حيدر حب الله([1])
تمهيد
ضمن القاعدة العامة التي بينّاها آنفاً، يخضع مفهوم التمدّد المذهبي ونشر كلّ مذهب لأفكاره تحت قانون الدعوة إلى الخير والتواصي بالحقّ، فيحقّ لكلّ مذهب بل يجب عليه ـ وفق ما يعتقد ـ أن يدعو إلى مذهبه وفكره، ومن ضمن ذلك المذهب الشيعي والسنّي، ما لم يطرأ عنوان ثانوي عارض، وهذا واضح.
لكنّنا قد نواجه حظراً للنشر المذهبي والتمدّد الطائفي، وينطلق هذا الحظر من عنصرين:
1 ـ 3 ـ التمدّد المذهبي الشيعي وإشكالية النصوص المانعة، وقفات وتحليلات
وردت على المستوى الشيعي بعض الروايات عن أئمة الشيعة من أهل البيت النبوي بهذا الخصوص، ربما يستفاد منها تقييد هذه المبادئ العامّة في الكتاب والسنّة والعقل، ونظراً لأهميّة هذا الموضوع في عصرنا الحاضر وعدم تعرّض الفقهاء له بالبحث العلمي إلا نادراً، كان لابدّ من استعراض هذه الروايات بالتفصيل لمعرفة حالها، وهي تفيد الدعوة للإعراض عن تشييع الناس، وهي:
1 ـ خبر حماد السمندري (السمدري)، قال: قلت لأبي عبد الله×: إني أدخل إلى بلاد الشرك، وإنّ من عندنا يقولون: إن متّ ثَمّ، حُشرت معهم، قال: فقال لي: «يا حماد، إذا كنت ثَمّ تذكر أمرنا وتدعو إليه؟» قال: قلت: لا، فقال لي: «إنك إن متّ ثَمّ، حشرت أمّةً وحدك، وسعى نورك بين يديك»([2])، فإنّ هذا الحديث يدلّ على مدح دعوة الناس إلى الإسلام؛ لكنه لا يعلّق على عدم دعوة المسلمين إلى التشيّع المعبّر عنه بكلمة «أمرنا»، فكأنه لا يرى في ذلك بأساً، وإلا فلماذا سأله الإمام× عن الدعوة إلى أمرهم؟ إنّ هذا يفهم منه أنّ الدعوة المذكورة ليست أمراً ممدوحاً أو مرغوباً فيه.
وهذا الخبر ضعيف السند بعدم ثبوت وثاقة شريف بن سابق التفليسي الوارد فيه([3])، وكذلك جهالة حماد السمندري أو السمدري أو السمندلي([4])، حيث لم يوثقهما أحد، مضافاً إلى أنّ هذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها لإثبات مدح ووثاقة السمندري بعد كونه هو الراوي لها، حتى لو تمّت سنداً إليه.
يضاف إلى ذلك أنّ الحديث يدلّ ـ على أبعد تقدير ـ على مسألة الدعوة إلى التشيّع في بلاد الشرك، ومن ثمّ فلا يرتبط بالدعوة إلى التشيّع في بلاد المسلمين، فيكون أجنبيّاً عن موضوع بحثنا، أو غير مطابق له بتمامه.
2 ـ خبر الفضيل، قال: قلت لأبي عبد الله×: ندعو الناس إلى هذا الأمر؟ فقال: «لا، يا فضيل، إنّ الله عز وجل إذا أراد بعبدٍ خيراً أمر مَلَكاً فأخذ بعنقه حتى دخله في هذا الأمر طائعاً أو كارهاً»([5]). وفي موضع آخر من الكافي وكذا في الوسائل وردت الرواية دون تعبير (لا) الوارد في أوّل جواب الإمام([6]).
وهذا الخبر واضح صريح في النهي عن تشييع الناس، بل حتى لو لم يرد تعبير (لا) في مطلعها، فلا أقلّ من أنّ سياقها سياق مرجوحية الدعوة إلى التشيّع.
وقد حمل الحرّ العاملي نصوص النهي ـ كهذا ـ على مورد التقية، وكذلك فعل المازندراني([7])، إلا أنّه لا توجد أيّ إشارة في الرواية إلى هذا الأمر، بل إنّ العدول عن التعليل بالتقية وحماية الشيعة إلى الحديث عن مبدأ عام كلّي غيبي، معناه الحديث عن أمر ثابت، كما لا يخفى.
لكن رغم ذلك، قد لا يتسنّى لنا الأخذ بهذا الحديث ـ حتى لو تمّ سنداً، بناءً على توثيق محمد بن مروان الوارد فيه لوروده في كامل الزيارة، أو لرواية صفوان عنه([8])، وهما نظريتان في علم الجرح والتعديل لا نقول بهما ـ وذلك أنّ معناه سدّ باب الدعوة إلى الدين الإسلامي؛ لأنّ أمرهم يشمل المسلم غير الشيعي ويشمل غير المسلم أيضاً، فهذه القاعدة تجري في حقّ كلّ إنسان لا يعرف أمر أهل البيت، إلا إذا حصر أمرهم بإمامتهم لا بسائر عقائد الإسلام، فلا مانع منه حينئذٍ. هذا مضافاً إلى أن «لا» الواردة في مطلع جواب الإمام، قد تكون لإفادة التحريم على تقدير كون سؤال السائل عن الجواز والمشروعية كما لعلّه الأقرب، وقد تكون لإفادة نفي الوجوب فقط، على تقدير كون سؤاله عن الوجوب، فيؤخذ بالمقدار المتيقن، وهو الثاني.
3 ـ خبر كليب بن معاوية الصيداوي، قال: قال لي أبو عبد الله×: «إياكم والناس، إنّ الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتةً، فتركه وهو يجول لذلك ويطلبه»، ثم قال: «لو أنكم إذا كلّمتم الناس، قلتم: ذهبنا حيث ذهب الله واخترنا من اختار الله، واختار الله محمداً، واخترنا آل محمد$»([9]).
وقد وردت الرواية عن كليب بن معاوية الأسدي ـ وهو عينه الصيداوي ـ في محاسن البرقي هكذا: «ما أنتم والناس، إنّ الله إذا أراد بعبدٍ خيراً نكت في قلبه نكتةً بيضاء، فإذا هو يجول لذلك ويطلبه»([10]).
فهذا الخبر واضح التنديد بدعوة الناس لأمر أهل البيت كما في مطلعه، معلّلاً بأمر غيبي بيد الله، ثم يحث على أنه إذا واجه الإنسان الناس فليعلمهم بأنه اتخذ البيت الذي اتخذه الله، وهو بيت محمد$، لا أكثر.
ويمكن أن نسجّل على هذا الخبر:
أولاً: إنّ سنده خاضعٌ للنقاش، تارةً بإبراهيم بن هاشم الذي توقّفنا فيه واحتطنا، وأخرى بكليب بن معاوية الصيداوي الأسدي فإنّ توثيقه يقوم على:
أ ـ وروده في أسانيد كتاب كامل الزيارة.
ويجاب بعدم ثبوت أكثر من مشايخه المباشرين على مستوى الوثاقة.
ب ـ رواية صفوان وابن أبي عمير عنه، وهم ممّن لا يروي ولا يُرسل إلا عن ثقة، وقد ذكر الطوسي طريقاً صحيحاً في الفهرست يثبت رواية صفوان لكتاب الصيداوي.
ويناقش بعدم صحّة هذه النظرية في علم الجرح والتعديل كما فصّلناه في أبحاثنا الرجالية.
ج ـ ورود رواية يترحّم فيها الإمام× على كليب، وهي صحيحة زيد الشحّام عن الإمام الصادق قال: قلت له: إنّ عندنا رجلاً يقال له: كليب، لا يجيء عنكم شيء إلا قال: أنا أسلّم، فسمّيناه كليب تسليم، قال: فترحّم عليه، ثم قال: «أتدرون ما التسليم؟..»([11]).
لكنّ الاعتماد على هذا الخبر ـ كما فعل السيد الخوئي([12]) ـ مشكلٌ؛ فإنّ غايته أنّ الإمام قد ترحّم عليه من جهة تسليمه لأهل البيت، وهذا لا يعني أنه لا يفعل معصيةً، مثل معصية الكذب؛ فإنّ التسليم غير الاتّباع والعمل، فجهة المدح مختلفة، ولا دليل على أنّ الإمام لا يترحّم على شخص فيه خصلة جيدة، مع كونه سيئاً في ناحية أخرى.
يضاف إلى ذلك أنه يبدو أنّ الإمام لا يعرفه، وإنما ذُكر اسمُه أمامه، فلا يكون التوثيق إلا بناءً على علم الإمام بالغيب في مثل هذه الموضوعات من جهة، وعمله بعلمه الغيبي لا بالعلوم الظاهرية في مثل هذا الترحّم، وإثبات هذا كلّه معاً مشكل من غير طريق هذه الرواية نفسها.
أضف إلى ذلك، كيف عرفنا أنّ زيداً الشحام كان يقصد كليب الأسدي الذي نتحدّث عنه هنا في سند هذه الرواية، وليس شخصاً آخر، فإننا لم نعثر على رواية لزيد عن كليب الأسدي حتى نتأكّد من معرفته له، فربما قصد شخصاً آخر، ومجرّد تشابه الاسم ـ مع عدم ذكر مثل اسم الأب ولا الكنية ولا اللقب ولا النسبة ـ لا يثبت أنّ الإمام يقصد كليب الأسدي الصيداوي([13])، فالاستدلال بهذه الرواية مشكل، ولعلّ سبب خطأ السيد الخوئي أنّه رأى الكشي وضع هذه الرواية ضمن عنوان: كليب الصيداوي، فلم يلتفت إلى ذلك، فلعلّ الكشي مشتبهٌ أو وقع الاشتباه من طرف الشيخ الطوسي مختصِر كتاب «معرفة الرجال» للكشي.
فليس لتوثيق كليب من سبيل سوى رواية صفوان وابن أبي عمير عنه، فإن تمّ هذا المبنى كان ثقة وإلا فلا، ونحن نتوقّف في هذا المبنى.
ثانياً: إنّ الرواية تحوي قدراً من الغموض على مستوى الدلالة، فإنها تقرّر في نهايتها أن يقال للناس: ذهبنا حيث ذهب الله؛ لكنها عندما تطبّق هذا العنوان تقول: إنّ الله اختار محمداً واخترنا آل محمد؛ فلو كانت الكبرى صادقة للزم أن يقال: واخترنا محمّداً، فكيف صحّت المطابقة؟
لكنّ هذا الإشكال يمكن التخلّص منه بأنّ المراد إنّ الله اختار بني هاشم، فنحن أخذنا الوصية من عين الموضع الذي اختار منه الله النبوّة؛ فلا حزازة في التعبير، فإنّ قبل هذا التأوّل فيها وإلا أشكل الأمر.
4 ـ خبر ثابت أبي (بن) سعيد، قال: قال أبو عبد الله: «يا ثابت! ما لكم وللناس! كفّوا عن الناس؛ ولا تدعوا أحداً إلى أمركم، فوالله لو أنّ أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يهدوا عبداً يريد الله ضلالته ما استطاعوا على أن يهدوه، ولو أنّ أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يضلّوا عبداً يريد الله هدايته ما استطاعوا أن يضلّوه، كفّوا عن الناس، ولا يقول أحدٌ: عمّي وأخي، وابن عمي وجاري؛ فإنّ الله إذا أراد بعبد خيراً طيّب روحه، فلا يسمع معروفاً إلا عرفه ولا منكراً إلا أنكره، ثم يقذف الله في قلبه كلمةً يجمع بها أمره»([14]). وقد وردت هذه الرواية في موضع آخر من الكافي باختلافات طفيفة([15]).
والرواية ظاهرة بل صريحة في النهي عن دعوة الناس إلى هذا الأمر (التشيّع)، مركّزةً مرّةً أخرى على ذلك البُعد الغيبي المرتبط بالجذب الإلهي للهداية، وليس فيها رائحة كون ذلك للتقية.
لكنّ الرواية لا يعتمد عليها، فإنّ راويها ثابت بن سعيد أو ثابت أبو سعيد أو ثابت بن أبي سعيد، رجلٌ مهمل جداً لا شاهد على توثيقه([16])، ومجرّد رواية ابن مسكان عنه لا تدلّ على وثاقته. علماً أنّ هذه الرواية وأمثالها إذا عبّرت عن قانون عام فهي تسقط فريضةً إلهيّة؛ فإنّ الإسلام أيضاً يجري عليه هذا القانون هنا، فلماذا الدعوة إلى الإسلام هنا؟ ولماذا الدعوة إلى قيم الحق والعدالة والخير أيضاً ما دامت القضيّة مرتبطةً بجانبٍ غيبي جاذب؟! الأمر الذي يضع علامة استفهام كبيرة على متن هذه الرواية.
5 ـ خبر علي بن عقبة، عن أبيه، قال: قال أبو عبد الله×: «اجعلوا أمركم هذا لله، ولا تجعلوه للناس، فإنّه ما كان لله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله، ولا تخاصموا الناس لدينكم، فإنّ المخاصمة ممرضةٌ للقلب، إنّ الله تعالى قال لنبيّه$: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾ وقال: ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾، ذروا الناس، فإنّ الناس أخذوا عن الناس، وإنكم أخذتم عن رسول الله$، إني سمعت أبي× يقول: إن الله عز وجل إذا كتب على عبدٍ أن يدخل هذا الأمر كان أسرع إليه من الطير إلى وكره»([17]).
وفي موضع آخر من الكافي وفي المحاسن([18]) جاء بعض التعديل، مثل إضافة الإمام علي× بعد قوله: «أخذتم عن رسول الله$ وعلي×، ولا سواء» وهذا الخبر ظاهر في النهي عن خوض الجدال المذهبي، فإنّ المخاصمة ممرضة للقلب؛ لهذا يدعو الإمام إلى ترك الناس.
والذي يبدو من هذا الخبر أنه لا يريد ترك هداية الناس، بل يريد ترك المبالغة في هذا الأمر وترك المخاصمة وخوض سجالات مذهبية عنيفة، ولهذا فإنّ أمره «ذروا الناس» ليس بمعنى الترك المطلق، وإنما ترك هذا الإفراط في المخاصمات والمماحكات، بقرينة سائر مقاطع الرواية وطبيعة لسانها ولحنها.
وأما من حيث السند فالرواية ضعيفة بعقبة بن خالد، حيث إنّ توثيقه([19]) مبنيٌّ على وروده في أسانيد كامل الزيارة، وليس من المشايخ المباشرين حتى نثبت توثيقه، أو على ورود بعض الروايات فيه، وهي إمّا يرويها هو بنفسه فلا يستند إليها لإثبات وثاقته، أو إنّها ضعيفة السند.
6 ـ خبر أبي بصير، عن أبي جعفر× قال: «لا تخاصموا الناس، فإنّ الناس لو استطاعوا أن يحبّونا لأحبونا، إنّ الله أخذ ميثاق الناس، فلا يزيد فيهم أحدٌ أبداً، ولا ينقض [ينقص] منهم أحدٌ أبداً»، ووردت في موضع آخر باختلاف في الذيل: «إنّ الله أخذ ميثاق شيعتنا يوم أخذ ميثاق النبيين..»([20]).
والخبر ظاهر في النهي عن مخاصمة الناس لأجل القضية المذهبية؛ بصرف النظر عن قضيّة التشييع أيضاً، فحالها حال الرواية السابقة، علماً أنّ في سندها القاسم بن محمد الذي لم يثبت توثيقه؛ إن لم يكن ضعيفاً.
يضاف لذلك أنّ هذا اللسان يصلح لإسقاط كلّ فريضة الهداية والإرشاد والأمر بالمعروف؛ فإذا كان الله يعلم وسجّل أسماء الشيعة أو المهتدين لا يزيدون ولا ينقصون، ولهذا افترضت الرواية ترك المخاصمة؛ إذاً فمفهوم هذا التعليل يصلح أيضاً لترك مختلف أنواع الهداية والإرشاد للآخرين وليس فقط تشييعهم، وهذا ما نراه يعارض الكتاب السنّة القطعيين؛ فلا نأخذ به.
7 ـ خبر أبي بصير الآخر، قال: قلت لأبي جعفر×: أدعو الناس إلى حبّك بما في يدي (إلى ما في يدي)؟ فقال: «لا»، قلت: إن استرشدني أحد أرشده؟ قال: «نعم، إن استرشدك فأرشده؛ فإن استزادك فزده، فإن جاحدك فجاحده»([21]).
فهذا الخبر ظاهر في عدم الدعوة إلى أمرهم^، نعم لو طلب شخص ذلك كان به، وذيلها إما يُقصد منه عدم إظهار المعتقد له، أو إذا أنكر شيئاً فأنكر عليه.
والخبر ضعيف السند بضعف سابقه بالقاسم بن محمد.
8 ـ خبر حمران بن أعين، قال: قلت لأبي عبد الله×: أسألك أصلحك الله؟ قال: «نعم»، قال: كنت على حال وأنا اليوم على حال أخرى، كنت أدخل الأرض فأدعو الرجل والاثنين والمرأة فينقذ الله من يشاء، وأنا اليوم لا أدعو أحداً؟ فقال: «وما عليك أن تخلّي بين الناس وربّهم؟ فمن أراد الله أن يخرجه من ظلمة إلى نور أخرجه»، ثم قال: «ولا عليك إن آنست من أحد خيراً أن تنبذ إليه الخير نبذاً»، قلت: أخبرني عن قول الله: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾ قال: «من حرق أو غرق أو غدر» ثم سكت، فقال: «تأويلها الأعظم أن دعاها فاستجابت له»([22]).
والخبر دالّ على الرخصة في ترك الهداية الاعتقادية للناس، وأنّ هذا الأمر يمكن أن يُترك لله تعالى، نعم في ذيلها إشارة إلى الاستحباب وأنّ ذلك إحياء للنفس الإنسانية، لكنّ الخبر ضعيف السند بحمد بن خالد البرقي، والد صاحب المحاسن، الذي اختلفوا في توثيقه وتضعيفه، ونحن نتبنّى عدم ثبوت وثاقته؛ لتعارض جهات توثيقه وتضعيفه.
يضاف إلى ذلك أنّ هذا الخبر يمدح دعوة الآخرين التي يعبّر عنها بأنّها إحياء لهم، ثم في البداية نجده يقدّم ثقافة اللامبالاة إزاءهم، وفي هذا قدرٌ من التناقض إن لم نحمل الخبر على خصوصية زمكانية، وإلا فلا حلّ لهذا الأمر إلا أن نفرض أنّ هذه الرواية ترفض الدعوة للغير إلى الحقّ إلا عند استئناس الأمر منه والإحساس بإمكانيّة تقبّله، وهذا طرح معقول، فليس المراد النهي مطلقاً عن الدعوة أو اللامبالاة إزاءها وإنّما التمييز بين حالات الإحساس بالقبول وعدم ذلك.
9 ـ خبر الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله× قال: «لا تدعوا إلى هذا الأمر؛ فإنّ الله إذا أراد بعبدٍ خيراً أخذ بعنقه، فأدخله في هذا الأمر»([23]).
وظاهر هذا الحديث النهي عن دعوة الناس لخطّ الإمامة والتشيّع؛ معلّلاً أيضاً بأنّ قضية التشيّع بيد الله عزّ وجلّ في جذب الإنسان إليها، وليس في الرواية رائحة تقية ولا رائحة الارتباط بمسألة الخصومة لو بقينا معها لوحدها.
ولهذا الخبر سندان: أحدهما ضعيف بمحمد بن خالد البرقي؛ والثاني بأبي البلاد يحيى بن سليم (سليمان أو أبي سليمان)؛ وإن وجدت بعض التوثيقات له عند أهل السنّة([24])، وبعض التحفّظات([25])، ولعلّ التحفظات التي عبّرت بعدم الاحتجاج به ترجع لقلّة ضبطه لا لوثاقته.
10 ـ خبر أيوب بن الحرّ، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: «إن رجلاً أتى أبي فقال: إني رجل خصم، أخاصم من أحبّ أن يدخل في هذا الأمر، فقال له أبي: لا تخاصم أحداً؛ فإنّ الله إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتةً حتى أنه ليبصر به الرجل منكم يشتهي لقاءه»([26]).
والرواية موردها الخصومة، فهي تنهى عن مخاصمة الناس لأجل تشييعهم، وتفيد بأنّ الأمر كأنّه موكول إلى الله تعالى، فهو يجذب من يريد أن يجعله على هذا الطريق فيهتدي.
والخبر ضعيف السند بمحمد بن خالد البرقي، وكذلك بثابت بن سعيدة في سنده الآخر.
11 ـ خبر داوود بن فرقد، قال: كان أبي يقول: «ما لكم ولدعاء الناس؛ إنه لا يدخل في هذا الأمر إلا من كتب الله له»، ونحوه خبر ثابت([27]).
والخبر واضح الدلالة على ترك الناس وشأنها على مستوى هذا الموضوع، وأنّ الأمر فيه بيد الله تعالى، لكنّ غير تام بمحمد بن خالد البرقي.
12 ـ خبر خلف بن حماد، قال: تزوج بعض أصحابنا جارية معصراً لم تطمث، فلما اقتضها سال الدم فمكث سائلاً لا ينقطع نحواً من عشرة أيام؟ قال: فأروها القوابل ومن ظنّوا أنه يبصر ذلك من النساء، فاختلفن، فقال بعض: هذا من دم الحيض، وقال بعض: هو من دم العذرة، فسألوا عن ذلك فقهاءهم كأبي حنيفة وغيره من فقهائهم فقالوا: هذا شيء قد أشكل، والصلاة فريضة واجبة فلتتوضأ ولتصلّ وليمسك عنها زوجها حتى ترى البياض، فإن كان دم الحيض لم يضرّها الصلاة وإن كان دم العذرة كانت قد أدّت الفرض. ففعلت الجارية ذلك وحججت في تلك السنة. فلما صرنا بمنى بعثت إلى أبي الحسن موسى بن جعفر ـ عليهما السلام ـ فقلت: جعلت فداك، إنّ لنا مسألة قد ضقنا بها ذرعاً فإن رأيت أن تأذن لي فآتيك وأسألك عنها؟ فبعث إليّ: إذا هدأت الرجل وانقطع الطريق فأقبل إن شاء الله. قال خلف: فرأيت الليل حتى إذا رأيت الناس قد قلّ اختلافهم بمنى توجّهت إلى مضربه، فلما كنت قريباً إذا أنا بأسود قاعد على الطريق فقال: من الرجل؟ فقلت: رجلٌ من الحاج، فقال: ما اسمك؟ قلت: خلف بن حماد. قال: ادخل بغير إذن، فقد أمرني أن أقعد ههنا فإذا أتيت أذنت لك، فدخلت وسلّمت فردّ السلام وهو جالس على فراشه وحده، ما في الفسطاط غيره، فلمّا صرت بين يديه سألني وسألته عن حاله فقلت له: إنّ رجلاً من مواليك تزوّج جاريةً معصراً لم تطمث، فلما اقتضّها سال الدم فمكث سائلاً لا ينقطع نحواً من عشرة أيام، وإنّ القوابل اختلفن في ذلك، فقال بعضهنّ: دم الحيض، وقال بعضهنّ: دم العذرة، فما ينبغي لها أن تصنع؟ قال: «فلتتق الله، فإن كان من دم الحيض فلتمسك عن الصلاة حتى ترى الطهر وليمسك عنها بعلها، وإن كان من العذرة فلتتق الله ولتتوضأ ولتصلّ ويأتيها بعلها إن أحبّ ذلك»، فقلت له: «وكيف لهم أن يعلموا مما هو حتى يفعلوا ما ينبغي؟ قال: فالتفت يميناً وشمالاً في الفسطاط مخافة أن يسمع كلامه أحد، قال: ثم نهد إليّ، فقال : «يا خلف، سرّ الله، سرّ الله فلا تذيعوه، ولا تعلّموا هذا الخلق أصول دين الله، بل ارضوا لهم ما رضي الله لهم من ضلال»، قال: ثم عقد بيده اليسرى تسعين، ثم قال: «تستدخل القطنة ثم تدعها ملياً ثم تخرجها إخراجاً رفيقاً، فإن كان الدم مطوّقاً في القطنة فهو من العذرة، وإن كان مستنقعاً في القطنة فهو من الحيض»، قال خلف: فاستحفني الفرح فبكيت، فلما سكن بكائي، قال: «ما أبكاك؟» قلت: جعلت فداك، من كان يحسن هذا غيرك؟ قال: فرفع يده إلى السماء، وقال: «والله إني ما أخبرك إلا عن رسول الله$ عن جبرئيل عن الله عز وجل»([28]).
فهذا الخبر ينهى عن إعطاء أصول دين الله للناس ويطالب بالرضا بضلالهم من حيث إنّ الله تعالى رضي بالضلال لهم.
ولو رصدنا سند هذا الخبر لوجدنا فيه محمد بن خالد البرقي تارةً ولم يثبت توثيقه، وإبراهيم بن هاشم أخرى، وقد توقفنا في توثيقه، وربما صحّح سندٌ ثالث لم أعثر عليه عند صاحب المحاسن، ففي الكافي نقل عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، دون بيان المصدر، وفيه محمد بن أسلم الذي يصحّح على نظريتي: كامل الزيارة وتفسير القمي، وإن نقل النجاشي أن هناك من يقول: إنه كان غالياً فاسد المذهب.
ومهما يكن، فأنا لا أصدّق صدور هذه الرواية عن أهل البيت النبوي؛ وذلك:
أولاً: ليست قضية عدم طمث الزوجة ثم بعد الدخول بها تنزف دماً كثيراً فيشك في أمرها، ليست هذه القضية بالتي تصل إلى مستوى أن تكون سرّ الله الذي ننهى عن إشاعته؛ وإلا فما الفرق بينها وبين أيّ مسألة فقهية أخرى؟ وهل كانت تبلغ التقية حداً يُنهى الشيعة فيه عن إشاعة حتى أصاغر الأمور هذه؟ وهي أمور كان مختلفاً حولها بين فقهاء أهل السنّة أنفسهم، وليست من قضايا السلطان أو مما يخدش ثقافة العامّة من الناس، فأمر هذه الرواية عندي مريب، وطريقة تسلسل أحداثها يعطيها طابعاً متعمّداً في الغموض، وظاهر خلف بن حماد أنه شيعي من الخواص بناء على صدق الرواية، ولست أدري هل هذا المفهوم الذي قدّمته هذه الرواية للتمييز بين دم العذرة ودم الحيض أمرٌ عظيم إلى هذا الحدّ حتى تكون ردّة فعل القوابل وفقهاء أهل السنّة الجهل المطبق بهذا الأمر، فيما يبكي حماد عندما يسمع القضيّة، ثم يربط الإمام المعرفة بهذا الأمر بأنّه من النبي عن جبريل عن الله سبحانه؟!
ثانياً: ليس واضحاً لديّ ما هو معنى عدم تعليم الخلق دين الله والرضا لهم بما رضي الله لهم من خلال، فهل يرضى الله الضلال لعباده؟! فإن قصد هنا خصوصية للناس في ذلك الزمان فالرواية لا يُستند إليها هنا في محلّ شاهدنا لعدم عموميّتها، وإذا كانت عامّةً لكل الخلق فمعناها إسقاط فريضة الهداية والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلماذا بعث الله الأنبياء والرسل؟ وهل هذا المفهوم يطابق القرآن أم يصادمه؟
وكأنّ بعض العلماء الشيعة تنبّه لمشكلة هذه الرواية، فقد علّق عليها السيد العاملي بقوله: «هذا الكلام وارد على سبيل المجاز، والمراد أنه رضي لهم الاختيار الموصل لهم إلى الضلال»([29])، ولكنّ هذا التحليل غريب عن ظاهر الرواية ولا شاهد عليه، فإنّها ربطت الرضا بالضلال نفسه لا بالاختيار، ثم لم نفهم ما معنى الرضا باختيارهم المفضي على الضلال! فهل هذا الرضا مقبولٌ أيضاً عليه سبحانه؟!
وقد حاول العلامة المجلسي تفادي هذه المشكلة في الرواية، فقال: «وقوله عليه السلام: ارضوا لهم ما رضي الله لهم، أي أقرّوهم على ما أقرّهم الله عليه، وليس المراد حقيقة الرضا كما ذكره الشيخ البهائي قدّس الله روحه»([30]). وكأنّ المجلسي يريد بذلك تحويل الإقرار إلى مفهومه الفقهي بما يشبه التعامل معهم على ما هم عليه، إلا أنّ الإنصاف أنّ هذا خلاف ظاهر الحديث، حيث يستخدم كلمة الرضا وهي تناقض المفهوم القرآني القائل: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ (الحجرات: 7)، والقائل: ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (الزمر: 7).
فالصحيح إما حملها على خصوصية ما آنذاك، فلا يعتمد عليها، وإما ردّ علمها إلى أهلها وعدم الاحتجاج بها ولو صحّت سنداً حيث ذهب المشهور إلى صحّتها السندية.
مقاربة إجمالية لنصوص المنع عن التشييع
هذا هو مهمّ الروايات الواردة في هذا المجال، وبرأينا لم يثبت صحّة سند هذه الروايات، لكن على المشهور المعروف يصحّح سند لا أقلّ أربعاً منها. ولنفرض صحّتها السندية، ولنفرض كذلك أنّ كثرتها تغني عن سندها، فكيف تفهم هذه الروايات؟
الذي يمكن أن يقال ـ عموماً ـ في فهمها أو الحكم عليها هو أنّ مجموعةً منها ظاهرةٌ في النهي عن عنوان المخاصمة والمبالغة في التشدّد ونشر التشيّع، فيما مجموعة أخرى منها ظاهرها الإطلاق، أي إطلاق النهي عن دعوة أحد إلى هذا الأمر، والملفت أنّ العلّة المذكورة في الطائفتين كانت واحدة في عدد من الروايات، ألا وهي تكفّل الله تبارك وتعالى بإلهام الطرف الآخر بالحقّ والنكت في القلب، فلا داعي بعد ذلك لإتعاب النفس بهذا الموضوع، فيلتزم حينئذٍ بالنهي المطلق، والمخاصمة أحد مصاديقه، أو تحمل نصوص النهي المطلق على مورد المخاصمة؛ وذلك بالقول: إنه يبدو أنّ هناك ظاهرة كانت موجودة عند بعض الشيعة آنذاك في تبنّي قضية نشر المذهب الشيعي بين الناس وجعلها من أولى الأولويات وتشدّدهم في ذلك حدّ ترتب بعض الآثار السلبية على هذه المبالغة، فأرادت هذه الروايات أن توصل رسالةً إلى الشيعة مفادها التزام الهدوء في هذا الأمر، وعدم المبالغة في هذه القضية بما يجرّ مفسدةً عليهم، أو بما يفضي إلى المخاصمات المضرّة بوحدة المسلمين والتي تورث مرض القلوب، فليس في الروايات نهياً عن مطلق دعوة الناس، وإنما عن خصوص الدعوة المبالغ فيها والمتعنونة بمثل هذه العناوين.
فإذا قبل هذا التفسير الذي يحصر دائرة النصوص بحال التخاصم والتشدّد والمبالغة، كان به، وإلا التزم بالتفريق بين ثلاثة عناوين يبدو أنها متمايزة في لسان هذه النصوص، وهي:
أ ـ عنوان الدعوة، بمعنى أن يقوم الشيعة بحمل فكرة نشر التشيّع ثم يذهبون إلى الناس بالطريقة الممكنة ويدعونهم إلى هذا الأمر ويسعون لإقناعهم وجعلهم شيعة؛ وهذا هو المنهيّ عنه.
2 ـ عنوان الاستجابة؛ بمعنى أنّ الناس إذا جاؤوا يريدون معرفة التشيّع ويميلون إليه كان الشيعي مطالباً بالاستجابة لجذب هؤلاء إلى التشيّع، وهذا ما يفهم من خبر أبي بصير (الرواية السابعة)، ومن خبر حمران (الرواية الثامنة) على مستوى استئناس الخير.
3 ـ عنوان العرض، بمعنى أن لا يدعوا أحداً، بل يعرضوا مذهبهم فقط، فمن شاء أن يهتدي فعلى الرحب والسعة؛ ومن لم يشأ لا يذهبون وراءه، وهذا المعنى يفهم من مثل خبر كليب بن معاوية الصيداوي (الرواية الثالثة).
فنجمع بين هذه النصوص بعرض التشيّع والاستجابة لمن يريده، وتشييع من نرى فيه هذه العلائم المقبلة، أما غير ذلك من المبالغة والسعي لذلك والتشدّد والمخاصمة فلا.
وقد يمكننا الاستناد ـ بغية تحقيق هذا الجمع العام للنصوص وتوكيده ـ إلى مجموعة من الروايات التي ظاهرها الدعوة إلى التشيّع، وهي:
1 ـ صحيحة الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي جعفر×: قول الله عز وجل في كتابه: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾؟ قال: «من حرق أو غرق»، قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال: «ذاك تأويلها الأعظم»([31]).
فهذا الخبر يدلّ على الترغيب في نقل الآخرين من الضلال إلى الهدى؛ وهو خبر تام السند أيضاً، لكنّ المشكلة أن الخبر عام يحكي عن مطلق نقل الآخرين من الضلالة إلى الهداية؛ فتكون نسبة تلك الروايات المتقدّمة إليه نسبة الخاص إلى العام؛ لأنها منحصرة بمورد الهداية الاعتقادية في خصوص قضية المذهب الشيعي في الوسط المسلم غير الشيعي، فمقتضى القاعدة تقدَّم تلك على هذه الرواية.
2 ـ معتبرة سماعة، عن أبي عبد الله× قال: قلت له: قول الله عزل وجل: ﴿مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾، فقال: «من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنما أحياها، ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها»([32]).
والرواية حالها في السند والدلالة كحال سابقتها، فلا نعيد.
ونحو هذين الخبرين خبر السياري([33]) ـ الضعيف سنداً ـ، وخبر محمد بن مسلم المبتلى بالإرسال([34])، وخبر أبي بصير المرسل كذلك([35]) وخبر الطبرسي المرسل([36]).
3 ـ صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع: «أرأيت البصرة؟»، فقال: نعم، قال: «كيف رأيت مسارعة الناس إلى هذا الأمر ودخولهم فيه؟»، قال: والله، إنهم لقليل، ولقد فعلوا وإنّ ذلك لقليل، فقال: «عليك بالأحداث، فإنهم أسرع إلى كلّ خير»، ثم قال: «ما يقول..»([37]).
هذه الرواية التامّة السند يبدو فيها الإمام مهتماً بأمر معرفة إقبال أهل البصرة على الدخول في التشيّع، وكأنّه يوجّه سلسلة ملاحظات ميدانية لمؤمن الطاق، في أن يلاحظ صغار السنّ فإنهم أسرع تقبّلاً ولا يركّز على الكبار والشيوخ.
ومضمون هذه الرواية ينسجم بعضَ الشيء مع الجمع الذي ذكرناه سابقاً؛ لأنّ الأحداث هم أولئك الذين يستأنس فيهم القبول، ولا يجرّ مشروع الدعوة فيهم إلى مخاصمات أو مبالغات أو تشدّد، أضف إلى ذلك أنّ ظاهر الرواية أنّ الحديث جرى مع مؤمن الطاق، وهو من أكابر متكلّمي الإمامية ووجوه الشيعة، فلا نحرز أنّ الإمام يعطي قاعدةً للجميع، فبضمّ الروايات إلى بعضها نفهم أنّ خصوصية المتصدّي وخصوصية المتصدّى له ـ وهم الأحداث ـ هي التي دفعت الإمام لتوجيه هذا الطلب له، ومجرّد أن يسأل الإمام عن حال امتداد التشيع لا يعني أنه لا يضع قيوداً على حركة التشييع هذه.
4 ـ معتبرة سليمان بن خالد، قال: قلت لأبي عبد الله×: إنّ لي أهل بيت وهم يسمعون منّي، أفأدعوهم إلى هذا الأمر؟ فقال: «نعم، إنّ الله عز وجل يقول في كتابه: ﴿يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة﴾»([38]) ونحوها خبر جابر الجعفي([39]).
وهذا الخبر المعتبر السند خاصّ بحال الأسرة التي يعلم الإنسان في العادة تقبّلها لكلامه؛ فيكون منسجماً مع الجمع الذي أبرزناه سابقاً من دعوة من يرى فيه القابلية ولا تجرّ دعوته إلى مخاصمة أو لجاج أو ما شابه ذلك.
5 ـ خبر داود بن كثير، عن أبي عبد الله× في قول الله عز وجل: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُون أَيَّامَ اللهِ﴾ قال: «قل للذين مننا عليهم بمعرفتنا، أن يعرّفوا الذين لا يعلمون، فإذا عرّفوهم فقد غفروا لهم»([40]).
فهو خبر دالّ على الترغيب في التعريف بأهل البيت كي يعرفهم الآخرون ويأخذوا بهديهم، نعم هو دالّ على العرض والتعريف لا على الدعوة بالمعاني التي شرحناها سابقاً فيعزّز الجمع المتقدم. والخبر ضعيف بجهالة عمر (عمرو) بن رشيد([41])، الذي لا توثيق له إلا وروده في تفسير علي بن إبراهيم، وليس بمعتمد.
وبناءً عليه، فالروايات المندّدة بالدعوة إلى المذهب الشيعي لا يصلح العمل بها، بل هي عندي لا تفيد الوثوق بصدور الدالّ منها على ذلك؛ لأنها بين:
أ ـ ضعيف سنداً.
ب ـ ومردود دلالةً بمعارضة القرآن والسنّة القطعية؛ لأنّ النهي عن الدعوة بعلّة أنّ الهداية وكلّ خيرٍ يريده الله من العبد يتكفّل به فينكت في قلبه… هذا النهي باطل بأساس الإسلام، فلماذا أرسل الله الرسل والأنبياء؟ ولماذا كانت فريضة الأمر والنهي؟ ولماذا العمل ما دام الموضوع راجعاً لإلقاء الله في الروع؟! وهل هذا يشي بالنزوع الصوفي لضنّ العلم عن غير أهله؟!
ج ـ وغير دالّ على أزيد من النهي عن المخاصمة والتشدّد والمبالغة.
فلا يعمل بهذه الروايات، لاسيما إذا لم نأخذ بالجمع المتقدّم؛ لوجود معارض لها تام السند أيضاً، وهذا المعارض موافق لعمومات الكتاب والسنّة، فيقدّم، فالصحيح شمول باب الهداية والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للدعوة المذهبية، لكن يفهم من النصوص استخدام أسلوب العرض تارةً، وملاحظة قابلية الطرف الآخر ثانيةً وإقباله ورغبته، وعدم جرّ ذلك للتخاصم واللجاج أو تعنونه بمفسدة من هذا النوع.
2 ـ 3 ـ التمدّد المذهبي وإشكالية الأمن العقائدي، رصد الهواجس وفهم المواقف
تطرح في مواجهة قضيّة الدعوة المذهبية والتمدّد الطائفي إشكاليّة من نوع آخر يتصل بالعناوين العامّة المرتبطة بالاجتماع الإسلامي، وذلك من نوع الحديث عن أنّ نشر مذهب ما في وسط محيط مختلف تماماً يفضي إلى ضرب الأمن العقائدي في المجتمع، ومن ثم إحداث شرخ ديني اجتماعي ربما يفضي إلى تداعيات سلبية على المجتمع الإسلامي، وينتصر هذا الفريق لفكرته هذه بأنّ القيام بالدعوات المذهبية سوف يخلق تشظياً في المجتمع، الأمر الذي يخالف المقاصد الشرعيّة العامّة على مستوى البلاد الإسلامية.
ولو تمّ هذا الدليل لصار معناه تحريم نشر أبناء هذا المذهب لعقيدتهم بمعنى الدعوة إليها وتكفّل تبنّيها في المجتمعات الأخرى، دون أن يختصّ هذا الأمر بالتشيّع أو غيره.
والذي نراه هنا أنّ مسالة حريّة نشر المعتقد والدعوة إليه مبدأ أساس في الداخل الإسلامي، يقوم في شرعيّته على مبدأ شرعيّة الاجتهاد والاحتكام في الرأي إلى الكتاب والسنّة، ومن ثمّ فلو رأى الطرف الآخر فيه نشراً للبدعة والضلالة فمن حقّه أن يواجهه، لكنّ هذا لا يعني أنّ الطرف الأوّل يحرم عليه فعل ذلك انطلاقاً من قناعته بصواب ما ذهب إليه في اجتهاده العقدي أو الفقهي، وهذا لا يمنع أن يكون الأسلوب الذي تنفتح فيه البلدان الإسلامية على بعضها في هذا السياق مدروساً بما لا يفضي إلى عمليات استغلال سياسي يوجب تشظّياً في الاجتماع الإسلامي، والنتيجة التي توصّلنا إليها آنفاً تساعد على التمييز بين حالتي نشر التشيّع ـ مثلاً ـ عبر تشكيل خلايا تعمل على تبنّي هذا النشاط بكسب زيد هنا أو عمرو هناك، وبين فتح المجال لكي يقول كلّ مسلم رأيه الاجتهادي الذي يراه ويقوم بوظيفته الدينية وفقاً لرأيه هذا، مستخدماً الطرق المتعارفة في التخاطب الثقافي دون أن يحجر عليه في هذا البلد أو ذاك.
والنتيجة التي نخرج بها أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستوعبان للجانب العقدي والفكري أيضاً، وأنّه لا حَجْر دينيّاً على أحد في الداخل الإسلامي في أن يدعو إلى مذهبه الفكري والعقيدي والثقافي مراعياً الظروف الموضوعيّة ومطبّقاً قانون المصالح والمفاسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو القانون الذي أشار إليه الشيخ ابن تيمية الحراني في أبحاثه في قضايا الحسبة([42]).
____________________________________
([1]) هذا البحث جزءٌ من كتاب (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 310 ـ 330)، من تأليف حيدر حبّ الله، نشر مؤسّسة الانتشار العربي في بيروت، الطبعة الأولى، 2014م.
([2]) الطوسي، الأمالي: 45 ـ 46؛ ورجال الكشي 2: 634.
([3]) انظر: معجم رجال الحديث 10: 21 ـ 23، رقم: 5719.
([4]) انظر: المصدر نفسه 7: 222 ـ 223، رقم: 3960؛ و7: 256، رقم: 3997.
([5]) المحاسن 1: 202؛ والكافي 1: 167.
([6]) الكافي 2: 213؛ وتفصيل وسائل الشيعة 16: 189 ـ 190؛ كتاب الأمر والنهي، أبواب الأمر والنهي، باب21، ح1.
([7]) تفصيل وسائل الشيعة 16: 189؛ وشرح أصول الكافي 5: 74.
([8]) انظر: معجم رجال الحديث 18: 227 ـ 234، رقم: 11766 ـ 11781.
([12]) معجم رجال الحديث 15: 126.
([13]) اختيار معرفة الرجال 2: 630 ـ 631.
([15]) الكافي 2: 213؛ وانظر: المحاسن 1: 200؛ وتحف العقول: 312.
([16]) انظر: معجم رجال الحديث 4: 288 ـ 290، 300 ـ 301، رقم: 1940 ـ 1941، 1945، ورقم: 1965.
([17]) الكافي 1: 166؛ والتوحيد: 414 ـ 415.
([18]) الكافي 2: 213 ـ 214؛ والمحاسن 1: 201.
([19]) راجع: معجم رجال الحديث 12: 167 ـ 169، رقم: 7733.
([21]) المصدر نفسه 1: 232؛ وتفصيل وسائل الشيعة 16: 191؛ كتاب الأمر والنهي، أبواب الأمر والنهي، باب21، ح6.
([22]) المحاسن 1: 232؛ والكافي 2: 211.
([24]) انظر: معجم رجال الحديث 21: 24، رقم: 13467. وص59، رقم: 13550، وص60، رقم: 13555.
([25]) الرازي، الجرح والتعديل 9: 160؛ وابن حبان، الثقات 7: 604؛ وميزان الاعتدال 4: 507.
([28]) الكافي 3: 93 ـ 94؛ والمحاسن 2: 307 ـ 308.
([32]) الكافي 2: 210؛ وانظر: الطوسي، الأمالي: 226؛ والبرقي، المحاسن 1: 231 ـ 232.
([33]) مستدرك الوسائل 12: 238 ـ 239.
([35]) المصدر نفسه: 239 ـ 240.
([37]) الكافي 8: 93؛ وقرب الإسناد: 128.
([38]) الكافي 2: 211؛ والمحاسن 1: 231.
([39]) مستدرك الوسائل 12: 242.
([40]) تفسير القمي 2: 294؛ ومستدرك الوسائل 12: 240 ـ 241.
([41]) انظر: معجم رجال الحديث 14: 107، رقم: 8919؛ وص14، رقم: 8750.
[42] راجع: ابن تيمية، الحسبة: 77 ـ 79.