د. محمد علي مهدوي راد(*)
تمهيد ـــــــ
استخدمت كلمة (التنزيل) في القرآن الكريم خمس عشر مرّة ويرى الباحثون في علوم القرآن والمفسّرون أنّ المراد في ستّة منها هو القرآن الكريم، فيما جاءت الاستخدامات الأُخرى لهذه الكلمة على نحو يُلامس القرآن، ولكن لا على النحو الذي يُفهم بأنّه اسم له، وإنَّما جاءت على نمط يبيّن طبيعة هذا الكتاب الإلهي، وغالباً ما وردت إلى جانب كلمة (القرآن) وتسمياته الأُخر وتحمل حالة الوصف له. كما في سورة الإنسان التي تتحدّث عن الإنسان وكيفية خلقه وحياته وموقفه من الهداية، وما إلى ذلك، ومصير سلوكه وأعماله التي تمثّل تجسيداً عينياً للإيثار والسمو، وهي بالنتيجة بمثابة لوحة لهذا السلوك. وقال بعد بيان طبيعة مواقف الإنسان ومصير أعماله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا﴾]الإنسان:23[.
نتأمّل هنا قليلاً في كيفية معنى (التنزيل) ونتحدّث عن كيفية مجيئه اسماً أو صفة للقرآن.
التنزيل في اللغة ـــــــ
التنزيل مصدر باب تفعيل من مادّة (نَزَلَ) ويدلّ على الانتقال من أعلى إلى أسفل.. عند القول بنزول الشيء من أعلى إلى أسفل، يتداعى إلى الأذهان عند ذكر هذه الكلمة ترجّل الراكب من مركبه، ويُذكّر أيضاً بقدوم الضيف؛ لأنّه يكون قبل الدخول قد نزل من مركب.
قال ابن فارس: (ن. ز . ل) كلمة صحيحة تدلّ على هبوط شيء ووقوعه. يقولون: نزل عن دابّته، نزل المطر من السماء، وما إلى ذلك([1]).
النزول الذي يقابل الصعود والعروج يستخدم في المحسوسات تارة، وفي الأُمور وفي الأمور الاعتبارية تارة أُخرى. أحياناً إذا هبط جسم من نقطة عُليا إلى مكان أدنى فنحن نُسمّي ذلك نزولاً، ونطلق هذه التسمية أحياناً على التدنّي من موقع أعلى إلى موقع أسفل. وأخيراً، تستخدم هذه الكلمة في الأُمور الحقيقية غير المحسوسة. وهكذا الحال بالنسبة إلى نزول القرآن من لدن الله تعالى على قلب الرسول’ . والحقيقة هي أنّ القرآن تنزّل من مقام العلم الإلهي إلى مرحلة الألفاظ والمفاهيم البشرية، ليكون مفهوماً لدى الناس.
وهكذا عندما يوصف القرآن بهذه الكلمة فذلك يدلّ على نزوله من مكانة عُليا ومن موضع سامق، لهداية الناس وإرشادهم وتوعيتهم.
وكلمة (التنزيل) مشتقة من هذه المصدر أيضاً، وهي تحمل دلالة على القرآن نزل من مكانة رفيعة وسامية لهداية الناس. وقد وردت كلمة (التنزيل) لأوّل مرّة في سورة (يس) التي تقع في المرتبة الواحدة والأربعين من حيث ترتيب النزول، وجاءت كوصف للقرآن: ﴿يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ ] يس: 1ـ5[، فالصياغة العامة لسورة (يس) تصب في سياق تبيين وإرساء الأُصول الثلاثة (التوحيد، والنبوّة، والمعاد)، حيث تبدأ بالحديث عن النبوّة وطبيعة هذه الشريعة الإلهية ووحدانية هذا الكتاب الإلهي، وتستمر في الحديث عن التوحيد، ثُمَّ المعاد وبعده عودة على الموضوعات المكورة، ثُمَّ النتيجة، وما شابه ذلك([2]).
ومن مجموع الاستخدامات الأربعة عشرة للتنزيل، قالوا: إنّ خمسة منها جاءت في الأسماء والأوصاف التي أُطلقت على القرآن. وعند التدقيق في الآيات وكيفية استخدامها يتسنى القول بأنّ تلك الاستخدامات لا تنحصر في المواضع التالية: الشعراء 192، فصّلت 42، الواقعة 56، الحاقّة 69، بل نرى أنّ الاستخدامات الأربعة عشرة برمّتها جاءت في وصف القرآن، وفي بعض الحالات جاءت مسبوقة بكلمة القرآن (الجاثية 2 و …) ويظهر أنّ التنزيل وصف له، ويدلّ سياق الكلام على أنّ المراد هو كتاب الله، و (التنزيل) وصف له. وعلى هذا الأساس، فقد استخدمت كلمة (التنزيل) للمرّة الثانية في سورة (طه) التي تحتل المرتبة الخامسة والأربعين في نزول السور، وهي من السور المكّية: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى﴾.
وجاءت هذه الكلمة للمرّة الثالثة في السورة التي تحتل المرتبة السابعة والأربعين في نزول السور القرآنية، وهي سورة الشعراء، حيث ذهب الباحثون القرآنيون إلى أنَّ هذه الكلمة استخدمت هنا كتسمية للقرآن. وإذا تقبّلنا هذا الرأي تكون سورة الشعراء أوّل سورة من حيث النزول، وردت فيها كلمة (التنزيل) اسماً للقرآن أو وصفاً له. وعلى أيّة حال، فإنَّ الغرض العام الذي تهدف إليه هذه السورة هو بيان المكانة الرفيعة لكتاب الله، والتأكيد على أنّه وحي نازل من الله، وفيها تسلية للرسول’ وتثبيت لفؤاده في مقابل تكذيب قومه له، إذ سردت هذه السورة قصص جمع من الأنبياء، وكيفية مواجهة الكفّار والمشركين لهم على مرَّ التاريخ، وكيف كانت عاقبة أمرهم، ثُمَّ عادت الآيات الأخيرة منها إلى استرجاع ما كان قد جاء في الآيات الأُولى مؤكّدة أنّ هذا القرآن تنزيل من ربّ العالمين. نزل به الروح الأمين … (الشعراء: 192 ـ 193). إذ عبّرت هذه الآيات ونظائرها عن نزول القرآن باسم (التنزيل) وصيغة التفعيل دلالة على الكثرة. وفي ضوء ذلك، قال البعض: إنّ كثرة نزول القرآن إمّا هي بلحاظ تعدد الآيات، وإمّا إنّها بلحاظ كثرة مراتب النزول. نتأمّل فيما يلي ولو لبرهة وجيزة في معنى كلمة التنزيل وكيفية اقترانها بالإنزال.
الفرق بين الإنزال والتنزيل ـــــــ
استَخدمت الآيات الشريفة كلمات أُخر لبيان كيفية نزول القرآن، منها كلمة (أنزل)، وكلمة (نزّل)، وعلى صيغة إفعال وردت كلمة (إنزال)، وعلى صيغة التفعيل جاءت كلمة (التنزيل). وهذا التنوّع في استخدام الألفاظ المتعددة لموضوع واحد، دفع الباحثين والمفسّرين إلى التساؤل عن وجود أو عدم وجود فارق بين الإنزال والتنزيل، وبالنتيجة هل يتحدّث هذان النوعان من الآيات عن نوعين من النزول، أم ليس هناك فارق بينهما، وكلا الصيغتين تؤديان المعنى نفسه؟ ومن جملة أقدم مصادر العلوم القرآنية التي أشارت إلى هذا الفارق، هو كتاب مفردات ألفاظ للقرآن للراغب الأصفهاني: «الفرق بين الإنزال والتنزيل في وصف القرآن والملائكة، أنّ التنزيل يختص بالموضوع الذي يشير إليه إنزاله مُفَرّقاً مرّة بعد مرّة …. ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، إنا أنزلناه في ليلة مباركة، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن … خصَّ لفظ الإنزال دون التنزيل في الآيات السابقة لما روي «أنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى السماء الدنيا، ثُمَّ نزل نجماً نجماً» طيلة مدّة الرسالة»([3]).
إنّ ما ذكره الراغب آنفاً في الفرق بين الإنزال والتنزيل، ألقى بظلاله بشكل واسع عَلى البحوث القرآنية وآراء المفسّرين من بعده([4]). مع فارق أنّ القدماء غالباً ما كانوا يوضّحون الفارق بين هاتين الكلمتين بالقول: الإنزال يدلّ على النزول جملة والتنزيل يدلّ على النزول التدريجي، وبذلك حذفوا قيد أشملية صيغة الإنزال.
وقد ذكر جار الله الزمخشري لسببٍ ما هذا الاختلاف بين كلمتي الإنزال والتنزيل على النحو التالي:
أثار الزمخشري في ذيل الآية الشريفة ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ﴾ السؤال التالي: «فإن قلت: لم قيل: (نزّل الكتاب) و (أنزل التوراة والإنجيل)؟ قلتُ: لأنّ القرآن نزل مُنجماً ونزل الكتابان جملة» ([5]).
وقد نسج على هذا المنوال المفسرون الآخرون في ذيل هذه الآيات والآيات الأُخر المتعلّقة بهذا الموضوع ويبدو أنّ البعض اعتقد بأنّ استخدام كلمة التنزيل جاء بسبب كثرة نزول آيات القرآن في مقابل التوراة والإنجيل، ويعزى ذلك إلى أنّ نزول القرآن جاء تدريجياً، وبالنتيجة فقد كان نزوله كثيراً، خلافاً للتوراة والإنجيل اللذين نزلا دفعة واحدة([6]).
نظرية العلامة الطباطبائي في تعدّد النزول القرآني ـــــــ
وبحث العلاّمة الطباطبائي هذا الموضوع أيضاً. فكتب في المرّة الأُولى عند تفسيره الآية (185) من سورة البقرة ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ…﴾ ما يلي: «الفرق بين الإنزال والتنزيل هو أنّ الإنزال دفعي، والتنزيل يدلّ على التدرج»([7]).
وكتب في المرّة الثانية عند تفسيره الآية الثانية من سورة آل عمران: «التنزيل يدلّ على التدرج، والإنزال يبيّن النزول الدفعي»([8]).
ولكنه كتب عند تفسيره الآية (192) من سورة الشعراء ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: «التنزيل والإنزال بمعنى واحد، غير أنَّ الغالب على باب الأفعال الدفعة، وعلى باب التفعيل التدريج»([9]).
وكتب أخيراً عند تفسيره سورة القدر: «الإنزال الظاهر في اعتبار الدفعة، دون التنزيل الظاهر في التدريج»([10]).
وعندما جاء العلاّمة الطباطبائي على نقد وتمحيص الآراء المطروحة في هذا المضمار كتب ما ينم عن ثباته على رأيه: «والذي يعطيه التدبّر في آيات الكتاب أمر آخر؛ فإنّ الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان، أو في ليلة منه إنّما عبّرت عن ذلك بلفظ الإنزال على الدفعة دون التنزيل، كقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ (البقرة: 185)».
تُعزى تسمية نزول القرآن جملة إلى أنّ هذا الكتاب الإلهي نزل كلّه أو قسم منه دفعة واحدة في شهر رمضان، أو أنّ لهذا الكتاب الإلهي حقيقة وراء ما نفهمه بشكل عادي له تفصيل وبسط وتدرّج. وعلى هذا الأساس، فهو إنزالي وتنزيلي أيضاً. وهذا ما يُمكن فهمه من الآيات الإلهية: ﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود: 1).
الإحكام في مقابل التفصيل، والتفصيل جَعْله فصلاً فصلاً، وقطعة قطعة. إذاً إحكام القرآن يعني حالة ومرحلة لا يكون فيها القرآن مقسّماَ جزءاً جزءاً، ولا تُقسم أجزاؤه عن بعضها الآخر. فهو في هذه المرحلة يرجع إلى معنى واحد بغير أجزاء وفصول. والآية تدلّ بكلّ وضوح على أنّ هذا التفصيل جاء بعد مرحلة الإحكام.
وهناك ما هو أوضح من ذلك؛ إذ تُبيّن الآيات (53) من سورة الأعراف، و(35 ـ 37) من سورة يونس، بكلّ جلاء، أنّ التفصيل عارض على الكتاب الإلهي. فالكتاب شيء، والتفصيل شيء آخر عارض عليه. والأوضح من ذلك قوله تعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الزخرف: 1ـ4). فإنّه ظاهر في أنّ هناك كتاباً مُبيناً عرض عليه جعله مقروء عربياً، وإنّما أُلبس لباس القراءة والعربية، ليعقله الناس وإلاّ فإنّه ـ وهو في أُمّ الكتاب ـ عند الله، عليّ لا يسعد إليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل. وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنّه أصل القرآن العربي المبين، وفي هذا السياق أيضاً قوله تعالى ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الواقعة: 75ـ80)، فإنّه ظاهر في أنّ للقرآن موقعاً هو في الكتاب المكنون لا يمسّه هناك أحد إلاّ المطهرون من عباد الله، وأنّ التنزيل بعده، وأمّا قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار وهو الذي عبّر عنه تارة باللوح المحفوظ، وعبّر عنه تارة أُخرى بأُم الكتاب.
ثُمّ إنّ هذا المعنى، أعني: كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين ـ ونحن نسمّيه بحقيقة الكتاب ـ بمنزلة اللباس من المتلبّس، وبمنزلة المثال من الحقيقة، وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو الصحيح، لأن يطلق القرآن أحياناً على أصل الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾ (البروج: 22ـ23)، إلى غير ذلك، وهذا الذي ذكرنا هو الموجب؛ لأن يحمل قوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾، وقوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، على إنزال حقيقة الكتاب إلى قلب رسول الله’ دفعة، كما أُنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجياً في مدّة الدعوة النَّبوية.
فهذا ما يهدي إليه التدبّر وتدلّ عليه الآيات. نعم، أرباب الحديث، والغالب من المتكلمين والحسّيين من باحثي هذا العصر، لمّا أنكروا أصالة ما وراء المادة المحسوسة اضطرّوا إلى حمل هذه الآيات ونظائرها كالدالّة على كون القرآن هدىً ورحمة، ونوراً وروحاً، ومواقع النجوم، وكتاباً مبيناً، وفي لوح محفوظ، ونازلاً من عند الله، وفي صحف مطهّرة، إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة والمجاز، فعاد بذلك القرآن شعراً منثوراً([11]).
نقد نظرية العلامة الطباطبائي ـــــــ
سَجَّل العلامة الطباطبائي مثل هذا الاستدلال في مواضع أُخر، وفي مناسبات أُخر، واقتفى خطاه بعض تلامذته أيضاً، إلاّ أنّنا لا نرى صحّة أساس هذا الكلام ولا صحّة الاستدلال عليه، فخلاصة كلام العلاّمة هي أنّ القرآن في مرحلة ما لم يكن مفصّلاً ولا مفرّقاً، وكانت حقيقته بعيدة عن التفصيل. وقد نزلت هذه الحقيقة على قلب الرسول جملة (الإنزال). ومن بعد ذلك اكتسب القرآن قالب الألفاظ وتنزّل على قلب الرسول تدريجياً طيلة مدّة الرسالة (التنزيل). وهذا الكلام إنّما يصحّ فيما لو كان:
1 ـ الاختلاف بين كلمتي الإنزال والتنزيل قطعياً من الناحية اللغوية.
2 ـ أن يكون هذا الاختلاف ثابتاً لا ريب فيه في الاصطلاح القرآني وفي الثقافة القرآنية التي استند إليها العلاّمة.
3 ـ ألاّ يكون هناك ما يطعن في صحّة دلالة الآيات موضع الاستشهاد على ما ذُكِر.
بيد أنّ المقدّمات الثلاثة كلّها موضع شكّ وتردّد.
1 ـ نقد فكرة التمييز اللغوي بين الإنزال والتنزيل ـــــــ
دوّن ابن منظور أقدم الآراء في هذا المجال عند شرحه لمعاني كلمة (نزل) على الوجه التالي:
«تَنَزَّله وأنزله ونزّله بمعنىً. قال سيبويه: وكان أبو عمرو يفرّق بين نَزَّلت وأنزلت، ولم يذكر وجه الفرق. قال أبو الحسن: لا فرق عندي بين نزّلت وأنزلت إلاّ صيغة التكثير في نزّلت»([12]).
وذهب الجوهري إلى أنّ هاتين الكلمتين على معنىً واحد، سوى أنّ التنزيل يحمل عنده معنى الترتيب أيضاً([13]).
وقال الفيّومي أيضاً: أنزلته ونزّلته واستنزلته، كلّها بمعنى أنزلته.
وعلى هذا المنوال ذهب الفيروز آبادي عند بيانه لهاتين الكلمتين، وهو ما سجّله الزبيدي عيناً في شرحه: ونزّله تنزيلاً وأنزله وإنزالاً ومنزلاً كمجمل واستنزله، بمعنىً…([14]).
وهكذا يتّضح من خلال ما قاله علماء اللغة والأدباء العرب أنَّ القول بوجود فرق بين الإنزال والتنزيل، لا يستند إلى دليل.
2 ـ نقد فكرة التمييز القرآني بين الإنزال والتنزيل ـــــــ
وهنا ينبغي أن نرى هل يُمكن فهم هذا المعنى في الآيات القرآنية؟ يبدو أنّ الجواب سلبي، فقد جاء في سورة البقرة تقرير لموقف المشركين ومنطقهم الواهي في إتّباع ما كان عليه آباؤهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 170).
ومن الواضح أنّ الكلام يدور هنا حول مواجهة المشركين للآيات النازلة التي تُتلى على الناس، وما كان للمشركين من موقف إزاءها، ولا يُراد به تلك المرحلة من (إحكام) القرآن التي جاءت في كلام العلاّمة& واعتبرت مدلولاً على الإنزال. وقال الله تعالى عزّ وجلّ في موضع آخر من القرآن الكريم في وصف التأثير العميق للآيات الإلهية: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ (الحشر: 21). مثل هذه الآيات غير قليلة في القرآن الذي وصفه هذا العالم الجليل بأنّه اكتسى ثوب العربية، وسمّاه الإنزال([15]). ولم يطلق هذه التسمية على تلك المرحلة العلوية (أُم الكتاب) التي لا يتسنّى بلوغها، وأوضحُ الآيات في هذا المجال: ﴿…وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً﴾ (الأنعام: 112).
كتب العلاّمة الطباطبائي في توضيح هذا المعنى ما يلي: «وهو الذي عليكم هذا الكتاب وهو القرآن مفصّلاً متميّزاً بعض معارفه من بعض غير مختلط بعض أحكامه ببعض»([16]).
أي إنّ الحالة و المرحلة التي جعلها العلامة& في مقابل (الإنزال) عبّرت عنها هذه الآية الشريفة بكلمة (الإنزال)، وحسب تعبير العلاّمة& نفسه أنّ إحدى خصائص القرآن (التفصيل).
وعلى صعيد آخر استخدمت صيغة (التنزيل) للتعبير عن نزول القرآن جملة واحدة: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ (الفرقان: 32). ومن الواضح أنّ هذه الآية عبّرت عن نزول القرآن جملة واحدة بعبارة (نزَّل). وبالنتيجة استخدمت كلمة (التنزيل) بمعنى الإنزال جملة واحدة.
نهى الباري تعالى الرسول’ والمؤمنين عن مخالطة من يستهزئون بآيات الله، فقد جاء في سورة الأنعام ما يلي: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ (الأنعام: 68).
وأشار في موضع آخر إلى هذه الآية بقوله: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ﴾ (النساء: 140). استخدمت في هذه الآية الشريفة التي تشير من غير شكّ إلى تلك الآية([17])،كلمة (نَزَّل) بصيغة التفعيل، ولا يراد بها هنا النزول التدريجي أو المتعاقب.
ويفهم في ضوء ذلك أنه ليس ثمّة فارق بين معنى هاتين الكلمتين في الاستخدام القرآني، وكما ذكرنا سابقاً فإنّه اعتبر هذا الاستخدام غالباً، إلاّ أنّنا نرى أنّ هذا الكلام غير صحيح أيضاً.
3 ـ وقفة نقدية مع الشواهد القرآنية الــتي قدّمها الطباطبائي ـــــــ
وهنا نلقي نظرة على الآيات التي استدلّ بها العلاّمة الطباطبائي لإثبات مراده، لنلاحظ هل أنّها تثبت ذلك الرأي أم لا؟ الآية الأُولى التي استدلّ بها هي الآية الشريفة التالية:
﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود: 1).
تتحدّث هذه الآية الشريفة عن القرآن وخصائصه. فقد جعل الله تعالى لقرآن صفتين هما: الإحكام، والتفصيل، مبيّناً أنّ هذا الكتاب أُرسل من عند حكيم خبير، وتقول هذه الآية: إنّ القرآن وآياته على درجة عالية من النظم الرصين المحكم الذي لا يقع فيه نقص ولا خلل. وهنا يجب التساؤل عن الداعي لاستخدام كلمة (أُحكمت) و(الإحكام) كمرتبة من مراتب القرآن، وبمعنى أنّها مرحلة ذات حقيقة واحدة غير مفصّلة ولا مُجَزأة؟ هذان الوصفان في هذه الآية، وأشباههما من الأوصاف، من خصائص الدلالة في الكلام والألفاظ، وليستا من خصائص (الوجود العيني). فما ذكرناه حول الإحكام كان قد صَرّح به المفسّرون، ومنهم الزمخشري الذي كتب ما يلي: «نُظمت نظماً رصيناً محكماً لا يقع فيه نقض ولا خلل، ثُمَّ جعلت فصولاً سورة سورة، وآية آية»([18]).
وقد جاء الفخر الرازي برأي مشابه لرأي الزمخشري، وربّما يكون استقاه منه.
وذكر أمين الإسلام الطبرسي في مجمع البيان عدّة أقوال في تفسير هذه الآية، منها أنّه ذكر في معنى (أُحكمت)، أي أُتقِنت آياته فليس فيها خلل ولا باطل. بيد أنّه كتب في جوامع الجامع الذي كتبه بعد مجمع البيان، وضمّ المختار من آراء وأفكار هذا المفسّر الجليل، كتب فيه ما يلي: «نظمت محكماً لا نقص ولا خلل كالبناء المحكم، أو جعلت فصولاً آية آية وسورة سورة … ومعنى «ثُمَّ» التراخي في الحال لا في الوقت، كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام ثُمَّ مفصّلة أحسن التفصيل»([19]).
المراد بالكتاب القرآن، والمعنى أنّ هذا الكتاب واضح المعاني محكم النظم لا نقص فيه ولا خلل([20]).
وكشف المفسّر المغربي الجليل ببيان دقيق أنّ هاتين الكلمتين تدلاّن على ميزتين يتّسم بهما كتاب الله، وهما: الإحكام، وإتقان الأشياء بحيث تكون سالمة من الإخلال التي تعرض لنوعها ([21])، والطريف في الأمر أنّ العلاّمة الطباطبائي عند بحثه لهذا الموضوع استقى المعنى من هذه الآية وفسّر كلمة (الإحكام) بالمعنى الذي ذكرناه.
وعند تفسيره سورة هود، وتفسير هذه الآية بالذات، نقد الآراء الأُخر، ولكنه لم يذكر هذا الكلام اعتقاداً منه بأنّ وجود الآيات المحكمات في المفضّلة يدلّ على أنّ الآيات القرآنية الشريفة مع ما تنطوي عليه من اختلاف في المضامين وتنوّع في المعاني والمقاصد والأغراض، تعود كلّها إلى معنىً واحد وبسيط، وهذه الحقيقة تسري في الآيات كسريان الروح. تلك الحقيقة الواحدة الجارية هي التوحيد الذي يسري في جميع آيات العقائد وآيات الأخلاق، وما شابه ذلك.
وكذا فمن الواضح بأنّ هذه الآية الشريفة استخدمت كلمة (أُحكمت) لتُبيّن بأنّ كلّ المعارف والأحكام القرآنية ذات مصدر واحد، وأنّ المراد من الكتاب في هذه الآية هو القرآن الذي بين أيدينا، وأنّ هذا البيان بيان دقيق ومقبول. وهذا يعني (أُحكمت) و(فُصّلت) تمثّلان صفتين لهذا القرآن الذي «اكتسى ثوب العربية» وليس سواه، وقد جاء هذا الكلام في سياق إثبات الرأي الذي طرحه سماحته.
الآية الأُخرى التي استشهد بها العلامة الطباطبائي هي الآية الشريفة التالية: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (يونس: 37). قال العلاّمة الطباطبائي: إنّ هذه الآية تبيّن بكلّ جلاء أنّ و(التفصيل) أمر عارض على القرآن، إذاً فالكتاب شيء، و (التفصيل) شيء آخر عارض عليه.
إنّ سورة يونس من السور المكّية، وكأنّها أُنزلت عقيب إنكار المشركين الوحي النازل على النَّبي‘ وتسميتهم القرآن بالسحر. فردَّ الله سبحانه ذلك عليهم ببيان أنّ القرآن كتاب سماوي نازل بعلمه تعالى، وأنّ الذي يتضمّنه من معارف التوحيد ممّا تدلّ عليه آيات السماء والأرض … وذلك قول الله عزّ وجل: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾. إذاً الكلام يدور حول القرآن، وهو الكتاب الذي نزل، ودخل المشركون في مواجهة معه، وما جاء فيه من ردٍّ إلهيٍّ على أقاويلهم وظنونهم. وأنَّ هذا القرآن يتّسم بالمزايا التالية:
1 ـ إنّه مصدّق لما جاء من قبله.
2 ـ تفصيل الكتاب.
3 ـ لا ريب فيه.
4 ـ إنّه من رب العالمين.
وإنّما يصحّ استدلال العلاّمة الطباطبائي& بهذه الآية فيما لو كان مراده من (الكتاب) القرآن الذي لم يتلبّس بثوب العربية، وإلاّ فما تأثير التفصيل العارض على الكتاب، وكون كلّ من الكتاب والتفصيل بمعزل عن الآخر، في إثبات رأي سماحته؟ ومع كلّ ذلك فنحن نعلم بأنَّ المراد من الكتاب هنا ليس القرآن، وإنّما المراد «الشرائع وما أُوجب على الإنسان»، أو «الكتب السماوية»([22]).
وعلى هذا الأساس، ليس هناك أية صلة بين هذه الآية وبين ما ذكره العلاّمة الطباطبائي في توضيح تفسير الآية (185) من سورة البقرة. والآية ترمي إلى إثبات وحيانية القرآن وتأكيد حقيقة أنّ هذا الكتاب امتداد للكتب السماوية وتعاليمه، وآياته تفصيل، وشرح، لمعارف الكتب السابقة؛ كما أكّد العلاّمة صواب هذا المعنى عند تفسيره الآية نفسها في سورة يونس، ولكنه لم يُشر إلى المعنى الذي استند إليه.
ومن الآيات الأُخر التي استند إليها العلاّمة الطباطبائي لإثبات وجهة نظره، هي الآيات (77 ـ 80) من سورة الواقعة: ﴿ِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ التي تثبت أنّ للقرآن مكانة أُخرى يُعبّر عنها بـ (الكتاب المكنون)، ولا يمسّه إلا المطهّرون. و(التنزيل) مرحلة أُخرى جاءت في أعقابها. وقبل التنزيل كانت هذه المكانة عالية بعيدة عن متناول أيدي الأغيار، إلى أن هبط في مرحلة التنزيل واكتسى ثوب العربية.
ولكنّنا نعتقد أنّ هنالك شكّ في انطباق هذه الآية على المعنى المزعوم على الأقل.
فالله عَزَّ وَجَلَّ يُقسم ويؤكّد ذلك القسم؛ ليقول بأنّ (القرآن) كتاب كريم. وهكذا فهو عَزَّ وَجَلَّ يصف القرآن في هذه الآيات بأنّه يتّصف بمزايا خاصّة. فقد جاءت سورة الواقعة تحمل في بدايتها لهجة تتصف بالصرامة والحزم. وتتحدّث عن القيامة الكبرى والبعث والنشور، ثُمَّ تبيّن القدرة الإلهية لتبطل دعاوى المشركين المنكرين لتوحيد الله وربوبيّته وإلوهيّته وللبعث والجزاء. ومن الطبيعي أنّ هؤلاء المشركين لا يستسيغون كلّ هذه التعاليم السماوية؛ لأنّهم لا يؤمنون بكتاب الله، ولا يعتبرون القرآن وحياً نازلاً من السماء، بل يظنون أنّه من عند الرسول. وبعد الحديث عن التوحيد والبعث، أقسم الباري تعالى إيماناً مغلظة بأنّ ما تنكرونه ولا تقرّون بأنّه وحي نازل من السماء، يتصف بما يلي:
1 ـ إنّه قرآن كريم زاخر بالمنافع، وفيه تعاليم كريمة قيّمة لسعادة الدنيا والآخرة.
2 ـ إنّ لهذا الكتاب جذور تمتدّ في (الكتاب المكنون)، وهو اللوح المحفوظ. ويبدو أنّ هذا الآية تتماشى مع سياق الآيتين (21 ـ 22) من سورة البروج: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾، أي إنّه كتاب محجوب عن الأبصار والأفهام وعن دائرة إدراك الإنسان، أي لا تتوهموا بأنّ هذه المعارف منقطعة الأُصول وليست ذات جذور، بل تمتد جذور هذا القرآن إلى الكتاب المكنون، وهذه التعاليم مستقاة من العلم الإلهي المطلق. وهذا يعني بأنّه محفوظ ومصان من الخطأ وما إلى ذلك.
3 ـ هذا القرآن عليٌّ وكريم ومستقى من العلم الإلهي وتمتد جذوره في (الكتاب المكنون) الذي لا يناله ولا يدرك أعماقه إلاّ المطهّرون، أو لا ينبغي لغير المطهّرين مدّ أيديهم إليه ولمسه.
وصلب الموضوع هنا هو هل ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ وصف للقرآن أم للكتاب المكنون؟ والظاهر أنّه وصف للقرآن الكريم. فقد نقل العلاّمة الطباطبائي كلا الرأيين قائلاً:
أـ وصف للكتاب المكنون.
ب ـ وصف ثالث للقرآن.
غير أنّه لم يعيّن صواب أحدهما، وإنّما اكتفى بذكر هذين الرأيين فحسب، خلافاً لموضع الاستشهاد حيث أكّد بشكل قاطع أنّه وصف للكتاب المكنون. و(المس) على معنيين: اللمس الظاهري، والعلم والإدراك. وهكذا فالآية تظهر من جهة أنّ علومه لا تُنال، وحقائقه لا تدرك، وغوره لا يسبره إلاّ المطهّرون، وتدعو من جهة أُخرى إلى أن لا يمسه غير المطهّرين([23]).
وفي الحالة الثانية الجملة إخبارية في مقام إفادة معنى إنشائي. وقد ورد المعنى الثاني في الروايات أيضاً([24])، ويفيد هذا النوع من الروايات أنّ جملة (لا يمسّه …) وصف للقرآن وليس للكتاب المكنون.
4 ـ إنّه قرآن كريم تنبثق جذوره من العلم الإلهي ولا يدرك حقائقه إلاّ المطهّرون. وهو كتاب منزل من ربّ العالمين الذي وسعت ربوبيّته كلّ العالمين، فهو ربّكم أيضاً. وهذا ما يوجب عليكم الإقرار بحقائق كتابه والإيمان به، وعدم التمرّد عليه وعصيان أوامره، وما إلى ذلك.
وخلاصة القول هي:
أوّلاً: جملة (لا يمسّه …) ليست وصفاً للكتاب المكنون لتكون ذات دلالة على المكانة والموقع، وأنّه لا يُنال … .
ثانياً: على فرض أنّ الأمر كذلك، فمن أين كانت مرحلة الإنزال تلك، ومن بعدها جاءت مرحلة التنزيل؟ وما هو الأساس الذي يستند إليه هذا الاستخدام للكلمات؟
اتّضح ممّا ذكرناه إلى الآن بأنّ ما استدلّ به العلاّمة الطباطبائي على وجود اختلاف بين كلمتي (الإنزال) و(التنزيل) غير ثابت، وما من دليل مقنع عليه. وهكذا يبدوا أنّ كلامه النهائي لا يستند إلى دليل حين يقول بأنّ هناك من يحملون نظرة حسيّة وتجربية ولا يدركون ما وراء الطبيعة على نحو صحيح و … .
قال العلاّمة محمّد حسين فضل الله، بعد أن طرح العقدة الموجودة في هذا الموضوع على بساط البحث، واستعرض آراء العلماء والمفسّرين، ومنها رأي العلاّمة الطباطبائي الذي لجأ إلى القول بوجود نزولين للقرآن، عند بيانه لهذا الموضوع: <والواقع أنّ الظاهر من القرآن هو أنّ إنزاله كان في ليلة من شهر رمضان، ولا نجد هناك فرقاً بين الآيات التي تتحدّث عن إنزال القرآن في ليلة القدر أو في شهر رمضان، وبين الآيات التي تتحدّث عن إنزاله على مكث أو تدريجياً>.
ثُمَّ كتب، مشيراً إلى الكلام الأخير للعلاّمة الطباطبائي&، ما يلي: «ولا نستطيع أن نحمل القرآن على معنىً غامض خفي في علم الله، لا من جهة أنّنا نريد أن نفسّر القرآن تفسيراً حسياً مادياً كما يفعل الحسيون، بل من جهة أنّه لا دليل على ذلك فيما حاول بعض المفسّرين أن يقيم الدليل عليه، ممّا لا مجال للخوض في النقاش فيه؛ لأنّنا لا نجد فيه كبير فائدة … وعلى ضوء ذلك، فإنّ هذا الظهور القرآني البيّن يجعلنا لا نثق بالروايات التي توقّت البعثة في رجب ولذلك فمن الممكن أن يكون المراد من الإنزال هو أوّل الإنزال، والظاهر أنّ هذا المقدار كاف من الجانب التفسيري من القضية»([25]).
نظريات أخرى في الإنزال والتنزيل ـــــــ
بعد أن شرح المفسّر الجليل الشيخ حسن المصطفوي المعنى اللغوي لكلمة (النزول) في ضوء ما ورد في القواميس الغوية، وعلى أساس أُسلوبه في بحث معاني الكلمات، بَيّنَ المعنى الأساسي لهذه الكلمة، وعرض الاختلاف بين كلمتي (الإنزال) و(التنزيل) في ضوء الآيات التي استخدمت فيها هذه الكلمات، وأدرج مسرداً بتلك الآيات، وكتب ما يلي: الإنزال: الهبوط الذي يلاحظ فيه جهة صدور الفعل من الفاعل: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾، ﴿وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾…
وأما التنزيل: فهو الهبوط الذي يلاحظ فيه جهة الوقوع، فيكون النظر إلى الفعل من جهة الوقوع وتعلّقه بالمفعول والمتعلّق، كما في: ﴿نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾، و﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾.
ولو كان هذا الاختلاف يصدق على كلّ الحالات، فهو دقيق ومقبول، ولكن الأمر ليس كذلك، ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ (الأعراف: 196)، ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ (العنكبوت: 63). وهناك آيات شريفة أُخرى استُخدمت فيها كلمة (نَزَّل) من غير أن تُلاحظ فيها جهة الوقوع والتعلّق بالمفعول.
وذهب بعض العلماء والباحثين في علوم القرآن مذهباً آخر، فقالوا: بأنّ هناك معنىً يُمكن تطبيقه على جميع الآيات من غير استثناء، وهو: إنَّ الوجه الآخر للفارق بين هاتين الكلمتين وهو ما يبدو أكثر وضوحاً هو أنّ الإنزال يدلّ على صيغة التعدّي فقط، ولا يحمل بين ثناياه مفهوم النزول جملة واحدة أو النزول نجوماً، وليس فيه دلالة على الوحدة أو الكثرة ولذلك فهو يتماشى مع الوحدة والكثرة ومع النزول نجوماً أو جملة واحدة، ولكن بالنسبة إلى كلمة التنزيل، فبما أنّها جاءت على صيغة التفعيل فقد لوحظ فيها معنى الكثرة (وليس معنى التدرّج والنزول نجوماً). وقد تأتي هذه الكثرة من ناحية الفعل تارة، مثل: (طوّفت الكعبة) أي طفت الكعبة مراراً، وتأتي تارة أُخرى من ناحية الفاعل كقولهم: (موّتت الآبال) وتأتي تارة ثالثة فيما يخصّ المفعول، مثل: (غَلَّقت الأبواب) أي أغلقت أبواباً كثيرة. بالنسبة لنزول القرآن، يمكن أن تؤخذ بنظر الاعتبار الكثرة من حيث تعدّد مراتب النزول (نوع الكثرة في الفعل)؛ لأنّه كما سبقت الإشارة هناك بَون شاسع بين المرتبة الحقيقية للقرآن (مرتبة من علم الله) وبين مرتبة الألفاظ والمفاهيم. وفي ضوء ذلك يصح استخدام كلمة التنزيل لنزول آية أو موضوع، ويصح استخدامها أيضاً لنزول مجموع القرآن حتّى بصفته وحدة اعتبارية أو حقيقية([26]).
وهنا ينبغي أن نضيف إلى ذلك ما يلي:
أوّلاً: هذا الاختلاف يقم على القول بوجود بَوْنٍ شاسع بين المرتبة الحقيقية للقرآن (مرتبة من علم الله) ومرتبة الألفاظ والمفاهيم إلى الحدّ الذي يصدق عليها عنوان (الكثرة). وهذا أمر بعيد جدّاً.
ثانياً: في الآيات التي استخدمت فيها هذه الصيغة وجاءت كنقل أقوال الآخرين، يجب أن نعلم بأنّهم كانوا يعتقدون أيضاً بوجود هذا الفارق الشاسع بين تلك المرتبة الحقيقية ومرتبة الألفاظ والمفاهيم، بحيث استخدموا تلك الصيغ: ﴿وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ (الحجر: 6)، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ (الفرقان: 32)، ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزخرف: 31).
تظهر مثل هذه الموارد الأُخر التي استُخدمت فيها هذه الصيغة (وليس الآيات الشريفة التي لا يُمكن أن تؤخذ فيها الكثرة بنظر الاعتبار)، وكأنّ من جملة معاني صيغة التفعيل، وخاصّة كلمة (التنزيل)، الدلالة على الكثرة، غير أنّ هذا المعنى غير عام ولا شامل، وهذا الاختلاف غير ثابت.
وقفة أخيرة ـــــــ
الآن وبعد أن ذكرنا الآراء المختلفة حول الفارق بين كلمتي (الإنزال) و (التنزيل) وبيّنا تهافتها، يُمكن القول بأنّ هاتين الكلمتين لا فارق بينهما في الاستخدام القرآني، كما أوضحنا ذلك آنفاً نقلاً عن علماء اللغة. ومن حيث الآيات القرآنية فهذا الفارق لا وجود له أساساً، كما أسلفنا القول، بل يُمكن القول إنّ الآيات تحمل دلالة واضحة على أنّ كلمتي (الإنزال) و (التنزيل) عبارة عن صيغة متعدية لكلمة النزول، وهما مترادفتان في معناهما تقريباً ويصحّ استخدام كلّ واحدة منهما بدل الأُخرى. فالقرآن الكريم قد يُعبر عن موضوع معيّن بكلمة (الإنزال) تارة، أو بكلمة (التنزيل) تارة أُخرى: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ (الأنعام: 37)، ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ (يونس: 20).
كان الإمام سيّد الساجدين وزين العابدين× يقرأ دعاءً في ختم القرآن، ويستخدم فيه كلمتي (الإنزال) و (التنزيل) بمعنىً واحد: «ووحياً أنزلته على نبيّك محمّد صلواتك عليه وآله تنزيلاً»([27]). ولذلك فنحن نرى صواب آراء المفسّرين الذين قالوا في ضوء ما فهموه من الآيات القرآنية الشريفة وبعد التدبّر في معاني الكلمات وكيفية استخدامها، أنّ لكلمتي (الإنزال) و (التنزيل) معنىً واحداً.
في القرآن الكريم في الآية الثانية من سورة آل عمران جاء التعبير عن نزول القرآن بكلمة (نَزَّلَ)، وعَبَّر عن نزول التوراة والإنجيل بكلمة (أنزل)، وهذا ما دفع بعض المفسّرين إلى الظن بأنّ هذا الاختلاف في التعبير يُعزى إلى أنّ القرآن نزل منجّماً، ونزل الكتابان (التوراة والإنجيل) جملة([28]). وقد كتب أبو حيّان الأندلسي الأديب والمفسّر المعروف في القرن الثامن، في نقد هذا الرأي: إنّ التعدية بالتضعيف لا تدلّ على التكثير ولا التنجيم، وقد جاء في القرآن (نَزَل) و (أنزَل) بمعنى واحد.
وكتب الشيخ محمّد الطاهر بن عاشور: «ووقع في الكشّاف هنا وفي مواضع متعدّدة أن قال: (نَزَّل) يدلّ على التنجيم، وأن (أنزل) يدل على أنّ الكتابين أُنزلا جملة واحدة. وهذا لا علاقة له بمعنى التقوية المُدَّعى للفعل المضاعف، إلاّ أنّ يعني أنّ (نزَّل) مستعمل في لازم التكثير، وهو التوزيع، وردّه أو حيّان الأندلسي وبيّن وهنه»([29]).
وكتب السيّد عبدالحسين طيّب&: «نزَّل وأنزل بمعنىً واحد، والتعبير بكليهما جائز»([30]).
وعلى هذا فالتنزيل يدلّ على نزول آيات الله من موضع رفيع ومن مقامٍ ملكوتي، وهذا لا يختلف عن الإنزال الذي يدلّ على هذا المعنى نفسه، وكما ذكرنا في بداية البحث أنّ هناك موارد متعدّدة في القرآن وردت فيها كلمة (التنزيل) لوصف كتاب الله، وقد اعتبر العلماء خمسة منها اسماً للقرآن أو وصفاً مباشراً له. وأحد هذه الموارد الآية (43) من سورة الحاقّة، حيث قال الله عَزَّ وَجَلَّ بعد القسم بكلّ ما يبصره الناس : ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
تحمل (الحاقّة) لهجة تهويل وتنبيه وتوعية. وهي تبدأ بأحد أسماء يوم القيامة. وهي رمز وتعبير واضح لتمرد قوم ثمود على الحق وتكذيبهم لنبيّهم والنهاية المهلكة التي انتهوا إليها، وكذلك العذاب الذي أصاب قوم عاد. وجرى وصف كلّ تلك الأهوال بكلمات مثيرة تقرع الأسماع، ثُمَّ تتحدّث أيضاً عن مشهد يوم القيامة وعرض الناس للحساب، واستلام كلّ شخص صحيفة أعماله وما سُجّل عليها في الدنيا ونتيجة ذلك وموقف الإنسان في ذلك اليوم، ثُمَّ جاء القَسَم بالأرض وما عليها أنّ كلّ ما جرى وصفه حق، وما هو بقول شاعر ولا كهانة كاهن، بل هو تنزيل من ربّ العالمين، لعلّ الإنسان يتنبّه ويتذكّر ويصغي إلى تعاليم القرآن وما فيه من رسالة موقظة للضمائر، عساه أن يدرك بكلّ وجوده حقيقة كلام الله وما ينطوي عليه بين سطوره([31]).
خلاصة واستنتاج ـــــــ
اتّضح ممّا ذكرناه حتّى الآن أنّ الحالات المتعدّدة لكلمة التنزيل التي وردت في الآيات الشريفة (وهي أربعة عشر مورداً) جاءت كوصف للقرآن الكريم. ونحن من جهة نعتبر كلّ هذه الكلمات وصفاً للقرآن وليست اسماً له، ومن جهة أُخرى لا نرى أي فارق بين المواضع الخمسة التي وردت فيها هذه الكلمة وبين المواضع الأُخر. وأخيراً اتّضح أنّ الاستخدام اللغوي والقرآني لكلمة التنزيل لا يختلف عن كلمة الإنزال.
الهوامش
(*) أستاذ جامعي، وباحث مختصّ بعلوم القرآن والحديث، رئيس تحرير مجلة (آيينه پژوهش)، له مساهمات فكرية عديدة.
([1]) معجم مقاييس اللغة 5: 417، وأيضاً انظر: العين 7: 347؛ لسان العرب 14: 111.
([2]) الميزان في تفسير القرآن 17: 62.
([3]) مفردات ألفاظ القرآن الكريم: 799 ـ 880، للاطلاع على الرواية موضع الاستشهاد والروايات المشابهة راجع: الدر المنثور، الجزء 6.
([4]) راجع: بصائر ذوي التمييز 2: 49 و 5: 39؛ عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ 4: 164.
([5]) الكشّاف 1: 526، مكتبة العبيكان، 1418.
([6]) راجع على سبيل المثال: الوسيط في تفسير القرآن المجيد 1: 412؛ الجامع لأحكام القرآن 2: 297 و4: 5؛ روح المعاني 3: 123؛ التفسير الكبير 3: 130، معالم التنـزيل 1: 277، زاد المسير 1: 349؛ تفسير العاملي 2: 5، غرائب القرآن 3: 121؛ مواهب الرحمن 3: 40.
([10]) سورة البقرة، الآية 185.
([11]) الميزان في تفسير القرآن 2: 16 ـ 19 مع الإيجاز.
([14]) ترتيب القاموس 4: 358؛ تاج العروس 5: 728.
([15]) راجع: سورة البقرة: 99 و173؛ سورة الأنفال: 41؛ سورة الأنعام: 114؛ سورة الحج: 16.
([16]) الميزان في تفسير القرآن 7: 327.
([17]) راجع: الجامع لأحكام القرآن 5: 417؛ أضواء البيان 1: 252؛ الميزان 5: 115.
([19]) مجمع البيان 5: 141؛ جوامع الجامع 2: 134.
([21]) التحرير والتنوير 6: 314.
([22]) إنّ ما ذكرناه هنا هو عبارة عن آراء المفسّرين في تبيين المراد من (الكتاب) في جملة <تفصيل الكتاب>. قال الطبري: <المراد تفصيل الفرائض التي أُوجبت على أُمة محمّد’>، جامع البيان؛ وهكذا رأي الشيخ الطوسي&، التبيان 5: 377. وراجع أيضاً: الوسيط 2: 548؛ البحر المحيط 6: 57. ولكن هناك مفسرون وخاصّة من المتأخّرين قالوا بأنّ «الكتاب» هنا اسم جنس، بمعنى أنّ القرآن تفصيل وشرح وبيان للكتب السماوية السابقة، وتصديق وتبيين لها. قال العلاّمة الطباطبائي: <تفصيل الكتاب> عطف على <تصديق>، والمراد بالكتاب بدلالة من السياق جنس الكتاب السماوي النازل من عند الله سبحانه على أنبيائه، الميزان 10: 64؛ وراجع أيضاً: فتح القدير 2: 506؛ المنار 11: 368؛ في ظلال القرآن 3: 1785؛ التحرير والتنوير 11: 168؛ تفسير نمونه (التفسير الأمثل) 8: 288.
([24]) التهذيب 1: 127؛ مجمع البيان 9: 341؛ البرهان 5: 272.
([25]) من وحي القرآن 4: 22. كما أشرنا في بداية البحث أنّ مشكلة البحث تكمن في أنّ ضرورة تاريخ الإسلام وكيفية نزول الآيات الإلهية تقتضي أن تكون قد نزلت بمواكبة دعوة الرسول’. غير أنّ ظاهر بعض الآيات، مثل الآية: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، يوحي بأنّ القرآن نزل جملة واحدة في ليلة القدر. وهذه المشكلة دفعت قسماً من المفسرين إلى الانسياق نحو القول بوجود فارق بين كلمتي (الإنزال) و (التنـزيل). والروايات التي أُشير إليها في كلام العلاّمة محمّد حسين فضل الله، وعلقت في ذهن وعلى ألسنة المفسرين، اعتبرت أقوالاً ظنيّة تظهر أنّ نزول سورة العلق أو أوائل آيات البعثة (كسورة المدّثر كما يرى البعض) كان في ليلة البعثة، واعتبر البعض هذه الآيات (وردت عن طريق الشيعة أو عن طريق أهل السُنّة) (تفسير كوثر 1: 466؛ قرآن شناسي 1: 106 الهامش). هذه الأقوال كلّها لا دليل عليها، ولا توجد رواية واحدة دالة على أنّ هناك آية نزلت في ليلة البعثة أو صادفت معها، عدا قول واحد ورد في التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري× (بحار الأنوار 18: 206). وقد بحثنا نزول القرآن جملة واحدة أو نجوماً في مقالة أُخرى. وما أوردناه هنا مجرّد إشارة دعانا إليها بحث موضوع (التنـزيل).
([27]) الصحيفة السجادية، الدعاء الثاني والأربعون.
([29]) التحرير والتنوير 3: 148.
([31]) المواضع الأُخر التي وردت فيها كلمة التنـزيل عدا ما ذكرناه في هذه المقالة.
سورة السجدة: الآية 12، سورة الزمر: 1؛ سورة غافر: 2؛ سورة الإسراء: 106؛ سورة الإنسان: 23، وفي كلّ هذه المواضع جاءت كلمة التنـزيل بمثابة وصف للقرآن الكريم.