أحدث المقالات

د. محمد كاظم شاكر(*)

ترجمة: حسن علي مطر

مقدّمة ــــــ

يعتبر الشيخ محمد هادي معرفت من الباحثين والمحققين في الشأن القرآني، وكان منظّراً في موضوع تأويل القرآن، وفي الوقت نفسه ناقداً لنظريات الآخرين في هذا الشأن أيضاً. لقد تعرّض سماحته لموضوع التأويل في العديد من كتبه. وعلى الرغم من أن الجانب الأكبر من هذا الموضوع يأتي على سبيل التكرار، ولكن قد نصادف بعض الاختلاف في بعض الموارد، ويعود هذا الاختلاف في الغالب إلى الإجمال والتفصيل؛ وقد يكون تغييراً في الرأي.

إن المسار التاريخي لتناول مبحث التأويل في كتبه يأتي وفق الترتيب التالي:

1ـ التمهيد في علوم القرآن([1]).

2ـ علوم قرآني([2]).

3ـ التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب([3]).

4ـ تفسير ومفسران([4]).

5ـ التفسير الأثري الجامع([5]).

6ـ التأويل في مختلف المذاهب والآراء([6]).

في الكتاب الأخير نواجه تغيّراً في آراء المؤلف. وسوف نتناول في هذا المقال جميع المسائل التي تناولها سماحته في مجال التأويل، حيث نستعرض المباحث الرئيسة في هذا المقال ضمن عدّة أقسام:

1ـ تحليل المعنى اللغوي للتأويل.

2ـ تطبيقات مفردة التأويل في القرآن الكريم.

3ـ تأويل القرآن.

ونسعى في هذا المقال، ضمن تبويب آراء الشيخ معرفت في ما يتعلق بالمحاور المتقدّمة، إلى تحليلها ونقدها. على أمل أن يشكل هذا المقال خطوة إلى الأمام في مسار تسليط الضوء على هذا الموضوع القرآني الهام.

المبحث الأول: معنى التأويل بالالتفات إلى جذور هذه الكلمة ــــــ

واضح أن التأويل مشتقّ من الـ «أَوْل». إلا أن هناك اختلافاً بين اللغويين في معنى الأَوْل.

يقول الشيخ معرفت في «التمهيد في علوم القرآن»: «التأويل، وهو تفعيل من الأَوْل، بمعنى الرجوع»([7]).

وهو ما جاء في جميع كتب اللغة تقريباً.

ولكن السؤال: ما هو نوع الرجوع الذي يُطلق عليه تأويل؟ وإذا كان التأويل يعني الرجوع فما هو موضع هذا الرجوع؟ هذا هو مكمن الغموض في تعريف التأويل بـ «الرجوع».

وقال الشيخ معرفت، في بيان معنى الرجوع، في كتاب «التمهيد في علوم القرآن»: «لأن المؤوَّل عندما يُخرّج للمتشابه وجهاً معقولاً هو آخذٌ بزمام اللفظ ليعطفه إلى الجهة التي يُحاول التخريج إليها»([8]).

وقال في كتابه «التأويل في مختلف المذاهب والآراء»: «التأويل من (الأَوْل)، وهو الرجوع إلى الأصل»([9]). وعليه فإن تأويل الشيء يعني إرجاعه إلى موضعه ومصدره الرئيس، وتأويل اللفظ المتشابه يعني توجيه ظاهره بحيث يعود إلى معناه الرئيس([10]).

وقال في كتابه «التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب»: «التأويل من الأَوْل، وهو الرجوع إلى حيث المبدأ؛ فتأويل الشيء إرجاعه إلى أصله وحقيقته، فكان تأويل المتشابه توجيه ظاهره إلى حيث مستقرّ واقعه الأصيل»([11]).

وأما في كتاب «التأويل في مختلف المذاهب والآراء» ـ والذي هو من كتبه الأخيرة ـ، فعلى الرغم من تفسيره التأويل بمعنى الرجوع إلى الأصل، إلاّ أنه قال في بيان الفرق بين «الأَوْل» و«الرجوع»: «والفرق بين (الأَوْل) و(الرجوع) أن الرجوع مأخوذ فيه العود إلى حيث بدأ، يُقال: رجع، أي عاد إلى موضعه حيث كان. أما (الأَوْل) فهو الانتهاء إلى الشيء الذي هو أصله وحقيقته، من غير أن يُلحظ في مفهومه العودة. وعليه فالتأويل: إرجاعٌ لظاهر الكلام أو العمل إلى حيث حقيقته وأصله المراد منه»([12]).

نقدٌ ــــــ

هناك عدة نقاط في بيان الشيخ معرفت بشأن تعريف التأويل، ويمكن بيانها كما يلي:

الأولى: سعى سماحته في التعريفات التي أفادها إلى تسليط مزيد من الضوء على المفهوم العام لـ «الرجوع»، وتحديد المراد منه.

الثانية: لا توجد وحدة في الرأي عند بيان معنى الرجوع في مختلف كتبه؛ فتارةً تراه يفسّر الرجوع بـ «الرجوع إلى الأصل»؛ وتارةً يفسّره بـ «الرجوع إلى المبدأ».

ويمكن رفع هذا الإشكال إذا كان مراده من الأصل هو «الابتداء». وهذا ما يؤيّده بكلامه في كتاب «التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب».

الثالثة: لقد عمد سماحته في كتاب «التأويل في مختلف المذاهب والآراء» إلى القول بوجود فرق بين «الأَوْل» و«الرجوع»، مع أنه لم يبيّن مصدره اللغوي في بيان هذا الفرق، هذا من ناحيةٍ؛ ومن ناحيةٍ ثانية إن الفرق الذي يذكره يخالف التعريف الذي يقدّمه في كتاب «التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب»، إذ يقول: «هو الرجوع إلى حيث المبدأ». إلاّ أنه يقول في بيان الفرق بين «الرجوع» و«الأَوْل»: الرجوع بمعنى العود إلى الابتداء، في حين أن الأول هو الانتهاء إلى الشيء الذي هو أصله وحقيقته. ومن ناحية أخرى فإنه بعد أن اعتبر الأَوْل غير الرجوع تراه مباشرة يعيد معنى التأويل في شروحه التالية إلى الرجوع والإرجاع.

رأيٌ ــــــ

لقد كان للشيخ معرفت في بيان المعنى اللغوي للتأويل في مسار أبحاثه التي ذكرها في كتبه سيرٌ إيجابي. ولكنّ بيانه، على الرغم من ذلك ـ كما سبق أن أسلفنا ـ، لا يخلو من الغموض والاضطراب أيضاً.

وفي ما يلي نخوض في كلمات اللغويين لرفع هذا الغموض:

لقد ذهب أحمد بن فارس في كتاب «مجمل اللغة» إلى تفسير (الأَوْل) بالرجوع. إلا أنه في كتاب (معجم مقاييس اللغة) ذكر تعريفاً آخر، إذا لم نقُلْ: إنه مختلف بالكامل، إلا أنه بيّن معنى الرجوع بشكلٍ أوضح، إذ يقول: «الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر، وانتهاؤه»([13]).

وعليه فإن الأمر الهام في البين هو أن ابن فارس يذكر لـ «الأَوْل» معنيين متضادّين. وعليه يمكن ـ بالنظر إلى كلام ابن فارس ـ القول بأن الرجوع والإرجاع لا يرتبطان بمادّة (الأَوْل)، بل هما من باب التفعيل، بمعنى أن التأويل هو إرجاع إلى الابتداء، أو هو إرجاع إلى الانتهاء. ويمكن أن نرى هذا الأمر بصيغةٍ أخرى في كلمات غيره من اللغويين أيضاً.

