أحدث المقالات

د. الشيخ محسن كديور(*)

ترجمة: علي فخر الإسلام

1ـ ظلّ الاجتهاد العامل الأساس في بلورة حيوية الإسلام من صُلبه طوالَ عدّة قرون، مؤكِّداً خلالها نجاعتَه؛ إذ كان علماء الإسلام ـ ولا سيَّما الفقهاء ـ يرجعون، في ضوء ذلك المنهج، إلى القرآن والسنّة؛ لاستنباط وظائف المؤمنين العمليّة؛ لتسيير عجلة حياتهم كمسلمين، دون الاصطدام بأيّ حَرَجٍ.

كان الفقهاء يفرغون جهدهم في التعامل مع ما يستجدّ من قضايا؛ ليبلغوا قصدهم باتّباع منهج الاجتهاد التقليديّ؛ فإنْ لم يسعفهم الرجوع إلى القرآن والسنّة في العثور على ما يبغون بوضوحٍ لجأوا إلى الإجماع وعدّة وسائل أخرى ـ تَبَعاً لكلّ    مذهبٍ ـ، كالقياس و«أخواته» ـ من قبيل: المصالح المرسلة، وأمثالها ـ أو العقل، في استنباط أحكام الشريعة.

منذ أواخر القرن التاسع عشر ظهر جليّاً قصور الأحكام التي أفرَزَها فَهْم الفقهاء عن مواكبة بعض القضايا التي أفرزَتْها الحياة المعاصرة، ما أدّى إلى خلق حالةٍ من عدم الانسجام بين الإسلام والحداثة، لتأخذ بالاتّساع بالتدريج. ولم ينحصر ذلك التباعد في عددٍ محدود من المسائل أو نطاقٍ صغيرٍ من أحكام الشريعة فحَسْب، بل تفاقم مع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ليشمل تقريباً كافّة الأحكام غير العبادية وبعض نظائرها العباديّة في الشريعة، ناهيك عن العلوم النظرية الإسلامية، كعلم الكلام وتفسير القرآن وعلم الحديث.

لقد تبدَّتْ ظاهرة قصور استيعاب العلماء التقليديين وفَهْمهم بشكلٍ فاقع إلى درجةٍ لم تقتصر ملاحظتها على فئةٍ محدودة من النُّخَب والمختصّين فحَسْب، بل لمستها غالبية شرائح المتعلِّمين من المسلمين؛ إذ كلما ازداد انفتاح المجتمعات الإسلامية على ظاهرة الحداثة انكشف مدى عمق البَوْن الشاسع بين الإسلام والحداثة وسَعَته.

طبعاً، لا يفوتنا أن نشير إلى نقطةٍ هامة، وهي أن هذه المعضلة ليست حِكْراً على المسلمين؛ فقد خاض اليهود والمسيحيون وأتباع الأديان الأخرى مشكلاتٍ وتجارب مشابهة بشكلٍ أو آخر في التعامل مع الحداثة.

2ـ يبدو أنّ المسلمين في مواجهتهم لتلك الظاهرة تبنَّوْا ثلاث مقاربات للتعامل معها:

الأولى: اعتبار المشكلة كامنةً في أصل الدين، ومنه: الإسلام؛ فرأوا في الإسلام عائقاً أمام الحداثة والتنمية والتقدّم، ليخلصوا إلى أنّ الحلّ الوحيد للخروج من المعضلة يتمثَّل في إلغاء الدين من الحياة، وفق مبدأ «عِشْ حياتك وكأنّه لا ربَّ موجوداً»، أو «افرِضْ أن الربَّ قد مات»، الأمر الذي أفرز علمانيّةً فكريّة أو فلسفيّة تقوم على فكرة رَهْن السعادة بتجاوز الإسلام وأحكامه التي أكل الدهر عليها وشرب. وبعبارةٍ أخرى: لقد ولّى عصر مفاهيم كالأديان، الله، النصوص المقدَّسة، والوَحْي…، وحان عصر العقل واكتفاء الإنسان الذاتيّ.

الثانية: توجيه أصابع الاتّهام إلى الحداثة؛ لانحرافها عن التوجُّه الدينيّ، ليصار إلى الرجوع إلى صدر الإسلام سبيلاً، من خلال التمسُّك بتعاليم النبيّ الأصيلة وفَهْم ظاهر القرآن. فلا نقص في الإسلام أو الشريعة أو فَهْم العلماء؛ إذ كانت الحداثة السبب في القضاء على قِيَم الإنسان الروحيّة. إذن المشكلة تكمن في الحداثة الشيطانية. ويمكن إطلاق السَّلَفية على مثل هذا التوجُّه، الذي يشمل قراءاتٍ متنوّعة عن المقاربة التقليدية.

الثالثة: وتقع بين المقاربتين المتطرّفتين السابقتين؛ إذ تعمل على البحث عن طريقةٍ لمواكبة الإسلام للحداثة والعصر وتحكيم صرح الإسلام العصري، من خلال إطلاق عملية إصلاح تدريجي للفكر الإسلامي. تعترف هذه المقاربة بوجود معضلةٍ جدِّية، إلاّ أنها لا تراها كامنةً في الدين أو الله أو الوَحْي. فلا مشكلة في أصل الإسلام، وإنما تكمن المشكلة حقيقةً في تبنّي قراءة علماء السَّلَف وفَهْمهم للتعامل مع قضايا العصر؛ إذ لم تعُدْ نتاجات اجتهادات علماء السَّلَف في القرون الماضية قادرة على تلبية حاجات المسلمين في العصر الحديث، ما يفرض تغيير قراءة الإسلام، لا الإسلام نفسه. إنّ قراءة علماء كبار، كالغزّالي والشيخ المفيد، للإسلام خاصّةٌ بفَهْم عصرهم وظروفه، لا عصرنا وشروطه، وهذا لا يعني إنكار جهود كثيرٍ منهم، كالمتكلّمين والفقهاء والمفسّرين والمحدّثين والحكماء والعارفين على امتداد القرون الأربعة عشرة السابقة، الذين أسهموا في إغناء العلوم الإسلاميّة، ويستوجبون ثناءنا الجميل والتقدير، إلا أنّ ذلك لا يبرِّر بأيّ شكلٍ الاتّباع الأعمى، أو اجترار أعمالهم وأُطُرهم النظرية ومنظوماتهم الفكرية، دون نقدٍ أو مراجعة أو إصلاح.

3ـ تقوم المقاربة الإصلاحيّة على عنصرين أساسيّين: الأوّل: استيعاب تبنّي منهج الاجتهاد التقليديّ في التعامل مع قضايا العصر. ولما كانت معضلات العالم المعاصر من التشعُّب والتعقيد ما تتجاوز المناهج التقليديّة يبقى كثيرٌ منها غيرَ محلولةٍ أو مفتقرةً إلى إجاباتٍ وافية. الأمر الذي يقودنا إلى العنصر الثاني، الذي يقوم على عدم كفاية الاجتهاد التقليديّ في مواكبة العصر. وتلتقي في هذه الفكرة آراء كثيرٍ من المسلمين التقدُّميّين، منذ جمال الدين الأفغانيّ الأسدآبادي ومحمد إقبال اللاهوريّ وحتى المعاصرين، من أمثال: فضل الرحمن، محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، عابد الجابريّ، عبد الكريم سروش ومحمد شبستري، الذين يمكن ضمُّهم في هذه البوتقة؛ إذ عمل كلٌّ منهم لإصلاح الفكر الإسلاميّ من وجهة نظره الخاصّة.

في هذا السياق، لم يسلم أولئك من سهام النقد حيالَ ما قاموا، إلاّ أنّه لا يمكن إنكار أهمّية إسهاماتهم في إصلاح الفكر الإسلاميّ؛ فهم يستحقّون منّي كلّ الاحترام والتقدير على الخَدَمات التي قدّموها في هذا الإطار.

يوجِّه كاتب هذه السطور، في ضوء تجارب مَنْ سلف ذكرهم، فضلاً عن تجارب علماء اللاهوت المسيحيّين واليهود، إلى منهجٍ جامع يمكن تسميته «تجديد الاجتهاد» أو «الاجتهاد في المباني والأصول».

يُعَدّ محمد إقبال اللاهوريّ أوّل مَنْ استعمل مصطلح «الاجتهاد البنيويّ»، وذلك في كتاب «تجديد الفكر الديني في الإسلام» في العام 1309هـ.ش.

هناك شبه إجماعٍ في أوساط المفكِّرين المسلمين حول ضرورة الاجتهاد البنيويّ، إلاّ أنّ كلّ واحدٍ منهم اتّخّذ لنفسه مقاربةً مختلفة في هذا الخصوص. ولدينا وصفاتٌ عامّة متنوِّعة عن ذلك الاجتهاد طوال العقود الثمانية الماضية، إلاّ أنّ الوقت قد حان لتطبيقها عمليّاً، وإبراز مخرجات ذلك المنهج في قراءة الإسلام وفَهْمه. وقد حاولتُ في هذه المقالة بيان مقاربتي للاجتهاد البنيويّ.

4ـ نعني بالاجتهاد البنيويّ نقد أصول الفكر الإسلاميّ ومبانيه. وينبغي لهذا النمط من الإصلاح أن يسبق مرحلة إصلاح الشريعة، ويتكثّف هناك؛ إذ إنّ الشريعة نفسها ليست سوى فرعٍ لأصولٍ ومبانٍ تتقدَّم عليها. ولا يقتصر نطاق الاجتهاد على الشريعة والفقه وأحكام الإسلام العمليّة فحَسْب، بل يتّسع ليشمل المجال النظريّ لتعاليم الإسلام التقليديّة، التي تشمل علم الكلام والخلاق وتفسير القرآن وجمع الحديث وشرحه أيضاً.

يقوم الاجتهاد التقليديّ على أساس علمٍ يُدعى «أصول الفقه»، والذي يمكن اعتباره بمثابة «ميثودولوجيا الفقه». وهو علمٌ لا يقتصر على الفقه فحَسْب، بل يغطّي بمنهجيّته كافّة النصوص الإسلاميّة، بما فيها: القرآن؛ والحديث.

بناءً على أحد أفضل تقسيمات أصول الفقه، والذي قام به الفقيه العراقي البارز محمد رضا المظفَّر في القرن الرابع عشر (الشمسي)، يتألَّف ذلك العلم من أربعة أقسام: أوّلها، وأهمّها: فلسفة التحليل اللغوي أو «مباحث الألفاظ». الثاني: «الملازمات العقلية»، سواء في ما يخصّ المستقلاّت العقلية وغير العقلية. الثالث: مباحث «الحجّة»، وتستعرض اعتبار ونطاق فعاليّة كلّ واحدٍ من مصادر الفقه الإسلاميّ: القرآن والسنّة والإجماع والعقل والقياس (وأخواتها) والعُرْف، وأُلحِق بها موضوع كيفيّة ترجيح أحد المصادر على الآخر عند تعارضها وتزاحمها، وذلك تحت عنوان «التعادل والتراجيح». ولما كانت المصادر التي تتمحور على النصّ مشحونةً بالتعارضات تبرز عندئذٍ أهمية تحديد المنهج المعياريّ الذي يتمّ اتّخاذه لرفعها. بينما يشمل القسم الرابع الأصول العمليّة عند غياب المصادر الأربعة الأخرى لاستنباط أحكام الشريعة (الكتاب، السنّة، الإجماع، والعقل أو القياس)، وهي عبارةٌ عن: البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب. أمّا مبحث «الاجتهاد والتقليد» فهو بمثابة نتيجة أصول الفقه، وخاتمة ذلك العلم.

تشكِّل تلك الأقسام الأربعة لأصول الفقه أساس الاجتهاد التقليديّ والتفسير التقليديّ والحديث التقليديّ والكلام التقليديّ. ولا يمكن لأيّ عمليّةٍ إصلاحيّة أن تؤتي أُكُلها دون نقدٍ بنيويّ لكافّة أقسام تلك الميثودولوجيا التقليديّة تقريباً.

5ـ إنّ أصول الفقه بحاجةٍ إلى نقدٍ ومراجعة عميقة، لا إصلاحٍ قِشْرِيّ. وإنّ احتواءها على مواضيع غنيّة ومباحث قيّمة لا ينبغي أن يلغي الحاجة إلى اجتهادٍ متواصل فعّال وناجع داخلَها. ويمكن في هذا السياق الاستلهام من الألسنيّة والهرمينوطيقيا والمقاربة التاريخيّة والفكر النقديّ.

من أبرز عيوب الاجتهاد التقليديّ إغفال دَوْر العلماء غالباً في فَهْم النصوص في الإسلام التقليديّ، وهو ما ينبغي علينا تعلُّمه من فلاسفة معاصرين، أمثال: شلاير ماخر، أُتو، هايدغر، غادامر، وإريك هيرش؛ حيث تُوصِلُنا النتائج التي أفرزَتْها تلك الدراسات المستجدّة إلى نقطةٍ مشرقة تتمثَّل في إمكانيّة استخراج عدّة معانٍ حقيقيّة؛ إذ لا معنى معياراً كامناً في النصّ، في ما يحكي نزعة التنوُّع الدينيّ الذي يجب تبنِّيه. ناهيك عن لزوم التأكيد على استحالة إخراج أيّ نصٍّ عن خلفيّته وسياقه التاريخيّ.

أمّا المنهج الآخر الذي أهمله علماء المسلمين التقليديّون فيتمثَّل في المنهج التاريخيّ؛ إذ تبلورت تعاليم الإسلام، كسائر الديان الأخرى، بالتدريج، ضمن سيرورةٍ تاريخيّة طويلة من التحدِّيات والتحوُّلات، فضلاً عن تأثيرات القوى الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي يفرض على كلّ عالمٍ مسلم دراسةً استقصائية للتعاليم والقضايا الإسلامية، بما فيها استقصاء العقائد والقِيَم والأحكام والمعايير والمسلَّمات الإسلامية.

يُعَدّ «التفكير النقديّ» من أهمّ ضروريّات الاجتهاد البنيويّ الحيويّة في هذا المسار. ويمكن تعريفه كما يلي: «عمليّة عقليّة منضبطة عبر الاستثمار الماهر والفعّال لمَفهَمَة المعلومات التي تمّ جمعها أو توليدها من الملاحظة والتجربة والانطباع والتأمُّل أو التواصل، وتطبيقها وتحليلها وتركيبها و/ أو تقويمها كدليلٍ موجِّهٍ للاعتقاد والفعل». وينبغي التعامل مع فقدان هذا المنهج كإحدى الثغرات الكبرى للاجتهاد التقليديّ.

6ـ إنّ إعادةَ هيكلة أصول الفقه (الاجتهاد في الأصول) مجرَّدُ قطعٍ لنصف مسافة الطريق نحو الاجتهاد البنيويّ، بينما يشكِّل النصفَ الآخرَ الاجتهادُ في الأُسُس، كالركائز الإيبستمولوجيّة، الأنطولوجية، الكونية، الأنثروبولوجيّة، الاجتماعية والنفسية والأخلاقية للإسلام. فالحاجة ماسّةٌ إلى نقد ذلك النمط من الفَهْم الذي يعود إلى القرون الوسطى، ولا سيَّما إذا علمنا أنّ كوسمولوجيا بطليموس كانت الطاغية على العلماء التقليديين طوال قرونٍ، بينما تمتاز كوسمولوجيا علماء المسلمين في العصر الحديث بالصبغة النيوكانْطية. ناهيك عن أنّ فكرة المساواة بين الجنسين، في ضوء أنثروبولوجيا علماء المسلمين التقليديّين، كانت مرفوضةً؛ نتيجة تبنّي أصل العدالة على أساس الاستحقاق الطبيعيّ، في حين يتبنّى علماء المسلمين في العصر الحديث فكرةَ العدالة على أساس المساواة بين الجنسين. من جهةٍ أخرى، يعتبر الاجتهاد التقليديّ الدين معيار التمايز في حقوق الشرائح الإنسانية المختلفة، بينما يتمتَّع البشر في الاجتهاد البنيويّ بحقوقٍ متساوية على أساس إنسانيّتهم نفسها، بغضّ النظر عن عقائدهم وأديانهم ومذاهبهم وتوجُّهاتهم الإيمانيّة.

إذن، يتبيَّن ممّا سبق أنّ المقاربتين السابقتين تنتجان نوعين متفاوتين من الفقه والشريعة.

هناك سؤالٌ محوريّ يُطرَح على مستوى علم الكلام، ويلقي بظلاله على كافّة التعاليم الدينية تأثيراً، ويتمحور حول الله: مَنْ هو الله؟ هل هو حاكمٌ اعتباطيّ أو مجرَّد ربٍّ يلزم أن يكون عادلاً؟

يعتقد أغلب المسلمين، من أتباع المذهب الأشعريّ (الماتريديّة والحنابلة)، وأقلِّية الشيعة والمعتزلة التي انقرضَتْ، بربٍّ عادل، إلاّ أنّ ثمرة ذلك الأصل الأساس لم تكن بارزةً في مجالات التعاليم الإسلامية المختلفة، كالأخلاق، الفقه، التفسير، والحديث. ولا ننسى أنّ هناك صلةً وثيقةً بين فلسفة المعاد (الإيمان باليوم الآخر) والإجابة عن ذلك التساؤل المحوريّ.

بالرغم من أنّ العقل يُعتبر أحد مصادر التشريع الأربعة، ويحظى بقبول فقه الشيعة، إلاّ أنّ الفقهاء لم يستثمروا إمكاناته بالشكل اللازم والمطلوب. وفي هذا السياق يصرِّح السيد محمد باقر الصدر، الفقيه العراقي البارز الذي أعدمه صدّام حسين في العام 1980م، معترفاً في مقدّمة رسالته العملية «الفتاوى الواضحة»: «وأمّا ما يُسمّى بالدليل العقلي، الذي اختلف المجتهدون والمحدِّثون في أنه هل يسوغ العمل به أو لا، فنحن، وإنْ كنّا نؤمن بأنه يسوغ العمل به، ولكنّا لم نجِدْ حكما ًواحداً يتوقَّف إثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى، بل كلّ ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابتٌ في نفس الوقت بكتابٍ أو سُنّةٍ».

ما هي فلسفة النبوّة؟ وما الذي نطمح إليه من الدِّين والوَحْي؟ هل تتمثَّل غاية النبوّة القصوى في وضع قوانين دينيّة وأحكام شرعيّة فحَسْب؟ وهو ما ادّعاه علماء المسلمين التقليديّون، من فلاسفةٍ ومتكلّمين وفقهاء، الأمر الذي أدّى إلى ما يلي:

أوّلاً: احتلال الفقه أعلى المراتب بين العلوم الإسلامية، مسخِّراً إيّاها جميعاً لخدمته.

ثانياً: التعامل مع الشريعة كمجموعةٍ من الأحكام الإسلامية فحَسْب؛ ما حوَّل الإسلام إلى مجرَّد دينٍ مقنّن، وذلك كأفدح سوء فَهْمٍ ارتُكب بحقّ الإسلام.

في المقابل، فإنّ الشريعة، في ضوء الاجتهاد البنيويّ، مجموعةٌ من القِيَم الأخلاقية. الأمر الذي يحكي البَوْن الشاسع بين المقاربتين السابقتين؛ إذ تتميَّز القِيَم غالباً بالثبات، بينما تكون القوانين عرضةً للتغيير حَسْب مقتضيات الزمان والمكان والشروط وتحوُّلاتها. لا مبرِّر إطلاقاً لتصوُّر إمكانيّة مواكبة القوانين التي وُضعَتْ في بيئة الحجاز خلال القرن الأوّل الهجري مقتضيات وحاجات العصر الحديث؛ إذ لن يبقى من تلك القوانين المجتزأة من سياقاتها سوى القشور، على حساب اللُّبّ والروح.

7ـ امتازت القوانين الإسلامية، حَسْب العقلية السائدة في تلك المرحلة من عصر نزول الوَحْي، بأربع خصائص: العقلانية المنطقية، العدالة، الأخلاقية، والنجاعة، بالمقارنة مع نظيراتها المنافسة.

في المقابل، فإنّ أغلب أحكام الشريعة غير العباديّة، طبقاً للعقليّة السائدة في العصر الحديث، تفتقد كلِّياً أو جزئياً إلى تلك الخصائص. ولا قيمة لمظاهر الأحكام في ظلّ غياب تلك المزايا الأربع؛ كي ننبري لصَوْنها والحفاظ عليها.

علينا أن نعترف بأنّ عصر مخرجات الاجتهاد التقليدي قد ولّى؛ لعجز حصيلته عن مواكبة متطلّبات العصر.

في المقابل، تتعامل مدرسة الاجتهاد البنيويّ مع الأحكام التي تفتقد إلى تلك المزايا الأربعة كأحكامٍ منسوخة، وذلك في سياق الحركة نحو تقليص نطاق الدين أفقيّاً، وتعميقه عاموديّاً.

لقد وصف القرآن نفسه بأنه كتاب هدايةٍ، لا قانون؛ فلا يعني وجود مجموعةٍ صغيرة من الآيات تتناول القوانين الجزائية أو حقوق المرأة أن نتعامل معها وكأنّها قوانين ثابتة دائمة.

إنّ القرآن والسُّنّة بصدد تحقيق هدفين:

1ـ رسم خطوط أساسية عريضة لحياةٍ طيّبة سعيدة.

2ـ تنظيم الحياة الدينية في عصر صدر الإسلام.

وينبغي التعامل مع الأوّل باعتباره هَدَفاً ثابتاً دائماً، ومع الثاني كأمرٍ مؤقَّت، سواء أكان ورد في القرآن والسنّة أم لا.

وقد غفل علماء المسلمين التقليديون عن هذه النقطة الحسّاسة، فتعاملوا مع كافّة محتويات الكتاب والسنّة كعناصر دائمة ثابتة وأبدية، ما خلق سوء فَهْمٍ دفع المسلمون ثمنَ مشاقِّه الناتجة.

من جهةٍ أخرى، يكمن هدف الاجتهاد البنيوي في التمييز بين هذين النوعين من الأحكام الإسلامية؛ فيحافظ على الأصول والتعاليم الثابتة؛ ويحيل الباقي إلى متحف تاريخ الإسلام.

ولا شَكَّ في أنّ أغلب المشاكل التي يعاني منها الإسلام تنبع من الأحكام المؤقَّتة، التي كانت خاصّةً بأزمنتها وأمكنتها وشروطها المحيطة، فلم تكن في يومٍ من الأيام جزءاً لا يتجزّأ من الإسلام، ولا محصَّنة من التغيير. وإنّ التعامل مع تلك الأحكام المؤقَّتة باعتبارها دائمةً يخلق سوء فَهْمٍ عميقاً.

في الختام، يتمثَّل فهم الكاتب للاجتهاد البنيوي اجتهاداً في الأصول والمباني. وأعتقد جازماً بأنّ هذا الأمر خطوةٌ ضروريّة لإحياء الفكر الإسلاميّ، مع المحافظة على روح الإسلام.

الهوامش

(*) أستاذٌ وباحثٌ زائرٌ في الدراسات الإسلاميّة في قسم الأديان في جامعة Duke منذ العام 2009م، وكاتبٌ معروفٌ، تغطّي اهتماماتُه البحثيّة الفكر الإسلاميّ الكلاسيكيّ والمعاصر، مع التركيز على كلٍّ من: الفلسفة، الكلام، القانون، الأخلاق الإسلاميّة، والدراسات القرآنيّة، والفكر السياسيّ الشيعيّ.

([1]) مقالةٌ منشورةٌ باللغة الإنجليزية، بعنوان:

«Ijtihad in Usul al Islamic Thought through Structural Ijtihad»

في مجلّة «إيران نامه [Iran nameh]»، جامعة تورنتو/ كندا، السنة 30، العدد 3، خريف 2015م ـ 1394هـ.ش، ص 20 ـ 27. وقد ترجمها من الإنجليزية إلى الفارسية: حميد رضا يزداني (طالب دكتوراه في هندسة الطيران في جامعة شريف الصناعية).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً