أحدث المقالات

ترجمة: وسام الخطاوي

مناظرة

بين الأُستاذ الشيخ جوادي آملي(**)

والأُستاذ السيد جعفر سيدان الخراساني(***)

 

تعدّ هذه المناظرة من أهمّ المناظرات التي وقعت بين التيار التفكيكي المعاصر الذي يعدّ السيد جعفر سيدان الخراساني من أبرز وجوهه ورجالاته، والتيار التوليفي السائد، القائل بمصالحة بل اندماج ـ بين الفلسفة والعرفان والنص، والذي يعدّ الأستاذ الشيخ عبدالله جوادي آملي من أكبر رجاله، وأكثرهم إسهاماً، وقد تناولت المناظرة ـ إضافة إلى بعض المداخل المنهجية ـ موضوعةً إشكالية بين الطرفين هي مسألة المعاد الجسماني والروحاني، مسلّطةً الضوء على نظرية الملا صدرا الشيرازي في هذا الموضوع.

وستبدو للقارئ في طيّاتها كيفية تعامل كل مدرسة من المدرستين مع الموضوعات العالقة بين النصّ والعقل (التحرير).

الجلسة الخامسة ــــــــــ

اشتراك النظريات المختلفة في النتائج، صورية التماثــل بين المعـــاد القـــرآني والصــدرائي، المخصّصات اللبية الفلسفية حاجة لفهم النص الديني…

الأُستاذ سيدان:

وصل البحث بنا إلى حيث تفضلتم بأنه قد ثبتت أحكام في الشرع للجسم الأُخروي، فيما سلبت عنه أحكام أخرى،والحكيم الإسلامي يقبل تلك الأحكام الإثباتية والسلبية معاً، ويرتضي جسمانية المعاد، وعليه، لا اختلاف بين هذين المسلكين، لكن أقول هنا: على أيّ موضوع تحمل هذه الأحكام؟

هل يقبل الحكيم الإسلامي الأحكام المذكورة على أنّ موضوعها من أجزاء هذا العالم؟ أي الجسم المعدود من أجزاء هذا العالم، أو أن موضوعها هو الموجود الذي أبدعته النفس؟

فإذا اختلف الأساس، اختلف البناء أيضاً، والمهمّ هو الأساس، وإلاّ فلو جعلنا الميزان هو الاتفاق في الأحكام، فسوف تغدو كثير من المدارس المختلفة متفقةً مع بعضها، مثل الموحّد والثانوي، فكلاهما قائل بوجود مبدأ الخير والشر، والعلّة والمعلول، إلا أنّ أحدهما يؤمن بأن الخير معلول لمبدأ، والشرّ معلول لآخر، فيما يؤمن الموحّد بانبثاق الطرفين من مبدأ واحد، وهكذا.

وكذلك الاختلافات بين الفلاسفة، فمثلاً ابن سينا، وصدر المتألهين، كلاهما له مدرسة تخصّه في كثير من المسائل، بيد أنهما يشتركان من حيث الأحكام، فكلاهما يحمل صفات الله تعالى على اسم واحد: القدير، العليم، و… والحال أنّ المدرستين: المشائية والعرفانية تختلفان في علم الله تعالى.

والأمر كذلك في مسألة المعاد، فالجنة والنار وتطاير الكتب وغيرها، جميعها أحكام يقبلها صدر المتألهين، إلا أنّ المحتوى المنظور له مختلف عما لدى الفقيه، فهو لا يستفيد من الأدلة النقلية على ذلك، وإنما هو اشتراك لفظي.

وعليه، لا يمكن القول: إنّ للإثنين وجهة نظرٍ واحدة. مضافاً إلى ذلك، وبغضّ النظر عن الاشتراك في أحكام النفس، نسأل: ما هو موضوع هذه الأحكام؟ فمثلاً نتساءل هنا في قضية الجسم المحشور: هل هو من الأجزاء العنصرية لهذا العالم أو لا؟ إنّ هذا الأمر من الحقائق التي يتحتم فهمها.

وبما أن البحث عقائدي يتطلّب الالتـزام وعقد القلب، نضيف: بأيّ شيء نعتقد؟ وبما أن البحث منصبّ على نسبة شيء للشرع، فلا بد لنا من ملاحظة المستفاد من الشرع نفسه: هل المحشور البدن الصوري أو المادي العنصري؟ وذلك حتى يمكن نسبة هذا الأمر إلى الآيات والروايات.

الأُستاذ جوادي:

المقصود من اشتراك الأحكام ــ الذي جعلناه دليلاً على الوحدة ــ اللوازم الذاتية للموضوع، فإذا اتفق على كونها لوازم ذاتية، فسيغدو ذلك الشيء مقبولاً قهراً، ومعنى ذلك أنّه لا أهمية للاشتراك في الجامع الانتـزاعي، ولهذا لا يمكن القول: إن mالثنوي والموحدn متحدان في الخط والمسير؛ انطلاقاً من اشتراكهما في المبدأ بعنوانه العريض.

يقول الثنوي: إن الشرّ أمر وجودي، ولهذا يحتاج إلى المبدأ مثل الخير، أمّا الموحد فيقول: إن الشرَّ أمر عدمي فلا يحتاج إلى مبدأ.

أمّا الاستناد إلى الشرع، فبما أن الموضوع من النظريات لا الضروريات، فالحدّ الوسط فيه هو الاجتهاد والنظر.

إننا نملك علماً إجماليّاً واعتقاداً كذلك، يتمثل في الإيمان بما جاء به
النبي 2 على نحو الإجمال، وهذا لا اختلاف فيه ولا نـزاع، إنما الاختلاف في العلم التفصيلي، وهو تحديد ما جاء به النبي 2 بالضبط، والحدّ الوسط هنا هو نظر المجتهد واستنباطه.

وكما هو الحال في اختلاف أصحاب الرأي في الفروع، إلى الحدّ الذي تصل فيه الحالة أحياناً إلى المنافرة والخصومة الشديدة، كما حصل مع انتقاد الشهيد الثاني S الشديد في رسالة صلاة الجمعة القائلينَ بعدم الوجوب، وكلّ صاحب نظر يسند نظره إلى الشريعة، فكذلك الأمر في أصول الشريعة.

فنحن نرى أنّ الآشتياني والخوانساري يثبتان بالأدلّة العقلية والشواهد السمعية تجرّد الروح، فيما ينكره في الطرف الآخر العلامة المجلسي.

وهكذا نجد لدى صدر المتألهين رأياً خاصّاً في المعاد الجسماني، فيما يناقشه الآغا علي حكيم بالقول: mإن إنشاء البدن نفسه بإذن الله غير موافق للرواياتn، وهكذا وجدناه يردّ مقولة الملا صدرا ويستند إلى الحديث الشريف الذي نقله الفيض الكاشاني في تفسير الصافي: mفينتقل بإذن الله إلى حيث الروحn، أي يذهب البدن إلى جانب الروح، ويقول في سبيل الرشاد: mلم أسمع بفيلسوف إلهيّ إلى الآن أنكر المعاد الجسمانيn([1]).

فعلى هذا، لا يجرّ الحديث ــ بما هو حديث ــ الإنسان إلى الأخذ بمادية الروح، كما يقول المجلسي، ولا إلى تجرّدها، ولا تثبت الفلسفة ــ بما هي فلسفة ــ التجرّد، ولا المادية، فالموضوع نظري.

لقد قلنا في ذلك اليوم: إن المادة والهيولى ليسا أمراً عرفياً، ولا اصطلاحاً حديثيّاً، بل مصطلح فلسفي.

يقول الملا هادي السبزواري في منظومته:

إن الهيولى العم أعني ما حمل     قوة شيء أثبتت كــــــــلّ الملل

ويقل في الشرح: معناه أن الهيولى تعني mحامل القوّة، والجوهر الذي يطرأ عليه الانفعالات اتفاقيةn.

لقد اتفق الحكماء على أن الجسم الذي يقبل الكون والفساد، وله القوة والفعلية، هو الهيولى، أي تلك الحالة من استعداد الهيولى، غاية ذلك أن الاختلاف وقع في: هل أن الحامل للاستعداد شيء، فيما الحامل للفعلية شيء آخر ــ بناءً على أن الجسم مركّب من الهيولى والصورة ــ أو أنه لا يوجد عندنا إلاّ شيء واحد، فالشيء الذي له استعداد الاستكمال له هيولى؟

إذا أردنا أن نقول: هل الجسم في عالم الآخرة له هيولى أو لا؟ تلك الهيولى المتفق عليها، فلا بد من معرفتها بآثارها وأحكامها، وإذا رأينا جسماً هناك لا استكمال ولا تدرّج فيه، فسوف نعرف أنه لا هيولى له، وإنما هو صورةٌ محضة.

الأُستاذ سيدان:

لا يوجد هنا اشتراك في الأحكام ولوازمها، بالمعنى الواقعي للكلمة، إنما الاشتراك في اللفظ فقط في مسألة الصراط، والميزان، وتطاير الكتب، فعندما نُقارن بين المستفاد من القرآن والحديث وما اختاره صدر المتألهين، نجد أن الاشتراك إنّما يقع في الكلمات فقط.

والمهم ـ مضافاً إلى هذا ـ معرفة هل أنّ الجسد الذي قال به الفلاسفة الإسلاميون، مع ما يظهر من الفقهاء والمحدثين، واحد أم إثنان؟ وإذا كان المقصود متعدّداً، فما هو المستفاد من القرآن والحديث؟

ثم إنّ الجسم الذي تتعلّق به الروح، هل هو من أجزاء هذا العالم العنصرية أو صورة أبدعتها النفس في ذلك العالم؟

وعليه، ليس البحث في أن الجسم الأُخروي يوجد تدريجيّاً أو دفعةً واحدة، وإنما في أن ذلك الجسم الذي وُجِد دفعةً، هل هو من أجزاء هذا العالم ــ وإن تغيّرت كيفية تكوّنه وعوارضه في ظروف العالم الآخر ــ أو أنه ليس من أجزاء هذا العالم، وإنما هو مُبدع النفس؟

قلنا: إن الأكابر جعلوا هذين المسلكين مقابل بعضهما.

ويمكن ـ بغضّ النظر عمّا تقدم ـ إسناد الاتجاه الذي يستفيد حقيقة من الآيات، بعد استيضاحه الدقيق لدلالاتها، ومن الروايات بعد تماميّة سندها ودلالتها طبقاً للموازين المتعارفة، مع ملاحظة مجموع الأدلة في ذلك.. يمكن إسناده إلى الشرع الشريف.

وقد يبحث الفيلسوف الإسلامي ــ في الوقت الذي يعتقد فيه بأمر ما، ويتقيّد فيه بالشريعة، ويطّلع فيه على الأفكار والعقائد البشرية ــ في موضوعٍ ما وفقاً لهذه المبادئ والأصول، فيتخذ لنفسه رأياً، بيد أنه ـ وانطلاقاً من اعتقاده بالشريعة ـ يراجع الأدلة النقلية أيضاً، وحيث كان قد سبق أن صاغ في عقله الموضوع وخرج فيه بنتيجة معينة، نجده يواجه أدلّةً شرعية لا تخلو من التشابه والإجمال، مما يجعله يندفع تلقائياً لحمل هذه النصوص النقلية على المعنى المستقرّ في وعيه واستنتاجه، ويعتبر هذا النوع من الأدلة أدلةً أصلية، وبذلك يتخلّى عن الظواهر والمحكمات، أو يحملها على ذلك المعنى الذي صاغه سلفاً.

ومنشأ هذا النوع من الحمل، الأُنس الذهني بسلسلة من الأيديولوجيات الرائجة في الفلسفة والمذاهب البشرية، مما قد يكون في نفسها محل خلاف. والمسألة ليست مسألة كليّة عالمية…

وإذا أردنا دراسة معضلة المعاد من وجهة نظر الشريعة، فلا بد من الأخذ برؤية إنسان متعقّل دقيق، لكنه خالي الذهن من القواعد والأحكام الفلسفية الخاصة المسبقة، فيلقي نظرةً على الأدلة الشرعية؛ ليرى هل أن سبيل المحدّثين والفقهاء يعتمد على القرآن والحديث، أم منهج صدر المتألّهين؟

مثلاً قد يقال: إنه لا زمان في العالم البعدي؛ لأنه ليس هناك شمس وقمر، طبيعيّ أن محدّد الزمان في هذه الدنيا هو حركة الأرض أو الشمس والقمر، إلا أنّه يمكن وجود زمان في ذلك العالم، وإن كان معياره أمراً آخر غيرهما، أو أن الحركة موجودة، بيد أنها سريعة جداً.

أو يقال: بما أن الأشياء توجد في ذلك العالم دفعةً ودون حركة وتدرّج، فيعلم أن لها صورة، وليس لها مادة، ويبدو أن في هذا الكلام مقارنةً بهذا العالم؛ لأن الصور الخيالية فيه تقع على هذه الشاكلة، وذلك بأن تخترعها النفس دفعة دون حاجةٍ إلى تدرّج.

إذن، لا بد أن تكون الموجودات في العالم الآخر ـ كلّما كانت أكمل وأتم ـ من سنخ هذه الصور.

الأُستاذ جوادي:

الفرق بين المسائل العلمية والمسائل الأيديولوجية والفلسفية أنّ المسائل العلمية والتجريبية تخصّ هذا العالم، فالفيزيائي ـ مثلاً ـ لا يمكنه أن يقول: إن قوانين الفيزياء تجري في العالم البعدي؛ لأنّها جرّبت في هذا العالم، وليست القواعد الفلسفية كذلك، فإن الأبحاث الفلسفية ذات طابع كلّي وعام، تدور مناقشاتها في داخل محور استحالة اجتماع النقيضين، فما كان جزئياً لا يدخل فيها، وما كان كلياً فهو يقبل التطبيق على العالمين معاً.

يقول الفيلسوف الإسلامي: إني أقبل أصل الوحي والنبوة مع القراءة الفلسفية الكلّية. إذاً فهو يأخذ الجزئيات من الوحي، ولا يبدي نظره فيها، أمّا الكليات فما كان منها مسلّماً عقلاً، فلن يكون هناك فرق فيه بين هذا العالم أو ذاك.

ولا تدفع الفلسفة ــ بما هي فلسفة ــ الإنسان إلى مخالفة الظواهر، كما هي الحال بالنسبة للمحدّث بما هو محدث، فقد أنكر العلامة المجلسي التجرّد، في قبال ما قاله بعض: إذا لم تكن الروح مجرّدةً، مثل ماء الورد في الورد، فلا يمكن إثبات عالم البرزخ، والفريقان من أهل الحديث.

فالقاعدة العامّة في دراسة معطيات القرآن والحديث تستدعي الفحص في المخصّصات اللبية، فلا بد ـ مثلاً ـ من البحث أولاً في حقيقة الزمان، فهناك خمسة عشر قولاً فيه، ومن ثمّ استكشاف قواعده العامة وقوانينه الكلية، فإذا لم توجد تلك الأحكام في العالم البعدي، فسوف نعرف أن لا زمان هناك، وما لم يوجد زمان فلن يكون للحركة وجود أيضاً، فإذا قلتم: إن هناك زمان، لكنه سريع، فهذا كلام جميل جداً، إلا أنه لا بد من إثباته،وهذا معناه أنه لا بد على أيّ حال من دراسة معضلة الزمان فلسفياً.

ويذهب الملا صدرا إلى تخيّل البعض أن الآخرة من تتمّات وذيول الدنيا، إنهم يعتقدون أن القيامة فرع مرتبط في امتداد هذه الدنيا، وهذا بالحقيقة إنكار لعالم الآخرة.

ويرى أيضاً أن ظواهر كثير من الآيات تقضي بأنّ ذلك العالم مثل هذا العالم، إلا أن عندنا أدلة من جانب آخر تصرّح بأن الجنة والنار موجودتان الآن، فلا بد من التحقيق في هذه الخصوصيات.

الأُستاذ سيدان:

حاصل ما قيل:

الحكيم يلقي نظرةً على القوانين الكلّية الفلسفية، مع ما جاء من الشرع؛ ولهذا قد تكون نظرته مختلفةً عن آراء الآخرين الذين لم يأخذوا بالحسبان تلك القوانين.

والخلاصة: لا بد من الأخذ بعين الاعتبار المخصصات العقلية عند الاستفادة من الأدلّة الشرعية.

أقول: إن القوانين اللبيّة قد تكون قوانين قطعية واضحة، تتفق أنظار العقلاء عليها، ولا شك هنا في انضمامها إلى الأدلة الشرعية، أمّا لو وقع في تلك القوانين اختلاف كبير، مثل الزمان الذي تفضلتم بأن فيه خمسة عشر قولاً، فهل يمكن لمثل هكذا قانون أن يكون مخصّصاً لبيّاً، نصرف به ظواهر الكتاب والسنة ونأوّلهما؟! وهل اعتمد النبي 2 والأئمة E المرسلون إلى البشر جميعهم على هذه المواضيع الخلافية، ليقولوا كلاماً يريدون خلاف ظاهره أو صريحه اعتماداً على هكذا قرينة.

نعم، إذا قطع شخص بأحد هذه الأقوال، فلا يمكن القول له: إصرف نظرك عن هذا القطع، ولكن، لا بد من تذكيره بسؤال: كيف يقول صاحب الشريعة ــ وهو المعلّم والمرشد ــ كلاماً يتبادر منه معنى يفهمه العقلاء جميعاً،لكنّه اعتمد فيه على موضوعٍ مختلَف فيه بحيث يصبح كلامه ظاهراً في المعنى المنسجم مع نظرية خاصة في ذلك الموضوع الخلافي؟!…

في الختام نقول:

إذا لم يكن عندنا مخصّص لبي واضح لدى دراستنا لأيّ مذهب، فلا بد من الأخذ بظواهر ذلك المذهب. والطريق الذي يؤدّي بالإنسان إلى مخالفة ظواهر الشرع لدى اصطدامها بالقواعد العقلية، طريق غير مأمون من الخطأ.

الأُستاذ جوادي:

إذا عزم الإنسان على البحث في مسألةٍ اجتهادية، واحتمل أن تكون بعض المذاهب الفلسفية لها رأي صحيح في مقدّمات تلك المسألة، فلا يمكنه تناول الأدلة الشرعية مباشرةً، واليقين بنسبة النتيجة ــ بمجرّد الاستفادة من الظواهر ــ إلى الشارع؛ إذ يحتمل مع ذلك وجود المخصّص اللبّي.

الأُستاذ سيدان:

نعم، يصحّ هذا الكلام إذا كانت الأدلّة الشرعية ظنيّةً، ففي هذا النوع من الأدلّة لا يمكن نسبة النتائج ــ حتى بعد الفحص عن المخصّصات اللبية ــ إلى الشارع سبحانه وتعالى على نحو الجزم واليقين، لكن فرضنا هنا يقوم على امتلاكنا أدلةً قطعيةً ــ ولو بلحاظ المجموع ــ يغدو احتمال وجود دليل عقلي قطعيّ قبالها احتمالاً غير صحيح.

[وفي ختام الجلسة أوضح الشيخ جوادي]: إن هناك أدلّةً كثيرة في مسألة المعاد، تدل ـ كما يفهم أيضاً من كلمات المحدّثين ـ على أن المحشور هو الأبدان العنصرية، ولهذا لا يلزم الفحص في هذه الجهة، لكن يمكن التوصّل إلى أدلة أخرى من قبيل: كون الجنة والنار مخلوقتين، والتي يستفاد منها مسلك صدر المتألهين، ولا بد من بحثها.

الجلسة السادسة ــــــــــ

الجنة والنار مخلوقتان الآن أم لا، نظرية تجسّم الأعمال وعلاقتها بخلق الجنة والنار، المادّة بين الاصــطلاح العــرفي والتجــريبي والمصــطلح الفلسفي،

الأُستاذ سيدان:

بعد أن تقرّر في الجلسة السابقة أن ظواهر الآيات والأدلّة الشرعية يدلّ أكثرها على كلام المحدّثين، أي أن المشحور في القيامة هم الناس بالأبدان العنصرية المادية، إلا أن هناك آيات وروايات أخرى في البين يمكن من خلالها إثبات النظريّة الصدرائيّة، وبهذا نتخلّى ـ تلقائيّاً ـ عن ظواهر الأدلة الأوليّة، وبعبارة أخرى: إن هذه الطائفة من النصوص الدينية تعدّ مفسّرةً للطائفة الأولى.

ونتدارس في هذه الجلسة هذه الأدلّة الشرعية، إن شاء الله تعالى.

الأُستاذ جوادي:

وصف الله تعالى في كثير من الآيات الجنة والنار، وعرّف بكثيرٍ من ميزاتهما وخصوصيّاتهما، فقد قال في بعض الآيات: إن الجنة والنار أعدتا للمتقين والكافرين:

>وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ< آل عمران: 133.

>إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا< النساء: 102.

>أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا< النساء: 18.

ظاهر هذه الآيات وأمثالها أن الجنة والنار بتلك الأوصاف مخلوقتان الآن، وهذا الظاهر يثبت الروايات، كالرواية التي ينقلها الصدوق S في التوحيد وعيون أخبار الرضا والأمالي بسنده عن الهروي، قال: قلت له (للرضا C): يا ابن رسول الله! فأخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقتان؟

فقال: نعم، وأن رسول الله 2 قد دخل الجنة، ورأى النار لما عُرِجَ به إلى السماء.

قال: فقلت له: إن قوماً يقولون: إنهما اليوم مقدّرتان غير مخلوقتين.

فقالA: ما أُولئك منّا ولا نحن منهم، من أنكر خلق الجنة والنار كذّب النبي 2 وكذّبنا، ولا من ولايتنا على شيء، ويخلد في نار جهنم، قال الله عزّ وجلّ: >هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آن<([2]).

وهناك روايات تدلّ على أن النبي الأكرم 2 رأى في ليلة المعراج الجنّة والنار، قال الله سبحانه وتعالى في سورة التكاثر: >كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ < التكاثر: 5 ــ 6، فإذا وجدت علم اليقين فسوف ترى الجحيم، وقصّة حارثة تؤيّد هذا الأمر.

بعد هذه المرحلة، نلاحظ أن الله تعالى جعل الجنة جزاءً للمحسنين، وجهنم جزاءً للمذنبين، ثم جعل الجزاء مطاوعاً للعمل، فقال: >هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ< النمل: 90.

وعليه، فالجزاء في الأصل عملُ الإنسان نفسه، أمّا جهنم فليس حالها حال الأُمور التعاقدية كقوانين الجزاء في هذا العالم، وإذا كان عندنا دليل معتبر يثبت أن ما وراء العمل يوجد جزاء آخر أيضاً، فإنه يمكن الجمع بينهما بأن نقول: إن العمل نفسه جزاء، وجزاء آخر أيضاً من نوع القوانين الجزائية، وعلى كلّ حال، فلا شك فيما قررناه.

ونلاحظ أيضاً أن الله سبحانه قال في وصف النار وجهنم: >وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا< الجن: 15، فالمجرم هو الموادّ المحترقة في النار، كما أنه هو وقودها أيضاً: >وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ< البقرة: 24، والحجارة هي الأصنام التي كانوا يعبدونها.

فعليه، يكون الإنسان نفسه ذاك الحطب المحترق، وهو الوقود. إذاً، فالإنسان في النار يحرق نفسه بنفسه ويشعلها: >ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ< غافر: 72، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن العمل هو الجزاء.

وبناء عليه، ليست الجنة والنار موجودتين في إقليمٍ من الأقاليم الجغرافية، كما أراد بعض تصويرهما، وقالوا: ما الإشكال أن تكون في أرض لم تكتشف بعد؟!

فإذا كان نظام الجنة والنار نظاماً أخرويّاً، وهو غير النظام الدنيوي المادي، كذلك الجسم؛ فمع كونه مرئياً، لكنه لا يُرى ضمن الظروف الدنيوية.

كانت هذه خارطة البحث ومساره،والخطوط الكلّية العامّة له.

الأُستاذ سيدان:

مع ملاحظة أسلوب عرض الموضوعات على هذا النحو ــ وبغضّ النظر عن بعض الملاحظات الناقدة ــ لا يمكننا ومن هذه المقدمات استنتاج عدم مادية العالم البَعدي.

فإذا فرضنا أن الجزاء هو العمل نفسه، وأن الإنسان وقودٌ وحطب، والجنّة والنار موجودتان، بل قد رؤيتا، فلا يمكن إثبات كونهما ليستا بماديتين، بل يمكن أن تكون مادّة الآثار وخصوصيّاتها تفترق في شروط معينة، كما أن المادة في هذا العالم تفترق شرائطها في زمانين وفي مرحلتين، فتختلف أحكامها.

أمّا الانتقادات التي أشرنا إليها، فهي ما قيل: إن الجزاء هو العمل، فهل يعني ذلك أن العمل نفسه يتحوّل إلى جزاء؟ كهاتين الركعتين من الصلاة تكونان قصراً مثلاً، أو أن عمل الخير هذا، يكون باعثاً على بناء قصرٍ بإرادة الله سبحانه؟

بالطبع هناك نحو ارتباط بين العمل والجزاء، أمّا العينية فليست ثابتة، وعلى أيّ حال لا منافاة لذلك مع مادية الجزاء، أمّا كون الإنسان وقوداً وحطباً، فليس معناه أنه لا توجد نار قبل ذلك، بل معناه: أن الإنسان يغدو وسيلةً للاشتعال وظهور النار، فهو يقع في النار فيضاعف اشتعالها، وآية: >كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ< التكاثر: 5، فسّرها أكثر المفسّرين بنحو آخر.، مثلاً mلوn للتمنّي، و: >لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ< التكاثر: 6، إخبار عن مستقبلٍ محقّق الوقوع.

أمّا رؤية النبيّ الأكرم 2 للجنة والنار فلا دلالة فيها على عدم المادية، فيمكن أن يكون جسم مادي لطيف مرئيّاً في شرائط العالم الأعلى، ولا يُرى في الشرائط الخاصّة الأرضية، بل إن الآثار والخصوصيات المذكورة للجنة والنار تؤيّد المادية.

الأُستاذ جوادي:

المادة التي نتحدّث عنها هنا ليست أمراً عرفياً ولا شرعيّاً، بل إصطلاح فلسفي خاص، متداول في العلوم العقلية، فهي لا تعني قابلية الرؤية واللمس، بل هي مجرّد الاستعداد.

المادة في العلوم التجريبية قابلةٌ للتبدّل والتحول، وتختلف باختلاف الحالات، لكنها بمعنى الهيولى لم تثبتها التجربة، وإنما أثبتها العقل، بمعنى أن العقل يحكم بأن الجسم العنصري لهذا العالم له في ذاته استعداد التحوّل والتبدل، فمثلاً يتحوّل اللحم إلى تراب، ويتحوّل التراب إلى نبات… تلك الجهة من الاستعداد يقال لها: الهيولى، وهي علّةٌ قابلية، مضافاً إلى العلّة الفاعلية.

فلو فرضنا أن جسماً كان حقيقةً مجرّدة، وقد تبدّل الآن، فهل يمكن القول: إن هذا الجسم له هيولى أيضاً؟

إنّ العمل ــ كما قلنا ــ يتبدّل إلى جزاء، وليس منحصراً بالصوم والصلاة اللذان هما عمل خارجي ومادي، وإنما يشمل النيّات والاعتقادات أيضاً، فكما أن الكفر والإيمان يتبدّلان إلى جزاء، كذلك الأخلاق الحسنة والسيئة، فإنها ليس أموراً مادية حتى نقول: إنه يمكن أن تختلف المادّة بحسب شرائط الآثار والخصوصيات.

وخلاصة القول: إنّ المادة التي يقول بها الفيلسوف لا طريق لإثباتها في ذلك العالم، نعم، لا كلام فيما لو قال شخص: نحن نسمّي كل شيء يُرى مادةً، أمّا مسألة جزاء الأعمال بالنسبة إلى الجنة، ففيها قولان، وأمّا بالنسبة إلى جهنم فقول واحد.

أحد القولين بالنسبة للجنة أن العمل الصالح يتبدّل إلى جنّة، والقول الآخر هو: >وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ< ق: 35.

أمّا بالنسبة إلى جهنم فالقول قول حاصر: >إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ< التحريم: 7، الجزاء ليس إلاّ العمل.

وما قلناه عن وجود الرابطة التكوينية بين العمل والجزاء، ليس معناه العلّة الفاعلية؛ لأن هذه العلّة ليست سوى الله المتعال، إنما هي الرابطة التكوينية، بمعنى اللياقة والاستعداد لصيرورة العمل جزاءً، فالوقود لا يعني الاشتعال، بل وسيلته، كعود الثقاب، وكما أن الإنسان وقود، كذلك هو حطب، ونتيجة هذين: >يسجرون<، وهو الاشتعال.

مثال ذلك في هذا العالم ما بينه أميرالمؤمنين A في رواية نقلها صاحب الغدير، قال:

mإنّ رجلاً أتى عثمال بن عفان… وبيده جمجمة إنسان ميّت، فقال: إنكم تـزعمون النار يعرض على هذا، وأنه يعذب في القبر، وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحسّ منها حرارة النار.

فسكت عنه عثمان، وأرسل إلى عليّ بن أبي طالب المرتضى يستحضره، فلما أتاه ـ وهو في ملأ من أصحابه ـ قال للرجل: أعد المسألة، فأعادها، ثم قال عثمان بن عفان: أجب الرجل عنها يا أبا الحسن.

فقال عليّ A: mائتوني بزند وحجرn، والرجل السائل والناس ينظرون إليه، فأ ُتي بهما، فأخذهما وقدح منهما النار، ثم قال للرجل: mضع يدك على الحجرn. فوضعها عليه، ثم قال: mضع يدك على الزندn، فوضعها عليه، فقال: mهل أحسست منهما حرارة النارn؟ فبهت الرجل، فقال عثمان: لولا عليّ لهلك عثمانn([3]).

وأمّا آية: >لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ< التكاثر: 6، فالظاهر أنها جواب: >لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ< التكاثر: 5، وإلاّ استلزم الأمر حذف وتقدير أمرين: أحدهما: جواب لو، والآخر: القسم في >لَتَرَوُنَّ<.

الأُستاذ سيدان:

صحيح أن المادة بمعنى الهيولى اصطلاح فلسفي، ولم ترد في اصطلاح الشرع والحديث، لكن مصبّ البحث هو: هل أن المحشور في العالم البَعدي هو هذا الإنسان الموجود في هذا العالم من حيث الروح والجسم، وإن اختلفت آثاره وخصوصياته عندما وقعت في ظروف أُخرى؟ أو أن المحشور هو الروح لا بجسم هذا العالم الذي هو من أجزاء هذا العالم، بل مع جسمٍ أبدعته النفس ذاتها، وهذا المقدار المستلّ من خصوصيات الجنة والنار لا ينفي الموضوع ويثبته.

أضف إلى ذلك ــ وبناءً على نظرية الملا صدرا من أن الجنة والنار قائمتان بنفس الإنسان ــ لا معنى لخلق الجنة والنار مسبقاً.

[يحتمل هنا أنه حصلت مناقشات خارجة عن المبحث، ثم أكمل الحوار بهذه الصورة].

الأُستاذ جوادي:

أتصوّر أن خلاصة ما عرض هو هذا: تدلّ الآيات والروايات أن المحشور من أجزاء هذا العالم، والآيات كثيرة في هذا الباب، ولكن قيل: لا بد من ملاحظة آيات وروايات أخرى، من جملتها مسألة الجنة والنار، وأن هذا الإنسان يشكل جنة ذلك العالم وناره، ويدخل فيهما، يعني يصبح الإنسان بصورة العمل وبصورة الصفة.

وعلى هذا، يأتي بدن زيد ــ مثلاً ــ على شكل حيواني خاص بصفة الحسد، وقد جُعلت بصورة هذا البدن، والبدن الذي تبدّل من صفة، لا يكون بدناً عنصرياً مادياً، فمثلاً الشخص الشهواني يأتي بصورة خنـزير، وهو mمن أُشرب في قلبه الشهوةn، أو أنّه كما قيل:

mعن أبي عبدالله A قال: إن الله يحشر الناس على نياتهم يوم
القيامةn([4]).

أليست هذه المرحلة أدقّ من المعاد؟! وقد قال الملا صدرا: إن المعنى الأول للمعاد الذي يقول به العوام أسلم من الآفات، فيما الأخير أدقّ حتماً.

الأُستاذ سيدان:

إذا لم تكن مسألة تجسّم الأعمال مؤيّدة، فلا تنافي مع أن المحشور من أجزاء هذا العالم؛ لأن المقصود من تجسّم الأعمال أن في ذلك العالم تتكوّن الصفات بصور مختلفة، وليس معناه أن الأجزاء الوجودية لهذا العالم لا تكون هناك؛ فإن هذه الأجزاء الدنيوية تعطي صورة الخنـزير والنملة.

فعلى هذا، تبقى الآيات والروايات الصريحة على موضعها، وعلى فرض أن مثل هذه الأدلّة ظاهرة في مدّعى الملا صدرا، لكنها لا تقدَّم على ظهور الآيات والروايات ولا صراحتهما.

أمّا عن الموضوع الآخر الذي تفضلتم به، وهو أن صدر المتألهين قال: إن الرأي الأول الذي هو رأي العوام أسلم من الآفات، وفي الوقت نفسه يختار رأياً آخر.

فهنا نتساءل: كيف يمكن أن يقال عن رأي: إنه حقّ، وأسلم من الآفات، وفي الوقت عينه يجري اختيار رأي آخر بوصفه الرأي الأكثر دقةً؟! أفليس هذا جمعاً بين المتضادين؟!

الأُستاذ جوادي:

ليس المراد من تجسّم الأعمال خلق صورة الخنزير من الطين، ذلك أن هذه الصورة عرض، بل صيرورة الإنسان خنـزيراً حقيقة، فهو إنسان لكنه أصبح خنـزيراً. إذاً، فالإنسان في أبحاث المعاد نوع من الأنواع، وجنس.

قال الله سبحانه: >أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ< الأعراف: 179، ولسان بعض الروايات أن طائفةً في هذا العالم يأكلون النار: >مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ< البقرة: 174.

الأُستاذ سيدان:

إذا تبدّل الإنسان واقعاً إلى خنـزير، فهذا معناه أن هذه الصورة لم تعد عذاباً بالنسبة إليه، فمع الاحتفاط بإنسانيته السيئة، له هيئة الخنـزير، والتصوّر بصورة الخنـزير نوع عذاب له، المادة التي يمكن أن يكون الإنسان منها ــ من ناحية تشبيه روحه أو عمله بالخنـزير ــ تكون على صورة خنـزير.

وعلى كل حال، فلا منافاة مع المادية.

نعم، يمكن أن يوجد حدّ معين من النفس الخنـزيرية في الإنسان.

الجلسة السابعة ــــــــــ

تنوّع كلمات الملا صدرا في المعاد أو تناقضها، فعلية الثواب والعقاب الأخرويين في الدنيا، الجنة والنار جسم غير مادي، شهادة الأرض على فعل الإنسان…

الأُستاذ سيدان:

من المناسب تعيين جدول للموضوعات التي طرحت سابقاً.

بعدما عُلم أن الملا صدرا صرّح ـ مراراً ـ بأن المحشور هو المعاد الجسماني والبدن بعينه، وقد اتضح أن مراده من الجسم المعنى الخاص، أي شيئيّة الشيء بصورته، صور إبداعية من قبل النفس، ومقصوده من الجسم ليس هو المتبادر إلى أنظار العموم. ولقد وصل بنا البحث إلى أن المحدّثين والملا صدرا لهما نظرتان، وقد صرّح أهل الفن بهذه الاثنينية.

وقيل: إن المستفاد من الآيات والروايات في موضوع حشر الأجساد، عين ما قال به الأعلام من قبيل: الآشتياني، والآملي، والخوانساري (قدس الله أسرارهم).

لكن القسم الآخر من الأدلة المرتبطة بخلق الجنة والنار والتي وقعت موضع البحث، قلتم فيها: إن هذه الأدلة ــ مع الالتفات إلى أن الجزاء ليس أمراً تعاقدياً، وإنما هو العمل عينه، وأن الأعمال والصفات تتجسّم، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن العالم البَعدي يخضع لنظام: >كُن فَيَكُونُ<، أي لا مدخلية للبطء والحركة فيه ــ يمكنها ـ من بعض الجهات الأُخر ـ تأييد نظرية صدر المتألهين.

وقلنا: إن هذه لا تنافي كلام المحدّثين، وبالنتيجة لا يمكن صرف النظر عن المستفاد من الآيات والروايات.

وما سنستعرضه الآن يرجع إلى الرواية الأخيرة المشتملة على أن النبي 2 قد دخل الجنة في معراجه، ورأى النار أيضاً، فقد ورد في ذيل تلك الرواية أن
النبي 2 تناول من رطب الجنة: mفتحوّل ذلك نطفةً في صلبيn([5])، وهذه الخصوصية ـ أي التبدّل إلى نطفة ـ تتناسب تماماً مع مادّية الجنة وفواكهها، لا صوريتها. والآن، حبّذا لو تتفضلون برواية أخرى أو قرينة لبية.

الأُستاذ جوادي:

ينبغي هنا بيان نقاط ثلاث:

1 ــ تنقسم كلمات الملا صدرا في المعاد إلى نوعين:

أحدهما: ما قاله في شرح الهداية الأثيرية، وهو المتطابق مع ظواهر الكتاب والسنّة، وهو الذي قَبله بوصفه نظريةً دقيقة.

والنوع الآخر: ما بيّنه في كتبه الأُخرى كالأسفار الأربعة، وقد اختاره بوصفه النظرية الأدق.

إذن، فهناك تصور دقيق للمعاد عند صدر الدين الشيرازي، كما هناك تصوّر أدق، وقد اختار في شرح الهداية الأثيرية ذلك المعنى الذي اختاره المحدّثون.

2 ــ كلما تقدّمنا إلى الأمام وتأمّلنا، نرى أنه لا اختلاف بين نظرية الشيرازي ــ ولو بالمعنى الأدقّ ــ وبين نظرية المحدّثين والفقهاء؛ ذلك أنهم ـ المحدثين والفقهاء ـ لم يبيّنوا اصطلاحاً خاصّاً للمادة، وهم يعبّرون عنها بالجسم، ويثبتون آثاراً وخصوصيات لهذا الجسم تنطبق على الصورة التي يقول بها الملا صدرا.

3 ــ الأدلّة تقول: إن الجنة والجحيم موجودتان الآن، وأهل الجنة الآن متنعمون، والجهنّميون الآن معذبون.

أمّا الرواية التي أشير إليها وجاء في ذيلها: mفتحوّلت نطفةn، فمعناها: تحوّلت إلى نطفة في هذا العالم لا في الجنة، فالجنة ليست مكان نطفة، بل تنـزّلت وأصبحت نطفة، فلجميع الموجودات خزائن غيبية: >وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنـزلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ< الحجر: 21.

ولذلك قال تعالى: >وَأَنـزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ< الحديد: 25، فحالة التنـزل، وبعبارة أخرى: mأنـزلناn وغيرها تشير إلى التنـزيل من الخزائن، وفي الخزائن الغيبية لا يوجد كلام حول الماديات.

إن القيامة وعاء ظهور النار لا حدوثها، فالجهنمي عندما يموت ينكشف عنه الغطاء ويرى نفسه في جهنم، إنه لا يرى شيئاً جديداً: >لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّـنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ< ق: 22، وبما أنه حطب ووقود، فهو الآن في جهنم يحترق، غايته أنه يكشف عنه الغطاء بعد ذلك.

قال تعالى في قصّة قوم نوحٍ (على نبينا وآله وعليه السلام): >أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا< نوح: 25.

إذن، فجهنم موجودة حتى في داخل الماء، فالإنسان الذي يغرق، لو كان كافراً، يُفتح له باب من جهنم، فقد جاء في الروايات: قبر أو حفرة من حفر النار أو ….

وعلى هذا، فالجنة والنار موجودتان، حتى في وسط الماء، فلو كانت جهنم جسماً ماديّاً لتقرّر وجودها في جزء جغرافي من هذا العالم.

ومسألة تجسّم الأعمال مسألة ثابتة، يمكن استفادتها من موارد مختلفة، نظير القواعد الفقهية المتصيّدة، والعمل أعمّ من القول والفعل والخُلُق والاعتقاد، فبالنسبة للاعتقاد يقال للمعتقد الباطل: هذا رأيك الخبيث، أمّا الجزاء فليس سوى العمل المجسّم.

وعليه، فالمستفاد من الآية الحاصرة: >إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ< الطور: 16، وكذلك مقتضى قوله تعالى: >إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ< العنكبوت: 54، أن الكفار الآن في جهنم؛ لأن المشتق حقيقةٌ في المتلبس بالمبدأ في الحال، ومجاز مسلّم في حال الاستقبال، ومقتضى قوله تعالى: >مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ< البقرة: 174، أن آكل مال اليتيم على نحو الظلم آكلٌ للنار حقيقةً.

ومع الأخذ بعين الاعتبار ما أسلفناه يغدو ممكناً أن تكون الجنة والنار جسماً غير مادي، فكونهما جسماً منطلق من أن لهما طولاً وعرضاً وعمقاً، أما عدم ماديتهما فلعدم وقوعهما ضمن نطاق جغرافي، ولا لهما مكان أو جهة خاصة،. ولا يمكن القول بإمكان وجودهما في إحدى زوايا هذا العالم، أو في إحدى السيّارات التي لم تُكتشف بعدُ.

هذا، والمتعارف بين عامّة المسلمين عن جهنم: أنها محلّ يُلقى فيه الناس للعذاب، ولا يعرفون أن الوقود والحطب وما تتكوّن منه النار هو الإنسان نفسه.

وقد اختار الفيض الكاشاني S ـ وهو المحدّث الكامل والفقيه الذي وقع كتابه mمفاتيح الشرائعn موقع اهتمام الفقهاء ـ اختار هذا الأمر في كتابه: mعلم اليقينn.

لقد كان على كبار المحدّثين كالعلامة المجلسي S أن يفسّروا المادّة أولاً، فإن كان مرادهم منها شيء ذو طول وعرض وعمق، فلا بحث في هذا ولا خلاف، أمّا لو قصدوا ما كان له مكان وجهة معيّنة، فهذا لا معنى له، طبقاً لما سبق.

الأُستاذ سيدان:

بالنسبة إلى الموضوع الأول ـ وهو أن للملا صدرا في المسألة نظرين: نظر دقيق، وآخر أدق ـ فأقول: لازم هذا التعبير أن له في المعاد قولين، ومع تقابلهما وتضادهما، لا يمكن الاعتقاد بهما معاً.

أمّا لو كان المقصود بيان أمرٍ واحد بعبارتين، فهذا معناه أنهما ليسا برأيين أساساً، طبعاً لا بد من نسبة المطلب الأدق إليه، وهو غير مسلك المحدّثين، ومن هنا يتضح الموضوع الثاني، وهو وحدة نظره ورأي المحدثين، وهنا نعتقد أنه لا وحدة من هذا النوع أبداً.

وما قيل في تقريب الوحدة، من أن المحدّثين قالوا بآثار وخصوصيّات بالنسبة إلى البرزخ والقيامة، لا تلائم المادية، قلنا فيه: إن محلّ البحث هو هل هناك موجود في ذلك العالم متكوّن من الأجزاء الوجودية الدنيوية أو لا؟

فمع صرف النظر عن اصطلاح المادة، يقول المحدّثون: المحشور في القيامة البدن العنصري، فيما مذهب صدر المتألّهين أن المحشور الصورُ التي أبدعتها النفس.

وأما الموضوع الثالث الذي طرح لتقريب نظرية الملا صدرا، وهو أن الجنة والنار موجودتان الآن، والناس الآن إمّا في الجنة أو في الجحيم، وأنّه يكشف ـ بعد الموت ـ الغطاء عنهم فقط، وأن مثل هذه الجنة وتلك النار لا يمكن أن تكونا ماديتين، وأن الذهاب إلى الجنة والجحيم ليس انتقالاً من نقطة إلى نقطة، بل رؤية لهما في هذا العالم.

بالنسبة إلى هذا الموضوع أقول:

أولاً: كان مصبّ البحث حول حشر الأجساد، وهو هل أن الأشخاص المحشورين في ذلك العالم عندهم شيء من أجزاء هذا العالم أو لا؟

فالمحدّثون يدّعون: أن الناس يحشرون من أجزاء هذا العالم بالأبدان العنصرية، ولو كان هناك تفاوت مع أجزاء هذا العالم بلحاظ الآثار والخصوصيات؛ ذلك أنه يمكن لحقيقةٍ واحدة أن تكون لها عوارض وآثار متفاوتة بلحاظ الظروف الخاصة، سواء أسمينا هذا الشيء ــ اصطلاحاً ــ مادّةً أم لم نسمِّه، فالبحث ليس في الاصطلاح.

أمّا ما هي حقيقة الجنة والنار، وحقيقة العذاب والثواب الأُخروي؟ فهو بحث آخر.

وثانياً: المستفاد من الأدلّة أن الجنة والنار ليستا صورة فقط، وإنما قابلتان للمس، ولهما أجزاء، وهناك يوجد الزمان والسرعة والبطء، كما ورد في الرواية: إن معانقة الحورية يكون في عدّة سنوات، وما شابه ذلك.

ولا منافاة بين موجودات الجنة والجحيم وإحاطتها وبين المادية، فإنها تكون مادةً لطيفة جداً، مضافاً إلى الهيئة التي لها. وهذه المادة لم تكتشف بعد، وغير قابلة للكشف بالآلات الطبيعية الحالية، كحقيقة الروح، على قول من يذهب إلى أنها جسم لطيف.

طبعاً، لم يُصرح بالمادة أو الصورة في الروايات، لكن الظاهر تناسب الروايات مع المادة أكثر، وهذه المادة لا تقبل الإحساس بها في هذا العالم، لكنه يمكن حصول ذلك في العالم البَعدي، ضمن ظروف وشروط خاصة.

والمستفاد من الروايات أيضاً: أنه قد تمّت تهيئة قسمٍ من الجنة، لا ارتباط له بالعمل، بمعنى أن يكون منشأ إبداعه العمل، فقد جاء في بعض الروايات: أنه قد يدخل إنسان الجنة فتعرض له جنة أخرى فوقها، ويقال له: لو عملت العمل الصالح الفلاني، لكانت هذه الجنة لك. وليس معنى الوقود عدم وجود نار وراء الإنسان وعمله، فقد اشتملت الآية على ذكر الحجارة أيضاً، ومن غير المعلوم اختصاصها بالأصنام.

وخلاصة القول: إن الجنة والنار موجودان مستقلان وراء الإنسان وعمله.

الأُستاذ جوادي:

ثمة ـ عند الملا صدرا ـ نظر دقيق وآخر أدقّ، وذلك من باب تقسيم المعارف الحقّة إلى درجات، لتكون كلّ واحدةٍٍ منها حقّاً في مرتبتها، كما كان المؤمنون درجات: >هُمْ دَرَجَاتٌ< آل عمران: 163، >لَّهُمْ دَرَجَاتٌ< الأنفال: 4، فالمؤمنون أنفسهم في مراتب، كما لهم درجات أيضاً.

يُخاطب المؤمن يوم القيامة: mاقرأ وارقهn([6])، على هذا، لا يكون النظر الدقيق باطلاً، بل يغدو حقّاً في مرتبته، ثم يكون أدق أيضاً وحقاً في المرتبة الأُخرى، وليس ذلك من اجتماع المتضادين؛ لأن شرطه ـ اي اجتماع المتضادين ـ وحدة الرتبة، أمّا هذان ففي رتبتين.

[هنا، وقبل أن يتمّ الشيخ جوادي آملي حديثه، قاطعه السيد سيّدان ــ بعد استجازةٍ منه ــ بسؤالٍ: هل يمكن الجمع بين هاتين النظريّتين على الشكل التالي:

1 ــ المحشور في العالم البَعدي له من أجزاء هذا العالم الوجودية.

2 ــ المحشور في العالم البَعدي ليس له من أجزاء هذا العالم الوجودية؟

لكنّ الشيخ جوادي لم يجبه بوضوح عن سؤاله، وراح يكمل حديثه السابق على النحو التالي:].

الجنة والنار التي رآهما النبي 2، كما رأى فلاناً في الجنة، وفلاناً في جهنم، هذا معناه أنّه لا بد من رؤية المتنعّم والمعذّب، وأن يرى ما هي حقيقتهما.

وهل هو غير ما يقال: إن الإنسان موجود على ثلاث طبقات:

الطبقة الأُولى: الطبقة المادية الدنيوية، والتي يُفترض أنه يلبس فيها الحرير، ويعيش فيها الرفاه والنعمة.

الطبقة الثانية: طبقة غير مادية، لكنه فيها جسم قابل للرؤية، وهو الآن في العذاب يحترق: >كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا< النساء: 56.

الطبقة الثالثة: الروح المجرّدة التي لها عذاب خاص: >نَارُ الله الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَة< الهمزة: 6 ــ 7.

وهي مرحلة تغاير مرحلة العذاب الجلدي.

هذا الذي يعيش الآن في الدنيا، وهو في حالة السباحة، هو في الوقت عينه في جهنم، وفي حال احتراق، لكنه غير ملتفت ولا شاعرٍ بما يحدث معه ومن حوله، وذلك إلى أن يأتيه الموت: >بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ< الأنبياء: 40، مثله كمثل الذي يسرح ويمرح في مظاهر السرور والأفراح وهو غارق في السرور، ورجله قد احترقت، وهو لم يلتفت، وبعد انقضاء الحفل يلتفت فجأةً، ويرى رجله قد احترقت، فيصيح: >مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ< البقرة: 174.

الأُستاذ سيدان:

السؤال: الإنسان يحشر في القيامة، وينتهي إلى الجنة أو الجحيم، فهل لديه من أجزاء بدن هذا العالم شيء أم لا؟

فإذا قلنا: الإنسان المحشور هو من أجزاء بدن هذا العالم فلا تنافي مع ما طرح من مواضيع؛ لأنه في هذا العالم له أبعاد مختلفة، وأحد هذه الأبعاد أنه معذّب وهو لا يدري.

الأُستاذ جوادي:

نعم، له من أجزاء هذا العالم، لكن ما هو هذا العالم؟

لا بد من تبرير وجود الزمان، كما أن mخلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عامn([7])، لا بد من حمله على درجة وجودية، فإذا تمّ التنـزل إلى ألفي عام، فهناك لا وجود لكم، وليس المكان مكان السرعة والبطء.

الموضوع الآخر هو أن الأرض تشهد، والأرض موضع الأوّلين والآخرين، وتشهد على ملايين الأشخاص، فقطعة من الأرض هي مسجد، وهي حانة أيضاً، والإنسان المحشور يقوم من هذه الأرض، فالأرض تبدّل بما mلم يكتسب عليها الذنوبn.

الأُستاذ سيدان:

إن شهادة الأرض بشهادات مختلفة لا يدل على أن الأرض ليست مادية؛ لأنه يمكن على شريط تسجيلٍ واحد تسجيلُ عدّة أمور مختلفة، فما هو الإشكال من الزاوية الاحتمالية العلمية، وإن لم تعيّن كيفية التسجيل؟

الجلسة الثامنة ــــــــــ

الملا صدرا والنظرة الدقيقة والأدق، إحاطة الجنة والنار بالناس الآن، معضلة الخلود في النار، مقامات المعاد الصدرائية، هل المعذَّب هو البدن العنصري أو المثالي؟…

الأُستاذ سيدان:

خلاصة ما تم بحثه أنّ الملا صدرا طرح معاداً اعتبره جسمانيّاً، لكنه أوضح في مواضع أخرى أن المراد من جسمانية المعاد ليس الجسم العنصري المركّب من أجزاء هذا العالم الوجودية، وإنما صورةٌ أبدعتها النفس.

وفي مرحلة تالية دار الحوار حول تطابق أو عدم تطابق مقولة المحدّثين والفقهاء في المعاد الجسماني ومقولة صدر المتألهين؟

وقيل في هذه المرحلة أيضاً: ليست الحال كذلك، إنما يقصدون ـ أي الفقهاء والمحدثين ـ الجسم العنصري المادي.

وانتهى الحوار إلى نقطتين:

1 ــ ذكرتم في الجلسة السابقة أن لصدر الدين الشيرازي نظرتين: دقيقة، وأدق.

الدقيقة: هي كلام المحدثين والعلماء الآخرين.

والأدق: هو ما أثاره في كثيرٍ من كتاباته.

والمتبادر إلى الذهن من ذلك كلّه، أنه لو كان المقصود من هذا الكلام أن له طريقين لإثبات دعوى واحدة، أي له دليلان: أحدهما دقيق؛ والآخر أدق، فلا إشكال في ذلك. أما لو كان المقصود غير ذلك، أي وجود دعويين، مع القول بأن إحداهما دقيقة والأخرى أدق ــ مع كون الدعويين صادقتين واقعيّتين ـ فهذا أمر غير مفهوم ولا واضح، يعني في مركز واحد، وفي ظل ظروف واحدة.

أي أن المحشور في القيامة تتحقق له واقعيتان متضادتان:

أ ــ الجسم العنصري.

ب ــ الصورة الإبداعية.

وعليه، إمّا أن نقول: هما نظرتان متضادتان، أو أن النظر الثاني كاشف عن النظر الأول، بمعنى أن المختار واقعاً هو النظر الثاني.

2 ــ استدلّ صدر المتألهين بقسمٍ من ظواهر الآيات والروايات لإثبات المعنى الأدق الذي اختاره، والمستفاد منها أن العالم البَعدي صورةٌ فاقدةٌ للمادة، ومعنى ذلك حشر الأبدان على هذا النحو.

إننا نقول: ليس فقط لا تدلّ الآيات والروايات على مدّعاه، بل لا مناسبة بينهما، فمثلاً أكل الثمار ـ والظاهر أن لها حجماً ـ له مادة، وإن كانت مناسبةً لذلك العالم.

أمّا أن الجنة والجحيم ــ الآن ــ لهما إحاطة بالأفراد، فلابد من فرض صورة مثالية تحيط بها الجنة والنار، كما تدلّ على هذا الموضوع المكاشفات والمشاهدات، وهذا الموضوع أيضاً لو دُقق فيه، لا يمكن أن يثبت أن الإنسان المحشور في القيامة هو البدن المثالي، غاية الأمر أننا لا نقدر على معرفة إحاطة الجنة والنار، حتى نقول عن ذلك شيئاً باطمئنان.

فعلى هذا، لا نخرج من الآيات والروايات بنتائج واضحة تدعم وجهة نظر صدر المتألّهين، حتى نتخلّى بها عما توصّل إليه المحدّثون من مفاد الآيات والروايات الكثيرة، كما لا يوجد دليل عقلي ملزم في البَين.

نعم، لا يمكن التخلّي ـ نتيجة فرضية محتملة يمكن تأويل بعض النصوص لها ـ عن ظواهر الآيات والروايات الكثيرة، وبيان الموضوع بصورة أمر اعتقادي جزمي.

إننا نشاهد نظير ذلك في مبحث الخلود، فقد توصّل بعض الفضلاء في هذا الموضوع إلى أنّ mالقسر لا يدومn، وبما أن حركة الجهنميين حركة قسرية، فلابد من تبدّل طبيعتهم، ليعود العذاب عليهم عذباً في نهاية المطاف.

وقد قيل: إن المشركين معذبون في ابتداء الأمر، لأجل حصرهم الإله في معبودهم، لكن حيث كان معبودهم حقّاً mفما عبدو إلاّ الله، فرضى الله عنهم، ويبدّل الله عذابهم عذباًn، ومن أجل قاعدة: mالقسر لا يدومn، تخلّوا عن أدلة الخلود، وأخذوا يعملون التأويل والتطويع فيها.

الأُستاذ جوادي:

تعرّض الحديث لثلاث نقاط:

1 ــ بيان نظريتي صدر المتألّهين: الدقيقة والأدقّ.

2 ــ إثبات المسألة من زاوية النصوص الدينية.

3 ــ مسألة الخلود.

بالنسبة إلى المطلب الأول، يقول صدر المتألهين: في مسألة المعاد مقامات أربعة:

mالمقام الأول: أدناها في التصديق، وأسلمها عن الآفات، مرتبة عوام أهل الإسلام، وهو أن جميع أمور الآخرة من عذاب القبر، والضغطة، والمنكر والنكير، والحيّات، والعقارب، وغيرها أمور واقعة محسوسة من شأنها أن تحسّ بهذه الباصرة، لكن لا رخصة من الله في إحساس الإنسان ما دام في الدنيا…n.

ثم ينقل المقام الثاني ويبطله، ثم المقام الثالث، ثم بعد ذلك ينقل المقام الرابع عن الأكابر ويثبته.

ويُعلم من سيرورة الكلام أنه يقبل المقام الأول، كما يقبل المقام الرابع، وليس معنى النظرين أنه مطلب واحد نثبته من طريقين، إنما طريق واحد طويل ذو درجات، فللإيمان وللعلم درجات، كما أن للمؤمنين أنفسهم درجات: >لَّهُمْ دَرَجَاتٌ< الأنفال: 4، >يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ< المجادلة: 11، وفي روايةٍ سأل سعد بن سعد الإمام الرضا A عن التوحيد؟ فقال A: mهو الذي أنتم عليهn([8]).

وفي روايةٍ أخرى عن هشام بن سالم قال: mدخلت على أبي عبدالله A فقال لي: mأتنعت اللهn؟ فقلت: نعم. قال: هات. فقلت: هو السميع البصير. قال: mهذه صفة يشترك فيها المخلوقونn. قلت: فكيف تنعته؟ فقال: mهو نور لا ظلمة فيه، وحياة لا موت فيه، وعلم لا جهل فيه، وحقّ لا باطل فيهn. قال: فخرجت من عنده، وأنا أعلم الناس بالتوحيدn([9]).

هاتان الروايتان إشارة إلى درجتين: التوحيد، والإيمان بالتوحيد، والثانية أعلى مرتبةً من الأولى، فيما الأُولى حقّ أيضاً.

mالسير إلى اللهn له درجات أيضاً، كما mالنـزول من عند اللهn.

وبناءً على ذلك، ليس الأمر مطلباً واحداً، ولا طريقين لإثبات موضوع واحد، إنما درجتان لواقع واحد بسيط.

الأُستاذ سيدان:

اما عن كونهما نظرتين فمسيرة المعاد على مرحلتين: الأُولى في البرزخ؛ والثانية في القيامة بنحو آخر، وهذا معقول، إذ ذُكرت نظرتان، وكل منهما مرتبطة بمرحلة معينة، والسؤال هنا هو أن الحشر يتحقق في القيامة، فهل يوجد شيء من أجزاء البدن العنصري أم لا؟

من غير المعقول وجود وجهتي نظر كلّ منهما محقّة ــ مع فرض تضادّهما ــ في موطن واحد وموقف واحد.

الأُستاذ جوادي:

هذه الحقيقة فهمهما بعض ولو بمقدار قليل، وهذه هي المرحلة الأُولى التي يقول عنها الملا صدرا: mعليه جمهور المسلمين، وهو أسلم من الآفاتn، وهي أن المحشور هذا الجسم والبدن، بحيث أنه لو رأى مسلم تلك الحالات يقول: هذا ما كنت أقوله، فزيد بجميع أعضائه وجوارحه وخصوصيات أنامله، لكن هناك أيضاً مرحلة أدق، وهي في الحقيقة أن نتأمّل هذا الجسم، يقول الملا صدرا في هذه المرحلة: إنه جسم خلق بـ >كُن فَيَكُونُ<.

الأُستاذ سيدان:

كان مركز حديثنا مقارنة مسلك المحدثين ومسلك الملا صدرا، وقلنا: إن مسلك الفقهاء والمحدّثين ــــ وتؤيده باعترافكم أدلة كثيرة ــــ أن المحشور في المعاد هو البدن العنصري، لكن صدر المتألّهين يقول: ليس هو البدن العنصري. والجمع بين هذين المعنيين، واعتبارهما معاً أمراً واقعاً حقيقيّاً، غايته أن أحدهما دقيق والآخر أدق، جمعٌ بين الضدّين، واستحالته من الأُصول القطعية العقلية.

الأُستاذ جوادي:

عندما يبين الملا صدرا النظرية الأولى لا يردّهاً، بخلاف الثانية والثالثة، فيُعلم من ذلك أنه يقبل الأولى.

الأُستاذ سيدان:

نعم، يمكن أن يدّعي هو: إن جمهور المسلمين القائلين بالمعاد الجسماني، يقولون بجسم دون أن يعيّنوه بالعنصري، ولهذا فإن هذين المسلكين من قبيل المطلق والمقيّد، ولا تنافي بينهما.

ولكن بعد أن قيل: إن الجسم العنصري هو المستفاد من ظواهر الآيات والروايات ــ باعترافكم أنتم ــ، وقال به المحدّثون والفقهاء، حتى بعض أهل الفن من قبيل الآشتياني، ويقول به جمهور المسلمين أيضاً ارتكازاً، فلا معنى لصوابية كلا المسلكين.

الأُستاذ جوادي:

أمّا بالنسبة إلى أن أدلّة الكتاب والسنّة تناصر مذهب الشيرازي، فظاهر أدلّة كثيرة من الكتاب والسنة أن الجزاء ليس سوى العمل: >وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ< يس: 54.

وفي دعاء الصحيفة: mوصارت الأعمال قلائد في الأعناقn([10]).

وقال تعالى: >وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ< سبأ: 33.

فالجزاء الإلهي في القيامة منحصر ـ من ناحية ـ بالنار، فيما الجنّة والنار ـ من ناحية أخرى ـ موجودتان الآن، كما جاء في رواية عيون أخبار الرضا A، والتي استشهد الإمام A فيها بآية: >هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ< الرحمن: 43.

أمّا عن تنعّم أهل الجنّة الآن وعذاب أهل النار كذلك، فلأن الرسول
الأكرم 2 شاهدهم، ولم يكن هذا خيالاً، وإنما كان واقعاً، ولأن بعضاً آخر كحارثة بن مالك رأى ــ كما جاء في إحدى الروايات ــ أهل الجنة والجحيم، ولأن آية: >وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ< العنكبوت: 54، يُفهم منها هذا المعنى، ولأن المستفاد من الرواية التي أشير إليها، والتي استشهد الإمام الرضا A فيها بآية: >هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي…<، أن المجرمين قابعون الآن في جهنم.

وقد وصف الله سبحانه أهل الجنة فقال:

>إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ< القمر: 54 ــ 55، وهذه إشارة إلى قسمي الجنة: الجسماني والروحاني، كما أن جهنم أيضاً وصفت بهذين الوصفين:

نار جسمانية: >بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ< النساء: 54.

ونار روحانية: >نَارُ الله الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ< الهمزة: 6 ــ 7.

فإذا تقرّر أن المؤمن الآن في الجنة، والكافر الآن في النار، فلا بد أن يكون ذلك مرتبطاً بالبدن المثالي لا البدن العنصري.

أما المطلب الثالث: فقد كان حول الخلود، حيث أنكر بعضٌ الخلود، استناداً إلى أن mالقسر لا يدومn.

وقد أجاب عن هذا الكلام سيدنا الأُستاذ الطباطبائي في كتابه: الميزان في تفسير القرآن، مثبتاً الخلود، ونكتفي فعلاً بهذه الإيضاحات.

الأُستاذ سيدان:

لتمام هذه الآيات والروايات أكثر من وجه، وتحتمل عدّة احتمالات، ولا يمكن التمسّك بوجه واحد من وجوهها، ثم اتخاذه وسيلةً للتخلّي عن ظهور بقيّة الأدلّة أو صراحتها، كما لا يمكن أن تكون الإحاطة الفعلية للنار دليلاً قطعياً على عدم ماديتها، أما كون الجزاء عين العمل لا غير، فهو أيضاً غير محسوم ولا مؤكّد.

كما أنّ نصوص القرآن المجيد تتماشى والقول بأن الجزاء المقرّر يقع نتيجةً للعمل، والمستفاد من الظواهر القريبة من النص، أن الجنة والنار لهما وجودان مستقلان خارجيان، بصرف النظر عن العمل، ومن الطبيعي عدم خلوّ العمل في كيفيته من التأثير، كما يوجب المجرمون اشتعال النار ولهيبها.

أمّا الروايات التي تدلّ على أن النبي 2 رأى الجنة والنار، فهي لا تدلّ على رؤيته 2 أهل الجنة وأهل النار بأجمعهم، حتى نصدر حكماً حاسماً بوجودهم جميعاً الآن في الجنة والنار، ولا يبعد أن تكون أشباحهم المستقبليّة قد عُرضت على النبي 2، كما يمكن أن يكون حارثة رأى الجنة والجحيم البرزختين.

إلى جانب ذلك، ثمّة تساؤل هنا: كيف يمكن وجود الجنة والجحيم في مكان واحد، مع أنّه يُستفاد من الروايات أن كلاًّ منهما يقع في مكان مستقل عن الآخر، بل ما معنى ابتداع النفس الإنسانية في العالم البعدي صوراً مثالية؟!

وحتى لو تجاوزنا ذلك كلّه، وقبلنا هذه المقدمات جميعها، لا يمكن إثبات الحشر الإنساني في العالم البَعدي بغير الأبدان العنصرية.

خلاصة القول: إننا بحاجة إلى دليل قاطع في الأُمور الاعتقادية، حتى يكون حجةً بين الإنسان وربه، فهل نستطيع ــ بمثل هذه الأدلة غير الخالية من الإجمال والتشابه ــ أن نحكم بالحكم القطعي أن المحشور في القيامة ليس هو البدن العنصري؟!

وهل يمكن القول: إن الثواب والعقاب والمحشور من مبتدعات النفس الإنسانية؟!

هل يمكن التخلّي عن ظواهر الأدلّة الكثيرة ـــ باعترافكم ــــ وتأويلها كافّة؟

إننا نعتقد أن كل واحدةٍ من هذه القضايا لما كان موضع جدل ونظر لم يحسم بعد، لا يمكنه أن يكوّن برهاناً علمياً وفلسفياً.

الأُستاذ جوادي:

لم نُثِر حتى الآن موضوع البرهان العقلي، بل حصرنا الحديث في المستفاد من ظواهر الأدلّة الشرعية، ومن مجموعها يخرج الأعلام ـ أي المحدثون ـ بتفسير ما، فيما يخرج الملا صدرا والفيض الكاشاني بنمط آخر من التعاطي.

لو قُبلت تلك المقدمات، فلا بد من القول: إنّ المحترق والمعذَّب هو البدن المثالي، فحينما ينعزل البدن العنصري يرى الشخصُ نفسه في العذاب.

الأُستاذ سيدان:

ثبت إلى الآن ـ على الأقل ـ وجود البدن المثالي، أمّا ما هو الدليل على أن البدن المحشور والمعذَّب في القيامة هو هذا البدن، دون البدن العنصري، مع ملاحظة التحوّل في الحالات التي تحصل هناك؟

الأُستاذ جوادي:

لمّا كان المؤمن الآن في الجنة، والكافر في النار، من ذلك يُعلم أن البدن العنصري لا تأثير له.

الأُستاذ سيدان:

لا يمكن الخروج بنتيجة حاسمة بذلك، تقضي بعدم حشر البدن العنصري، فهذا مجرّد قياس وتنظير لا برهان عليه.

وفي ختام المناظرة قَبل الشيخ جوادي آملي ــ حسب الظاهر ــ بعدم إمكان الاستدلال على نظرية صدر المتألهين بالأدلة الشرعية.

يقول كاتب هذه السطور ومعدّها[مرواريد]: قلت لسماحة الشيخ جوادي آملي: كم هو حسن من سماحتكم لو ركّزتم في أبحاثكم على هذه الناحية، فإن الموضوع عقائدي وحساس وله تبعات، ولا ينبغي تلقين طلبة العلوم الدينية وتثقيفهم بطريقة ملتبسة تجعل صدر المتألهين موضع اتهام بعدم معرفته بالفلسفة.

فكان جواب الشيخ جوادي آملي مؤيّداً لذلك، وقال: درّس سيدنا الأُستاذ العلامة الطباطبائي بحث المعاد من الأسفار الأربعة، ولم يُثبت أو ينفي أيّ مطلب من مطالب صدر الدين الشيرازي.

الخاتمة في الآيات والروايات

الدالة على المعاد الجسماني العنصري ــــــــــ

وأرى ـ أنا مُعدّ هذا الحوار ]مرواريد[ ـ من المناسب، ذكر قسم من الآيات والروايات الصريحة في المعاد الجسماني بمعنى العنصري المادي:

1 ــ قال الله تبارك وتعالى:

>أَوَلَمْ يَرَ الْإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ< يس: 77 ــ 79.

ومن البديهي أن الذي كان مورد إنكار المنكر ـ أُبيّ بن خلف ـ إنما هو إحياء عظام الإنسان الميت، وواضح أن الله تعالى ردّ ما كان معرضاً للإنكار، وبيّن أن هذه العظام الرميمة التي خلقها أوّل مرة، يحييها بعد موت الإنسان.

2 ــ قال الله تبارك وتعالى:

>أَيَحْسَبُ الْإنسان أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَـوِّيَ بَنَانَهُ< القيامة:
3 ــ 4.

في الآية الشريفة أعلاه ألقي اللوم على التخيّل الباطل لمنكري المعاد الجسماني، وأشير إلى قدرته تعالى على إرجاع بَنان الإنسان ـ كما كانت ـ بعد موته.

3 ــ قال الله تبارك وتعالى:

>وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُور< الحج: 7.

وهناك آيات متعددة في القرآن الكريم تلتقي مع هذه الآية في المضمون،ويستفاد منها صريحاً إحياء الموتى في القبور، وبديهيّ أن الذي في القبر ليس هو الروح، بل بدن الإنسان الرميم.

4 ــ قال الله سبحانه:

>أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَـى حِمَـارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ< البقرة: 259.

5 ــ وقال تبارك وتعالى:

>وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ< البقرة: 260.

6 ــ وقال عزّ من قائل:

>وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا< الإسراء: 49 ــ 51.

7 ــ وقال:

>وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ
الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ< الإسراء: 98 ــ 99.

8 ــ وقال:

>وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى الله كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ< سبأ: 7 ــ 8.

9 ــ وقال تبارك وتعالى:

>أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ< ق: 3 ــ 4.

10 ــ وقال تعالى:

>وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ< الروم: 25.

وبديهيّ أن الخارج من الأرض هو الأبدان المتلاشية والمتفرقة، ومعه فالآية تدلّ ـ صراحةً ـ على المعاد الجسماني.

والآيات المذكورة نماذج من عشرات الآيات التي تعلن ـ وبصورة صريحة وواضحة ـ المعاد الجسماني.

ونستعرض الآن ـ للتذكير فقط ـ بعض الأحاديث الواردة في الكتب المعتبرة، وهي تثبت الموضوع أعلاه:

1 ــ عن أبي عبدالله 2 قال:

mإذا أراد الله أن يبعث، أمطر السماء على الأرض أربعين صباحاً، فاجتمعت الأوصال ونبتت اللّحوم، وقال: أتى جبرئيل رسول الله 2 فأخذه فأخرجه إلى البقيع، فانتهى به إلى قبر فصوَّت بصاحبه، فقال: قم بإذن الله، فخرج منه رجل أبيض الرأس واللحية، يمسح التراب عن وجهه، وهو يقول: الحمد لله والله أكبر، فقال جبرئيل: عُدْ بإذن الله، ثمَّ انتهى به إلى قبر آخر فقال: قم بإذن الله، فخرج منه رجل مسودّ الوجه، وهو يقول: يا حسرتاه، يا ثبوراه، ثم قال له جبرئيل: عد إلى ما كنت بإذن الله، فقال: يا محمّد! هكذا يحشرون يوم القيامة، والمؤمنون يقولون هذا القول، وهؤلاء يقولون ما ترىn([11]).

2 ــ عن أبي بصير عن الصادق عن آبائه G قال:

قال رسول الله 2: mيا عليّ! أنا أوّل من ينفض التراب عن رأسه، وأنت معي، ثم سائر الخلق…n([12]).

3 ــ عن أبي سعيد الخدري K قال:

mسمعت رسول الله 2: يقول لعليٍّ: يا عليّ! أبشر وبشّر، فليس على شيعتك حسرةٌ عند الموت، ولا وحشةٌ في القبور، ولا حزنٌ يوم النشور، ولكأنّي بهم يخرجون من جدث القُبور، ينفضون التراب عن رؤوسهم ولحاهم، يقولون: >الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ< فاطر: 34n([13]).

4 ــ عن أبي عبدالله 2 قال:

mسئل عن الميّت يبلى جسده؟ قال: نعم، حتّى لا يبق له لحم ولا عظم إلاّ طينته الّتي خُلق منها فإنّها لا تبلى، تبقى في القبر مستديرةً حتّى يُخلق منها كما خلق أوّل مرّةn([14]).

5 ــ عن هشام بن الحكم أنّه قال الزنديقُ للصادق A:

mأنّى للروح بالبعث والبدن قد بلى والأعضاء قد تفرّقت؟! فعضوٌ في بلدةٍ تأكلها سباعها، وعضو بأخرى تمزّقه هوامّها، وعضو قد صار تراباً بني به مع الطين حائطاً! قال: إنّ الَّذي أنشأه من غير شيء، وصوّره على غير مثال كان سبق إليه، قادر أن يعيده كما بدأه، قال: أوضح لي ذلك.

قال: إنّ الروح مقيمةٌ في مكانها، روح المحسنين ــ وفي المصدر mروح المحسنn ــ في ضياء وفسحة، وروح المسيء في ضيق وظلمة، والبدن يصير تراباً منه خُلق، وما تقذف به السباع والهوامّ من أجوافها فما أكلته ومزّقته كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّةٍ في ظلمات الأرض، ويعلم عدد الأشياء ووزنها، وإنّ تراب الروحانيّين بمنـزلة الذهب في التراب، فإذا كان حين البعث مطرت الأرض فتربوا الأرض، ثمّ تمخض مخض السقاء، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء، والزبد من اللبن إذا مخض، فيجتمع تراب كلّ قالب، فينقل بإذن الله تعالى إلى حيث الروح، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها، وتلج الروح فيها فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئاً…n([15]).

*    *     *

الهوامش



(*) باحث في مركز البحوث الإسلامية الرضوية في مدينة مشهد.

(**) الشيخ عبدالله جوادي آملي، من أكبر أساتذة الفلسفة الصدرائية في إيران اليوم، وله شرح على الأسفار الأربعة، وتفسير للقرآن (تسنيم)، وهو من أهم أساتذة التفسير المعاصرين، حيث كان تلميذاً للعلامة الطباطبائي.

(***) أحد أبرز وجوه المدرسة التفكيكية المعاصرة، وله نقد على منهج العلامة الطباطبائي.



[1] ــ سبيل الرشاد: 104.

[2] ــ التوحيد للصدوق، باب ما جاء في الرؤية: 118، ح21.

[3] ــ الغدير، باب الغلو في فضائل عثمان 8: 214.

[4] ــ بحار الأنوار 67: 209.

[5] ــ التوحيد للصدوق، باب ما جاء في الرؤية: 118، ح21.

[6] ــ أصول الكافي، كتاب فضل القرآن 2: 601، ح11.

[7] ــ بحار الأنوار 61: 131 ــ 150.

[8] ــ التوحيد للصدوق، باب التوحيد ونفي التشبيه: 46، ح6.

[9] ــ المصدر نفسه، باب صفات الذات وصفات الأفعال: 146، ح14.

[10] ــ الصحيفة السجادية، دعاؤه A عند ختم القرآن.

[11] ــ بحار الأنوار 7: 39، ح8.

[12] ــ المصدر نفسه: 179، ح16.

[13] ــ المصدر نفسه: 198، ح73.

[14] ــ المصدر نفسه: 43.

[15] ــ المصدر نفسه: 37.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً