الثغرات، الإخفاقات، والإشكاليات
ــ الحلقة الثالثة ــ
6 ـ الازدواجية بين الفكر والممارسة ــــــ
من الطبيعي أنّ دعاة التغيير في المجتمع ينطلقون من مجموعة من الأفكار والقيم والمثل التي يطرحونها، مدّعين أنّ بإمكانها تغيير الوضع الاجتماعي إلى ما هو الأحسن. وفي المراحل الأولى، ولاسيّما عندما تكون حركات التغيير هذه دينيّةً، نجد ممارسة قويّة من طرف أصحاب الدعوى. لكنّ المشكلة أنّ الأمور تسير بالتدريج ناحية قدر من الازدواجية بين المثل والقيم المنشودة وبين الواقع الذي تجري ممارسته ميدانياً.
قد يعود سبب ذلك أحياناً إلى أنّ المثل والقيم كانت غير واقعيّة من البداية، وتمّ اللهث خلفها بتصوّر أنّها قابلة للتطبيق، وستجرّ خير الدنيا والآخرة، وحصل أن اختبر المقدّس ولم يتبيّن شيء من ذلك، أو تبيّن بقدر دون الحدّ المنشود.
وقد يكون السبب شعور أنصار التغيير بقدر من التعب والإرهاق الذي نجم عن مسلسل التضحيات، فتتعالى الأصوات مطالبةً بقدر من الرأفة بحال المناصرين، بل والذات أيضاً، فتظهر ازدواجية خطيرة هنا حيث تبقى المثل كما هي، وبدل تغييرها، بمعنى إجراء تعديل ما فيها تكيّفاً مع الأمر الواقع، يظلّ هناك إصرارٌ عليها نظرياً ومقوليّاً، لكنّ واقع الحال يحكي عن قناعة بقدر جيد من التعديل، فتظهر هذه الازدواجية.
وقد يكون السبب أنّ دعاة التغيير ليسوا مؤهَّلين للارتفاع إلى مستوى القيم التي ينادون بها ويريدون تغيير المجتمع في ضوئها، فلكي يستروا عورتهم هذه تظهر هذه الازدواجية بين النظرية والتطبيق، بين العلم والعمل.
مثلاً: رأينا العديد من الذين طالما نادوا على الدوام بالتعدّدية وحرية الرأي يصابون بالهستيريا من تعرّضهم للنقد، ويتعاطون مع الرأي الآخر من موقع أحاديّ انعزاليّ. ورأينا الكثير من منادي الديمقراطية لا يمارسونها، لا على المستوى السياسي، ولا على المستوى الاجتماعي، ولا حتى داخل مؤسّساتهم الاجتماعية والثقافية والتربوية والدينية. ورأينا من يريد أن يعمّ منطق النقد البنّاء في المؤسّسة الدينية، ويكتب ويقول في هذا المضمار، لكنّه وأنصاره على أرض الواقع لا يعبّرون عن عشر معشار هذا الطرح الذي يثيرونه، بل يستخدمون منطق الغوغاء في مواجهة من يريد تطبيق أطروحاتهم نفسها. إنّه شيء من النفاق على المجتمع، لا يبشر بالخير الكثير.
7 ـ عدم تحول المفاهيم الإصلاحية إلى جزء من النسيج الاجتماعي ـــــ
ليس هذا الأمر فكريّاً بقدر ما هو تربويّ، فواحدة من أهمّ مشاكلنا أنّ بعض حركات التغيير في العالم العربي والإسلامي لم تتشرّب مقولاتها نفسها بوصفها جزءاً من المكوّن الذاتي للشخصيّة. وهذا معلم خطير ينذر بسوء. فعندما أطرح مقولةً ما، ثم لا أكون ممّن تربّى عليها، أو ربّى نفسه عليها، فمن الطبيعي أن تظهر حالة النفاق هذه. عندما تظلّ المقولات منفصلةً مخارجةً للذات، وتكون العلاقة معها علاقة عقليّة، وليست تربوية ونفسية وسلوكية..، فسنقع في مثل هذه المشاكل. يقولون: إنّ صحابة النبي الأكرم $ كانوا يتعلّمون عشر آيات من القرآن الكريم، ثم لا يتعلّمون ما بعدها حتى يطبّقوها على أرض الواقع. في عالم القيم والمثل هذه لا معنى للوقوف عند حدود التعقل والتعقيل، بل الأهم من ذلك هو العيش والإحساس بهذه القيم، ثمّ الانتقال من مرحلة تحمّل آلامها إلى مرحلة الشعور بالسعادة واللذة في عيشها وممارستها، بحيث تصدر بالسجيّة. وما قاله علماء الأخلاق هنا ليس مجافياً للصواب، ولا شأناً فردياً شخصيّاً، بقدر ما يصلح لممارسته على المستوى الاجتماعي أيضاً.
ولعلّ هذا الأمر انعكس على صدقيّة التجربة أيضاً. ففي بعض تجارب الوعي الإسلامي وجدنا هوّةً بين خطاب النخبة والقادة وواقع الجماهير. لقد عجز النخبة والقادة عن تحويل مقولاتهم إلى جزء من النسيج الاجتماعي للحياة التي يملكون مفاصلها وقراراتها. فالناس في وادٍ وهم في وادٍ آخر. ورغم كلّ الإمكانات لم ترتقِ مفاهيمهم إلى أن تصبح جزءاً من التركيبة الاجتماعية، وعنصراً لا ينفكّ عن العقل الاجتماعي للقاعدة العامّة؛ ولعلّ السبب في ذلك هو التركيز على خطاب بعيد عن هموم الناس، وهو يلتقي بهمومهم، لا بهموم القاعدة الجماهيرية؛ ولعلّ السبب أيضاً هو عدم اتّباع السبل الصحيحة في ترسيخ المفاهيم في الحياة الاجتماعية، فقد يتّبعك الناس ويصفّقون لك، لكنّ هذا لا يعني أنّهم يتمثّلون أفكارك. هذا مؤشِّر بالغ الأهمية يدعو للتفكير أكثر فأكثر.
8 ـ الإصلاح، بين الفعل وردّ الفعل ــــــ
ليس غريباً أن يبدأ الإصلاح بوصفه ردّ فعل على واقع قائم، فهذا أمر طبيعي مترقّب، يعبّر عن حالة صحيّة سليمة، لكن ما هو غريب أن تظلّ بوصلة الإصلاح لا تتحرّك إلا بتأثير الخارج، لتعبّر دوماً عن ردّ فعل لحدث ما، ولا تصل إلى مستوى الفعل نفسه. ما أعتقده هو أنّ حركات الإصلاح والتغيير يجب أن تتحرّك وفقاً لثنائي الفعل وردّ الفعل معاً. فغياب حالة ردّ الفعل معناه أنّ الإصلاح لا يحاكي الواقع ولا ينظر في مشاكله، لكنّ غياب الفعل أيضاً لا يعبّر إلا عن مراوحة الإصلاح في دائرة ما يفعله الغير ويقوله، فالآخر يلقي المفاهيم فيما حركة الوعي تقوم بنقدها، والآخر يرمي بالمقولات فيما حركة الوعي تدور حولها. لماذا الوقوف على هامش الآخر؟!
العكس صحيح هنا، حيث المطلوب أن تلقي حركة الوعي مفاهيمها ليدور الآخر حولها. ومهما قدر الآخر على إحداث ضرر في المفاهيم هذه إلا أنّ السعي لإبقائها في وسط الحلبة سيكون بنفسه جهداً عظيماً، يعتمد مراكمة المقولات الملقاة وسط الحلبة لتتمكّن فيما بعد في اجتماعها من إيجاد زحزحة ما. إنّ هذا يعني أنّ الممسك بزمام الوضع الثقافي هو تيار الوعي، فهو الذي يلقي الأفكار ليدور الآخرون حولها، وليس العكس. وهذا في حدّ نفسه نقطة تقدّم تسجّل في هذا المضمار.
9 ـ حلول العناصر الأخرى مكان العنصر الديني في عقد جمان الجماعة ـــــ
تعتمد الحركات الدينية النهضوية على القيم الدينية عنصراً رئيساً في تكوين تماسك الجماعة وانعقاد جمانها المنضود، فتظهر مقولات ضابطة ومحكمة تستطيع إيجاد التماسك واللحمة بين أفراد الجماعة، ويعتمد الخطاب الديني على هذه المقولات دوماً؛ لكي يحول دون انفراط العقد.
والإشكاليّة التي تحصل هنا أنّ هذه الجماعة عندما تشقّ طريقها نحو الأمام، وتغدو قوّةً فاعلة في المجتمع، تجد عناصر تماسك أخرى يمكن توظيفها لتحقيق هذا الهدف، سواء كانت هذه العناصر نبيلةً في حدّ نفسها أم غير نبيلة. فنجد مثلاً أنّ قوّة المال بإمكانها أن توفر غطاء قويّاً، وأن توجد تماسكاً عجيباً يشكّل قوة مغناطيسية تربط الأطراف بالمركز ربطاً محكماً؛ أو نجد مفهوماً قومياً أو وطنياً نبيلاً يمكنه هو الآخر أن يوفّر هذا التماسك والالتفاف حول المركز. والخطورة التي تحصل هنا ليس في دخول هذه العناصر؛ فلا يوجد ما يفرض جعل العنصر الديني هو الضامن الوحيد لتماسك الجماعة المؤمنة، وإنّما في ضمور وانطفاء شعلة القيم الدينية بوصفها عنصراً للوحدة. هنا تبتعد مفاهيم الأخوة الدينية، المرجعيّة الدينية (بالمعنى العام)، والطاعة، وغيرها من المفاهيم التي تساهم في مرحلة الانطلاق في تعاضد الجماعة، كما حصل مع المؤاخاة التي قام بها النبي في المدينة المنوّرة عقب الهجرة.
إنّ تراجع العناصر الدينية بوصفها عنصراً فاعلاً في تماسك الجماعة يؤدّي بمرور الأيام إلى ضعف تأثير هذا العنصر في هويّة الجماعة نفسها؛ لأنّ هذه الهوية الجمعية ستأخذ مبرّرات وجودها من منافذ أخرى ومنابع مختلفة. وهنا مكمن الخطر على الحركة الإسلامية الناهضة.
10 ـ المرحليّة أم صدم الواقع؟ ــــــ
يمكن عدّ هذا الموضوع من أكثر الموضوعات خلافاً داخل حركة الوعي والنهوض في خياراتها واختياراتها. فعلى الدوام انقسم روّاد الوعي الإسلامي إزاء هذا الموضوع إلى فريقين: أحدهما: كان يفضل المراحل التدريجية في العمل التغييري، وهو الفريق الذي كان يؤمن أيضاً بالتغيير غير المباشر؛ وثانيهما: كان يعتقد بالعمليات القيصرية حلاًّ للمشكلات القائمة. وأحد أمثلة هذا الخلاف ـ في بعض صوره ووجوهه على الأقلّ ـ ما حصل بين السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده.
يبرّر الفريق الداعم لفكرة الصدم والعمل الجراحي رأيه بأنّ الواقع لا يتغيّر بلمسات ناعمة إلا عندما نكون في مجتمعات مستقرّة تختلف حول التفاصيل فقط، لا حول الخيارات الإستراتيجية التي ينبغي أن تتّبعها الأمّة وتعتمدها. ففي مثل بلداننا في العالم الثالث لا يمكن إيجاد تغيير بطيء؛ لأنّه سيتطلّب وقتاً كبيراً جداً. وفي هذا الوقت تكون عجلة الحياة قد أكملت مسيرتها المسرعة، بحيث إنّ حركة التغيير المرحلي الذي قمنا به لن يمكنها مجدّداً اللحاق بالهدف المنشود وتأمين عنصر المواكبة. من هنا كان لابدّ من صدم الواقع وهزّه هزّاً عنيفاً ـ على حدّ تعبير العلامة المغفور له السيد محمد حسين فضل الله ـ. إنّ هذا الصدم، وإنْ جاء قاسياً في مراحله الأولى، لكنّه سيفرض نفسه على الواقع ضمن فترة قصيرة نسبياً. ومن هنا يرى هؤلاء أنّ الأسلوب المباشر الصريح والجريء والشفاف سبيلٌ أفضل لحلّ مشاكلنا، بدل المماطلة، والمراوغة، والتستّر، والتعمية، والتغطية على الأمور، وعدم مقاربتها بصورة مباشرة وواضحة وحاسمة.
وقد يجد هذا الفريق في التجربة النبوية عموماً ما يوفّر له شكلاً من أشكال الشرعية الدينية، أو مرجعاً يستأنس به في مواقفه الدينية التي يراها. إنّ القرآن الكريم قدّم الأنبياء على أنّهم يعملون بأسلوب الصدم، فقد طرحوا على مجتمعاتهم ـ وبصراحة ووضوح ـ ما يعدّ هدماً مباشراً لأكبر شعار في هويّة تلك المجتمعات، أي إنّهم هزّوا ركائز البنيان الاجتماعي الذي تقوم عليه مصالح الجماعة، ولاسيّما الملأ منهم، أليس هذا استخداماً لأسلوب الصدم؟ أليس هذا هزّاً للواقع الاجتماعي، رغم أنّ الكثير من الأنبياء لم يتمكّن من حشد الأنصار من حوله، بل ظلّ عنوان ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ﴾ (هود: 40) هو الحاكم على أغلب تجارب الأنبياء عبر التاريخ، كما يحدّثنا الكتاب العزيز؟ أليس المطلوب الاهتداء بنهج الأنبياء ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ…﴾ (الأنعام: 90)؟
أمّا الفريق الآخر فيعتمد في وجهة نظره على أنّ أسلوب الصدم المباشر قد يؤتي ثماره على بعض الصعد، لكنّه يعاني من مجموعة مشاكل ينبغي التنبّه لها. فهناك ـ مثلاً ـ مشكلة الانتحار، وذلك أنّه عندما تقوم بجرح المجتمع جرحاً نرجسياً كبيراً قد يفضي ذلك إلى انتقام المجتمع منك، ممّا يسبّب في قتل حركة التغيير في مراحلها الجنينيّة الأولى. يجب تحديد حجم قدرتنا على التغيير قبل الشروع في مرحلة الصدم، وإلاّ ارتدّ ارتجاج الهزّة علينا، بحيث يكون تأثيره هنا أكبر من تأثيره هناك.
ويعزّز هذا الفريق موقفه بأنّ الأساليب غير المباشرة تترك تأثيراً كبيراً في النفوس، وقد باتت معتمدةً في مناهج التربية والتعليم والإعلام وغيرها؛ نظراً لفاعليتها وقدرتها على الحفر في أعماق الوعي بطريقة لا تثير أماكن أخرى في العقل الإنساني، بل تأخذ طريقها إليه لتتكرّس أمراً واقعاً في منظومات التفكير والذوق والإحساس معاً.
وقد يجد هذا الفريق أيضاً في التراث الديني ما يدعمه، ولاسيما في مدرسة أهل البيت النبويّ، التي طرحت التقيّة بمعناها الواسع الشامل لتقيّة الخوف وتقيّة المداراة معاً، فإنّ هذا النهج الذي اتّبعه أئمة أهل البيت^ في الغالب يكرّس ضرورة التعامل مع الواقع بطريقةٍ مرنةٍ حمايةً للجماعة والمشروع والرؤية معاً.
وفي ظنّي أنّ وجهتَي النظر المذكورتين صحيحتان بقدر. ولا مانع من تنوّع الأدوار وتعدّد الخيارات باختلاف الأزمنة واللحظات التاريخية المفصليّة، وباختلاف مواقع القوّة والنفوذ هنا أو هناك. لهذا لا أفضّل تبنّي خيار واحد في هذا المجال، بل تبنّي الخيارين معاً، كلٌّ بحسب موقعه ومناخه وسياقه. إنّ الإفراط في أسلوب الصدم قد يضعنا أمام المجتمع والعامّة من الناس؛ والإفراط في أسلوب المرحلية قد يضع مشروعنا في الثلاّجة، ويفقده عنصر التأثير الفاعل. فالموضوع موضوع لحظة تاريخية؛ وموضوع مجتمع هنا يتحمّل هذا الخيار وهناك لا يتحمّله؛ وموضوع ملفّات يمكن اختيار أسلوب الصدم في أحدها، دون الثاني، تبعاً للّحظة، وانصياعاً لمدى تأثير هذه الملفّات على صنع ردّات فعلٍ تقف لصالحنا أو لا.
أمّا التجربة النبوية فلا نعدم وجود عناصر فيها يتحرّك من خلالها الأنبياء تحت إطار التذكير بموروث الجماعات التي يواجهونها، ليكون موروث الآخر مرجعاً، كما كان يحصل مع بني إسرائيل. وكذلك الحال في تجربة أهل البيت^، فإنّها لا تنحصر في الشكل الذي أُبدي، بل تتنوّع تنوّع تجربة الإمام الحسين من جهة؛ والإمام الحسن من جهة ثانية؛ والإمام الصادق من جهة ثالثة؛ والإمام الرضا من جهة رابعة.
إنّ تنوّع الأساليب بعد وعي الواقع يبقى ضرورة لسلامة المشروع التغييري في الأمّة. وقد تقضي الحركة الناهضة على نفسها باتّباع سبيل من السبيلين، والتقوقع داخله، كما رأينا في أكثر من مفصل هنا وهناك.