أحدث المقالات




الإسلام في مساراته المتعددة
أحمد شهاب

الإسلام واحد، لكن صور فهم الإسلام تبدلت بالكامل. أصبح لدينا اليوم ما يمكن أن نطلق عليه تجاوزا «إسلامات متعددة»، بحسب الفهم الديني المتعدد، وبنسبته إلى الناس، وليس إلى السماء. فإذا أردنا أن ننسب الدين إلى السماء، فهو من دون شك، إسلام واحد في الشرق أو الغرب، في الشمال أو الجنوب، لكنه بالنسبة إلى ذهنيات الناس وفهمهم للدين، فإنه متعدد الأشكال، بحسب اجتهادات الذين يعتنقونه.
إذ يمكن الحديث عن إسلام عربي مقابل إسلام آسيوي، يكاد كل واحد منهما (ولاسيما خلال السنوات الأخيرة تحديدا) يُعبر عن إسلام مختلف ومباين بصورة لافتة عن الآخر. فالأول تحكمه عقلية النقل والتوقف عند ما أنتجه الماضون من هذه الأمة، بينما الثاني يحكمه العقل العلمي والإبداع المعاصر. فالإسلام العربي بصورة عامة، ممتنع عن الحراك الحضاري، يحاول أن يتعايش مع وضعيات القوى المعاصرة بنظرية الكفاف السياسي والفكري والقبول بأبسط العطايا، بينما الإسلام غير العربي بصورة عامة أيضا، يصطف إلى جانب قضاياه، وينتصر لهمومه الكبرى، ولا يقبل باليسير من الأداور والإنجازات في المنطقة.
كما يمكننا أن نقسم الإسلام العربي ذاته من حيث التوجه السياسي، إلى إسلام سلطة وآخر معارضة، أحدهما يميل إلى التحالف مع الأنظمة الحاكمة، ويعمل على إرضاء السلطة، مهما انحرفت في مساراتها السياسية والاجتماعية، والآخر ينحو إلى معارضتها ومناكفتها، ويبدي استعدادته للتضحية بذاته من أجل تحقيق أهداف عليا تعود بالنفع والخير على المجتمع.
ويمكن تقسيمه من حيث الكمالات الأخلاقية والفكرية إلى طرف يمتلك مهارات الحوار، وروحية الانفتاح والتلاقي، فيقترب من الآخرين، على الرغم من التباينات الثقافية والاجتماعية، وآخر يفتقر لتلك المهارة، ويتصف بالانغلاق الفكري والذهني، ويغلق منافذ اللقاء والتفاهم.. كما يصح تقسيمه من حيث انتمائه المدرسي إلى مدرسة الوحدة الإسلامية وثقافة الأمة الواحدة، في مقابل مدرسة الشقاق والفرقة، في الأولى تتكثف نصوص الوحدة والمحبة والتقارب والتفاهم في خطاباتها، فيما تتزاحم أحاديث الفرقة الناجية والصراعات التاريخية في خطابات المدرسة الثانية.
هذا التقسيم يختلف كلية عن التقسيم المعتاد للإسلام إلى مذاهب وطوائف، إذ نعتمد في القسمة الجديدة على فكرة أساسية مفادها أن الفرد، سواء أكان سنيا أم شيعيا، هو ابن بيئته الثقافية والتربوية قبل كل شيء، إذ يمكن أن يكون المسلم -شيعيا أو سنيا- مثالا للاعتدال، أو عنوانا للتشدد، كما يمكن أن نُصنفهما أنهما من ضمن خط التحالف مع النظام السياسي، أو في صف المعارضة، بغض النظر عن انتمائهما المذهبي. وبالتأكيد فإن مدرسة الوحدة الإسلامية وثقافة الأمة الواحدة، يمكن أن تجد لها تربة خصبة في أوساط شيعية وأخرى سنية، كما يمكن أن تنمو ثقافة التطرف والصراع عند الطرفين.
وقد لعبت عوامل عدة دورا رئيسا في خلق هذا التعدد وتحديد صفته، من بينها طبيعة عادات الشعوب وتقاليدها الوطنية وثقافاتها العامة. وأيضا تباين شكل الإسلام وتعبيراته من مكان لآخر، تبعا للظروف السياسية والاجتماعية التي يعيشها مسلمو كل بلد، فالمسلمون الذين تعرضوا لاحتلال فرنسي تشكل إسلامهم وفق الثقافة الفرنسية، واكتسبوا عادات تقترب من الأنموذج الفرنسي أكثر منه إلى أنموذج إسلام الجزيرة العربية، والذين عانوا مرارة الحرمان والحروب تحدثوا عن إسلام مقاوم في مقابل إسلام التطبيع.
خلال الأيام القليلة الفائتة، اطلعت على قراءات ميدانية حديثة، توصل القائمون عليها إلى أن طبيعة مناخ كل دولة مسؤول بصورة مباشرة عن طبيعة مزاج مواطنيها من حيث التسامح أو التشدد الديني، المرونة أو الإنغلاق الفكري. فالطبيعة الجافة تخلق خشونة تنعكس، ليس على المشاعر الذاتية للأفراد فقط، وإنما أيضا على مشاعرهم الدينية ولطافتهم الروحية، بينما الطبيعة المعتدلة تُنمي شيئا من السلاسة التي لا تقف عند حدود المشاعر الذاتية التي ينثرها الفرد على من هم حوله، وإنما أيضا على طبيعة معتقدات الناس وتصوراتهم الدينية.
وهو أمر ليس جديدا على الإطلاق، اللهم إلا من حيث مقاييسه الميدانية. فقد سبق أن تحدث ابوقراط وأرسطو وأفلاطون عن هذه القضية، وأسهب ابن خلدون في الحديث عن تأثير الهواء على أخلاق الناس، وانعكاس العمران على طبائعهم، وتحدث مونتسكيو عن تأثيرات المناخ على صحة الجسد والنفس، معتبرا الذين يقطنون المناطق الباردة أكثر قوة وحيوية من نظرائهم في المناطق الحارة. وأشار في مورد آخر إلى أن الأفراد في المناطق الباردة يتميزون بروحهم الإيجابية التي تدعوهم إلى التأمل والإنجاز، بينما يميل الأفراد في المناطق الحارة إلى السلبية ويفتقدون الرغبة في الاطلاع، أو الرغبة في التغيير.
هذا، ومن المأمول أن يساعدنا هذا التقسيم على التعرف، وبصورة أكثر دقة، إلى طبيعة الإسلام في دول الخليج العربي، وتحليل أسباب العنف الذي يتخلل الخطاب الديني المستهلك فيها، ومحاولة فهم الأبعاد الحقيقية التي تقف خلف تفجر الصراعات المذهبية في بعض الدول الخليجية بين فترة وأخرى، أو إدارة الفتنة من فوق أراضيها.

 
 




Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً