أحدث المقالات

حيدر حب الله(*)

د. أحمد رضا مفتاح(**)

د. السيد أبو الحسن نواب(***)

الخلاصة

يعتبر الموقف من الآخر ونهج التعامل معه العمادَ الرئيس للعلاقات بين الأديان، ولا يمكن تنظيم هذه العلاقات من دون وضع رؤية تفهم الآخر، وتحدّد معايير التعامل معه، وفقاً لأصول معقولة ومبرّرة منطقيّاً وأخلاقيّاً. وقد درس المفكِّرون واللاهوتيّون المسيحيون ـ وخاصّة في العصر الحديث ـ هذا الموضوع على نطاقٍ واسع. وقد ارتأت هذه المقالة أن تدرس رؤيةَ لاهوتيٍّ كبير من فلاسفة اللاهوت المسيحي في ما يُسمّى بالعصر الوسيط، وهو القدّيس توما الأكويني، لتنظر في منهجه في التعامل مع الآخر والحكم عليه، سواء كان هذا الآخر خارجَ الدائرة الإيمانيّة المسيحيّة (الكفر) أم من داخلها (البدعة ـ الهرطقة..)؛ ولتعرف ميول الأكويني في العلاقة مع الآخر ضمن ثنائيّات: الوصل والقطع؛ السلب والإيجاب؛ القبول والرفض؛ الاستيعاب والطرد.

تمهيدٌ

تحتلّ قضيّة «الآخر» موقعاً متميّزاً في التفكير الديني؛ فهويّة الإيمان غالباً ما يتمّ كشف بعض معالمها من خلال الموقف من الكفر. وهويّةُ الصلاح يتمّ اكتشاف بعض جوانبها من خلال الابتداع والفساد. وتحدِّد صورةُ الآخر في العقل الديني الموقفَ منه، كما تساهم في بناء علاقةٍ إيجابيّة أو سلبيّة معه.

إنّ موضوعاتٍ من نوع: الكفر، الفسق، الابتداع، التجديف، الضلال، الخطيئة…، تشكّل المجموعة اللغويّة التي تتّصل ببعضها في تكوين الوَعْي الإيماني بالآخر، تماماً كما تلعب مفرداتٌ من نوع: الإيمان، الصلاح، الاستقامة، الهداية، الفيض…، دَوْرَ المجموعة اللغويّة المقابلة لتلك المجموعة.

ومن هنا يغدو من المتوقَّع أن تهتمّ الدراسات الدينيّة واللاهوتيّة بمقولة «الآخر»؛ لأنّ الموضوع يتصل بالذات وهويّتها، وضرورة تعيين موقفها من كلّ ما هو مختلف عنها، وإدارة العلاقات مع هذا «الآخر ـ المختلف»؛ لهذا فموضوع «الآخر» يقع في صلب قضيّة العلاقات بين الأديان.

ورغم أنّ الأديان، ومنها المسيحيّة، لم تعِشْ يوماً بعيدةً عن ثنائيّة «الأنا ـ الآخر»، لكنْ يبدو ـ بعد المراجعة المتواضعة ـ أنّه لم يكن هناك تدوينٌ مستقلّ في الاجتهاد المسيحي، منذ المسيحيّة الأولى وصولاً إلى بدايات عصر النهضة، حول منهاجيّات التعامل مع الكفر والبدعة والارتداد والهرطقة والانشقاق، فهذا الأمر نجده في قراءة مسيرة تعامل الكنيسة مع التيارات المنبثقة من المسيحيّة عبر التاريخ. ونستطيع فهم آليّة ورؤية الكنيسة من خلال مواقفها من هذه التيارات وطريقة تعاملها معها في ظروف مختلفة عبر التاريخ. وقليلاً ما نجد ـ كما يراه بعض الباحثين([1]) ـ دراسةً مستقلّة تحاول ممارسة التنظير الديني لهذا التعامل، والاستناد إلى الأدلّة العقلانية والشرعيّة في تأصيل رؤيةٍ في هذا الصدد.

وسط هذا الغياب النسبيّ تظهر أعمال القدّيس توما الأكويني(1274م)؛ فقد عقد عدّة فصول بحثيّة موسّعة في الجزء الأخير من الخلاصة اللاهوتيّة لدراسة الموقف ومنهاج التعامل مع الارتداد والكفر والبدعة. ولهذا يمكن لنا أن نعتبر تطرُّقه لهذا الموضوع بدرجةٍ من التفصيل بمثابةِ خطوةٍ متقدّمة في اللاهوت المسيحي في العصر الوسيط، وتستحقّ الدرس والتأمُّل.

لكنّ هذا لا يعني أنّه لم يكن يوجد اهتمامٌ ما بدراسة هذا الموضوع من قَبْل في اللاهوت المسيحي؛ وذلك أنّ الأكويني بنفسه في مختلف فروع هذه البحوث يُظهِر لنا أنّ هناك فريقين يختلفان في وجهات النظر إزاء تفاصيل هذه البحوث المرتبطة بالارتداد والبدعة والهرطقة، وكان دائماً يعرض أدلّة كلّ فريقٍ، ثمّ يقوم بعد ذلك بإصدار حكمه وتحليله الشخصيّ، وهذا يؤكِّد أنّ القضيّة كانت متداولةً، وأنّ ما قدّمه الأكويني كان انعكاساً لمشهدٍ موجود من قَبْل، غاية الأمر أنّه جمعه وطوَّره وأفرده بالبحث، ومنحه رصداً مستقلاًّ.

بدَوْرنا سوف نقسّم البحث هنا إلى أربع مراحل:

أـ نتناول في البداية المنهج العام للأكويني في «قضيّة الآخر» ونهج التعامل معه.

ب ـ ننتقل بعدها لدراسة موقفه من «الآخر = الكافر».

ج ـ ثم ننتقل لدراسة موقفه من «الآخر = المرتدّ والمبتدع والهرطوقي».

د ـ لنختم بموقفه من الإكراه العقيدي، الذي درس فيه الإكراه تجاه الكفّار والمبتدعة معاً.

هذا، ولا بُدَّ لي أن أُشير إلى أنّه عادةً ما يُدْرَس «الآخر» في الفكر الديني بوصفه إنساناً، لكنّ الحياة الحديثة والفلسفة والفنّ المعاصرَيْن طرحا الطبيعة أيضاً بوصفها «آخر»، يجب أن ندير التعامل معه عبر المحبّة أو التسخير أو اللامبالاة أو غير ذلك. ولكنّ موضوعَ حديثنا هنا هو «الآخر ـ الإنسان» فقط عند توما الأكويني.

 

أوّلاً: مع المنهج والإطار العامّ للأكويني في تناول قضيّة «الآخر»

إنّ «الآخر» عند الأكويني مختلفٌ، متمايز عنّي، وعليَّ تنظيم العلاقة معه، ولا يمثِّل جزءاً منّي بأيّ حالٍ من الأحوال. فالأكويني يتعامل مع الآخر على مبدأ الفصل والانفصال، وليس على مبدأ الدمج والوصل والاتحاد. ومبدأ الانفصال قد يوصل أحياناً إلى القطيعة التامّة، وقد يوصل إلى ضرورة التواصل، لكنّ التواصل لا يعني بأيّ حالٍ من الأحوال اندماجَ الآخر في الذات الكبيرة.

يرى الأب الدكتور فادي ضو ـ رئيس مؤسّسة أديان، وأحد المنظِّرين العرب المعاصرين في لاهوت التعدُّد ـ، متكلِّماً عن الآخر في التربيّة المسيحيّة، أنّ المجمع الفاتيكاني الثاني غَيَّر رؤيته للآخر، فاعتبره جزءاً من المساحة الإيمانيّة ذاتها، ناقلاً عن البابا بندكتوس السادس عشر أنّ الحقيقة لا يمكن أن تنمو إلاّ في العلاقة مع الآخر الذي يقودنا إلى الله. ويرتّب الأب فادي ضو على هذا التحوُّل الجَذْري مع المجمع الفاتيكاني الثاني ضرورة فهم عيسى المسيح على أنّه متجلٍّ في الأديان جميعاً، وفي الآخر كذلك، وليس فقط محوراً للإيمان المسيحي([2]).

هذه الرؤية المابعد 1963 ـ 1965م تختلف تماماً عن رؤية توما الأكويني التي سنشاهدها، حيث يبدو «الآخر» عند الأكويني موضوعاً للحكم الصادر؛ بهدف القطيعة معه تارةً؛ أو بهدف التواصل تارةً أخرى، وبهذا يعكس لنا الأكويني صورةَ «الآخر» في ما يُسمّى بالقرون الوسطى أو العصر الوسيط.

ولمزيدٍ من معرفة السِّمة العامّة لما قدّمه الأكويني في هذا الموضوع نلاحظ أنّه قد اتّسم بحثه بالتوسّع واستعراض الآراء المختلفة، ورصد الأدلّة التي ينطلق منها كلّ فريق، ثمّ محاولة التوصّل إلى صيغةٍ مختارة قد تلتقي مع فريقٍ دون فريقٍ، وقد تختلف عن الفريقين معاً. وغالباً ما كان الأكويني يعتمد طريقة التفصيل، بمعنى أنّه لم يكن يرغب في إعطاء موقفٍ موحَّد لجميع الحالات والفروض، بل كان ميّالاً لممارسة تجزئةٍ وتفصيلٍ للحالات، واتّخاذ مواقف مختلفة ومتنوّعة تَبَعاً لهذه الحالات نفسها، وهذا ما يكشف لنا تنوّع رؤيته النفسيّة والاجتماعيّة لـ «لآخر» وظروفه ومنطلقاته؛ لأنّه لا يعتبر «الآخر» صورةً واحدة، بل يحاول دراسته في تنوُّعه ومنطلقاته وتأثيراته والامتيازات الموجودة فيه.

إنّ الأكويني، وهو يحاكم النصوص المختلفة والمتنوّعة في كلّ موضوع من موضوعات العلاقة مع الآخر، يُبْدي لنا رؤيته العقلانية الأرسطيّة في ترتيب المعالجات، فيشقِّق القضيّة، وكثيراً ما يفرض صوراً وحالاتٍ، وأنّه يجب علينا أن لا نتّخذ موقفاً واحداً من كلّ الحالات. وهذا ما يكشف عن ذهنيّةٍ حركيّة اجتماعيّة مَرِنة عنده في فهم الظواهر الدينية ووقائعيّات الاجتماع الديني.

والملاحظ أيضاً في منهج الأكويني في تناول قضايا «الآخر» أنّه ـ وعلى غرار سائر أعماله في الخلاصة اللاهوتيّة ـ يعتمد المنهج الذي ساد في القرن الثاني عشر الميلادي، وهو منهج «نعم و لا»، حيث يتمّ استحضار الشواهد والأدلّة من الأطراف المتعدِّدة وأقوال الثقات والمعتمدين، ثمّ يُصار إلى التوصُّل إلى حلٍّ. وتكشف لنا مقاربات الأكويني في موضوعة بحثنا أنّ المواقف المسيحيّة تجاه الآخر (الكافر ـ المبتدع ـ المرتدّ ـ المهرطق…) كانت متضاربةً، وأنّ نصوص كبار العلماء واللاهوتيّين كانت مختلفةً، وأنّ الأكويني سعى لتفسير النصوص بطريقةٍ توصل إلى حلول مشتركة تفضي لإثبات مواقفه التي اختارها. ويُخيَّل لي تشبيه عمل الأكويني هنا بأعمال الإمام الغزالي(505هـ) في كتاب إحياء علوم الدين، فقد حاول الغزالي توحيد الفهوم الصوفيّة والروحيّة والتعريفات التي كانوا يقدِّمونها للأشياء عبر توزيع الحالات، معتبراً أنّ كلّ صوفي يقدِّم رؤيته من زاويةٍ معيّنة، تمثِّل حالته الفرديّة ومقامه الروحيّ، وعلينا أن نجمع هذه الرؤى عبر تمام الزوايا؛ لتتكوَّن لدينا رؤيةٌ تفصيليّة متنوِّعة ـ لكنّها متناغمة ومنسجمة في الوقت عينه ـ، تشكِّل لوحةً فنيّة واحدة.

وتتميَّز الأدلّة والحجج التي يسردها الأكويني في قضيّة «الآخر» بأنّ غالبها نقليٌّ أو ذرائعيٌّ مصلحيّ، على عكس بحوثه في الكثير من موضوعات كتاب الخلاصة اللاهوتيّة، حيث نجد السمة العقليّة المَحْضة بارزةً جداً؛ ولعلّ السبب في ذلك أنّ القضيّة تتبع السلوك الديني، وتوما بهذا يلتمس موقف النصوص الدينية والمصلحة الدينية في توجيه علاقة الدين والمؤمنين مع الآخر.

والجدير ذكرُه ـ لكي نفهم الفضاء الزمني للأكويني أكثر ـ أنّ الأكويني خاض جدالاتٍ متعدّدة؛ يساراً ضدّ الرشديّين اللاتينيّين، وهم التيّار الكبير الذي كان يسعى للاقتراب من الفلسفة أكثر منه إلى اللاهوت؛ وضدّ العلمانييّن المناهضين للأنظمة الدينيّة؛ ويميناً ضدّ الأغسطينيّين الذين كانوا يعيبون عليه نزعته الأرسطية([3])؛ وكذلك ضدّ التيارات الغنصويّة ذات الميول الثنويّة التي كانت تتجلّى في حركة الكاثار التي غزَتْ أوروبا الغربيّة منذ منتصف القرن الثاني عشر الميلادي. ومواقف الأكويني من «الآخر» ليست بعيدةً أيضاً عن هذه التيّارات التي كانت نافذةً في أوروبا والمسيحيّة، وعلينا فهمها في سياق ذلك الواقع التاريخي المعاصر له.

ثانياً: الآخر بوصفه «كافراً»، تسامح الأكويني وتنوُّع نظرته

بعد أن أشَرْنا في هذا التمهيد لبعض ميزات المنهج عند الأكويني، ننتقل الآن إلى رصد رؤيته لـ «الآخر = الكافر»، الذي يقع من البداية خارج الانتماء الإيماني المسيحي. ولكي نفهم رؤية الأكويني هنا يمكن أن ننظر إليها من عدّة زوايا:

أـ الكفر والمسؤوليّة الأخلاقيّة، تنوُّع المعاني عند الأكويني

أوّل خطوةٍ في التفكير الديني تجاه الآخر هو تقويم الموقف من الكفر؛ ففي الكثير من الفضاءات الدينيّة يعتبر عدم الانتماء للدين الحقّ كفراً، ومن ثمّ نلاحظ ترتيب آثار المسؤوليّة الأخلاقيّة ـ وما يتبعها من مواقف عقابيّةٍ وردّات فعلٍ ـ على كلّ مَنْ لم يندرج ضمن منظومة الدين الحقّ.

إنّ الذي يفاجئنا في تناول توما الأكويني لهذه القضيّة أنّه يميِّز بين نوعين من الكفر:

أـ الكفر الذهني، الذي يعني عدم الاعتقاد بما هو الحقّ. وهو بهذا المعنى يُعَدّ أمراً عَدَميّاً.

ب ـ والكفر السلوكي، الذي يعني نوعاً من العناد والمكابرة تجاه الحقّ بعد انكشافه الذهني للمعانِد، أو نوعاً من رفض الاستماع للحقّ من الأساس.

من هنا يعتبر الأكويني أنّ عدم الإيمان ليس ظاهرةً مضادّة للطبيعة في حدّ نفسها، تماماً كما أن الإيمان ليس ظاهرة تفرضها الطبيعة في حدّ نفسها. وما تفرضه الطبيعة والتكوين البشريّ هو أن لا يعاند الإنسان الحقّ بعد انكشافه له، وأن لا يتمرَّد على الاستماع للحقّ دون مبرِّرٍ أخلاقي([4]).

وبهذا يصبح الكفر الذي يحمل معه الخطيئة فعلاً سلوكيّاً يتّصل بالإرادة الإنسانيّة، لا فعلاً فكريّاً يتّصل بالعقل؛ وبهذا يذهب الأكويني إلى أنّ محلّ الكفر هو الإرادة، وليس العقل([5]).

هذه الرؤية الأكوينيّة للكفر الذي تمثّل قمّة «الآخر ـ المختلف مع الإيمان» تربط الموقف من الكفر بسلوكه الأخلاقيّ، وليس بعقيدته أو بإيمانه وعدمه؛ وهذا ما يلتقي في الفضاء الإسلامي مع الفكرة التي تقول بأنّ الكفر فعلٌ إيجابي، وليس مجرّد عدم الإيمان، وأنّ استخدام النصّ القرآني لمفردة الكفر يرجع في جَذْره اللغوي إلى نوعٍ من السَّتر، فالكافر هو ذلك الذي يقوم بستر شيءٍ منكشف، تماماً كما هو الزارع الذي يُسمَّى في العربيّة كافراً، وكما هو الظلام الذي يُنْعَت في العربية بالكفر أيضاً؛ لأنّه يستر الأشياء بإزالته النور([6])، وبهذا يصبح الكفر سلوكاً، لا اعتقاداً مَحْضاً، ويتمّ قيامة التمييز بين غير المؤمن وبين الكافر.

ويُفترض بتوما الأكويني أن يذهب إلى هذا التمييز طبقاً لرؤيته في مفهوم الكفر؛ فليس كلُّ غير مؤمنٍ هو كافرٌ يحمل في كفره الخطيئة، بل الكافر الذي يحمل الخطيئة هو ذلك الذي يمارس سلوكاً غير أخلاقيٍّ في تعامله مع الحقيقة الإيمانيّة.

رُبَما لا يكون الأكويني بصدد الحديث عن علاقةٍ دنيويّة مع الكافر، وهو يقوم بسرد الربط بين مفهوم الكفر ومفهوم الخطيئة من جهةٍ؛ وبينه وبين الطبيعة من جهةٍ ثانية. فتفكيكه الكفر عن مخالفة الطبيعة من جهةٍ؛ وربطه إيّاه بالإرادة من جهةٍ ثانية، محاولةٌ باطنيّة، رُبَما لم يكن هو فيها بصدد تأسيس نوعٍ من العلاقة الدنيويّة مع الكافر، لكنّها بالتأكيد تصلح لتأسيس نوعٍ من الربط، حيث يفسح هذا المفهوم لنا بالتمييز في غير المؤمنين بين المعاندين للحقيقة الإيمانيّة بشكلٍ من أشكال العداء غير المبرَّر أخلاقيّاً وبين أولئك الذي لا يملكون الحقيقة، لكنّهم لم يقترفوا خطيئةَ المعاداة لها. وبهذا ننفتح على صورة مختلفة لـ «الآخر» في الوَعْي الديني.

إنّ فكرة الأكويني تمهِّد بجدٍّ ـ قَصَدَ هو أم لم يقصد ـ لعدم اعتبار غير المؤمن ذا صورةٍ واحدة، بل مَنْ لم يندمج في الإيمان يمكن أن يكون مشهدُه متنوّعاً. وهذا ما نجد في التراث الكلامي عند المسلمين توصيفاً له، من حيث مفهوما القصور والتقصير؛ فالقصور هو الذي ينسجم مع ما وصفه الأكويني بالكفر الذِّهْني المَحْض؛ وهو يتّصل بعناصر أقوى من الفرد نفسه؛ إمّا ترجع لعدم سماعه الحقيقة من قَبْل، كما لو كان يعيش في بلادٍ نائية؛ أو لكونه غير قادرٍ على استيعابها والحكم فيها؛ لصغر سنّه أو لضعف عقله أو نحو ذلك؛ فيما التقصير يتضمَّن بُعْداً سلوكيّاً؛ لأنّه يرتبط بسلوكٍ متعمَّد، ومفهومٍ قام به الفرد وهو يدرك أنّ الوظيفة الأخلاقيّة لا تسمح له بالقيام به، مثل: عدم استعداده لقبول الحقيقة؛ لأنّها تقف مخالفةً لمصالحه الشخصيّة.

هذا التمييز الذي قدَّمه الأكويني يضع موقفنا من «الآخر ـ الكافر» ضمن الحدود الأخلاقيّة؛ فالسلوك الأخلاقي وغير الأخلاقي هو الذي يحدِّد جُرْميّة الكفر الذي اتّبعه الكافر، وليس الاعتقاد الذهنيّ هو المعيار النهائيّ الوحيد. وفي الحقيقة لستُ أدري موقف الأكويني هنا من خلاص الكافر الذهنيّ، فهل يعتبره ناجياً في يوم الدينونة أو أنّه يتمّ التعامل معه هناك بطريقةٍ مختلفة؟ إنّ هذه القضيّة بالغة الأهمّية بالنسبة إلينا هنا؛ لأنّ الخلاص إذا كان بمعيارٍ عقائديّ خالص فهذا يعني أنّ الأكويني منسجمٌ مع لاهوت العصر الوسيط في حَصْر الخلاص بالمسيحيّين الحقيقيّين، بينما لو كان الكفر الذهني غير مصنَّفٍ بوصفه جريمةً أخلاقيّة مع الله والنفس فهذا يعني أنّه من الممكن أن نفتح طريق الخلاص لغير المسيحيّ فيما لو لم ينطلق كفره من خُبْثٍ أخلاقيّ وسلوكيّ، وهذا ما يمكن أن يكون لَبِنَة ومِدْمَاكَاً في طريق ولادةٍ تعدُّديةٍ دينيّة في النجاة والخلاص.

ب ـ بين الإيمان والسلوك العملي، النزعة الموضوعيّة عند الأكويني

يبدو هذا السؤال غير ضروريٍّ في فضاءٍ يعتقد بأنّ الإيمان يمثِّل أكبر القِيَم. لكنّ توما الأكويني يفاجئنا مرّةً أخرى عندما يذهب بنا نحو عدم اعتقاده بكون الكفر هو أعظم الخطايا! وتظهر أهمّية هذا الموضوع في مقاربة تقويمنا للكافر والمبتدع من جهةٍ؛ وللكاثوليكي قبيح السيرة من جهةٍ ثانية، وفق النصّ الذي ينقله الأكويني عن القديس أوغسطين(430م) في ردّه على الدوناتيّين؛ حيث يبدو الأكويني ميّالاً لعدم البتّ في كون قبيح السيرة المؤمن أفضل من الكافر، وأنّ القضيّة تخضع لتنوُّعٍ في المعايير، ولا تُساق بشكلٍ واحد.

هذا الموضوع يمثِّل غايةً في الإشكاليّة في الوعي الدينيّ عامّةً؛ إذ يتمّ تصنيف المؤمن بمثابة الشخص الذي حصل على درجةٍ لا يُفترض أن يصل إليها أحدٌ من غير المؤمنين، ومن ثمّ فدخول الفرد مخاض الإيمان يجعله بمثابةٍ أرفع من سائر الكفار مهما بلغوا في سلوكهم، بينما نجد الأكويني غير مقتنعٍ بهذا النوع من المقاربة على إطلاقيّته.

من هنا يميِّز الأكويني الموقف تَبَعاً لموقفه المسبق من قضيّة الكفر؛ فالكفر الذي يعني عدم الإيمان لا يعني أنّه أسوأ من الكاثوليكي قبيح السيرة؛ بينما الكفر الذي يعني العناد والمضادّة يُفترض أن يكون أسوأ من كلّ السلبيّات السلوكيّة في الآداب. وبهذا يتمّ الجمع والتوفيق بين النصوص الدينيّة من وجهة نظر الأكويني([7]).

هذا الموقف يؤكِّد لنا أنّ الأكويني يعطي العمل دَوْراً كبيراً في تقويم الأفراد. إنّه هنا يعتبر بوضوحٍ أنّ الكافر الذهني رُبَما يكون أفضل من المسيحيّ المنحرف أخلاقيّاً، على الرغم من أنّ قضيّة الإيمان تمثِّل عنصر أساسيّاً في اللاهوت المسيحي، وهذا يعني أنّ الأكويني يؤمن شيئاً ما بمقولة «الإيمان + العمل الصالح»، وأنّ الحصول على الإيمان وحده لا يسمح لنا بتفضيل المؤمن على غيره.

ومرجعيّةُ الأكويني هنا ليست في النزعة الإنسانيّة، بل في التقويم الأخلاقي؛ لأنّ المعيار عنده هو الوظيفة الأخلاقيّة، وما دام الكافر الذهني لم يرتكب جُرْماً أخلاقيّاً فمن غير الواضح كونه في درجةٍ أَدْوَن من المؤمن المنحرف في أخلاقه.

هذا التردُّدُ الأكوينيُّ، ولو لم يصل إلى درجة حسم الموقف، يفتح علاقةً ممتازة مع «الآخر» في الحياة الاجتماعيّة؛ فالآخر الآن لم يعُدْ صورةً واحدة تتلاشى كلّ حسناته بسبب عدم كونه جزءاً من الذات الإيمانيّة الكبيرة، بل يمكن لنا أن نميِّز فيه سلوكَه عن عقائده، فنختلف معه في العقائد لكنّنا نثني على سلوكه، بل قد نقدِّمه على المؤمن فيما لو لم يكن سلوك المؤمن صالحاً.

في السياق نفسه يطرح الأكويني سؤالاً حول إمكانيّة صدور الأعمال الصالحة من الكافر. إنّه يميِّز بين نوعين من الصالحات:

أـ الأعمال الصالحات التي تصدر عن الطبيعة الإنسانيّة المتبقّية بعد الخطيئة، أو فلنقُلْ: عن المقدار المتبقّي من الطبيعة، وهنا يوافق الأكويني على إمكان صدورها من الكافر باعتبار أنّها من مستتبعات الطبيعة الباقية.

ب ـ الأعمال الصالحات التي تنشأ عن نعمة التبرير بالإيمان، وهذه لا يمكن صدورها من الكافر؛ لأنّها متفرّعةٌ عن الإيمان والتبرير الإلهي فيه، وبهذا يضع الأكويني مقارنةً بين صدور السيّئات من المؤمن وصدور الحَسَنات من الكافر، ويقبل بهذا الأمر على الجهتين([8]).

من الواضح أنّ الأكويني هنا يُسقط نظريّة التبرير المسيحيّة (حصول التعديل بالإيمان) على موقفه في سلوك الكافرين، ويحفظ للإيمان تأثيراته العمليّة الخاصّة التي لا ينالها غير المؤمن. ويبدو الأكويني هنا واضحاً في اختياره حصول تعديلٍ حقيقي في الطبيعة البشريّة بعد الإيمان؛ لأنّه يتعامل مع السلوك الحَسَن المنبعث عن الإيمان تعاملاً واقعيّاً، وليس نوعاً من اعتبار هذا السلوك حَسَناً أو اعتبار صاحبه عادلاً وصالحاً ومبرَّراً، كما صار يراه لاحقاً الكثير من البروتستانت.

ولو أرَدْنا ربط هذا الموقف كلِّه من الأكويني بقضيّة الخلاص فإنّ الذي يُتوقَّع هو أنّ ولاية الله ليست معياراً وحيداً للتقويم عنده، بل العمل معيارٌ أصيلٌ كذلك. ونحن نعرف أنّ النظريّات في موضوع الخلاص تقع على نوعين:

أـ النظريّات ذات المنشأ الواحد، وهي التي ترى أنّ الإيمان وحده أو الرحمة الإلهيّة هي الموجِب للخلاص.

ب ـ النظريّات ذات المناشئ المتعدّدة، مثل: النجاة عبر الإيمان والعمل الصالح، أو عبر الإيمان والرحمة الإلهيّة، أو عبر الإيمان والعمل الصالح والرحمة الإلهيّة معاً([9]).

وهذا التنوُّع في منطلقات الخلاص نشهده في علم الكلام الإسلاميّ وفي اللاهوت المسيحي معاً، ويبدو أنّ الأكويني يرى للعمل دَوْراً.

ج ـ مخالطة الآخر، أو العلاقات الاجتماعيّة بين أبناء الديانات المختلفة

مخالطة أبناء الديانات لبعضهم قضيّةٌ قديمة في الثقافة الدينيّة، وغالباً ما كانت تُعتبر بمثابة عنصر قلقٍ على الإيمان والتديّن. ويبدو أن الفكر المسيحي لم يخرج من هذا القلق في العصر الوسيط على الأقلّ. ولهذا نجد الأكويني حَذِراً جدّاً من مخالطة أهل الردّة والابتداع، أمّا سائر الكفّار فإنّه يضع القضيّة بوصفها متحرّكةً في الزمان والمكان والظرف والحال، وتتبع طبيعة النتائج المتوقَّعة من وراء هذه العلاقة والمخالطة؛ فإذا كانت النتائج خطرةً على الإيمان المسيحيّ كان الموقف سلبيّاً من هذه المخالطة؛ دون العكس([10]).

ومن الواضح لدينا أنّ الأكويني يفكِّر ذرائعيّاً في موضوع العلاقة مع الكافرين؛ فهو ينظر إلى المآلات التي يمكن أن توصلنا إليها هذه العلاقة، وما إذا كانت سوف تشكِّل تهديداً للجماعة المسيحيّة أو لا؛ أو تهديداً للإيمان المسيحي أو لا.

ودائماً ما كانت قضيّة «الأنا والآخر» تنطلق من اعتبار المغايرة، التي تجعل أيّ توسُّع أو حريّة أو أمان أو علاقة مع الآخر بمثابة تهديدٍ للذات الفرديّة والجماعيّة، وبهذا يتحوَّل الآخر إلى «عدوٍّ» لمجرّد أنّه مختلف عنّي؛ لأنّ الاختلاف يجعل الآخر بمثابة النقيض من الذات، وهذا التناقض الراسخ في الوعي الشمولي التوتاليتاري لا يسمح باستضافة الآخر في الذات، بل يفضّل أن يطرده أو يقاطعه، وهو ما شهده العالم في الكثير من علاقات الأديان ببعضها من جهةٍ، وفي التيارات التوتاليتاريّة التي عرفها الغرب منذ القرن السابع عشر، وتُوِّجَت بالحربين العالميّتين في القرن العشرين من جهةٍ أخرى.

إنّ ذرائعيّة الأكويني تبقى نوعاً من التسامح تجاه الآخر، رغم أنّه يقفل باب التسامح مع المبتدعة والمرتدّين، كما سوف نرى أكثر عند رصد تصوُّراته عنهم. وهذا التسامح يضع له الأكويني نهايةً، وهي حماية الذات، فلا يمكن أن أتسامح مع الآخر في وجوده وعلاقتي الاجتماعيّة معه ما دام يشكِّل تهديداً للذات، فيما يمكنني ممارسة هذا التسامح خارج مجال التهديد.

لكنّ السؤال الأصعب هنا هو: ما هي المعايير التي من خلالها نفهم أنّ الآخر والعلاقة الاجتماعيّة معه تشكِّل تهديداً للذات أو لا؟ هذا ما لم يوضِّحه لنا الأكويني، وإنّما تركه للمتغيِّرات، ولبصيرة الكنيسة وأولياء الأمور عبر الزمن، مع أنّ هذه القضيّة حسّاسةٌ جدّاً؛ لأنّ عدم وضع محدِّدات لمفهوم «تهديد الآخر للذات» يمكنه أن ينهي العلاقة مع الآخر عند أدنى مفترقٍ أو ملابسة، ونحن نرى أنّ التيارات الدينيّة المتطرِّفة ـ على سبيل المثال ـ تعتبر أصل وجود الآخر أحياناً تهديداً للذات، وهذا ما كان يفترض بالأكويني أن يتناوله لمزيدٍ من تلافي التعسُّف في تطبيق التصوُّر الذرائعيّ الذي تحدّث عنه.

د ـ سلطة الكافرين على المؤمنين، أو مقوِّمات العلاقات السياسيّة

إذا انتقلنا من مجال العلاقات الاجتماعيّة نحو العلاقات السياسيّة فمن الطبيعي أن يُثار في الاجتماع السياسيّ الدينيّ سؤال السلطة في سياق علاقة المؤمنين بغيرهم، فهل يمكن لغير المؤمنين أن تكون لهم سلطة على المؤمنين؟ وهل يُسمَح لهم بمنصب الرئاسة عليهم؟

هذا الموضوع له علاقةٌ وطيدة أيضاً بحقوق الأقلِّيات اليوم، فلو اعتبرنا أنّ الكافر يمثِّل أقلِّيةً موجودةً في الوطن المسيحيّ فهل يمكن منحه سلطةً سياسيّة يمارسها على الأتباع المسيحيّين أو لا؟

ثمّة وجهات نظر هنا؛ وثمّة نصوص يبدو عليها الاختلاف، يستعرضها لنا الأكويني كعادته في رصده التمهيدي للموضوع. لكنّ الأكويني المسكون بهاجس حماية الاجتماع الديني يتّخذ موقفاً وَسَطاً في القضيّة؛ وذلك بتعامله مع الموضوع من زاويتين:

الزاوية الأولى: استحداث الرئاسة وخلق سلطة للكافر على المؤمن، بمعنى أنّ المؤمنين يعيشون فيما بينهم ضمن اجتماعهم السياسيّ، ومن غير المقبول إحضار الكافر ليصبح رئيساً عليهم. وهذا هو تفسير موقف الكنيسة ـ من وجهة نظر الأكويني ـ من نهي المؤمنين عن الترافع عند قاضٍ كافر؛ لأنّ هذا الترافع هو استحداثٌ لسلطته بعد أن لم تكن موجودةً قبل رفع الدعوى القضائيّة عنده؛ وهذا هو أيضاً معنى موقف الكنيسة من النهي عن ولاية غير المؤمن على المؤمن وتقدُّمه عليه، وفقاً لتفسير الأكويني كذلك.

الزاوية الثانية: حالة ما إذا كانت سلطة الكافر على المؤمنين أمراً واقعاً، فنحن هنا لا نتحدّث عن استحداث سلطةٍ له، بل نتكلَّم عن مَدَيات القبول بسلطته القائمة بالفعل، وأنّه هل يجب علينا تغييرها أو لا؟

يعالج الأكويني هذا الموضوع بذهنيّةٍ سياسيّة عالية، تكشف عن جانبٍ من رؤيته الفلسفيّة لقضيّة السلطة؛ فهو يرى أنّ اعتبار السيادة والرئاسة تابعٌ للحقّ الطبيعيّ، بينما التمايز بين المؤمنين والكافرين تابعٌ للحقّ الإلهي. والنعمةُ الإلهية لا تُبطل الحقّ البشري الذي مصدره عنده هو العقل الطبيعي. لكنّه لا يغيب عن بال الأكويني أنّ الكنيسة ـ بما تملكه من سلطةٍ زمنيّة ـ تستطيع إبطال هذا الحقّ البشري بناءً على قانون العدل؛ لأنّ الكافر بكفره فَقَدَ السلطة على المؤمنين، لكنّ هذا لا يعني أنّ الكنيسة سوف تفعل ذلك بالضرورة، بل لها ذلك ولها عدمه.

وبهذا يجعل الأكويني القرار بيد الكنيسة، تَبَعاً للوضع الزمنيّ على قانون العدل، ولا يفرض الثورة أو التمرُّد أو الانفصال عن السلطة الزمنيّة الكافرة([11]).

لكنّ موقف الأكويني في هذه القضيّة يمكن أن يبدو لنا متناقضاً؛ فإذا كان الكافر قد فَقَدَ بالكفر سلطته على المؤمنين فكيف يمكن أن نفصل بعد هذا بين الحقّ البشري في الرئاسة وبين الحقّ الإلهي في قضيّة الإيمان والكفر؟ إذ الكفر هنا قد نتج عنه فقدان الكافر حقَّه السلطويّ على المؤمنين، وإنّما لم تقُمْ الكنيسة بخطوةٍ ما نتيجة موقفها الزمني… إنّ نظريّة الأكويني تبدو هنا غير متناغمةٍ في أجزائها.

ومع ذلك فالأكويني مرّةً ثانية يعيد أفكارَه التي طرحها هنا عند حديثه عن الموقف من سلطة المرتدّين على المؤمنين؛ فلو ارتدّ الملك الذي كانت له سلطة قبل ارتداده على رعاياه المؤمنين فهل يفقد بالارتداد سلطتَه هذه؟ إنّ الأكويني يؤكِّد مجدَّداً على أنّ الحقّ البشري لا يُنسخ بالحقّ الإلهي. ورغم تأكيده على أنّ الكنيسة لا تعاقب مَنْ يكفر، لكنّه يرى أنّ للكنيسة الحقّ في معاقبة المرتدّ؛ نظراً لتأثير ارتداده السلبيّ على المؤمنين. والمعاقبة في هذه الحال يمكن أن تكون بسلب هذا الملك سلطتَه على رعاياه([12]).

وهذا كلُّه يؤكِّد لنا أنّ ذهنيّة الأكويني تكمن في أنّ الحقّ الإلهيّ وإنْ لم يكن منافساً للحقّ الطبيعيّ، لكنّ اختراق الحقّ الإلهيّ أو تهديد الإيمان يمكنه أن يفوِّض الكنيسة سلطة التدخُّل في سلب أو إثبات حقٍّ بشريّ معيّن. وهذا وحده كافٍ في تصنيف الأكويني على أنّه من مناصري تقدُّم السلطة الدينيّة على السلطة الزمنيّة، رغم أنّه قد لا يرى أنّ شرعيّة السلطة الزمنيّة قد أتَتْ من السلطة الدينيّة حَصْراً وبالضرورة.

هـ ـ «الآخر = الكافر» وحقّ ممارسة الطقوس الدينيّة

يُبدي المؤمنون حساسيةً إزاء ما يعتبرونه مظاهر الكفر في حياة البشر، ومن الطبيعي أن يثيروا في أذهانهم سؤالاً عن موقفهم تجاه هذه الطقوس الكفريّة، فهل نقبلها، أو نتحمَّلها ونصبر عليها، أو علينا إزالتها ومنع الكفّار من ممارسة طقوسهم حيث يمكننا؟

هذا السؤال طرحه الأكويني في إطار تبيين علاقة المؤمنين بالكافرين بقضيّةٍ ترجع ـ وفق التصنيف الحقوقي والقانوني المعاصر ـ إلى الحرّيات الدينيّة وممارسة الطقوس الدينيّة عند الأقلِّيات. وهو ينطلق من نوعٍ من المحاكاة بين السياسة الإلهيّة والسياسة البشريّة، حيث يؤسِّس أصلاً قانونيّاً يعتبر فيه أنّ السياسة البشريّة عليها أن تقتدي بالسياسة الإلهيّة. وبهذا يطرح الأكويني موقفَه من قضيّة الشرور في العالم، حيث يرى أنّ الله يسمح ببعض الشرور انطلاقاً من أنّ منعها رُبَما يؤدّي إلى شرور أعظم، أو إلى خسارة خيرات أكبر. وهو بهذا يعيد إلى أذهاننا النظريّة التي تستخدم في تفسير الشرور في العالم الجملةَ التالية: إنّ ترك الخير الكثير من أجل شرٍّ قليل هو شرٌّ كثير، والتي استقاها الأكويني ـ فيما استقاها ـ من الفلسفة الإسلاميّة، بل وتنسب إلى أرسطو أيضاً.

وبناءً على ذلك يعتبر الأكويني أنّه من الممكن أن نحتمل طقوس الكافرين ـ وهو إلى الآن يلاحظ اليهود بالخصوص ـ لأجل خيرٍ أعظم، وهو إثبات الديانة المسيحيّة؛ لما بين اليهوديّة والمسيحيّة من اتّصالٍ تاريخي ولاهوتي عميق، فيقبل بطقوس اليهود، لكنّه يرى أنّ طقوس الوثنيّين وأمثالهم لا فائدة منها، ولا خير يمكن أن نحصل عليه من ورائها؛ لإثبات حقِّية المسيحيّة مثلاً، لهذا فهو يرفض احتمالها، والقبول بها أمراً واقعاً، ما لم يكن في مواجهتها مفسدةٌ عظيمة أو تشكيكاً أو نزاعاً قد يُلْحِق ضرراً بالمؤمنين([13]). وهو بهذا ينطلق في ذهنيّته مرّةً جديدة من قواعد فقه الأولويّات، وقوانين تزاحم المصالح والمفاسد؛ ليدير السياسة الشرعيّة عبر هذا النوع من المعايير والقِيَم.

ولو جاز لي أنّ أصنِّف الأكويني لوضعتُه ضمن الاتّجاه الرافض لطقوس الآخرين تماماً، ما لم تكن للإيمان المسيحيّ مصلحةٌ؛ فقبوله بالطقوس اليهوديّة ليس كَرْمَى لعيون اليهود، بل لما في بقاء اليهوديّة من تثبيتٍ لقواعد الإيمان المسيحيّ. وبهذا تبدو وصوليّة الأكويني جليّةً هنا، بمعنى أنّه يتوسَّل بالحرّية الطقوسيّة للآخرين كي ينتفع بها لنفسه، ولهذا بمجرّد أن لا يرى من ورائها منفعةً له يتّجه نحو منعها تماماً، كما رأينا موقفه من طقوس الوثنيّين.

و ـ مجادلة الكفر عَلَناً، أو الحوار الفكريّ بين الأديان

الحوار بين الأديان مهمٌّ للغاية، بل إنّ منهج العديد من فلاسفة القرن العشرين في إدارة ثنائيّة «الأنا ـ الآخر» هو المنهج التحاوري الذي يقوم بإيجاد تقاربٍ وتفاهم، عبر كشف الآخر لي نفسَه وكشفه المزيدَ من القِيَم والتجارب التي تنفع الأنا في حياتها، بل يعتبر بعض الفلاسفة ـ مثل: هيجل(1831م) ـ أنّ العلاقة الديالكتيّة بين الأشياء تجعل معرفة الآخر عبر معرفة الذات، وبالعكس، وبهذا يظهر الاندماج مع الآخر؛ لأنّ الانفصال يولِّد المغايرة، وهي بدَوْرها تولّد التمييز والفوقيّة والقطيعة.

لكنْ تبدو قضيّة المجادلات العَلَنيّة مع الكفر ـ بوصفها متّصلةً بحرِّية التعبير والإعلام بشكلٍ من الأشكال ـ حسّاسةً بالنسبة إلى الفكر المسيحيّ الوسيط؛ ففي حين يعرض لنا الأكويني حجج الفريق القائل بضرورة سدّ باب الحجاج والمناظرات العلنيّة؛ تسكيتاً لصوت الكفر عن الظهور، يطرح لنا وجهة نظرٍ أخرى تحاول أن توافق ـ ولو جزئيّاً ـ على هذا الموضوع.

في هذا المجال يبدو الأكويني يعالج قضيّةً اجتماعية دينيّة تتّصل بالثقافة وحرِّية التعبير، فهو يرى أنّ الجدال العَلَني يقوم على عنصرين، هما: 1ـ المجادِل؛        2ـ المستمع.

على خطّ المُجادِل نجده يميِّز بين نوعين من المجادِلين: نوع يبتغي من جداله معرفة الحقيقة الإيمانيّة، فهو يخوض هذا الحوار قاصداً الوصول إلى الحقّ، وهو نوعٌ يذمّه الأكويني؛ انطلاقاً من أنّ الحقيقة الإيمانيّة غير قابلة للشكّ؛ ونوع آخر يجادل بهدف دفع الأوهام والكفر أو التمرُّس على هذا الفنّ لغايةٍ نبيلة، وهنا يوافق الأكويني على الجدال، بل يعتبره محموداً.

أمّا على خطّ المستمعين فيحاول الأكويني أن يميِّز مستويات الناس الثقافيّة:

ففيما يوجد مستمعون راسخون في الثقافة والإيمان، وهو هنا يوافق على الجدال أمامهم، وهذا طبيعيٌّ منه؛ لأنّه لا يلمس خطراً في هذا الجدال…

نجده يفصِّل في الجدال أمام المستمعين السُّذَّج، بحَسَب تعبيره، وهو هنا يدير بإدارةٍ حاذقة ملفّ الجَدَل العَلَني؛ إذ ينظر في الحالة التي هم عليها؛ فإنْ كانوا تحت مرمى أوهام الكفّار، وفي بلادهم، فإنّ الجدال العَلَني يكون جيّداً.

ويبدو لي أنّ الأكويني هنا يريد من تجويز الجَدَل العَلَني أن يُرْبك قدرة الكفّار على السيطرة الذهنيّة على المستمعين؛ لأنّ المستمعين السُّذَّج سوف ينجرفون وراء الكفر إذا كانوا تحت مرماه؛ فيما الجدال العَلَني سوف يوقعهم موقع الشكّ، ويفرض عليهم شيئاً من التراجع.

أمّا إذا كانوا خارج بلاد الكفر، وليس لهم سابق عهدٍ به، فإنّ الجدال العَلَني منبوذٌ عند الأكويني؛ والسبب هو أنّ هذا الجدال سوف يزعزع رسوخ إيمانهم، ويُلقي في أذهانهم الشكوك.

وبهذه الطريقة حاول الأكويني أن يجمع بين المواقف المختلفة من هذه القضيّة الشائكة([14]).

ويمكن أن نلاحظ على الأكويني أنّ ذمَّه للشكّ لا معنى له؛ إذ ليس المهمّ لماذا وقع الشكّ في الحقيقة الإيمانيّة؟ أو أنّ هذا الشكّ مبرَّرٌ أخلاقيّاً أو لا؟ بل المهمّ هو أن ندرس هل الجَدَل يمكن أن يرسِّخ هذه الحقيقة أو أنّه يزيد من الشكّ فيها، ومن ثمّ فليس من المنطقي أن يتّخذ الأكويني موقفاً من المجادِل الشاكّ تحت شعار أنّ الحقيقة الإيمانية لا تقبل الشكّ، بل لا بُدَّ له أن يتّخذ موقفه تحت شعار أنّ الجَدَل هل يكرّس عند الشاكّ تلك الحقيقة أو يزيدها ارتباكاً؟

ز ـ التجديف وعلاقته بالكفر عند الأكويني

ينقل الأكويني في تعريف التجديف العامّ أنّه التكلُّم على الله بالشتيمة أو الإهانة، لكنّه يعرِّفه بأنّه اهتضامُ حقٍّ خيريّة ساميّة، ولا سيَّما الخيريّة الإلهيّة، وهو بهذا لا يحصره بالممارسة غير الأخلاقيّة تجاه الله، بل يوسِّعه لكلّ مقامٍ مقدَّسٍ، كالقدّيسين وغيرهم. وهو بهذا يعتبر شاملاً لتوصيف هذه الخيريّة بكلّ صفةٍ لا تليق، أو سلب صفةٍ تليق بها عنها. ومن ثمّ فهو يربط بين الكفر والتجديف عندما يكون موقع التجديف في القلب، لا خصوص العقل، حيث تكون هناك كراهةٌ لهذه الجهة الخيريّة، وهو ما يرتبط بالإرادة. بل يحاول الأكويني ربط التجديف بحقّ القدِّيسين بالتجديف بحقّ الله؛ لأنّه يعتبر أنّ لازم تجديفهم هو تجديفه، كما أنّ تعظيمهم هو تعظيمٌ له([15]).

وبعد معرفة هويّة التجديف يظهر السؤال التالي: هل التجديف خطيئةٌ مميتة ـ أي من الكبائر ـ أو لا؟

تتأرجح المواقف هنا، لكنّ الأكويني يعتبره مميتاً؛ لأنّ مفهومه للخطيئة المميتة يقع ضمن المعيار التالي: كلّ ما ينافي محبّة الله فهو في جنسه خطيئةٌ مميتة، والتجديف في جنسه ينافي هذه المحبّة، لكنْ لا يعني ذلك صدور التجديف نتيجة انفعالٍ من شخصٍ بحيث صدرَتْ منه كلماتٌ بحقّ الله سبحانه من غير رويّةٍ؛ لأنّ هذه خطيئةٌ عَرَضيّة، لا حقيقيّة؛ ولهذا لا يوافق الأكويني على اعتبار هذا النوع من التجديف مميتاً، بل كأنّه يريد أن يُخرجه عن موضوع البحث هنا. ومن هنا يعتبر الأكويني التجديف في جنسه من أعظم الخطايا؛ لأنّه من جنس الكفر([16]).

ثالثاً: الموقف من الآخر الداخلي (الابتداع والهرطقة والارتداد)

فكرة البِدْعة يكاد لا يخلو منها دينٌ من الأديان([17])، فعقب رحيل مؤسِّس الدين، كالنبيّ عيسى أو النبيّ محمّد’، تظهر في العادة اختلافاتٌ بين الأنصار والتابعين، وبهذا يصنِّف التيارُ الذي يمسك بالسلطة الرسميّة مَنْ يخالفه الرأيَ من المعارضة بأنّهم مبتدعةٌ أو مرتديّن؛ فيما يسمّي هذا التيار نفسَه في العادة بأنّه حركةٌ إصلاحيّة لإعادة تصويب الأمور وتصحيح الخَلَل الحادث عقب مرحلة التأسيس.

وعبر التاريخ كان التعامل مع المبتدعة أو المرتدّين قاسياً؛ وذلك أنّ الدين الرسميّ يخشى منهم أيَّما خشيةٍ على الوضع القائم، ويعيش هاجس القلق منهم على الدوام. من هنا نجد في النصوص القديمة توجُّهاً دائماً نحو التحذُّر من أهل البِدَع ومتاركتهم وعدم الاختلاط بهم، وصولاً إلى حَظْر حرِّياتهم الدينيّة والفكريّة والإعلاميّة، وقمع حرِّياتهم في التعبير عن أفكارهم وآرائهم.

فبولس(64 أو 67م) في رسالته إلى تيطس يقول: «الرجل المبتدع بعد الإنذار مرّةً ومرّتين أعرض عنه، عالماً أنّ مثل هذا قد انحرف، وهو يخطئ، محكوماً عليه من نفسه»([18]). وبولس بعينه ـ كسائر المسيحيّين ـ كانوا متَّهمين من قِبَل اليهود بالبِدْعة؛ ليُحكم عليهم وفقاً للناموس.

والخلفيّة التي تقف خلف هذا المشهد هي أنّ مثل الأديان الإبراهيميّة ـ كالمسيحيّة ـ تفرض وجود نسخة فُضْلى للإنسان، وهو الإنسان الكامل والمجتمع الكامل، ومن ثمّ على الجميع أن يتّجهوا نحو هذه النسخة، وأيُّ نوعٍ من الابتعاد أو عدم التطابق عنها هو بمثابة انحراف. وهذا على خلاف التوجُّهات الفلسفيّة الليبرالية المعاصرة، التي نظّر لها أمثال: إشعيا (آيزايا) برلين (1997م)، من أنّ الأصالة للإنسان الفرد، لا للإنسان الأنموذج، وأصالة الفرد تعني تعدُّد النُّسَخ، وزوال التنميط والنمطيّة.

إلى جانب ما تقدَّم، وعلى خطٍّ آخر، نلاحظ أنّ عصر الأكويني قد شهد حركاتٍ واضحة لتأسيس ديوان التفتيش، وخاصّةً من قبل البابا قويّ النفوذ إينوسنت الثالث(1216م)، والذي حرَّك القوّة المسيحيّة لمواجهة المسلمين في الحروب الصليبيّة في الأندلس وفلسطين من جهةٍ، ومواجهة هرطقة الكاثار في جنوب فرنسا من جهةٍ ثانية، وكان الموقف من الكفّار والمبتدعة والمهرطقين قد بدأ يتبلور بقوّة في عين الوقت الذي كانت فرنسا فيه تحتضن كبرى الجامعات التي تشرف عليها الكنيسة، وتملك تنوُّعاً كبيراً جدّاً وتنامياً فكريّاً ممتازاً، لكنّ بابا روما كان يسعى للإمساك جيّداً بنظام التعليم وبالوضع الجامعي، هادفاً وضع حدٍّ للمخاطر التي قد يتعرَّض لها اللاهوت المسيحيّ نتيجة تنامي الجَدَل، بل كانت الفلسفة ـ بتوجيهٍ من الكنيسة ـ مطلوباً منها فقط أن تتحوَّل إلى فنّ جَدَلٍ لخدمة القضايا اللاهوتيّة([19]).

هذا المشهد التاريخي يجب أن لا يغيب عن ناظرنا ونحن نرصد مواقف توما الأكويني من البدعة والهرطقة والارتداد. ولهذا لا يكاد الأكويني ينتهي من رصد الأصول الأوّليّة للكفر حتّى يطلّ بنا على موضوعٍ يُعَدّ في منظومة الموقف من «الآخر» بالغ الأهمّية. إنّه الآخر الداخل ـ ديني؛ والآخر الخارج ـ ديني. فالآريوسي هو آخر داخل ـ ديني؛ واليهودي هو آخر خارج ـ ديني؛ والوثني هو آخر أكثر من اليهود في كونه خارجاً ـ دينيّاً.

أـ تعريف المفاهيم، وتمييز المصطلحات

تُعرَّف البِدْعةُ بوصفها إنكارَ أو معارضة الاعتقاد الصحيح، والأُرثوذكسي الذي حَكَمت المراجعُ الكنسية بصحّته([20]). وكما يؤكِّد الباحث الفرنسي ج. ويلتر فإنّ البِدْعة لا يُنظَر إليها بوصفها مجرّد رأيٍ مختلف، بل هي تتضمَّن مفهوم الانحراف في العقائد أو الطقوس أو النظام، وهذا يعني أنّه لا بُدَّ مسبقاً من فرض مبادئ إيمانية مكرَّسة ومقنَّنة في الاجتماع الديني، بحيث تتحوّل إلى دينٍ رسمي، لينفتح المجال على تبلور مقولة البِدْعة([21]).

ويذهب ويلتر في تحليله إلى أنّ الهرطقة والبِدْعة تمّ استخدامهما في الكاثوليكيّة والأُرثوذكسيّة والبروتستانتيّة معاً، لكنّه يميِّز بين الهرطقة والبِدْعة، فالهرطوقي يمكن أن يكون شخصاً، لكنّ البِدْعة تمثِّل حالةً أو تياراً أو جماعةً، وهو بهذا التصنيف والتمييز بين البِدْعة والهرطقة يصنِّف جان دارك(1431م) وغاليليو(1642م) في عداد الهرطوقيّين، وليسوا في عداد المبتدعة؛ لأنّه يراهم حالةً فرديّة، وإنْ كانت لجان دارك وضعيّةٌ سياسيّة معيّنة([22]).

أمّا الارتداد فقد ورد الحديث عنه في الكتاب المقدَّس في بعض المواضع، منها: ما جاء في الإنجيل برواية لوقا، عند الحديث عن المثل الذي ذكره عيسى× حول البذور التي وقعت من الزارع، حيث قال وهو يفسِّره: «وهذا هو المثل، الزرع كلام الله، والذين على الطريق هم الذين يسمعون، ثمّ يأتي إبليس وينزع الكلمة من قلوبهم؛ لئلا يؤمنوا فيخلصوا، والذين على الصخر هم الذين متى سمعوا يقبلون الكلمة بفرحٍ، وهؤلاء ليس لهم أصلٌ، فيؤمنون إلى حينٍ، وفي وقت التجربة يرتدّون…»([23]).

ومنها: ما في الرسالة إلى العبرانيين حيث قال: «أمّا البارّ فبالإيمان يحيا، وإنْ ارتدّ لا تُسرُّ به نفسي، وأمّا نحن فلسنا من الارتداد للهلاك، بل من الإيمان لاقتناء النفس»([24]).

ولكي نميِّز المصطلحات؛ فلا نقع في التباس التعابير، ونعرف لماذا فصل بينها توما الأكويني في بحوثه؟ يجب علينا شرح ثلاث مفردات مهمّة:

1ـ ظهور فرقة جديدة أو إحداث فرقة جديدة، وتعني أن ينفصل جماعةٌ عن وحدة الكنيسة بشكلٍ رسميّ؛ إمّا لعدم الاعتراف بمقام البابويّة أصلاً، مثل: البروتستانتيّة؛ أو عدم الاعتراف ببابويّة بابا روما، مثل: الأُرثوذكس… وهذا في نفسه ليس ارتداداً، بل هو إحداثُ فرقةٍ جديدة في الداخل المسيحي. ومع ذلك من الممكن أن يصنَّف هؤلاء ـ في بعض المواقف ـ بالمبتدعة أو الهراطقة.

2ـ البدعة، وهي إنكار تعليمٍ كَنَسيّ مسكونيّ، أو تفسيره بشكلٍ خاطئ.

3ـ الارتداد، وهو الخروج من المسيحيّة رسميّاً.

بهذا التمييز يصبح الارتداد بمستوىً أعلى من البِدْعة، يوجب ويتضمَّن الخروج من المسيحيّة؛ بينما البِدْعة ليست كذلك. أمّا الانشقاق فهو أقلّ خطورةً من الهرطقة والبِدْعة، وإنْ حاول القدّيس أُغسطين وجيروم(420م) اعتبارَ تشبُّث الفرق المنشقّة بانشقاقها تحوُّلاً نحو الهرطقة؛ لأنّ الانشقاق سرعان ما يتّجه لإيجاد تماسكٍ في ذاته، عبر بِدْعةٍ أو هرطقة يبتكرها، تفصله عن الآخرين، وتعطيه هويّته الخاصّة([25]).

إنّ هذا التمييز بين الهرطقة والبِدْعة والارتداد هو ما سنلاحظه في كلمات توما الأكويني، كما سوف نرى. كما يجب علينا أن نفهم قضيّةً مهمّة جدّاً، وهي أنّ التكوّن العَقْديّ المسيحيّ يأخذ صورته من قوانين الإيمان الأولى، مثل: قوانين إيمان الرسل، والتي ظهرت بشكلٍ أوضح مع المجامع المسكونيّة، بدءاً بمجمع نيقيّة الأوّل(325م)، وانتهاءً ـ في الحدّ الأدنى ـ بمجمع نيقية الثاني(787م)([26]).

ب ـ الأكويني ومعايير المقارنة بين الآخر الداخل ـ ديني، والآخر الخارج ـ ديني

كيف يمكن تقويم الموقف من الآخر داخل الدين الواحد، والآخر خارج إطار هذا الدين، وصولاً إلى الآخر الذي يكون خارج إطار الدين بالكلِّية، كالإلحاد، أو خارج إطار الدين السماويّ، كالوثنيّة بوصفها نوعاً من الدين والاعتقاد الماورائي؟

ثمّة نوعان من مقاربة هذا الموضوع، يشير إليهما الأكويني:

النوع الأوّل: أن ننظر في مضمون الاعتقادات والحقائق الإيمانيّة لدى كلّ فريقٍ. وفي هذه الحال فإنّ الآريوسي والنسطوري تشتمل منظومة معتقداتهما على نسبةٍ أكبر من الحقيقة الإيمانيّة، مقارنةً بالوثنيّ أو اليهوديّ، فضلاً عن الملحد إلحاداً تامّاً. وبهذه المقاربة يغدو الانقسام المذهبيّ داخل الدين الواحد محتمِلاً التواصلَ بين المذاهب أكبر من التواصل بين الأديان؛ لأنّ القواسم المشتركة بين المذاهب داخل الدين الواحد أكبر منها بين الأديان أو ما فوق الأديان.

النوع الثاني: أن ننظر في الفعل الإيماني نفسه أو في السلوك نفسه. وهنا نرى أنّ الذي دخل الإيمان المسيحي ثمّ ارتكب خطيئةَ معارضةِ الإيمان هو أفظع من الذي لم يدخل من الأساس. فكأنّ الأكويني ينظر هنا إلى نفس التجربة السلوكيّة، وليس إلى مضمون مجمل الأفكار التي يحملها هذا المبتدع أو ذاك.

ويبدو من الأكويني ترجيح الاحتكام إلى النوع الثاني من المقاربة([27])، بحَسَب ترتيبنا لهما. وهو بهذا يصنِّف المرتدّ والمبتدع والمهرطق أسوأ من الكافر الأصليّ؛ لأنّ حجم الخطيئة عنده أكبر، وإنْ كان حجم الاعتقادات التي لديه ونوعيّتها أفضل.

هذه الخطوة قد تكون منسجمةً مع ما أصّله الأكويني في قضيّة الكفر والإيمان، كما رأينا من قَبْل، لكنّ نتائجها قاسيةٌ؛ لأنّها ستكون إقصائيّةً تماماً داخل الدين الواحد، وسيكون التعامل مع الرأي الآخر داخل الدين الواحد قاسياً جدّاً، وستزداد فرص ممارسة الحرم الكنسي والتكفير والنفي وإنزال العقوبات، وهو ما كان الفضاء التاريخي والكنسي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر يعيشانه بوضوحٍ وقوّةٍ، كما ألمَحْنا آنفاً.

ج ـ دوافع الابتداع عند الأكويني بين فعل العقل وفعل الإرادة

يتحدَّث الأكويني عن هويّة البِدْعة من زاوية انتمائها لفعل العقل أو الإرادة، فلا يوافق على هذين التفسيرين بنحوٍ مطلق، وإنّما ينوِّع منطلقات المبتدعين، فيرى أنّ:

منهم: مَنْ تكون منطلقاته راجعةً إلى الإرادة؛ لأنّه تنكشف عنده حقيقة الإيمان وتعاليم المسيح، لكنّه يأبى أن يُذعن للمسيح وللحقّ. ويمثِّل الأكويني لهذا النوع من المبتدعة باليهود والوثنيّين.

ومنهم: مَنْ يتّبع المسيح ويذعن له، لكنّه يخطئ في تعيين تعاليم المسيح ومعرفتها، فهو يذعن في الحقيقة لما لقَّنه إيّاه عقله، ولا يذعن للمسيح في واقع الأمر، وبهذا ترجع البِدْعة إلى الكفر([28]). وعبر هذا الطريق يدرج الأكويني البِدْعة في مفهوم الكفر.

لكنّ الأكويني يظلّ ملتفتاً، عندما يحسم خياراته، للمساحة الخلافيّة التي يمكن وَصْم المختلفين معنا فيها بأنّهم مبتدعةٌ، فهذه المساحة هي الأمور الإيمانيّة، أي تلك العقائد الإيمانية التي بالاعتقاد بغيرها يختلّ إيمان الفرد، أو التي بالاعتقاد بشيءٍ ما يكون الاعتقاد به مفسداً لها. وبهذا فصَّل الأكويني بين الخلافات التي تقع داخل علماء الدين والمؤسَّسة الدينية عبر التاريخ ضمن مساحةٍ خلافيّة مقبولة وبين تلك التي تمسّ الأصول الإيمانيّة، وتُفضي إلى خلخلة هذه الأصول عند المبتدع([29]).

 

د ـ الموقف من المبتدع بين التشدُّد والتسامح

يخوض الأكويني بحثه في الموقف من المبتدع، وأنّه هل علينا الاحتمال له أو لا؟ ويخلص بعد رصد وجهات النظر في القضيّة، والمستندات التي يبني عليها كلّ فريقٍ…، يخلص إلى أنّ المبتدع في حدّ ذاته لمّا أفسد الإيمان استحقّ أشدّ العقاب، بما يصل إلى الموت وإصدار الحرم الكنسي في حقّه، فليس حالُه بأقلّ من حال مزيِّف الدراهم أو غيره، من الذين يرتكبون جناياتٍ دنيويّةً، فيُحْكَم عليهم بالموت؛ إذ المبتدع ارتكب أعظم الجنايات في ما فعل وقال.

لكنّ هذا التوصيف لحال المبتدع عند الأكويني لا يجعله يدعو الكنيسة لإصدار الحرم الكنسي، أو الذهاب في موقفها نحو الموت، بل يرى أنّ على الكنيسة أن تتعامل بالرحمة والشفقة والصبر مع هؤلاء، لكنّهم لو أصرُّوا بعد ذلك، وتمّ اليأس منهم، كان مصيرهم الحرم الكنسي والموت([30]).

وبهذه الوتيرة يحلِّل الأكويني الموقف من توبة المبتدع؛ فيرى أنّ قانون الرحمة الذي أمرنا الله به يدعونا لقبول توبته، لكنّ المبتدع عندما تتكرَّر منه البِدْعة والتوبة فإنّ قبوله فيه مضرّةٌ على الإيمان، ومن ثمّ لم يكن يمكن قبول توبته بعد ذلك([31]).

إنّ طريقة مقاربة الأكويني لموضوع البِدْعة والتوبة يبدو واضحاً فيها أنّه يريد إدراج مفهوم البِدْعة في مجال الجنايات والجرائم، وهو بهذا يوسِّع دائرة الجناية من جناية الإنسان على الإنسان إلى جناية الإنسان على ربّه، وهذه الجناية أعظم؛ لأنّ محلّها أخطر، والمجنيّ عليه ـ وهو الربّ والإيمان ـ أعظم حرمةً من الإنسان نفسه، وخاصّةً أنّ الإنسان ـ وكلّ موجودٍ ـ يحصل على معناه الحقيقي والعميق ـ عند الأكويني ـ من خلال علاقته بالله بوصفها علاقةً أساسيّة، كما يقول الأب نادر ميشيل([32])، وبهذا تكون العقيدة جزءاً من النظام الحقوقيّ عند الأكويني، على خلاف الأنظمة الحقوقيّة المعاصرة التي تجعل من الإنسان محوراً لها، بعيداً عن ارتباط هويّته الإنسانيّة بمستوى علاقته الأساسيّة مع الله، أو فلنقُلْ: تجعل من عالم المادّة والشهادة (إنسان ـ حيوان ـ طبيعة) محوراً لها، متجاهلةً حقوق موجوداتٍ أسمى ماورائيّة.

لكنّ إقحام الأكويني البِدْعة والانحراف العَقْدي في دائرة الجريمة والجناية يحتاج إلى تجديد النظر في قواعد العقوبة؛ فنظام العقوبات العادل يأخذ بعين الاعتبار ظروف الجاني ومسبقاته وقصده ومستوى خُبْث نيّته وغير ذلك؛ فالذي يأكل طعامَ غيره ظانّاً أنّه طعامه؛ بسبب تشابه الطعامين، لا تحكم عليه المحكمة بأكثر من تعويض قيمة الطعام المأكول لصاحبه؛ لأنّ إنزال عقوبةٍ به يظلّ غير عادلٍ ما دامت ظروف الجناية تعطيه تبريراً للخطأ الذي وقع فيه، ومن ثمّ ينفتح الباب أمام التمييز بين الجناية العَمْدية والخطئيّة؛ لأنّ ارتكاب الجريمة عالماً بجُرْمها عامداً يظلّ مختلفاً ـ في عدالة أنظمة العقوبات ـ عن ارتكابها غير عالمٍ؛ لأسباب مبرَّرة موضوعيّاً.

وأظنّ أنّ سبب تجاهل الأكويني لهذا النظام الأخلاقيّ في العقوبات ـ وهو سبب تجاهل كثيرٍ من علماء الكلام واللاهوت من المسلمين والمسيحيّين واليهود ـ هو وضوح الحقيقة الإيمانيّة عندهم، كما أشار لذلك الأكويني نفسه، وفق ما نقلناه عنه سابقاً. فهذا الوضوح الإيماني يجعل الأكويني غير مقتنعٍ بأنّ المبتدع كانت له مبرِّراته التي أوقعَتْه في الخطأ، بل يراه مجرماً؛ لأنّه من غير الممكن أن لا يكون قد رأى الحقيقة التي هي ساطعةٌ كالشمس في كبد السماء.

وهذا ما يحيل موضوع البحث هنا إلى رؤية الأكويني ـ ومعه التيّارات المدرسية الكلاسيكيّة ـ لبِنْية العقل البشري، ومستوى انكشاف الحقيقة له، وأسباب الاختلافات الفكريّة بين البشر. فالعقل الكلاسيكي يبسِّط هذه الأسباب، ويُرجعها في الغالب إلى أسبابٍ أخلاقيّة؛ فالهوى والحَسَد والتكبُّر والبُغْض وقسوة القلب وغير ذلك هي الأسباب وراء إنكار الحقيقة لا غير؛ فيما نرى أنّ الحقيقة ليست دائماً بهذا الوضوح والانكشاف للعقل البشريّ المختلفة ظروفُه الموضوعية والبيئيّة. وهنا مركز الخطأ في تحليل الأكويني لمختلف موضوعات الكفر والبِدْعة والارتداد، وانفصاله عن العقلانيّة النقديّة التي شهدتها الفلسفة الغربيّة منذ القرن الثامن عشر الميلادي. وهنا نرى أيضاً كيف أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة قد اختارَتْ ـ منذ المجمع الفاتيكاني الثاني ـ النظرَ في البِدْعة من زاويةٍ بيئيّة؛ لرصد البيئة التي يعيش فيها ذلك الشخص الذي وقع في الأخطاء الإيمانيّة هذه.

لماذا لم يستخدم الأكويني القاعدة الذهبيّة في تعامله مع المبتدعة والمرتدّين؟!

نحن نعرف أنّ العهد الجديد ـ وغيره من الكتب الدينيّة المقدّسة أيضاً ـ تحتوي بشكلٍ أو بآخر على ما بات يُعْرَف بالقاعدة الذهبيّة: «أحبِبْ لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكرَهْ له ما تكره لها». وقد استخدم الوَعْظ الدينيّ دائماً هذه القاعدة لنشر قَدْرٍ من التسامح بين الناس، والحثّ على بناء روحٍ تضحويّة، وفي الوقت عينه مليئة بحبّ الخير للآخرين، بحيث تجعل قواعد العمل للذات هي بعينها قواعد العمل مع الآخر([33]).

وقد جاءت القاعدة الذهبيّة في الكتاب المقدَّس، ففي إنجيل متّى جاء: «فكلّ ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم؛ لأنّ هذا هو الناموس والأنبياء»([34])؛ وفي إنجيل لوقا جاء: «وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضاً بهم هكذا، وإنْ أحببتم الذين يحبُّونكم فأيُّ فضلٍ لكم؛ فإنّ الخطاة أيضاً يحبّون الذين يحبّونهم»([35]).

والسؤال هنا: لماذا لم يستخدم الأكويني وغيره من اللاهوتيّين المدرسيّين هذه القاعدة في التعامل مع البِدْعة والهرطقة وأمثالهما؟

أعتقد بأنّ الجواب صار واضحاً؛ إذ:

أـ إنّ الأكويني لا يحتمل عُذْرهم إطلاقاً؛ لأنّ الحقيقة الإيمانيّة واضحةٌ.

ب ـ إنّ هذه القاعدة الأخلاقيّة ذات علاقة بالعلاقات الاجتماعيّة بين الناس، وليس بالتساهل على حساب الحقيقة الإيمانيّة. ولهذا قدَّم الأكويني حماية الإيمان على القاعدة الذهبيّة.

هـ ـ حقيقة الردّة والارتداد في تصوُّر الأكويني

يقارب الأكويني العلاقة بين مفهوم الردّة ومفهوم الكفر. فبعد أن يعرض وجهات النظر المختلفة يذهب إلى تحليل مفهوم الردّة، وكأنّه يرى فيه مفهوماً مشكِّكاً، يجمعه عنوان الرجوع عن الله سبحانه، بحيث يطلق وصف الارتداد على مستويات من أداء الإنسان. وهذه المستويات عند الأكويني ثلاثة، ترجع في حقيقتها إلى تثليث مراتب الإيمان والإقبال على الله وكيفية الاتّصال به، وذلك:

أـ الاتصال بالله عبر الإيمان.

ب ـ الاتصال بالله عبر الخضوع لإرادته والانقياد لرسومه.

ج ـ الاتصال بالله عبر النوافل المخصوصة والأمور المتعلّقة بمثل: الرهبانية والدرجات المقدَّسة.

وبناءً على المراتب الثلاثة للاتصال الإيمانيّ يمكن فهم مراتب الردّة:

أـ فالرجوع عن أصل الإيمان بالله، وهو رجوعٌ تلقائي عن المراتب الثلاثة معاً، هو معنى الارتداد عندما يُطْلَق دون تقييد.

ب ـ والرجوع عن الفرائض والتعاليم والرسوم هو ارتدادٌ أيضاً بدرجةٍ تالية.

ج ـ وكذا الرجوع عن النوافل الخاصّة ونحو ذلك.

فالثلاثة ارتدادٌ عن الإقبال على الله، لكنّ مفهوم الردّة عندما يُطْلَق ويتمّ التعامل معه عند الأكويني يتركَّز على المستوى الأعلى، الذي هو الارتداد عن أصل الإيمان، وهو بهذا المعنى يكون كُفْراً([36]).

رابعاً: الدين ومسألة الإكراه العقيدي

يتناول توما الأكويني قضيّةً بالغة الحساسية في الوسط الدينيّ والعلمانيّ معاً اليوم، وهي قضيّة الإكراه على الدين. إنّه يجمع النصوص ويوفِّق بينها بطريقةٍ احتجاجيّة واجتهاديّة ممتازة. وهو ينتهي بنا إلى التمييز الذي رأيناه دائماً عنده بين المرتدّ والمبتدع وبين الكافر؛ فهو يرى أنّ إكراه الكَفَرة من الوثنيّين واليهود ـ بحَسَب تعبيره ـ على الإيمان غيرُ صحيحٍ؛ بل له نتائج سلبيّة، وقد يُلحق الضَّرَر بالمؤمنين والقدّيسين.

هذا الموقف وضع الأكويني تلقائيّاً في محاولةٍ لتبرير الحروب المسيحيّة ضدّ غير المسيحيّين عبر التاريخ، فاستخدم تأويلاً نجده اليوم متداولاً بين بعض المفكِّرين الإسلاميّين في محاولتهم تبرير فكرة الجهاد الدَّعَوي الابتدائي، حيث رأى أنّ الحروب المسيحيّة مع الكافرين لم تكُنْ وليست لدَفْعهم إلى الإيمان؛ لأنّ الإيمان مسألةٌ قلبيّة، وسرعان ما سيعودون عنه عند رفع الإكراه عنهم، بل لوقف صدِّهم الناسَ عن الإيمان، ولوقف عدوانهم عليه.

وبهذا يقدِّم الأكويني تبريراً لاهوتيّاً وتاريخيّاً للسلوك المسيحيّ تجاه غير المسيحيّين، وهو تبريرٌ يحاول أن ينطلق من منطلقاتٍ إنسانيّة؛ لأنّ الإيمان هو حقٌّ إنسانيّ ولاهوتيّ معاً، فالصدّ عنه هو صدٌّ عن الحقيقة، وظلمٌ للناس، وإكراهٌ، ومن ثمّ فيمكن للمسيحيّ أن يُكْرِه الصادّ إكراهاً؛ كي يوقف ممارساته العدوانيّة على الحقيقة والنور، وعلى أولئك الذين يريدون أن يهتدوا بهذه الحقيقة عندما يسمعون بها.

لكنّ الأكويني لا يستخدم هذا النَّمَط من التحليل في مواجهة المبتدعين والمرتدّين. فبرغم أنّ مسألة الإكراه القلبي غير متوفّرة في القضايا الإيمانية، كما يقرّ بذلك الأكويني، إلاّ أنّه هنا يتعامل مع هذا الفريق بطريقةٍ إكراهيّة. وقد يبدو الأمر مثيراً للدهشة! لكنّ الأكويني يبرِّر هذا الإكراه والعنف ضدَّهم. ومنطلق تبريره يبدو لي راجعاً إلى مخالفتهم للتعاهدات التي قدَّموها بإيمانهم السابق؛ فهم بالإيمان قدَّموا عَهْداً لم يَفُوا به بالارتداد والبِدْعة، وبهذا تكون العقوبة على سلوكهم أكثر منها على نفس العمليّة الإيمانيّة أو الكفريّة. فالسلوك الارتداديّ هو سلوكٌ يخرق المعاهدات الإيمانيّة، فيستحقّ العقوبات البَدَنيّة أيضاً، وفق تعبير الأكويني.

لكنّ السؤال الأصعب: كيف يمكن أن يكون الانتماء للإيمان اختياريّاً لا إكراه فيه، لكنّ تَرْكَه غيرُ مسموحٍ به، ويمكن الإكراه للبقاء عليه؟!

هذا السؤال يبدو أنّه يريد أن يكرِّس نوعاً من التناقض بين فكرة نفي الإكراه الابتدائي وإثبات الإكراه البقائي! لكنّ الأكويني كان منتبهاً لهذه القضيّة بنفس المحاولة التبريريّة آنفة الذكر؛ إذ اعتبر أنّ الإكراه البقائي هو إكراهٌ أو عقوبة على التخلُّف عن الالتزام بما عاهد عليه، لا على قضيّة الإيمان في نفسها، فالنَّذْر اختياريٌّ لكن بعد النَّذْر يصبح الالتزام إجباريّاً، بحَسَب تمثيل الأكويني نفسه([37]).

هذا ما يشبه الموقف من قضية المرتدّ في الفكر الإسلاميّ الحديث، حيث يقدَّم الارتداد ـ عند بعض الباحثين([38]) ـ على أنّه بمثابة خرقٍ للتعاقد الاجتماعي، وتهديدٍ للأمن الاجتماعي الديني، ليشكِّل نوعاً من الخيانة العظمى، التي يستحقّ صاحبها عليها العقوبة.

لكنّ السؤال الذي يواجهنا ونحن نتأمّل مقاربة الأكويني هو:  هل يُعقل أن يشمل هذا التعاقد الأمور غير الاختياريّة؟ بمعنى أنّ أيّ تعاقدٍ بين طرفين تعاقداً فرديّاً أو اجتماعيّاً لا يمكن أن يُلزم أيّاً من الطرفين في الحالات التي يكونان فيها مسلوبَيْ الإرادة أو غير قادرين على الالتزام تكويناً، فلو تخلَّف أحد الطرفين عن العقد لأنّه كان قد أُغمي عليه مثلاً فلم تقع هنا جريمةٌ تستحقّ العقاب، وغاية ما يمكن أن نفعله هو ثبوت حقٍّ لأطراف العقد الآخرين في التحرُّر من مسؤوليّاتهم تجاه الشخص الذي خرق العقد، وهو ما يُسمَّى بـ (فسخ العقد لتخلُّف الشرط)، فهذا هو المنطق الطبيعيّ والأخلاقيّ للقضيّة ما دمنا قد أدخلناها في إطار تعاقدٍ والتزام.

وفي موضوع الردّة لم يدرس الأكويني مبرِّرات الارتداد. أليس من الممكن أنّ الشخص الذي ارتدّ قد فكَّر بكلّ إخلاصٍ، لكنّه أخطأ الحقيقة الإيمانيّة، ما دام الإنسان بعقله المحدود غير قادرٍ على إصابة الحقّ دَوْماً؟ وإذا أخطأ الحقيقة كيف يمكن أن نُلزمه بالإيمان حيث لا توجد مقدِّمات الإيمان في النفس؟ أليس الإلزام بالإيمان الباطنيّ بشيءٍ متفرّعاً على حصول مقدِّمات هذا الاعتقاد بالشيء نفسه؟ فلو زالت المقدِّمات من النفس كيف يمكن أن يحصل الإيمان؟ بل إنّ الأكويني بنفسه قال بأنّ الإيمان عمليّةٌ روحيّة لا يمكن إجبار الوثنيّين عليها؛ لأنّها تكمن في باطن الإنسان، وبهذا يكون الأكويني قد أخطأ الطريق عندما تعامل مع قضيّة الردّة تعاملاً اجتماعيّاً وجُرْميّاً وضمن مقولة العَقْد الاجتماعي فقط.

كلمةٌ أخيرة

تقوم إشكاليّة دراسة الآخر على فَهْم الذات؛ لأنّ فَهْم الآخر لا يكون إلاّ من خلال إجراء مقارنات مع الذات؛ بهدف بناء علاقةٍ معه أو قطيعة؛ وكذلك بهدف تحديد المسافة بين الذات وبينه، وأيُّ خطأٍ فادح في فَهْم الذات ووَعْيها يؤدّي إلى الوقوع في أخطاء تجاه بناء العلاقة مع الآخر وفَهْمه. فعلى سبيل المثال: إذا تضخّمت الأنا الجماعيّة سادَتْ علاقةٌ سلبيّة بينها وبين الآخر، وكذلك إذا تقزَّمَتْ وتقلَّصَتْ حدّ فقدان هويّتها وخصوصيّتها وثقتها بنفسها… وعلى المقلب الآخر كلّما قلَّلْنا من حجم الآخر واستهنّا به ترك ذلك تأثيراً على رؤيتنا له وتعاملنا.

والتحدّي الكبير هنا هو: هل كان الأكويني يحمل ذاتاً متضخِّمةً حتّى يتعامل مع التيّارات الفكريّة الداخليّة من الهراطقة والمبتدعة والمرتدّين بهذه الطريقة القاسية في بعض الأحيان أو لا؟ وهل كان مستخفّاً بها محتقراً لها إلى هذا الحدّ أو لا؟

وكتحدٍّ كبير أمام الأكويني هو في مدى تحديده لهويّة الذات؛ فبطريقة تعامله مع المرتدّ والمبتدع قلَّص الأكويني من مساحة الذات، وزاد من شروطها، وهو بهذا يُشظّي الذات المسيحيّة، ورُبَما لا يقوم بإنقاذها كما تخيَّلَ، بمعنى أنّ تعامله مع الارتداد والبدعة بأقسى من تعامله مع الكفر الأصلي ـ اليهود والوثنيّين ـ بحَسَب تعبيره ـ يدلّ على حجم خوفه من التيارات الداخليّة، ويكشف عن أنّه سعى لإخراجها من الذات المسيحيّة بهدف حماية العقيدة والإيمان المسيحيّين… وهذا معنى أنّ الخوف على الذات كلّما ارتفع ازداد مستوى العنف في العلاقة مع الآخر، وهذه هي مشكلة التكفير في الأديان؛ لأنّها تقلِّص حجم الذات عمليّاً، في الوقت الذي تتوهَّم فيه أنّها بذلك تقوّيها، وهنا يقع التصادم بين إرادة خلوص الدين من الشوائب وإرادة احتفاظه بقوّته وسَعَته.

ولا بأس أن أُشير أخيراً أيضاً إلى أنّ كتاب (الخلاصة اللاهوتيّة) يكشف عن مساحة اطّلاع الأكويني على الآخر المسلم، على سبيل المثال؛ إذ يبدو واضحاً أنّ معلوماته مبتسرةٌ ومنقوصة، وأنّه لم يتعرَّف على الآخر المسلم من زاوية اللاهوت الإسلامي، بل تعرَّف عليه عبر فلاسفة المسلمين فحَسْب، كما يؤكِّد ذلك المفكِّر اللاهوتي المعاصر هانس كونج([39]). ورغم أنّ الحروب الصليبيّة كانت قد وقعت والتجارات والعلاقات قد بدأت بالفعل بين الشرق والغرب، لكنّ الأكويني ـ وهو يرسم خارطة تصوُّراته عن الآخر ـ لم يحصل لديه بوضوحٍ أيُّ تأثيرٍ يُذْكَر لصورة هذه العلاقة وهذا الانفتاح بين الشرق والغرب، إلاّ عبر التراث الفلسفيّ، وليس الدينيّ. وهذا يعني أنّ مرجعيّات معرفة الآخر المسلم عند الأكويني كانت ضيّقةً، فضلاً عن مرجعيّات معرفته بالآخر في الشرق عموماً.

إنّ التوماويّة الجديدة بحاجةٍ إلى تعديل الكثير من أفكار توما الأكويني في موضوع العلاقة مع الآخر. وقد خطَتْ خطواتٍ كبيرة في هذا الصدد خلال القرن الماضي، وهي بحاجةٍ في الوقت عينه إلى أن تستلهم من أفكار الأكويني العديد من عناصر التسامح التي رأيناها. وأختم كلامي هنا بما قاله الدكتور روان ويليامز ـ رئيس أساقفة الكنيسة الأنجليكانيّة في إنجلترا ـ، وهو يحاول أن يوجِّه خطابه للأصوليّة المسيحيّة، مستيعناً بخطاب تيم وينتر الذي وجَّهه للراديكاليّين المسلمين، حيث قال: هل نسي الله أن يكون رؤوفاً؟!([40]).

الهوامش

(*) أستاذٌ في الحوزة والجامعة، حائزٌ على دكتوراه في مقارنة الأديان واللاهوت المسيحيّ. من لبنان.

(**) أستاذٌ جامعيّ، ورئيس كليّة مقارنة الأديان / اللاهوت المسيحيّ في جامعة المذاهب والأديان. من إيران.

(***) أستاذٌ جامعيّ، ورئيس جامعة الأديان والمذاهب في إيران.

([1]) انظر: عظيم أميري ومحمد حسين طاهري، بررسي ونقد انگاره ارتداد در مسيحيت كاتوليك، مجلّة معرفت أديان، السنة الرابعة، خريف عام 2013م، العدد 16: 78.

([2]) فادي ضو، التربية على الثقافة الدينيّة في السياق المدرسي اللبناني المتعدّد، من النظريّة إلى التطبيق: 1 ـ 2.

([3]) انظر: ميلاد ذكي غالي، الله في فلسفة القدّيس توما الأكويني: 9، توزيع المعارف، الإسكندريّة، مصر.

([4]) انظر: الخلاصة اللاهوتيّة، ج2، ق2، المبحث10، فصل1 (مج 5: 487 ـ 488)، ترجمه من اللاتينيّة إلى العربيّة: المطران بولس عوّاد، المطبعة الأدبيّة، بيروت، لبنان، 1908م.

([5]) انظر: المصدر السابق، ج2، ق2، المبحث10، فصل2 (مج 5: 489 ـ 490).

([6]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: إسماعيل بن حماد الجوهري، الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربيّة 2: 807 ـ 808، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطّار، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط4، 1987م؛ وأحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة 5: 191 ـ 192، تحقيق وضبط: عبد السلام محمّد هارون، نشر مكتب الإعلام الإسلامي، إيران، 1404هـ.

([7]) انظر: الخلاصة اللاهوتيّة، ج2، ق2، المبحث10، فصل3 (مج 5: 490 ـ 492).

([8]) انظر: المصدر السابق، ج2، ق2، المبحث10، فصل4 (مج 5: 492 ـ 494). يشار إلى أنّ الأكويني بحث بشكلٍ مفصّل في الفضائل الإلهيّة (الإيمان، الأمل، المحبّة)، وهي الفضائل التي يمنحها الله للإنسان المؤمن من حيث هو مؤمنٌ.

([9]) انظر: أحمد رضا مفتاح، دور الولاية والعمل في النجاة، مجلّة نصوص معاصرة، لبنان، السنة الثالثة عشرة، شتاء عام 2018م، العدد 49: 186.

([10]) انظر: الخلاصة اللاهوتيّة، ج2، ق2، المبحث10، فصل9 (مج 5: 503 ـ 505).

([11]) انظر: المصدر السابق، ج2، ق2، المبحث10، فصل10 (مج 5: 505 ـ 508).

([12]) انظر: المصدر السابق، ج2، ق2، المبحث12، فصل2 (مج 5: 526 ـ 527).

([13]) انظر: المصدر السابق، ج2، ق2، المبحث10، فصل11 (مج 5: 508 ـ 510).

([14]) انظر: المصدر السابق، ج2، ق2، المبحث10، فصل7 (مج 5: 498 ـ 500).

([15]) انظر: المصدر السابق، ج2، ق2، المبحث13، فصل1 (مج 5: 528 ـ 530).

([16]) انظر: المصدر السابق، ج2، ق2، المبحث13، فصل2 ـ 3 (مج 5: 530 ـ 533).

([17]) بعض الأديان ـ كالهندوسيّة ـ تتمتّع بقدرةٍ فائقة على تقبُّل تحوّلات داخليّة فيها، فهي غير حسّاسة من مفهوم البِدْعة غالباً، بل تعتبر أيّ صيغةٍ جديدة أو سلوك جديد أو عقيدة جديدة بمثابة طارئٍ قابل للهَضْم والاستيعاب ضمن المنظومة العامّة. ولهذا شهدت الهندوسيّة تحوُّلاتٍ تاريخية رهيبة عبر التاريخ، واتّسمت بنسبةٍ عالية من التعدُّدية، حتى أنّ طريق الصلاح متعدِّدٌ فيها. ولمزيد اطّلاع انظر: عبد الرحيم سليماني، أديان زنده جهان: 37، نشر كتاب طه، إيران، ط1، 2015م.

([18]) الكتاب المقدّس، العهد الجديد، رسالة بولس الرسول إلى تيطس، الإصحاح الثالث، الآيات:    10 ـ 11.

([19]) انظر: ميلاد ذكي غالي، الله في فلسفة القدّيس توما الأكويني: 2 ـ 3.

([20]) انظر: جون ر. هينليس، معجم الأديان، الدليل الكامل للأديان العالميّة: 301 ـ 302، ترجمة: هاشم أحمد محمّد، مراجعة وتقديم: عبد الرحمن الشيخ، نشر: المركز القومي للترجمة، القاهرة، مصر، ط1، 2010م.

([21]) ج. ويلتر، الهرطقة في المسيحيّة، تاريخ البدع الدينيّة المسيحيّة: 15، ترجمة: جمال سالم، دار التنوير ودار الفارابي، بيروت، لبنان، ط1، 2007م.

([22]) المصدر السابق: 17 ـ 18.

([23]) الكتاب المقدّس، العهد الجديد، إنجيل لوقا، الإصحاح الثامن، الآيات: 11 ـ 13.

([24]) الكتاب المقدّس، العهد الجديد، الرسالة إلى العبرانيين، الإصحاح العاشر، الآيات: 38 ـ 39.

([25]) انظر: ج. ويلتر، الهرطقة في المسيحيّة، تاريخ البدع الدينيّة المسيحيّة: 18 ـ 20؛ وعظيم أميري ومحمد حسين طاهري، بررسي ونقد انگاره ارتداد در مسيحيت كاتوليك، مجلّة معرفت أديان، العدد 16: 80 ـ 83، 94.

([26]) راجع، مري جو ويور، در آمدي به مسيحيّت: 445 ـ 455، ترجمه إلى الفارسيّة: حسن قنبري، نشر جامعة الأديان والمذاهب، قم، إيران، ط2، 2014م.

([27]) انظر: الخلاصة اللاهوتيّة، ج2، ق2، المبحث10، فصل6 (مج 5: 497 ـ 498).

([28]) انظر: المصدر السابق، ج2، ق2، المبحث11، فصل1 (مج 5: 514 ـ 516).

([29]) انظر: المصدر السابق، ج2، ق2، المبحث11، فصل2 (مج 5: 516 ـ 519).

([30]) انظر: المصدر السابق، ج2، ق2، المبحث11، فصل3 (مج 5: 519 ـ 521).

([31]) انظر: المصدر السابق، ج2، ق2، المبحث11، فصل4 (مج 5: 521 ـ 523).

([32]) انظر: نادر ميشيل، مدعوّون إلى الحريّة، دراسة في أسس الأخلاق المسيحيّة: 36، دار الشروق، لبنان، ط3، 2007م.

([33]) حول القاعدة الذهبيّة ووجودها في الأديان المختلفة راجع: محمّد كريمي لاسكي، وأحد فرامرز قراملكي، أديان بزرگ، قاعده زرّين وديگري، مجلّه پژوهش نامه أخلاق، السنة الثامنة، صيف عام 2015م، العدد 28: 75 ـ 98.

([34]) الكتاب المقدّس، العهد الجديد، إنجيل متّى، الإصحاح السابع، الآية: 12.

([35]) الكتاب المقدّس، العهد الجديد، إنجيل لوقا، الإصحاح السادس، الآية: 31.

([36]) انظر: الخلاصة اللاهوتيّة، ج2، ق2، المبحث12، فصل1 (مج 5: 523 ـ 525).

([37]) انظر: المصدر السابق، ج2، ق2، المبحث10، فصل8 (مج 5: 500 ـ 503).

([38]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: عبد الكريم الموسوي الأردبيلي، أحكام الارتداد، دراسةٌ مستأنفة على ضوء القرآن والسنّة، تقرير: السيد جواد ورعي، ترجمة: خالد توفيق، مجلّة الحياة الطيبة، لبنان، السنة الثالثة، ربيع عام 2002م، العدد 9: 111 ـ 152.

([39]) انظر: هانس کونگ، متفكِّران بزرگ مسيحي: 155، (الترجمة الفارسيّة)، طبع جامعة الأديان والمذاهب، إيران، ط2، 2011م.

([40]) انظر: روان ويليامز، الإسلام والمسيحيّة والتعدّدية: 36، ترجمة: جاسر عودة، مراجعة وتحرير: بسّام الساعي، مكتبة الشروق الدوليّة، مصر، ط1، 2010م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً