إثر المسيرات الإحتجاجية على الفلم المسيئ ، طرح تساؤل مشروع مفاده ، ان هناك كتابات لعدد من المستشرقين و غيرهم لا تقل سوء في مضمونها من هذا الفلم المسيئ ! و قد تكون تلكم الأعمال هي المرجعية الفكرية التي ترفد مثل هذه الأفلام بالمادة و المضمون الفكري . فلماذا لا تثير كل هذا الغضب الشعبي العارم مع ان خطورتها لا تقل عن بعض الأعمال المسيئة الأخرى ؟
و هنا يجب أن نأخذ في الإعتبار عدة أمور ، منها : ان الكتابات الاستشراقية المسيئة ، صدر أغلبها في القرون الماضية ، و كانت تتداولها نخب مثقفة محدودة ، فلم تكن في متناول الجميع ، مضافا الى انها لم تكن بالصوت و الصورة المتحركة ، و من ثم فقد كانت تأثيراتها و انعكاساتها محدودة . و قد صدرت دراسات و رسائل نقدية في مناقشتها و الرد على مقولاتها .
و في سياق المطالبة بمنع انتهاك الأديان و المقدسات ، يلزم التفريق بين الأعمال النقدية العلمية و السجالات الفكرية و الدراسات التحليلية لمفكري الأديان و المذاهب ، للبنى الفكرية و العقدية لمختلف الأديان و المذاهب الدينية و لأفكارها و آرائها ، و بين الأعمال المعيبة و اللا أخلاقية التي تتهجم على الأديان و العقائد و تنتهك حرمة الكتب المقدسة كالقرآن الكريم و تتناول بشكل مسيئ و مقزز للرموز الدينية مثل الرسل و الأنبياء صلوات الله عليهم .
من جهة أخرى ، إن سلسلة الإساءات و الإنتهاكات المتكررة المتعمدة لأقدس مقدسات المسلمين المتمثلة في النيل و التطاول على شخصية خاتم الأنبياء و المرسلين و الرحمة الإلهية المهداة للبشرية و مجسد الخلق العظيم محمد صلى الله عليه و آله و سلم ، و كذلك الإساءة البالغة التي وجهت للقرآن الكريم بحرقه في احتفال عام ، و ما شاكل من أعمال و تصرفات مشينة و معيبة ، تضع كافة الدول العربية و المسلمة ، كما تضع الجامعة العربية و منظمة التعاون الإسلامي أمام مسؤوليات جسام أمام التاريخ و أمام الشعوب العربية و المسلمة ، و قبل ذلك كله أمام ربها و نبيها و قرآنها و دينها الحنيف .
و السؤال الذي يطرح في هذا الصدد هو : ترى هل يكفي أن تصدر بعض الدول العربية و بعض الدول المسلمة بيانات الشجب و الإستنكار التي باتت عباراتها و أدبياتها محفوظة و معلومة سلفا لدى الجميع ؟ هل ان كل ما بوسع دول العرب و المسلمين أن تفعله بإزاء انتهاك كرامتها و عزتها و النيل من عقيدتها هو الصريخ و العويل ؟ هل هذا كل ما يحسنه العرب و المسلمون على المستوى الرسمي و الشعبي ؟ و هل هذا كل ما بوسع بيت العرب العتيد – مع كل تصدعاته – و منظمة التعاون للمسلمين التي أنشئت ابتداء للدفاع عن أحد المقدسات الإسلامية و هو المسجد الأقصى إثر حادث الحريق المعروف ؟
أخال ان هذه الأسئلة و أمثالها جد مشروعة و هي بالفعل مطروحة بشكل أو آخر من قبل كثير من العرب و المسلمين .
و بتقديري المتواضع ان بوسع الدول العربية و الدول المسلمة و جامعة العرب و منظمة التعاون و بقية المنظمات العربية ، القيام بحزمة من الأعمال و البرامج لمواجهة هذه الإعتداءات المتكررة و المتعمدة على الإسلام و المسلمين ، و منها على سبيل المثال :
1- أن تسعى لإيجاد و بلورة قناعة لدى مختلف الدول في العالم لاتخاذ التدابير الإدارية و القانونية المناسبة لمنع صدور مثل هذه الإنتهاكات ضد الأديان و المذاهب الدينية . و حيث انه لا تخلو دولة في العالم من وجود تعددية دينية و مذهبية و عرقية و طائفية و إثنية ، فإنه يعني ان الحيلولة دون وقوع الفتن و الإضطرابات و الصراعات على الأسس الدينية و العقدية هي قضية مشتركة بين كثير من دول العالم
2- أن تتبنى طرح هذه القضية في المحافل الدولية و المنظمات الحقوقية المختلفة ، و تعمل جاهدة لإيجاد قناعة مشتركة لإصدار وثيقة تؤكد على أهمية احترام الأديان و العقائد و تدعو إلى منع انتهاك المقدسات الدينية و العقدية للأمم و الشعوب و اعتبارها مخالفة للقانون . و تطالب دول العالم على وضع الأطر القانونية و الإدارية لتحقيق ذلك .
3- تشكيل فريق من الخبراء القانونيين لدراسة مدى إمكانية و جدوى مقاضاة أولئك الذين يوجهون مثل هذه الإساءات للمقدسات الإسلامية ، و كشف الجهات التي تدعمهم و تمولهم و ملاحقتها هي الأخرى قضائيا .
4- تبني مشروع واسع لمراجعة مصادر التراث لدى العرب و المسلمين و تنقية هذا التراث من كل ما شابه من إسرائيليات أو تسلل إليه من حكايات و أخبار و قصص و آراء سقيمة من شأنها تقديم صورة مشوهة عن الرسول محمد صلى الله عليه و آله و سلم و عن القرآن و الإسلام . إذ من المعروف ان كثيرا من المستشرقين و غيرهم اعتمدوا على بعض ما ورد في مصادر التراث الحديثي و التفسيري و الفقهي و التاريخي و الأدبي للمسلمين .
5- تبني مشروع متكامل لعرض مبادئ الرسالة الإسلامية السامية و تولي االمناقشة و الرد على الكتابات الإستشراقية و غير الإتشراقية التي شوهت شخصية الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم ، و أساءت إلى القرآن الكريم و إلى أحكام الشريعة الإسلامية الغراء .
6- إنتاج أعمال إعلامية فنية راقية و بمواصفات عالمية عن حياة النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم و عن الرسالة و قيم الرسالة الإسلامية و عن تعاليم القرآن الكريم و مبادئه السمحة ، و عن حضارة العرب و المسلمين و علمائهم و إسهامات المسلمين في الحضارة العالمية ، على غرار بعض الأعمال التي أنتجها المخرج الراحل مصطفى العقاد ، مثل فلم الرسالة و عمر المختار.
7- تدشين حوار جاد بين المسلمين و أتباع بعض الديانات المعروفة ، و بالأخص الديانات السماوية ، على أن تكون له أهداف واضحة ، فلا يستغرق في بحث المسائل اللاهوتية ، بل يركز اهتمامه على القضايا المعاصرة التي تهم أتباع هذه الديانات . و أن ينطلق من قاعدة المشتركات الفكرية و الأخلاقية و الإنسانية ، و يسعى لتعميق العلاقات و الروابط القائمة على الإحترام المتبادل و العيش المشترك و حماية المصالح المشتركة و مواجهة التحديات و الأخطار المشتركة .
هذه بعض الأعمال التي يمكن ان يقوم بها العرب و المسلمون على المستوى الرسمي و الشعبي . و من الطبيعي انها ليست أعمالا سهلة و تتطلب مجهودات و إسهامات قانونية و فكرية وفلسفية و إعلامية و فنية و مالية و سياسية كبيرة ، و لكن لا بد من البدء في التفكير و التخطيط لذلك ، و لا بد قبل كل شيئ من توافر الإرادة السياسية و القرار السياسي . فلا يفيدنا أن نلعن الظلام ، بقدر ما ينفعنا أن نوقد شمعة وسط الظلام .
على صعيد آخر ، لا بد من بذل جهود تربوية و دينية و إعلامية كبيرة نحو ترشيد حالة الإلتزام الديني في البلدان المسلمة . و من الضروري العمل لتوعية المسلمين على كيفية التعامل مع مثل هذه الأعمال المسيئة التي تستهدف النيل من مقدساتهم . فلا يحسن أن يحتج المسلمون على تلكم الإساءات و الإنتهاكات ، بأعمال غير قانونية أو يقوموا بتصرفات تنتهك الأحكام و القيم الإسلامية ذاتها .
من الأهمية بمكان ترشيد و ضبط ردود الفعل الغاضبة التي تصدر من المسلمين غيرة على دينهم و مقدساتهم .
فمن المهم أن تخرج مسيرات حاشدة و في مختلف دول العالم للإحتجاج على هذه الإساءات و الإنتهاكات السافرة للمقدسات الدينية ، و لكن يلزم ان تكون منظمة و ذات طابع سلمي حتى ترسل رسالة الرفض و الإستنكار و تطالب الدول و المنظمات الدولية و الحقوقية لإدانة مثل هذه الأعمال المشينة . إن المسيرات المنفلتة و غير المرتبة و التي يرافقها الضجيج و الصريخ والعويل و يصاحبها التخريب و التكسير لممتلكات الغير من شأنها أن ترسل رسالة مغلوطة و معكوسة تماما إلى العالم . و لا يبعد أن يوظها الإعلام المضاد للعرب و المسلمين في خدمة ما يعرف بالإسلامو فوبيا . إن من المفترض أن يكون هدف الخروج في مثل هذه المسيرات واضحا و معروفا لدى المشاركين فيها . انهم لا يخرجون للتنفيس عن الإحباطات المتراكمة التي يعيشونها و لا يخرجون لتفريغ حالة الغضب المتراكم على بعض الجهات من جراء بعض المواقف و السياسات المرفوضة ، إنما ثمة هدف محدد لمثل هذه المسيرات و ثمة رسالة يراد توصيلها لمن يهمه الأمر .