نظام الولايات في الحكم الإسلامي
من خلال ما سبق، لاحظنا أنّ الخليفة الحاكم كان يشكّل المحور في السلطة المركزية، يساعده في تحقيق الأهداف، ورسم الخطط وتجسيدها: هيئة استشارية من ذوي العلم والتجربة، ووزارة تفويض أو تنفيذ ومن يدور في فلكها، ودواوين إدارية متخصّصة. أما في الأقاليم البعيدة عن العاصمة المركزية، فكانت العوائق الطبيعية (مسافات ومواصلات..) والخصوصيات الاجتماعية (أجناس، أعراف، تقاليد، أديان..) تحول دون الاتصالات المباشرة والسريعة التي تمنع من تطبيق خطّة سياسية وإدارية منسجمة بتفاصيلها مع الخطّة المركزية العامة؛ لذلك اعتمدت الدولة سياسة اللامركزية المحدودة في الولايات، بحيث يفوّض الخليفة ولاته ببعض الصلاحيات المحكومة بالقواعد الكلّية لسياسة الحكم وأهدافه، على أن يلتزموا بأمرين أساسيين: 1 ـ التعاليم والتوجيهات الصادرة عن الحكم المركزي. 2 ـ تقديم تقارير موسميّة عن أحوال أقاليمهم، وواقع إنجازاتهم، والمشاكل التي تصادف مسيرة حكمهم.
1 ـ التقسيمات الإدارية في التاريخ الإسلامي
خلال العصور المتعاقبة، شهدت البلاد الإسلامية تقسيمات إدارية متنوعة، فرضتها سياسة الفتوحات وطبيعة النظام الإداري المعتمد.
أ ـ في العصر النبوي:
منذ أن استقرّ النبي(ص) في المدينة، شرع بوضع قواعد لدولة إسلامية؛ فبنى المسجد ليكون معبداً وملتقى للتقاضي والتباحث، وحقّق الوحدة الاجتماعية والسياسية بالمؤاخاة والعهود والوثائق؛ ثم انطلق في سياسة التبشير والتوسّع، حتى بلغ نفوذه أطراف شبه الجزيرة العربية واليمن والبحرين.. وكي يحيط النبي(ص) بأحوال هذه البلاد، ويؤكّد سلطانه على أراضيها، قام بإجراءات تنظيمية:
1 ـ قسّم البلاد إلى وحدات إدارية محدّدة شملت: المدينة، مكة، تيماء، مقاطعة بني كندة، نجران اليمن، حضرموت، عمان، البحرين..([1]).
2 ـ اختار لكل وحدة إدارية والياً، يقوم بنشر الإسلام وإمامة الصلاة، وجباية الزكاة، والقضاء وإقامة الحدود وإنفاذ الاحكام.. وكان من أبرز ولاته([2]): المهاجر بن أمية على صنعاء، وزياد بن لبيد على حضرموت، وعلي بن أبي طالب على نجران اليمن، ويزيد بن أبي سفيان على تيماء، والعلاء بن الحضرمي على البحرين..
وكان النبي(ص) يجتهد في اختيار عناصر تتمتّع بقدرٍ كاف من العلم والتقوى والخبرة والحزم والشجاعة، وفي هذا الاطار نسب إلى أبي ذر الغفاري قوله: قلت لرسول الله: ألا تستعملني؟.. قال: فضرب بيده على منكبي، وأجاب: يا أبا ذر.. إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقّها، وأدّى الذي عليه فيها([3]).
وفي هذا الإطار جرت العادة أنه إذا أرسل قائد لفتح بلد، وُلِّي عليه قبل خروجه لفتحه، وكشاهد على ذلك ما ذكره البلاذري: في السنة الثامنة للهجرة، أرسل الرسول(ص) أبا زيد الأنصاري وعمرو بن العاص، ومعهما كتاب منه يدعو الناس إلى الإسلام، وقال لهما: إن أجاب القوم إلى شهادة الحقّ، وأطاعوا الله ورسوله، فعمروا الأمير، وأبو زيد على الصلاة وأخذ الإسلام على الناس، وتعليمهم القرآن والسنّة، وكان ذلك([4]).
ب ـ في العصر الراشدي:
وعلى هدي السنّة الإدارية، سار الخلفاء الراشدون؛ فجاءت تدابيرهم منسجمة مع الاتجاه العام، ومستجيبة للأوضاع الجديدة:
فالخليفة أبو بكر شهد عصره حدثان رئيسان: حروب الردّة التي هدّدت وجود الدولة ووحدتها، فعمل على إعادة اللحمة إلى عناصرها، ثم على فرض هيبتها، والفتوحات في الشام والعراق التي أضافت إلى دولة الإسلام أراضي جديدة، فرضت على الحكم إعادة النظر في التقسيمات الإدارية السابقة؛ فاعتمد التقسيم التالي:مكة.. المدينة.. الطائف.. صنعاء.. حضرموت.. خولان.. زبيد.. ومع (جبل اليمن)، الجند، البحرين.. نجران.. جرش، دومة الجندل([5]).
أمّا الخليفة عمر بن الخطاب، فشهد عصره استقراراً أمنياً، وثباتاً سياسياً وتوسعاً جغرافياً.. مما ولّد ظروفاً ملائمة لتنظيمات إدارية جديدة كان في مقدّمتها نظام الدواوين، الذي ربما أوحى بتقسيم البلاد إلى وحدات إدارية جديدة، كانت على النحو التالي: <مكة.. المدينة.. الطائف.. صنعاء.. الجند.. الكوفة.. البصرة.. مصر.. حمص.. دمشق.. البحرين.. ولاية سجستان ومكران وكرمان.. ولاية طبرستان.. ولاية خراسان.. الأهواز، فلسطين الجزيرة..([6]).
وفي نهاية العصر الراشدي لم تحصل تغيّرات تذكر على هذا الواقع، سوى بعض الإضافات التي فرضتها الفتوحات المحدودة.
ج ـ في العصر الأموي:
تتابعت سياسة الفتح شرقاً وغرباً، بحيث ترامت أطراف الدولة من حدود الصين في الشرق، إلى شواطئ المحيط الأطلسي في الغرب، تضاف إليها الأندلس في أوروبا، ومع هذه المساحات الشاسعة، لم تتغير معالم التقسيمات الإدارية السابقة، ولكنّها شملت بعض الدول بدلاً من المدن والمقاطعات، ويظهر ذلك من خلال أسماء ولايات بعض الولاة؛ فعمرو بن العاص، وعبدالعزيز بن مروان.. مصر، وزياد بن أبيه وابنه عبيدالله والحجاج بن يوسف.. العراق، ومروان بن الحكم.. مكة والمدينة، ومحمد بن مروان.. أرمينية، وموسى بن نصير.. الأندلس، وسليم بن أسلم بن زرعة.. السند والهند([7]).
ولعلّ ما يميز الوضع الإداري في هذا العصر، هو حرية التصرّف والحركة للولاة في ولاياتهم، يستثنى من ذلك الخليفة عمر بن عبدالعزيز الذي شدّد الرقابة وقلّص من سلطات الولاة وحرياتهم([8]).
د ـ في العصر العباسي:
في مستهلّ العصر العباسي، مال الحكم إلى المركزية بفعل قوّة نفوذ الخلفاء مما حوّل الولاة إلى أدوات تنفيذية، إلا من كان الخليفة مطمئناً إلى ولائه، ومن خلال قراءة تاريخ أبي العباس السفاح، تبدو معالم بعض الوحدات الإدارية التي كان يتسلّمها ولاة من عائلة الحكم في معظمهم، فالجزيرة وأرمينية وأذربيجان.. لأبي جعفر المنصور، والحجاز واليمن واليمامة.. لداود بن علي، وبلاد الشام.. لعبدالله بن علي، والبصرة والبحرين وعمان.. لسليمان بن علي، وكور الأهواز.. لسليمان بن علي، وخراسان.. لأبي مسلم الخراساني، ومصر وشمالي أفريقية.. لأبي عون([9]).
أمّا في أوائل القرن الرابع الهجري، فأصبحت الوحدات الإدارية على الشكل التالي: مصر، فارس، البصرة، الأهواز، الريّ، الشام، إصفهان، الثغور..([10]).
ولعلّ ما يميز أواسط هذا العصر، هو الضعف الذي تفشى في جسم الدولة العباسية، مما خفّف الرقابة على ولاة الأمصار، فشجعهم على التمرّد والاستقلال عن الحكم المركزي.. وهذا هو ما دفع ابن الأثير إلى وصف حالة الخلافة في عهد الراضي بالله (322 ـ 329هـ) بالقول: <إنه لم يبق للخليفة سوى بغداد وأعمالها>([11]).
2 ـ العلاقة التربوية والإدارية بين الخليفة والوالي
والتقسيمات الإدارية يتبعها اختيار الولاة الذين يملأون فراغ السلطة، ويتحمّلون مسؤولية تحقيق الأهداف، وتنفيذ خطوات السياسة العامة للدولة، ولقد درج الرسول 2 ـ كما أسلفنا ـ وبعض الخلفاء على احترام الصفات الذاتية والمعنوية الواجب توافرها في شخص الوالي، قبل البتّ في أمر التعيين، وهذا ما أكّده الخليفة عمر بن الخطاب في الموقف التالي: ورد في التاريخ أن عمر بن الخطاب استعمل رجلاً من بني أسد على عملٍ ما، فدخل عليه هذا ليتسلّم مهمته، فوجد الخليفة يقبّل أحد أولاده، فدهش من هذا التصرف العاطفي من رجل دولة، وقال: أتقبّل هذا يا أمير المؤمنين؟!.. فوالله ما قبّلت ولداً لي قط. أجابه عمر: فأنت والله بالناس أقلّ رحمة.. لا تعمل لي عملاً أبداً([12]).
وبعد اطمئنان الخليفة إلى أهلية الوالي، يسلّمه عهد الولاية، ثم كتابين:
أ ـ كتاب تربوي إلى الوالي، يشمل توجيهات الإمام السياسية والإدارية والإنسانية والخلقية.. فعن عمارة بن خزيمة بن ثابت أنه قال: كان عمر بن الخطاب إذا استعمل عاملاً، كتب له كتاباً، وأشهد عليه رهطاً من الأنصار: أن لا يركب برذوناً، ولا يأكل نقياً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون حاجات الناس.. ثم يقول: اللهم اشهد([13]).
واشتهر عن الإمام علي كتبه المطوّلة، التي يشرح فيها مبادئ الحكم الواجب اعتمادها؛ ففي كتابه إلى محمد بن أبي بكر عندما أسند إليه ولاية مصر، يقول: <فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، فإنّ الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، فإن يعذب فأنتم أظلم، وإن يعفُ فهو أكرم..>([14]).
ب ـ كتاب توجيهي إلى الرعية، يحدّد فيه الإمام اسم الوالي ومهماته، وواجباتهم تجاهه. وقد رسم رسول الله’ هذا التقليد برسائل كان يوجّهها إلى الناس من خلال ولاته، وكأنموذج عنها نذكر فقرات من كتابه إلى قبيلة همدان: <بسم الله الرحمن الرحيم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو.. أما بعد، فإنه بلغني إسلامكم، فأبشروا، فإنّ الله قد هداكم بهداه، إذا شهدتم أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً عبد الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، فإنّ لكم ذمّة الله وذمة رسوله على دمائكم وأموالكم، وأرض البور التي أسلمتم عليها، سهلها وجبلها، وعيونها وفروعها، غير مظلومين ولا مضيّق عليهم.. (ألا) وإن مالك بن مرارة الرهاوي قد حفظ الغيب، وبلغ الخبر، فآمركم به خيراً>([15]).
ج ـ رسائل متبادلة، وحينما يتسلّم الوالي مهامه، يبدأ بتنفيذ برنامجه المرسوم له في حماية الدين ونشر الأمن وبسط العدل، وجهاد العدو وغيرها من مفردات الحكم البديهية.. وهو أثناء أدائه لواجباته يظلّ على تواصل مستمرّ مع قيادته، حيث يتبادل مع رموزها ثلاثة أنواع من الرسائل:
1 ـ رسائل الوالي إلى الخليفة (أو من يفوّضه): وفيها يرفع تقريراً عن أحوال رعيته، ومنجزاته في ولايته، والمشكلات التي تنتظر رأيه.. ففي رواية عن الوالي يحيى الغساني، قال: لما ولاني الخليفة عمر بن عبدالعزيز الموصل، وجدتها من أكثر البلاد سرقةً، فكتبت إليه أعلمه حال البلد، وأسأله: آخذ الناس بالظنّة، وأضربهم على التهمة، أو آخذهم بالبيّنة وما جرت عليه السنّة؟ فكتب إليّ أن آخذ الناس بالبيّنة، فإن لم يصلحهم الحق، فلا أصلحهم الله([16])، وكتب عامل حمص إلى الخليفة نفسه: إنّ مدينة حمص قد تهدّم حصنها، فإن رأى أمير المؤمنين في إصلاحه؟ فكتب إليه عمر: أمّا بعد.. فحصنها بالعدل، والسلام([17]).
2 ـ رسائل الخليفة إلى الوالي: وتتوزع على شكلين:
أ ـ رسائل إرشاد وتوجيه تهدف إلى تربية الوالي وتذكيره بالتعاليم الإسلامية التي يجب أن تحكم سيرته وواقع حكمه، بعد اطّلاع الخليفة على بعض المعطيات التي تحتّم مثل هذا، ومن الأمثلة كتاب الخليفة عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح، يقول فيه: <أما بعد.. فإني كتبت بكتاب لم آلك فيه ونفسي خيراً، إلزم خمس خصال يسلم لك دينك، وتحظى بأفضل حقك: إذا حضرك الخصمان، فعليك بالبينات العدول والأيمان القاطعة. أدن الضعيف حتى ينشط لسانه ويجترئ قلبه. تعاهد الغريب؛ فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى أهله، وإذا الذي أبطل حقه، من لم يرفع به رأساً. واحرص على الصلح ما لم يتبين لك القضاء. إياك والهدايا، فإنها من الرشا..>([18]).
وكذلك كتاب الإمام علي إلى عبدالله بن عباس، والي البصرة، يقول فيه: <أمّا بعد.. فإنّ المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك، بلوغ لذة وشفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حقّ. وليكن سرورك بما قدّمت، وأسفك على ما خلفت، وهمّك فيما بعد الموت>([19]).
ب ـ رسائل محاسبة وردع، فمن خلال الرقابة على الوالي، قد يطّلع الخليفة على تجاوزات شرعية وسلوكية قد تشوّه صورة الحكم وهيبته، وهنا يستنفر بعض الخلفاء بأساليب تتّسم بالقسوة أحياناً، نظراً لحجم الذنب المرتكب؛ ففي كتاب إلى زياد بن أبيه، نائب الوالي على البصرة عبدالله بن عباس، يكتب الإمام علي: <وإنّي أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدّن عليك شدّة، تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر، والسلام<([20]).
3 ـ رسائل الخليفة إلى الأمّة: ثم إن الوضع السياسي العام قد يشهد تطورات ومنعطفات حاسمة، تتنوّع فيها الآراء وتتعدّد الاجتهادات التي قد تؤدّي إلى انقسامات حادّة تهدّد وحدة الأمة.. في هذا الجو الذي يلفّه الضباب، يلجأ الخليفة لإصدار بيانات تعرض الحقائق من وجهة نظره، ليثير وعي الأمة كي لا تسقط في متاهات ومآزق، ومن أمثلة ذلك تعقيدات حرب صفين، وما أفرزته من نتائج على صعيد التحكيم وحركة الخوارج، أربكت الوضع العام وأثارت تساؤلات، مما دفع الإمام عليّاً لتوجيه خطاب إلى الأمة، يشرح فيه جميع الملابسات التي رافقت تلك الحقبة: <وكان بدء أمرنا أن التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أنّ ربنا واحد، ونبينا واحد، ودعوتنا إلى الإسلام واحدة.. إلاّ ما اختلفنا فيه من دم عثمان، ونحن منه براء، فقلنا: تعالوا نداوِ ما لا يدرك اليوم بإطفاء الثائرة، وتسكين العامة حتى يشتدّ الأمر ويستجمع فنقوى على وضع الحقّ مواضعه.. فقالوا: نداوه بالمكابرة، فأبوا حتى جنحت الحرب وركدت، ووقدت نيرانها وحسمت، فلما ضرستنا وإياهم، ووضعت مخالبها فينا وفيهم، أجابوا عند ذلك إلى الذي دعوناهم إليه<([21]).
4 ـ التواصل المباشر بين الخليفة والولاة: في العهد الراشدي، استغلّ الخلفاء موسم الحج ليكون لقاء سنوياً (مؤتمراً) يجمع ولاة الأمصار بالخليفة، حيث تطرح فيه مختلف الهموم السياسية والمالية والشؤون العامة، فيبدي الخليفة آراءه، ويصدر توجيهاته ويسلّم خططه([22]). وفي الوقت ذاته، كان الخلفاء يستقبلون وفود الحجّاج من مختلف الأقطار الإسلامية، فيستطلعون أحوالهم، ويستقصون علاقة الولاة بهم؛ فقد ورد في السيرة أنّ الخليفة عمر بن الخطاب كان إذا جاءه الوفد سأل أعضاءه عن أميرهم: هل يعود مرضاكم؟ هل يعود العبد؟ كيف صنيعه بالضعيف؟ هل يجلس على بابه؟.. فإن قالوا لخصلة منها: لا.. عزله ([23]).
العلاقة المالية العامة بين العاصمة والولايات
العلاقة المالية بين العاصمة المركزية والولايات كانت تُرسم مركزياً من قبل الخلفاء، وتنفذ في إطار إداري لا مركزي، فلكلّ إقليم بيت مال خاص، تجمع فيه الأموال الشرعية المقرّرة مقاديرها وفق القواعد الفقهية العامة، أما مصارفها، فكانت تتوزع على قسمين: قسم يخرج لتغطية نفقات الولاية المحلّية من رواتب موظفين، ومصارف إدارية، وميزانية مشاريع عمرانية وإنمائية (استصلاح أراضي، حفر آبار وقنوات، وبناء مساجد ومراكز حكومية..)، وقسم يفيض عن الحاجة يرسل إلى بيت المال المركزي في العاصمة، لينفق في خدمة السياسة المالية العامة للدولة الإسلامية([24]).
هذا التدبير هو ما أكّد عليه الإمام علي في كتابه إلى عامله على مكة قثم بن العباس: <وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله، فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيباً به مواضع الفاقة والخلات، وما فضل عن ذلك، فاحمله إلينا؛ لنقسّمه فيمن قبلنا>([25]).
3 ـ أنواع الولاية (أو الإمارة):
بعد قراءة لتاريخ الفتوحات الإسلامية، يظهر أنّ كلمة الإمارة الإدارية مشتقة من الإمارة الحربية، فالخليفة ـ عادةً ـ كان يسلّم القيادة العسكرية لرجل يوكل إليه أمر الفتح، فإذا كتب الله له النصر، أصبح عاملاً أو والياً على ما فتح من بلاد. وكنماذج على ما سلف ذكره، نثبت: ولاية أبي عبيدة بن الجراح على بلاد الشام([26])، وولاية سعد بن أبي وقاص على العراق وتوابعها([27])، وولاية عمرو بن العاص على مصر([28])، وولاية موسى بن نصير على المغرب والأندلس([29]).
وبين الوزارة والإمارة قواسم مشتركة وفوارق محدّدة، تبدو في الخصائص التالية:
1 ـ الوزارة عامة النظر (إذا كانت وزارة تفويض)، تشرف على جميع شؤون الدولة، بما فيها ولاية الأمير.
2 ـ الإمارة عامة وخاصة النظر في آن واحد: عامة لأنّ الأمير مفوّض النظر في جميع القضايا التي تخصّ ولايته. وخاصة؛ لأنّ سلطته لا تتجاوز حدود إقليمه.
وكما هي الحال في الوزارة، فإنّ الحديث عن نظام الولاية بأنواعها ومهامها وخصائص عناصرها.. يستمدّ مادته من أمرين:
1 ـ النصوص الدينية التي تطرح المبدأ وتعالج بعض القواعد الكلية، مثل صفات الأمير وعلاقاته وأساليبه ومسؤولياته.
2 ـ الواقع التاريخي الذي يطرح اجتهادات وممارسات ومبادرات الخلفاء في تكريس أنظمة محدّدة لمختلف المسؤوليات.
وانطلاقاً من هذين الأمرين، وبالأخص الثاني، رأي الباحثون أنّ الأمراء المختارين من قبل قياداتهم كانوا على درجات في حريّة الحركة والتصرف، والاختلاف يعود إلى درجة التفويض في السلطة ـ قوة أو ضعفاً ـ وعلى هذا الأساس، قسّم الماوردي الإمارة إلى نوعين([30]): إمارة ذات ولاية عامة، وإمارة ذات ولاية خاصة.
أ ـ الولاية العامة:
وتشبه وزارة التفويض في صلاحياتها الواسعة، ضمن حدود الأقليم، وقد حدّدها الماوردي في نوعين([31]):
1 ـ إمارة استكفاء:
(1) تحديد: في اختيار واع وإرادة حرة، يكلّف الخليفة رسمياً أحد الاشخاص <إمارة بلد أو إقليم، ولاية على جميع أهله، ونظراً في المعهود من سائر أعماله، فيصير عام النظر فيما كان محدّداً من عمل، ومعهوداً من نظر>([32]). والمراد من تعبير <النظر المعهود> البتّ في الأمور المألوفة على النحو الذي سبقه فيه العرف، فيكون للأمير حقّ التصرف من غير الرجوع إلى الحاكم وغيره([33]). وبذلك تشبه وزارة التفويض من حيث شمول النظر وسعة الصلاحيات، ولكنها تختص بإقليم ذي معالم جغرافية محددة.
(2) مهمات أمير الاستكفاء: يمكن استنباطها من خلال مطالعة مهمّات وزير التفويض، وإيجازها بالنقاط التالية: 1 ـ النظر في تدبير الجيوش وتوزيعهم وتقدير رواتبهم، هذا إذا لم يكن الخليفة (أو الوزير) قد حدّدها في الأصل. 2 ـ النظر في الأحكام الشرعية، وتقليد القضاة والموظفين. 3 ـ السهر على جباية الخراج، وقبض الصدقات، وتوزيع ما استحقّ منهما. 4 ـ حماية الدين، والذبّ عن الحريم، ومراقبة كل انحراف أو تبديل وتغيير في أحكام الشرع الشريف. 5 ـ إقامة الحدود في حق الله وحقوق الناس. 6 ـ الإمامة في الجُمَع والجماعات، ليؤمّ بها أو يستخلف عليها. 7 ـ تسيير الحجيج من عمله، ومن سلكه من غير أهله، حتى يتوجّهوا معانين عليه([34]). وإذا كان الإقليم متاخماً للعدو، ألحقت به مهمة ثامنة هي: 8 ـ جهاد الأعداء، وتقسيم غنائمهم على المقاتلة، بعد إخراج الخمس منها، وتوزيعه على أهله([35]). ويضيف الإمام علي مهمةً تاسعة، هي: 9 ـ التربية والتعليم، يظهر ذلك في رسالته إلى والي مكة قثم بن العباس، حين يذكّره بمهماته: <أمّا بعد.. فأقم للناس الحج، وذكّرهم بأيام الله، واجلس لهم العصرين، فأفت المستفتي، وعلّم الجاهل، وذاكر العلماء، ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك، ولا تحجبنَّ ذا حاجة عن لقائك به.. وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله، فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة>([36]).
(3) صفات أمير الاستكفاء: وأيضاً يشترك مع وزير التفويض في كثير من الصفات بفعل تشابه المهمات، والتي يمكن حصرها في التقوى، والعلم، والأمانة والعدل وحسن الخلق وقوّة الشخصية، والسلامة الجسدية التي تؤهله لأداء واجباته المنوطة به([37]).
ويعدّد الإمام علي بعض هذه الصفات في كتابه: <وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون على الفروج والدماء والمغانم والأكام وإمامة المسلمين: البخيل.. فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل.. فيضلّهم بجهله، ولا الجافي.. فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول، فيتخذ قوماً دون قوم (أي يفضل في العطاء)، ولا المرتشي في الحكم، فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطّل للسنة، فيهلك الأمّة>([38]).
(4) علاقته بالوزير: ولما كانت سلطة وزير التفويض عامّة تشمل الأقاليم وولاتها، فله الحقّ في التقليد والمراقبة والتوجيه والعزل ضمن قواعد شرعية، والتي تمسّ بصورة مباشرة كل واقع الولاة في الحكم، ومن المفيد هنا سرد بعض القيود التي تضبط علاقة الوزير بالوالي في حدود المفردات السابقة([39]):
1 ـ إذا صدر عهد التكليف من الخليفة ذاته، امتنع عن الوزير التصرّف في عزله، إلا بعد العودة إلى رأي الخليفة ذاته، وإذا حصلت إقالته، فحكمه لا يكون ناجزاً.
2 ـ إذا صدر عهد التكليف من الوزير ذاته، جاز له الانفراد بعزله أو نقله، وفق ما يمليه عليه اجتهاده. وفي هذه الحال ينعزل الوالي تلقائياً بانعزال الوزير، إلا إذا وافق الخليفة على إقراره وتثبيته.
3 ـ يستطيع الوالي الاستعانة بوزير تنفيذ بحدود ولايته، دون العودة إلى الوزير، ولكنه لا يستطيع اتخاذ وزير تفويض دون إذن الخليفة أو وزيره. ويعترض أبو يعلى الفراء على هذا الرأي، فيرى أنّ الوالي لا يملك صلاحية اتخاذ وزير، مهما كانت طبيعته، دون إذن الخليفة([40]).
4 ـ لا يجوز للوالي زيادة رواتب الجند إلا لسبب مبرّر شرعاً؛ لأنّ فيها استهلاكاً لمال الله دون حقّ، والسبب المبرر قد يتخذ وجهين: ظروف طارئة يرجى زوالها مثل غلاء الأسعار ونفقات الحرب.. وفي هذه الحال يحقّ له الزيادة دون العودة إلى قيادته. وظروف دائمة لا يرجى زوالها، مثل مكافأة جنود ساهموا في إحراز النصر والفتح.. وفي هذه الحال لا يحقّ له التفرّد بالقرار.
5 ـ إذا كان تقليد الوالي من قبل الخليفة مباشرةً، لا ينعزل هذا بموت الخليفة؛ لأنّ تقليده كان نيابةً عن المسلمين، بينما تقليد الوزير يكون نيابة عن نفسه([41]).
2 ـ إمارة استيلاء:
(1) تحديد: تعقد عن اضطرار بعيداً عن قناعة الخليفة (أو الوزير) واختياره وإرادته، فالخليفة قد يقلّد الأمير على إقليم معين، ويفوّض إليه تدبير سياسته، لكن مع إمتداد الزمن، قد يستأنس من نفسه القوّة تجاه ضعف الحكم المركزي، فيستقلّ ويتمرّد ويستبدّ بالإمارة([42]). وهذا واقع عاشته المرحلة الثانية من حكم العباسيين، حيث بلغ درجةً من الضعف، شجّع الولاة على الاستقلال، فتحوّلت الدولة الواحدة إلى دويلات متنافرة، قد ترتبط اسمياً بالخلافة أو تقطع علاقتها نهائياً بها.
(2) شرعية الإمارة: ويبحث الماوردي شرعية إمارة الاستيلاء بأسلوبه التبريري، فهو يرى ـ في ظروف خاصة ـ أنّ إقرار الأمير على ولايته، وإن كان لا يخضع للعرف المتبع في تقليد الأمراء.. أمر يخضع للقاعدة الفقهية <الضرورات تبيح المحظورات> ـ قاعدة الحرج ـ فالهدنة مع الأمير المستولي والتوافق السلمي معه، قد يؤدّيان إلى <حفظ القوانين الشرعية، وحراسة الأحكام الدينية>([43]). لكن إضفاء الشرعية لا يتم بشكل ارتجالي وعشوائي، بل هناك ضوابط يجب أن تحكم علاقته مع السلطة المركزية، والتي يمكن تحديدها بأن يكون المستولي مستوفياً لشروط إمارة الاستكفاء بصفاته الذاتية وخصائصه المعنوية، وأن يضمن إحترام التكاليف الشرعية مثل حفظ منصب الإمامة في خلافة النبوّة، وتدبير أمور الملّة الإسلامية، وإظهار الطاعة الدينية التي تنفي حالة العناد، وإجماع الكلمة على الألفة والتناصر، ليكون المسلمون يداً واحدة على من سواهم، وأن تكون عقود الولايات الدينية جائزة، والأحكام والأقضية فيها نافذة، لا تبطل بفساد عقودها ولا تسقط بخلل عهودها، وأن يكون استيفاء الأموال الشرعية بحقّ، تبرأ به ذمة مؤديها ويستبيحه آخذها، وأن تكون الحدود مستوفاة بحقّ، وقائمة على مستحق، فإن جنب المؤمن حمى إلا من حقوق الله وحدوده. إضافةً إلى ذلك يجب أن يكون حافظاً للدين ورعاً عن محارم الله، يأمر بحقوق الله ويدعو إلى طاعته([44]).
فإذا ما استوفت هذه الشروط، جاز للخليفة تثبيته في موقعه: <استدعاءً لطاعته، ودفعاً لمشاقته ومخالفته، وصار بالإذن له نافذ التصرّف في حقوق الملة وأحكام الأمة>([45]). أما إذا لم تكن لديه الشروط الضرورية، ولم يكن بالإمكان ضبطه وإيقافه عن تمرّده وإزاحته عن موقعه.. فماذا يكون الموقف الشرعي؟
يقول الماوردي بجواز إقراره على ولايته استدعاء لطاعته، ولكن بشرط واحد، وهو أن يستنيب الخليفة شخصاً مستوفياً لشروط الإمارة، ليكون مساعداً للمستولي بحيث يصبح التقليد للمستولي والتنفيذ من المستناب([46]).
(3) بين الاستيلاء والاستكفاء: وإذا صحّت الإمارة على الشروط الآنفة الذكر، يبقى التباين واضحاً مع إمارة الاستكفاء الشرعية، وهذا يتمثل بـ:
1 ً ـ إنّ إمارة الاستيلاء متعيّنة بالمستولي، بينما حرّة بالمستكفي، فالخليفة يملك حق الاختيار.
2 ً ـ إنّ إمارة الاستيلاء تشمل البلاد المستولى عليها، بينما تقتصر حدود الاستكفاء بما يتضمّنه عقد الولاية.
3 ً ـ إنّ أمير الاستيلاء يجوز له النظر في جميع المسائل المعهودة والنادرة، بخلاف الآخر الذي يقتصر نظره على المعهود دون نادره.
4 ً ـ إنّ أمير الاستيلاء يستطيع اعتماد وزير تفويض دون أمير الاستكفاء؛ لأنّ الأول يستطيع النظر في جميع المسائل والأحكام([47]).
(4) إمارة الاستيلاء في الميزان: وقبل إنهاء الحديث عن إمارة الاستيلاء، يجدر التوقف أمام ظاهرة التبرير والاستسلام للأمر الواقع التي امتاز بها الماوردي والفراء وغيرهما من الفقهاء الذين عاشوا في بلاطات الخلفاء أو أجوائها، حيث كانوا ينطلقون في تفسيرهم من واقع سياسي وإداري محدّد، فإذا ما اصطدموا بمآزق ومشكلات، اندفعوا باتجاه قاعدة الحرج([48])، ليجدوا فيها الحلّ والمبرر، ويبدو من خلال التأويل والتحليل، أنّ الهدف من كل هذا الجوّ هو حفظ قدسية الخلافة وماء وجه الخلفاء في تصرفاتهم ومواقفهم. إنّ سياسة التبرير هذه، وإن كانت تحمل بعض الإيجابيات، لكنّها قد تحمل إشكالات مستقبلية قاتلة في بعض الأحيان، فهي:
1 ً ـ تشجّع على التمرد والعصيان، فإذا ما أحسّ الوالي بسهولة التعامل معه في هذا الإطار، اندفع ليفرض سلطانه بوسائل القوّة عندما يشعر بظروف مؤاتية، وهذا واقع شهد سلبياته الحكم العباسي الذي تحول إلى مزرعة لدويلات مستقلة. ولعلّ هذا الواقع هو الذي دفع الإمام عليّاً إلى حرب معاوية، ورفض فكرة المغيرة بن شعبة بإبقاء معاوية فترة في ولاية الشام، ريثما يستقرّ الحال ويقوى الحكم([49]).
2 ً ـ لا توحي بالاطمئنان إلى سلامة التطبيق، فمن يستولي بالقوّة والقهر ويكتسب شرعيةً من الخليفة ذاته.. من يضمن منه سلامة حفظه للدين وتنفيذه لأحكامه؟.. ثم ما هي الضوابط التي تحول دون تجاوزه وانحرافه، وهو الذي تحدّى كل أعراف الدين ورموزه؟!
3 ً ـ تبعث في الحكّام روح الاسترخاء والاستسلام للأمر الواقع، فهم قد لا يعيشون همَّ إعادة التماسك إلى الدولة، برسم خطّة محكمة تستجمع في ضوئها القوى الذاتية لمواجهة حالات التمرّد بأساليب القوّة ووسائل الردع؛ فقد كان يكفي الخليفة اعتراف المستولي بسلطته الشكلية، من خلال ذكر اسمه في خطب الجمعة، وإرسال الهدايا له في المناسبات..
ب ـ الولاية الخاصة:
(1) تحديد: تشبه وزارة التنفيذ في صلاحياتها المحدودة، ودائرة عملها تقتصر على <تدبير الجيوش، وسياسة الرعية، وحماية البيضة، والذبّ عن الحريم>([50]) كما يقول الماوردي، أما الأمور التي لا يحقّ له النظر فيها، فتختصر بالقضاء والأحكام وجباية الخراج والصدقات([51]).
(2) من المهمّات: وهناك مهمّات أخرى كانت موضع بحث بين الفقهاء نذكر منها([52]):
1 ً ـ إقامة الحدود، وهي على نوعين: ما يتطلب بينة واجتهاداً، وهو ممتنع عليه؛ لأنّ شرط الاجتهاد غير معتبر فيه، وما لا يتطلب اجتهاداً، وهو موزع على حقين: أ ـ حقّ الله تعالى، كقطع يد السارق، فهذا من شأن الأمير؛ لأنه يمثل السلطة الرادعة والمنفذة لأحكام القاضي. ب ـ حق الناس، كحدّ القذف والقصاص في نفس أو طرف، وهذا يعود لصاحب الحق الذي له الخيار في تكليف الأمير أو القاضي.
2 ً ـ النظر في المظالم، ويرد فيه حالتان:
أ ـ إذا كانت الأحكام نافذة بإمضاء القضاة أو الحكام، جاز للأمير تنفيذها واستيفاءها؛ لأنّ من مهامه مساعدة المحقّ ومعاقبة المبطل، ومنع التظالم والتغالب، وهو مندوب إلى أخذ الجميع بالتعاطف والتناصف.
ب ـ أما إذا كانت الأحكام موضع خلاف بين القضاة أو لم تصدر بشأنها إجراءات شرعية واضحة.. فلا يحقّ للأمير التدخل في حسمها؛ لأنّ عقد إمارته لا يشملها.
3 ً ـ إمامة الصلوات في الجمع والأعياد، وهي موضع خلاف بين الشافعي وأبي حنيفة، فالأول يعتبرها من اختصاص القضاة، والثاني يراها من مهمّات الأمير.
4 ً ـ تسيير الحجيج، وهو من مهمات الأمير التي ندب لها.
5 ً ـ الجهاد في سبيل الله، وفيه حالتان، فإذا كان بلده محاذياً لأرض العدو، لم يجز له الابتداء بالحرب إلا بعد إذن الخليفة، أما ردّ العدوان فهو من حقوقه الموسومة له في حماية البيضة والذبّ عن الحريم([53]).
(3) من صفاته: إنّ صفات الأمير الخاصّ هي ذاتها صفات وزير التنفيذ مع اختلاف في صفتين: الإسلام والحرية([54])؛ لأن من جملة مهماته النظر في الأمور الدينية، وهذا لا يصحّ مع الكفر والعبودية. أما خصوصية الاجتهاد فهي ضرورية لمن عمّت إمارته لا من خصّت([55]).
4 ـ تقليد الولاة:
بعد أن يستقرّ نظر الخليفة (أو الوزير) على أمير توفرت فيه الشروط الضرورية، يكتب له عهد التقليد، حيث جرت العادة أن يتضمّن بعض أو كلّ النقاط التالية: طبيعة المهمة الموكولة إليه. حدود عمله الجغرافي والسياسي والإداري. الخطة الواجب اعتمادها من محتوى وأسلوب ووسيلة. الآداب الخلقية التي سيتجمّل بها.
وتظهر هذه النقاط من خلال قراءة لبعض العهود المدونة، منها ما عن ابن هشام، أن رسول الله(ص) عهد بإمامة الصلاة في وفد ثقيف، لعثمان بن أبي العاص، وكتب له: <عثمان.. تجاوز في الصلاة، وأقدر الناس بأضعفهم، فإنّ فيهم الكبير والصغير، والضعيف وذا الحاجة..>([56]). كما احترم الخلفاء الراشدون هذا النهج البسيط في التقليد، فركّزوا على الهدف وأكثروا من الوصايا وأسهبوا في التفاصيل.. نظراً لخطورة مهمّاتهم في بلاد تتصف بالتنوع والتعقيد، فالإمام علي في عهده لمالك الأشتر (حوالي 24 صفحة من نهج البلاغة)، يفتتح كلامه بالقول: <هذا ما أمر به عليّ أمير المؤمنين، مالك بن الحرث الأشتر في عهده إليه حين ولاّه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها.. أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها>([57]).
وفي العهود العباسية التالية ظلّ التقليد سارياً، مع بعض التغيير في المضمون الذي شحن بضروب الصناعات البيانية والبديعية؛ فعلى سبيل المثال نورد مقدّمة عهد الخليفة الطائع لله إلى فخر الدولة بن بويه: <هذا ما عهد عبدالله الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى فخر الدولة أبي الحسن بن ركن الله، أبي علي مولى أمير المؤمنين.. حين عرف بلاءه وعناءه، واستنصح دينه ويقينه، ورعى قديمه وحديثه، فقلّده الصلاة وأعمال الحرب، والمعاون والأحداث، والخراج والأعشار، والضياع والجهبذة والصدقات.. بكور همدان واستراباز والدينور..>([58]).
