ينزل الدين من السماء نقيّاً صافياً، فيصل الأرض ويبدأ بالاختلاط والامتزاج بما فيها، قال تعالى: }أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا..{ (الرعد: 17)، أي أنّ الدين يتفاعل مع الإنسان كما يتفاعل الإنسان معه، وبهذه الطريقة يغيّر الدينُ الإنسانَ كما يغيّر هذا الإنسان في الدين أيضاً، فيخرجه ـ إمّا عن زيغ وهوى أو عن جهالة وسفاهة أو .. ـ عن حالته النقية الأولى التي كان عليها.
1 ـ وعندما ندرس ردّة فعل الإنسان أمام الدين الوافد من السماء، نجدها على حالتين أساسيتين هما:
أ ـ حالة الجذب، بمعنى أن ينجذب بعض الناس إلى هذا الدين ويؤمنون به، إمّا لصدقٍ منهم وإخلاص وإيمان نابع من القلب، أو لموالمة هذا الدين لمصالحهم في ظروفهم الواقعية الزمكانية.
ب ـ حالة الدفع، بمعنى أن يتنافر بعض الناس والدين؛ فيقومون بمواجهته صريحاً وبشكل مباشر، أو بطريقة غير مباشرة، كما سوف نبيّن ذلك إن شاء الله تعالى.
ونريد هنا أن نرصد المفاعيل السلبية لكلتا حالتي: الجذب والدفع، مبيّنين بعض النماذج التي نراها ضروريةً بما يتناسب مع المقام.
2 ـ وعندما ندرس حالة الجذب، نجد ـ فيما نجد ـ مفعولين سلبيين يظهران لدى بعض من ينجذب إلى الدين ويصدّقه ويؤمن به، وهما:
أ ـ الإفراط في الجذب والتوالم، حيث يفرط بعض الناس في التفاعل مع الدين فيخرجون عن الجادّة الصحيّة السليمة في هذا المجال، وهذا ما يطلق عليه في الاصطلاح الديني والقرآني بـ (الغلو)، قال تعالى: }يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ{ (النساء: 171)، ولا نقصد بالغلو هنا المصطلح الوارد في علم الفرق والمذاهب، كما لا نقصد به المجال العقدي للغلوّ فحسب، بل نعمّم لكل حالة إفراط في التفاعل مع الدين، سواء كانت في المجال العقائدي أم العملي أم غير ذلك، فمن يفرط في الزهد فهو مغالٍ في دينه، ومن يفرط في الصدقة حتى يعجز عن الإنفاق على عياله فهو مغالٍ في دينه، إنّه يحمل مفهوماً دينياً ثم يمارسه أو يعتقده بطريقة مفرطة جداً تخرجه عن الحالة الوسطيّة التي أرادتها السماء منه.
وللغلوّ أسبابه الكثيرة بين الناس، والمؤسف أنّ بعضنا يظنّ أنّ للغلو سبباً دينياً فقط، أي هو اجتهاد داخل ـ ديني بحت، في حين قد تكون للغلو أسبابه النفسية الخارجة عن الدين وأسبابه الاجتماعية أيضاً؛ فالمفترض أن نفتش أيضاً عن المسبِّبات الخارج ـ دينية لظاهرة الغلو والإفراط في الوسط الديني.
1 ـ أ ـ المسبّب النفسي الشخصي؛ فبعض الناس يتعاطون مع ما حولهم بطريقة مفرطة، فمع زوجاتهم وأولادهم هم مفرطون في التعاطي؛ فعندما يحبّ يفرط في الحب حدّ الجنون، وعندما يكره يفرط في الكره حدّ الحقد والضغينة، وعندما يريد شيئاً يبالغ في رغبته به، مثل هؤلاء الأشخاص عندما يدخلون إلى الدين فإنّهم يحملون معهم خصالهم النفسية، فعندما يتفاعل مع قضية دينية فهو يفرط بها حدّ الخروج عن الجادّة القويمة السوية، فيجعل تهوّره جهاداً واستشهاداً، أو يجعل خوفه وقلقه تقيّةً ومراعاة للمصلحة الدينية العليا وهكذا؛ فليست القضية اجتهاداً في الدين فقط، وإنما هي ـ في بعض الأحيان ـ إسقاطاً لخصالنا الشخصية على الدين.
من هنا، كان من الضروري إصلاح ذواتنا وخُلُقنا وحالاتنا النفسية؛ كي نقدم على التعاطي مع الدين ـ قدر المكنة ـ من موقع الإنسان السويّ.
2 ـ أ ـ المسبّب الاجتماعي والحضاري، أي أنّ هناك بعض الأوضاع الاجتماعية العامّة هي التي تبعث على حصول حالة الغلو في الدين، من أبرزها ما نعيشه نحن المسلمين اليوم من أزمة هوية، ومركّبات نقص اجتماعية وحضارية، إنّ خوف المسلم على هويته الدينية، وخوف العربي على هويته العربية، وخوف المواطن في هذا البلد أو ذاك على هويته الوطنية، وخوف الشيعي على هويته الشيعية، وخوف السنّي على هويته السنّية وهكذا… هو حالتنا اليوم، سببها الواقع المأزوم الذي نعيشه، والذي أفقدنا إحساس الثقة بالذات الشخصية والجماعية معاً، حتى صرنا نرى كل أنواع الأخطار بمثابة أخطار تهدّد الوجود نفسه، هواجس كامنة لا يمكن قلعها إلا بترتيب جديد لوضعنا النفسي العام.
مجمل الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية و… كلّها منتِج طبيعي للغلوّ، ليس في الدين فحسب، بل في كل ما يرتبط بالهوية. إنّ هذا الوضع ينتج مزيداً من التمترس داخل الذات والتموضع في أعماق التاريخ، والتغنّي بماضي الأمجاد وإعادة إنتاج التاريخ بهدف استنساخه بحرفيته، شكلٌ من أشكال السلحفاتية في تمترسها ـ السلحفاة ـ داخل ذاتها عند الخوف، التقوقع هو الوسيلة الوحيدة لحماية النفس، وحتى لو لم يكن الخطر قوياً فإنّ التقوقع يصبح هو الأمر المفضّل للأمّة في تعاطيها مع الظواهر المحيطة، فعندما كان المسلمون أقوياء في القرن الثاني الهجري ترجموا ـ دون خوف أو وجل وبقرار سياسي رفيع المستوى ـ الثقافات اليونانية والإغريقية والفارسية والهندية، واستطاعوا هضمها وتبيئتها في المناخ الإسلامي الجديد، أمّا اليوم فنحن نخاف من كل وافد غربي ولا نرغب بترجمته أو نشره عبر مختلف وسائل الإعلام بيننا خوفاً على الهوية. هذا هو الواقع المنهزم الذي يبحث عن التقوقع راحةً للنفس فيظهر في ثناياه الغلو والتطرّف.
من هنا، كما يساعد الغلو على خلق ظواهر من هذا النوع كذلك تساعد هذه الظواهر على خلق الغلوّ، فليس الغلوّ مسؤولية رجال الدين فحسب، في التهم التي لا تتناهى ضدّهم من خصومهم، بل هو مسؤولية عامّة على المستوى السياسي لرفع حالة الاستبداد، وعلى المستوى الاقتصادي لرفع مظاهر الفقر المخيفة وأحزمة البؤس المرعبة، وعلى المستوى الثقافي في تنشيط الحريات الثقافية المتوازنة و.. إنّ رجال السياسة والاقتصاد والأمن والثقافة و.. كلّهم مسؤولون عن ظواهر الغلوّ الديني، وليس فقط رجل الدين، وإن كان هو مسؤولاً أيضاً، فكيف يدين مثقفنا العربي رجالَ الدين ثم نراه يمتدح هذه السلطة الزمنية هنا أو هناك، ويسير في ركبها، وكأنها غير مسؤولة عن هذا الواقع؟!! إنّها سطحية مبالغ فيها في التعامل مع ظواهر من هذا النوع.
لماذا عندما يحكم رجال الدين نحمّلهم ـ وهم يتحمّلون ـ مسؤولية الظواهر المتطرفة في مجتمعاتهم ولدى المعارضين لهم، نتيجة تقصيرٍ هنا أو هناك، أما عندما يحكم غيرهم فإنّنا نحمّل المعارضة أو رجال الدين، ولا نحمّل السلطة؟! يجب أن تكون لدينا نظرتنا المتوازنة لواقعنا، وأن لا يصبح مثقفنا العربي مثقفاً مقاولاً فقط ـ كما يقول عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب ـ لا يعبّر سوى عن دعاية ثقافية للسلطة، فهي تصدر القرارات وهو ينظّر لها، وهي تفتي وهو يجتهد لها، وهي تخطأ وهو يبرّر لها و…
المشكلة الأخرى في قضية الغلو في الدين، وهي مشكلة داخل ـ دينية، أّننا ننظر للغلو بمنظار الصدق الذي يقع في الخطأ، أمّا لو أراد شخص تطهير الدين مما لحق به، فإنّه يتهم بخبث النيّة، مع أنّ خطر ابتداع شيء في الدين لا يقلّ عن خطر حذف شيءٍ منه، فلا ينبغي التمييز بين هذين النوعين، والكيل بمكيالين فيهما، فـ (البدعة) التي تحوّلت إلى مفهوم مرفوض في الثقافة الدينية، تقترب من الزيادة أكثر منها من النقيصة.
ب ـ الدمج بين النظرية والتطبيق، وهذا من أخطر ما يحصل في الوسط الديني، وذلك أنّه من الطبيعي ـ عندما ينزل الدين بمجموعة مفاهيم عملية ـ أن يقوم المؤمنون بتطبيق هذه المفاهيم في حياتهم، وهناك مجموعة من المفاهيم الدينية ليس لها شكل تطبيقي واحد ومحدّد وصارم في الدين نفسه، باعتراف الفقهاء المسلمين أنفسهم، مثلاً: يقولون: كثرة الضحك مكروهة، لكن من هو الذي يحدّد عامل الكثرة؟ لا يوجد في الدين رقم محدّد للكثرة، وإنّما هي قضية موكولة لعرف الناس. ويقولون أيضاً: احترامك الكبار أو الوالدين أمرٌ حسن في الدين، لكن لا يوجد تحديد نهائي لأشكال الاحترام، فالوقوف عند دخول الكبير إلى المجلس شكلٌ من أشكال الاحترام في بعض المجتمعات، لكنّه ليس كذلك في مجتمعات أخرى، وما أكثر المظاهر الاجتماعية التي يعدّها مجتمع ما سلبيةً فيما لا يراها مجتمع آخر كذلك.
في هذه الحالات، يحيل الفقهاء المسلمون إلى العرف، ولو سألنا ما هو العرف؟ سيكون الجواب: إنّه حصيلة العقل الجمعي الذي كوّنته السياسة والاقتصاد والاجتماع والنظم الطبقية وأنماط العيش وغير ذلك، إذاً مفهوم واحد تأتي به السماء لكنّ أشكال تبلوره الميداني تكون متعدّدة، وهذا شيء طبيعي على المستوى الزماني المترامي وعلى المستوى المكاني أيضاً.
ليس هذا بالأمر الجديد، لكن المهم هو أنّ الجيل المؤمن الأوّل يقوم بممارسة هذا المفهوم أو ذاك طبقاً لواقع أعرافه وتقاليده وحالته الزمكانية، وبمرور الزمن يصل المفهوم الديني إلى الأجيال اللاحقة مكسوّاً بشكله التطبيقي الزمني، فيحصل التحام في الوعي الجماعي بين المفهوم وبين الممارسة التي وصلت للجيل الثالث أو الرابع، فيصبح التطبيق جزءاً من المفهوم، مع أنّه لم يكن سوى شكل من الأشكال الاجتماعية الزمنية لممارسة هذا المفهوم، وعندما تظهر حركة تفكيكية تطالب بفك الارتباط بين المفهوم والمصداق، بين الفكرة والشكل التطبيقي؛ لأنّ الارتباط يعيق التقدّم واحترام الظروف الزمكانية الجديدة.. هناك يقع الانقسام والتشظي.
هنا تكمن واحدة من أهم وأخطر وظائف علماء الدين والمصلحين الاجتماعيين، أن يقوموا بفك الوصلة بين الصورة التاريخية للمفهوم الديني وبين نقاوة المفهوم الديني نفسه، ومن دون فك هذه الوصلة سيبقى الغلوّ في الدين ـ بمعنى الإفراط في الأخذ بحرفيّته ـ أمراً سائداً مهيمناً.
سأعطي مثالاً بسيطاً أترك تحليله الفقهي إلى مجال آخر، بعض أشكال الشعائر الحسينية مثل (التطبير) إدماء الرؤوس، لم ترد في نص ديني ثابت، وإنّما هي شكل من أشكال التعبير عن الحزن والتفجّع ظهر منذ ما لا يزيد عن القرنين من الزمن، من وسط اجتماعي لبعض البلدان الإسلامية ـ إمّا تركيا أو الهند أو .. ـ ثم راج بين الناس، والآن نحن نتناقش فيه منذ مدّة، وتتشظّى الأمة نتيجته، مع أنّ المفهوم السماوي هو إحياء هذه الشعيرة الحسينية وضخّها المستمرّ في النفوس والعقول والمشاعر والعمل، أمّا شكل ذلك وآليته فهو أمرٌ بشري نصنعه نحن طبقاً لمناخنا الثقافي والاجتماعي، فمن حقّ الناقد أن يطالب بالتغيير دون أن يتهم بمعاداة الإمام الحسين%، ومحاربة الشعائر الحسينية.
تحدثنا إلى هنا عن حالة الجذب التي قد توجد عند بعض الناس إزاء الدين، وذكرنا بعض السلبيات التي قد تنجم عن الإفراط في هذه الحالة، ونريد الآن أن نكمل حديثنا بالإشارة إلى حالة التصادم والدفع التي قد يبتلي بها بعض الناس عندما ينزل هذا الدين السماوي إليهم صافياً من عند الله تعالى.
الذي يلاحظ هنا أنّ ردّة الفعل السلبية قد تظهر من خلال أشكال ثلاثة:
الشكل الأوّل: الإنكار والتشكيك، ويظهر هذا الشكل من بعض الذين لا تتناسب مصالحهم مع قيم الدين الجديد، سواء على المستوى السلطوي أم الاقتصادي، فعندما جاء الإسلام لم يُبدِ الوجوه والأعيان من قريش ارتياحاً لقيمه التي أتى بها، كأن يساويهم مع عبيدهم وإمائهم، ويفرض عليهم الزكاة، ويطالبهم بالتساوي بين قريش وسائر الحجيج في كيفية أداء مناسك الحج، ويرفع من مستوى الوضع الحقوقي للمرأة بينهم.. وهذا كلّه لا يناسب مصالح السلطويين والنفعيين من قريش ووجوه العرب آنذاك، لهذا ارتدّوا عليه ينكرون دعوته: >وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا…< (النمل: 14)، وإذا لم ينكروها أثاروا حولها رياح التشكيك، واختلقوا قصصاً عن النبي الجديد تشكّك في صدقه فيما يدّعيه من الوحي، قال تعالى: >وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ< (النحل: 103).
من الطبيعي أن الدين عندما يأتي يمثل حركة تغيير في الواقع؛ وحركات التغيير تصطدم ـ عادةً ـ بمفاصل الواقع؛ لأنها تريد فكفكتها؛ فيهبّ القيّمون على هذه المفاصل لمواجهة حركة التغيير الدينية، فتقع المواجهة. وعندما يسيطر الدين على الواقع ـ كما حصل مع أهل الكتاب ـ يتحوّل سادته إلى ممسكين جُدد بالواقع الجديد، فإذا حرّف الدين وأراد مشروع ديني جديد ـ مثل الدعوة المحمدية ـ أن يصحّح الخطأ، فسيتحوّل أولئك الذين كانوا بالأمس حركة تغيير، إلى سادة تكريس يحاربون دعوة النبي الجديد بإنكارها والتشكيك بها أيضاً، عبر تلك المحاولات عينها التي استخدمت ضدّهم من قبل، وهكذا تظل تجري سنّة الحياة، وفق قانون التداول الذي حدّث عنه القرآن الكريم قائلاً: >… وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ…< (آل عمران: 140).
وتستمر ظاهرة الإنكار والتشكيك، فنجد في عصرنا من يريد أن يكسب لنفسه موقعاً أو يحافظ على موقعه، فينكر بعض ما جاء به الدين أو يثير الشكوك حوله، ويبدو لنا أنّه ينطلق من معطيات معرفية فيما تكمن خلف هذه المعطيات ـ في بعض الأحيان ـ أغراضه الشخصية أو الفئوية.
الشكل الثاني: التقطيع والانتقاء، حيث يذهب بعض الناس عندما يواجهون في الدين مجموعة قيم ومقولات لا تنسجم معهم، إلى الأخذ ببعض الدين وتجاهل البعض الآخر، وهذا يتم تارةً عبر تجاهل معلن، وأخرى عبر تمييع الجانب الذي لا يناسبهم في الدين، فيعيدون رسم الأولويات داخل المنظومة الدينية بما يجعل القيم التي تناسبهم في الصدارة فيما القيم التي لا تناسبهم تعطى درجةً أدون، وهذه آفةٌ كثيراً ما تحصل، قال تعالى: >…أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ< (البقرة: 85)، وهذه هي سياسة التعضية التي حدثنا عنها القرآن الكريم ـ فيما تذكره بعض التفاسير ـ حين قال: >كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ< (الحجر: 90 ـ 93)، فقد فرّقوا القرآن وأخذوا بعضه وتركوا بعضاً.
من هنا، كان الإسلام إسلاماً وتسليماً، كان عبوديّةً ورقّاً للباري تعالى، لا تشرئب العنق فيه للتعالي على الإرادة الإلهية التكوينية والتشريعية، قال سبحانه: >فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا< (النساء: 65).
ونلاحظ في هذا السياق في الوسط الديني أنّ بعضهم يعوّم بعض الآيات والروايات فيما يخفي بعضها الآخر مما لا يتناسب وثقافته وقناعاته التي كوّنها دون مراجعة النصوص بأكملها، وهذه ملاحظة جديرة بالانتباه والتفادي.
الشكل الثالث: التأويل والتطويع، فنحن هنا لا ننكر النص الديني ولا نشكّك فيه، كما لا نقوم بتقطيعه، وإنّما نتأوّل فيه، فنقوم بتطويعه بحثاً عن تفسير له لا يتنافى وقناعاتنا المسبقة، حتى لو سمّينا هذه القناعات بالأدلّة العقلية والمنطقية، أو عبّرنا عن هذه العملية بالقراءة الواقعية، من هنا نجد في حركة التأويل اتجاهات ثلاثة، نلاحظ عليها، وإن لم نكن بصدد رفضها من حيث المبدأ:
الاتجاه الأوّل: اتجاه التأويل العقلي الاعتزالي، الذي استخدمته المعتزلة، ويقوم هذا التأويل على نظرية المجاز المكوِّنة لبنية النص القرآني، فالمتكلم يذهب إلى العقل أولاً، فإذا قام عنده الدليل على شيء عاد إلى النص، فهي رحلة من العقل إلى النص، فإذا وجد الدلالة القرآنية الظاهرة على وفق المعطيات العقلية التي سبق أن توصّل لها، أخذ بهما معاً، وأوقع كمال الانسجام بينهما، وإذا لم يجدها قام بصرف الدلالة عن ظاهرها؛ لأنّ الخطّ العريض يقول: لا يمكن أن يتعارض عقلٌ ونص، وحيث كان العقل يقينياً مؤكّداً لا لُبس فيه، فيما كانت اللغة مفتوحة على دلالات وإمكانات كبيرة وعلى استثناءات كثيرة لقواعدها، تتلخّص في نظرية المجاز بالمعنى العريض.. صار بإمكاننا تأويل النص وإرجاعه إلى ما عند العقل.
فهذه الحركة من العقل إلى النص، العقل فيها فاعل والنص فيها منفعل، العقل فيها متماسك الآليات والنتائج والنص فيها متنوّع مفتوح على خيارات عدّة.
وليس من شك أنّ بنية التأويل هذه لعبت دوراً كبيراً في تنشيط حركة العقل في التراث الإسلامي، كما لعبت ـ هي والاعتزال بعامّة ـ دوراً في تطوير إمكانات اللغة العربية أو الكشف على الأقلّ عن هذه الإمكانات، حتى امتاز الكثير من المعتزلة بالعمق اللغوي والسعة البلاغية، مثل الإمام جارالله الزمخشري (538هـ) و..
ولنا ملاحظة واحدة على هذا النهج، وهي أنّ تطويع النص أمام العقل على أساس ظنية الدلالة، لا يلقي عن كاهلنا مسؤولية الجواب عن السؤال التالي: كيف قامت بناءات النص نفسه عند المتكلم به؟ وأقصد بهذا الكلام أنّه إذا كانت دلالة العقل من الواضحات البديهيّات حتى زمن نزول الآيات أو صدور الأحاديث، أمكن أن يقال: إن المتكلم اعتمد عليها لتفهيم كلامه، وهذا أمر طبيعي، لكن إذا كانت دلالة نصِّ لا تنجلي وتظلّ غامضةً حتى يأتي ابن سينا (428هـ) أو صدر الدين الشيرازي (1050هـ) ليقيم دليلاً متراكب المقدّمات متراكم المعطيات يصل إليه بجهد جهيد، ثم يقول لنا: إنّ الشاهد على أنّ هذا هو معنى الكلام هو دليلي هذا!! فهل يكون المتكلّم بهذا النصّ متخذاً لمنهجٍ سليم في إفادة مقاصده؟!
لم يلتفت التأويل الاعتزالي ـ الكلامي إلى دراسة موقف المتكلّم ـ الناصّ نفسه، وكيف شاد كلامه على أسلوب غير متعارف بين العقلاء، ثم يقول هو نفسه لنا في كتابه واصفاً إيّاه بقوله: >… وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ< (النحل: 89)، وقوله: >يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ< (المائدة: 15 ـ 16)، فليست المشكلة فقط في منطقية أو عدم منطقية تقديم العقل على النص، وإنّما أيضاً في تفسير كيفية بناء المتكلّم الحكيم أسلوب كلامه وفقاً لهذا النهج التأويلي؛ من هنا نعتقد بأنّ حلّ هذه المعضلات التي ثارت بوجه المعتزلة يفترض ـ أيديولوجياً ـ أن يكون من داخل النص أيضاً، ويكون العقل هو الكاشف والمرشد إلى العناصر المساعدة على التفسير.
الاتجاه الثاني: اتجاه التأويل الواقعي، ونعني بهذا الاتجاه أولئك الذين باتوا يجدون شكلاً من أشكال التصادم بين الحياة العامّة المعاصرة بأساليبها ومناهجها وأنماط تفكيرها وتحدّياتها ومنجزاتها و.. وبين النص الديني الذي أخذ يفقد ثقته أمام منجزات الواقع الجديد، فقد شعر هذا الفريق بأنّ هناك واقعاً أقوى ممّا نتصوّر، وزحزحة هذا الواقع أو تفكيكه عمليّة معقّدة بالغة التعقيد، فمن نهج تبرير الواقع وتكريسه يصار إلى نقل الزحزحة هذه إلى النص، فهنا نبدأ من الواقع لننتهي بالنص، تماماً كما بدأ المعتزلة مسيرتهم بالعقل ليختموها بالنص، وكما قدّموا العقل على النص، يقدّم مؤوّلنا هنا الواقع ـ بكل ما يختزن ـ على النصّ أيضاً، وإذا كانت اللغة بثرائها ومجازياتها هي العكاز الذي اعتمد عليه التأويل المعتزلي، فإنّ النهج التاريخاني هو العصا الأساسية التي يتّكئ عليها التأويل المعاصر، وهو نهج لا يبتعد عن اللغة وفلسفتها أيضاً، بل يمثل شكلاً من أشكال الدرس الهرمنوطيقي.
والملاحظة التي تسجّل هنا أنّه لا يفترض أن يستسلم مثقفنا للواقع ليراه ظاهرة معصومة، بعد أن كان ينتقد المقدّس في كلّ شيء، كما لا يفترض به الاستسلام لكلّ نظرية في كل علم بعد أن كان يعرف أن كثيراً من معطيات العلوم الإنسانية لم تصل بعدُ إلى حدّ الحقائق العلمية، وإذا كان مثقفنا المعاصر يؤمن بالتعددية التي تروّض العقل الإنساني على تقبل وجود خطأ دوماً في منظوماته المعرفية هنا وهناك، فإنّه من غير المفترض حينئذٍ أن يهدم كل منظومته الفكرية الدينية لاكتشاف خطأ ما في نظرية هنا أو هناك كانت سائدة أو لها حضور، بل يفترض وفق المنهج السليم الذي يسير عليه هذا المثقف نفسه أن يملك القدرة على التمييز، وعدم إبطال مقولات لمجرّد حصول اهتزاز في مقولات أخرى، ومن ثمّ لا ضرورة لكسر هيبة النص نتيجة ذلك.
الاتجاه الثالث: اتجاه التأويل العرفاني ـ الصوفي، ويقوم هذا الاتجاه ـ باختصار شديد ـ على الاعتقاد بفكرة الظاهر والباطن، لكن لا على الطريقة السائدة، بل على أساس أن باطن كل شيء هو حقيقته، فالباطن ليس باطناً دلاليّاً حتى أعبر إليه عبر الألفاظ، وإنما هو باطن وجودي لا أبلغه إلا عبر الغوص في رتب الوجود للوصول إلى تلك الرتبة التي يستقرّ فيها الباطن القرآني؛ لأنّ القرآن حقيقة مجرّدة متعالية ترجع إلى الذات الإلهية، وتنزُّلها وتجلّيها في عوالم الوجود يأخذ أشكالاً تتناسب مع تلك الرتب الوجودية، إلى أن يبلغ هذا الكتاب عالمَنا المادي فيظهر على شكل ألفاظ ومصحف وكلمات، فالظاهر شكل من أشكال الباطن ومظهر من مظاهره، فلا معنى لترك الظاهر لصالح الباطن ولا لترك الباطن لصالح الظاهر، لأنّهما وجهان لعملة واحدة، لهذا لم يعتقد كثير من العرفاء بأن الوصول إلى الباطن يكون بالغوص في دلالات الألفاظ، لأنّهم شادوا معادلة بالغة التعقيد تقول: ليست الألفاظ سبيلاً لفهم مراد المتكلّم، بل العكس هو الصحيح؛ فإنّ فهم مراد المتكلّم هو السبيل لفهم كلامه، وهذا الفهم للمراد عندهم لا يكون سوى بالتعالي في مدارج السير والسلوك للبلوغ للمتكلم نفسه، من هنا طالب بعضهم بأن نسمع القرآن من الله وليس من النبي، أي نأخذ الحقيقة الوجودية التي أخذها النبي لا التي أعطانا إيّاها.
ولكي يحرّر الصوفي نفسه من المساءلة عن الدلالات العرفية العادية للنصوص، تحدّث عن لامعيارية الفهم العربي من حيث الحدّ الأعلى، أي إنّه قال: إنّ فهم العرب ـ بمن فيهم الصحابة وأصحاب الأئمة ـ لا يجوز التوصل إلى نقيضه، لكنّه ليس الفهم النهائي، فيمكن لنا تفسير النصوص حتى بطريقة لم تكن تخطر على ذهن عربيّ قط، كما هي طريقة ابن عربي وحيدر الآملي وغيرهما، هذا هو المنفذ لتكثير الدلالات وكسر قيود اللغة، وهذا هو بعينه التخطّي عن الألفاظ دون مخاصمتها.
فالتأويل الصوفي لا ينطلق من العقل؛ لأنّ ما يتحدث عنه الصوفي طور فوق طور العقل، ولا ينبعث من الواقع؛ لأنّ الصوفي لا يرى فيما نسميه نحن واقع الحياة سوى شكلاً بسيطاً سطحياً من حقيقة الوجود، أي تلك الرتبة الأقلّ نوريّةً وإضاءة، وإنّما يتفجّر التأويل الصوفي من العلم الحضوري اللدني الشهودي الذي يبلغ أعلى المراتب، لينزل بعدها إلى النص المدوّن بين أيدينا، لا ليفسّر الألفاظ عبر نظام اللغة، بل ليسقط عليها ما تختزنه من كثرات، رُمّزت فيها ترميزاً، وسبّبتها الرحلة الطويلة للنص من مصدره ـ أي الله ـ مروراً بسلسلة العوالم الطويلة، وصولاً إلى ما بين أيدينا اليوم، فلا يسمح لنا العارف بمحاكمته عبر نهج اللغة السائد، إنّه يفرّغ ذلك كلّه من مضمونه، ويطالبنا بالعروج معه لقراءة نسخة أكثر أصالة للنصّ القرآني في عالمٍ آخر.
لست أريد هنا الدخول في محاكمة هذا النهج من التفكير، وقد سبق أن تعرّضت للنهج العرفاني في المعرفة، وأثرت بعض الملاحظات عليه (انظر كتابنا: مسألة المنهج في الفكر الديني)، لكن أكتفي أمام هذه الصورة بعدم إنكارها، فهذا أمر مهم، كما يقول الإمام الخميني، وأعلّق عليها بما علّق به السيد محمد باقر الصدر على بعض المقولات الصوفية في مسألة الطلب والإرادة في الفلسفة بقوله: mما ذهب إليه عرفاء الفلاسفة ومتصوّفوهم… مبنيّ على تصوّر صوفي لا نفهمهn (بحوث في علم الأصول 2: 29).
بهذا كلّه، نعرف أنّ التعامل مع الدين بالغ الحساسية؛ فالإقبال عليه قد يورّط الإنسان ببعض السلبيات، كما أشرنا في الحلقة السابقة، وعليه تلافيها، والإعراض عنه موبقة تغرق الإنسان، وقد يكون هذا الإعراض ملبّساً بلبوس أو بآخر قد يدفع الإنسان لبعض المناهج والأساليب التي عليه الانتباه منها ودراستها بجدية، في مبدئها تارةً وفي مدياتها أخرى، والله العاصم.
وفي الختام، وبعد رحلة مؤنسة قضيتُها في مجلّة mالمنهاجn الموقرة، شعرت فيها بمعاني الخدمة لهذا الدين، ورأيت فيها ـ معتزّاً ـ الكثير من الرضا في عيون القرّاء والكتّاب والمتابعين والمشرفين، أستودع قرّاء mالمنهاجn وكتّابها، لألتقي بهم ـ بعون الله ـ في منابر أُخر، ومواقع أُخر، لأسلّم هذه المسؤولية لأخي وصديقي العزيز سماحة السيد علي عباس الموسوي حفظه الله تعالى ورعاه، كي يرأس تحرير هذه المجلّة الغراء، ويأخذ بدفّتها إلى ما هو الأفضل لها، وإني لأرجو له كلّ خير وأتمنى له كلّ نجاح، وأضع بين يديه ما عندي من إمكانات متواضعة خدمةً لهذا السبيل، إن شاء الله تعالى.
ولا يسعني ـ وأنا أودع عنده mالمنهاجn وقرّاءَها وكتّابها ـ إلا أن أتوجّه بجزيل شكري وامتناني لأستاذي القدير الذي شملني برعايته وأبوّته وثقته وما يزال، سماحة آية الله السيد محمود الهاشمي الشاهرودي حفظه الله، إذ لم يتوانَ عن رعايتي والتفضّل عليّ بعلمه وإرشاداته وتوجيهاته، سائلاً المولى القدير أن يحفظه بحفظه، ويسدّد خطاه بتسديده، ويبلغه مُناه في دنياه وأخراه، إنّه قريب مجيب.
كما لا أملك إلا أن أشكر سماحة الشيخ الفاضل أسدالله حسني سعدي رعاه المولى، على لطفه واهتمامه وما أولاني به من أدبه ومتابعته، وأفادني به من ملاحظاته وتوجيهاته، وقد لمست فيه طيلة السنوات السبع التي قضيتها معه في مركز الغدير كلّ معاني الودّ والاحترام والجدّية والإرادة الصادقة، أسأل الله له ـ ولكلّ العاملين في مركز الغدير ـ كل الخير واليمن والبركة، وأن يغفر الجميع لنا ما رأوه من قصور أو تقصير.
قرائي الأعزاء، بعد ذلك كلّه، أشكركم أنتم، وأستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
>دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ< (يونس: 10).
(*) نشرت كلمة التحرير هذه ـ على حلقتين ـ في العددين: 51 ـ 52، من مجلّة المنهاج في بيروت، خريف وشتاء، 2008 ـ 2009م.