرقة. كما أن لدى البهائية مراكز كبيرة للعبادة تدعى «مشرق الأذكار»، شيدت بطرازات تجمع بين الحداثة والصبغة الشرقية، وهي منتشرة في سبع نقاط حول العالم، وتعد المراكز الاجتماعية الدينية عند أتباعهم.
البهائية والنزعة الغربية ــــــ
أـ البابية والبهائية والارتباط التنظيمي مع الغرب ــــــ
ذهب بعض المؤرِّخين ـ ومنهم كسروي وآدميت ـ إلى أن فرق البابية والبهائية ظهرت بصورة عفوية. إلا أن دراسات الباحثين المتأخرين كشفت عن وجود ارتباط حقيقي بين الصهيونية والاستعمار وظهور هذا النوع من الفرق، بحيث يمكن القول ـ بضرس قاطع ـ: إن البابية ومنذ انبثاقها كانت عبارة عن فرقة كثيرة الشبه بالدونمة التركية، والفرانكيستين في أوروبا الشرقية، التي كانت تدعم وتمول من قبل شبكات التجسس وتجار الذهب في روسيا وبريطانيا والصهاينة.
وقد ساق عبد الله شهبازي الأدلة التالية لإثبات ذلك:
أولاً: تواجد علي محمد الباب لمدة خمس سنوات في متاجر خاله في مدينة بوشهر، واتصاله بالشركات اليهودية والبرطانية المتواجدة في الميناء، وبكوادرها أيضاً. وعقب هذه السنوات الخمس بمدة وجيزة أعلن الباب مزاعمة سنة (1260هـ /1844م)، وسرعان ما اشتهر بدعم من التجمعات المتنفِّذة والمشبوهة. ثم إن تاريخ إقامة الباب في بوشهر كان مصادفاً مع السنوات الأولى لأنشطة شركة (ساسون) ـ التابعة لكبار يهود بغداد ـ في بوشهر، وفي بومباي الهندية.
ثانياً: الاتصال المباشر بين (مانكجي هاتريا) ـ رئيس شبكة معلومات حكومة الهند البريطانية في إيران (1854 ـ 1890م) وبين زعماء البابية، ومنهم: الميرزا حسين علي النوري. وأضاف يقول: «يمكن رصد دور عصابة تجارة الذهب اليهود وشركائهم ووكلائهم في نشر البابية والبهائية على صعيدين: أحدهما: التحركات المدروسة والمنظمة لبض رجالات الدولة القاجارية، ولاسيما آقاسي الصدر الأعظم، ومنوشهر خان معتمد الدولة، والكرجي والي إصفهان، فقد كان حاصل تلك التحركات الإسهام في دفع عجلة البابية إلى الأمام؛ والآخر: إقبال اليهود الواسع على البهائية، الذي أدى إلى تعزيز كيان الفرقة ـ كمّاً وكيفاً ـ، ونشرها في إيران بشكل فعلي».
كما ذكر الكاتب شهبازي نقطة هامة جاء فيها: «كان الحاج الميرزا آقاسي الإيرواني يحتفظ بصلة حميمة مع اليهود الذين دخلوا الإسلام حديثاً، ولاسيما مع أفراد أسرة قوام الشيرازي، الذين لعبوا دوراً أساسياً ـ ومنهم: حيدر علي خان الشيرازي ـ في ترفيع آقاسي إلى منصب الصدر الأعظم في الدولة الإيرانية، وقد عمل حيدر خان كاتباً عند عباس ميرزا، وهو من المناوئين لقائم مقام، وكان تاريخ بلوغ آقاسي هذا المنصب عام (1260هـ) مصادفاً لبداية دعوة علي محمد الباب»([28]).
كما ذكرنا فإن أواصر البهائيين مع الجمعيات اليهودية المتنفذة في الغرب أخذت تتوطد أكثر فأكثر منذ العام (1868م)، على خلفية انتقال الميرزا حسين علي النوري (بهاء الله) ومرافقيه إلى ميناء (عكا)، ثم تحول مقر البهائية الكائن في الأراضي الفلسطينية إلى أداة فاعلة في تنفيذ عملياتهم وعمليات حلفائهم المعقَّدة في جهاز بريطانيا الاستعماري([29]).
وقد استمرت هذه الأواصر إلى عهد زعامة عباس أفندي (عبد البهاء) للفرقة البهائية. وهنا ساهم البهائيون وبشكل فاعل في بلورة استراتيجية تأسيس دولة لليهود في فلسطين، التي كانت بوادرها تلوح في الأفق منذ العقدين (1870 و1880م)، الأمر الذي انعكس جلياً في وثائقهم ومستنداتهم أيضاً([30]). وفي هذا العهد بالذات كانت لعباس أفندي علاقة وطيدة مع أفراد أسرة روتشيلد، المخطِّطين والمموِّلين الأوائل لمشروع إسكان اليهود في فلسطين([31]).
ونكتفي بهذا المقدار من الحديث عن تبعية تنظيمات البابية والبهائية للغرب والصهاينة، تاركين للقارئ الكريم الرجوع إلى دراسة السيد شهبازي؛ للتوسع أكثر في هذا الموضوع.
ب ـ البهائية وارتباطها الفكري بالحداثة ـــــــ
لم تكن تبعية البابية والبهائية للغرب تقتصر على البعد التنظيمي فحسب، فقد جنحت المقدمات التأسيسية ـ المنبثقة عن خرافات الشيخية ـ شيئاً فشيئاً نحو المفاهيم الحسّية الوضعية من جهة، ونحو الأفكار الماسونية ـ ولاسيما مذهب (القبالة)([32]). من جهة أخرى.
ويمكن؛ بغرض الوقوف على مستوى التقارب بين هذا الدين الشرقي الجديد والغرب وحداثته، الرجوع إلى أسس هذه الفرقة الفكرية وشراكتها مع المذاهب العصرية. فقد ساعد توظيف مؤسِّسي البابية والبهائية في السفارات الروسية والبريطانيا من جهة، وظاهرة مجالستهم للعلماء اليهود، وكذلك علماء الحداثة من جهة أخرى، على تقليد الفكر البهائي للأفكار الجديدة. وقد لعب اليهود المتنكرون بلباس الإسلام دوراً كبيراً في نيل البابية والبهائية لإنجزاتهم الأولى([33]).
رغم أن المذهب الشيخي وأفكار الشيخ أحمد والسيد كاظم الخرافية لم يكن بالأمر الذي يوظَّف من قبل الاستعمار في القضاء على التشيع والفقاهة وعقيدة الانتظار، لكنه تحول إلى قاعدة هامة في التأسيس لدين جديد هذه المرة، بدأت بواكيره بتضليلات الباب. وكان من شأن عملية إعدامه وأد هذا المخطط، لكن الميرزا حسين علي النوري بادر إلى استكمال المشروع، وترسيخ قواعد هذا الدين الجديد، فكشف للعلن عن علاقته بالباب، وتمكن ـ بدعم من بريطانيا والصهاينة ـ من فرض نفسه على منافسيه في خلافة الباب. ثم خلفه عباس أفندي، وشوقي أفندي، اللذان عملا على تطبيع هذا الدين العصري مع متطلبات المرحلة والمقتضيات الراهنة.
كان تأسيس علي محمد الباب للدين الجديد يعني إعلانه لنسخ الإسلام. وهذا ما أكّده خلفاؤه في اجتماع «به دشت»، من ضرورة نسخ الإسلام؛ من أجل ترسيخ قواعد الدين الجديد.
ووفقاً لتعاليم الباب ينبغي القضاء على جميع النصوص العلمية والأدبية والأخلاقية السابقة. كما لابدّ من هدم الأماكن المقدسة، ومحو معالم الأديان الأخرى، كقبور الأنبياء، والأئمة المعصومين، والكنائس، والكنيست، والجوامع، وحتى بيت المقدس، وبيت الله الحرام([34])؛ كي يخلو الجو لمعالم الدين الجديد. وحسب أوامر الباب صار يتوجب التوجُّه إلى حج بيته في شيراز كلّ عام، بدلاً من حج بيت الله. وفي السياق ذاته أمر بتسليم الأموال التي لا صاحب أو وارث لها إلى الباب، بل عمد حتى إلى قطع الصلة مع التاريخ الإسلامي، من خلال اقتراح تقويم تاريخي جديد، تحتوي فيه السنة البابية على 19 شهراً، على أن يكون الشهر 19 يوماً فقط ([35]).
لقد عمل الميرزا حسين علي (بهاء الله) ـ بعد نجاحه في تولي زعامة البابية، وزعمه نيل منصب من يظهره الله ـ على مضاعفة الجهود في التوفيق بين ديانته الجديدة ومفاهيم الحداثة. وعلى غرار ما فعل أوغست كونت ـ مؤسِّس المذهب الوضعي ـ صار يدعو ملوك العالم إلى الإيمان بدينه، فأرسل رسائله إلى كلٍّ من: ناصر الدين شاه، ونابليون الثالث، والملكة فكتوريا، والبابا بييوس، وإلى ويلهلم إمبراطور ألمانيا، وفرانس جوزيف إمبراطور النمسا. يذكر أن الميرزا كان قد ألف مئة كتاب، وكان يعلِّل هذا الكم، وسرعة نزول الكتب السماوية عليه، بأنها واحدة من معاجزه، علماً أنه لم يطلع الغرباء على مؤلَّفاته وقتها. وعندما تسرَّبت بعض النصوص فيما بعد، ووقعت بيد الباحثين اكتشف أنها تحتوي على العديد من الأخطاء اللغوية، والتناقضات المفهومية، على الرغم من إجراء العديد من التصحيحات عليها سلفاً. وقد جاء في تصريحات الميرزا بأن للبهائية الحقّ في بناء عالم جديد لنفسها([36]). يلاحظ ثمة تقارب أيضاً بين تعاليمه وأفكار المذهب الكالوني، حيث يرى (ماكس ويبر) أن القراءة الجديدة التي قدمها (كالون) في مجال الواجبات الدينية للمتديِّن المسيحي كانت تحثّه على بذل قصارى الجهود من أجل جمع الثروة والانشغال بالعلوم والفنون الجديدة. ويقول الميرزا حسين علي: «ينبغي أن يكون جلّ همّ الإنسان هو نيل العلم والعرفان والمعاني والبيان»؛ لأن «الانشغال بالفن والمهنة والعلم هو مدعاة لسمو وجود تلك العلوم والفنون»([37]).
وقد ورد في وصايا وأوامر الميرزا التأكيد على المفاهيم التالية:
1ـ «الوطن العالمي». وقال فيه: «في الحقيقة العالم هو عبارة عن وطن واحد»([38]).
2ـ «التآخي والمساواة الماسونية». وقال فيها: «أحب شيء لديّ هو المساواة والعدل»([39]).
لقد اشترط الميرزا أصل المساواة في العلاقات الإنسانية، وأكد أيضاً على ضرورة أن يعمّ السلام ـ الذي يلهج به الانتهازيون والمتغطرسون هذه الأيام ـ جميع البشر، فقال في ذلك: «ماذا يحصل لو اجتمعت الشعوب تحت ظل ديانة واحدة، وكانوا إخوة فيما بينهم، فتتعزّز أواصر المودة والوحدة بين جميع البشر، وتمحى الضغائن والخلافات الطائفية، وتتلاشى الفوارق العرقية…؟ نعم، هذا ما سيقع فعلاً، فسينتهي عصر هذه الحروب المدمرة، ويعمّ «السلام الأكبر»«جميع الأرجاء».
3ـ «ادعاء الأفضلية»: لعل ادعاء الأفضلية وتفوُّق البهائية على غيرها هي السمة الأبرز في هذه العبارات، فالميرزا حسين علي يصف ديانة البهائية العصرية بأفضل ديانات العالم السابقة. ومن أجل إنهاء الخلافات الطائفية صار يدعو الآخرين إلى الاحتماء بظل البهائية.
لقد دفع شغف زعماء هذه الديانة الجديدة بالمذهب الوضعي والمعطيات التجريبية إلى القول بأن شريعتهم منسجمة تماماً مع المعطيات الحسّية، ثم أصدروا حكمهم القائل: «لابدّ أن يتوافق الدين مع العلم والعقل»، ليتفاخروا هذه المرة برفض أصالة المعطيات الوحيانية، وتأييد أصالة القوانين المستندة إلى منطق العلوم التجريبية والنظرية الوضعية([40]).
وكان (تلورانس) قد اتَّخذ من البهائية السمحة المتساهلة عقيدةً له. واللافت في الأمر أنه وعلى الرغم من الاغتيالات السياسية والدينية التي قام بها أتباع البابية والبهائية مطلع تأسيسها فإنهم لا يزالون يعدون أنفسهم من أنصار التسامح والسلام الأكبر أيضاً. كما تعتقد البهائية، إضافة إلى ذلك، بنسبية الأخلاق والعقائد ـ وهي من المفاهيم الماسونية أيضاً ـ، وتدعو الآخرين إلى الاعتراف بهذه العقيدة، وهي الأكثر تعصباً لمذهبها.
4ـ «الإباحية»: وتعرف الإباحية على أنها التحرر الليبرالي القاضي بإلغاء الشريعة والأحكام الإلهية. وكما هو معلوم فقد روجت هذه الإباحية للفسق والفجور داخل البهائية، وجعلت أتباع هذه الفرقة كأتباع مذهب (القبالة)، وباتت أواسطهم تعج بالفساد والفاحشة. ومن أجل تبرير مظاهر الفجور عمدوا إلى تجويز مسألة الزواج بالمحارم. ومما يؤكِّد وجود الإباحية بينهم ما قام به أحد أصحاب الحي (قرة العين) من كشف حجابها في هضبة «به دشت»، وهي تخطب في أتباع الباب والميرزا حسين علي بهاء الله([41]).
5ـ «إلغاء الثقافة والسنن الإلهية»: لقد ذهبت هذه الفرقة إلى نفي السنن الإلهية، من خلال التغيير الجذري في أيديولوجيا الإنسان وإلهياته. وكما زعم الميرزا حسين علي النوري «لابد أن تتغير علاقة الإنسان بالآخر، وعلاقته بالطبيعة، وكذلك علاقة الفرد بالمجتمع، وبين أفراد المجتمع ودوائره»؛ «كي يتخلص الضمير الإنساني من قيود الطرق والسنن السابقة، ويسهم الإنسان في بناء حضارة عالمية»([42]).
الخاتمة والمحصلة ـــــــ
البهائية هي مذهب شبه عصري. يستند في تنظيراته إلى مفاهيم الإنسان الغربي الذاتية. وقد نشأ هذا المذهب الجديد من خرافات المذهب الشيخي والبابية في عقيدة الموعود، لكنها أخذت توسِّع الهوة مع الثقافة الإسلامية يوماً بعد آخر، حتى تحولت إلى ديانة تسعى لهدم قواعد الإسلام، والقضاء على عنفوان ثقافة المجتمع الشيعي في إيران.
وبعد محاولات أمير كبير وعلماء الإسلام القضاء على البابية والبهائية لجأت عناصر هذا الدين إلى الغرب، حيث الأرضية المتوافقة مع ذواتهم. ولا شك أن معرفة مراحل تبلور البهائية وأهداف زعمائها في الانخراط تحت ظل الأصنام الذهنية الحداثة والنزعة الغربية من شأنها ـ علاوة على الإلمام بتاريخ إيران المعاصر وما شهده من مؤامرات استعمارية ـ الإسهام في إيجاد الحلول المجدية للوقاية من ظهور خرافات مشابهة على صعيد المفاهيم والتعاليم الدينية الحقة.
الهوامش:
(*) باحث متخصّص في الدراسات الأدبية والعرفانية.
([1]) يمكن مشاهدة نموذج المجتمع المثالي بزعامة الإنسان الكامل في النصوص القديمة، وفي تعاليم الأديان التوحيدية، وحتى في المدن الفاضلة الطوباوية التي كتب عنها أفلاطون في الماضي، وكامبانلا، وطوماس مور، وفرانسيس بيكن، في القرون الجديدة.
([2]) من وجهة نظر هؤلاء ليس بالضرورة أن يكون هذا المصلح العادل من أفراد نحلتهم، فيمكن أن يتحقق مرادهم في شخصية الإمام الخميني& مثلاً. جاء في كتاب الأفستا (يسنا 45، ب 7): «سينال الأحياء والأموات ومن سيأتي خلاصهم على يده، وهو الخلاص الذي سيحيي العالم من جديد».
([3]) يقول في الفقرة 129 فروردين يشت: «سيسمى سوشيانت»؛ لأنه سينفع جميع العالم المادي…» أيضاً روى جاماسب في الجاما سبنامة نقلاً عن النبي زرادشت قوله: «سيبعث الله خاتمة المطاف رجلاً ليقيم القسط والعدل على وجه البسيط».
([4]) إذا جاء العادل قضى على أشكال الظلم والجور على الناس، ستطهر الأرض بفضل وجوده، وتحيا، وتحرم الموجودات الشيطانية من الثروات الإلهية. كما ورد في كتاب «زند»، وهو من نصوص الزرادشيين القديمة، التبشير بظهور مصلح من العرب: «سيخرج رجل من الأرض العربية، من نسل رجل يدعى هاشم، وهو رجل عظيم برأسه وجسده وساقيه، سائراً على دين جده، فيجمع جيشاً كبيراً، ويدخل إيران، فيعمرها، ويملؤها قسطاً وعدلاً، ويتعايش في عدله حتى الشاة مع الذئب».
([5]) ومنهم من يعتقد أن ماشيع هو نفسه داوود. وقد ورد في يوشع (الآيات 3 و5) ما مفاده: «إذا عاد بنو إسرائيل إلى «يهود» سيطلبون من إلههم أن يرسل لهم داوود ملكاً عليهم. ويذهب البعض إلى أن هذا المنجي سيكون من ذرية داوود، لذا سنحمدك يا الله بين سائر الأمم، وسنلهج باسمك؛ لأنك ستمنح ملكك نجاة عظيمة وتنـزل على مسيحك الرحمة، أي داوود وذريته، حتى أبد الآبدين».
([6]) نقرأ في الإنجيل مثلاً: «حينها انظروا إلى بني آدم وما لديه من قوة وعظمة فوق الغيوم، هناك سيستدعي ملائكته تأتيه من كل حدب وصوب، من أقاصي الأرض إلى أقاصي السماء». كذلك ثمة عقيدة تنص على «الظهور الثاني» للمسيح×، وهو انتظار مصاحب لآخر الزمان، فمن وجهة نظر النصارى كان عيسى× قربانا؛ً ليمحو ذنوب البشر، لكنه سيظهر مرة أخرى؛ ليهديهم أيضاً.
([7]) الكيسان هو لقب المختار الثقفي، وكان قد انتفض مع رفاقه؛ للثأر لدماء الحسين× وشهداء كربلاء، وكانوا يعتقدون بأن محمد بن الحنيفة هو إمام آخر الزمان».
([8]) الميمونية أو الديصانية هم أتباع عبد الله بن ميمون بن ديصان. عاشوا في القرن الثاني من الهجرة، وكان الرجل من الإسماعيلية، ويعتقد بإمامة إسماعيل ابن الإمام الصادق× وابنه.
([9]) أقام الإدريسيون دولتهم في شمال أفريقيا. وللاطلاع على تاريخهم راجع: كتاب تاريخ العبر، لابن خلدون.
([10]) وهي واحدة من الجناحات السياسية في الفرقة الإسماعلية النـزارية، وكان زعيمها في إيران حسن بن صباح، وقد شن حملات مسلحة ضد السلاجقة أيضاً. ولا ينبغي الخلط بين هذه الصباحية والصباحية في القرن الثاني؛ فالصباحية الأوائل هم مجموعة من الشيعة الزيدية الذين يقولون بأفضلية الإمام علي× علي أبي بكر، لكنهم ينفون وجود نص في تقديم علي× على غيره من الخلفاء. أما بالنسبة للإمام حسن بن صباح ـ القرن الخامس ـ فهو من أهل اليمن، وقد دخل إيران عن طريق الكوفة، فأقام في (قم) و(الري). وفي الري اعتنق المذهب الإسماعيلي. وبعد مدة ذهب إلى مصر إبان النـزاع الدائر بين أبناء المستنصر خليفة القاهرة الإسماعيلي ـ نزار والمستعلي ـ على خلافة والدهما. فما كان من الحسن إلا الاعتراف بخلافة نزار، وصار يدعو الناس في إيران إلى مبايعته حين اتّخذ من «الموت» ـ شمال قزوين ـ مقرّاً له؛ ثم أخضع لحكمه قلاعاً عديدة في طالقان، وإصفهان، وقهستان، ودامغان، و…، وعندما توفي «كيا بزرﮒ» (الحاكم الأكبر) نصب محتشم الموت زعيماً لأتباعه، وكانت وفاته في ربيع الآخر سنة 518هـ.
([11]) رضا داوري أردگاني، درباره غرب: 9، طهران، هرمس، الطبعة الأولى، 1379 هـ.ش.
([12]) يعتقد الأخباريون، في قبال الأصوليين، بأن العقل في طبيعته لا يستطيع إدراك الكثير من المفاهيم. لذا لابد للإنسان في حياته من الاكتفاء بالأخبار والنصوص (الآيات والروايات)، والاقتصار على ظاهرها أيضاً. وكان الشيخ مهدي الإسترأبادي ـ كبير الأخباريين ـ والشيخ جعفر كاشف الغطاء ـ كبير الأصوليين ـ من أساطين المدرستين على عهد الشيخ أحمد الأحسائي. وعقب وفاة الإسترأبادي بدأ نجم المدرسة الأخبارية بالأفول، وكان العلماء الأصوليون آنذاك قد شرعوا بتأليف كتبهم القيمة ـ ولاسيما كشف الغطاء وجواهر الكلام ـ، وعززوا بذلك قواعد المدرسة الأصولية في المجال العلمي والنظري.
([13]) تزامن رحلته إلى كربلاء والنجف مع هجمات عبد العزيز الحاكم الوهابي السعودي على محافظة الشيعة (الأحساء) في السعودية وما كانت تشهده مناطق الشيعة من اضطرابات هناك.
([14]) يذكر أتباعه بأن الشيخ أحمد كان قد تتلمذ على يد كلٍّ من: الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني، السيد علي الطباطبائي صاحب الرياض، الميرزا مهدي الشهرستاني، السيد مهدي بحر العلوم، والشيخ جعفر كاشف الغطاء. كما أنه نال شهادات منهم على نبوغه ومنـزلته العلمية.
([15]) أقام هذا الرجل اليهودي ـ فيما بعد ـ في مدينة مشهد، فعقد فيها مجالس الوعظ والخطابة للمسلمين. ولعل ظهور الحركة البابية عند اليهود ـ حديثي الإسلام ـ كان بفعل إرشاداته ووصاياه للبابية. وسيأتي الكلام عنه تباعاً.
([16]) كان هذا العالم الكبير مجتهداً ومرجعاً لأهالي قزوين، ثم استشهد لاحقاً إثر مؤامرات ابنة أخيه طاهرة قرن العين. وطاهرة هذه كانت من أتباع علي محمد الباب (أصحاب الحي) الأوائل. وقد لقب الملا محمد تقي البرغاني بعد استشهاده بالشهيد الثالث. وله اليوم مزار في مسجد الشهيد الثالث في الجانب الشمالي لمقام السيد حسين في قزوين، تؤمه وفود الخيرين.
([17]) من نماذج هذا النوع من الردود ما ورد في الرسالة القطيفية في كتاب جوامع الكلم، وقد ورد فيها ـ على سبيل المثال ـ تصويرات عن مدينة النساء، كانت أشبه بأخيلة الشعراء منها بأفكار زعيم ديني.
([18]) ومن هذا المنطق راح يكفر كبار العلماء العقليين. كما وصف محيي الدين بن عربي بأنه (مميت الدين)، وتحامل كثيراً على صدر المتأهلين؛ لاتّباعه ابن عربي.
([19]) وفقاً لاعتقاداته فإن المعصومين^ هم موضع مشيئة الله وإرادته، وإن إرادتهم هي إرادة الله ـ عز وجل ـ، وهم العلل الفاعلة في مخلوقات الكون. ثم إن مواد الكائنات هي من شعاع أنوارهم الوجودية. لذا فهم العلل المادية للخلق. وهم العلل الصورية؛ لأن علل الأشياء مستوحاة من صورهم ومقاماتهم وحركاتهم وأفعالهم. على أن صور المؤمنين تأتي على شاكلتهم، بينما تأتي صور الكافرين على خلافها تماماً. كما أن المعصومين^ هم العلل الغائية لهذا الكون. فقال في هذا الصدد: «لولا المعصومون^ لما خلق شيء في الكون، فخلق الموجودات جاء من أجل المعصومين».
([20]) لقد تطرق إلى هذه النقطة في جميع كتاباته، من قبيل: شرح الزيارة الجامعة، وكتاب جوامع الكلام. فذكر في جوامع الكلام بأن محمداً بن عبد الله| هو خاتم الأنبياء، ولا نبي بعده؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَكِن رَسُول اللهِ وخَاتَم النَبِيِّين}. وقال الرسول الأكرم: «لا نبي بعدي»؛ وعليه فإن قوله| حق علينا اتباعه، فعقيدتنا أنه خاتم الأنبياء، ولا رسول بعده. كما قال في رسالة (حياة النفس) حول موضوع تنصيب الإمام بعد أمير المؤمنين×: «والعلة الموجبة لنصب ابنه الحسن…، ثم الحسن بن علي، ثم الخلف الصالح الحجة القائم محمد بن الحسن صلوات الله عليهم أجمعين». اللافت في هذا أن أتباعه فيما بعد، ومنهم علي محمد الباب، كانوا قد استغلوا رأيه هذا للتنظير للركن الرابع وبابية إمام العصر، في حين رفضوا الاعتراف برأيه الآخر حول خاتمية النبوة، حين ادعى بعضهم النبوة.
([21]) وقد ذكر عقائده في وصيته المذكورة في بداية كتاب مجموع الرسائل، وجاء فيها: وصيتي أن أشهد… بأن محمداً بن عبد الله هو عبد الله ورسوله، وأن جميع الشرائع نسخت سوى الإسلام الباقي حتى يوم القيامة…، وأشهد بوجود الأئمة الاثني عشر ممن نص الرسول| على إمامتهم، وهم أبو الحسن علي بن أبي طالب×، ثم…، ثم أبو القاسم الحجة ابن الحسن#، الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ولن يموت حتى يقضي على آخر وثنية في العالم. ربي هؤلاء هم أئمتي… ما قاله الرسول| حق لا ريب فيه، وإن شريعته باقية حتى آخر الدهر.
([22]) لا بأس بإلقاء نظرة عابرة على الفرق المنبعثة عن الشيخية. فمن تلامذة السيد كاظم الحاج محمد كريم خان القاجاري (1225 ـ 1288هـ)، وقد ادعى في مدينة كرمان خلافة أستاذه، فأسس فرقة «الشيخية الكريمخانية»، أو الشيخية الكرمانية. ولا يزال أتباعها متواجدين في كرمان. وقد وصلت زعامة الفرقة في العقود الأخيرة إلى عبد الرضا خان، الذي اغتيل في كرمان سنة (1979م). وأيضاً من المدعين لزعامة الشيخية محمد باقر خندق آبادي، وكان وكيلاً للحاج محمد كريم خان في مدينة همدان، وبعد أن استقطب مجموعة من الأنصار حوله راح يدعي لنفسه زعامة الشيخية، فأسس الشيخية الباقرية في همدان… وفي آذربيجان كان هناك علماء يبلغون لأفكار الشيخية أيضاً، وكان معظمهم من الشيعة الأصوليين، واهتموا حينها بتهذيب المدرسة الشيخية من الخرافات والانحرافات. ومن أبرز علماء الشيخية في آذربيجان يمكن الإشارة إلى ثلاث طوائف، هي: طائفة حجة الإسلام، وكبيرهم هو الميرزا محمد المامقاني، المعروف بحجة الإسلام، وكان قد تتلمذ على يد الشيخ أحمد الأحسائي لمدة من الزمن، ومثله أيضاً في مدينة تبريز… كان شديد الحزم في محاربة انحرافات أتباع الشيخ أحمد، وهو الذي أصدر حكم التكفير والإعدام بحق علي محمد الباب في تبريز؛ الطائفة الثانية هي أسرة ثقة الإسلام، وكبيرها الميرزا شفيع التبريزي، المعروف بثقة الإسلام، وهو أيضاً من تلامذة الشيخ أحمد الأحسائي، وكان ابنه الميرزا موسى ثقة الإسلام من علماء الشيخية في تبريز. ومن أفراد هذه الأسرة الميرزا علي المعروف بـ «ثقة الإسلام الثاني»، أو «ثقة الإسلام الشهيد»، وقد أعدمته قوات الاحتلال الروسية بتهمة التآمر عليها سنة (1330هـ) في تبريز. أما الطائفة الثالثة فهم أسرة الإحقاقي، وكبيرهم الميرزا محمد باقر الأسكويي (1230 ـ 1301هـ)، وكان ابنه الميرزا موسى الإحقاقي (1279 ـ 1364هـ) قد ألف كتاباً بعنوان «إحقاق الحق»، فنَّد فيه انحرافات تلامذة الشيخ أحمد الأحسائي، وبعد هذا الحين صار يطلق على أتباعه لقب الأسرة الإحقاقية. وقد انتقد في كتابه بعض آراء شيخية كرمان ومحمد كريم خان، وأثبت بطلانها، ومقر هذه الطائفة اليوم في الكويت بزعامة الميرزا حسن الإحقاقي، وهو المرجع الفقهي لشيخية أذربيجان والأسكو أيضاً.
([23]) هذا الهامش مكرر خطأ للهامش (20).
([24]) وأعلن في ختام المناظرة، وأمام الملأ العام بقوله: لعنة الله على من يدعي أني وكيل الإمام الغائب، ولعنة الله على من يظنني باب الإمام.
([25]) ذهب بعض العلماء إلى القول بالاختلال العقلي؛ نظراً للادعاءات المتضادة والجنونية التي أطلقها علي محمد، فأعرضوا عن إصدار الحكم بإعدامه، إلا أن البعض الآخر رأى في الرجل الكذاب الطامع في الجاه والمنصب والمتسبِّب في خلق الفتن، فأصدروا حكماً بقتله.
([26]) أي الشخص الذي سيظهره الله.
([27]) كان الباب قد أطلق ألقاب (الصبح الأزلي) و(بهاء الله) على أخويه. ومنذ ذلك الحين عرف البابيون من أتباع الصبح الأزلي بالأزلية، وعرف أتباع بهاء الله بالبهائية.
([28]) يرى علي قلي خان اعتضاد السلطنة ـ الأمير الواعي وصاحب الحنكة ـ بأن الحاج ميرزا آقاسي هو من أوقد شرارة الفتنة البابية، فكتب يقول: «أما الحاج الميرزا أقاسي فكان صوفياً، وعلى غير وئام مع علماء الدين والفقهاء ـ وخصوصاً علماء إصفهان المتنفذين ـ، فلم يرَ بأساً في أن تثير البابية ذعراً في العلماء».
([29]) يقول فريدون آدميت في هذا الصدد: «تحول الحضور البهائي كأداة يهودية أو واحد من أسباب تغلغل السيادة البريطانية في إيران. واللافت في الأمر أن هناك من اليهود من التحق بركب هذه الفرقة، فعادت مقدرات السيادة البريطانية إلى الأمريكيين أيضاً».
([30]) من أمثلة ذلك موقف عباس أفندي سنة (1907م)، المتزامن مع الثورة الدستورية (المشروطة) في إيران، فقد قال لحبيب مؤيد ـ المنتمي لواحدة من العوائل اليهودية البهائية: «هنا فلسطين، هنا الأراضي المقدسة، سيعود اليهود عن قريب إليها، وينالون فيها حكم داوود وجاه سليمان».
([31]) يتضح من أسفار عباس أفندي إلى أوروبا وأمريكا (1911 ـ 1913)، وما حظي به من حفاوة إعلامية كبيرة من قبل الأوساط الإعلامية والسياسية الغربية، وجود علاقة وطيدة بين زعماء الفرقة البهائية والمؤسسات الكبرى في أوروبا وأمريكا.
([32]) للاطلاع على جوانب من مذهب قبالة والماسونية انظر: مقالنا «ظهور فرامانسونري در حلقة هاي دراويش»، المنشور في العدد 39 من مجلة (كتاب نقد).
([33]) هناك شواهد عديدة على رغبة اليهود ممَّن أسلموا حديثاً في هذه الفرقة، فقد دخلت البابية إلى (سيامكل) على يد رجل يهودي في رشت أسلم حديثاً، اسمه الميرزا إبراهيم الجديد. كما نعلم أيضاً بأن طلائع البابيين في خراسان هم من يهود مشهد الذين أسلموا حديثاً. وقد ذكرنا بأن أشهرهم هو الملا عبد الخالق اليزدي، المقيم سابقاً في مدينة يزد، فهو كان من علماء اليهودية، ثم انضمّ إلى جماعة الشيخ أحمد الأحسائي فيما بعد، وكان الشيخ الأحسائي قد نزل في بيته لمدة سبع سنوات. ثم انتقل الملا عبد الخالق اليزدي إلى مدينة مشهد، وراح يؤم الناس، ويخطب فيهم في صحن الإمام الرضا×، وحسب مهدي بامداد فقد «تحول إلى واحد من كبار علماء مشهد» أيضاً. يقول (غوبينو): «كان الملا عبد الخالق اليزدي من تلامذة الشيخ أحمد الأحسائي… ولذا حظي بمنـزلة علمية رفيعة، وشهرة كبيرة، واحترام وتقدير من قبل الجميع».
([34]) كانت كل واحدة من الأفكار التي ذكرناها للباب تستهدف في واقعها وشائج المجتمع مع التشيع الفقهي، فهذا الدين الجديد لا يهدف إلى نسخ أسس الإسلام فحسب، فالحكم بهدم القبور والأماكن المقدسة هو إلغاء لجانب من شعائر الإسلام، فتخريب معالم الإسلام المقدسة هي من مطامح الصهيونية القديمة، التي كاد الباب أن يحقّقها. والغريب أن هدف هذه الأوامر قريب جداً من هدف أوامر مذهب الوهابية الجديد في الجزيرة العربية، الذي حكم بهدم مقبرة البقيع.
([35]) جاء العدد (19) من مجموع أصحاب الحي ـ أتباع الباب الأوائل، وعددهم 18 ـ بإضافة الباب نفسه، وهو كالعدد 18 مقدَّس أيضاً عندهم. وبتغيير السنة والأشهر سيتم قطع الصلة بواحدة من عناصر ارتباط المجتمع البابي مع الإسلام؛ لأن ذلك سينسيهم المناسبات الدينية الشيعية والأشهر المباركة… ويمكن تصنيف هذا التغيير في عداد مطامح أعداء الإسلام أيضاً. وقد تحققت هذه الأمنية في عهد رئيس الوزراء (هويدا)، حين ألغى التقويم الشمسي، واستبدل بالتقويم الملكي الشاهنشاهي. ويذكر أن هويدا هذا هو حفيد السيد محمد رضا القناد الشيرازي ـ أحد أصحاب الحي ـ، وكان والده أيضاً من أتباع الميرزا علي النوري (بهاء الله).
([36]) فهو يقول: «لا تنشغلوا بأنفسكم، وفكروا في إصلاح العالم، وتهذيب الأمم»، ثم صرح معللاً تأسيس دينه الجديد بقوله: «السبب الأكبر والعلة العظمى من ذلك هو الإشراق بتوحيد الدين الإلهي والشريعة الربانية، وتقدم العالم، وتربية الأمم، وإراحة العباد ومن في البلاد من أصول الأحكام الإلهية» (نقلاً عن: منتخباتي أز آثار بهاء الله).
([37]) نقلاً عن: منتخباتي أز آثار بهاء الله.
([38]) منتخباتي أز آثار بهاء الله: 183.
([40]) كتب شهبازي في كتاب (نظرية توطئه) يقول: «لقد كانت رحلات عباس أفندي إلى أوروبا وأمريكا في السنوات (1911 ـ 1913) مبرمجة ومخططاً لها تماماً، حيث يكشف لنا تحليل طبيعة الرحلات، والأوساط التي حضر فيها عباس أفندي، عن حضور مباشر لأيادي القوى العظمى خلف هذه الملابسات، فهم يسعون إلى تقديم هذا (النبي) الجديد والشرقي كرمز لظهور «مذهب إنساني جديد» ـ وفق الأهداف الماسونية ـ. وقد أثبتت الدراسات بأن العقل المدبر للمؤامرة هو إحدى الجمعيات العالمية، التي تعدّ من الجناحات المتقدمة في الماسونية الغربية… وقد طُبِّل كثيراً حينها للأفندي بوصفه واحداً من زعماء هذه الجماعة، حتى كانت ملكة رومانيا وابنها جوليا تعرفانه بالمنصب ذاته، ووفقاً لذلك تمت بينهم المراسلات والكتب المتبادلة. وكان عباس أفندي قد التقى خلال رحلته ببعض رجلات السياسة والثقافة الإيرانيين، أمثال: جلال الدولة ابن ظل السلطان، ودوست محمد خان معبِّر المماليك صهر ناصر الدين شاه، والسيد حسن تقي زاده، والميرزا محمد خان القزويني، وعلي قلي خان قائد أسعد بختياري. وكانت هذه المجريات، التي تدل على تقديم الدعم من قبل المؤسسات العالمية الكبرى للحركة البهائية، قد ألقت بظلالها على المشهد السياسي العثماني والمصري، وقد اكتسب عباس أفندي بُعَيْد رجوعه من رحلاته هذه شأناً كبيراً في الأوساط».
([41]) تقع هضبة (به دشت) على أطراف دامغان، وقد تحولت إلى مقرٍّ لعقد اجتماعات أصحاب الحي عقب إعدام الباب، وقد قرر أتباع الباب فيها ترك المجاملات والتبشير لدين جديد يعم البشر، بعد الحكم بنسخ الدين الإسلامي.
(42) منتخباتي أز آثار بهاء الله: 128.