5 ـ الرقابة الإدارية على الولاة:
يجب في الإطار القانوني والمنطقي أن تتناسب السلطة مع المسؤولية([59])، فمسؤولية الإنسان عن شيء تفرض منحه السلطات الكافية التي تمكنه من الممارسة والتصرف بحرية، بالإضافة إلى توفير كافة الضمانات المادية والمعنوية ليعيش حياةً عزيزة، وأمناً مستقراً.. كي لا تدفعه الحاجة إلى اعتماد طرق ملتوية، على رأسها الظلم والخيانة واختلاس الأموال، وكي يوجّه جلَّ اهتماماته نحو تحقيق الأهداف التي آمن بها وتبنّى مشاريع خطّطها، هذا الواقع هو ما نبّه إليه الإمام علي أحد ولاته: <وأسبغ عليهم الأرزاق، فإنّ ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوك وثلموا أمانتك..>([60]).
ومتى ما توفرت كل هذه المعطيات، كان من واجب قيادة الحكم الرقابة والحساب والثواب والعقاب.. بالأساليب الإنسانية المشروعة. وفي الفكر القانوني الوضعي، تتوزع مسؤولية الإشراف والرقابة على جهتين([61]): رقابة السلطة التنفيذية (التفتيش المركزي)، ورقابة الرأي العام، عبر المجالس النيابية والهيئات التمثيلية. أما الأسلوب الإسلامي في الرقابة، فيركّز على جهات ثلاث، تختصرها الآية القرآنية: >وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ< (التوبة: 105).
ولتوضيح ذلك، نعتمد التصنيف التالي:
أ ـ الرقابة الذاتية: وترمز إلى إحساس العامل المسلم برقابة الله وحضوره في كل مواقعه، انطلاقاً من إيحاءات الآية القرآنية: >مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ< (المجادلة: 7). ولعلّ الرقابة الذاتية ودورها في حسن سير العمل، هي ما انفردت بتركيزها الرسالات السماوية عامة، والرسالة الإسلامية خاصة، فهي تمثل خطّ الدفاع الأول الذي يحول دون التجاوز والانحراف، فالمسلم رقيب على ذاته <لا يرجونَّ إلا ربّه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه>([62])، يزن أعماله ويحاسب نفسه، ليقوّم أخطاءه قبل أن يوزن ويحاسب من أجهزة الرقابة المختصة، عملاً بالقول المأثور: <حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا>([63])؛ فإذا عاش الإنسان رقابة ربّه وخوف عقابه، استغنى عن الحاجة الفعلية لجهاز رقابة وتفتيش، أما إذا طرح تعاليم دينه وراء ظهره، ورفض فكرة الثواب والعقاب الدينية، فإنه يشعر بالحرية التي قد تدفعه لمزاولة الحيلة على كل رقيب، لتحقيق مصالح ذاتية ومكاسب شخصية.. لذلك نرى التوجه الديني يركز بشدّة على التخلّق بصفات التقوى والصدق والأمانة.. ليركّز في عمق المسلم الوازع الداخلي الذي يدفعه بعفوية إلى التزام القوانين التي يحرز من خلالها رضا الله وثوابه.
وعلى أساس هذه الرقابة، ركّزت النظرية الإدارية الإسلامية على مبادئ أساسية انطلاقاً من قاعدة <الحكم هو الاحتياط>([64])، فحتى لا يواجه الحكم حالات الخيانة والكذب والانحراف، وضع قيوداً على كلّ مرشح لوظيفة إدارية، كما قدّم ضمانات حياتية كافية للحيلولة دون الفساد والإفساد، من هذه المبادئ:
1 ـ اختيار عناصر ذات خصائص دينية وخلقية، وكفاءات علمية وعملية، لأنهم المرآة التي تعكس صورة الحكم وهيبته، فصلاحهم يفضي إلى صلاحه، وفسادهم إلى فساده. ولعلّ ما يؤيد ذلك أحاديث نبوية وممارسات دينية، منها قول الرسول 2: <من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولّى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله>([65])، وقول الخليفة عمر بن الخطاب: <إني لأتحرّج أن أستعمل الرجل، وأنا أجد أقوى منه>([66])، وقول الإمام علي لمالك الأشتر: <ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلّة، ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه..>([67]).
2 ـ اختبار الوالي قبل تسلّم الولاية، فالتوجيه الإسلامي يقضي بأن لا يقتصر الحكم على الشخص من خلال الشكل والمظهر اللذين قد يوحيان بالثقة، ولكن بالولوج إلى أعماقه، للاطمئنان إلى صفاء إيمانه وصلاح سريرته، فقد ورد عن عمر بن الخطاب أنه رأى بلالاً بين أبي بردة يُكثر من الصلاة ويلازم المسجد، ففكّر في توليته العراق.. وقبل أن يُصدر القرار، طلب من العلاء بن المغيرة اختباره، فوجده يسعى لطلب الحكم، ويبذل مالاً من أجله، وحينما أخبر عمر بالأمر، قال: إن بلالاً غرّ بالله، فكدنا نغتر به، فسبكنا فوجدناه خبثاً كله([68]). وفي عهد الأشتر، يقول الإمام علي: <ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهم جُماع من شُعب الجور والخيانة، وتوخ فيهم أهل التجربة والحياء>([69]).
3 ـ إعادة تأهيل الولاة، فبعد الاطمئنان إلى تقوى وعلم وخبرة الوالي، يبعث به الخليفة إلى مركز عمله، مع كل ما يوفر له النجاح في مهمته، ثم يلاحقه بالتوجيه والإرشاد المستمرّين، عبر تبادل الرسائل واللقاءات الموسمية؛ ففي خطاب وجهّه عمر بن الخطاب إلى الولاة، قال فيه: <ألا وإني لم أبعثكم أمراء ولا جبّارين، ولكن بعثتكم أئمة الهدى، يُهتدى بكم، فأدرّوا على المسلمين حقوقهم، ولا تضربوهم فتذلوهم، ولا تحمدوهم فتفتنوهم، ولا تغلقوا الأبواب دونهم، فيأكل قويّهم ضعيفهم..>([70])، وفي كتاب الإمام علي إلى عامله على الصدقة: <.. وإنّ لك في هذه الصدقة نصيباً مفروضاً، وحقاً معلوماً، وشركاء أهل مسكنة، وضعفاء ذوي فاقة، وإنّا موفوك حقك، فوفهم حقوقهم، وإلاّ تفعل فإنك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة، وبؤساً لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين>([71]).
4 ـ تأمين الكفاية المالية للوالي، حتى لا تتطلع نفسه إلى مال الدولة، فيأخذ منه ما ليس بحق، أو يلجأ إلى أساليب الرشوة والفساد، يُروى أنّ رسول الله(ص) فرض راتباً يومياً لواليه على مكة عتاب بن أسيد الذي وقف خطيباً في الناس، وقال: <أيها الناس.. أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني الله درهماً كل يوم، فليست بي حاجة إلى أحد>([72])، وورد عن رسول الله قوله: <من ولي لنا شيئاً، فلم يكن له امرأة فليتزوج، ومن لم يكن له مركب فليتخذ مركباً، ومن لم يكن له خادم فليتخذ خادماً، فمن أعدّ سوى ذلك، جاء يوم القيامة غالاً سارقاً>([73])، ويتحدّث ابن عبدالحكم عن أنّ ابن أبي زكريا دخل على عمر بن عبدالعزيز وقال له: يا أمير المؤمنين!.. إني أريد أن أكلّمك بشيء، بلغني أنك ترزق الواحد من عمالك ثلاثمائة ديناراً. أجابه عمر: نعم. قال: وَلِم ذلك؟.. قال عمر: أريد أن أغنيهم عن الخيانة([74]).
ب ـ الرقابة الحكومية: ورغم ما يعلّقه الفكر الإسلامي من أهمية على مبدأ تنمية الرقابة الذاتية.. ورغم اتخاذ الاحتياطات وفرض الضوابط في اختيار الولاة وتأهيلهم.. فإنّ تعاليم الإسلام في نظام الحكم لا تستريح لها جميعاً، فالنفس الإنسانية مهما بلغت درجات عالية من التقوى والوعي والحذر، قد تضعف أمام نوازع الغريزة وإغراءات الدنيا، فتغفل عن المعروف وتبرّر المنكر، فبهارج السلطان وفتنة الثروة قد تنحرف بالمسلم عن مقاصد الشريعة، فينسى ربّه ويبيع آخرته بدنياه.
على هذا الأساس، ومع قيام أول حكم إسلامي، اتخذت الاحتياطات في اعتماد رقابة حكومية، بدأت بأساليب ووسائل بسيطة، ثم ما لبثت أن تعقّدت، فأصبحت تخضع لسياسة مؤسّسات قضائية وإدارية محددة؛ فأوّل من جسّد مبدأ الرقابة رسول الله؛ فقد كان يتقصّى أخبار عمّاله في الأمصار، ويستمع إلى ما يُنقل عنهم، فيشجع على الإستقامة ويحاسب على الإنحراف؛ ففي رواية عنه’ أنه استعمل رجلاً على الصدقات فترةً من الزمن، وحينما أنهى مهمته، أقعده النبي’ للحساب، وأثناء التداول في طبيعة الأموال التي جاء بها.. قال الرجل: هذا لكم، وهذا أهدي إليَّ. فاستاء رسول الله(ص) من هذا المنطق، وقال: <ما بال الرجل نستعمله على العمل بما ولانا الله، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إليَّ، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه، فنظر أيُهدى إليه أم لا.. ثم قال: من استعملناه على عمل ورزقناه رزقاً، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول>([75]). ويقول الخليفة عمر بن الخطاب لأصحابه: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما عليَّ؟.. قالوا: نعم.. يا أمير المؤمنين. قال: لا.. حتى أنظر في عمله، أعمِل بما أمرته أم لا؟([76]).
أما النظام الإداري للرقابة، فلم يحدّد الفكر الإسلامي معالمه، وهذا ربما يعود إلى صفة المرونة التي امتاز بها في معالجته للقضايا التطبيقية، فالشكل التنظيمي قد يطرأ عليه تغيير وتطوير، بفعل اختلاف الظروف وتنامي الحاجات؛ فطرق الرقابة في صدر الإسلام كانت تتسم بالبساطة، فلم يكن ليحكمها جهاز وظيفي ثابت، بل كان الخليفة بوسائله الخاصة يعاين أدقّ التفاصيل في سيرة الولاة بالأمصار، فالإمام علي يعلم بأنّ واليه على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري يستجيب لوليمة <تستطاب فيها الألوان، وتُنقل إليها الجفان>، فيستنكر عليه ذلك في كتاب تنبيه وتأنيب: <وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم، عائلهم مجفوّ، وغنيّهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه، فنل منه>([77]).
والإمام علي يرى أن أساليب الرقابة يمكن أن تتراوح ما بين رقابة مباشرة يمارسها الخليفة في جولات تفقدية على ولايات وإدارات الدولة، ورقابة غير مباشرة يعالجها الخليفة عبر جهاز بشري معتمد، أو من خلال تسقط أخبار عفوية من عامة الرعية؛ فهذان النوعان يذكرهما الإمام علي في عهده للأشتر، فيقول: <ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء، فإن تعاهدك في السرّ لأمورهم، حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية.. فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة، اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله>([78]).
هذه الأساليب تطوّرت تدريجياً في العهود التالية، حتى أصبحت تمارس من قِبل مؤسّسات القضاء والمظالم والحسبة.
ج ـ الرقابة الشعبية: وبها تكتمل الرقابة في الإسلام، فهي تنطلق من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعتبر واجباً عبادياً كفائياً على كل مسلم قادر، وهذا ما تقرّره الآية:>وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ< (آل عمران: 104).
وهذا الواجب الكفائي لا يقف عند حدود الاحتجاج اللفظي أو التوتر النفسي، بل يتجاوزهما إلى استخدام القوة، كما أشار إلى ذلك الرسول’: <من رأى منكم منكراً، فاستطاع أن يغيّره بيده، فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان>([79]). والحديث النبوي يركز ـ أيضاً ـ على نقد الحاكم الظالم، ومواجهته بكل الوسائل المشروعة، ويعتبرهما من أفضل ألوان الجهاد: <أفضل الجهاد، كلمة حقّ عند سلطان جائر>([80]).
انطلاقاً من هذه التعاليم، التزم بعض الخلفاء بتربية المسلمين على النقد البنّاء، من خلال تشجيعهم على مراقبة أيّ خلل في مسيرتهم وتنبيههم عليه، فهذا أبو بكر في أوّل خطبة له يقول: <وإنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوّموني>([81]). ولعلّ هذا النمط من التربية، هو الذي منح المسلمين جرأةً على الحكام، حيث برزت معالمها صريحة مع الخليفة الراشدي الثالث، عندما كانت تتوالى عليه وفود الاحتجاج على بعض ولاة الأمصار، الذين تجاوزوا الحدود الشرعية.. ولما تقاعس عن الاستجابة لمطالبهم، حاصروه في بيته ثم سارعوا إلى قتله([82]).
بالإضافة إلى ذلك، شهد العالم الإسلامي في العهود التالية ثورات على الواقع القلق الذي انتهى إليه الحكم، وكلها تنادي بشعارات الثورة على الظلم والفساد والإنحراف.. وبعيداً عن محاكمة هذا الواقع، يكفينا قراءة واعية لتاريخ الثورات، ابتداءً من حركة الإمام الحسين وحتى العصور المتأخرة([83])، من أجل التعرف على تأثير الشعور بالمسؤولية عند قطاع واسع من المسلمين.
6 ـ أساليب العقوبات الرادعة:
من خلال الرقابة الموضوعية النزيهة، إذا ظهر لدى الوالي تجاوز أو انحراف عن مقاييس الشرع، وجب على الحاكم معالجة الأمر بأساليب رادعة تمنع من الاسترسال والتمادي، ومن هذه الأساليب التي تستنتج من السيرة، نذكر:
1 ـ التنبيه والتأنيب: وهي مرحلة التحذير من مغبة الاستمرار في الانحراف، كي لا يتطور إلى واقع لا تُحمد عقباه، وهذا ما لاحظناه في موقف النبي(ص) من ذلك الوالي الذي جاء بالمال وقال: <هذا لكم، وهذا أهدي إليَّ>([84]). وهذا ما نلمسه ـ أيضاً ـ في كتاب الإمام علي إلى عامله على <أردشير> ـ مصقلة بن هبيرة الشيباني ـ: <بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وعصيت إمامك، أنك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم، فيما اعتامك من أعراب قومك، فوالذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقاً، لتجدنّ لك عليَّ هواناً، ولتخفن عندي ميزاناً، فلا تستهن بحقّ ربك، ولا تمحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالاً..>([85]).
2 ـ تخفيض الرتبة: أي أن يُعزل الوالي من منصبه، ويسلّم موقعاً آخر أقلَّ منه رتبة، وهو ما فعله الخليفة عمر بن الخطاب مع خالد بن الوليد، حيث يذكر المؤرخون أنّ عمراً غضب من تصرّفات خالد في حروب الردّة، حينما قتل مالك بن نويرة وتزوج امرأته وهي في العدّة، فحاول القصاص منه، فمنعه أبو بكر([86])؛ ولما تولي عمر الخلافة، لم يصبر على خالد، فعزله عن موقع قيادة الجيش، ومعركة اليرموك في أوجها، وسلّمها إلى أبي عبيدة بن الجراح([87]).
3 ـ الإقالة والعزل: ويتمّ العزل بعد أن يرتكب الوالي جرماً شائناً، بحيث تسقط مصداقية الحكم وهيبته إذا استمرّ في موقعه، ومن الشواهد التاريخية على ذلك ما رواه أبو هريرة من سبب عزله عن ولاية البحرين، حيث يقول: عزلني عمر من البحرين، وقال لي: يا عدو الله وعدو كتابه، سرقت مال الله، فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟.. قلت: خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت.. فقبضها منّي([88]).
والخلفاء الأوائل لم يكتفوا فقط بالعزل، وإنما أتبعوه بمصادرة الأموال التي تجمّعت من غير حقّ.. فالخليفة عمر بن الخطاب كان إذا بعث عاملاً، كتب مجموع أمواله في سجلّ خاص، فإذا ما عاد من إمارته، قارن بين ما هو مكتوب وما جاء به من أموال شخصية، فإذا لاحظ زيادةً غير طبيعية قاسمه، وردّ نصفه على بيت المال([89]).
وحينما تسلّم الإمام علي الخلافة بادر إلى عزل الولاة الذين كانوا موضع الشكوى وأساس الفتنة، ثم صادر جميع القطائع التي أخذت بغير مبرّر شرعي([90])، وعبّر عن عزمه هذا بقوله: <والله لو وجدته قد تُزوج به النساء، ومُلك به الإماء، لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق>([91]).
الهوامش
(*) باحث، وأستاذ جامعي، من لبنان.
([1]) تاريخ اليعقوبي 2: 65؛ جاهين، التنظيمات الإدارية في الإسلام: 147.
([2]) تاريخ اليعقوبي 2: 65؛ تاريخ الطبري 3: 147.
([3]) صحيح مسلم (شرح النوري) 12: 209 ـ 210، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1972. باب الإمارة.
([4]) البلاذري، فتوح البلدان: 87.
([5]) تاريخ الطبري 3: 427.
([6]) المصدر نفسه 5: 241؛ تاريخ اليعقوبي 2: 144.
([7]) تاريخ اليعقوبي 3: 18 وما بعدها؛ حسن ابراهيم حسن، تاريخ الإسلام 1: 458 ـ 459.
([8]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ (م) 4: 154 و (162 ـ 163).
([9]) تاريخ اليعقوبي 3: 91 ـ 98.
([10]) الصابي، تحفة الأمراء: 93.
([11]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 6: 254 ـ 255.
([12]) ابن الجوزي، عمر بن الخطاب: 122.
([13]) المصدر نفسه: 116؛ تاريخ الطبري 4: 207 ـ 208.
([14]) نهج البلاغة: 465 ـ 466.
([15]) تاريخ اليعقوبي 2: 70؛ أبو عبيد، الأموال، راجع رسائل النبي: 85 وما بعدها.
([16]) السيوطي، تاريخ الخلفاء: 237.
([17]) الدينوري، عيون الأخبار 1: 13؛ تذكرة ابن حمدون: 103.
([18]) ابن الجوزي، عمر بن الخطاب: 132 ـ 133.
([19]) نهج البلاغة: 544.
([20]) المصدر نفسه: 457.
([21]) المصدر نفسه: 543 ـ 544.
([22]) تاريخ الطبري 4: 165؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى 3: 293.
([23]) تاريخ الطبري 4: 226؛ الدينوري، عيون الأخبار 1: 14.
([24]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 74؛ المقريزي، الخطط 1: 76.
([25]) نهج البلاغة: 555.
([26]) تاريخ اليعقوبي 2: 129، 151.
([27]) المصدر نفسه.
([28]) المصدر نفسه.
([29]) المصدر نفسه 3: 35.
([30]) الأحكام السلطانية: 72.
([31]) المصدر نفسه.
([32]) المصدر نفسه.
([33]) القاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ: 566.
([34]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 72.
([35]) المصدر نفسه.
([36]) نهج البلاغة: 555.
([37]) الماوردي، قوانين الوزارة: 165 وما بعدها.
([38]) نهج البلاغة: 242.
([39]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 73 ـ 74.
([40]) أبو يعلى الفراء، الأحكام السلطانية: 35.
([41]) المصدر نفسه.
([42]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 76 ـ 77.
([43]) المصدر نفسه.
([44]) المصدر نفسه.
([45]) المصدر نفسه.
([46]) المصدر نفسه.
([47]) المصدر نفسه: 87؛ أبو يعلى الفراء، الأحكام السلطانية: 38.
([48]) سورة الحج: 78 >وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ<.
([49]) الدينوري، الأخبار الطوال: 110، دار الفكر الحديث، بيروت 1988.
([50]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 74 ـ 75.
([51]) المصدر نفسه.
([52]) المصدر نفسه.
([53]) المصدر نفسه: 75 ـ 76.
([54]) المصدر نفسه.
([55]) المصدر نفسه.
([56]) ابن هشام، السيرة النبوية 4: 186.
([57]) نهج البلاغة: 517.
([58]) القلقشندي، صبح الأعشى 10: 16 ـ 17.
([59]) عشماوي (سعد الدين)، أسس الإدارة: 138.
([60]) نهج البلاغة: 527.
([61]) بسيوني، أصول علم الإدارة العامة: 366 ـ 372.
([62]) السيوطي، تاريخ الخلفاء: 186.
([63]) نهج البلاغة: 160؛ ابن الأثير، أسد الغابة 4: 72.
([64]) تجيب مخول، فنّ التربية والتعليم: 89، المطبعة التعاونية اللبنانية، درعون ـ حريصا، 1966.
([65]) ابن تيمية، السياسة الشرعية: 14.
([66]) ابن سعد، الطبقات الكبرى 3: 305.
([67]) نهج البلاغة: 526 ـ 527.
([68]) محمد كردي علي، الإدارة الإسلامية في عز العرب: 109، مطبة مصر 1943.
([69]) نهج البلاغة: 527.
([70]) أبو يوسف، الخراج: 118.
([71]) نهج البلاغة: 464.
([72]) ابن هشام، السيرة النبوية 4: 143.
([73]) تذكرة ابن حمدون: 68.
([74]) ابن عبدالحكم، سيرة عمر بن عبدالعزيز: 27.
([75]) صحيح البخاري 4: 244؛ الكتاني، التراتيب الإدارية 1: 226.
([76]) عباس العقاد، العبقريات الإسلامية (عبقرية عمر) 1: 482، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1974.
([77]) نهج البلاغة: 505.
([78]) المصدر نفسه: 527 ـ 528.
([79]) سنن ابن ماجة: 1330، رقم الحديث 4013.
([80]) المصدر نفسه: 1329، رقم الحديث 4011.
([81]) تاريخ الطبري 3: 224.
([82]) المصدر نفسه 4: 354 وما بعدها.
([83]) الإصفهاني، مقاتل الطالبيين: 78 وما بعدها، تحقيق أحمد صقر، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ.
([84]) الشافعي، الأم 2: 50، تقديم حسن عباس زكي، كتاب الشعب، القاهرة، 1968.
([85]) نهج البلاغة: 500 ـ 501.
([86]) تاريخ اليعقوبي 2: 122.
([87]) تاريخ الطبري 3: 398.
([88]) الدينوري، عيون الأخبار 1: 54؛ ابن عبد ربه، العقد الفريد 1: 45، دار الكتاب العربي، بيروت، 1986.
([89]) تاريخ اليعقوبي 2: 147؛ ابن الجوزي، عمر بن الخطاب: 89؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى 3: 282.
([90]) تاريخ اليعقوبي 2: 168.
([91]) نهج البلاغة: 55.