أحدث المقالات

والموقف من صحيحي البخاري ومسلم

قراءة تقــــويميّة في الأعمال والتطــــــوّرات والمناهـــــج والآليات

حيدر حب الله*

خلاصة البحث

تعامل الإماميّة مع الصحيحين منذ زمن بعيد، ولكنّهم في القرن الأخير فتحوا باب القراءة النقديّة الحديثية لهما، وقد استخدموا طرقاً متعدّدة في ذلك، بدءاً من المحاكمات العقائديّة والنقد المتني، مروراً بالنقد السندي ومعايير تقويم الحديث، وصولاً إلى إشكاليّات الانحياز و.. وقد تحرّرت التجربة النقديّة الإماميّة من الصور النمطيّة التقديسيّة للصحيحين والشائعة عند جمهور المسلمين، لكنّها ظلّت تعاني من أزمة النقد الحديثي المذهبي غير المتعالي عن الصراعات الفكرية الطائفيّة، فبدت منقوصة. والحلّ الوحيد في دراسة الحديث هو الحياد المطلق والتعالي الرفيع عن المنطلقات الأيديولوجيّة لدراسة الظاهرة الحديثية من زواياها المختلفة وبنقاط قّوتها وضعفها.

الكلمات المفتاحيّة: النقد، الحديث، صحيح البخاري، صحيح مسلم، المتن.

مقدّمة

لطالما كان الموقف مختلفاً بين العلماء والباحثين من الكتب الحديثيّة عامّة أو هذا الكتاب وذاك خاصّة، بين مؤيّدٍ متحمّس، ومعارضٍ رافض، ووسطيٍّ يتخذ موقفاً بين الاثنين.

والأمر عينه جرى في حقّ صحيحي: الإمام محمّد بن إسماعيل البخاري (256هـ)، والإمام مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري (261هـ)، حيث تعدّدت المواقف من هذين الكتابين وتنوّعت. ومن ضمن هذه المواقف كان تعاطي علماء الشيعة الإماميّة مع هذين الكتابين الحديثيّين البارزين، فقد كانت لهم قراءتهم الخاصّة لهما، وملاحظاتهم الخاصّة عليهما، ومنطلقاتهم الخاصّة في اتخاذ المواقف منهما.

هذه الوريقات سوف تدرس ـ باختصار وبعون الله تعالى ـ:

1 ـ التطوّر التاريخي لتعامل الشيعة الإماميّة مع الصحيحين، وهل مرّ هذا التعامل بمراحل أو لا؟

2 ـ القراءات النقديّة التي قدّمها الإماميّة لهذين الكتابين، وتحليل المنطلقات والغايات من جهة، وكذلك الآليات النقديّة من جهة ثانية، وبعض العيّنات التي قُدّمت في هذا الصدد.

3 ـ تقديم تقويم مختصر للتجربة النقديّة الإماميّة للصحيحين، بعد تحليل عناصرها بشكل مختصر.

وبناء على ذلك، فليست هذه الدراسة هنا معنيّة بأيّ قراءة نقديّة قدّمها أحد غير إمامي للصحيحين، ولو كان شيعيّاً بالمعنى العام، ولسنا بصدد استعراض الحركات النقديّة غير الإماميّة لهما أو تقويمها.

كما أنّ هذه الدراسة غير معنيّة باتخاذ موقف من الصحيحين، فنحن لا نريد هنا الخروج بتقويم أو موقف نهائي من صحيح البخاري أو صحيح مسلم، بل يهمّنا رصد التجربة الإماميّة في التعامل مع هذين الصحيحين، وتقويم هذه التجربة وتحليلها، وبيان عناصر قوّتها وضعّفها.

وأشير أيضاً إلى أنّني درست بالتفصيل نسبيّاً التجربة النقديّة السنّية على كتب الحديث الإمامي، خاصّةً الكتب الأربعة، وذلك في كتابي المتواضع (المدخل إلى موسوعة الحديث النبويّ عند الإماميّة)، وقد كانت لديّ ملاحظات كثيرة على هذه التجربة، لكنّني غير معنيّ هنا بهذا الموضوع.

وسوف نحاول تقسيم هذه الدراسة إلى قسمين أساسيّين:

القسم الأوّل: الرصد الإجمالي والتحليلي والتقويمي للتجربة الإماميّة تجاه صحيحي البخاري ومسلم.

القسم الثاني: استعراض عيّنات نقديّة إماميّة بارزة في التعامل مع الصحيحين، والتوقّف عندها بوصفها عيّنات دالّة على منهج الإماميّة هنا وطريقة تعاملهم ومنطلقاتهم ونحو ذلك، فالدراسة أشبه بمرحلة تحليلية عامّة، تليها مرحلة تطبيقيّة خاصّة.

نسأل الله تعالى التوفيق، وبه الاستعانة، وعليه التكلان

 

القسم الأوّل

التأمّلات النظريّة التحليليّة

في القراءات النقديّة الإماميّة للحديث السنّي

تمهيد

نحاول في هذا القسم أن ندرس المشهد النقدي الإمامي للحديث السنّي ـ لاسيما صحيح البخاري وصحيح مسلم ـ دراسةً عامّة وتحليليّة؛ لنفحص في المنطلقات والأهداف والنقاط المركزيّة لهذه العمليّات النقديّة، والسياقات العامّة التي احتفّت بها، والقيمة الإجماليّة لها من الناحية المعرفية والمنهجيّة.

صحيحا البخاري ومسلم في التراث الإماميّ

تعطي المتابعة للتراث الشيعي الإمامي قناعةً كاملة بأنّ الإماميّة كانوا مطّلعين ومتابعين لأهمّ الكتب الحديثية السنيّة، لاسيما صحيحي البخاري ومسلم. ووضع مسرد بالإحالات التي عثرنا عليها في كتب الإمامية عبر التاريخ شيء غير مقدور؛ لكونها كثيرة، لكنّ هذا الأمر كان أقلّ نسبيّاً في القرون الأولى ثم ما لبث أن تنامى شيئاً فشيئاً إلى أن بلغ أوجه في القرن العشرين إلى يومنا هذا.

ولم تقف متابعة الإماميّة ومراجعتهم لصحيحي البخاري ومسلم عند حدود الدراسات الحديثية، ولا في مجال علم الكلام والجدل المذهبي فقط، بل رأينا أنّ ذلك بلغ:

1 ـ علوم التفسير والقرآنيات (انظر ـ على سبيل المثال ـ: الطبرسي، جوامع الجامع 3: 818؛ ومجمع البيان 2: 306، 474، و3: 254، و4: 91، 371، 442، و 5: 118، و 6: 142، 283، 285، 296، 344، 365، و 7: 139، 296، 312، 360، و 8: 108، 119، 128، 145، 166، 263، 334، 362، 380، 420، 445، و 9: 181، 201، 222، 289، 406، 446، 457، 463، و 10: 15، 39، 59، 145، 307، 406، 475..).

2 ـ وكتب الفقه الإمامي لاسيما الفقه المقارن (انظر ـ على سبيل المثال ـ: الطوسي، الخلاف 1: 381، و 3: 102، و 5: 488؛ والمؤتلف من المختلف 1: 493؛ والمحقق الحلي، المعتبر 1: 95، 158، 160، 187، 221، 330، 332، و 2: 36، 43، 95، 100، 482؛ والعلامة الحلي، تذكرة الفقهاء 2: 390، و 4: 385؛ ومنتهى المطلب 1: 159، 240، 305، و 2: 118، 219، 343، 362، و 3: 238، 327، 331، 346، و 4: 118، 122، 186، 219، 240، 248، 268، 282، و 5: 61، 97، 217، 310، 345، 461، و 6: 161، 381، و 7: 181، و 8: 484، و 9: 43، 188، و 10: 160، 163، 224؛ والشهيد الأوّل: ذكرى الشيعة 1: 381، و 2: 47، 50، 59، 66، 79، 89، 336، و 3: 52؛ والمحقق الكركي، جامع المقاصد 9: 192؛ والشهيد الثاني، رسائل الشهيد الثاني 2: 1268؛ ومسالك الأفهام 7: 427؛ والمحقق الأردبيلي، زبدة البيان 11: 577، 578؛ والشيخ البهائي، مشرق الشمسين: 289، 290 و..).

3 ـ وكتب السيرة وتواريخ النبي وأهل بيته وأصحابه (انظر ـ على سبيل المثال ـ: ابن شهر آشوب المازندراني، مناقب آل أبي طالب 1: 54، 89، 117، 152، 163، 170، 177، 202، 321، 394، 395، و 2: 59، 60، 65، 188، 258، 274، 305، 310، 318، 368، و 3: 7، 87، 105، 112، 136، 139، 154، 182، 185، 193 و..).

بل إنّ بعض علماء الإماميّة قد رووا كتب الحديث السنيّة، ومنها كتب البخاري، عن مشايخ أهل السنّة الذين تلمّذوا على أيديهم، لاسيما قبل القرن الحادي عشر الهجري، ويكفينا ذكر بعض الأمثلة على ذلك، فنحن بمراجعة قسم الإجازات من كتاب بحار الأنوار للمجلسي، والذي خصّصه لنقل إجازات علماء الشيعة عبر التاريخ حتى القرن الحادي عشر الهجري، سوف نعثر على نصوص مهمّة في هذا الشأن، وذلك مثل:

أ ـ إجازة الشهيد الأوّل (786هـ) للشيخ ابن الخازن الحائري وقد جاء فيها: (وأمّا مصنّفات العامة ومرويّاتهم، فإنّي أروي عن نحو من أربعين شيخاً من علمائهم بمكّة والمدينة ودار السلام بغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام الخليل إبراهيم عليه السلام، فرويت صحيح البخاري عن جماعة كثيرة بسندهم إلى البخاري، وكذا صحيح مسلم، ومسند أبي داود، وجامع الترمذي، ومسند أحمد، وموطأ مالك، ومسند الدارقطني، ومسند ابن ماجة، والمستدرك على الصحيحين للحاكم أبي عبد الله النيسابوري، إلى غير ذلك مما لو ذكرته لطال الخطب..) (بحار الأنوار 104: 109 ـ 110).

ب ـ إجازة المحقّق الكركي (940هـ)، لبرهان الدين الخوانساري، وقد جاء فيها: (.. وأما كتب أهل السنّة في الفقه والحديث، فإنّي أروي الكثير منها عن مشايخنا وعن مشايخ أهل السنّة. فأما روايتي لذلك عن أصحابنا فإنما هي بالإجازة، وأما عن مشايخ أهل السنّة فبالقراءة لبعض، المكملة بالمناولة، وبالسماع لبعض، وبالإجازة لبعض الفقرات (من) بعض. فصحيح البخاري على عدّة ، منهم: الشيخ الأجلّ العلامة أبو يحيى زكريا الأنصاري، وناولني مجموعة مناولة مقرونة بالإجازة، وأخبرني أنه يروي عن جمع من العلماء. منهم: قدوة الحفاظ ومحقّق الوقت، أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر، قال: أنا به العفيف أبو محمد عبد الله بن محمد بن محمد بن سليمان النيسابوري، سماعاً لمعظمه وإجازة دائرة. قال: أنا به الوفي أبو إبراهيم بن محمد الطبري، أنا به أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي حرقي، سماعاً إلا شيئاً يسيراً، قال: أنا به أبو الحسن علي بن حميد بن عمار الطرابلسي، أنا به أبو مكتوم عيسى بن الحافظ أبي ذر عبد بن أحمد الهروي، قال: أنا به أبي مآل، أنا به أبو العباس أحمد بن أبي طالب بن أبي النعيم نعمة بن حسن بن علي بن بيان الصالحي الحجّار، سماعاً لجميعه، قال: وأنبأت به أمّ محمد ست الوزراء وزيرة ابنة عمر بن سعد بن المنجا التنوخية، سماعاً لجميعه إلا يسيراً، مجبوراً بالإجازة، قالت: أنا به أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر المبارك بن محمد بن يحيى الزبيدي، سماعاً، قال: أنا به أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب الشجري الهروي سماعاً عليه لجميعه، قال: أخبرنا به أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن داود الداودي، قال: أنا به أبو محمد عبد الله بن حمويه، أنا به أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الغربري، قال: أنا به مؤلّفه الحافظ الناقد أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. وأما صحيح مسلم: فإني قرأت بعضه على الشيخ العلامة الرحلة عبد الرحمان بن إبانة الأنصاري بمصر في الثاني عشر من شعبان من سنة خمس وتسعمائة، وناولني باقيه مناولةً مناولة مقرونة بالإجازة، وله إسناد عال مشهور، بالصحيح المذكور. وسمعته إلا مواضع بدمشق بالجامع الأموي، على العلامة الشيخ علاء الدين البصروي، وأجاز في روايته، ورواية جميع مروياته. وكذا سمعت عليه معظم مسند الفقيه الرئيس الأعظم محمد بن إدريس الشافعي المطّلبي. وأما موطأ الإمام العالم مالك بن أنس نزيل دار الهجرة المقدّسة: فإني أرويه بعدّة طرق عن أشياخ علماء الخاصة والعامة. وكذا مسند الإمام المحدّث الجليل أحمد بن حنبل، ومسند أبي يعلى، وسنن البيهقي والدارقطني، وغير ذلك من المصنّفات الكثيرة الشهيرة..) (رياض العلماء 3: 449 ـ 450، كما نقل في الخراجيات: 8 ـ 9).

ج ـ ما جاء في ترجمة الشهيد الثاني (965هـ) لنفسه، حيث قال عند ذكر أسفاره: (.. وسافرتُ لزيارة بيت المقدس منتصف ذي الحجّة سنة 948، واجتمعتُ في تلك السفرة بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسي، وقرأتُ عليه بعضَ صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم، وأجازني إجازةً عامّةً..) (رسائل الشهيد الثاني 2: 869).

وهذا ما نجده عند غيرهم من العلماء أيضاً مثل ابن شهرآشوب المازندراني (انظر: مناقب آل أبي طالب 1: 7 ـ 8)..

وبالمقارنة فإنّ حجم تعرّف الإماميّة على التراث السنّي عموماً ـ ومنه التراث الحديثي ـ كان عبر التاريخ أكبر بكثير من حجم تعرّف واطلاع التراث السنّي على الموروث الإمامي في العلوم الدينيّة المختلفة، وهذا شيء يكاد يكون بديهيّاً عند إجراء المقارنة التفصيلية بين الموروثين. ولعلّ أحد أسباب ذلك يرجع إلى أنّ الإماميّة كانوا على الدوام أقليّةً في المجتمع الإسلامي، وكانوا مضطرّين لمتابعة منجزات الأكثريّة، لاسيما لإثبات أنفسهم في مقابل المحيط السنّي الكبير، فيما لم يكن أهل السنّة ـ نظراً لأغلبيّتهم الإسلاميّة غالباً ـ معنيّين بفضاء الأقلّيات إلا عندما يحصل تصادم سياسي أو سلطوي أو نحو ذلك بينهم وبين هذه الأقلّيات، كما رأينا في عصر السلطان خدابنده مع نزاع كل من الشيخ ابن تيميّة والعلامة الحلّي، وكذلك في العصر الصفوي، وفي عصرنا الحاضر.

ولو أردنا رصد مسار تطوّر التعامل الإمامي مع التراث الحديثي السنّي ـ لاسيما صحيحي البخاري ومسلم ـ لرأينا أنّ الإمامية نادراً ما اشتغلوا على تقديم قراءات نقديّة لهذين الصحيحين من زاوية الصنعة الحديثية أو نحوها، وغالباً ما كان يتمّ استحضار رواية سنيّة أو حديث من الصحيحين، لتأكيد فكرة إماميّة في علم الكلام أو الفقه أو التاريخ، أو لمناقشتها في سياق الدراسات المقارنة، خاصّةً في علوم الفقه وأصوله، أمّا وضع الصحيحين والحديث السنّي عموماً موضوع البحث والتشريح من زاوية الصنعة الحديثية أو التطوّر التاريخي لعلم الحديث والتصنيف الحديثي السنّي أو من زاوية نقد الرواية السنيّة عموماً على مستوى الإسناد والمتن وغير ذلك فهذا ما كان قليلاً جدّاً، وربما تعود بعض بداياته إلى العصر الصفوي في القرن الحادي عشر الهجري وما بعده.

بدايات القراءة النقديّة الإماميّة للصحيحين

وبالرصد التاريخي يظهر أنّ الإماميّة سلّطت الضوء على الصحيحين بعيون نقديّة ابتداءً من مطلع القرن الرابع عشر الهجري، وذلك مع أمثال شيخ الشريعة الإصفهاني (1336هـ) في كتابه الشهير (القول الصراح)، إذ يعدّ هذا الكتاب من أوائل الكتب الإماميّة البارزة التي مارست نقداً واسعاً لصحيح البخاري من زوايا متعدّدة، وقد بقيت مقولات هذا الكتاب تتداول في الوسط النقدي الإمامي إلى يومنا هذا مع شخصيّات عدّة مثل السيد هاشم معروف الحسني والشيخ محمد صادق النجمي والسيد علي الميلاني والشيخ حسن زماني والشيخ الهرساوي والشيخ الأميني والشيخ محمد حسن المظفر وغيرهم.

إنّ كتاب القول الصراح شكّل بداية مفصليّة حقيقيّة لحركة إماميّة نقديّة تهتمّ بالتعامل مع صحيحي البخاري ومسلم بوصفهما كتابين حديثيّين، ويتعرّض النقد هذا لمجمل العناصر الأساسيّة التي تمنح هذين الكتابين قيمتهما الحديثية والتاريخيّة، ومنذ ذلك الحين يعكف فريق من علماء الإماميّة على الكتابة في نقد التراث الحديثي السنّي من الزاوية الحديثية والقيمة التاريخيّة له.

والإطار العام الغالب على التعاطي الإمامي مع الصحيحين إلى يومنا هذا هو عدم الاحتجاج بهما، إلا من باب حشد المصادر أحياناً أو من باب الإفحام المذهبي أو من باب التقارب بين المذاهب، تماماً كتعاطي أهل السنّة مع التراث الحديثي الإمامي غالباً، وإلا فليس للصحيحين أيّ حضور حقيقي بوصفهما مرجعيّة حديثيّة إطلاقاً. ونحن سنتعامل في هذه الدراسة مع هذا الواقع الرافض تماماً تقريباً للتعامل مع الصحيحين بوصفهما تراثاً حديثيّاً مرجعيّاً، سواء كانت مرجعيّةً مطلقة، كما هو الرأي المشهور بين كثير من أهل السنّة، أم كانت مرجعيّةً لا تتعالى عن النقد هنا أو هناك، كما هو موقف التيارات النقديّة عند أهل السنّة اليوم.

السمات العامّة للممارسات النقديّة الإماميّة للصحيحين

وبتحليل الأعمال التي تركها الشيعة الإماميّة حتى الآن لنقد الصحيحين، نلاحظ الآتي:

1 ـ اعتماد المحاكمات العقائديّة

السمة الأولى هي اعتماد المحاكمات العقائديّة في تقويم الكتب الحديثية السنيّة، لاسيما الصحيحين، وهي نفس العمليّة تقريباً التي مارسها كثيرٌ من نقّاد كتب الحديث الإمامي ـ لاسيما كتاب الكافي للكليني ـ من أهل السنّة. إنّ هذه العملية تتمركز على أداء البخاري ومسلم ـ والتركيز النقدي الإمامي الأكبر كان على البخاري غالباً ـ تجاه نقل المرويّات التي تتصل بأهل البيت النبوي؛ إذ اعتبر النقّاد الإماميّة أنّ البخاري مارس انتقائيّةً غير منصفة في مرويّاته تجاه الصحابة من جهة وأهل البيت من الناحية الثانية، فكان يحذف بعض ما قد يطعن ببعض الصحابة، أو يتحاشى ذكر الاسم، وفي المقابل لم يكن يتعرّض كثيراً للمرويّات التي تتصل بفضائل أهل البيت النبوي، حتى أنّه لم يروِ عن أهل البيت أنفسهم، بمن فيهم الإمام جعفر بن محمّد الصادق (148هـ).

لقد اعتُبر هذا الأمر انحيازاً موجباً للتشكيك بصدقيّة البخاري وأمانته في التعامل مع الأحاديث المنقولة عن القرن الهجري الأوّل ووقائعه وشخصيّاته، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل حاول بعض النقّاد من الإماميّة أن يسلّط الضوء على بعض الروايات التي نقلها البخاري، ممّا اعتُبر أنّه يوافق مذهب القدريّة أو غيرهم، وبهذه الطريقة تمّ تصوير البخاري على أنّه من المؤمنين بمذاهب مرفوضة عند المسلمين، وعزّز ذلك من إمكانيّة التشكيك في تجربته الحديثية المنطلقة من انحيازه المذهبي.

في تقديري هذا هو حجر الزاوية الذي انطلق منه نقّاد الإماميّة؛ لأنّهم كانوا يريدون في حقيقة الأمر أن يحيّدوا صحيحيّ البخاريّ ومسلم عن أن يكونا مرجعاً في قيمة الحديث سلباً وإيجاباً، بمعنى أنّ ما لم يروه البخاري لا ينبغي التعامل معه على أنّه ضعيف أو من الدرجة الثانية؛ لأنّ البخاري ترك صحيح الأحاديث لأجل انحيازه المذهبي، كما أنّ ما رواه البخاري أو الصيغة التي روى فيها البخاري بعض المرويّات ليست هي الصيغ الراجحة بالضرورة؛ لأنّ البخاريَّ مارس تعديلاً في صيغ بعض الأحاديث وفق ما وصله نتيجة انحياز مذهبي أيضاً أو رغبةً في إرضاء أحدٍ ما في عصره.

وبهذه الطريقة اعتقد الناقد الإمامي أنّه كسر المرجعيّة النمطية التي يتمتع بها البخاريّ في الاحتكام إليه في النصوص المتصلة بالصراع المذهبي.

2 ـ مرجعيّة النقد المتني

ممارسة النقد المتني على جملة من مرويّات البخاري ومسلم، فعندما نلاحظ كتاباً مثل كتاب (أبو هريرة) للسيد عبد الحسين شرف الدين العاملي (1377هـ)، فسوف نجد استخدامه للنقد المتني لمجموعة من روايات الراوية أبي هريرة الدوسي التي ورد قسم منها في الصحيحين أيضاً، انطلاقاً من منافاتها للعقل أو للقرآن أو لقطعي السنّة أو غير ذلك.

إنّ اعتماد نقد المتن الحديثي في مناقشة روايات الصحيحين وأمثالهما واضح في التجربة النقديّة الإماميّة، ومن اللافت أنّ نقد المتن الحديثي نجده نشطاً في تعامل المذاهب مع بعضها، لكنّه يتراجع ـ نسبيّاً ـ عندما يتعاطى أبناء المذهب الواحد، أيّ مذهبٍ كان، مع نصوصهم الحديثيّة التي خرّجت في مصادرهم المذهبيّة، والسبب في ذلك هو شعورٌ مسبق يحكم الناقد نفسه، وهو إحساسه من البداية بعدم تصديق روايات الفريق الآخر، الأمر الذي يطلق العنان للعقل في ممارسة نقد متني أكبر، فأنت عندما تستشعر نصّاً دينيّاً تؤمن به، فإنّ قدراتك الذهنية على ممارسة نقد متني له قد تضعف أمامه؛ نتيجة إحساسك بالتسليم له، وتركك فرضيّةً واقعيّة بوصفها احتمالاً يمنعك عن رفض هذا النص الديني، لكن عندما لا تكون من البداية مصدّقاً بانتساب هذا النصّ الديني للنبي أو غيره، وتستهين بهذا الانتساب وتشكّك فيه، فإنّك في هذه الحال تشعر بحريّة أكبر في التعامل معه على المستوى النقدي.

وهذا بالضبط ما حصل في التجربة النقديّة الإماميّة لصحيحَي البخاري ومسلم، وهو في اعتقادي حصل أيضاً ـ كما تعرّضتُ لذلك مفصّلاً في كتابي المتواضع (المدخل إلى موسوعة الحديث النبويّ عند الإماميّة) ـ مع التجربة النقديّة السنيّة لكتب الحديث الإمامي، لاسيما كتاب الكافي للشيخ محمّد بن يعقوب الكليني الرازي (328 أو 329هـ).

إنّ هذا لا يعني أنّ هذه القراءات النقدية المتنية غير صحيحة بالضرورة، بل قد يكون بعضها صحيحاً وبعضها الآخر غير صحيح؛ لكن ما أريد أن أشير إليه هو أنّ هذه القراءات النقديّة المتنيّة لا تعبّر في بعض الأحيان عن جديّة منهجية في التعامل مع الحديث؛ لأنّها تعاني من انتقائيّة، فالناقد لا يتعامل بطريقة موحّدة مع نصوصه ونصوص غيره، بل يتعامل ـ غالباً ومنذ البداية ـ مع نصوصه بضربٍ من تعطيل نقد المتن نسبيّاً مقارنةً بتعامله مع نصوص الآخرين بضربٍ من تفعيل عمليّة نقد المتن، وهذه هي المشكلة الأساسيّة في جملة وافرة من الانتقادات التي يسجّلها الشيعة على الحديث السنّي والصحيحين، والسنّة على الحديث الشيعي، وهو ما توصّلتُ إليه شخصياً في كتابي المشار إليه أعلاه، حيث رأيتُ أنّ أغلب الملاحظات النقديّة التي يسجّلها الفريقان على بعضهما، يعاني الفريقان منها في مصادرهما الحديثية، بل الأغرب أنّ لديهما تخريجات وتبريرات لها عندما تتعلّق بمصادرهما الحديثية، أمّا عندما تتعلّق بمصادر الآخرين فتغدو القضيّة مختلفة تماماً.

3 ـ مرجعيّة النقد السنّي في ممارسة النقد الإمامي للصحيحين

أقصد بهذا العنوان أنّ متابعة التجربة الإماميّة في نقد الصحيحين تؤكّد أنّ بعض علماء الإماميّة الذين اشتغلوا بهذا الموضوع قد استعانوا بدرجة لا بأس بها بالجهود النقديّة الداخليّة التي مارسها نقّاد الحديث السنّة على الكتب الحديثيّة السنّية من قَبْل. وعلى سبيل المثال، فنحن نجد أنّ مساهمات الكاتب محمود أبو ريّة والأستاذ أحمد أمين والشيخ محمد رشيد رضا والإمام محمد عبده، وصولاً إلى العصر الحاضر، كانت ظاهرةً في التجربة النقديّة الإماميّة، فقد فتحت هذه المساهمات النقديّة الباب أمام الناقد الإماميّ للعثور على مزيدٍ من المشاكل في الصحيحين وغيرهما.

والأمر عينه نجده في التجربة النقديّة السنيّة على كتاب (الكافي) وسائر كتب الحديث الإمامي، إذ نلاحظ ـ إلى يومنا هذا ـ اعتماد الناقد السنّي في كثير من الأحيان على التجربة النقديّة الإماميّة للحديث الإمامي، وأخذها بوصفها مفتاحاً ووثيقةً لتأييد نقده أو موقفه من هذا التراث، ولهذا نلاحظ ظهور أسماء من نقّاد الحديث الإمامي في كتابات الناقدين السنّة للحديث الشيعي، مثل السيد أبي القاسم الخوئي (1413هـ)، والشيخ آصف محسني القندهاري المعاصر، والدكتور محمد باقر البهبودي (2015م)، والسيد أبو الفضل البرقعي (1990م)، والاستاذ حيدر علي قلمداران، والسيد محمّد حسين فضل الله (2010م) وغيرهم.

ولعلّ سبب هذا الأمر عنصران:

أ ـ ضعف معرفة كلّ فريق بالتراث الحديثي للفريق الآخر، الأمر الذي يضطرّه للاستعانة بخبراء من داخل الفريق الآخر، كي ينقدوا معه هذه التجربة من موقع معرفتهم بهذا التراث.

ب ـ خضوع الدراسات الحديثية النقديّة بين المذاهب للسياق الطائفي والجدلي أكثر من السياق البرهاني والإسلامي العام، وبهذه الطريقة يسجّل كلّ فريق على الطرف الآخر نقداً عليه من كلمات شخصيّاته، حتى لو كانت هذه الشخصيّات مرفوضة في الوسط المذهبي والديني الآخر أحياناً، مثل حيدر علي قلمداران والبرقعي إماميّاً، ومثل أبو ريّة وأحمد أمين سنيّاً.

4 ـ اعتماد القراءة المجتزأة في تحليل ونقد التراث الحديثي

لا أظنّ باحثاً منصفاً وموضوعيّاً ينفي وجود مشاكل عميقة في التراث الحديثي الإسلامي عامّة، بصرف النظر عن المذاهب، وأعتقد بأنّ أيّ خبير بالموروث الحديثي الإسلامي سيقتنع بهذه النتيجة، إذا لم تحجبه عنها التأويلات الأيديولوجيّة.

من هذه النقطة بالذات أطلّ على مَعْلَمٍ آخر من معالم التجربة النقديّة الإماميّة للصحيحين وكتب الحديث السنّي، وهو مَعْلَم نجده واضحاً أيضاً في التجربة النقديّة السنيّة للحديث الإمامي. إنّ الناقد الإمامي كأنّه لم يَرَ في الصحيحين إلا عناصر الضعف على مستوى المصادر والطرق والأسانيد والمتون والأداء وغير ذلك، وعندما لا يهمّك من كتابٍ ما سوى أن ترى فيه عناصر الضعف، فإنّ النتيجة التلقائيّة التي ستخرج بها هي انهيار قيمة هذا الكتاب تماماً، وعدم ارتقائه ليصبح حتى في مستوى أحد كتب الحديث التي يراجعها الباحث! لأنّك لم تَرَ فيه سوى الضعف، ولم تتعمّد أن تنظر إلى أيّ عنصر قوّة أو إيجابيّة فيه، بل لو خُيّل لك عنصر قوّةٍ ما فإنّك تقوم بشكل تلقائي بتبسيطه.

إنّ التجربة النقديّة الحديثيّة ما بين المذاهب يعاني أغلبها من هذه المشكلة؛ لأنّها لا تنظر بعينين كما هي الحال مع تراثها الداخلي، بل تنظر بعين واحدة، وهذا ما لن ينتج سوى الصور المنقوصة غير الدقيقة عن الأمور.

5 ـ من إيجابيّة التحرّر من التقديس إلى أزمة الثقة والعامل النفسي

عادةً ما لا يعيش الإماميّ أيّ إحساس بهالةٍ قدسيّة تحيط صحيح البخاري أو مسلم، ولا تلاحقه عقدة الذنب عندما يمارس نقداً على هذين الصحيحين، فهو يتعاطى معهما بوصفهما نتاجاً ثقافيّاً وجهداً كبيراً مارسه أصحابه في القرن الثالث الهجري ولكنّه لم يكن كاملاً ولا معصوماً ولا بالمتعالي عن النقد والمساءلة.

هذه النقطة هي خطوة متقدّمة تلقائيّة يعيشها الإمامي بحكم عدم اعتقاده المسبق بكون هذه الكتب أو هؤلاء العلماء امتداداً عنده للتراث النبوي، ولأنّه يعيش خلافاً فكريّاً وعقائديّاً وفقهياً معها.

ولكنّ إيجابيّة التحرّر من التقديس والنزوع نحو التعامل العقلاني مع الموروث إذا وجدناه عند المذاهب الإسلاميّة في حقّ بعضها إلا أنّ ذلك ليس بالضرورة لوجود نزعة عقلانيّة كاملة وأصيلة في التعامل مع الموروث، بل قد يكون نتيج انعدام الثقة مع موروثٍ دون آخر، ولهذا تجد أنّ الشخص نفسه ـ كما قلنا ـ عندما يواجه نصّاً حديثياً في موروثه المذهبي يعجز تماماً عن ممارسة نقد عقلاني تجاهه في كثير من الأحيان بالطريقة التي يمارسها مع الآخر.

يجب أن نعترف بأنّ غالبية المذهبيّين في العالم الإسلامي يعيشون أزمة ثقة مع المذاهب الأخرى وتراثها، لا فرق في ذلك بين المذاهب فيما يبدو لي، وهذا بالضبط ما حصل مع الناقد الإمامي في قراءته لتجربة البخاري ومسلم وغيرهما، فعندما لا يكون هناك ثقة بالآخر فإنّ من المنطقي أن تتنامى احتمالات المؤامرة عنده أو التحريف أو التزوير أو الاختلاق أو الدس أو التحيّز غير الموضوعي أو إخفاء الحقائق أو المواربة أو التعتيم أو غير ذلك.

لو تأملنا اليوم علماً كعلم الجرح والتعديل، فسوف نجد أنّ علماء الإماميّة لا يأخذون بأيّ شهادات أو معلومات تقدّمها كتب الجرح والتعديل السنّي، والعكس هو الصحيح، وهذا أمر شائع إلا في حالات نادرة للغاية، وأحد الأسباب الأساسيّة لذلك هو انعدام الثقة؛ إذ يعتبر الإمامي أنّ توثيق البخاري أو مسلم أو الرازي أو الذهبي أو ابن حجر أو المزّي أو غيرهم لراوٍ من الرواة أو تضعيفه.. يقوم على أسس مذهبيّة انحيازيّة غير موضوعيّة، وهذا يعني أنّه من غير المنطقي الاعتماد على قوله؛ لأنّه سيوثق شخصاً لأنّه مدح عثمان بن عفان مثلاً وسيضعّفه لأنّه تحمّس لعلي بن أبي طالب!

ونتيجة أزمة الثقة هذه تصبح الجهود السنديّة والحديثية لكلّ طرف غير موثوق بها، وهذا ما فتح الباب أمام الناقد الإمامي للحديث عن وجود دسّ وتزوير في كتاب البخاري، وكذلك الحديث عن انحياز البخاري للخوارج دون الشيعة، ودفع البخاري ـ من وجهة نظر الناقد الإمامي ـ إلى حذف بعض النصوص في فضائل عليّ والتأكيد أكثر على بعضها الآخر في فضائل الصحابة الآخرين، وتقديمه غير الإمام جعفر الصادق عليه، وعدم روايته عن أهل البيت وغير ذلك من الأمور التي أثارها الناقد الإمامي، كما سنجد في القسم الثاني من هذه الدراسة بالتفصيل إن شاء الله.

إنّ الناقد الإمامي لا يثق بالبخاري ولا يصدّقه ولا يرى نزاهته، لهذا فبينهما حجاب الثقة، وهذا هو بالضبط ما نجده عند جمهور كبير من الباحثين السنّة في حقّ الحديث الشيعي الإمامي. ولا أعني بذلك أنّ الناقد الإمامي لم يكن محقّاً في بعض الملاحظات على أداء البخاري، ولا أنّ الناقد السنّي لم يكن محقّاً في بعض الملاحظات على كافي الكليني، لكنّ تحوّل هذه الملاحظات إلى جدار عزل على المستوى النفسي يعيق إمكانية الثقة بالمنتَج الحديثي كلّه عند الطرف الآخر، لاسيما صحيح البخاري عند أهل السنّة من وجهة نظر الناقد الإمامي.

إنّ التقويمات المذهبية المتبادلة تعاني عادةً من مشكلة من هذا النوع، تماماً كما يعاني بعض نقّاد الحديث عامّةً من هذه المشكلة، بحيث يتحوّل المحدّث القديم إلى فزّاعة، وتتمّ شيطَنَتُه، وتلتقط بعض سلبيّاته ليتحوّل إلى محّدثٍ فاشل بامتياز! وهذا ما يؤكّد لي أكثر فأكثر ما قلته من قبل من أنّ النقد الحديثي الأيديولوجي ـ ومنه النقد المذهبي ـ يمكنه أن يلتقط بعض نقاط الضعف أو يعثر على وثائق مفيدة في دراسة التراث الحديثي، إلا أنّه في كثير من الأحيان يعجز عن تكوين صورة موضوعيّة متكاملة.

القسم الثاني

متابعة تفصيليّة للإشكاليّات الإماميّة على الحديث السنّي

(صحيحا البخاري ومسلم أنموذجاً)

تمهيد

نحاول في هذا القسم متابعة الإشكاليّات التي أثارها الناقد الإمامي على الحديث السنّي، وبدرجة مركّزة على كلّ من صحيحي البخاري ومسلم، وسوف نقوم بتصنيف هذه الإشكاليّات ـ التي اعتبرها الناقد الإمامي موجبةً للإطاحة بقيمة الصحيحين تماماً تقريباً ـ إلى صنفين: الصنف الأوّل ونعتبره إشكاليّات شكليّة، والصنف الثاني ونعتبره إشكاليّات حوهريّة.

وسوف نقوم بمحاكمة هذه الإشكاليّات بشكل جزئي وعابر، للنظر في مديات تأثيرها على النتيجة التي رامها الناقدُ الإمامي، وهي سقوط قيمة كتب الحديث السنيّة تماماً أو غالباً عن الاعتبار. وسوف تكون نتيجة هذه الملاحقة للإشكاليّات ومناقشاتها هو ما قدّمناه في القسم الأوّل من هذه الدراسة المتواضعة، من رصد تحليلي نظري عام للموضوع.

ولابدّ أن نشير إلى أنّ غرضنا من هذا الرصد هو النظر في تأثير هذه الإشكاليّات على قيمة الحديث السنّي أو تحديدها لقيمته، أمّا وجود مشكلة هنا أو هناك في كتاب حديثي أو آخر فهذا شيء لا حدّ له ولا حصر في تراث المسلمين جميعاً، إنّما المهم رصد تأثير هذه المشكلة أو تلك على القيمة المعرفيّة التي يملكها هذا الكتاب الحديثي أو التاريخي أو ذاك، فبعض هذه الملاحظات الآتية يمثل إشكالات على منهج هذا المحدّث أو ذاك في كيفيّة تصنيفه لكتابه، وهل كتابه ممنهج بشكل جيد أو لا؟ وهذا النوع من الملاحظات لا يعنينا هنا؛ لأننا لا نبحث هنا بوصفنا محدّثين بالمعنى التفصيلي للكلمة، وإنما ننظر إلى المشهد نظرةً معرفيّة أصوليّة أيضاً، ويعنينا فقط ما يسمّى يقينية هذه المصادر أو حجيّتها وعدمها؛ ولهذا نشير إلى بعض ذلك سريعاً، من هنا نلاحظ على بعض الملاحظات التي أدرجت مثلاً على صحيح البخاري أو كافي الكليني واعتبرت ضارةً باعتبارهما أنها لا تضرّ بالاعتبار، وإن كانت نقصاً في التصنيف أو المنهجة.

أولاً: الملاحظات الشكليّة على الكتب الحديثيّة السنيّة (الصحيحين)

وأهمّ الإشكاليّات الشكليّة التي طرحها الناقد الإمامي، ما يلي:

1 ـ انعدام المناسبة بين عنوان الباب الحديثي ومضمونه

أوّل المشاكل هنا هو عدم وجود مناسبة في بعض المواضع من بعض الكتب الحديثية كصحيح البخاري بين عناوين الأبواب والروايات المدرجة في هذه الأبواب، كما في كتاب العلم، وكتاب مواقيت الصلاة، وباب إذا لم يجد ماءً ولا تراباً و.. (عبد الصمد شاكر، نظرة عابرة إلى الصحاح الستّة: 58).

وهذه الملاحظة منهجية في التبويب وترتيب الروايات وفرزها، مع أنّها تطال كلَّ أو أكثر كتب الحديث عند المسلمين سنةً وشيعة؛ ومن المعروف أنّ الشيخ الصدوق (381هـ) واجه مثل هذه المشكلة بشكل جزئي، مثل وقوعه في كثرة أبواب النوادر عنده، وعدم اقتصاره على أحاديث الأحكام، مع أنّ الكتاب موضوع للأحكام، وعدم مناسبة بعض الأحاديث لأبوابها، كما جاء في باب الحجر والإفلاس، وتكرار الأحاديث، وترك بعض الأبواب الفقهيّة وبعض الأحكام أيضاً.

والمجتهد الفقيه قد يرى أنّ الحرّ العاملي صاحب كتاب «تفصيل وسائل الشيعة» مثلاً يدرج نصّاً في باب ولا تكون له دلالة أصلاً عليه، لكنّ اجتهاده أوحى له بأنّ هذا النص مرتبط بالموضوع، وربما وضعه لأقلّ مناسبة.. فهذا الخطأ عام، وليس بمضرّ باعتبار الكتاب، فهو يضرّ ـ على أبعد تقدير ـ باجتهاد البخاري الفقهي مثلاً لا بوزنه الحديثي، إلا إذا بلغ الحال حدّاً كبيراً يشكّك في فهمه للروايات بمجملها أو أكثرها، ومجرّد وجود بعض الأبواب المعدودة على أصابع اليد في كتاب الكافي أو البخاري لا يعني تعرّضهما لعيب منهجي تصنيفي يوجب التشكيك بهما.

وسوف يأتي إن شاء الله ما يتعلّق بنسخ كتاب البخاري، وارتباط ذلك بما نحن فيه فانتظر.

2 ـ ظاهرة تكرّر الأحاديث

المشكلة الأخرى هي ظاهرة تكرار الأحاديث بشكل كبير جداً بالأخصّ عند البخاري، فبعض الروايات كرّر عشرة مرات، وبعضها ست عشرة مرة، وتسع عشرة، بل بلغ الحدّ في بعضها اثنين وعشرين مرة.. وهذا شيء يعطي اشمئزازاً في النفس (المصدر نفسه). بل قيل: إنّ الكتاب فيه حدود سبعة آلاف رواية، وقيل: تسعة آلاف رواية، وأنّ حذف التكرار يبلغ به الأربعة آلاف. وهذه أرقام هائلة في حجم التكرار، فابن خلدون ينقل أنهم قالوا: إنّ كتاب البخاري تسعة آلاف ومائتي حديث، بينها ثلاثة آلاف حديث مكرّر، وأنّ مسلماً حاول تفادي شكل التكرار هذا (مقدمة ابن خلدون: 442).

ويذكر ابن الصلاح أنّ أحاديث البخاري في الجامع الصحيح تبلغ سبعة آلاف ومائتين وخمسة وسبعين حديثاً مع المتكرّر، وأنه قيل: إنّ إسقاط المكرّر يصيّرها أربعة آلاف حديث (علوم الحديث (مقدمة ابن الصلاح): 20).

هذه الملاحظة تدخل في منهجية التصنيف أيضاً، ولا علاقة لها بموثوقيّة الكتاب وقيمته الحديثيّة من الزاوية الاعتبارية، علماً أنّ أكثر كتب الحديث الشيعية والسنّية ـ لاسيما المتأخّرة ـ تعاني من هذه المشكلة وإن لم تبلغ حدّ البخاري، لكنّ الضرورات قد تتطلّب التكرار أحياناً، كما لو اشتمل خبر على حكمين فاضطرّ لتكراره في موضعين، أو ارتبط بموضوعين فاضطرّ كذلك، ويشتهر بهذا الأمر ـ شيعيّاً ـ المحدّث العاملي في «تفصيل وسائل الشيعة»، والسيد البروجردي في كتابه الذي أشرف عليه «جامع أحاديث الشيعة».

3 ـ عبثيّة بعض الأبواب الحديثيّة

ذكر بعضهم أنّ بعض الكتب الحديثية السنيّة تطرح أبواباً لا معنى لها، فبعض كتب البخاري التي عقدها مثلاً ليس لها معنى، مثل كتاب التمنّي وتمنّي الشهادة (نظرة عابرة إلى الصحاح الستة: 59).

وهذا الإشكال مورديٌّ جزئي يختصّ بنقطة هنا وأخرى هناك، حتى أننا راجعنا كتاب التمنّي الوارد في (صحيح البخاري 8: 128 ـ 132)، فوجدنا فيه أحاديث جيّدة، تذكر تمنّي الخير وتذكر الرغبة في الحياة بعد الموت لأجل الشهادة مرّة أخرى و.. فلم نفهم أيّ معنى لعبثية هذا الكتاب من الجامع الصحيح؟!

وحتى لو فرضنا في كتاب أو كتابين صار هذا حالهما فلا يضرّ ذلك باعتبار كتاب بأكمله كما هو واضح، علماً أنّ بعض الكتب الحديثية الأخرى عند الشيعة والسنّة أوردت أبواباً قد يرى هذا العالم أو ذاك عبثيّتها.

4 ـ بين كتب السيرة وكتب الحديث الجامعة

إنّ بعض كتب الحديث كالكتب الستّة المشهورة ـ لاسيما البخاري ـ يفترض اعتبارها كتب سيرة نبوية، وليست كتباً جامعة للعقائد والفقه وغيرهما، ولهذا تجد علماء أهل السنّة لقلّة الروايات يلجؤون إلى القياس والمصالح المرسلة و.. (شاكر، نظرة عابرة إلى الصحاح الستة: 59).

هذه الملاحظة يمكن أن يسجّل عليها:

أوّلاً: في حدود خبرتي القاصرة في مصادر الحديث والفقه السنّية بما فيها البخاري، لم أجد هذه الصورة البائسة للنقص في الحديث من حيث كمّية الأحاديث العقائدية والفقهية، فأحاديث أهل السنّة كثيرة مثل أحاديث الشيعة بل ربما أكثر؛ وإذا كانت صيغة حديث تتحدّث عن حدث ما وقع مع النبي فإنّ هذا لا يمنع أن يشتمل الحديث على متن أو نصّ أو حكم، علماً أنّ الأفعال تعطي ضوءاً أيضاً في باب الفقه والأخلاق والآداب، فحبّذا لو تعمّق هذه الملاحظة لنعرف كيف توصّل إليها المناقش المحترم.

ثانياً: فكرة اللجوء إلى القياس وغيره ليست ناتجةً عن قلّة الحديث فقط، بل عن جملة أمور متعدّدة لا مجال لبحثها هنا؛ منها قلّة الحديث المعتبر نسبةً للوقائع لا مطلق الحديث الأعم من المعتبر وغير المعتبر، ومنها عدم وجود منهج يبيّن كيفية شمول النصوص للوقائع المستجدّة الأمر الذي يوحي للفقيه أنّ النصوص قاصرة، ومنها غير ذلك.

وإذا كان السنّة لجؤوا إلى الأقيسة والمصالح المرسلة والاستحسان و.. لعدم قيام دليل قطعي على الحكم ولا أمارة معتبرة غير القياس و.. فإنّ الشيعة الإماميّة وقعوا أيضاً في هذه المشكلة؛ حيث نجد الكثير جداً من الاجتهادات قائمةً على أصول عملية، لا هي باليقين ولا هي بالأمارة المعتبرة الظنية عندهم، فالمشكلة هي المشكلة؛ لأنّ الأصول العملية عند الإماميّة (البراءة والاحتياط والاستصحاب والتخيير)، لا تعبّر ـ وفق الاجتهاد الأصولي الإمامي ـ عن أدلّة على الحكم الشرعي، بل هي مجرّد نصوص تحدّد وظيفة المكلّف عند فقدان الدليل على الحكم الشرعي، ممّا يعني أنّه ليس لديه دليل من كتاب أو سنّة على الحكم، الأمر الذي يستبطن فقدان الأحاديث.

وإذا قيل: إنّ الأصول العملية كالبراءة والاشتغال والاستصحاب و.. لها دليل شرعي من قرآن أو سنّة، فإنّ السنّي أيضاً يقول: إن القياس وغيره قامت عليه أدلة قرآنية وحديثية يذكرها مفصّلاً في محلّه.. فأزمة الفراغ هذه إسلامية وليست سنّيةً ولا شيعية، علماً أنّ هذه المشكلة التي يطرقها المستشكل ونقوم نحن بتوسعتها لا تبطل أخبار البخاري ولا الكليني، لكنها تقول بأنّها غير كافية، وعدم الكفاية ليس خللاً فيما جاء في الكتابين؛ لأنّ هناك فرقاً بين الصحّة والكفاية.

5 ـ عدم ترتيب الأبواب وتنسيقها

ذكر أستاذنا الدكتور الشيخ أحمد عابدي في كرّاسته التي دوّنها للتدريس في كلية أصول الدين في مدينة قم الإيرانية إشكالاً على كتاب البخاري وهو أنّه غير منظّم ولا مرتّب الأبواب ولا يوجد تنسيق منطقي بين أبوابه، فقد بدأ بكتاب (بدء الوحي) ثم (كتاب الإيمان) ثم (كتاب العلم) ثم (كتاب الطهارة)، ثم انتهى إلى كتاب التوحيد، فلا يوجد رتبية ولا ترابط منطقي بين هذه الأبواب، على خلاف كتاب الكافي للكليني؛ حيث ابتدأ بكتاب العقل والجهل، ثم كتاب العلم، ثم التوحيد، ثم الحجّة.. (أحمد عابدي، الحديث الشريف: 44).

وهذه الملاحظة يسجّل عليها:

أولاً: إنّ عدم ترتيب الأبواب ترتيباً منطقياً مشكلة شكلية على مستوى التصنيف، وقد يكون سببها بداية تجربة التدوين في الحديث على مستوى كتب الجوامع، من هنا لا يصحّ مقارنة كتاب البخاري في هذا المجال مع كافي الكليني؛ لأنّ البخاري توفي عام 256هـ فيما توفي الكليني عام 329هـ أي بفارق يزيد عن النصف قرن ألّفت فيه أمّهات كتب الحديث عند السنّة، ويمكن أن يكون الكليني قد استفاد من تجارب من سبقه سنياً، وحتى شيعياً مع تجربة المحدّثين السابقين، وإلا فنحن نضع اليوم ملاحظات كثيرة على كيفية تصنيف الكليني لكتابه مما تفاداه العلماء فيما بعد، مثل الحر العاملي في تفصيل وسائل الشيعة والبروجردي في جامع أحاديث الشيعة وغيرهما، فآليّات التصنيف في تطوّر متواصل، ولا يصحّ مقارنة تجربة في قرن مع تجربة جاءت بعد ذلك بأكثر من نصف قرن تطوّر فيها التصنيف الحديثي تطوّراً كبيراً.

ثانياً: لنفترض أنّ هذه الملاحظة مسجّلة، فهي لا تضرّ بقيمة الكتاب ولا باعتباره، فقد سجّل الكثيرون ملاحظات على كتب الحديث كلّها سنةً وشيعة وطوّروها، ولم يقل أحد بأنّ هذه الملاحظات مطلقاً توجب سقوط الكتاب عن الاعتبار وسقوط أحاديثه عن مرتبة الحجية. فهذا كتاب «تفصيل وسائل الشيعة» للحر العاملي يُدرج آداب السفر في بحث الحج، ويدرج أحكام الدواب هناك أيضاً، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك عنده وهو في القرن الحادي عشر الهجري، أفهل هذا يسقط كتابه عن الاعتبار والحجية أو يضعه في موقف ضعيف؟!

هذا، وأكتفي بهذا القدر من الملاحظات التي أعتبرها شكليّةً، لا تؤثر على قيمة الكتب الحديثية عند السنّة والشيعة. ومثل هذه الملاحظات كثير مبثوث في كلمات الناقدين فلا نضيّع الوقت بمتابعته، وفيما ذكرنا غنى وكفاية فيما أظنّ، وقد أحببنا الإشارة من خلاله إلى ضرورة تجاوز مثل هذه الإشكاليات الطفيفة التي لا تضرّ بقيمة الكتب الحديثيّة، وإن أعطتنا صورةً واقعيّة عن نمط تجارب المحدّثين المسلمين.

 

ثانياً: الإشكاليات الجوهريّة على الكتب الحديثيّة السنيّة (الصحيحين)

نحاول هنا أن نتجاوز الإشكاليّات الظاهرية الشكليّة العابرة التي لا تلعب دوراً كبيراً في تحديد قيمة الرواية عند هذا المحدّث أو ذاك، لننتقل إلى ملاحظات أكثر عمقاً وجوهريّةً. ونشير إلى بعض العيّنات والنماذج على الشكل الآتي:

 

1 ـ تهمة ابتلاء الكتب السنيّة بالدسّ والتزوير، وقفة وتعليق

ذكر بعض النقّاد من الإماميّة أنّ كتاب البخاري لم يكتمل في عهد مؤلّفه، وإنما أكمل بعد ذلك بواسطة آخرين، ويشهد على هذا الأمر ما نقله ابن حجر العسقلاني ونقله عنه القسطلاني أيضاً، فعند تعرّضه لسبب وجود حالة ارتباك في صحيح البخاري في بعض الأبواب، قال ابن حجر: «.. ومن ثمّة وقع من بعض من نسخ الكتاب ضمّ باب لم يذكر فيه حديث إلى حديث لم يذكر فيه باب، فأشكل فهمه على الناظر فيه، وقد أوضح السبب في ذلك الإمام أبو الوليد الباجي المالكي في مقدّمة كتابه في أسماء رجال البخاري فقال: أخبرني الحافظ أبو ذر عبد الرحيم بن أحمد الهروي، قال: حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي، قال: انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري فرأيت فيه أشياء لم تتمّ وأشياء مبيضة منها تراجم لم يثبت بعدها شيئاً، ومنها أحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض. قال أبو الوليد الباجي: ومما يدلّ على صحّة هذا القول أنّ رواية أبي إسحاق المستملي ورواية أبي محمد السرخسي ورواية أبي الهيثم الكشميهني ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قرّر كلّ واحد منهم فيما كان في طرّة أو رقعة مضافة أنه من موضعٍ ما، فأضافه إليه، ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث. قال الباجي: وإنما أوردت هذا هنا لما عنى به أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها وتكلّفهم من ذلك من تعسّف التأويل ما لا يسوغ» (هدي الساري لفتح الباري 5: 6).

ويقول ابن حجر (852هـ) في موضعٍ من كتاب فتح الباري تعليقاً على ذكر البخاري لمناقب الصحابة: «..ولم أقف في شيء من نسخ البخاري على ترجمة لمناقب عبد الرحمن بن عوف، ولا لسعيد بن زيد، وهما من العشرة، وإن كان قد أفرد ذكر إسلام سعيد بن زيد بترجمة في أوائل السيرة النبوية، وأظنّ ذلك من تصرّف الناقلين لكتاب البخاري، كما تقدّم مراراً أنه ترك الكتاب مسودة، فإنّ أسماء من ذكرهم هنا لم يقع فيهم مراعاة الأفضلية ولا السابقية ولا الأسنّية، وهذه جهات التقديم في الترتيب، فلمّا لم يراع واحداً منها دلّ على أنه كتب كلّ ترجمة على حدة، فضم بعض النقلة بعضها إلى بعض حسبما اتفق..» (فتح الباري 7: 73).

فهذه النصوص تؤكّد أنّ كتاب البخاري كان مسوّدة تصرّفت فيها أيدي الناقلين، وهذا ما يضعف الوثوق بالكتاب وبرواياته (انظر: النجمي، أضواء على الصحيحين: 125 ـ 126؛ وشاكر، نظرة عابرة: 55؛ والهرساوي، الإمام البخاري وفقه أهل العراق: 130 ـ 131؛ ومحمد حسن زماني، نكاهي به صحيح بخاري، مجلة علوم حديث، العدد 24: 88 ـ 89؛ وهاشم معروف الحسني، دراسات في الحديث والمحدّثين: 119 ـ 121).

ويمكن أن يضاف هنا للتشكيك بالنسخ الموجودة بين أيدينا لبعض المحدّثين بما يفضي إلى سقوط الاعتماد على هذه المرويات، فقد ذكر الشيخ ابن الصلاح والنووي أنّ مسلم بن الحجاج دخل عند أبي زرعة الرازي فلما خرج، قال له أبو قريش الحافظ: هذا ـ أي مسلم ـ جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح.

وهذا النصّ يوقفنا أمام إشكالية من حيث إنّ الموجود من كتاب مسلم أكثر من ذلك فهل زيدت هذه النصوص على الكتاب الأصلي عبر التاريخ؟! ولهذا حاول النووي وابن الصلاح تأويل ذلك بأنّ المقصود من هذا الرقم الأصول دون المكرّرات (حول القصّة والردّ عليها انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 1: 21؛ وسير أعلام النبلاء 12: 280؛ وتاريخ الإسلام 19: 341).

يضاف هنا أنّ علماء أهل السنّة اختلفوا فيما بينهم في عدد أحاديث البخاري، فابن الصلاح والنووي و.. جعلوها 7275 حديثاً، وابن خلدون جعلها 9200 حديثاً وفعل ذلك ابن حجر أيضاً، بل إن الحازمي (594هـ) والعراقي (806هـ) ذكرا أنّ عدد أحاديث البخاري يزيد في رواية الفربري على عددها في رواية إبراهيم بن معقل بمائتين، ويزيد عدد النسفي على عدد حماد بن شاكر النسفي بمائة (انظر حول عدد روايات البخاري: صحيح مسلم بشرح النووي 1: 21؛ وهدي الساري: 465؛ وكشف الظنون 1: 543 ـ 544؛ وفتح الله النجار، إشكاليات في التراث الشيعي الحديثي، مجلة المنهاج، العدد 27: 141)، وذكر أنّه رأى عن أبي الفضل أحمد بن سلمة أنّ عدد روايات مسلم هو إثنا عشر ألف حديث (زين الدين عبد الرحيم العراقي، التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدّمة ابن الصلاح: 31).

بل نقل أنّ ابن قتيبة والآلوسي اعترفا بوجود الزيادة والدسّ في مسند ابن حنبل وغيره، بل تعدّى الأمر إلى موطأ مالك حتى ذكر أنّ له عشرين نسخة، وبعضهم قال: ثلاثون يختلف عدد الأحاديث بينها كما ذكر الزرقاني في شرحه على الموطأ وذكر ذلك أحمد أمين ومحمود أبو رية وآخرون (أضواء على السنّة المحمدية: 296 ـ 298؛ ونظرة عابرة: 47 ـ 48).

فهذا كلّه يشهد للضعف أو الوهن أو سقوط هذه الكتب عن القيمة التي تعطى لها من وجهة نظر الناقد الإمامي.

هذا، ولكنّني لا أوافق على هذا النقد الإمامي لكتب الحديث السنيّة، وأراه غير صحيح، لعدّة أسباب:

أ ـ إنّ النص الشهير الذي جاء في كلمات أبي الوليد الباجي ونقله عنه ابن حجر وغيره، لا يدلّ على حصول زيادة في صحيح البخاري ولا غيره من قبل الناقلين أو النسّاخ؛ لأنّ غاية ما فيه أنّ الناقلين حصلوا على النسخة الأصلية أو شبه الأصلية، وقاموا بالتصرّف في التقديم والتأخير في الأحاديث والأبواب.. لكنّ النصّ لا يقول: إنهم أضافوا أحاديث من عندهم أو أنقصوا منها؛ فهذا التصرّف الذي حصل يضرّ في مجال تحديد موقف البخاري، بمعنى أننا إذا أردنا أن نحدّد رأي البخاري في موضوع مع دليله بوصفه فقيهاً لا محدّثاً، فمن الصعب بعد هذا النصّ أن ننسب إليه شيئاً من الأدلة؛ لأنّ البخاري معروفٌ بوضع ترجمة لحديثه، أي عنوان للأبواب يحدّد نظريته الفقهية، لكنّ الحديث الوارد في هذا الباب أو ذاك لا يمكن نسبته بوصفه دليلاً إلى البخاري؛ لاحتمال أن يكون هذا الحديث أو ذاك قد أقحم إقحاماً من طرف النسّاخ أو الناقلين للصحيح، فهذه الوثيقة من الباجي مهمّة على هذا الصعيد، ولهذا استخدمها الباجي نفسه في الردّ على أهل بلده من التكلّف في الجمع بين عنوان الباب والأحاديث الواردة فيه..

نعم، هذا التصرّف يخلّ على هذا المستوى، لكنه لا يجعل كتاب البخاري من الكتب التي لعبت بها أيدي الناقلين إلى الحدّ الذي يسقطها عن الاعتبار حديثيّاً؛ لأنّ الروايات هي نفسها لم يحصل في كلّ رواية أيّ تعديل لا في السند ولا في المتن.

وهذا معنى أنّ الكتاب كان مسودة كما عبّر ابن حجر، أي لم يكن مرتباً، لا أنه لم تكن كلّ رواية كاملة، وما يضرّ باعتبار الروايات هو الأمر الثاني لا الأوّل.

وعلى المنوال عينه النصّ الثاني لابن حجر، فإنّ ابن حجر لم يقل: إنّ أحداً دسّ في صحيح البخاري روايات، كلّ ما قاله أنّ البخاري كأنه كان وضع مناقب كلّ صحابي على حدة، وعملية ترتيب الصحابة كان أمراً وقع فيما بعد، وهذا يخلّ بنسبة ترتيب الكتاب إلى البخاري، ولا يخلّ باعتبار الروايات، علماً أنّ الباجي وابن حجر وغيرهما لم يقولوا بأن تصرّف الناقلين كان بقصد الإساءة، وإنما هو أمرٌ واقع فُرِضَ عليهم، فقد وقع بين يديهم كتاب غير منظّم الصفحات فقاموا بترتيب صفحاته لا غير.

ب ـ إنّ قصّة أبي زرعة الرازي مع أبي قريش الحافظ لا تدلّ على شيء هنا أيضاً؛ لأنّ الحافظ ينسب جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح، ولا يدلّ ذلك على أنّ هذا الحوار جرى بين الرازي والحافظ بعد الانتهاء من كتابة مسلم لصحيحه، فإنه لا يعلم أنّ المراد من كلمة «في الصحيح» أي في كتابه المسمّى بالصحيح، بل يحتمل جداً أن يكون المراد «في الأحاديث الصحيحة»، ولما جهلنا تاريخ الحوار وأنه قبل إكمال الصحيح أم بعده.. لم يكن يمكن الاستناد إلى هذا الحوار لإثبات حصول زيادة في كتاب مسلم.

هذا كلّه لو صحّ هذا الخبر والحوار؛ لأنّ أبا قريش الحافظ توفي عام 313هـ (انظر: تذكرة الحفاظ 2: 767)، فيما توفي ابن الصلاح ـ صاحب هذه المعلومة ـ عام 643هـ، ولم يظهر لي سند ابن الصلاح إلى أبي قريش الحافظ في نقل هذه القصّة، التي نقلها عنه النووي ثم من بعده.

يضاف إلى ذلك أنّ عدد الأخبار الصحاح ـ أي مع صرف النظر عن التكرار ـ في صحيح مسلم يقارب الأربعة آلاف، فمن الممكن جداً والمعقول أنّه يخبره عن عدد الروايات الصحيحة التي خرّجها مسلم، والمكرّر لم يدخل ضمنها كما نقلنا هذه الملاحظة عن بعضهم.

ج ـ إنّ اختلاف العلماء في تحديد عدد روايات البخاري أو مسلم أو موطأ مالك أو مسند ابن حنبل أو غيره يرجع إلى أسباب متوقّعة كلّها محتملة، وليس مجرد الاختلاف في العدد يدلّ دوماً على الدسّ، وإلا فقد اختلف في عدد آيات القرآن الكريم كما هو معروف باختلاف بلغ مئات الآيات كما ذكره المفسّرون وعلماء القرآنيات (انظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 1: 8؛ والزركشي، البرهان 1: 249؛ والسيوطي، الإتقان 1: 182؛ وسيد مير محمدي زرندي، بحوث في تاريخ القرآن وعلومه: 96 ـ 97؛ ومحمد طاهر الكردي، تاريخ القرآن الكريم: 192 ـ 193).

والأسباب التي تفضي هنا إلى احتمالات، عديدةٌ منها:

1ـ أن يحسب هذا العالم الأصول دون المكرّرات فيما يحسب الثاني الأصول والمكرّرات معاً، وسيقع اختلاف حينئذٍ بفارق كبير.

2ـ أن يحسب هذا العالم الروايات بما فيها من الأخبار المسندة الموصولة والأخبار المعلّقة المرفوعة وما نقل عن الصحابة والتابعين، فيما يحذف آخر أحد الأخيرين أو كليهما، والفارق سيكون كبيراً.

3ـ أن يكون هناك دسّ واختلاق في الكتاب من قبل الناقلين أو النسّاخ فيما بعد.

4ـ أن يقوم بعض الناقلين بوضع رواية واحدة في موضعين: نظراً لدلالتها عليهما معاً حيث لم يدرِ هل وضعها البخاري أو مالك أو.. في هذا الباب أم في ذاك؟ وهذا ما يفسّر وجود تكرار كبير في كتاب البخاري بالأخصّ.

فعلى الاحتمال الأول والثاني والرابع (والأخير يرجع بالتحليل إلى الأوّل) لا يضرّ ذلك باعتبار الكتاب الحديثي، أما على الاحتمال الثالث فمن الواضح أنّ الضرر مؤكّد، وإذا لم نستطع الجزم باحتمال من هذه الاحتمالات كان من الصعب التأكّد من فكرة الدسّ والتزوير؛ لكنها تبقى محتملة احتمالاً أوّلياً.

د ـ إنّ ما يقوله الآلوسي لا قيمة له؛ لأنّه مجرد اجتهاد منه، وهو بعيد زماناً عن عصر ابن حنبل حتى يؤكّد لنا وقوع الدسّ في كتابه، فقد توفي الآلوسي عام 1270هـ، فيما توفي ابن حنبل عام 241هـ، وأما أنّ ابن قتيبة الدينوري المتوفى عام 276هـ يذكر الدسّ في مسند ابن حنبل، فهذا كلام هام جداً من شخص قريب عهد جداً بابن حنبل وخبير في التاريخ ووثائقه؛ لكنّني بعد البحث لم أعثر على كلام ابن قتيبة الذي نقله عنه أبورية، مع أنّ كلامه لا يدلّ على الكذب، بل يقول: إن أحمد توقف عن الرواية منذ عام 228هـ فدخل في الروايات عنه ما دخل إما لكذب أو لسوء ضبط أو سوء فهم.. (راجع: أضواء على السنّة المحمدية: 330؛ ونظرة عابرة: 50)، فهذا النصّ لا يدل على وقوع المرويّ عنه في المسند، بل قد يكون غيره وشفاهياً؛ لأنه نقل عن أحمد الكثير من القيل والقال حتى كان الكثير من فتاويه على روايات، فليس نصّ ابن قتيبة بدالّ على حصول التحريف والدسّ في نفس المسند؛ وإن كان يحتمل الشمول، فإطلاق ذلك كما فعله بعض أساتذتنا غير واضح (فتح الله النجار، إشكاليات حول التراث الشيعي الحديثي: 141).

نعم، الشيء المؤكّد من هذه المعلومات والمنقولات أنّ الاستنساخ والرواية للكتب والمصنّفات ظاهرة احتفّت تاريخياً ـ ليس على المستوى الإسلامي فحسب، بل على المستوى العام أيضاً ـ بالكثير من المخاطر؛ لهذا لا يكاد يخلو كتاب من هذه المشكلة شدّة وضعفاً، وهذا كلّه يؤثر على درجة اليقين بكلّ روايات هذه الكتب لكنّه لا يسقطها عن الاعتبار والقيمة بالكليّة.

بل لقد بلغت الاختلافات حدّاً أن نُسبت كتب لأشخاص ثم تبيّن أنها لم تكن لهم، وضاعت كتب كثيرة لعلماء كبار لم يعثر منها الباحثون على شيء، واختلاف النسخ في كلمة أو جملة أو فقرة أو حديث أو اختلاط كتبٍ ببعضها مثل ما قيل عن تفسيري: القمي وأبي الجارود، أو نسبة كتاب إلى شخص ولا يعلم أنه له أصلاً، مثل كتاب الاختصاص للشيخ المفيد.. كلّها ظواهر أكثر من أن تحصى في عالم النسخ والمخطوطات ليس في العالم الإسلامي فحسب، بل في كل العالم، وإن كان تطوّر علم النسخ والمخطوطات وتصحيح التراث قد خفّف الكثير من المشاكل في الوقت عينه الذي كشف لنا عن مشاكل كثيرة أخرى قائمة.

وفي بعض الأحيان ربما يروي المؤلّف كتابه مرتين، ويغيّر في الكتاب في المرّة الثانية، وربما يستعير شخص كتاباً ويغيّر فيه ثم ينشره بنسخة محرّفة، والخلافات المذهبية والسياسية كثيرة تسمح بذلك.

فالمفترض بعد ورود أخبار عن كتاب ما في ذلك هو الأخذُ بالقدر المتيقن منه إذا كان، وإلا سقط الكتاب عن الاعتبار، فمثل البخاري المفروض أنّ الفربري وإبراهيم بن معقل (مغفل) وحماد بن شاكر وسائر تلامذة أو نقلة كتاب البخاري ثقات، وإلا سقط الكتاب الذي يصلنا من طريق شخص غير معلوم الوثاقة إلا مع حشد شواهد.. ففي مثل هذه الحالات ننظر في النسخة الأقلّ من حيث الروايات بمعنى القاسم المشترك بين الروايات فنأخذ به، أما الباقي فيتبع دراسة الباحث لإثبات أنّ هذه الزيادة أو تلك هل هي من كتب المؤلّف الأصلي أم أضيفت بسوء نيّة أو بجهالة أو بغفلة؟ فلعلّه يثبت له، وإلا تعرّضت هذه الروايات للتشكيك.

وهذا شيء موجود في كتب الحديث حتى على المستوى الحديثي نفسه، فبعض العلماء يضيف توضيحات في الحديث بحيث يصبح من المدرج بحسب الاصطلاح الحديثي، ويختلط الأمر، مثل ما ينسب إلى الشيخ ابن بابويه الصدوق (381هـ) ـ وإن كان في صحّة النسبة نظر ـ فهل يعني ذلك سقوط الروايات عن الاعتبار؟!

والنتيجة: إنّ الملاحظة الأولى هنا غير واردة.

 

2 ـ أزمة الانحراف العقائدي عند بعض المحدّثين، وقفات وتأملات

يذكر الناقد الإمامي أنّنا نواجه مشكلة عقائديّة مع المحدّثين السنّة، فكيف يمكن للشيعي أخذ أخبار البخاري وهو منحرف عقائديّاً بنظره؟!

فلو أخذنا البخاري مثلاً، فإنّ عقائده غير صحيحة، وهذه نقطة ضعف تشي بانحراف عنده، فهو يقول مثلاً بالجبر، حيث روى خبراً يقول: «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسّر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسّر لعمل أهل الشقاوة..» (صحيح البخاري 6: 86، وانظر: ج8: 215، ووردت أيضاً باختلاف في صحيح مسلم 8: 47 وغيره). بل إنّ البخاري ذكر مائة وستين آية وعدداً من الروايات لإثبات الجبر.

كما يؤمن البخاري بمقولة الخوارج في الإيمان والعمل وأنه لا إيمان بلا عمل، فقد ورد فيه روايات مثل: «الحياء من الإيمان» (صحيح البخاري 1: 11، و7: 100؛ وصحيح مسلم 1: 46 و..) وغيرها، كما يعتقد البخاري بعدم عصمة الأنبياء ويورد الكثير من الروايات التي تدلّ على ذلك، بل بعضها يهتك حرمة الرسول الأعظم، فهذا كلّه يشهد على فساد عقيدته ونقص نظريته الكلامية وترهّل آرائه (أحمد عابدي، الحديث الشريف: 93 ـ 95).

يضاف إلى هذه الملاحظة ما ذكره شيخ الشريعة الإصفهاني من ذهاب البخاري إلى القول بخلق القرآن وأنّ الإيمان مخلوق، وخصّص له فصلاً ينقل فيه المواقف من البخاري في هذا الصدد (الإصفهاني، القول الصراح: 73 ـ 89)، بل تعدّى نقد الإصفهاني هذا المجال العقدي ليطال المجال الفقهي؛ فقبل نقله بعض ما قيل عن فتاوى البخاري مثل نشر الحرمة بالرضاع من لبن الشاة، اعتبر ذلك شاهداً على «بلادته وبُعده عن الفقه» (القول الصراح: 90 ـ 92؛ وانظر: الهرساوي، الإمام البخاري وفقه أهل العراق: 126 ـ 127؛ ومواضع عديدة من هذا الكتاب؛ ومحمد حسن زماني، نكاهي به صحيح بخاري (بالفارسية)، مجلة علوم حديث، العدد 24: 96 ـ 97).

ويعدّ نقد الإصفهاني على البخاري وصحيحه من أشدّ النقود الشيعية عنفاً وتشدّداً وقسوةً في الكلام فليلاحظ ذلك بمراجعة كتابه؛ وإننا نربأ بفقيه مثل شيخ الشريعة أن يحاور خصومه بمثل هذه الطريقة العنيفة جداً، ونهيب بعلماء المسلمين من جميع الطوائف التخلّي عن هذا النوع من التهجّمات القاسية التي لا تليق بمكانة العالم؛ وإن كنا لا نحاسب أحداً والعياذ بالله.

وعلى أية حال، يلاحظ على هذا النقد كلّه:

أولاً: إنّ عقائد شخص لا تؤثر على وثاقته وخبرته ودقّته في مجال الحديث «فربّ حامل فقه غير فقيه وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (انظر: الكافي 1: 403؛ وسنن أبي داوود 2: 179 و..)، وقد ثبت في علم أصول الفقه أنّ عقيدة شخص لا تؤثر ـ مبدئياً ـ على رواياته بحيث تسقطها عن الاعتبار.

نعم، تلعب رواية الراوي لخبر لصالح عقيدته دوراً في تضعيف نسبة الوثوق كما بحثناه مفصّلاً في محلّه، لكنه لا يوجب سقوط كلّ رواياته عن بكرة أبيها، وإلا سقطت الروايات الشيعية التي يرويها الشيعة وتؤيّد عقيدتهم، وسقطت الروايات السنية التي يرويها السنّة وتؤيد عقيدتهم سقوطاً تاماً، فالإشكال كما يرد على البخاري يرد من طرف أهل السنّة على الكليني، ولا يختصّ بمصدر دون آخر من هذه الزاوية، الأمر الذي يهدّد الحديث الإسلامي عموماً.

ثانياً: إنّ بعض الروايات التي ذكرت شاهداً هنا على انحراف البخاري موجودة في المصادر الشيعية أيضاً، مثلاً خبر: «كلٌّ ميسّر لما خلق له» ورد في عوالي اللئالي وبحار الأنوار، بل ورد في كتاب التوحيد للصدوق تفسيرٌ لهذا الخبر لا يجعله دالاً على الجبر مرويٌّ مسنداً عن الإمام موسى الكاظم (عوالي اللئالي 4: 22؛ وبحار الأنوار 4: 282؛ والتوحيد: 356).

فلماذا يبرّر هذا الحديث في المصادر الشيعية ولا يبرّر إيراد البخاري له؟! ولماذا لا ينظر الناقد إلى وجود هذا الحديث في مصادر الشيعة مفسّراً بنحو لا يرد عليه إشكال الجبر؟! وحتى لو قال البخاري بالجبر فأيّ منقصة هذه إذا بنى ذلك على أدلّته ونظرياته ولو كانت خاطئة؟! فهذا الشيخ محمد كاظم الخراساني (1329هـ) أحد أكبر أعلام أصول الفقه المتأخّرين عند الشيعة الإمامية قد يكون قال بالجبر أو مال له مرّتين في كتابه (كفاية الأصول: 88 ـ 90، 298 ـ 302)، وانتقده بعض العلماء على ذلك، فهل يعني ذلك أن نتهجّم عليه بهذه الطريقة ونشكّك في علمه واجتهاده؟!

والأمر عينه على مستوى اعتقاد البخاري بمقولة الخوارج، والغريب أنّ رواية «الحياء من الإيمان» واردة في الكثير من مصادر الشيعة بسندٍ صحيح على الكثير من النظريات الرجالية عند الإمامية، ونقلها الكليني والصدوق والطوسي والحراني و.. (الكافي 2: 106؛ وعيون أخبار الرضا 2: 239؛ وتحف العقول: 394؛ والطوسي، الغيبة: 390 و..)، فكيف اُغمض النظر عنها هنا؟! وما يخرّج به هنا يخرّج هناك على المستوى الدلالي والسندي.

وهكذا الحال في عصمة الأنبياء؛ حيث توجد هنا وهناك روايات عند المسلمين قاطبةً تقدح بعصمة الأنبياء، وحتى لو لم يُقل بعصمتهم فهذا إشكال عقدي وليس مشكلاً معرفياً في قيمة الرجل واعتبار رواياته وكتبه، إلا بالمقدار الذي سبق أن بيّناه.

فقد روى الشيعة الإماميّة أنفسهم بعض الروايات التي تقدح حتى من وجهة نظرهم في عصمة الأنبياء، وأكتفي هنا بذكر مثالين:

المثال الأوّل: عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر الباقر قال: سمعته يقول: «وجدنا في بعض كتب أمير المؤمنين قال: حدّثني رسول الله أنّ جبرئيل حدّثه أنّ يونس بن متّى عليه السلام بعثه الله إلى قومه وهو ابن ثلاثين سنة، وكان رجلاً يعتريه الحدّة، وكان قليل الصبر على قومه والمداراة لهم، عاجزاً عمّا حمل من ثقل حمل أوقار النبوة وأعلامها، وأنه يفسخ تحتها كما يفسخ الجذع تحت حمله، وأنّه أقام فيهم يدعوهم إلى الإيمان بالله والتصديق به واتّباعه ثلاثاً وثلاثين سنة.. فلما رأى يونس أنّ قومه لا يجيبونه ولا يؤمنون به ضجر وعرف من نفسه قلّة الصبر فشكا ذلك إلى ربّه..» (بحار الأنوار 14: 392؛ وتفسير العياشي 2: 129؛ ولاحظ الخبر مسنداً في قصص الأنبياء للراوندي: 251).

المثال الثاني: صحيحة عبيد الله الحلبي، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «مكث رسول الله بمكّة بعد ما جاءه الوحي عن الله تبارك وتعالى ثلاثة عشر سنة، منها ثلاث سنين مختفياً خائفاً لا يظهر حتى أمره الله أن يصدع بما اُمر به، فأظهر حينئذ الدعوة» (الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة: رقم 29). ومثلها صحيحة محمّد بن مسلم (كمال الدين وتمام النعمة: 328، رقم 9)، والتي جاء فيها توصيف النبي محمّد بأنّه «.. مكث رسول الله بمكّة ثلاث سنين مختفياً خائفاً يترقّب ويخاف قومه والناس».

ولا أريد أن اتخذ موقفاً من مثل هذه الروايات، بقدر ما أريد أن أقول بأنّ المحدّثين رووا روايات هنا وهناك في قضايا تخالف عقائدهم هم في بعض الأحيان فليلاحظ جيداً.

والغريب الاحتجاج على البخاري بخلق القرآن، مع أنّ المحتجّ شيعيٌّ إمامي يقول بخلق القرآن؛ فلابد على نظريّته أن يمدح البخاري على مواجهته لما ساد عند أهل السنّة وذهابه إلى الحقّ الذي عليه الشيعة حسب طريقة شيخ الشريعة في تناول الموضوعات.. ومع أنّ شيخ الشريعة التفت إلى عدم إضرار الاعتقاد بقيمة الرواية، لكنّه جعل هذه الملاحظات مثبتةً حسب تعبيره لـ: «فساده في نفسه واختلال عقيدته ولو على مقتضى مذهبهم» (القول الصراح: 73 ـ 74)، مع أنّ البحث يفترض أن يكون برهانياً، لا جدلياً.

وأما القضايا الفقهية التي نسبت إليه وعدّت غريبة، فقد ذكرها الشيخ محمد صادق النجمي وبلغت حوالي العشرة فتاوى (أضواء على الصحيحين: 66 ـ 67)، ولا ترد كإشكال على البخاري لوحده؛ لأنه ما من فقيه عبر التاريخ عادةً إلا وله مثل هذا العدد من الفتاوى الغريبة بظاهرها بصرف النظر عن مدركها ومستندها، علماً أنّ بعض ما قيل: إنه فتاوى غريبة عجيبة، ليس فيه أيّ عجب في عالم الفقه الإسلامي، فقد حكم بجواز أن تخدم المرأة الرجل الأجنبي حتى لو كانت شابّة، وهذه فتوى يقول بها كثيرون اليوم ولعلّها المشهور عند الشيعة، ما لم يلزم محذور. وحكم بجواز استعمال المشط المصنوع من عظم الميتة، وهذا أيضاً ليس بالغريب فهل يحكم فقهاء الشيعة اليوم بحرمة هذا الاستعمال أم أقصاه على تقدير الرطوبة لزوم التطهير؟! ومن فتاويه طهارة محلّ المني بإزالة النجاسة كما يطهر بالغسل، وأيّ غرابة في ذلك؟! ففي الفقه مئات من هذه الفتاوى.

فقد حكم بعض فقهاء الشيعة في اللحم المشكوك التذكية بحرمة أكل اللحم وجواز أكل مرق ذلك اللحم، وبنى السيد الخوئي بحث النظر في المرآة لرؤية العورة في أحد تخريجين له على نظريّتي خروج الشعاع من العين والانعكاس، وحكم كثير من الفقهاء بنجاسة الماء المضاف ولو بقطرة دم حتى لو بلغ ألف مليار كرّ، وأجاز بعضهم في بحثه النظر إلى عورة الرجل والمرأة الكافرين بلا شهوة، بل لو عددنا الفتاوى الغريبة عند المسلمين لاحتجنا إلى مجلّدات، فأيّ غرابة بصدور مثل هذه الفتاوى؟! فاذا تساهل البخاري في تطهير موضع المني فهناك من الفقهاء الشيعة من ذهب لطهارة الخمر والإنسان الكافر، فما الفرق النفسي بين الاثنين؟!

إنها مجرّد استغرابات وطبائع وسلائق نسقطها على ما نسمعه مما لم نعتده في هذا المذهب أو ذاك، وإلا ففي كلّ المذاهب توجد هذه الفتاوى وعند كبار العلماء أيضاً، والمهم هو الدليل والحجّة.

هذا كلّه، فضلاً عن أنّ الناقد هنا لم يرشدنا إلى موضع كلام البخاري فيما نقله عنه من فتاوى، ولكنه اكتفى بنقل صاحب هذا الكتاب أو ذاك، ولو فعل السنّة هذا الشيء في تعاملهم مع عالم شيعي لوجدنا هذا الناقد يورد عليهم بأنه لابد من التأكّد من النسبة من المصادر الأصليّة.

وعليه، فلا موجب لاتخاذ موقف من القيمة الإجماليّة لكتاب البخاري ومسلم بمثل هذه المواقف الفقهية والعقديّة عند المحدّث، بعد أن كانت العبرة بدقّته وأمانته ومهنيّته في التعامل مع الحديث.

3 ـ كثرة الرواة الضعاف في كتب الحديث

ذكر بعض النقّاد من الإماميّة أنّ كتب الحديث السنيّة ملئية بالرواة الضعاف، وهذا يعني أنّ التركة الحديثية السنيّة مستقاة من ضعفاء الرجال لا من ثقاتهم. وهذه الإشكاليّة سجّلها الشيعة على السنّة، وأهل السنّة على الشيعة، وسجّلها السنّة على بعض كتب حديثهم وحاولوا الإجابة عنها، كما سجّلها الشيعة على بعض كتب حديثهم، وهناك من حاول الإجابة أيضاً.

ولتوضيح الأمر نلاحظ أنّ الشيخ محمد حسن المظفر (1375هـ) حاول في كتاب «دلائل الصدق» جمع الرواة الذين ضعّفهم السنّة، وموجودون في كتب الحديث الكبرى، معتمداً على المصادر السنية، فجمع 366 راوياً مضعّفاً، وينقل نصوصاً في تضعيف حتى أئمة العلماء عندهم مثل أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والترمذي، وابن حبان، والذهبي، وابن حزم (انظر: دلائل الصدق لنهج الحق 1: 7 ـ 286).

ثم عاد الشيخ المظفر نفسه وألّف كتاباً أضخم وأوسع يدعى «الإفصاح عن أحوال رواة الصحاح» (انظر: الذريعة 2: 258)، وقد طبع الكتاب مؤخّراً في أربعة مجلّدات، اعتمد مؤلّفه فيه على مصدرين أساسيين في علم الرجال السنّي هما: تهذيب التهذيب لابن حجر، وميزان الاعتدال للذهبي، كما يصرّح بنفسه (محمد حسن المظفر، الإفصاح 1: 5)، وقد استعرض في الكتاب 1651 راوياً ضعّفوا في كتب أهل السنّة، وهم موجودون في الصحاح.

وإلى جانب تجربة المظفر، كانت تجربة الشيخ عبد الحسين الأميني (1970م)، في المجلّد الخامس من موسوعته: الغدير، حيث سرد أسماء 702 من الكذابين باعتراف المصادر السنية، بل قام بحساب 35 وضّاعاً مع عدد المرويات الثابتة لهم فبلغ عدد أحاديثهم الموضوعة والمقلوبة 98683 حديثاً، وهذا كلّه يشهد لضعف الكتب الحديثية السنّية (الأميني، الغدير 5: 301 ـ 449).

وقد حاول الشيخ محمد صادق النجمي اعتبار العداء لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب بمثابة خدشة في الراوي تسقط حجية خبره، ذاكراً خمسة رواة وضاعين ومعارضين لعليّ هم: أبو هريرة، وأبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص بن وائل، وعبد الله بن الزبير بن العوّام، وعمران بن حطان، ولما اشتملت كتب الصحاح ـ ومنها البخاري ومسلم ـ على مثل هؤلاء الرواة، إذاً فقد أصبحت عنده كتباً ضعيفة (النجمي، أضواء على الصحيحين: 95 ـ 107؛ وانظر: محمد حسن زماني، نكاهي به صحيح بخاري، مجلة علوم حديث، العدد 24: 93).

والأمر عينه فعله شيخ الشريعة الإصفهاني (1339هـ) حين سرد في كتابه «القول الصراح» مشاهير المحدّثين عند أهل السنّة مستعرضاً ضعفهم، منهم من ذكره النجمي ومنهم غيرهم كعبد الله بن عمر (القول الصراح: 163 ـ 239).

وهذا ما فعله أيضاً السيد علي الميلاني المعاصر في كتابه (استخراج المرام من استقصاء الإفحام 3: 77 ـ 140)، حيث استعرض 106 من رواة الصحاح وذكر تضعيف علماء أهل السنّة لهم.

وكذلك السيد هاشم معروف الحسني (دراسات في الحديث والمحدّثين: 165 ـ 191)، وغيرهم ممّن أثار أيضاً إشكاليّة المدلّسين الموجودين في مصادر الحديث السنّي (انظر: الحلو، تاريخ الحديث النبوي بين سلطة النص ونصّ السلطة: 301 ـ 302، 304 ـ 305).

وهذا الإشكال، وإن بشكل مختلف، سجّلته الدراسات الحديثية السنّية القديمة والحديثة، فقد ذكر ابن الصلاح والنووي ما عيب على مسلم من روايته عن جماعة من الضعفاء (انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 1: 24 ـ 25)، وقد أفرد ابن حجر العسقلاني (852هـ) بحثاً موسّعاً في (هدي الساري) لدراسة الرواة الذين وردوا في صحيح البخاري، ومع ذلك جاءت عليهم طعون، مستعرضاً إياهم راوياً راوياً بالغاً عددهم المئات (هدي الساري لمقدّمة فتح الباري: 381 ـ 465).

هذا الإشكال يسجّل أيضاً داخل الجوّ الشيعي، والغريب أنّ بعض علماء الشيعة اهتموا كثيراً بهذا النقد على السنّة، كما اهتم السنّة به على الشيعة، ونسي كلّ واحد منهما ما عنده من أزمات وثغرات، فهذا الإشكال لا يخصّ المذهب السني ولا الشيعي، بل هو ظاهرة إسلامية عامة، ولتأكيد كلامنا نذكر أنّ الباحث حسين الساعدي أعدّ مؤخّراً دراسة في عدّة مجلدات صدرت عن دار الحديث الشيعية في مدينة قم الإيرانية، جمع فيها أسماء الرواة الضعاف ـ بتضعيف شيعي ـ الواردين في كتب الحديث الشيعية، ومنها الكتب الأربعة، وبلغ عددهم بعد الإحصاء والتتبع (407) من الرواة.

وكما ألّف السنّة في ضعاف الحديث عندهم كتباً مثل الضعفاء الصغير للبخاري، والضعفاء والمتروكين للنسائي، والضعفاء الكبير للعقيلي، والمجروحين لابن حبان، والضعفاء والمتروكين للدارقطني، والكامل لابن عدي، والمغني في الضعفاء للذهبي، والضعفاء والمتروكين لأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهم، كانت للشيعة دراسات أيضاً عرّفت بالضعفاء في كتبهم الحديثيّة، وإن كان الاهتمام أقلّ مما هو عند السنّة، مثل كتاب الضعفاء لابن الغضائري، والذي حوى مع جمع ما نقل عن ابن الغضائري من قبل العلماء (225) راوياً، والجزء الثاني من كتاب الرجال لابن داوود الحلي جمع فيه (565) من الضعفاء بشكل أو بآخر؛ والقسم الثاني من خلاصة الأقوال للعلامة الحلي وذكر فيه (509) من الضعفاء، والقسم الرابع من كتاب حاوي الأقوال، لعبد النبي الجزائري، جمع فيه الضعفاء مع المهملين فبلغوا (1168) راوياً، والقسم الثالث من إتقان المقال للشيخ محمد طه نجف وذكر المجروحين في المذهب والرواية فبلغوا (541) راوياً؛ ومعرفة الحديث للباحث المعاصر محمد باقر البهبودي، فقد وضع فيه فصلاً كاملاً للضعفاء بلغوا معه (150) راوياً.

هذا إذا اقتصرنا على تضعيف الرواة، أما لو حسبنا عدد رواياتهم فسوف نرى المشهد مذهلاً، فسهل بن زياد الذي ضعّفه السيد الخوئي له في الكتب الأربعة فقط (2304) روايات، وعلي بن أبي حمزة البطائني الذي ضعّفه كثيرون له فيها (545) رواية، ومحمد بن الحسن بن شمّون الضعيف الكذاب له فيها (140) رواية، وأمّا محمد بن سنان الذي ضعّفه غير واحد منهم الخوئي، فكانت له فيها (797) رواية (انظر حول روايات هؤلاء: معجم رجال الحديث 8: 341 ـ 342، و 11: 227، و 15: 224، و 16: 138)، إلى غير ذلك ممّن ضعّفوا عند بعض العلماء، هذا فضلاً عن المجاهيل المبثوثين في كتب الشيعة والسنّة.

بل إنّ الميرزا أبا الحسن الشعراني (1393هـ) يرى أن من بين كلّ ألف حديث هناك خمسون حديثاً كاذباً، وليس فقط غير ثابت، بل يترقّى بادّعاء الظن بعدم صدور خُمس روايات الشيعة، وليس فقط عدم ثبوت صدورها، مركّزاً أكثر على الروايات غير الفقهيّة (المدخل إلى عذب المنهل: 27، 44، 54)، وهو ما وصفه الشيخ رضا أستادي بالمبالغة، في تعليقه على كتاب الشعراني نفسه.

كما أنّ هاشم معروف الحسني يرى الضعيف من روايات الكافي أكثر من الصحيح، مذكّراً بأنّ أكثر من ثلثي الكافي ضعيف السند طبقاً لما ذكره المجلسي (الحسني، الموضوعات: 42 ـ 44)، ومشيراً لعدد من الضعاف في أسانيد رواة الكليني في الكافي (دراسات في الحديث والمحدّثين: 193 ـ 201)، كما أنّ البهبودي وضع من أصل (16199) رواية في الكافي (4428) رواية اعتبرها هي الصحيحة فقط، مسانداً كتابه بأنّ الروايات الصحيحة في الكافي عند الشيخ حسن ـ صاحب المعالم ـ بلغت حوالي (2000) رواية فقط (البهبودي، حوار صحيفة كيهان فرهنگي: 5؛ وآخرين كلام: 30، 33)، وكذلك يرى العلامة الطهراني أنّ أغلب ما في كتب الحديث عند الشيعة ضعيف من حيث السند (محمد حسين الطهراني، ولايت فقيه در حكومت اسلامي (فارسي) 1: 250 ـ 251).

أما حركة الشيخ آصف محسني حول بحار الأنوار فقد جعلت حوالي 5% من روايات هذا الكتاب صحيحاً والباقي كلّه ضعيف.. هذا فضلاً عن كتب بأكملها شكّك في صحتها برمّتها كتفسير القمي، وتفسير العسكري، والطب لابني بسطام، والفقه الرضوي، وغيرها.

إذن، هذا كلّه يؤكد أنه ليس إشكالاً شيعياً على السنّة ولا سنياً على الشيعة بل هو إشكالية عامة، لابدّ من دراساتها لرصد حجم تأثيرها، ولدينا هنا تعليقات:

التعليق الأوّل: إنّ ظاهرة كتب الضعفاء عنصر ضعف للحديث الشريف أم قوّة؟ إنّ هذا الحجم الكبير من الدراسات الرجاليّة النقديّة، منذ قديم الأيام وإلى عصرنا، عند السنّة والشيعة، شاهد على نضج حركة تقويم الحديث عند المسلمين، وعلى العقل النقدي الممتاز في هذا المجال، وعلى درجة كبيرة من الموضوعيّة داخل المذاهب الإسلاميّة، ومن ثم فهذه الكتب، تماماً ككتب التوثيقات، نقطة مضيئة في التراث الإسلامي، بصرف النظر عن التفاصيل؛ حيث تدلّ على تنبّه المسلمين عبر التاريخ إلى حركات الدسّ والجعل والتزوير، وهذا ما يعطي مزيداً من الاطمئنان بالروايات الصحيحة السند؛ لأنك عندما يخبرك شخص لا يُعرف عنه نقد الرجال والخبرة بالناس، بأنّ فلاناً ثقة معتمد نزيه، فإنّ درجة ثقتك بهذه الشهادة ستكون أقلّ بكثير مما لو شهد له بذلك في حقّه شخص نقّاد خبير بأمور الناس صاحب علاقات واسعة وتجارب كثيرة مع الحياة.. إنّ درجة الوثوق والسكينة في الثاني أكبر منها في الأوّل بشكل طبيعي؛ لهذا قلنا: إنّ كتب الضعفاء تمثل عندنا صمّام أمان واطمئنان لا مصدراً للقلق كما يراه بعضهم، فالشخص الذي لا يتعرّض من قبل نقّاد الرجال الشيعة والسنّة ـ على اختلاف انتماءاتهم وتوجّهاتهم ـ لأيّ نقد يمكن أن يحظى حديثه مبدئيّاً بالمزيد من الوثوق.

التعليق الثاني: إنّ هذا المشهد الذي استعرضناه سنياً وشيعياً، يؤكّد أنّ ما فعله أصحاب الكتب الستة والكتب الأربعة فضلاً عن غيرهم كان اجتهادات منهم اختلف حول بعضها العلماء أنفسهم؛ وحتى لو نجحت فكرة ابن الصلاح والنووي (انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 1: 25)، في أنّ تضعيف شخص ورد اسمه في الصحيحين يدلّ على أنّ نظر البخاري فيه الوثاقة فيما نظر المضعّف فيه الضعف.. فهذا الكلام جيد يحافظ على تعهّد البخاري بعدم رواية إلا الصحيح، فيما نقل عنه، لكنه لا يعني تعيّن ترجّح نظر البخاري تعبّداً على نظر غيره من المضعّفين، بل العكس هو الصحيح بناءً على النظرية التي تقول بتقدّم الجرح على التعديل، لاسيما لو تعدّد العلماء الذين طعنوا في هذا الراوي.

من هنا، فكلّ هذه الملاحظة تدعم نظريّتنا في عدم تعالي أيّ كتاب حديثي عن النقد؛ لأنّ جهود المحدّثين كانت اجتهادات منهم، واجتهد غيرهم بعكسها، حتى أنّ النووي نفسه يذكر أنّ هناك أحاديث كثيرة في صحيح مسلم اختلف حولها وحول صحّتها، فليس صحيحاً القول إنه وضع في الكتاب ما أجمع عليه، لهذا حاول النووي تأويل كلام مسلم (صحيح مسلم بشرح النووي 1: 16)، ويؤكّد هذا الأمر ما في هدي الساري من أنّ البخاري عرض كتابه على ابن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم، فاستحسنوه إلا في أربعة أحاديث قالوا: غير صحيحة (هدي الساري: 5).

وعليه، فلا معنى لما نقل عن الشيخ أبي الحسن المقدسي من أنّ الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح جاز القنطرة (المصدر نفسه: 381)، وقد حاول ابن حجر تخريج الموقف ـ وفعل ذلك قبله إلى حدّ ما ابن الصلاح والنووي ـ بأنّ الإجماع وإطباق الجمهور على تصحيح كتابي البخاري ومسلم في الذي يروونه في الأصول، أما ما يذكرونه في الشواهد والتعاليق والمتابعات، فإنّ الرواة هنا تختلف درجاتهم مع كونهم صادقين، ولهذا إذا جرح شخص في راوٍ منهم قدّم التعديل على الجرح؛ لتعدّد أسباب الجرح بحيث منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح (صحيح مسلم بشرح النووي 1: 25؛ وهدي الساري: 381 ـ 382).

لكنّ هذا الكلام غير دقيق من حيث عدم ثبوت قاعدة تقدّم التعديل على الجرح بشكل مطلق كما بحثناه في علم الرجال؛ لأنّ الجرح وإن اختلفت مناشؤه بحيث بعضها يقدح في العدالة وبعضها لا يقدح، إلا أنّه قد يلتقي مركز الجرح ومركز التعديل، فلو عدّله فهو يشهد بصدقه، فلو جرحه جارح ونصّ على أنّه كذاب، فكيف يمكن البقاء على تعديل المعدّل؟! مع أنّ الأقرب أنّ الجارح قد التفت إلى ما لم يره المعدّل من كذب هنا أو هناك.

يضاف إلى ذلك أنّنا بنينا في أبحاثنا في حجية قول الرجالي على الحجية من باب إفادة الوثوق والاطمئنان موافقين في ذلك بعض كبار العلماء مثل العلامة المامقاني (راجع نظريّته في: تنقيح المقال 1: 175، 176، 183)، وهنا نرى أنّ المعدِّل اجتهد أيضاً في التوصّل لعدالة الراوي ووثاقته، وربما لو ذكر لنا ما أقنعه بالوثاقة لما اقتنعنا معه، فجرح الجارح حتى لو لم يعلم منشؤه يحتمل اتحاد مركزه مع مركز التعديل، وهذا يخلّ بالاطمئنان عادةً، وليست كلمات المعدّل بمثابة البينة التي يؤخذ بها تعبّداً، حتى إذا شككنا في مركز الشهادتين سلمت البينة المعدّلة ولم تسقط، فترجيح تعديل البخاري على جرح الطاعنين غير صحيح بهذه الطريقة، بل المفترض ـ على الأقلّ ـ الحكم بالتساقط كما هي القاعدة الأوّلية في مجال التعارض عموماً.

علماً أنّ هناك (396) راوياً في الأصول و (75) راوياً في الشواهد والتعليقات ممن طعن عليهم على مستوى البخاري (راجع: محمد رضا جديدي نجاد، دانش رجال از ديدگاه أهل سنت: 200؛ وانظر الأرقام حول صحيح مسلم أيضاً ص: 205)، فكيف نجعل القضية وكأنها خاصة بروايات التعليقات والشواهد؟!

وحتى لو نجح ابن حجر في دراسته المطوّلة لمن طعن عليه في البخاري ودفاعه عن رأي البخاري فيهم (هدي الساري: 382 ـ 465)، فهذا لا يعدو كونه اجتهاداً في علم الرجال من ابن حجر نفسه، فنحن لا مانع عندنا بعد النقد السندي أو المتني أن تثبت كلّ روايات صحيح البخاري أو الكافي، إنما الذي نناقشه أن نأخذ بهذه الروايات دون ممارسة نقد سندي ومتني لها، وما ذكرناه يسمح بممارسة هذا النقد كما هو واضح، فليس البخاري ولا الكليني بفوق الرجال حتى يتعبّد بقولهم في الرواة والمتون، ولا يؤخذ معهم بل ولا يلتفت لقول النجاشي أو العقيلي أو ابن حبان أو النسائي أو ابن الجوزي أو ابن الغضائري أو الطوسي أو..

وأما محاولة النووي ـ تبعاً لابن الصلاح ـ تبرير رواية البخاري عن شخص طعن فيه بأنه قد يكون روى عنه حال استقامته، وطعنوا فيه بملاحظة ما بعد حال الاستقامة، ذاكراً عدداً قليلاً من الأسماء (صحيح مسلم بشرح النووي 1: 25).. هذه المحاولة تنفع عندما تكشف الوثائق والمعطيات التاريخية عن حصول تحوّل في هذا الرجل، كما في مثل سعيد بن عروبة ـ سنّياً ـ وبني فضال ـ شيعياً ـ لكن هذا لا ينفع في غير هذه الدائرة المحدودة، إذ لو حصل تحوّل في الراوي كان يفترض بالعلماء الإشارة إلى هذا الأمر الهام، فعدم ذكرهم للمئات من الرواة الذين وردوا في البخاري ومسلم وطعن عليهم من قبل غيرهم، غير واضح.

من هذا كلّه، نعرف أنّ ما فعله المحدّثون الكبار كان اجتهادات منهم ينبغي عدم التعبّد بها قبل مراجعة سائر الوثائق ومقارنتها، وهذا المشهد يساعد على تحديد درجة الوثوق بالروايات التي قدّمها هؤلاء المحدّثون من مختلف المذاهب.

التعليق الثالث: إنّ ورود هذا العدد من الضعاف في كتب الحديث الكبرى عند السنّة والشيعة، لا يوجب سقوط الكتب الحديثية سقوطاً مطلقاً؛ لأننا لو حسبنا عدد الرواة الضعاف إلى مجموع الرواة الواردين في كتب الحديث، فإنّ العدد لن يتجاوز الخمسة في المائة، فإذا نظرنا إلى كتاب «تنقيح المقال في أحوال الرجال» للمامقاني سنجد (16307) رواة مترجمين فيه، وإذا نظرنا إلى «معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة» للخوئي، سنجد (15706) من الرواة، وإذا نظرنا إلى «مستدركات علم رجال الحديث» لعلي النمازي الشاهرودي، لوجدناه يترجم (18189) راوياً، وهذه أكبر الموسوعات الرجالية الشيعية على الإطلاق.

وأما ما ذكره علماء أهل السنّة في كتبهم الرجالية فهو أيضاً أرقام كبيرة، ففي تهذيب التهذيب لابن حجر حسب الترقيم الموجود هناك (9151) راوياً، والتاريخ الكبير للبخاري جاء فيه (12315) راوياً، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي، جاء فيه (18040) راوياً، وأسد الغابة لابن الأثير الجزري حوى (7554) ترجمةً، والإصابة لابن حجر حوى (12267) ترجمةً، إلى غيرها من الكتب الرجالية.

وبعد حذف التكرار بين السنّة والشيعة، وحذف التكرار داخل الكتب، حيث يتكرّر اسم الراوي عدة مرات بالكنية أو غيرها.. سنحصل على ما لا يقل عن خمسة وعشرين ألف راوٍ، فإذا كان بينهم ألف أو ألفي شخص مضعّف على أبعد تقدير، فإنّ هذا يعني أقلّ من عشرة بالمائة من الرواة، وبعد الكشف عنهم ومعرفة أسمائهم، سيسلم لنا من التضعيف أكثر من عشرين ألف راوٍ، فهل يعني هذا الحساب سقوط تمام الروايات عند المسلمين؟! لو حصل هذا لسقطت كلّ كتب التاريخ عند البشر بل وغيرها؛ فلا حدود أربعمائة ضعيف في الحديث الشيعي يسقط صلاحية الاعتماد على أكثر من عشرة آلاف راوٍ، ولا ألف وستمائة ضعيف على أبعد تقدير عند السنّة يسقط هذا العدد أيضاً وما يزيد.

علماً أنّ دراسة حركة التضعيف كحركة التوثيق تبيّن أن بعضهم ضعّف لخلفيات عقائدية أو لقرب بعض الشخصيات من السلطة أو كونها معارضة وهكذا..

ولا نريد بذلك القول بأنّ سائر الرواة ثقات أو سائر الروايات صحيحة أو معتبرة، وإنّما نأخذ هنا بعين الاعتبار عنصر التضعيف، صارفين النظر عن عنصر المجهولية وعدم ثبوت توثيق أو تضعيف ولا تزكية ولا جرح ولا تعديل.

وبهذا نخرج باستنتاج موضوعي وهو أنّ مقارنة الضعفاء مع الموثقين مع المجموع يعطينا صورة أكثر دقّة في رصد واقع التجربة الحديثية وقيمتها، وإلا فإنّ استخدام التهويل أحادي الجانب لن يكون مفيداً ولا دقيقاً من الناحية العلميّة.

التعليق الرابع: إنّ طريقة المظفّر والأميني والساعدي وغيرهم في جمع المضعّفين، كانت تقوم على نصّ مضعّف لأيّ عالم سواء كان متقدّماً أم متأخراً كابن حجر والعلامة الحلي؛ ونحن نعرف أنّ توثيقات هؤلاء وتضعيفاتهم ليست بذات أهميّة قصوى، كما هي الحال في العلماء المتقدّمين، فليؤخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، وقد فصّلنا الكلام فيه في أبحاثنا في علم الرجال والجرح والتعديل، نعم ينفع هذا الأمر ـ جلاً ـ بناءً على من يأخذ باعتبار المواقف الرجالية للعلماء المتأخرين مثل ابن حجر عند كثير من أهل السنّة اليوم.

كما أنّ الحساب الذي قام به الشيخ الأميني لعدد روايات بعض الضعفاء فبلغ 98683 حديثاً هو مجرّد حساب افتراضي غير واقعي؛ لأنّ هذا الرقم يشكّل غالبية الأحاديث الموجودة في كتب الحديث اليوم عند المسلمين، فالذي فعله الأميني أنه نقل كلمات تاريخية عن أنّ هذا الوضّاع قال: وضعتُ أربعة آلاف حديث، وذاك قال: وضعت كذا وكذا حديثاً وهكذا.. ثم جمع هذه المنقولات فبلغت هذا الرقم، مما يوهم القارئ بأنّ هذا الرقم موجود في كتب الحديث اليوم، ويشعرك أنّ قرابة مائة ألف حديث قد سقط عند أهل السنة، وهذا فيه إيهام قد لا يكون مقصوداً للأميني؛ لهذا نحن لم نتّبع هذه الطريقة عندما عددنا روايات الرواة الضعاف عند الشيعة، بل ذكرنا الراوي وعددنا كم له الآن في الكتب الأربعة من روايات، وهذا هو الأصحّ لتقويم واقع الكتب الحديثية اليوم.

يضاف إلى ذلك أنّه لو كان العلامة الأميني قد اعتمد على الإقرارات التي نقلت عن الوضاعين والكذابين وكانت هذه هي عمدة معلوماته، فقد ذكرنا في بعض دراساتنا حول الحديث النبوي أنّ إقرار الواضع بالوضع قد يكون بنفسه إقراراً كاذباً يهدف من خلاله إلى تشويش الأمور على الناس، فكيف يمكن تصديق شخص بأنّه وضع الحديث، إذ لو صدّق لكان رجلاً كذاباً، ومع كونه كذلك كيف لا نحتمل أنه كذاب في نوعية الأحاديث التي زعم وضعها أو في عددها أو في موضوعها؟!. نعم، من الناحية الشرعية يؤخذ بإقرار المقرّ ويعاقب شرعاً؛ عملاً بموجب حجية الإقرار في باب القضاء. مع ذلك يفيد الإقرار الظنّ القويّ بحصول الوضع ويشكّل أمارة على ذلك قد تضاف إلى غيرها في هذا المجال.

وليس من البعيد أن نفصّل في هذا الأمر؛ وذلك أنّ العاقل لا يجلب الضرر إلى نفسه، فلماذا يقف شخص ليقرّ بأنه كذاب ويفضح نفسه أمام الناس إذا لم يكن كذاباً واقعاً؟! من هنا يجب أن ندرس ـ إذا توفرت المعطيات السياقية التاريخية ـ ملابسات صدور هذا الإقرار من صاحبه؛ فقد يلقى القبض عليه ويحال للإعدام بتهمة الزندقة مثلاً ـ كما حصل مع بعضهم ـ ثم يقرّ وهو على المقصلة بوضع كذا وكذا، إنّ هذا النوع من الإقرار ضعيف الإضاءة؛ لأنّ الرجل يعرف بأنه ميّت، وأنّ صورته عند الناس مشوّهة، فلعلّه أراد الانتقام منهم في تحويله إلى الموت، لاسيما إذا أكثرَ من الأرقام التي وضعها في الحديث، كأن يتحدّث عن آلاف الأحاديث أو عن الدسّ في الكتب بشكل كبير دون وجود اسمه في الأسانيد.

أما لو لم يكن الأمر كذلك، بل عرفنا من ملابسات الإقرار أنه رجلٌ تاب إلى الله وصار إنساناً صالحاً، ثم عرف بالصلاح فيما بعد، فإنّ هذا الإقرار تغدو إضاءته قوية جداً وفقاً للمنطق الاحتمالي العقلاني، إذ ما الداعي لإنسان صالح أن يفضح نفسه وتاريخه إلا أن يكون تقياً يخشى الله تعالى؟! إنّ رصد ملابسات صدور الإقرار يظلّ هو المعيار في حجم وثوقنا بمضمون هذا الإقرار.

يضاف إلى ما تقدّم، أنّ الإقرار لابدّ أن يثبت بطريق معتبر شرعاً وعقلائياً، فلا يكفي تداول إقرار شخص ما في كتب الحديث والدراية لترتيب النتائج على ذلك دون إثبات هذا الإقرار؛ إذ ثمة احتمال في أن يكون خصوم هذا الراوي قد نسبوا إليه هذا الإقرار ـ ولو بعد وفاته ـ لتشويه صورته أو إسقاط مروياته التي لا ينسجمون فكرياً وعقدياً معها.

من هنا، لا يصحّ الاستعجال في البناء على إقرارات الوضّاعين المنسوبة إليهم، لاسيما للتوصّل إلى نتائج بحجم تلك التي ابتغاها العلامة الأميني.

وفي هذا السياق نلاحظ أنّ بعض أهل السنّة يركّز كثيراً على الروايات التي يشهد فيها أهل البيت بكثرة الكذابين عليهم، ويرون ذلك دليلاً على ضعف الحديث الشيعي. والغريب أنّهم نسوا أنّ مثل هذا النصوص مرويّ عن رسول الله وعن الصحابة أيضاً، فهل يعني ذلك الحقّ في ترك كلّ الروايات النبويّة؛ لأنّ النبي شهد بأنه ستكثر عليه الكذابة أو أنّ هذه النصوص تستدعي النظر والتأمل والفحص التاريخي والرجالي والنقدي لاستجلاء الحقيقة وتمييز الغث من السمين؟

وأشير أخيراً إلى أنّنا غير ملزمين لا بنظريات الإخباريين الشيعة والمحدّثين السنّة في تصحيح الروايات، ولا بإنقاصات الشعراني ولا البهبودي ولا آصف محسني ولا محمود أبو رية ولا الألباني ولا صاحب المعالم ولا صاحب المدارك ولا هاشم معروف الحسني ولا غيرهم.. فلا يفترض أن يدفعنا موقف الأوائل للوثوق بالحديث، ولا موقف غيرهم لسحب الثقة به، بل المهم الرجوع إلى الشواهد والأدلّة لكلّ طرف للنظر فيها؛ لا التقليد والاتباع، بل التجديد والإبداع.

4 ـ مشكلة التعصّب والانحياز في التجربة الحديثية للبخاري، وقفة وتأمّل

وجّه هذه الملاحظة النقّاد الإماميّة على بعض الصحاح السنية، وخاصّة صحيح البخاري، ويوجّهها النقّاد السنّة على بعض كتب الحديث الشيعيّة، وحصيلة هذه الملاحظة أنّ هذه الكتب لم تكن متعالية عن التعصّب والإفراط في الانحياز.

وعلى مستوى النقد الشيعيّ على المصادر السنيّة في هذه النقطة، فقد اعتبر النقّاد أنّ ذلك في البخاري أكثر منه في مسلم، وقد ذكروا لذلك مجموعة من الشواهد الأمر الذي يشكّك في نزاهة هؤلاء المحدّثين الكبار، ومن ثم عدم إمكان الاعتماد على كتبهم، ونحن نذكر كلّ شاهد ونعلّق عليه:

4 ـ 1 ـ سياسة التعتيم على فضائل أهل البيت، رصد ونظر

الشاهد الأوّل: سياسة التعتيم على فضائل عليّ وأهل بيته؛ فالبخاري لا يأت على منقبة لعلي إلا ويعتّم عليها كحديث الغدير، وآية التطهير، وحديث أنا مدينة العلم وغيرها الكثير، لهذا قلّما نجد منقبة لعلي وآله في البخاري، في حين ذكر باباً خاصاً لمعاوية، ولما لم يجد له رواية عن رسول الله نقل في مدحه خبراً لابن عباس وآخر أيضاً (القول الصراح: 25 ـ 38؛ وأضواء على الصحيحين: 108 ـ 110؛ واستخراج المرام 2: 393 ـ 394؛ ومحمد حسن زماني، نكاهي به صحيح بخاري، مجلة علوم حديث، العدد 24: 93 ـ 95).

بل إنّ كتاب المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري يعدّ بنفسه شهادةً صارخة على مقدار تحيّز البخاري ومسلم في كتابيهما، وأنّه لمّا كشف الحاكم عن المقدار الذي أخفياه، وغالبُه من قضايا الخلاف المذهبي الذي ينتصر لعليّ وآل علي بن أبي طالب، شنّ التيار السنّي التقليدي هجومه على النيسابوري واتهموه بالتساهل (راجع: الحلو، تاريخ الحديث النبوي بين سلطة النص ونصّ السلطة: 308 ـ 318؛ وانظر نماذج من كلماتهم في الحاكم النيسابوري عند: الذهبي، سير أعلام النبلاء 17: 168؛ وميزان الاعتدال 3: 608؛ وابن حجر، لسان الميزان 5: 233).

وتعليقنا هنا أنّ هذا الشاهد وارد ملحوظ بالمقارنة بين البخاري وغيره، لكن يجب تحديد مستواه، فإنه تكمن المشكلة فيه أنه يتعامل مع البخاري على أنه معتقد بالتشيّع بمعناه الخاصّ عند الناقد، ولما لم يرو هذا الحديث أو ذاك اعتبره معانداً يمارس سياسة تعتيم، ونحن لا نبرّؤ أحداً من أيّ تهمة؛ لكن الصورة التي قدّمها الناقدون تكاد تكون غير دقيقة بعض الشيء، فقد خصّص البخاري بحثاً لمناقب علي وذكر فيه حديث المنزلة، وحديث يا علي أنت مني وأنا منك، وحديث رضا النبي عنه، وحديث إعطاء الراية في خيبر، ورواية لعمر في مدح علي، وتسبيحة الزهراء، كما خصّص باباً لمناقب جعفر بن أبي طالب، وباباً لقرابة الرسول، وباباً لمناقب عمار وحذيفة، وباباً للحسن والحسين؛ وباباً لمناقب فاطمة (انظر: صحيح البخاري 4: 207 ـ 210، 215 ـ 217، 220).

 ونحن لا ننكر أنه اهتمّ أكثر بأبي بكر وعمر وعثمان وعائشة، ربما انسجاماً مع عقيدته، وربما كان لا يقدر على الإكثار من مناقب علي لظروف تحيط به كما حصل مع النسائي في بلاد الشام، وليس كلّ الناس مثل بعضهم، دون أن نعذر أحداً أو نتهمه.

نعم، نحن نوافق على أنّ أغلب المحدّثين في كلّ طائفة كان متحيّزاً وكان يترك بعض الروايات التي لا تنسجم معه ويأخذ ببعضها الآخر، أليس هذا الإشكال يمكن أن يورده السنّي على محدّثي الشيعة، ويقول: من بين كلّ فضائل الصحابة ـ وهي روايات بالمئات ـ عتّم الشيعة عليها كلّها إلا على فضائل أهل البيت وعلى بعض الصحابة المحسوبين على علي، أليس هذا بغضاً وتعتيماً لو كان ما فعله البخاري تعصّباً وتعتيماً؟! علماً أنّ أهل السنّة ـ كابن حنبل، والترمذي، ومسلم، والنسائي، والحاكم، والموصلي، وابن أبي شيبة، والطبري، والطبراني، والمتقي الهندي و.. ـ رووا باعتراف الشيعة مئات الروايات في حقّ علي وأهل بيته، ولطالما استفاد منها الشيعة لصالح نظرياتهم، منها حديث الغدير، والثقلين، والمنزلة، والراية، والدار، والأحاديث الواردة في تفسير بعض الآيات كالتطهير والولاية وغيرها، بصرف النظر عن تحليلهم الدلالي لها، أما الشيعة الإماميّة فنادراً ما يروون مدحاً في حقّ أحد من متقدّمي المسلمين إلا إذا كان من حزب الإمام علي، فأين الإنصاف والتعصّب لو صحّ الإشكال المتقدّم؟!

نعم، نحن من أشدّ المؤمنين بحصول تعتيم في مصادر التاريخ والحديث، وحصول انحيازات، بل نحن نعتقد ـ كما بحثناه مفصّلاً في دراساتنا في علم الرجال ـ بأنّ علماء الجرح والتعديل حكّموا نظرياتهم في تقويم الرجال، فأحياناً ـ وليس دائماً ـ إذا لم يوافقهم الراوي في نظرياتهم العقائدية تركوا روايته وطعنوا به، وقد أوردنا بعض أمثلة ذلك. ولكنّ هذا شيء لا يختصّ بالبخاري ومسلم، وإنما يشمل عموم محدّثي الإسلام إلا من شذّ وندر، والبخاري منهم، بل يستوعب المؤرّخين أيضاً.

علماً ـ بعد هذا كلّه ـ أنّ البخاري وحتى غيره من أئمة الحديث السني والشيعي لم يقولوا بأنّ ما لا يذكرونه هو غير صحيح باعتراف السنّة والشيعة، من هنا فعدم ذكر خبر لا يدلّ على كذبه فيما أخبر عنه في كتابه حتى يسقط كتابه أو كتاب غيره عن الاعتبار؛ لأنّ عدم ذكر المحدّث لخبر له تفسيرات كثيرة لا تبطل صدقه فيما أخبر، نعم هي ملاحظة تسجّل عليه في بعض الموارد، فلا تجاهل محدّثي الشيعة لما يراه السنّي فضائل الصحابة يوجب كذبهم فيما أخبروا به من فضائل علي، ولا تجاهل السنّي كذلك يوجب ذلك.

نعم، هذا كلّه يجعلنا ننظر بواقعيّة لمنجزات المحدثين وتأثير انتمائهم الفكري، فلا يحقّ بعد ذلك أن نشكّك في حديث الغدير؛ لأنّ البخاري لم يروه، كما فعل ابن تيمية في كتابه «منهاج السنة»، فعدم الرواية يمكن أن نعتبره انحيازاً وانتماءً، لكن لا يعني ذلك أنّ الرواية كذب وافتراء، وما نقله ابن تيمية عن البخاري وابراهيم الحربي من طعنهم في حديث الغدير دعوى لم يُقم عليها دليلاً.

وأخيراً، من لطيف ما رأيت أنّ الدكتور شكيب بن بديرة الطبلبي، وهو من علماء الشيعة التونسيين المعاصرين، يرفض تهمة مجافاة البخاري لأهل البيت (وقليلاً ما يحصل هذا في الوسط الشيعي)، مستشهداً بحديث رواه البخاري مقتطعاً لرسول الله| في حقّ علي%: «أنت مني وأنا منك» (صحيح البخاري 3: 168، و4: 207، و5: 85؛ والحديث بسياقه رواه الحاكم في المستدرك 3: 120)، فإنّ هذا الحديث مقتطعاً ـ كما أورده البخاري ـ دلالته في حقّ عليّ أقوى منها ضمن السياق الأصل الذي كان فيه من وجهة نظر الطبلبي (شكيب بن بديرة الطبلبي، أطوار الاجتهاد ومناهجه 3: 146 ـ 147).

4 ـ 2 ـ موقف البخاري السلبي من الإمام الصادق×، وقفة تأمّل

الشاهد الثاني: الموقف الذي اتخذه البخاري من الإمام جعفر الصادق حيث لم يرو عنه في صحيحه ولا حديثاً واحداً، فيما روى عن الخوارج وعن المعادين لأهل البيت، ومنهم عمران بن حطان زعيم الخوارج وعالمهم، ومروان بن الحكم طريد الرسول (راجع: جعفر السبحاني، الحديث النبوي بين الرواية والدراية: 71)، مع قرب عهد البخاري بالصادق، فالإمام الصادق توفي عام 148هـ، فيما توفي البخاري عام 256هـ، والصادق كانت المدينة مركز تدريس له لسنوات والبخاري استوطنها لست سنوات أيضاً يأخذ من علمائها الذين أخذوا عن الصادق وغيره، أو أخذوا عمّن أخذ عن الإمام الصادق وغيره؛ بل إنّ البخاري خرّج أحاديث عن رواة رووا عن الصادق× مثل عبد الوهاب الثقفي، وحاتم بن إسماعيل، ومالك بن أنس، وهؤلاء كانوا مشايخ علم للبخاري، مع ذلك لم ينقل عنهم البخاري أيّ حديث عن الإمام الصادق.

وقد حاول ابن تيمية تبرير عدم رواية البخاري عن الإمام الصادق بأنّ البخاري استراب في بعض حديث الصادق لمّا بلغه أنّ ليحيى بن سعيد القطّان فيه كلام.

وهذا الكلام غير مقبول؛ فالصادق لم يكن رجلاً مجهولاً أو حوله لغط بل كان علَماً مشهوراً بالعلم والدين والتقوى، فكيف يستريب فيه البخاري لمجرّد أنه سمع كلاماً من شخص واحد في حقّه، والبخاري خبير في الرجال خبرةً واسعة، إذاً فلا معنى لما فعله البخاري سوى التعصّب والعناد. بل إنّ البخاري ومسلم لم يخرّجا ولا حديثاً عن الإمام الحسن، ولا الإمام موسى بن جعفر، ولا الإمام علي بن موسى الرضا، ولا الإمام محمد الجواد، ولا الإمام علي الهادي، ولا حتى الإمام العسكري المعاصر للبخاري، ولا حتى عن أبنائهم، كالإمام زيد بن علي والحسن بن الحسن المثنى، وحتى عندما روى البخاري عن الإمام علي بن الحسين نقل عنه رواية أنّ علياً وفاطمة ما كانا يستيقظان للصلاة، ونسب إليه حديثاً في شرب حمزة بن عبد المطلب للخمر!

والغريب أنّ ابن تيمية لم ير نسبةً بين الزهري والصادق في الحديث، وأنّ القطان كان يرى في نفسه شيئاً من الصادق، ويرى أنّ مجالد بن سعيد أحبّ إليه منه، كما أنّ الذهبي ينقل هذا دون أن يعلّق رغم توثيقه للإمام الصادق، مع العلم أنّ مجالد بن سعيد قد طعنوا فيه (انظر: القول الصراح: 39 ـ 72؛ وقاموس الرجال 12: 8؛ وأضواء على الصحيحين: 110 ـ 114؛ واستخراج المرام 2: 395 ـ 407؛ وهاشم معروف الحسني، دراسات في الحديث والمحدّثين: 167 ـ 176؛ ومحمد حسن زماني، نكاهي به صحيح بخاري، مجلة علوم حديث، العدد 24: 93 ـ 94).

بل ينصّ الذهبي على أنّ البخاري يتجنّب الرافضة كثيراً ربما لتديّنهم بالتقية، ولا يتجنّب القدرية ولا الخوارج ولا الجهمية، فإنهم على بدعهم يلتزمون الصدق (ميزان الاعتدال 3: 160).

ودراسة هذا الشاهد تكون بذكر نقاط:

أولاً: إذا أردنا أن نحلّل حجم هذا الإشكال فيجب أن تكون لدينا نظرة شمولية مقارنة؛ مثلاً لم يروِ البخاري عن عثمان بن عفان سوى تسعة أحاديث، ولم يرو عنه مسلم سوى خمسة، ولم يرو البخاري عن أبي بكر سوى اثنين وعشرين حديثاً، ولم يرو عن الزبير سوى تسعة أحاديث، فيما روى عنه مسلم حديثاً واحداً، ولم يرو البخاري عن طلحة سوى أربعة أحاديث، وعن ابن عوف سوى تسعة أحاديث (انظر: أضواء على السنّة المحمدية: 224 ـ 225؛ ونظرة عابرة: 42 ـ 43).

هذا معناه أنّ عدم التحديث أو قلّة التحديث ليست ناتجة عن عصبية فقط، بل قد تفتح الباب لاحتمالات أخرى يجب درسها قبل حصر تفسيرنا بهذا التفسير.

وهكذا نجد للبخاري وغيره توثيقات لمن يختلفون معهم في المذهب والرأي، وأذكر على سبيل المثال فقط ما قاله في حقّ أيوب بن عائذ الطائي: «كان يرى الإرجاء، وهو صدوق»، وما قاله في حقّ الصلت بن مهران التيمي الكوفي: «كان يُذكر بالإرجاء.. صدوق في الحديث» (البخاري، الضعفاء الصغير: 22، 62).

ثانياً: إنّ ما نقله ابن تيمية والذهبي من تفسير موقف البخاري من الإمام الصادق لا دليل عليه، فلم يذكر ذلك البخاري في كتبه الرجالية عندما ترجم الإمام الصادق (انظر: التاريخ الكبير 2: 198)، ولم يورده في كتاب الضعفاء الصغير، ولم يذكر لنا ابن تيمية من أين أتى بهذه المعلومة عن البخاري؟ ولماذا لم ينقل أحد قبل ابن تيمية والذهبي وابن حجر هذا الكلام عن البخاري؟ بل إنّ الموجود في تاريخ يحيى بن معين أنه سأله يحيى بن سعيد: ما لك لا تسأل عن حديث جعفر بن محمد، فقلت: ما أصنع بها؟ فقال يحيى بن سعيد: كان يحفظ هذه الأحاديث الأسانيد (كذا) قال يحيى [بن معين]: كان جعفر بن محمد ثقة مأموناً (تاريخ ابن معين (الدوري) 2: 230).

بل قد نقل القصّة الذهبي نفسه في ميزان الاعتدال، وجاء في جواب يحيى بن سعيد: «إن (إنه) كان يحفظ فحديث أبيه المسدّد» (ميزان الاعتدال 1: 415؛ وصدر الجملة بكلمة «إنه» موجود في تهذيب التهذيب 2: 88)، بل ينقل ابن حجر عن إسحاق بن حكيم عن يحيى بن سعيد أنّ جعفر بن محمد ما كان كذوباً (تهذيب التهذيب 2: 88).

وهذا كلّه معناه أنّ هذا الكلام المنقول عن البخاري، لا دليل يثبته، وأننا وجدناه مع ابن تيمية في القرن الثامن الهجري، علماً أنّ أئمة الجرح والتعديل عند أهل السنّة قد وثقوا جعفر بن محمد الصادق ونقلوا مدحاً له، كما جاء في تاريخ ابن معين، ومعرفة الثقات للعجلي، وضعفاء العقيلي، بل نقل ابن أبي حاتم نصوصاً عن يحيى بن سعيد الأنصاري وأبي زرعة ويحيى بن معين والشافعي و.. في توثيق الصادق (انظر: تاريخ ابن معين (الدارمي): 84؛ و(الدوري) 1: 111، و 2: 230؛ ومعرفة الثقات 1: 270 ـ 271؛ والضعفاء 2: 250؛ والجرح والتعديل 2: 487؛ وانظر أيضاً: ابن شاهين، تاريخ أسماء الثقات: 54).

نعم، كلام يحيى بن سعيد وجدناه عند ابن عدي في الكامل مسنداً، لكن ابن عدي نقل مواقف ايجابية عديدة من الصادق (الكامل في ضعفاء الرجال 2: 131 ـ 134)، ولهذا احتمل الدكتور صلاح الدين الإدلبي أن يراد بجعفر بن محمد هنا شخص آخر، وأنّه حصل التباس عند ابن عدي وغيره في هذا الأمر، وإن كان هذا الاحتمال عندي غير واضح.

كما أنّ المزي في تهذيب الكمال وغيره ذكر أن يحيى بن سعيد القطان قد روى عن الصادق (تهذيب الكمال 5: 76؛ وسير أعلام النبلاء 6: 256)، ونقلوا عنه قوله: إنه ـ أي جعفر بن محمد ـ ما كان كذوباً (لاحظ ـ على سبيل المثال ـ: تهذيب الكمال 5: 76 ـ 77)، والنقل الأخير في سنده إسحاق بن حكيم وهو مجهول الحال.

والملفت أنّ ابن حبان (354هـ) يقدّم لنا نصاً هاماً هو ـ على ما يبدو ـ من أقدم النصوص في هذا المجال، حيث يقول لدى ترجمة الإمام الصادق: «.. يحتجّ بروايته ما كان من غير رواية أولاده عنه؛ لأنّ في حديث ولديه عنه مناكير كثيرة، وإنما مرّض القول فيه من مرّض من أئمتنا لما رأوا في حديثه من رواية ولده عنه أشياء ليس من حديثه، ولا من حديث أبيه، ولا من حديث جدّه، ومن المحال أن يلزق به ما جنت يدا غيره..» (الثقات 6: 131).

هذا النصّ هناك العديد من العلامات التي تدعمه في الثقافة السنية؛ لأنّ أهل السنّة كانت لهم مواقف سلبية من الشيعة المحيطين بالأئمة وكانوا يتهمونهم بالكذب، والسبب في ذلك روايتهم الروايات العقائدية الشيعية في حقّ أهل البيت من معاجز وكرامات ومقامات وغير ذلك، والروايات الطاعنة في الشيخين وبعض الصحابة؛ فليس من البعيد أن يكون تحفّظُ من تحفّظَ ناتجاً عن عدم قدرة السنّة ـ من وجهة نظرهم ـ الوصول إلى سند صحيح يربطهم بالإمام الصادق، أو حصول شك في أمره من حيث كثرة هذه الروايات التي هي في عقيدتهم من المناكير، لهذا وجدنا اهتماماً بنقل أحاديث عن الصادق في براءته مما نسب إليه من سبّ أبي بكر (انظر تفصيلها عند: المزي، تهذيب الكمال 5: 80 ـ 83؛ وسير أعلام النبلاء 6: 258 ـ 261؛ وراجع في أسباب تحفظ المحدّثين السنّة من رواية الشيعي دون الخارجي: محمد علي قاسم العمري، دراسات في منهج النقد عند المحدّثين: 369 ـ 391، حيث قدّم مبرّرات يمكن المناقشة في بعضها، لكنّها توضح أنّ هذا النهج لم يكن لموقف عقدي فقط بحسب رأيه).

وعلى أية حال، فلا دليل يدلّ على أن عدم رواية البخاري عن الإمام الصادق جاءت من حيث تشكيكه به شخصياً أو اتّباعه فيه ما نقله ابن عدي عن يحيى بن سعيد القطان، الذي علّق عليه الذهبي بالقول: «هذه من زلقات يحيى القطان. بل أجمع أئمة هذا الشأن على أنّ جعفراً أوثق من مجالد، ولم يلتفتوا إلى قول يحيى..» (سير أعلام النبلاء 6: 256).

والغريب من السيد علي الميلاني تهجّمه على الذهبي في هذا الموضوع مع أنّ الذهبي وصف جعفر بن محمد بالصادق على الطريقة الشيعيّة في (الكاشف 1: 295) و(تذكرة الحفاظ 1: 166)، ووصفه في (ميزان الاعتدال 1: 414)، بـ «أحد الأئمة الأعلام، برّ صادق كبير الشأن»، فمحاولة الذهبي وابن تيمية تبرير عدم رواية البخاري بما قاله القطان مجرّد اجتهاد منهما لا دليل عليه.

ثالثاً: لنفرض أنّ البخاري ـ حقداً وعناداً وتعصّباً ـ لم يرو عن الإمام الصادق وأولاده، لكنّ هذا لا يعني كذبه فيما روى عملياً، فهذا الكليني والطوسي والصدوق لم يرووا خبراً عن أئمة الفقه والحديث السنّي إلا ما شذّ وندر، وإلا إذا كانت فيه احتجاجات عليهم في سياق سجالي، وإذا كان الشيعي يرى الإمام الصادق فوق النقد، فإنّ السني لا يراه كذلك، علماً أنّ السني يرى الشافعي ومالك وأبا حنيفة وابن حنبل والبخاري ومسلم و.. وجوه الإسلام وأئمةٌ مجمعٌ على علمهم وإتقانهم وإيمانهم، والخدش فيهم خدش مذهبي كما يخدش سنّي في شيعي وبالعكس، فكيف نحاسب من طرف واحد؟!

ولا نقول بأنّ هذه الظاهرة عند البخاري غير ملفتة؛ لكنها عامة بدرجة أو بأخرى؛ فلا داعي لجعلها مسقطة لحجية رواياته، بل هي على أقصى تقدير شاهد على انتقائية المحدّثين. بل نقل عن البخاري مواقف متشدّدة من أبي حنيفة ومذهبه، فليست القضية قضية موقف من الشيعة فقط، بل قيل: إن الحميدي كان يقول عن أبي حنيفة (أبو جيفة)، وأن البخاري تأثر به وبإسماعيل بن عرعرة؛ ولهذا بدأ كتابه بحديث عن مسند الحميدي (لمزيد من الاطلاع انظر: تاريخ بغداد 13: 408؛ وابن النجار البغدادي، الردّ على أبي بكر الخطيب البغدادي: 82؛ والشيخ حسين غيب غلامي الهرساوي، الإمام البخاري وفقه أهل العراق: 131 ـ 132؛ وله أيضاً: البخاري وصحيحه: 23 ـ 33؛ سلسلة الندوات العقائدية (3)، مركز الأبحاث العقائدية، إيران).

إذن، فهذا النقد العنيف المتبادل ظاهرة عامة بين كبار علماء السنّة أنفسهم لاختلاف الاتجاهات العقدية وغيرها آنذاك (انظر نماذج لها عند: الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 13: 325 ـ 426 (ترجمة أبي حنيفة النعمان)؛ وحسن بن فرحان المالكي، الصحبة والصحابة: 5 ـ 8)، وموجودة بين السنّة والشيعة، بل بين الشيعة أنفسهم (انظر نماذج لها عند: أحمد أبو زيد، محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة 1: 51 ـ 70، المقدمة)، فهي جوّ عام.

رابعاً: إنّ عدم رواية البخاري عن الإمام الرضا وموسى بن جعفر عليهما السلام، ربما كانت لوجود بعض الجدل السنّي حولهما جرياً على ثقافته، لا تعمّداً للحقد؛ كما أنّ عدم روايته عن الجواد والهادي والعسكري ربما لأنهم كانوا قليلي الرواية جداً، وقلّما يلتقي بهم أحد، لاسيما العسكري كما نعرف.

وخلاصة القول: لا نفهم مبرراً واضحاً للبخاري في تجاهله كلّ هذا الحشد من أهل البيت في كتابه، لكننا لا نرى في ذلك موجباً لسقوط كتابه بأكمله عن الاعتبار وضعف أحاديثه، ونتيجة ذلك أن لا يكون عدم رواية البخاري في حقّ أهل البيت أو عنهم معياراً لتقويم روايات غيره، بحيث نقول: لم يروه البخاري إذاً فليس بشيء أو ينبغي النظر إليه بعين الريبة أو ما شابه ذلك، فإنّ البخاريّ فيما يبدو لم يرو الكثير ممّا صحّ مهما كان مبرّره ومهما وافقناه عليه أو لم نوافقه.

ويهمّنا هنا أن نشير إلى نقطة بالغة الأهميّة، وهي أنّه يؤخذ على الكثير من أهل الحديث السنّة ومن علماء الجرح والتعديل عندهم أنّهم اتخذوا مواقف غير منصفة في حقّ أتباع أهل البيت والعلويين والشيعة، فيما كانوا أقلّ من ذلك في حقّ الخوارج والنواصب وغيرهم، وقد أفاض السيد محمد بن عقيل العلوي الحسيني الحضرمي (1350هـ)، في عتابه على أهل الحديث والرجال في هذا الأمر، فأفرد لهم كتاباً هامّاً تحت عنوان «العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل»، ضمّنه الكثير من الملاحظات والمناقشات والشواهد والتعليقات، وهو كتاب يستحق التأمّل والمراجعة، وقد أشار لهذه القضية ولعكسها أحمد أمين في بعض كتاباته (راجع: فجر الإسلام: 217).

ونحن نوافق على ذلك، لكن ينبغي تحديد حجم الإشكاليّة بحيث لا نفرط في التهمة، فالمحدّثون السنّة جاء في كتبهم وصحاحم ما يزيد عن مائة وستين راوياً شيعياً ولهم آلاف الروايات، وقد سئل يحيى بن معين عن سعيد بن خُثيم الكوفي فقال: كوفي، ليس به بأس، ثقة، قال: فقيل ليحيى: شيعي، فقال: وشيعي ثقة، وقدري ثقة (تهذيب الكمال 10: 414؛ وميزان الاعتدال 2: 133؛ وتهذيب التهذيب 4: 20؛ وقد فسّر بعضهم هذا الجواب من يحيى بأنه استفهام إنكاري، ولكنّه غير واضح، فانظر: أحمد حسين يعقوب، نظرية عدالة الصحابة: 148)، وهناك من يعتقد ـ مثل صلاح الدين الإدلبي ـ بأنّ ما جاء في تضعيفات علماء الجرح والتعديل السنّة بحقّ بعض الشيعة لم يكن كلّه لجانب التضعيف في الرواية، بل لجانب التضعيف في العقيدة، وهي مسألة تحتاج لمزيد تأمّل.

وهكذا الحال على المقلب الشيعي، حيث ورد الكثير من الرواة السنّة، بآلاف الروايات دون تحفّظ ما دامت الوثاقة محرزة عند هذا المحدّث أو ذاك، مثل السكوني وغيره.

وعلى أيّة حال، فهذا البحث لا نخوض غماره الآن؛ لأنّنا فصّلنا الكلام فيه في دراساتنا حول قواعد علم الرجال والجرح والتعديل، عند الحديث عن قيمة مواقف المحدّثين وعلماء الرجال في مجال التوثيق والتضعيف والجرح والتعديل، كما أشار لبعض شواهده بعض الباحثين المعاصرين (انظر ـ على سبيل المثال ـ: جعفر نكونام، التراث الحديثي عند السنّة والشيعة، المدرجة في كتاب: سؤال التقريب بين المذاهب أوراق جادّة: 213 ـ 228).

4 ـ 3 ـ البخاري وظاهرة التقطيع

الشاهد الثالث: ظاهرة التقطيع التي استخدمها البخاري لحذف بعض فضائل أهل البيت أو التستّر على مثالب بعض الخلفاء والصحابة، وهي خيانة وتدليس، ومن نماذج ذلك:

1ـ روى البخاري بسنده إلى عبد الرحمن بن أبزي، قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنّا كنا في سفر أنا وأنت، فأمّا أنت فلم تصلّ وأمّا أنا فتمعّكت فصلّيت، فذكرت ذلك للنبي|، فقال النبي|: «إنما يكفيك هكذا، فضرب النبي بكفّيه الأرض..» (صحيح البخاري 1: 87).

وهذه الرواية وردت عند مسلم وغيره أنّ عمر قال للسائل: لا تصلّ (انظر: صحيح مسلم 1: 193)، فحذف ذلك البخاري صيانةً لعمر.

قصّة الحكم الذي أصدره عمر برجم زانية مجنونة، فقد حذف البخاري القصّة، وذكر فقط ما قاله عليٌّ لعمر، بعيداً عن السياق الكاشف عن جهل الخليفة الثاني (انظر: صحيح البخاري 6: 169، و 8: 21؛ وسنن أبي داوود 2: 339).

3ـ حذف البخاري لبقيّة نصّ الرسول الدالّ على ولاية علي بعده في قصّة بعث علي وخالد على سرية، واقتصاره على نهي الرسول عن بغض علي (انظر: صحيح البخاري 5: 110؛ ومسند ابن حنبل 5: 347).

4ـ جلد عمر شارب الخمر ثمانين جلدة، مع أنّ الرواية تقول: إنّ النبي جلد أربعين وفعله أبو بكر، فحذف البخاري جلد عمر ثمانين حتى لا يبدو معارضاً للنبي وأبي بكر (انظر: صحيح البخاري 8: 13، 14؛ وصحيح مسلم 5: 125).

5ـ اقتصار البخاري على ذكر قول عمر بأننا نُهينا عن التكلّف، وحذفه السياق الذي جاء فيه نصّه، والذي يدلّ على عدم علم الخليفة بمعنى كلمة ]وَفَاكِهَةً وَأَبًّا[ (عبس: 31) (صحيح البخاري 8: 143؛ وفتح الباري 13: 229).

إلى غيرها من النماذج والأمثلة التي تشكّك في أمانة البخاري وسلامته في النقل (انظر: جعفر السبحاني، تقديم كتاب القول الصراح: ب ـ و ؛ وأضواء على الصحيحين: 116 ـ 124؛ ومحمد حسن زماني، نكاهي به صحيح بخاري، مجلة علوم حديث، العدد 24: 94).

وهذا الشاهد جيّد، لو أننا درسنا تجربة البخاري ولم نجد سوى هذه الشواهد وأمثالها هنا، ففي هذه الحال نعرف التحيّز والعصبية؛ لكنّ ظاهرة التقطيع عند البخاري ظاهرة عامة في مجمل رواياته لا تختصّ بهذه الموضوعات والملفّات، تماماً مثل ظاهرة التقطيع التي غلبت على كتاب (تفصيل وسائل الشيعة) للحرّ العاملي، ولهذا بحث علماء الحديث السنّة في ظاهرة التقطيع والاختصار عند البخاري ودرسوها منذ قديم الأيام، فإنّ البخاري يورد المقطع المتعلّق بالباب الذي عقده حتى يكون شاهداً على ما يريد، وأما ما ليس له علاقة ببحثه فلا يورده؛ لأنّ كتاب البخاري كتاب مبوّب له عناوين أبواب بخلاف صحيح مسلم، كما ذكر ذلك كثيرون مثل النووي (صحيح مسلم بشرح النووي 1: 21)؛ ولهذا اعتبروا عناوين الأبواب أشبه بآرائه.

ونصّ ابن حجر على أنّ من ميزات البخاري في صحيحه أنه يضع فيه نكاتاً فقهية، وأنّه مشروع استنباطي؛ لهذا استخرج من متون الروايات معاني، واهتمّ بآيات الأحكام فيه، بل من هنا ترك بعض الأسانيد في بعض الروايات (هدي الساري: 6)، وهذا ما جعل مسلم بن الحجاج يضع الرواية بكلّ أشكالها في موضع واحد وبتمام طرقها وأسانيدها، على خلاف البخاري الذي فرّق النصوص لحاجته إليها في العناوين والأبواب كما يُفهم من النووي، ولهذا كان مسلم أسهل تناولاً من البخاري (صحيح مسلم بشرح النووي 1: 14 ـ 15).

وممّا يشهد على أنّ البخاري اهتمّ بالبعد الاستنباطي أنّه امتاز عن صحيح مسلم بكثرة التعليقات، وهناك من دافع عن هذه التعليقات وأنها لا تضرّ باعتبار متن الحديث، وخصّص لها ابن حجر فصلاً مستقلاً في مقدّمة فتح الباري مع الموقوف والمرفوع و.. (هدي الساري: 14 ـ 17؛ وصحيح مسلم بشرح النووي 1: 16 ـ 17).

وقد علّل ابن حجر بشكل صريح ظاهرة التقطيع والاختصار بقوله: «وأما اقتصاره على بعض المتن ثم لا يذكر الباقي في موضع آخر، فإنه لا يقع له ذلك في الغالب إلا حيث يكون المحذوف موقوفاً على الصحابي، وفيه شيء قد يحكم برفعه فيقتصر على الجملة التي يحكم لها بالرفع ويحذف الباقي؛ لأنه لا تعلّق له بموضوع كتابه»، ثم ذكر ابن حجر بعض الأمثلة (هدي الساري: 13).

إذن، فظاهرة التقطيع والاختصار ظاهرة عامة لا تدلّ بالضرورة على انحياز خاص. نعم، نحن نخالف طريقة التقطيع والاختصار والحذف بألوانها، سواء صدرت من البخاري أم من الحر العاملي؛ لأنها تغيّب عناصر دلالية أساسية في النص حتى لو لم يرها هذا المحدّث أو ذاك مهمّةً، وهي تضعف نسبيّاً قيمة الروايات عموماً.

يضاف إلى هذا كلّه، أنّ مجرد العثور على بضعة موارد قليلة ـ بصرف النظر عن المناقشة التفصيلية في هذه الموارد ـ لا يثبت تهمةً بهذا الحجم، لاسيما وأننا نعرف أنّ هناك الكثير من الروايات حتى في المصادر الشيعية، يأتي مقطع منها في كتاب وأكثر من ذلك في كتاب آخر، كلّ حسب ما وصله أو حسب طريقته.

والملفت أنّ الناقد الموقّر هنا لم يمتدح مسلم بن الحجاج على عدم حذفه هذه الأمثلة، كما فعل البخاري، مع أنه جعل عنوان بحثه في إشكاليات على الصحيحين، فيما هي إشكالية على البخاري ومدح لمسلم على موضوعيّته.

إنّ عمليات الحذف والنقل بالمعنى والتعتيم ظاهرة عامة، ينظّر لها العلماء أنفسهم حتى اليوم عند المذاهب كافة، كما أسلفنا، وما أكثر ما يكون عندما ينقلون نصوصاً فيحذفون منها قيوداً أو مقاطع، وفي كثير من الأحيان عن غير عمد، وسأذكر أنموذجاً على ثقافة من هذا النوع، حيث ورد في رجال الكشي الذي اختصره الطوسي أنّ زرارة سأل الإمام الصادق بضع أسئلة وفي آخرها قال: «… فلما خرجت ضرطت في لحيته (لحيتي ولحيتهما). وقلت: لا تفلح أبداً» (اختيار معرفة الرجال 1: 379).

ولا يهمّ تحديد معنى الرواية، لكنّ السيد الخوئي (1413هـ) يقول معلّقاً: «لا يكاد ينقضي تعجبي كيف يذكر الكشي والشيخ هذه الروايات التافهة الساقطة غير المناسبة لمقام زرارة وجلالته والمقطوع فسادها..» (معجم رجال الحديث 8: 245). فالسيد الخوئي لو كان مكان الطوسي والكشي لحذف هذا الخبر وعتّم عليه ولم ينقله للمسلمين، ليس لأنّ السيد الخوئي كاذب أو خبيث أو معاند والعياذ بالله، بل لأنّ هذا النوع من الثقافة هو حالة مهيمنة على العلماء المسلمين عبر التاريخ، إلا ما شذّ وندر.

وعلى أية حال؛ فهذه الملاحظات بأجمعها، إضافة إلى ما تقدّم سابقاً، كلّها تؤكّد وتدلّ وتشهد على أنّ هذه الكتب الحديثية على اختلاف مذاهبها تخضع للنقد والمحاسبة، ولا تعلو على النقد ولا تتنزّه عن الخطأ والالتباس والاشتباه، وأنّ هناك ثغرات فيها متعدّدة الجوانب تسمح بتسجيل ملاحظات على مناهج أصحابها ومعاييرهم وأساليبهم في التصحيح، وفي المنهجة والتصنيف إلى ما شاء الله، لكنّ هذا كلّه لا يعني إصدار حكم عام على هذه الكتب أو بعضها بأنها باطلة من رأس ولا تمثل أيّ مستند تاريخي، ولا تمنع هذه النتيجة التي توصّلنا إليها من الحديث عن مفاضلة بين الكتب الحديثية عموماً، فنقيم دراسةً تثبت أن منهج تصنيف (جامع أحاديث الشيعة) أفضل من منهج تصنيف (تفصيل وسائل الشيعة)، أو نثبت أن (كافي الكليني) أدقّ من بحار الأنوار للمجلسي، أو أنّ صحيح البخاري أفضل من صحيح مسلم أو العكس أو مالك، وهكذا (اختلفوا في أيّهما أصحّ: كتاب مسلم أم البخاري أم الموطأ، فذهب أبو علي النيسابوري إلى أصحيّة مسلم ووافقه بعض شيوخ المغرب، وذهب الجمهور إلى أصحيّة البخاري، وذكرت ميزات لكلّ واحد من الاثنين، أشرنا لبعضها في مطاوي هذا البحث وهناك بعضها الآخر. وللتفصيل حول هذه النقطة راجع: صحيح مسلم بشرح النووي 1: 14؛ وهدي الساري: 8 ـ 11؛ ومحمد عجاج الخطيب، أصول الحديث علومه ومصطلحه: 316 ـ 318؛ وصبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه: 301 ـ 302).

وهذا كلّه يقوم على ملاحظة ثغرات أو نواقص أو هفوات أو عناصر إضافية هنا وهناك في هذا المصدر أو ذاك، فما أسلفناه أفادنا من ناحية عدم تعالي هذه الكتب عن النقد، ورسّخ عندنا قناعة بعدم يقينيّتها التامّة، ولا حتى حجيتها التامّة أيضاً، لكنّه لا يجعل هذا المصدر أو ذاك مما لا قيمة له ما لم تحشد شواهد خاصّة تكتنفه وتسقط اعتباره.

خاتمة واستنتاج

إنّ ما توصّلت إليه هذه الدراسة هو أنّ النقد الإمامي للصحيحين، كان تجربةً متقدّمة في التعامل مع الحديث عند المسلمين، لاسيما وأنّ الإماميّة، بجمهور الأصوليّين منهم، لا يقتنعون ـ بل لا يحبّذون ـ اعتماد كتاب حديثي محدّد بوصفه صحيح الأحاديث، ليُلزم به جمهور المسلمين، بل يفضّلون أن يُترك الأمر للباحثين والعلماء كي يختاروا من الحديث ما يرونه صحيح المتن والسند، ويُبقوا بذلك باب الاجتهاد في الحديث مفتوحاً لا يُلزم السلفُ الخلفَ، بل على حدّ تعبير الدكتور عبد المجيد الشرفي: (لا يقدّس السلف بقدر ما يدافع عن حقّ الخلف) (الإسلام بين الرسالة والتاريخ: 8).

لكنّ هذه التجربة ما زالت تحتاج إلى تحرّر وتطوير: تحرّر من الثنائيات المذهبية التي تضعها في السياقات الجدليّة التي تفتّش عن نقطة هنا أو هناك لتسجّلها على هذا الفريق أو ذاك، وتطوير للآليّات النقديّة وتعميق لها من زوايا متعدّدة. وهذا ما يدفعنا دوماً للقول بأنّ النقد الإسلامي للمورثوث الإسلامي لا يتمّ سوى بانتزاع الناقد المسلم نفسه من سطوة الموروث عليه، سواء كانت سطوةً تقديسيّة أم سطوة شيطانيّة، فتقديس موروث أو شيطنة موروثٍ آخر محاولات يائسة لن تخرجنا من شيء، والمطلوب هو الخروج من كلّ هذه الثنائيات لنفكّر بطريقة أفضل وأكثر علميّةً وأبعدَ عن حاكميّة النتائج على الأدلّة، حيث المفروض أن تحكم المناهجُ والأدلّةُ نتائجَنا وليس العكس. والله وليّ التوفيق.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع العربيّة

  • القرآن الكريم.
  • الأحسائي (880هـ)، محمد بن علي بن إبراهيم المعروف بابن أبي جمهور، عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث النبويّة، تحقيق: آقا مجتبى العراقي، مطبعة سيد الشهداء، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1983م.
  • الإصفهاني، فتح الله النمازي شيخ الشريعة، القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع، تحقيق: حسين الهرساوي، مؤسّسة الإمام الصادق، الطبعة 1، 1422هـ.
  • أمين (1954م)، أحمد، فجر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، مصر، الطبعة السادسة عشر.
  • الأميني (1970هـ)، عبدالحسين، موسوعة الغدير في الكتاب والسنّة والأدب، دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت^، قم، إيران، الطبعة الثانية، 1424هـ.
  • البخاري (256هـ)، أبو عبدالله محمد بن إسماعيل الجعفي، الجامع الصحيح، تصحيح وتحقيق: مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير واليمامة، دمشق وبيروت، الطبعة الرابعة، 1990م.
  • البخاري (256هـ)، أبو عبدالله محمد بن إسماعيل الجعفي، التاريخ الكبير، المكتبة الإسلامية، دياربكر، تركيا.
  • البخاري (256هـ)، أبو عبدالله محمد بن إسماعيل الجعفي، كتاب الضعفاء الصغير، تحقيق: محمّد إبراهيم زايد، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1986م.
  • البغدادي (643هـ)، محب الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن المعروف بابن النجّار، الردّ على أبي بكر الخطيب البغدادي، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى.
  • السجستاني (275هـ)، أبو داوود سليمان بن الأشعث، السنن، تحقيق وتعليق: سعيد محمد اللحام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1990م.
  • أبو ريّة، محمود، أضواء على السنّة المحمدية أو دفاع عن الحديث، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، الطبعة الخامسة [بدون تاريخ].
  • أبو زيد، أحمد عبدالله، محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، مؤسسة العارف، الطبعة 1، 1428هـ.
  • ابن حبّان البستي (354هـ)، محمد بن حبان بن أحمد أبي حاتم التميمي، كتاب الثقات، مؤسّسة الكتب الثقافية بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الهند، الطبعة الأولى، 1973م.
  • ابن حنبل (241هـ)، أحمد، المسند، دار صادر، بيروت، لبنان.
  • ابن خلدون (808هـ)، عبدالرحمن، المقدّمة، دار الفكـــر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2003م.
  • ابن داوود الحلّي (707هـ)، تقي الدين الحسن بن علي، كتاب الرجال، منشورات الرضي، قم، إيران، حقّقه وقدّم لـه: السيد محمد صادق آل بحر العلوم، اُوفست عن المطبعة الحيدريّة، النجف، العراق، 1972م.
  • ابن شاهين البغدادي (385هـ)، أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد، تاريخ أسماء الثقات، تحقيق: صبحي السامرائي، الدار السلفية، الكويت، الطبعة الأولى، 1984م.
  • ابن عدي (365هـ)، أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، الكامل في ضعفاء الرجال، تحقيق: سهيل زكار (ط1)، ويحيى مختار غزاوي (ط3)، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1988م.
  • ابن الغضائري (ق 5هـ)، أحمد بن الحســـين بن عبيدالله بن إبراهيم الواسطي، الرجال، تحقيق السيّد محمد رضا الجلالي، نشر دار الحديث، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1422هـ.
  • ابن كثير الدمشقي (774هـ)، أبو الفداء إسماعيل القرشي، تفسير القرآن العظيم، قدّم له: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1992م.
  • ابن معين (233هـ)، يحيى بن معين بن عون المري الغطفاني البغدادي، التاريخ (برواية: أبو الفضل العباس بن محمد بن حاتم الدوري البغدادي 271هـ، ومعه: ما حقّ بكلام يحيى بن معين، برواية يزيد بن الهيثم)، تحقيق وتعليق: عبد الله أحمد حسن، دار القلم، بيروت، لبنان.
  • البهبودي، محمد باقر، معرفة الحديث تاريخ نشره وتدوينه وثقافته عند الشيعة الإمامية، مركز انتشارات علمي وفرهنكي، إيران، [بدون تاريخ ولا رقم الطبعة].
  • التستري (1405هـ)، محمد تقي، قاموس الرجال، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1410 وما بعد.
  • حاجي خليفة (1067هـ)، مصطفى بن عبدالله، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار إحياء التراث العربي، بيروت ]بدون تاريخ ورقم الطبعة[.
  • الحر العاملي (1104هـ)، محمد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، مؤسّسة آل البيت G لإحياء التراث، إيران، الطبعة الأولى، 1412هـ.
  • الحرّاني (ق4هـ)، أبو محمّد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة، تُحف العقول عن آل الرسول^، منشورات ذوي القربى، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1424هـ.
  • الشيخ حسن بن الشهيد الثاني (1011هـ)، منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1983م.
  • الحسني (1403هـ)، هاشم معروف، دراسات في الحديث والمحدّثين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، [بدون تاريخ، ولا رقم الطبعة].
  • الحسني (1403هـ)، هاشم معروف، الموضوعات في الآثار والأخبار، عرض ودراسة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، 1987م.
  • الحلو، محمد علي، تاريخ الحديث النبوي بين سلطة النصّ ونصّ السلطة، مؤسّسة البلاغ، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2002م.
  • العلامة الحلّي (726هـ)، جمال الدين الحســن بن يوسف بن المطهّر، خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، تحقيق الشيخ جواد القيومي، مؤسسة نشر الفقاهة، إيران، الطبعة الأولى، 1417هـ.
  • الخراساني (1329هـ)، محمد كاظم، كفاية الأصــول، مؤسّســة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، إيران، الطبعة الثالثة، 1415هـ.
  • الخطيب البغدادي (463هـ)، أبو بكر أحمد بن علي، تاريخ بغداد أو مدينة السلام، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1997م.
  • الخطيب، محمد عجّاج، أصول الحديث علومه ومصطلحه، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1989م.
  • الخوئي (1413هـ)، أبو القاسم، معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، نشر مدينة العلم آية الله العظمى الخوئي، قم، إيران، الطبعة الثالثة (عن بيروت 1403هـ.
  • الرازي (327هـ)، أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي، الجرح والتعديل، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1952م.
  • الراوندي (573هـ)، قطب الدين سعيد بن هبة الله، قصص الأنبياء، تحقيق: غلام رضا عرفانيان اليزدي الخراساني، دار الهادي، إيران، الطبعة الأولى، 1418هـ.
  • الزركشي (794هـ)، بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، تحقيق: أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه، الطبعة الأولى، 1957م.
  • زرندي، أبو الفضل مير محمدي، بحوث في تاريخ القرآن وعلومه، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، إيران، الطبعة الأولى المحقّقة، 1420هـ.
  • دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت G، موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت^، نشر المؤسّسة، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1423هـ.
  • الذهبي (748هـ)، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الفكر [بدون مكان، ولا تاريخ، ولا رقم الطبعة].
  • الذهبي (748هـ)، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، سِيَر أعلام النبلاء، مؤسّسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة السابعة، 1990م.
  • الذهبي (748هـ)، شــمس الدين محمــد بن أحمــد بن عثمــان، كتاب تذكــرة الحفّاظ، دار الفكر العربي، ]بدون مكان ولا تاريخ ولا رقم الطبعة[.
  • الذهبي (748هـ)، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستّة (مع حاشية سبط ابن العجمي)، تقديم وتخريج وتعليق: محمد عوامة وأحمد محمد نمر الخطيب، دار القبلة للثقافة الإسلامية ومؤسّسة علوم القرآن، جدّة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1992م.
  • الذهبي (748هـ)، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، تاريخ الإسلام، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1987م.
  • السّاعدي، حسين، الضعفاء من رجال الحديث، دار الحديث، الطبعة 1، 1426هـ.
  • السبحاني، جعفر، الحديث النبوي بين الرواية والدراية، مؤسّسة الإمام الصادق، إيران، الطبعة الأولى، 1419هـ.
  • السيوطي (911هـ)، عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: سعيد مندوب، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1996م.
  • شاكر، عبد الصمد، نظرة عابرة إلى الصحاح الستّة ]بدون مشخصات[.
  • الشعراني، (1393هـ)، أبو الحسن، المدخل إلى عذب المنهل، إعداد: رضا أستادي، الأمانة العامة للمؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري، إيران، الطبعة الأولى، 1994م.
  • الشهرزوري (643هـ)، أبو عمرو عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح، علوم الحديث، تحقيق وشرح: نور الدين عتر، دار الفكر ودار الفكر المعاصر، بيروت ودمشق، الطبعة الثالثة المعادة، 1998م.
  • الصالح (1986م)، صبحي، علوم الحديث ومصطلحه عرض ودراسة، منشورات الشريف الرضي، قم، إيران، أوفست عن طبعة دمشق عام 1959م، الطبعة الخامسة، 1984م.
  • الصدوق (381هـ)، محمد بن علي بن الحســين بن بابويــه القمّــي، التوحيد، تصحيح وتعليق: هاشم الحسيني الطهراني، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، إيران [بدون تاريخ ولا رقم الطبعة].
  • الصدوق (381هـ)، محمد بن علي بن الحســين بن بابويه القمّي، عيون أخبار الرضا×، تحقيق: الشيخ حسين الأعلمي، مؤسّسة الأعلمي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1404هـ.
  • الصدوق (381هـ)، محمد بن علي بن الحســين بن بابويه القمّي، كمال الدين وتمام النعمة، تحقيق علي أكبر غفّاري، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، إيران، الطبعة الرابعة، 1422هـ.
  • الطبلبي، شكيب بن بديرة، أطوار الاجتهاد ومناهجه ]بدون مشخصات[.
  • الطوسي (460هـ)، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال لأبي عمرو الكشّي، تحقيق وتصحيح: محمد تقي فاضل الميبدي والسيّد أبو الفضل موسويان، مؤسسة الطباعة والنشر، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، إيران، الطبعة الأولى، 2003م.
  • الطوسي (460هـ)، محمد بن الحسن، كتاب الغيبة، تحقيق الشيخ عباد الله الطهراني والشيخ علي أحمد ناصح، مؤسسة المعارف الإسلاميّة، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1411هـ.
  • عابدي، أحمد، كرّاس الحديث الشريف، كليّة أصول الدين، قم، إيران.
  • العجلي الكوفي (261هـ)، معرفة الثقات من رجال أهل العلم والحديث ومن الضعفاء وذكر مذاهبهم وأخبارهم، بترتيب الإمامين: الهيثمي والسبكي، مع زيادات: ابن حجر العسقلاني، دراسة وتحقيق: عبد العليم عبد العظيم البستوي، نشر مكتبة الدار بالمدينة المنوّرة، الطبعة الأولى، 1985م.
  • العراقي (806هـ)، زين الدين عبد الرحيم بن الحسين، التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدّمة ابن الصلاح، تحقيق : عبد الرحمن محمد عثمان، نشر: دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1970م.
  • العسقلاني (852هـ)، أحمد بن علي بن محمد بن علي بن أحمد المعروف بابن حجر، لسان الميزان، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1987م.
  • العسقلاني (852هـ)، أحمد بن علي بن محمد بن علي بن أحمد المعروف بابن حجر، تقريب التهذيب، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1995م.
  • العسقلاني (852هـ)، أحمد بن علي بن محمد بن علي بن أحمد المعروف بابن حجر، هدى الساري (مقدّمة فتح الباري)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1988م.
  • العسقلاني (852هـ)، أحمد بن علي بن محمد بن علي بن أحمد المعروف بابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق وتعليق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد عوض، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1995م.
  • العسقلاني (852هـ)، أحمد بن علي بن محمد بن علي بن أحمد المعروف بابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية.
  • العسقلاني (852هـ)، أحمد بن علي بن محمد بن علي بن أحمد المعروف بابن حجر، تهذيب التهذيب، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1984م.
  • العقيلي (322هـ)، أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد المكي، الضعفاء الكبير، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1998م.
  • العلوي الحسيني الحضرمي (1350هـ)، محمّد بن عقيل بن عبد الله بن يحيى، العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل، تحقيق وتعليق: حسن بن علي السقاف، دار الإمام النووي، الأردن، الطبعة الأولى، 2004م.
  • العمري، محمد علي قاسم، دراسات في منهج النقد عند المحدّثين، دار النفائس، الأردن، الطبعة الأولى، 2000م.
  • العيّاشي (320هـ)، محمد بن مسعود بن عيّاش السلّمي، كتاب التفسير، تحقيق: هاشم الرسولي المحلاتي، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، إيران.
  • القشيري النيسابوري (261هـ)، أبو الحسين مسلم بن الحجّاج بن مسلم، الجامع الصحيح، دار الفكر، بيروت.
  • الكاظمي (1256هـ)، عبدالنبي، تكملة الرجال، تحقيق وتقديم: السيّد محمد صادق بحر العلوم، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، العراق ]بدون تاريخ ولا رقم الطبعة[.
  • الكردي، محمد طاهر، تاريخ القرآن الكريم، طبع مصطفى محمد يغمور بمكّة، بمطبعة الفتح، جدّة، 1946م.
  • الكليني الرازي (329هـ محمّد بن يعقوب، الكافي، تصحيح: علي أكبر غفّاري، دار الكتب الإسلامية، قم، إيران، الطبعة الثالثة، 1988م. وأيضاً طبعة دار الحديث في إيران.
  • المالكي، حسن بن فرحان، الصحبة والصحابة بين الإطلاق اللغوي والتخصيص الشرعي، ]بدون مشخّصات[.
  • المامقاني (1351هـ)، عبدالله، تنقيح المقال في علم الرجال، حجري، ]بدون مشخّصات[.
  • المجلسي (1111هـ)، محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، مؤسّسة الوفاء، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1403هـ.
  • مجموعة من الباحثين، سؤال التقريب بين المذاهب أوراق جادّة، سلسلة كتاب نصوص معاصرة، إعداد وتقديم: حيدر حب الله، دار الانتشار العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، عام 2010م (مقال: جعفر نكونام، التراث الحديثي عند السنّة والشيعة).
  • المزّي (742هـ)، جمال الدين أبو الحجاج يوسف، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسّسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، 1985م.
  • المظفر (1375هـ)، محمد حسن، دلائل الصدق لنهج الحق، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، إيران، الطبعة الأولى، 1422هـ.
  • المظفر (1375هـ)، محمد حسن، الإفصاح عن أحوال رواة الصحاح، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1426هـ.
  • الميلاني، علي الحسيني، الصحيحان في الميزان، مركز الحقائق الاسلاميّة، إيران، الطبعة الأولى، 1427هـ.
  • الميلاني، علي الحسيني، استخراج المرام من استقصاء الإفحام، الطبعة الأولى، 1425هـ.
  • النجمي، محمد صادق، أضواء على الصحيحين، ترجمة: يحيى كمالي البحراني، نشر: مؤسّسة المعارف الإسلامية، إيران، الطبعة الأولى، 1419هـ.
  • النمازي الشاهرودي (1405هـ)، علي، مستدركات علم رجال الحديث، نشر: ابن المؤلّف، مطبعة شفق، طهران، الطبعة الأولى، 1412هـ.
  • النووي (676هـ)، محيى الدين يحيى بن شرف بن مري الحزامي الحواربي الشافعي، شرح صحيح مسلم، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1987م.
  • الحاكم النيسابوري (405هـ)، أبو عبد الله محمد بن عبد الله، المستدرك على الصحيحين، إشراف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
  • الهرساوي، حسين غيب غلامي، الإمام البخاري وفقه أهل العراق، دراسة في موقف البخاري من فقه أبي حنيفة، دار الاعتصام، بيروت ولندن، الطبعة الأولى، 1420هـ.
  • يعقوب، أحمد حسين، نظريّة عدالة الصحابة والمرجعيّة السياسيّة في الإسلام (رأي الشيعة ـ رأي السنّة ـ رأي الشرع)، نشر مؤسّسة أنصاريان، إيران، 1413هـ.

المصادر والمراجع الفارسية

  • جديدي نجاد، محمد رضا، دانش رجال از ديدكاه أهل سنّت، دار الحديث، إيران، الطبعة الأولى، 1423هـ.
  • الطهراني، محمد حسين الحسيني، ولايت فقيه در حكومت اسلامي.

الدوريات والنشريات

  • البهبودي، محمد باقر، با استاد محمد باقر بهبودي در عرصه روايت ودرايت حديث، حوار مع صحيفة كيهان فرهنكي، العدد 31، إيران، 1986م.
  • البهبودي، محمد باقر، آخرين كلام در عرصه روايت ودرايت حديث، صحيفة كيهان فرهنكي، العدد 11، إيران، 1986م.
  • زماني، محمد حسن، نكاهي به صحيح بخاري، مجلة علوم حديث، العدد 24.

النجار، فتح الله، إشكاليّات حول التراث الشيعي الحديثي، مجلّة المنهاج، بيروت، لبنان، العدد 27، 2002م.

فهرس المحتويات

خلاصة البحث…. 5

مقدّمة. 7

القسم الأوّل التأمّلات النظريّة التحليليّة

في القراءات النقديّة الإماميّة للحديث السنّي

تمهيد.. 11

صحيحا البخاري ومسلم في التراث الإماميّ… 11

بدايات القراءة النقديّة الإماميّة للصحيحين…. 16

السمات العامّة للممارسات النقديّة الإماميّة للصحيحين…. 17

1 ـ اعتماد المحاكمات العقائديّة. 17

2 ـ مرجعيّة النقد المتني19

3 ـ مرجعيّة النقد السنّي في ممارسة النقد الإمامي للصحيحين…. 21

4 ـ اعتماد القراءة المجتزأة في تحليل ونقد التراث الحديثي22

5 ـ من إيجابيّة التحرّر من التقديس إلى أزمة الثقة والعامل النفسي…… 23

القسم الثاني متابعة تفصيليّة للإشكاليّات الإماميّة على الحديث السنّي

(صحيحا البخاري ومسلم أنموذجاً)

تمهيد.. 29

أولاً: الملاحظات الشكليّة على الكتب الحديثيّة السنيّة (الصحيحين). 30

1 ـ انعدام المناسبة بين عنوان الباب الحديثي ومضمونه. 30

2 ـ ظاهرة تكرّر الأحاديث…. 31

3 ـ عبثيّة بعض الأبواب الحديثيّة. 32

4 ـ بين كتب السيرة وكتب الحديث الجامعة. 33

5 ـ عدم ترتيب الأبواب وتنسيقها. 34

ثانياً: الإشكاليات الجوهريّة على الكتب الحديثيّة السنيّة (الصحيحين). 36

1 ـ تهمة ابتلاء الكتب السنيّة بالدسّ والتزوير، وقفة وتعليق36

2 ـ أزمة الانحراف العقائدي عند بعض المحدّثين، وقفات وتأملات…. 44

3 ـ كثرة الرواة الضعاف في كتب الحديث…. 50

4 ـ مشكلة التعصّب والانحياز في التجربة الحديثية للبخاري، وقفة وتأمّل63

4 ـ 1 ـ سياسة التعتيم على فضائل أهل البيت، رصد ونظر. 64

4 ـ 2 ـ موقف البخاري السلبي من الإمام الصادق×، وقفة تأمّل… 67

4 ـ 3 ـ البخاري وظاهرة التقطيع.. 76

خاتمة واستنتاج… 81

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع العربيّة. 83

المصادر والمراجع الفارسية. 92

الدوريات والنشريات…. 93

فهرس المحتويات…. 95

(*)  شارك هذا البحث في المؤتمر الدولي الذي انعقد في ألمانيا، بتاريخ 17 ـ 19/نيسان/ 2015م، بدعوة من قسم الدراسات الإسلاميّة في جامعة مونستر، وقد حمل المؤتمر عنوان (علوم الحديث بين الأصالة والمعاصرة، نقد الحديث منذ عصر البخاري ومسلم إلى الدراسات والأبحاث المعاصرة).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً