سأحاول في هذه المداخلة البسيطة التركيز على نقطة واحدة، وهي مآلات تجربة السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي(1413هـ) في المحافل العلمية اليوم، وأترك سائر الجوانب لمجالات أخرى.
أولاً: معالم من مدرسة السيد الخوئي
ليس من شكّ في أنّ الإمام الخوئي& قد أحدث تغييراً في حوزة النجف نفسها قبل أن يترك تأثيراً على حوزة مدينة قم العلمية، فقد امتاز منهجه وتميّزت تجربته بعدّة أمور، منها:
1ـ اعتماده مبدأ الجرأة العلمية المتوازنة، من خلال وضوحه في التوصّل إلى النتائج الاجتهادية، وعدم تأثره بالنظريات المشهورة في الفقه الإسلامي. وقد لاحظنا نهجه هذا من خلال أبحاثه الفقهية. وهو منهج كان السيد الخوئي قد وضع مداميكه التحتية في علم أصول الفقه؛ ليكون منهجاً علميّاً رصيناً. فقد رفض الإجماع المنقول رفضاً حاسماً. كما ذهب إلى مدركية أو احتمال مدركية أكثر ـ وربما تمام ـ الإجماعات المحصّلة، بمعنى أنّ المجمعين استندوا إلى مدرك متوفِّر بين أيدينا، ممّا يجعل إجماعهم غير حجّة. وهكذا رفض الخوئي نظرية الشهرة الفتوائية، التي ترى في اشتهار فتوى بين الفقهاء مدركاً لصوابها. وبالإجهاز على نظريّتي الإجماع والشهرة تمكّن السيد الخوئي من خوض غمار التحليل الاجتهادي الفقهي، متحرّراً من هذا الحمل التاريخي الثقيل، ومتجاوزاً تراثاً فقهيّاً ضخماً. وقد استطاع السيد الخوئي مع هذا التخطّي من نقد عشرات الآراء الفقهية المشهورة في أبحاثه الاجتهادية. وقد تجاوز الأمر حدّ البحث الاجتهادي إلى مخالفة المشهور في قرابة ثلاثين مسألة على المستوى الفتوائي أيضاً، إلاّ أنّ جلّ مخالفاته الأخرى للمشهور تمّ تغليفها على مستوى الرسالة العمليّة بظاهرة الاحتياط الوجوبي.
2ـ اتجه الإمام الخوئي ناحية علم الرجال والاهتمام السندي اتجاهاً ملحوظاً مختلفاً عن الحالة العامّة في الحوزة العلمية. ونرى اتجاهه هذا قهرياً، بمعنى أنّ نظرياته في أصول الفقه لعبت دوراً في اهتمامه هذا. ويرجع ذلك إلى تبنّيه حجية خبر الثقة، لا الخبر الموثوق، ليجعل المعيار في الحديث الشريف في رجال السند من حيث وثاقتهم. وقد دعم نظريّته هذه بذهابه إلى نظرية عدم وهن الخبر الصحيح بإعراض المشهور عنه، وعدم جبره بعملهم به، ممّا أنقص فرص تصحيح الروايات أو تضعيفها على أساس معايير مخارجة للسند ورجاله. وهذه النظريات الخمس، وهي: نظرية الوهن، ونظرية الجبر، ونظرية الإجماع المنقول، ونظرية الإجماع المحصّل، ونظرية الشهرة الفتوائية، تمثِّل عند العلماء المساعد الرئيس لتخطّي معضلات الأسانيد، أو الجمود عندها، بلوغاً إلى آليات أخرى في توثيق النصوص والتعامل معها، أو في الوصول إلى نتائج فقهية اجتهادية مباشرة، كالشهرة الفتوائية.
ولم يقف الحال عند هذه النظريات التي فتحت أمام السيد الخوئي باب علم الرجال والجرح والتعديل على مصراعيه، بل ذهب في اتجاهه النقدي أبعد من ذلك، حيث لوحظ عليه التشدُّد في قبول الروايات؛ انطلاقاً من تحفّظه على العديد من النظريات الرجالية التي توثّق الرواة. فقد رفض نظرية أصحاب الإجماع، التي تعني تجاهل البحث في السند الواقع بين واحدٍ منهم، مثل: زرارة، وبين الإمام×، وبهذا ألزم نفسه بالبحث السندي في هذه الدائرة. وكذلك رفض نظرية مراسيل الثلاثة، وهم: ابن أبي عمير، وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، وصفوان، وهي تعني تصحيح كلّ مراسيل هؤلاء الثلاثة، دون حاجة إلى البحث السندي الواقع بينهم وبين الإمام×. كما رفض النظرية التي ترى في توثيقات أو تضعيفات العلماء المتأخِّرين، مثل: ابن داوود، والعلامة الحلي، اعتباراً. وبهذا زاد من التضييق على نفسه. كما رفض نظرية توثيق تمام أصحاب الصادق×، اعتماداً على نصٍّ للشيخ المفيد وغيره؛ ونظرية توثيق كلّ مَنْ كان وكيلاً للإمام×. ومن النظريات الهامة التي رفضها نظرية وثاقة شيخوخة الإجازة؛ إذ يخلق رفضها ضيقاً في أمرِ الروايات أيضاً؛ إلى جانب نظريات أخر، مثل: تأليف كتاب أو أصل، وكثرة الرواية، وذكر الطريق إلى شخص في كتب المشيخة.
من هنا لاحظنا في اجتهاد السيد الخوئي اهتماماً بالغاً بعلم الرجال، تمثلت قمّته بتأليف الموسوعة الرجالية القيّمة «معجم رجال الحديث»، وتطبيقاً واسعاً للموضوع السندي في الدراسات الفقهيّة.
3ـ مال السيد الخوئي في اجتهاده الفقهي إلى اللغة العرفية، وهي اللغة التي انتصر لها الأصوليون في مباحث حجية الظهور. لكنّ ميزة الخوئي أنّه كان ذوّاقاً للدلالات العرفية في النصوص على مستوى التطبيق، وقد كانت ثقافته اللغوية العربية جيدة جداً، حتى أنّه امتاز بعرض واضح وجليّ للأبحاث العلمية، يتّسم بالاختصار والوضوح، مبتعداً قدر الإمكان عن الخلط بين الأبحاث العقلية الحقيقية والدراسات القانونية الاعتبارية.
ثانياً: تأثيرات مدرسة السيد الخوئي
ربما نستطيع من خلال هذه النقاط أن نطلّ على تأثيرات مدرسة الخوئي في الحوزات العلمية. فقد امتاز الخوئي بتربية أجيال من التلامذة الذين أمسكوا بزمام الأمور وكراسي التدريس في الحوزات العلمية في النجف وقم وغيرهما، الأمر الذي ساعد على هيمنة أفكاره ومنهجه الاجتهادي على التفكير الحوزوي في العقود الأخيرة، حيث بتنا نلاحظ معالم منهجه المشار إليها آنفاً متجلّيةً في جيل الفقهاء الكبار في الحوزة العلميّة، من حيث الاهتمام بالنقد الحديثي، ومن حيث العمق الذي امتاز به المتأخِّرون من الفقهاء، ومن حيث النزعة التحقيقيّة الجديدة.
وفي تقديري فإنّ الحوزة العلمية لم تكن تشهد تطوّر النقد الحديثي والفقهي بالطريقة التي قدّمها السيد الخوئي. فقد كانت تعتمد كثيراً ـ وبشكل عامّ ـ على نظريات الجبر والوهن في حجية الحديث، رغم التحقيقات الرجالية الضخمة التي قدّمها السيد البروجردي&. كما لم تكن تشهد داخل المؤسّسة الدينية تطويراً جذريّاً في النقد الفقهي، إذا ما استثنينا المحاولات التي قدّمتها مدرسة الإمام الخميني في هذا السياق.
ثالثاً: مدرسة السيد الخوئي، مآلات وتراجعات
لكن الذي يبدو لي أنّ هناك بعض التحوّل الذي قد يجرّ إلى تراجع منهج السيد الخوئي في الحوزة العلميّة تراجعاً نسبيّاً. فالنزعة النقدية التي يمتاز بها السيد الخوئي في مجال الفقه والحديث تنتمي إلى حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وهي الحقبة التي كانت حركة النهضة الشيعية في أوجها فيها، تقوم بنقد الموروث لصالح تحوّلٍ في الوعي الديني، والتأسيس لأنموذج جديد في التديّن وفهم الإسلام. وقد حقّقت هذه النهضة منجزات كبيرة بعد انتصار الثورة في إيران، لكنّ تداعيات الحركة الفكرية بعد ذلك ـ ولا سيّما منذ التسعينيات وإلى اليوم ـ أثَّرت في ظهور حركة نقدية جديدة، أثارت مخاوف التيار الحوزوي التقليدي والثوري معاً. وقد كانت التيارات النقدية هذه تسعى للاستغلال أو للاستفادة (حسب التقييمات المختلفة في الموضوع) من موروث الحركة النقدية لعلماء كبار، كان منهم السيد الخوئي. ففي مجال الحديث مثلاً تسقط ـ وفق نظرية الخوئي ـ الآلاف الكثيرة من الأحاديث عن الاعتبار، وهذا ما شكّل فرصةً ومستمسكاً للناقدين الجدد في حملتهم على الموروث الحديثي الشيعي. وكذلك شكّلت مخالفته للمشهور فرصةً لنهج نقد الموروث الفقهي. من هنا نجد في بعض الأوساط اليوم بعض النقد للسيّد الخوئي في نظرياته، ولا سيّما في مجال الحديث والرجال ونقد الموروث، وسعياً حثيثاً لإعادة الاعتبار إلى المصادر الحديثية والروايات الشيعية. وهذا ما نلاحظه في بعض تلامذة السيد الخوئي، وغير واحدٍ من جيل تلامذة تلامذته أيضاً.
كما عاد إلى الواجهة في الفترة الأخيرة طرح مقولات الإجماع والشهرة والمسلّمات وضروريّات الدين والمذهب؛ لأنّ الحركة النقديّة أشعرت الطرف الآخر بأنّ الموروث يشرف على الانهيار، طبعاً بحسب تصوّر الطرف الآخر على الأقلّ. ولكي يحمي الآخر (الذي يشكّل التيار الرسمي في المؤسّسة الدينية) الإسلام، بحسب وجهة نظره، وضع سياجاً دوغمائيّاً معرفيّاً محكماً، وهو مقولات الضرورة والمسلّم ونحو ذلك؛ كي يتحوّل كلّ موضوع تخلع عليه مثل هذه العناوين إلى محرَّم فكريّ، فيدخل في حيّز اللامفكَّر فيه. وبذلك يتمّ النأي بهذه الموضوعات عن أن تندرج ضمن الجدل والتجاذب الفكري، وهو ما يريح التيار المدرسي من البحث والتحقيق في هذه الموضوعات بعض الشيء، كما يمنع الطرف الآخر من الخوض فيها.
وفي هذا السياق كان السعي المتواصل عند البعض لإبطال معايير النقد السندي والتاريخي، التي انتصر لها أمثال: السيد الخوئي، لصالح حالة الوثوق بالموروث الحديثي عموماً. فإنّه عندما يُصار إلى إضفاء طابع السكينة والطمأنينة على الموروث الحديثي مثلاً فإنّ درجة الوثوق به ترتفع، ومن ثمّ تنحسر تلقائيّاً فرص النقد التاريخي والسندي. وقد ساعد على تنامي حالة الوثوق هذه وضعٌ سياسيّ واجتماعيّ عامّ في الفترة الأخيرة، ألا وهو دخولنا في مدار العولمة منذ بدايات التسعينيات، وتصاعد حدّة التوتر الطائفي في منطقة الشرق الأوسط، وبالأخصّ بين الإماميّة وما يعرف بالحركة السلفيّة السنيّة، فإنّ هذا التصاعد ـ مع العولمة ـ يفرض منطق الدفاع عن الهويّة. وهذا المنطق يؤجِّل ـ بشكل تلقائي ـ ليس طرح عناصر الضعف في الموروث فقط، بل حتّى رؤيتها والنظر إليها وملاحظتها. وهذا ما يشبه تماماً ما حصل ـ شيعيّاً وسنيّاً ـ في القرن الحادي عشر والثاني عشر الهجريّين، حيث أدّى تنامي التوتر الطائفي بين الدولتين العثمانية والصفوية إلى تنشيط الحركة المذهبية المنغلقة، التي تمثلت في بعض التيارات الأخبارية الشيعية المتشدِّدة، وفي ظهور حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب(1207هـ)، التي بلغت الأوج في سياستها المتشدّدة ضدّ غير واحدٍ من المذاهب الإسلاميّة.
إنّ هذا السياق السيواجتماعي يفرض انحساراً نسبيّاً لمشروع السيد الخوئي. وقد وجدنا بعض الكتابات في الحديث والرجال في الفترة الأخيرة تتَّجه نحو نقد أساسيات النظريات الرجاليّة للإمام الخوئي، حتى أنّ بعض تلامذته، الذين شاركوا في تدوين موسوعته الرجالية الكبرى، مال في أبحاثه في كليات علم الرجال إلى تصحيح أكثر، إن لم نقُلْ أغلب، روايات الكتب الأربعة،مما جعله يقترب من النزعة الأخبارية في توثيق أحاديث أمهات كتب الحديث الإمامية.
إنّ هذا النقد هو من جهة مؤشِّرٌ طيّب على استمرار الحركة العلميّة في المؤسّسة الدينية، عبر نقد رجلٍ عملاق، مثل: السيد الخوئي، ويمكن ـ من جهة أخرى، عندما ندرس بعض منطلقاته وهواجسه ـ أن يشكّل تراجعاً عن المشروع النقدي عموماً، الذي عرفته الساحة الإسلامية منذ الستينيات. وبهذا تظهر بعض آثار هذا التراجع في علم الحديث والرجال والنقد السندي، فيصبح الوثوق بالحديث والاطمئنان النفسي الناتج عن السياق المشار إليه هو البديل عن معايير كان السيد الخوئي قد افترضها صارمةً من قبل.
لقد لاحظنا في الفترة الأخيرة كيف أنّ بعض الكتّاب والعلماء والباحثين يطلق الكلام باعتبار بعض الروايات أو تصحيحها، بل حتى ادّعاء تواترها، وعندما يتمّ الرجوع إلى المصادر الحديثية والرجالية تحصل المفاجأة؛ إما بعدم وجود سندٍ أساساً لهذه الروايات؛ أو بعدم صحّة السند حتّى عند الاتجاهات الرجالية غير المتشدّدة في النقد السندي. وأعتقد أن ذلك ناتجٌ عن حالة الاطمئنانات النفسية المشار إليها.
إنّ ما نميل إليه هو تشجيع الحركة النقديّة لنتاج السيد الخوئي، ومحاولة التقدّم خطوةً إلى الإمام في هذا المضمار. فالمعايير الحديثية والرجالية للسيد الخوئي لا تخلو من مشكلات تبدّت لنا في جهود غير واحد من النقّاد الذين جاؤوا بعده. لكنّنا نتحفّظ عن أن تكون منطلقاتنا في عملية النقد والتعرية هذه هي هواجس الهويّة والخصوصيّة؛ لأنّ هذا سوف ينقلنا من سياق تحرُّر فكري منتِج إلى سياق انغلاق غير سويّ في الأمور. فالجمع بين العمليّة النقدية في ذاتها والتخلّي عن هذا النوع من المنطلقات فيها هو السبيل الأصحّ في التعامل مع الإرث الكبير الذي تركه لنا السيد الخوئي رحمه الله تعالى.