وطبقاً لكلام مجد الدين الفيروزآبادي، صاحب كتاب «القاموس المحيط»، ليس هناك وحدة في الرأي بين اللغويين في القول بأن التأويل مشتق من «الأَوْل بمعنى الانتهاء». قيل: التأويل إبداءُ عاقبة الشيء. واشتقاقه من الـ «مآل» بمعنى المرجِع والعاقبة. فتأويل الآية ما تؤول إليه من معنى وعاقبة. وقيل: اشتقاقه من لفظ الـ «أَوَّل». وهو صرف الكلام إلى أوَّله([14]). وقال في محاولة منه للجمع بين هذين القولين: «وهذان القولان متقاربان. ولهذا قيل: أَوَّلُ غرض الحكيم آخرُ فعله»([15]).

ولو أمعنا النظر في كلمات سائر اللغويين والمفسّرين سنقف على ذات هذين المعنيين، حيث نواجه في هذه التعاريف عادة كلمتين رئيستين، وهما: «الرجوع» و«الصيرورة». والأوّل يدل على العودة إلى المبدأ، والثاني يدل على الذهاب إلى الغاية والمنتهى.

وفي ما يلي ننقل كلام بعض اللغويين والمفسّرين:

قال ابن منظور الأفريقي في كتاب «لسان العرب»: «قال ابن الأثير: هو من آلَ الشيءُ يَؤُول إلى كذا أي رَجَع وصار إليه. وقال أبو عبيد: التأْويل: المرجِع والمصير مأخوذ من آل يؤول إلى كذا، أي صار إليه، وأَوَّلته صَيَّرته إليه. قال أبو منصور: والذي نعرفه أن يقال آل الشرابُ إذا خَثُر وانتهى بلوغُه ومنتهاه من الإسكار»([16]).

وقال الطبري: «أصلُه [التأويل والتأوّل] من آلَ الشيءُ إلى كذا، إذا صار إليه»([17]).

وقال الفضل بن الحسن الطبرسي: «والتأويل: التفسير، وأصله المرجع والمصير… وقول العرب: تأوّل الشيء إذا انتهى»([18]).

بالالتفات إلى هذه الكلمات نؤكّد على ما قاله ابن فارس، من أن مادة الـ «أول» على أصلين: الابتداء؛ والانتهاء. وعندما تدخل هذه المادة في باب التفعيل تشتمل هذه المادة أحياناً ـ بما يتناسب مع المراد من أحد هذين المعنيين ـ على عنصر الرجوع أو الصيرورة. فإنْ كان الأَوْل بمعنى الابتداء كان التأويل بمعنى الرجوع إلى الأصل والابتداء. وإنْ كان الأَوْل بمعنى الانتهاء كان التأويل بمعنى الصيرورة.

وهذه هي النتيجة التي وصل إليها الدكتور نصر حامد أبو زيد من خلال دراسته للموارد التطبيقية لمفردة التأويل، حيث قال: إن للتاويل معنيين: الأوّل: الرجوع إلى الأصل؛ والثاني: الوصول إلى الغاية. وقال في بيان الوجه الجامع بين هذين المعنيين: إن التأويل عبارة عن حركة الشيء أو الظاهرة إما إلى ناحية الرجوع إلى الأصل والمصدر، أو إلى ناحية الوصول إلى الغاية والعاقبة([19]).

وهنا نصل ثانية إلى كلمة الفيروزآبادي التي ذكرها في مقام بيان الجمع بين الاستعمالين المذكورين، حيث قال: «أولُ غرض الحكيم آخرُ فعله».

ويمكن بيان خلاصة كلمات اللغويين بما يلي:

المبحث الثاني: استعمالات التأويل في القرآن ــــــ

يقول الشيخ معرفت في كتاب (التمهيد في علوم القرآن): «الكلام في حقيقة التأويل أنه يُستعمل في موردين: الأول: في توجيه «المتشابه»…؛ والثاني: في المعنى الثانوي للكلام، المُعبّر عنه بـ (البطن)…». ثم استطرد سماحته قائلاً: «والتأويل بالمعنى الأول خاصّ بالآي المتشابهة فحَسْب…؛ وبالمعنى الثاني عامّ لجميع آي القرآن»([20]).

يتضح من كلامه هذا أن المعنى الأول من هذين المعنيين هو الأصل، وقد استعمل في القرآن أيضاً؛ وأما المعنى الثاني فقد اصطلح لاحقاً، ولم يُستعمل إلا في روايات وكلام السلف([21]). ثم أشار سماحته إلى تأويل الرؤيا أيضاً، حيث تستعمل في القرآن في ثمانية مواضع، ثم قال: إن هذا المعنى من التأويل يعود في حقيقته إلى المورد الثاني؛ فتأويل الرؤيا في واقع الأمر معنى خفيّ وباطني لا يفهمه إلا مَنْ كان أهلاً له. وبعد أن ذهب سماحته إلى أن التأويل يستعمل في القرآن بمعنى «العاقبة والمآل» يستنتج قائلاً: «إن للتأويل أربعة معان، استعملت في سبعة عشر موضعاً من القرآن»([22]).

والمبهم في كلام سماحته في «التمهيد» أنه يصرّح في بداية الأمر بأن التأويل على معنيين، بَيْدَ أننا نرى بعد ذلك أنه يرقى به إلى أربعة معان! ولكنه بطبيعة الحال قد بيّن أن تأويل الرؤيا يعود إلى المعنى الثاني، ولكنه لم يوضّح المعنى الذي يعود إليه التأويل بمعنى «المنتهى والعاقبة».

الأمر الآخر الذي لا يمكن أن يكون قد صدر عنه إلا سهواً، أنه قال بأن القرآن قد استعمل التأويل في هذه المعاني الأربعة. ولكنّه طبقاً للإحصائية التي يقدّمها بنفسه للموارد السبعة عشر الواردة في القرآن، على النحو التالي: ثمان مرات في «تأويل الرؤيا»، وخمس مرّات في «مآل الأمر»، وأربع مرّات في «توجيه المتشابه». وعليه لا يبقى هناك من مورد لاستعمال التأويل في «المعنى الباطني».

قال الشيخ معرفت في كتاب (التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب): «جاء استعمال لفظ «التأويل» في القرآن الكريم على ثلاثة وجوه:

1ـ تأويل المتشابه، بمعنى توجيهه حيث يصحّ ويقبله العقل والنقل.

2ـ تعبير الرؤيا.

3ـ مآل الأمر وعاقبته([23]).

وبعد أن عمد سماحته في كتاب (التأويل في مختلف المذاهب والآراء) ـ بعد بيان استعمالات التأويل الثلاثة في القرآن الكريم، وكذلك التأويل بمعنى البطن الوارد في كلمات السلف والروايات ـ إلى إعادة جميع معاني التأويل إلى معنىً واحد جامع، وهو: «التفسير الكامل للشيء»، وذلك إذ يقول: «فالتأويل بجميع التعابير الواردة فيه، سواء أكان بمعنى توجيه المتشابه، أم الأخذ بمفهوم الآية العام، أو تعبير الرؤيا، أو عاقبة الأمر ومآله، كلّ ذلك يرجع إلى معنى واحد، هو تفسير الشيء تفسيراً يكشف النقاب عن وجه المراد تماماً وكمالاً، ولا يَدَعُ لطروّ الشكّ أو الشبهة مجالاً»([24]).

وعلى هذا الأساس فإن الشيخ معرفت يقسّم استعمالات التأويل في القرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام، وهي:

أـ تأويل المتشابه الأعمّ ممّا كان قولاً أو فعلاً.

ب ـ تأويل الرؤيا.

ج ـ التأويل بمعنى العاقبة والمآل.

وفي ما يلي نبيِّن كل واحد من هذه الموارد الثلاثة ـ كما وردت في كلام سماحته ـ، ثم نعمل بعد ذلك على ذكر بعض النقاط في نقد هذا الكلام وتحليله.

تأويل المتشابه ــــــ

قال الشيخ معرفت في بيان هذا المعنى من التأويل: «يُستعمل التأويل في مورد المتشابه، سواء أكان كلاماً متشابهاً أو عملاً مثيراً للريب. من هنا يكون المؤوّل بصدد دفع الشبهة، وإرجاع الظاهر المثير للشبهة إلى أصله (أي وجهه الصحيح)»([25]).

إن هذا الكلام من الشيخ معرفت يقوم على اعتباره مفهوم الشبهة دخيلاً في المتشابهات، إذ يقول: التشابه من «الشبه»، اسم مصدر، بمعنى (المماثل والنظير)، أو مصدر، بمعنى (المثيل). وإن هذا التشابه يثير الشبهة؛ لامتزاج الحقّ بالباطل، من هنا يظهر الكلام أو الفعل الحقّ وكأنه باطل([26]).

يقول سماحته في بيان هذا الأمر: إن التشابه، مضافاً إلى وضعه حجاباً على وجه الكلام أو الفعل، يوجب الشبهة أيضاً. وبذلك فإن كل متشابه يحتاج إلى تفسير يرفع الغموض عنه، ويحتاج إلى تأويل أيضاً؛ كي يدفع الشبهة عنه. من هنا فإن التأويل نوع من التفسير؛ إذ مضافاً إلى رفع الإبهام والغموض، يدفع الشبهة أيضاً([27]). ثم أشار إلى العلاقة بين التفسير والتأويل قائلاً: بناءً على ذلك يكون التأويل أخص من التفسير. فكلما كان هناك تأويل كان هناك تفسير أيضاً. إن التفسير يكون في مورد المُبْهَمات الموجودة في المحكم والمتشابه على السواء، أما التأويل فيكون في المتشابه فقط، والذي ينطوي على الإبهام والشبهة أيضاً([28]).

نقدٌ ورأي ــــــ

صحيح أن كلمة التأويل قد استعملت في مورد الآيات المتشابهة، وفي مورد أفعال الخضر×، ولكنْ هل الوجه الجامع بين هذه الاستعمالات هو أن قولاً أو فعلاً أدى إلى الشبهة، وأن التأويل يعني دفع الشبهة؟ وهنا نبيّن مسألتين:

المسألة الأولى: إن مفردة التشابه أو المتشابه لا تستلزم مفهوم «الشبهة». يبدو أن الشيخ معرفت قد فهم هذا الشيء من عبارة ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ (آل عمران: 7). إن مفردة «المتشابه» و«التشابه» إنما تدلان على وجود تشابه بين شيئين، وأن ذلك يؤدّي في الحدّ الأقصى إلى الوقوع في الاشتباه، بَيْدَ أن هذا لا يعني أن الشيء إذا أشبه شيئاً آخر، أو إذا أدّى إلى الاشتباه، فإنه يؤدي بالضرورة إلى الشبهة. وحتى في موارد الغموض، فإن الغموض غالباً ما يؤدي إلى الاشتباه. ثم إنه يستنتج أن التأويل يعني دفع الشبهة، وهذا الاستنتاج ليس صحيحاً على الإطلاق؛ فإن ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ رغم ابتغائهم الفتنة يسعون إلى التأويل أيضاً، إذ يقول تعالى: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾. ولكن هل يمكن القول: إنهم يسعون إلى دفع الشبهة أيضاً؟! ومن ناحيةٍ أخرى لا يمكن اعتبار معنيين للتأويل في هذه الآية، بأن يكون معنى التأويل في المورد الأول شيء، وفي المورد الثاني شيء آخر؛ فإن سياق الآية لا يتحمل هذا التفريق في المعنى. وعليه يجب القول: إن دفع الشبهة ليس جزءاً من مفهوم التأويل. بل التأويل في هذه الآية ـ مثل: الكثير من موارد استعمال هذه الكلمة في الروايات ـ بمعنى «مراد المتكلم» من كلامه. وعلينا أن نضيف أن مفردة التأويل ـ مثل: التفسير والكثير من الكلمات الأخرى ـ تُستعمل في الأعمّ من الصحيح والفاسد. وعليه كما يمكن تقسيم التفسير إلى قسمين: تفسير صحيح؛ وتفسير خاطئ، كذلك التأويل ينقسم إلى قسمين: تأويل صحيح؛ وتأويل فاسد. من هنا نرى أن تأويل المتشابهات في هذه الآية السابعة من سورة آل عمران يُنسب إلى الله، كما يُنسب إلى أهل الزيغ أيضاً.

المسألة الثانية: إن كون الكلام أو الفعل متشابهاً أو غير متشابه لا دخل له في معنى التأويل. إن التأويل الذي استعمله الشيخ معرفت من باب دفع الشبهة إنما هو في حقيقته بيان لمراد المتكلم من كلامه أو دافع الفاعل في فعله، وليس دفعاً لشبهة. وقد ورد استعمال هذا المعنى من التأويل في الروايات في مورد الفعل، رغم عدم وجود كلام في الشبهة أيضاً، بل استعمل في بيان مراد الله من آيات القرآن.

وفي ما يلي نسوق عدداً من الروايات في هذا الشأن:

جاء في الحديث أن معاوية قال لابن عباس: «إنا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته؛ فكفّ لسانك، يا بن عباس، واربع على نفسك. قال: فتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال: لا. قال: فتنهانا عن تأويله؟ قال: نعم. قال: فنقرأه ولا نسأل عمّا عنى الله به»([29]). حيث ورد إطلاق التأويل في هذه الرواية على مراد الله.

وفي روايةٍ أخرى، عن حذيفة بن اليمان، قال: «كنتُ والله جالساً بين يدي رسول الله‘ وقد نزل بنا غدير خمّ، وقد غصّ المجلس بالمهاجرين والأنصار، فقام رسول الله‘ على قدميه وقال: …أيها الناس مَنْ كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، فقال رجلٌ من عرض المسجد: يا رسول الله، ما تأويل هذا؟ فقال: مَنْ كنت نبيّه فهذا عليّ أميره»([30]). واضح أن مراد السائل من «التأويل» هنا هو ما يعنيه ويريده رسول الله‘ من كلمة «المولى».

وجاء في الحديث: «جاء أمير المؤمنين× إلى الأشعث بن قيس، يعزّيه بأخٍ له يقال له عبد الرحمن، فقال له أمير المؤمنين×: إنْ جزعت فحقّ الرحم أتيت، وإنْ صبرت فحقّ الله أدّيت، على أنك إنْ صبرت جرى عليك القضاء وأنت محمودٌ، وإنْ جزعت جرى عليك القضاء وأنت مذمومٌ. فقال له الأشعث: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال أمير المؤمنين×: أتدري ما تأويلها؟ فقال الأشعث: لا، أنت غاية العلم ومنتهاه. فقال له×: أما قولك: إنا لله فإقرارٌ منك بالملك؛ وأمّا قولك: وإنا إليه راجعون فإقرارٌ منك بالهلاك»([31]).

إن المدلول المطابقي لقوله تعالى: ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ﴾ (البقرة: 156) هو أننا مملوكون لله وإليه راجعون، بَيْدَ أن لازم كوننا مملوكين لله أن الله مالك لنا، وإن لازم الرجوع إلى الله ترك هذه الدنيا. وعليه فإن المعنى الذي جاء في الرواية بوصفه تأويلاً لهذه الآية الكريمة هو مدلولها الالتزامي.

وعن الإمام الكاظم× في تفسير الآية 61 من سورة آل عمران [آية المباهلة]: «قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران: 61)… لم يدّع أحدٌ أنه أدخل النبيّ‘ تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلاّ علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين^، فكان تأويل قوله عزَّ وجلَّ: ﴿أَبْنَاءَنَا﴾ الحسن والحسين، ﴿وَنِسَاءَنَا﴾ فاطمة÷، ﴿وَأَنْفُسَنَا﴾ عليّ بن أبي طالب×»([32]).

مع الأخذ بنظر الاعتبار استعمال التأويل في هذه الروايات، التي أطلقت على مراد المتكلم من كلامه الأعمّ من المعنى المطابقي أو الالتزامي أو الحقيقي أو المجازي أو المصاديق، يمكن لنا أن نستنتج أن الآيات المتشابهة لا دخل لها باستعمال كلمة التأويل. وبعبارةٍ أخرى: يمكن القول: إن آيات القرآن لها تأويل، سواء أكانت متشابهة أم لا. غاية ما هنالك أن تأويل متشابهات القرآن لا يتسنّى لكل شخص، بل هو من مختصات الله والراسخين في علم التأويل.

تأويل الرؤيا ــــــ

إن استعمال كلمة التأويل في مورد الرؤيا أمر واضح وبيِّن. وقد ورد استعمالها في سورة يوسف ثمان مرّات. ومن ذلك عندما رأى صاحباه في السجن مناماً، وطلبا منه تفسيره، قائلين: ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ (يوسف: 36). وهكذا الأمر بالنسبة إلى الآيات الأخرى([33]).

مآل الأمور والعاقبة ــــــ

ذهب الشيخ معرفت إلى القول بأن التأويل يعني الانتهاء إلى مآل الأمر وعاقبته المتوقّعة([34]). وقد عمد في كتاب «التمهيد في علوم القرآن» إلى حمل خمسة موارد من استعمال القرآن للتأويل على هذا المعنى([35]). وقد أشار إلى هذه المسألة في مؤلفاته الأخرى أيضاً، ولكنه طرح في بعض كتبه احتمالاً آخر، وصار إلى تقويته. فقد احتمل في كتاب «التفسير والمفسرون» أن عبارة ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾، في الآية 17 من سورة الإسراء، والآية 83 من سورة النساء، تعني: «أوجه تفسيراً، وأتقن تخريجاً للمعنى المراد»([36]). وفي كتاب «التأويل في مختلف المذاهب والآراء» ذهب سماحته إلى القول بأن التأويل في الآية 39 من سورة يونس يعني التبيين والتفسير([37]).

تحليلٌ آخر في مورد استعمال مفردة التأويل في القرآن ــــــ

ذكرنا في تحليل المعنى اللغوي للتأويل رأي ابن فارس في استعمال هذه الكلمة في أصلين. وقد أيَّدناه في ذلك، بعد مقارنته بكلام سائر اللغويين الآخرين، بمعنى أننا اعتبرنا كلام اللغويين الآخرين في تفسير التأويل بـ «المرجع» و«المصير» في ذات هذا السياق. ويبدو لنا أن الاستعمالات القرآنية للتأويل يمكن تفسيرها في هذا الإطار الذي سنأتي على شرحه.

لقد استعمل التأويل في القرآن بشكل عام في ثلاثة موارد، وهي:

1ـ تأويل الكلام([38]).

2ـ تأويل الفعل([39]).

3ـ تأويل الرؤيا([40]).

بالالتفات إلى رأي ابن فارس والمعنيين اللذين يراهما لمادة «الأَوْل» يمكن لنا أن نتصوَّر ستّة افتراضات لاستعمال التأويل في القرآن كما يلي:

1ـ تأويل الكلام (بداية الكلام).

2ـ تأويل الكلام (نهاية الكلام).

3ـ تأويل الفعل (بداية الفعل).

4ـ تأويل الفعل (نهاية الفعل).

5ـ تأويل الرؤيا (بداية الرؤيا).

6ـ تأويل الرؤيا (نهاية الرؤيا).

ونحن نرى أن التأويل قد استعمل في القرآن في جميع هذه المعاني الستّة. ونأتي هنا على ذكرها كما يلي:

الاستعمال الأول: إن التأويل بهذا المعنى يعني «إرجاع الكلام إلى بدايته». توضيح ذلك: إن كل متكلم قبل أن يتكلم بكلام يُحضر أمراً في ذهنه، ويقصد معنى محدداً، ثم يقوم بإيصال ذلك المعنى المقصود والمحدّد إلى المخاطب، محمولاً على متن الألفاظ. ولكي يفهم السامع معنى كلام المتكلم عليه الوصول إلى ما أراده المتكلم في بداية الأمر. وعليه فإن كل ما قصده المتكلم أو كان ضمن ما قصده ـ مما هو أعمّ من المعنى والمصداق أو الحكمة من حكم ـ يدخل في دائرة التأويل.

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 7)، حيث ورد استعمال التأويل بهذا المعنى. وعلى الرغم من احتمال البعض أن يكون التأويل في هذه الآية بمعنى عاقبة الأمر، ولكنْ بالالتفات إلى شأن نزول هذه الآيات والقسم الأول من سورة آل عمران، الذي يتحدّث عن وفد نجران، لا يمكن حمل التأويل إلا على المعنى المراد. فقد جاء هذا الوفد إلى النبي وجماعة المسلمين للبحث بشأن بعض المفاهيم العقائدية المشتركة ـ بحَسَب الظاهر ـ بين التعاليم القرآنية والمسيحية، من قبيل: اتصاف السيد المسيح× بأنه «روح الله»، و«كلمة الله». فقد أرادوا توظيف هذه الصفات التي يخلعها الله على النبي عيسى× ومصادرتها لصالحهم، من خلال تطبيقها على التعاليم المسيحية التي ترفع السيد المسيح× إلى مقام الألوهية والربوبية، فنزلت آيات القسم الأول من سورة آل عمران، ونوّهت في الآية 7 إلى أن معنى بعض الآيات يجب أن يُفهم في ضوء بعض الآيات الأخرى. وعليه فإن «التأويل» في الآية 7 من سورة آل عمران لا يعني غير «المعنى والمقصود من الكلام».

الاستعمال الثاني: إن التأويل في هذا الفرض يُستعمل في تحقق مضمون الكلام، وهو في مورد القرآن الكريم بمعنى وقوع الوعد والوعيد. وقد استعملت كلمة التأويل بهذا المعنى في آيتين من القرآن الكريم:

الأولى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ (الأعراف: 53).

الثانية: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ (يونس: 39).

ومن الواضح أنه لا يمكن اعتبار التأويل في هاتين الآيتين بمعنى مراد المتكلم؛ إذ من غير المعقول القول بأن مراد الله من آيات القرآن سيتضح في يوم القيامة! بل لا بُدَّ من أن يكون مراد الله مفهوماً للناس في هذه الدنيا؛ لكي تتمّ الحجّة عليهم. وقد استعملت الروايات مفردة التأويل بهذا المعنى، وقد تقدّمت الإشارة إلى بعضها.

والعجيب أن الشيخ معرفت يذهب في كتابه الأخير «التأويل في مختلف المذاهب والآراء» إلى القول بأن التأويل في الآية 39 من سورة يوسف يعني التفسير وبيان المعنى الحقيقي لآيات القرآن. فقد قال سماحته في هذا الشأن: «وقوله: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ أي كذّبوا بهذا القرآن حيث لم يعرفوه المعرفة التامّة ومن جميع وجوهه، بل عرفوا منه معرفة ظاهرة سطحية، ومن غير تعمّق في اللبّ والحقيقة، ومن ثمّ كذبوا به. ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ أي وبعد لم يتبيّن لهم حقيقته الحقّة الناصعة. فالتأويل هنا بمعنى التبيين الكاشف عن حقيقة الحال، والناس أعداء ما جهلوا»([41]).

وبطبيعة الحال فإنه في كتاب «التمهيد في علوم القرآن»، وفي كتاب «التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب»، اعتبر التأويل في هذه الآيات بمعنى «المآل» و«العاقبة»، وإنْ كان في الكتاب الثاني لم يَنْفِ احتمال أن يكون التأويل هنا يعني التفسير أيضاً([42]).

ومع الالتفات إلى الآية 53 من سورة الأعرف الواردة بشأن القيامة يُمكن القول: إن المراد من ظرف التأويل في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾، في الآية 39 من سورة يونس، هو يوم القيامة أيضاً. وفي هذه الصورة يشير القرآن الكريم إلى نقطةٍ دقيقة، يمكن بيانها من خلال المثال التالي: لنفترض أن شخصاً قد ادعى أن زلزالاً سيقع في منطقة ما بعد عشرة أيام، وعمد بعض الناس إلى تكذيب مدّعاه. إن هؤلاء المكذبين إنما يستطيعون تكذيب وقوع الزلزال بضرسٍ قاطع إذا كانت لديهم إحاطة علمية بالمسألة، كأن يكونوا من علماء الجيولوجيا مثلاً، وقد أثبتت دراساتهم العلمية الدقيقة أن تلك المنطقة لا تقع على شريط الزلازل، ولا قريباً منه. أو أن تنقضي مدّة الأيام العشرة ولا يقع زلزال فعلاً. إن القرآن الكريم في سورة يونس يُنبِّه إلى أن المكذّبين إنما يكذّبون الأخبار دون أن تكون لهم إحاطة علمية بالمسألة، فهم ينكرون القيامة ـ وغيرها من الأمور المذكورة في القرآن ـ من غير علمٍ، ومن غير أن يحين ظرف تحقّقها، ليكون ذلك خير دليل على تكذيبها وإبطالها.

الاستعمال الثالث: يُطلق التأويل في هذا الفرض على «الحافز الذي يدفع الفاعل إلى القيام بالفعل». ومنه: كلمة التأويل المستعملة في قصة النبي موسى والعبد الصالح (الخضر)’، حيث قام الخضر بأمور لم يستطع النبي موسى× أن يستوعبها، من قبيل: إصلاح السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار. وبعد أن رأى الخضر× أن النبي موسى× لا يستطيع صبراً على ما قام به شرح له الأسباب والدوافع التي دفعته إلى القيام بهذه الأمور، وقد أطلق على ذلك كلّه تسمية التأويل. وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: 78).

ثمّ يستطرد الخضر× ـ على ما حكاه القرآن عنه ـ قائلاً: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: 82).

الاستعمال الرابع: يُطلق تأويل الفعل في هذا الاستعمال على العاقبة ومآل الأمور. وقد ورد استعمال كلمة التأويل بهذا المعنى في آيتين من القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى:

1ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (النساء: 59).

2ـ ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (الإسراء: 35).

الاستعمال الخامس: يُطلق التأويل في هذا الاستعمال على الغرض من الرؤيا. إن الرؤيا التي تشتمل على تأويل وتفسير لها أغراض متقدّمة في الرتبة على الرؤيا. وبعبارة أخرى: إن هذا النوع من المنامات يُمثِّل نماذج معبّرة عن حقائق أخرى. ومن الواضح أنه لا بُدَّ أولاً من افتراض «حقيقة»، ثم نضع لها «مثالاً»؛ للتعبير عنها وبيانها. هناك من الأشخاص مَنْ يستطيع إدراك تلك الحقائق قبل تحقّق الرؤيا في عالم الواقع. وهؤلاء الأشخاص يتمتعون بعلم تأويل الرؤيا.

وفي هذا الشأن قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (يوسف: 6).

الاستعمال السادس: إن هذا المعنى من التأويل يعني الشيء الذي تنتهي إليه الرؤيا، بمعنى أنه الشيء الذي تتحقق به الرؤيا. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (يوسف: 100).

المبحث الثالث: تأويل القرآن ــــــ

تعرّضنا في المبحث السابق إلى مختلف موارد استعمال كلمة التأويل في القرآن الكريم. ومن الواضح أنها تختلف عن «تأويل القرآن» من بعض الجهات:

الجهة الأولى: إن التأويل لم يُستعمل في تأويل القرآن فقط.

الجهة الثانية: إن بحث تأويل القرآن ليس مجرد اصطلاح قرآني فقط، فقد استعمل هذا المصطلح في الروايات، وكذلك في المجالات الأخرى، من قبيل: التفسير العرفاني والباطني أيضاً. وبطبيعة الحال هناك وجه مشترك بين مبحث «تأويل القرآن» ومبحث «التأويل في القرآن»، وذلك في موارد استعمال التأويل في القرآن، والتي تتحدّث عن ذات القرآن، ونجد ذلك في ثلاث آيات من القرآن الكريم([43]). إن المطروح في مجال علم التفسير على أنه من تأويل القرآن لا يراه الشيخ معرفت مصطلحاً قرآنياً، بل هو مصطلح روائي، وقد استعمل في كلمات السلف. يرى سماحة الشيخ معرفت أن التأويل الوارد بشأن القرآن، في الآية 7 من سورة آل عمران، إنما يبيّن تأويل المتشابه الذي هو بمعنى خاصّ، والذي يعني توجيه المتشابه بمعناه الأصلي والحقيقي، وأما التأويل المستعمل في الآية 53 من سورة الأعراف، والآية 39 من سورة يونس، فقد قُصد به المعنى اللغوي البحت للتأويل، وهو «الانتهاء إلى العاقبة والمصير المتوقع»([44]). وعلى هذا الأساس فإن المورد الأول قد أراد معنىً خاصّاً من التأويل، وهو المعنى الذي يخصّ الآيات المتشابهة، وأما الموردان الآخران فيرتبطان بمجال تأويل وتفسير القرآن الكريم.

قال الشيخ معرفت: إن الآيات القرآنية تشتمل على معنيين: المعنى الأول: هو المعنى الذي تكون الآيات ظاهرة فيه؛ والمعنى الآخر: هو المعنى الذي لا تكون الآيات ظاهرة فيه، وهذا المعنى هو «المعنى الثانوي» لهذه الآية، وهو الذي يُعبّر عنه بـ «التأويل» أو «البطن». إن التأويل بهذا المعنى يشمل جميع آيات القرآن([45]). وقال سماحته في كتابه: «التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب»، بشأن تأويل القرآن: «التأويل: مفهوم عامّ منتزع من فحوى الآية الواردة بشأن خاصّ، حيث العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص المورد. وقد عُبّر عنه بالبطن المنطوي عليه دلالة الآية في واقع المراد، في مقابلة الظهر المدلول عليه بالوضع والاستعمال، حَسْب ظاهر الكلام»([46]).

إن سماحته يعتبر التأويل بهذا المعنى (البطن) مدلولاً التزامياً للكلام، وإنْ كانت علاقته بالمعنى الظاهري هي علاقة العامّ بالخاص، ولكنْ له معنى أوسع وأعمق وأدق، وإن اكتشافه بحاجةٍ إلى تدقيق وتعمّق([47]).

وعليه فإن تأويل القرآن ـ من وجهة نظر الشيخ معرفت ـ هو «بطن القرآن» والدلالة الداخلية للقرآن. على هذا الفرض فإن معنى البطن وقع في مقابل الدلالة الظاهرية والخارجية للقرآن، والتي يتم التعبير عنها بـ «ظهر القرآن». وإن هذا المعنى الباطني موجود بالنسبة إلى جميع الآيات. وبعبارةٍ أخرى: إن ظهر القرآن هو الدلالة الظاهرية للقرآن، والتي يتمّ الحصول عليها من خلال القرائن، ومن بينها شأن نزول الآية، ولها جهة خصوصية. أما بطن القرآن فهو دلالته الباطنية، التي هي ـ بقطع النظر عن القرائن المتوفّرة ـ عبارةٌ عن أفهام عامّة وشاملة يتمّ الحصول عليها من نصّ القرآن الكريم([48]).

وقد تمسك الشيخ معرفت؛ لإثبات رؤيته، ببعض الروايات. من ذلك: إن الفضيل بن يسار سأل الإمام الصادق× عن الحديث المعروف والمرويّ عن النبي الأكرم، وهو الحديث القائل: «ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن»، فقال الإمام في الجواب: «ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما قد مضى، ومنه ما لم يكن، يجري كما تجري الشمس والقمر»([49]).

أما الدليل الآخر الذي يذكره الشيخ معرفت على هذا الحديث فهو: «ظهر القرآن الذين نزل فيهم، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم»([50]).

نقدٌ ورأي ــــــ

هناك في ما يتعلّق برأي الشيخ معرفت في مورد تأويل القرآن عدّة أمور جديرة بالالتفات، نتناولها على النحو التالي:

1ـ إن كلامَ سماحته في ما يتعلق بهذا المعنى من التأويل بالنسبة إلى جميع أو بعض آيات القرآن الكريم مختلفٌ؛ ففي بعض مؤلفاته تصريح بأن التأويل شامل لجميع آيات القرآن([51])؛ ويفهم من بعض مؤلفاته الأخرى أن التأويل لا يشمل جميع الآيات، بل يرتبط بآيات نزلت في مورد خاص([52]). وبطبيعة الحال فقد تحدّث في هذا النوع من المؤلفات بشكلٍ وكأن بالإمكان تعميمه على جميع الآيات([53]). وبالتالي فإنه في آخر مؤلف له في هذا الشأن توصل إلى نتيجة مفادها أن تأويل القرآن بهذا المعنى لا يشمل جميع آيات القرآن، أي إنه لا موقع للتأويل والباطن في مثل آيات الأحكام أبداً([54]).

2ـ يبدو أن سماحة الشيخ معرفت يرى أن التأويل في رواية الفضيل بن يسار يعني مفهوماً واسعاً قابلاً للانطباق على مختلف المصاديق على طول الزمن، وإن بعض هذه المصاديق قد تحقق في الماضي، وبعضها لم يقع حتّى الآن، وعلينا أن ننتظر وقوعه في المستقبل. ولكنْ يبدو أن مراد الرواية هو أن القرآن يحتوي على مجموعتين من الآيات؛ قسم منها يرتبط بالأمور التي سبق لها أن تحققت، وقسم يتحدّث عن أمور لم تتحقق بعد، بمعنى أن مفاد بعض الآيات لم يتحقق حتّى الآن. روى الشيخ الصدوق، في كتابه «كمال الدين وتمام النعمة»، بسنده إلى أبي بصير، عن الإمام الصادق×، أنه قال بشأن قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً﴾ (الفتح: 28): «والله ما نزل تأويلها بعدُ، ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم#»([55]).

إن عبارة: «ما نزل تأويلها بعد» تعني «ما وقع تأويلها بعد». وإن مراد الإمام هو أن حقيقة هذه النبوءة سوف يكتب لها التحقُّق بعد ظهور إمام العصر#. وعليه فإن التأويل في رواية الفضيل ليست بمعنى «المفهوم الواسع»، بل بمعنى «مفاد الآية».

3ـ إن الشيخ معرفت يقول من جهة: إن تأويل العبارة من المعنى الباطني والخفي الذي هو مدلول التزامي للكلام، ومن جهةٍ أخرى يستدل بقاعدة «الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص المورد»، ويعتبر ذلك دليلاً وشاهداً على هذا الرأي. ولكنْ يَرِدُ هنا سؤالٌ يقول: هل يمكن اعتبار المدلول الذي يدلّ عليه عموم اللفظ تأويلاً وباطناً؟ واضحٌ أن اللفظ الذي له ظهور في العموم تكون له دلالة ظاهرية، ولا يمكن اعتباره من الباطن. وعلى سبيل المثال: إن الآيات المرتبطة بالظهار والإيلاء آيات عامة، وإن الخاص هو مجرّد شأن نزولها فقط.

4ـ لقد ذهب سماحته إلى القول بأن العلاقة بين المعنى الباطني والمعنى الظاهري هي من قبيل: العلاقة بين العام والخاص، بمعنى أن المعنى الباطني عام، والمعنى الظاهري خاص([56]). ليس معلوماً أن يكون المعنى الباطني معنى عاماً دائماً، بل المعنى العام وجهٌ جامع يشمل المعنى الظاهر والباطن على السواء. وعلى أيّ حال إن هذا المطلب يدعو إلى التأمُّل. والشاهد على ذلك أن المعنى الباطن بوصفه مفهوماً مستعملاً في مقابل المعنى الظاهر، في حين أن المعنى العام الذي تمّ تعريفه، وهو المعنى الذي يكون خالياً من الخصوصيات، لا يقع في مقابل المفهوم الظاهر، بل هو من «الماهية اللابشيء» التي تشمل الماهيات «بشرط شيء» أيضاً. وعلى هذا الأساس فإن المعنى الظاهر والمعنى الباطن لهما حكم الماهية بشرط شيء، وإن المفهوم العام الذي يُشير إليه الشيخ معرفت له حكم الماهية اللابشرط. إن هذا المفهوم الهامّ يستوعب كلا مفهومي الظاهر والباطن على السواء. وطبقاً لبيان الشيخ معرفت فإن المعنى الظاهر مصداق للمعنى الواقعي، هذا في حين أن معنى الظاهر ومعنى الباطن ـ طبقاً للروايات ـ معنيان مختلفان يقعان في عرض أو طول بعضهما.

ومع ذلك نؤكّد على هذه النقطة، وهي أن المعنى الباطني، كالمعنى الظاهري، هو مفهومٌ بشرط شيء، وإن مفهوم اللابشرط معنى انتزاعي بحت يشمل كلا صورتي الظاهر والباطن. كما أن التفسيرات الباطنية المذكورة في الروايات تؤيد هذا الأمر، من قبيل:

«ما رُوي عن جابر قال: سألتُ أبا جعفر× عن هذه الآية: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل عمران: 18)؟ قال أبو جعفر×: شهد الله أنه لا إله إلا هو، فإن الله تبارك وتعالى يشهد بها لنفسه، وهو كما قال. فأما قوله: ﴿وَالْمَلاَئِكَةُ﴾ فإنه أكرم الملائكة بالتسليم له بهم، وصدقوا وشهدوا كما شهد لنفسه. وأما قوله: ﴿وَأُوْلُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ﴾ فإن أولي العلم الأنبياء والأوصياء، وهم قيامٌ بالقسط، والقسط العدل في الظاهر، والعدل في الباطن أمير المؤمنين×»([57]).

ومن الواضح جداً أن أمير المؤمنين لا يمكنه أن يكون هو المعنى العام والكلي للقسط! بل هو قسمٌ وجزء من هذا المفهوم العام الكلي والانتزاعي.

غاية ما هنالك أننا نستطيع أن نستنتج وجود معنيين باطنيين: أحدهما: المعنى الباطني «بشرط لا»؛ والآخر: المعنى الباطني «بشرط شيء»، من قبيل: تأويل القسط بالإمام عليّ×، أو تأويل «الماء المعين» بالإمام أو علم الإمام؛ فقد رُوي عن الإمام محمد الباقر× أنه قال، في تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ (الملك: 30): «إذا فقدتم إمامكم فلم ترَوْه، فماذا تصنعون؟!»؛ وعن عليّ بن موسى الرضا× أنه قال: «ماؤكم: أبوابكم الأئمة، والأئمة أبواب الله، ﴿فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾، أي يأتيكم بعلم الإمام»([58]). وإنما نسمي هذين الموردين من المعنى الباطني؛ لأنهما لا يتبادران إلى الذهن في النظرة الأولى.

5ـ إن الشيخ معرفت لا يرى آيات الأحكام مشتملة على تأويل (المعنى الباطني). ويبدو من ظاهر كلامه أن سائر الموارد قد يكون لها معنى باطني. بَيْدَ أنه يمكن القول: إن هذا التعريف للباطن إنما يخص الموارد التي تحتوي على سبب نزول خاص، ولا يمكن تعميمه على سائر الآيات القرآنية الأخرى. فعلى سبيل المثال: عندما يقول القرآن الكريم: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾ (الحجر: 21) فما هو المدلول الظاهري؟ وما هو المدلول الباطني في هذا الكلام؟ وكيف يمكن لنا تطبيق نظرية الشيخ معرفت بشأن المورد الخاص والعام في ما يتعلق بالارتباط بين الظاهر والباطن في هذه الآية؟

6ـ إن ما ذكره الشيخ معرفت بشأن التأويل هو في الحقيقة ذات الشيء الذي ذهب إليه العلامة الطباطبائي في تحليله للمعنى الباطني. يذهب العلامة الطباطبائي إلى الاعتقاد بأن تعاليم القرآن الكريم نزلت بما يتناسب ومستوى فهم عامّة الناس، وإن الله سبحانه وتعالى قد بيّن المعارف المعنوية السامية العالية بلغةٍ سهلة وعامة. من هنا فإن المعنويات قد احتجبت خلف ستار الظواهر والأمور الملموسة، وإنها تستدعي أفهام الآخرين من خلف هذا الستار، وسوف يدركها الأفراد كلٌّ بمقدار ظرفية فهمه واستيعابه([59]). وهناك شواهد من القرآن الكريم والسنة الشريفة على هذا الأمر أيضاً. ومن ذلك ـ مثلاً ـ ما رُوي عن النبي الأكرم‘ أنه قال: «إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم»([60]). وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الزخرف: 3 ـ 4).

يأتي الاستشهاد بهذه الآية في إطار أن الله قد بيّن المعارف والتعاليم السامية والعالية الموجودة في أمّ الكتاب بلغةٍ سهلة وبسيطة يفهمها عامّة الناس دون تعقيد أو عناء، وعليه يوجد خلف هذا البيان السهل والبسيط بحر زاخر من المفاهيم والتعاليم العميقة، التي يمكن لكلّ شخص الوصول إليها بمقدار سعة فهمه وإدراكه. لقد عمد العلامة الطباطبائي إلى إيضاح المعنى الباطني الكامن وراء ظاهر آيات القرآن من خلال ذكر مثال، إذ يقول: «يقول الله تعالى في كلامه المجيد: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً﴾ (النساء: 36). ظاهر هذه الآية الكريمة أنها تنهى عن عبادة الأصنام… ولكنْ بعد التأمّل والتحليل يظهر أن العلّة في المنع من عبادة الأصنام أنها خضوع لغير الله تعالى، وهذا لا يختصّ بعبادة الأصنام، بل عبَّر ـ عزَّ شأنه ـ عن إطاعة الشيطان أيضاً بالعبادة… ومن جهة أخرى يتبيّن أنه لا فرق في الطاعة الممقوتة بين أن تكون للغير أو للإنسان نفسه؛ فإن إطاعة شهوات النفس أيضاً عبادة من دون الله تعالى… وبتحليلٍ أدقّ: نرى أنه لا بُدَّ من عدم التوجُّه إلى غير الله ـ جلَّ وعلا ـ؛ لأن التوجّه إلى غيره معناه الاعتراف باستقلاله والخضوع له»([61]). ثم إن سماحته يستنتج بعد ذلك قائلاً: «إن هذا التدرّج ـ ونعني به ظهور معنى بدائي من الآية، ثمّ ظهور معنى أوسع، وهكذا ـ جارٍ في كلٍّ من الآيات الكريمة بلا استثناء. وبالتأمّل في هذا الموضوع يظهر معنى ما روي عن النبيّ‘ في كتب الحديث والتفسير من قوله: «إن للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه بطناً إلى سبعة أبطن»([62]).

ويجب ـ بطبيعة الحال ـ الإذعان بأن عرض الشيخ معرفت لهذه النظرية أكثر منطقية، حيث عمد سماحته من خلال توظيف القواعد المنطقية، من قبيل: السبر والتقسيم إلى بيان الملاكات والضوابط الصحيحة للتأويل([63]). رغم أن العلامة الطباطبائي قد بيّن بدوره أن معنى البطن في الحقيقة هو بمنزلة الحدّ الوسط في القياس المنطقي، وقد نوّه أيضاً إلى أن دلالة الظاهر على الباطن هي من نوع الدلالة التطابقية، إلا أن هذه النقطة الأخيرة تبدو مختلفة عمّا ذكره الشيخ معرفت؛ لأنه يقول: إن المعنى الباطني هو مدلولٌ التزامي للمعنى الظاهري. وعليه يجب أن نرى هل مراد العلامة الطباطبائي من مصطلح التطابقي هو الدلالة التطابقية في مقابل الدلالة الالتزامية، أو أنه كان يريد معنى آخر؟([64])، أو هل دلالة المعنى الخاص على المعنى الأعم الكامن وراءه يكون بالدلالة الالتزامية أم بالدلالة التطابقية؟ وقد تحدّث العلامة الطباطبائي في كتابه «الميزان في تفسير القرآن» عن لوازم الكلام بوصفها من المعاني الباطنية، ولكنّه نقل ذلك من كلمات الآخرين وأقوالهم([65]).

النتيجة ــــــ

من خلال ما ذكرناه آنفاً يمكن لنا التأكيد على الخلاصات التالية:

1ـ لقد تعرّضنا في هذا المقال إلى نقد آراء الشيخ محمد هادي معرفت ضمن ثلاثة محاور:

الأول: تحليل المعنى اللغوي للتأويل.

الثاني: استعمالات القرآن لمفردة التأويل.

الثالث: تأويل القرآن الكريم.

2ـ لقد رام الشيخ معرفت في المحور الأول أن يقدم تعاريف واضحة لبيان المفهوم العام لـ «الرجوع»، وتحديد معناه. ومع الالتفات إلى تعريفه المرجع بالمبدأ حيناً؛ وبالمنتهى حيناً آخر، يبدو أنه قد اقترب في هذا الشأن من رأي اللغوي ابن فارس في كتابه «معجم مقاييس اللغة».

3ـ تنقسم الاستعمالات القرآنية للتأويل في نظر الشيخ معرفت إلى ثلاثة أقسام:

أـ التأويل بمعنى إرجاع الكلام أو العمل المتشابه إلى معناه الحقيقي المنسجم مع العقل والنقل.

ب ـ تأويل الرؤيا.

ج ـ العاقبة ومآل الأمور.

ولكنْ يبدو ـ من خلال الالتفات إلى رأي ابن فارس بشأن رجوع التأويل إلى معنيين متضادين ـ أنّه يمكن القول: إن القرآن الكريم قد استعمل التأويل في ثلاثة موارد، تتمثّل في: «القول»؛ و«الفعل»؛ و«المنام»، وإن كل واحد من هذه الموارد الثلاثة يمكن أن يكون على صورتين. وبذلك عمدنا في هذا المقال إلى تقسيم موارد استعمال مفردة التأويل إلى ستّة أقسام.

4ـ ذهب الشيخ معرفت إلى اعتبار تأويل القرآن بمعنى باطن القرآن، حيث مال في كتابه «التمهيد في علوم القرآن» إلى الاعتقاد بأن جميع آيات القرآن الكريم تشتمل ـ بالإضافة إلى المعنى الظاهري ـ على معنى ثانوي، أطلق عليه في مصطلح الروايات عنوان «التأويل» أو «البطن». وأما في كتاب «التأويل في مختلف المذاهب والآراء» ـ الذي هو من كتبه الأخيرة ـ فقد ذهب إلى إمكان سراية نظرية الظاهر والباطن إلى جميع آيات القرآن، باستثناء آيات الأحكام.

الهوامش

(*) أستاذٌ وعضو الهيئة العلميّة لعلوم القرآن والحديث في جامعة قم.

([1]) لقد اعتمدنا الطبعة الثانية من هذا الكتاب، ويبدو أنه مشتمل على بعض التنقيحات الجديدة. وقد طبع هذا الكتاب من قبل مركز مديريت حوزة علمية قم، سنة 1367هـ.ش.

([2]) إن هذا الكتاب ـ كما صرّح الأستاذ معرفت ـ هو تلخيص وتشذيب لكتابي: (التمهيد في علوم القرآن) و(صيانة القرآن من التحريف). تعود طبعته الأولى إلى خريف عام 1379هـ.ش. تمّت طباعة هذا الكتاب بالتعاون بين منظمة سمت ومؤسسة التمهيد الثقافية.

([3]) تعود الطبعة الأولى لهذا الكتاب إلى عام 1418هـ. وفي هذا المقال اعتمدنا على الطبعة الثانية المطبوعة من قبل دانشگاه إسلامي رضوي سنة 1383هـ.ش.

([4]) وهو عبارة عن ترجمة فارسية لكتاب (التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب)، ولكنه يحتوي على إعادة نظر وبعض الإضافات من قبل المؤلف. وقد اعتمدنا في هذا المقال على الطبعة الثالثة من هذا الكتاب، والتي يعود تاريخ طباعتها إلى عام 1385هـ.ش.

([5]) طبع هذا الكتاب عام 1383هـ.ش، من قبل مؤسسة التمهيد الثقافية.

([6]) طبع هذا الكتاب عام 1385هـ.ش، من قبل المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.

([7]) محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 3: 28.

([8]) المصدر نفسه.

([9]) محمد هادي معرفت، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 9.

([10]) محمد هادي معرفت، تفسير ومفسران 1: 22.

([11]) محمد هادي معرفت، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 1: 22.

([12]) محمد هادي معرفت، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 9.

([13]) أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (أول).

([14]) انظر: الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز 1: 79.

([15]) المصدر نفسه.

([16]) ابن منظور الأفريقي، لسان العرب 11: 33 ـ 35.

([17]) ابن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تفسير الآية 7 من آل عمران.

([18]) الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان، تفسير الآية 7 من آل عمران.

([19]) انظر: نصر حامد أبو زيد، معناي متن (مفهوم النص): 382، ترجمه إلى الفارسية: مرتضى كريمي نيا.

([20]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 3: 30.

([21]) انظر: المصدر السابق 3: 28.

([22]) انظر: المصدر السابق: 33.

([23]) محمد هادي معرفت، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 1: 22 ـ 23.

([24]) محمد هادي معرفت، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 11.

([25]) محمد هادي معرفت، علوم قرآني (مصدر فارسي): 88.

([26]) انظر: المصدر السابق: 143.

([27]) انظر: المصدر السابق: 144.

([28]) انظر: المصدر نفسه.

([29]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 25: 375.

([30]) المصدر السابق 37: 194.

([31]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 3: 261.

([32]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 93: 241.

([33]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 3: 32؛ التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 1: 23.

([34]) انظر: محمد هادي معرفت، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 10.

([35]) إن موارد استعمال هذا المعنى من التأويل، هي: النساء: 59، والإسراء: 35، والأعراف: 53، ويونس: 39. انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 3: 33.

([36]) محمد هادي معرفت، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 1: 23.

([37]) محمد هادي معرفت، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 11.

([38]) انظر: آل عمران: 7؛ الأعراف: 53؛ يونس: 36.

([39]) انظر: الكهف: 78، 82؛ النساء: 59؛ الإسراء: 35.

([40]) انظر: يوسف: 6، 21، 36، 37، 44، 45، 100، 101.

([41]) محمد هادي معرفت، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 11.

([42]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 3: 32 ـ 33؛ محمد هادي معرفت، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 1: 23.

([43]) انظر: آل عمران: 7؛ الأعراف: 53؛ يونس: 39.

([44]) محمد هادي معرفت، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 10 ـ 11.

([45]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 1: 28.

([46]) محمد هادي معرفت، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 1: 23.

([47]) انظر: محمد هادي معرفت، التفسير الأثري الجامع 1: 31 ـ 32؛ محمد هادي معرفت، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 36 ـ 37.

([48]) انظر: محمد هادي معرفت، علوم قرآني: 36 ـ 37.

([49]) محمد بن الحسن الصفّار القمي، بصائر الدرجات: 196، ح7؛ محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 3: 29؛ محمد هادي معرفت، التفسير الأثري الجامع 1: 20؛ محمد هادي معرفت، علوم قرآني: 88.

([50]) تفسير العياشي 1: 11، ح4.

([51]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 3: 28، 30؛ محمد هادي معرفت، علوم قرآني: 88.

([52]) انظر: محمد هادي معرفت، تفسير ومفسران 1: 25؛ محمد هادي معرفت، التفسير الأثري الجامع 1: 30.

([53]) انظر: محمد هادي معرفت، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 1: 23؛ محمد هادي معرفت، تفسير ومفسران 1: 25.

([54]) انظر: محمد هادي معرفت، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 35.

([55]) الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة: 670.

([56]) انظر: محمد هادي معرفت، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 37؛ محمد هادي معرفت، التفسير الأثري الجامع 1: 32.

([57]) الحويزي، نور الثقلين 1: 323.

([58]) انظر: بدر الدين الزركشي، البرهان في عوم القرآن 5: 449.

([59]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، قرآن در إسلام (القرآن في الإسلام): 24.

([60]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 1: 23.

([61]) محمد حسين الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 30 ـ 31، تعريب: السيد أحمد الحسيني.

([62]) المصدر السابق: 31.

([63]) انظر: محمد هادي معرفت، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 39 ـ 44؛ محمد هادي معرفت، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 1: 26 ـ 30.

([64]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 64، تفسير الآية 7 من سورة آل عمران).

([65]) انظر: المصدر السابق 3: 48.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً