حيدر حب الله([1])
تمهيد
بداية يلزمني توضيح مقصودي من المصطلحين الواردين في العنوان:
1 ـ الاجتهاد المقاصدي: هو الاجتهاد الذي يأخذ الغايات (ملاكات الأحكام الثبوتية والنتائج المصلحيّة المترتبة على التشريعات) التي تستهدفها الشريعة بتشريعاتها، ثم يقوم بممارسة الاجتهاد وفقاً لهذه الغايات بوصفها حاكماً ومهيمناً على فهم الأحكام والنصوص وتحريكها في أرض الواقع كذلك.
2 ـ الاجتهاد المناطي: هو الاجتهاد الذي يحاول العبور من حرفيّات النصوص لاكتشاف المدار (العلّة) الذي تقوم عليه التشريعات. والمدار أو المناط لا يساوي المصلحة أو المقصد أو الملاك الثبوتي، بل قد يكون صفةً يلحقها الحكم، لكنّها غير مبرَزة مباشرةً في الدليل الشرعي، ويكون الحكم دائراً مدارها وجوداً وعدماً سعةً وضيقاً، وتكون المصلحة مترتبة على دوران الحكم على هذا المناط.
توضيح الإشكاليّة وتبيان معالمها
ثمّة من يرى أنّ التوجّه المقاصدي والغائي، وكذا التفكير العللي بمعنى الاجتهاد المناطي، وكذلك التوجّه نحو التعدّي عن النصوص باسم محاربة الجمود على حرفيّة النصّ.. هذه كلّها ليست سوى محاولات في العصر الحديث لتفريغ الدين والشريعة من مضمونهما، بهدف التوصّل لبناء نظام حياة علماني بمعنى مرجعيّة العقل وتحييد النصّ وتشييد التاريخيّة، بحيث يُعاد فهم النصوص والأحكام الدينيّة في سياق تاريخي وسائلي، وبذلك ينتهي مفعولها الزمني، ولا يبقى من الدين سوى مجموعة بسيطة من الشعارات العامّة المدرَكة لدى العقل الإنساني الفطري أو التجريبي، مثل: مبادئ العدالة والحريّة والكرامة والمحبّة والخير والرحمة والصلاح والنظام ومعاقبة الجناة ونحو ذلك.
النقطة الأكثر قلقاً هنا تكمن في:
1 ـ مخاطر النظام القائم على ثنائيّة الوسائل والغايات (قراءة داخل ـ دينيّة)، وهو النظام الذي طرحه المقاصديّون، فقد ميّزوا ـ كما قلنا في غير مناسبة ـ بين الوسائل والغايات، وجعلوا الغايات مقدَّمة على الوسائل.
إنّ هذا النظام منطقيٌّ في حدّ نفسه، لكنّ إجراءه على الدين والشريعة سوف يطيح بالطرق والوسائل التي وضعتها الشريعة نفسها للوصول إلى غاياتها، وسوف تتمّ الاستعاضة عن ذلك بوسائل من صنع البشر، وهي وسائل غير مضمونة النتائج، ويُخشى أن تهدّد تحقيق الغايات نفسها على المدى الزمنيّ، أو تتصادم مع غايات أخرى للشريعة، فالتخلّي عن وسائل وضعتها الشريعة نفسها لتحقيق غاياتها من الطبيعي أن لا تتناقض مع غايات أخرى لها، نحو وسائل من صنعنا نحن، ولا ندري ربما لا تحقّق النتائج نفسها، بل ربما تتصادم مع غايات أخرى للشريعة ونحن لا نعرف.. هذا التخلّي غير منطقي وغير معقول.
عندما تُطالبنا الشريعة بوسائل في تنظيف وتطهير أجسامنا مثلاً، ثم نقول بأنّ هذه مجرّد وسائل، والغاية هي تحقيق النظافة والطهارة، فنستعيض بوسائل صناعية وكيميائية حديثة، بزعم أنّنا نحقّق الغايات وربما بطريقة أفضل، فنحن لا نعرف أنّ هذه الطرق الحديثة ربما توصلنا ـ بل قد أوصلتنا بالفعل ـ للكثير من التهديد للسلامة الصحيّة، وربما كان لها تأثير على الحياة الاقتصاديّة أيضاً؛ لكونها تتطلّب تكلفةً مالية، بخلاف الماء والتراب وأمثالهما مما لا يحتاج لدورة ماليّة اقتصاديّة، الأمر الذي يخفّف من رأسماليّة الحياة وتعملق المال وشيوع الاستهلاك وغير ذلك، وهذه قد تكون غايات أخرى للشريعة.. نعم هنا يكمن الخطر في مثل هذه النظريّات.
2 ـ مخاطر تهديد الهويّة (قراءة علم ـ اجتماعيّة)، وذلك أنّ التفكير المقاصدي والعللي يقضي شيئاً فشيئاً على الصور الدينيّة الشكليّة؛ لأنّه يقوم على فقه المآلات والعبور عن فقه الحرفيّات، فيزهد في المقدّمات والطرق التي تكون هي الصور البارزة ماديّاً وفيزيقيّاً، فمثلاً لو قلنا بأنّ الوضوء ليس العلّة فيه والغاية سوى النظافة، فسوف يزول هذا التقليد الشكلي من حياة المسلمين، وهو ما يهدّد هويّتهم، وهكذا لو قلنا بأنّ العقوبات ليس لها موضوعيّة، بل اُخذت على نحو الطريقيّة لتخفيف نسبة الجناية والجرم، فهذا يعني أنّ كلّ الصورة الشكليّة لنظام العقوبات في الإسلام يمكن أن تزول، وهكذا لو قلنا بأنّ مناط أو غاية تحريم الغناء ليس إلا سدّ الطرق أمام الفاحشة والاختلاط والتحلّل الأخلاقي، فهذا سوف يُفضي لشيوع استماع المسلمين للغناء، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة المهدّدة بالانقراض لو فُتح هذا الباب..
ولو لاحظنا هذا الأمر، فهذا من شأنه تدمير الصور الشكلية التي تظهر للعيان بوصفها معبّرات ومظاهر ونماذج للدين، ولو فكرنا بهذا على المدى البعيد وسلّمنا زمام القيادة لهذا التفكير، فسوف نذهب تدريجيّاً نحو إلغاء مظاهر الهويّة الدينيّة المجتمعيّة، وهذا خطر جداً.
3 ـ نسف الصور الفقهيّة النمطيّة (قراءة داخل ـ فقهيّة)، بمعنى تدمير الكثير من آراء المشهور والإجماع الذي تلقّاه المسلمون جيلاً بعد جيل؛ لأنّ هذا النمط من الاجتهاد سوف يختلف جذريّاً عن الأنماط السابقة ـ خاصّة في مثل الوسط الإمامي ـ ومن ثمّ سيؤدّي ذلك لشروخ كبيرة في مسلّمات الفقه وواضحاته، الأمر الذي يهدّد بنية الفقه الإسلامي نفسه.
لعلّه إلى هذه الثلاثة ترجع جملة المخاوف والهواجس، وتؤول أبرز الملاحظات النقديّة السلبيّة العامّة (قراءة من الخارج)، وأبرز ثلاثة عناصر نقدية سلبيّة يمكن أن تواجه الاجتهادين: المقاصدي والمناطي، بعيداً ـ الآن ـ عن إشكاليّة الرأي والقياس التي تُطرح في بعض الأوساط الإماميّة، والتي لا نستهدفها بالبحث حالياً.
تعليقات وملاحظات على إشكاليّتي: العلمنة والتفريغ
قبل أن أعلّق ببعض التعليقات السريعة على هذه الملاحظات الثلاث، لابدّ لي ـ بدايةً ـ من الإقرار، بل والتأييد، لجملة من هذه المخاوف والهواجس، وذلك أنّنا رأينا بالفعل العديد ممّن يرفعون شعار هذه الأنماط الاجتهاديّة، يطيحون ـ بسبب ومن دون سبب ـ بالكثير من الأمور الدينية دون تحقيق وتعمّق ودراسة جادّة، مستخدمين عناوين من نوع ضرورة عدم الجمود، وضرورة الفقه الحيوي الحراكي، ولزوم تخطّي حرفيّات النصوص لدَرك العمق منها، وضرورة المقاصديّة والغائيّة في الفهم الديني، والذاتي والعرضي في الدين، وغير ذلك من العناوين التي هي حقّة في نفسها لكنّها توظَّف بطريقة بائسة في بعض الأحيان.
لكنّ استغلال بعض المفاهيم الصحيحة من قبل بعض من لديه غرض أو لا يجيد استخدامها أو غير ذلك، لا يعني أنّ هذه المفاهيم هي في نفسها باطلة أو لا توجد طرق أخرى لتوظيفها بعيداً عن هذه السلبيات أو الأساليب غير الموضوعيّة، فعلينا ـ كما في كلّ مكان ـ أن نميّز بين سلامة المنهج وبين سوء استفادة بعض الناس منه أو عدم استخدام بعضٍ آخر له بشكل صحيح.
من هنا نقول:
أوّلاً: إنّ دعوى أنّ الاجتهادات المقاصديّة أو المناطية العلليّة تُحدث شرخاً في المنظومة الفقهيّة، هي دعوى سبق أنّ علّقنا على مثلها مراراً؛ وذلك أنّ الفقه بنسخته الواصلة إلينا ليس مقدّساً، بل الشريعة هي المقدّسة بالنسبة إلينا، والخلط بين الفقه والشريعة هو الذي يفضي مراراً وتكراراً لمثل هذه الالتباسات؛ فالفقه هو فهم أجيال من العلماء للشريعة من نصوصها ومصادرها، وهذا الفهم كما يمكن أن يكون قد أصاب بنسبة التسعين في المائة، يمكن أن يكون قد أصاب بنسبة الستين في المائة، وليس هو فهماً معصوماً بالضرورة، فإذا اكتشفنا ـ نتيجة ممارسة اجتهاديّة أصوليّة معمّقة ـ أنّ هذه الفهوم كان خاطئة، وهي فهوم بشريّة، فبأيّ مبرّر شرعيّ أو أخلاقي نسمح لأنفسنا باتّباع ما نراه خطأ بحجّة أنّ جمهور الفقهاء قالوا به؟!
إنّ حجيّة الإجماع تمّت مناقشتها مراراً وتكراراً من قبل متأخّري الأصوليّين والفقهاء، وقد أكّدوا أنّ الاجماعات المدركيّة أو محتملة المدركية لا حجيّة فيها، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف بالإجماعات التي نحتمل مدركيّتها ونناقش في مداركهم ونخطّؤهم فيما فهموه من هذه المدارك نتيجة مناهج توصّلوا إليها بأذهانهم وبَلَغَتْها عقولُهم.
ومجرّد قربهم الزمني لا يغيّر شيئاً، فالمتأخّرون كانوا أدقّ منهم في كثير من الأمور ومناهجهم كانت أكثر عمقاً في الكثير من المستويات، والعلم يتطوّر بشكل تلقائي في هذه المجالات، دون أن يعني ذلك أنّ المتأخّرين كانوا على صواب دائماً.
ثانياً: إنّ ادّعاء أنّ الدين عُرضة للزوال بفعل هذه المناهج يمكن أن يقلبه المنتصرون لهذه المناهج على أصحابه، وذلك بالقول بأنّ هذه المناهج لديها ـ عندما لا تستخدم بشكل إفراطي شعاري ـ لديها هي القدرة على حماية الدين وبقائه وعدم موت أحكامه وتشريعاته وإثبات نفسه.
سبق لي أن ذكرت العديد من هذه الأمثلة في مناسبات أخرى، واُشير هنا سريعاً: مَن الذي يقوم بالإجهاز على فقه الزكاة اليوم: الفهم التقليدي النمطي أو الفهم المناطي أو المقاصديّ عندما يوسّع دائرة الأعيان الزكويّة؟ من الذي يقوم بحفظ الأنساب وعدم اختلاطها اليوم: هل الفهم التقليدي النمطي أو الفهم المناطي الذي يجعل العلم وسيلة من وسائل إثبات النسب بدرجة تصل بالبشر إلى الكشف عن كثير من الأنساب بالدقّة أو شبه الدقّة العالية بما هو أعلى بكثير عادةً من حجم القوّة الاحتماليّة في الطرق الفقهية النمطيّة؟ إلى غيرها من عشرات الأمثلة.
إنّ الطرق النمطيّة هي أيضاً لا تسلم من الإشكاليّة، وهي أنّها في العديد من المواضع تقف عاجزة عن تقديم حلول حقيقيّة، إذ في كثير من الأحيان تتصادم مع المعرفة البشريّة اليقينية التي يقرّون هم بها عبر مرجعيّة أهل الخبرة التي يؤمنون بها.
ثالثاً: إنّ الحديث عن الهويّة الإسلاميّة ومخاطر التهديد هو أيضاً بحاجة لتأمّل؛ إذ يلزمنا مسبقاً تحديد الهويّة الإسلاميّة لنعرف: هل نحن نسير على هذه الهويّة حتى نخاف عليها أو نسير على هويّات مصطَنَعة بفعل تراكم الأجيال التاريخيّة التي ألقت بحمولاتها على الهويّة الإسلاميّة الأصيلة كلّ من موقعه، ففي البداية علينا تحديد ما هي الهويّة الإسلاميّة التي جاءت بها الرسالة السماويّة، ثمّ بعد ذلك نتحدّث عن أنّ الهويّة التي نحياها اليوم هي هويّة إسلاميّة أصلاً وحقّاً أو هي ـ في بعض أجزائها ـ حمولات هويّات عربية وعرفيّة وفارسية وتركية..؟
لا يمكن اعتبار هويّتنا القائمة هويّة إسلاميّة ما لم نقم في مرحلة أسبق بدراسة هذه الهويّة وتحليل الإسلام نفسه لإجراء مقارنات.. أمّا اعتبار هويّتنا القائمة اليوم هي هويّة إسلاميّة خالصة، ثمّ جعلها أصلاً في محاكمة مناهج الاجتهاد، فهو خطأ منهجي عميق، بل هو يعبّر عن نوع من المصادرة.
إنّ المنطق العلم ـ اجتماعي نفسه الذي يستخدمه أصحاب هذه الإشكاليّة هنا، هو الذي يخبرنا أيضاً أنّ الأديان والمذاهب تتراكم عليها في العادة ثقافاتٌ وأعراف وقوميّات وأنماط تفكير، بحيث نحتاج لحفرٍ جيولوجي عميق كي نزيل عنها ركام التاريخ، ومن ثمّ فما تُسمّيه أنتَ اليوم هويّةً إسلامية أصيلة يمكن أن يكون بعضُه أعرافاً عربيّة أو فارسيّة أو هنديّة.. أو ظهر نتيجة أوضاع اقتصاديّة أو سياسيّة معيّنة، أو كرّسته السلطات الحاكمة عبر أجيال لمصالحها، ولا يمثل أصالة الهويّة الدينيّة، فجعلُه أساساً نُحاكم وِفْقَهُ مناهجَ الاجتهاد لا يحمل الكثير من المنطقيّة.
إنّ مشكلة بعض الناس أنّهم يخافون من (التصفير)، بمعنى أنّهم لا يريدون الاستماع لتلك الأسئلة التي تعيدهم لنقطة الصفر في التفكير، لهذا فهم يفضّلون اعتبار ما هو قائم مفروغاً عنه، ولا يرغبون في التفتيش فيه؛ خوفاً ـ ربما ـ من جرح نرجسي قد يُصيبهم أو مفاجئات قد تنتظرهم تُلحق أوجاعاً. وعندما نبحث في مناهج المعرفة والاجتهاد في الدين فلا يمكننا أن نتجاهل الأسئلة الصفريّة هذه، وإلا فحديثنا لن يكون في المنهج أساساً؛ لأنّ المنهج نفسه يعتاش على التفكير الصفري هذا.
رابعاً: إنّ دعوى زوال الهوية تهويل ومبالغة، فإنّ المقاصديين والعلليين والمناطيين غالباً ما لا يقحمونم أنفسهم في الأمور التعبديّة، ويعتبرون العبادات خارج نطاق عملهم في الغالب، وقد رأينا أنّ الطوفي ـ أحد أهمّ أنصار فقه المصلحة والمقاصد ـ يحيّد العبادات والمقدّرات الشرعيّة، ورأينا أنّ الكثير جداً من أنصار القياس يحيّدون العبادات والحدود والكفارات.
إنّ النقطة الجوهريّة هنا تكمن في أنّ مناهج الاجتهاد المقاصدي والعللي والمناطي غالباً ما تعمل في دوائر الأمور العقلائيّة العرفيّة التي يملك العقل التجريبي الإنساني خبرةً مسبقة بها، كما تمّ إيضاح ذلك في مباحث مناسبات الحكم والموضوع وإلغاء الخصوصيّات، وأجلاه خير تجلية السيد محمّد باقر الصدر في بعض تعليقاته الفقهيّة، ولهذا فهذه المناهج قليلاً ما تُقحم نفسها في العباديّات إلا عبر وجود نصوص تعليليّة (أو في ضمن قضايا محدودة وتفصيلية جداً)، وهذا راجع لأخذ الأمور من النصّ نفسه، وليس خارجاً عن دائرة النصوص ولو بنحوٍ ما.
ولعلّه يؤكّد ما نقول أنّ بعض التيارات العلمانيّة والليبراليّة في العالم العربي والإسلامي تهاجم في غير مناسبة الاتجاهات المقاصديّة وتعتبرها متحفّظة، بل تتهمها بالجمود والجلموديّة، وهذا يكشف عن أنّ الصورة التي يأخذها بعض المعارضين للتيارات المقاصديّة والتعليليّة ليست دقيقة لو أخذنا أطراف المشهد كلّه.
إنّني إذ أدافع هنا عن المنهج المقاصدي والمناطي، لا أوافق على كلّ امتدادات هذين المنهجين، بل أختلف معهما واتفق، كما أعارض الأشكال الإفراطيّة لهذين المنهجين والتي رأيناها وما نزال عند بعض الشخصيّات والباحثين، فلا أهدِفُ هنا للدفاع عن كلّ امتدادات هذين المنهجين، بل يهمّني دفع التهمة عنهما من حيث المبدأ، وإلا فنحن من دعاة وضع ضوابط ومعايير في نشاط المنهج المقاصدي والمناطي.
([1]) نُشر هذا المقال ـ بوصفه كلمة التحرير ـ في مجلّة الاجتهاد والتجديد في بيروت، العدد 54، ربيع عام 2020م.