أحدث المقالات

دراسة في تأثير النظريات الكلامية في أصول الفقه

ترجمة: حسن مطر الهاشمي

مقدمة

إنّ لعلم الكلام تأثيرات عريقة في علم الأصول، فقد كان المؤسِّسون والمؤلِّفون الأوائل في علم الأصول من كبار المتكلمين، سواء من الشيعة([1]) أو السنة([2])، كما كان المحقِّقون والمدرِّسون ومدوِّنو المصنفات الأصولية في المراحل المتأخرة من مشاهير المتكلمين، أو كان لهم الباع الطويلة في علم الأصول([3]).

وطبقاً لهذه الحقيقة التاريخية فإنّ الآراء الكلامية قد تركت آثارها على علم الأصول، سواء شئنا ذلك أم أبينا، وإن المتكلمين كان لهم ـ بقصد أو بغير قصد ـ دور حيوي في علم الأصول([4]).

وعليه نلاحظ أنّ بعض المسائل الكلامية التي ظهرت في طيّات المسائل الأصولية قد تسربت بادئ ذي بدء إلى الكتب الأصولية عن طريق الكتب الكلامية، وقد احتفظت أحياناً بعناوينها الأصولية، من قبيل: مباحث حجية خبر الواحد([5])، ومباحث حجيّة الإجماع([6])، وغير ذلك، وأحياناً تمّ تغيير عناوين ومصطلحات، من قبيل: أصالة الحظر وأصالة الاحتياط في علم الأصول([7])، كما تغيّرت جهة البحث أحياناً، من قبيل: الصلاة في المكان المغصوب، حيث بحثها المتكلمون على النحو الآتي: هل تكون مثل هذه الصلاة مقبولة لله تعالى أو لا؟([8])، في حين تعرّض لها الأصوليون من زاوية أخرى، وهي: هل يوجب تعداد العنوان اجتماع الأمر والنهي على شيءٍ واحد؟([9]).

ومن زاوية أخرى لجأت جماعة من علماء الأصول إلى الأدلة الكلامية؛ بغية إثبات آرائهم الأصولية([10])، وعمد بعضهم من هذه الزاوية إلى نقد الآراء الأصولية المعتمدة على المتبنيات الكلامية المرفوضة من قبل صاحب الرأي الأصولي([11]). ومن جهة أخرى استعرض بعض الأصوليين المبادئ الكلامية لبحوثهم الأصولية([12])، وفي نهاية المطاف ذهب بعضٌ إلى أنّ علم الكلام من مبادئ علم الأصول، وأصر على ذلك. فمثلاً: عدّ الغزالي الكلام من مبادئ العلوم الدينيّة، ومن بينها علم الأصول، وذهب إلى أنّ المتكلم يثبت أحقية قول وفعل النبي‘، وأنّ أدلة الفقه، التي هي موضوع علم الأصول، عبارة عن: الكتاب؛ والسنة؛ والإجماع، أما الكتاب فنحصل عليه من طريق النبي‘، والسنة هي قوله وفعله، كما يثبت الإجماع بأقواله([13]).

وطبعاً فإن الرؤية العلمية المحايدة اتجاه كل فرع علمي تقتضي أولاً: دراسة تأثير سائر العلوم الأخرى في ذلك الفرع العلمي؛ وثانياً: أن لا تقتصر تلك الدراسة على خصوص مسائل العلم، بل لابد أيضاً من أن تؤخذ أبعاد أخرى بنظر الاعتبار، من قبيل: الموضوع، والرقعة، والأهداف، والأدلة، والمصادر.

ولما كانت أهم أهداف علم الأصول تتمحور حول الفهم المنهجي لقواعد الأحكام الفقهية كان من الضروري؛ للوصول إلى هذا الهدف، الاهتمام بما يلي:

1ـ تـنقية علم الأصول من البحوث غير المجدية في فهم الفقه، والتي لا تـنتج سوى تضخم الأصول.

2ـ إضافة قواعد أخرى ضرورية لفهم الشريعة واستـنباط الأحكام الفقهية، وتوسيع رقعة علم الأصول وجعله أكثر نفعاً.

3ـ يجب من خلال إعادة النظر في علم الأصول التفكيك بين القواعد المشتركة الداخلة في فهم الدين على نطاق عام، وليس خصوص الشريعة والأحكام الفقهية، وإضافة قواعد أخرى إليها، والقيام بتأسيس (أصول فهم الدين).

4ـ دراسة جميع العلوم التي يحتمل تأثيرها في علم أصول الفقه، وعدم الاكتفاء بالدراسات المحدودة، ويجب بحث تأثيراتها في الموضوع والرقعة والأدلة والأهداف والمصادر وما إلى ذلك.

5ـ ينبغي تـنظيم علم الأصول بنحو يتـناسب وحاجة الفقيه والباحث في الفقه على مستوى العمل([14]).

وبالالتفات إلى المسائل والسبل المطروحة سنبحث العناوين التالية في عدة محاور.

1ـ موضوع علم الأصول

يعدّ علم الأصول من البحوث التمهيدية. وبعبارة أخرى: (الفلسفة الأصولية) التي خاض فيها عدد من علماء الأصول في مقدمات كتبهم([15])، أو ضمن بحوثهم([16]).

وهناك من ذهب إلى أن موضوع علم الأصول هو (الطرق)([17])، أو(الأدلة)([18]) الفقهية؛ وهناك من رأى انحصار موضوعه في (الأدلة الأربعة)، أي الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل([19])؛ بينما ذهب آخرون إلى أن موضوع علم الأصول هو (الحجة في الفقه)([20]).

ويبدو أن الرؤى الكلامية لم تخلُ من تأثير في الرأي الأخير؛ لأن علماء الأصول يفسّرون الحجية بـ(المعذِّرية والمنجِّزية)، والمعذرية تعني أن المجتهد إذا توصل إلى استـنباط حكم شرعي من خلال دليل معتبر، كالخبر الموثوق، وكان ذلك الطريق مخالفاً للواقع، كان آمناً من عذاب الآخرة، ولم يكن مستحقاً للعقوبة. ولا يخفى أن استحقاق العقوبة والمثوبة من الأمور الاعتقادية والكلامية.

وعلاوة على ذلك يبدو من خلال إعداد المقدمات الكلامية حول موضوع علم الأصول الاستدلال على النحو التالي:

أـ لقد شرّع الله الدين كي يفهمه الناس، فيؤمنوا به، ويعملوا في ضوئه.

ب ـ إنّ بيان التعاليم الدينية ـ أو في أقل التقادير على المستوى العملي والفقهي ـ لم يكن رمزيّاً، لا يعرفه إلا النزر اليسير من الناس([21])؛ وإنما كان المخاطب به جميع الناس، وبأسلوب عقلائي([22]).

وعلى هذا المبنى يتعين علينا؛ من أجل فهم الأحكام الدينية، مراجعة ما عليه الناس من تلك القواعد والضوابط العقلائية والعقلية، وعليه يكون موضوع علم الأصول عبارة عن: (القواعد العقلية والعقلائية المعتبرة بين الناس). كما يستفاد ذلك من كلام العلامة الطباطبائي في تعريفه لعلم الأصول، حيث توصل بعد البحث في هذا المجال إلى النتيجة الآتية: «فعلم الأصول هو العلم الباحث عن القواعد المقررة عند العقلاء لاستـنباط الأحكام»([23]).

وقد تحدث الكثير من علماء الأصول بشأن عقلانية هذا العلم، أو نوَّهوا أثناء البحث في مسألة من مسائل الأصول إلى كونها من المسائل العقلائية([24]).

2ـ مساحة علم الأصول([25])

تعد رقعة علم الأصول ومساحته من البحوث التي تحتاج إلى دراسة بشأنها؛ إذ قلما تعرض لها العلماء بالبحث والتحقيق، إلا ما كان من إشارات طفيفة في طيات كلام علماء الفقه والأصول. فمثلاً: حدد بعض الأصوليين رقعة علم الأصول عند تعريفه لهذا العلم بقواعد استـنباط الأحكام الواقعية([26])، ولذلك أبدى تعريفاً آخر منح علم الأصول مساحة أوسع، وأدرج في ضمنه قواعد من قبيل: قاعدة الاحتياط، والبراءة، مما يصار إليه لمعرفة الوظيفة العملية عند يأس المكلف من الوصول إلى الحكم الواقعي([27]).

ولكن الأهم من ذلك هي التساؤلات التي تثار حول (مساحة الفقه)، فبالالتفات إلى أن أصول الفقه يبحث في بيان القواعد الفقهية فإنّ الاختلاف بشأن (رقعة الفقه) سيؤدي بالضرورة إلى وقوع الاختلاف في (رقعة علم الأصول)، وبديهي أن الاختلاف في (رقعة الفقه) مسألة كلامية، وإن الاختلاف في (رقعة الدين) تؤثر في هذا المجال.

وإذا كانت الغاية من الدين هي الوصول إلى السعادة الأخروية فسوف ينحصر علم الفقه ـ بطبيعة الحال ـ بالأحكام التي تصبّ في هذه الغاية، وسوف تبنى القواعد الأصولية على أساس الخلاص من عذاب الآخرة وعقوباتها، كما ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء. فمثلاً: ذهب الشهيد الأول في تعريفه لعلم الفقه إلى أن: «الفقه لغة: الفهم؛ وعرفاً: العلم بالأحكام الشرعية الفقهية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخرويّة»([28]).

كما ذهب إلى ذلك الكثير من علماء الأصول، ومن هنا نجدهم عرفوه بأنه: «القواعد التي نحصل من خلالها على الحجة الشرعية([29]) والأمان من عذاب الآخرة»([30]).

بيد أننا إذا أضفنا (تلبية السعادة الدنيوية) إلى رقعة الدين([31]) فعندها ستغدو (رقعة الفقه) أكثر اتساعاً، وتبعاً لذلك ستتسع (رقعة الأصول) أيضاً. وطبعاً يتوقف مقدار هذه السعة بمقدار ما نراه للدين من حق التدخل في الأمور الدنيوية. والآراء في هذا الشأن مختلفة، مما يؤثر في رقعة الفقه والأصول.

وهناك من قصر تدخل الدين على حدود تلبية الأهداف والمقاصد العامة، وطبعاً سنحتاج في علم الأصول إلى قواعد لتحقيق هذه الغاية. ويبدو أنّ رسم أهداف عامة للدين، من قبيل: حفظ العقل، والمال، والنفس، والعرض، حاكٍ عن هذا النهج. ومن هنا وضعت هذه الجماعة قواعد في الأصول، من قبيل: المصالح المرسلة، وأشبعوها بحثاً وتفصيلاً، وجدّوا في إثبات حجّيّتها([32]).

وهناك من رأى أنّ المساحة التي يشغلها الدين تقتصر على بيان أحكام وقوانين الحياة في هذه الدنيا، وعليه ستتسع رقعة الفقه وأصوله([33])، وخاصة إذا ذهبنا إلى عدم اختصاص موضوع الفقه بـ(فعل المكلف)([34])، وقلنا بشمولها لما هو أعم من السلوكيات الفرديّة والاجتماعية، كما ذهب بعض الفقهاء من المعاصرين إلى مثل هذا الرأي([35]). وعلى هذا الأساس ينبغي توسيع رقعة أصول الفقه إلى ما هو أبعد من حدود قواعد الكشف عن الأحكام الفردية([36])، كما ينبغي تأسيس قواعد لاستكشاف أحكام تدبير وإدارة المجتمع([37])، وتسميتها بـ (أصول الفقه الاجتماعي)، أو (أصول فقه الحكم)([38]).

وهناك من طرح النظام ضمن مساحة الدين، فعلى هذه الرؤية لا تـندرج الأحكام الفردية والاجتماعية في رقعة الدين فحسب، بل تشمل حتى النظام المترابط في شبكة معقدة. وعلى هذا الأساس فإن مجموعة التعاليم الدينية والأحكام الفقهية في مختلف المجالات، أو في الأقل في مجال خاص، مثل: الاقتصاد، تروم تحقيق هدف أو عدة أهداف، وينبغي للوصول إلى هذه الأهداف تأسيس قواعد وأصول، وتسميتها بـ (أصول الفقه التـنظيمي)، أو (قواعد استكشاف النظام)([39]).

وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك فأدخل التخطيط في رقعة الدين والفقه، بمعنى أن الدين علاوة على التـنظيم يعمل على التخطيط لتـنفيذ الأهداف الدينية والأحكام الفقهية أيضاً، ولا يكتفي بمجرد بيان غاياته وأحكامه، تاركاً مسألة التخطيط والتـنفيذ إلى العقل والتجربة البشرية، دون أن يكون له أدنى تدخل في هذا المجال([40]). وعلى هذا الأساس يجب تأسيس أصول وقواعد للتخطيط الديني، وتسميته من باب المثال بـ (أصول فقه التخطيط)، أو (قواعد استكشاف التخطيط الديني).

وعليه كلما وسعنا في رقعة الدين في ساحة الحياة الاجتماعية علينا في المقابل أن نوسع من رقعة علم الفقه، وإنّ توسيع رقعة علم الفقه تستلزم توسع رقعة الأصول أيضاً، وهذا أمر طبيعي وواضح. ومن الطبيعي أنّه ليس من اللازم توسيع رقعة الدين من خلال توسيع رقعة الأصول والفقه الراهن، وإنما يمكن من خلال اعتقاد البعض بتدخل الدين في هذا المجال تأسيس فرع أو فروع علمية أخرى، وإنّ استـنباط أمور من قبيل: التـنظيم، والتخطيط، بحاجة إلى أصول وقواعد، بعضها نادر أو فريد، وعندها سيؤدي ذلك إلى توسيع علم الأصول، أو تقسيمه إلى عدة فروع، وكذلك التأسيس لأصول خاصة للتـنظيم أو التخطيط([41]).

3ـ أدلة علم الأصول ومصادره([42])

من البحوث التي يحتاج فيها علم الأصول إلى دراسة حيادية بحث (أدلة علم الأصول ومصادره). فإن الباحثين في علم الأصول لم يخوضوا في هذا البحث بشكل مستقل وحيادي، ولكن يبدو أنه من المتسالم عليه عندهم أن مصادر الأصول وأدلته هي نفسها مصادر وأدلة علم الفقه؛ فاستـندوا حيناً إلى آيات القرآن([43])؛ وحيناً إلى الروايات([44])؛ وتارة اعتبروا الإجماع دليلاً([45])؛ وتمسكوا تارة بالسيرة العقلائية أيضاً([46])؛ واحتكموا إلى العقل([47]) أو الوجدان([48]). وهذا لا يعني أنهم ينظرون إلى أدلة علم الأصول ومصادره من ناحية الرتبة والدور بنفس النظرة إلى مصادر الفقه وأدلته، بل إن نظرة عابرة إلى الكتب الأصولية تحكي عن تفاوت الرؤية في هذا المجال.

ويبدو أنّه بالإمكان طرق هذا البحث من زاوية الرؤية الكلامية، فإنّ مصادر وأدلة علم الأصول ترتبط من جهة برقعة الدين، كما ترتبط بكفاءة العقل من جهة ثانية، ودور سيرة العقلاء من جهة ثالثة.

أما في ما يتعلق برقعة الدين فيطرح هذا التساؤل نفسه: هل تتسع رقعة الدين بحيث تستوعب قواعد وضوابط إثبات وفهم النصوص الدينية أيضاً، أو تقتصر ضوابط وقواعد إثبات وفهم نصوص الدين بالأمور العقلية والعقلائية، فلا تدخل في رقعة الدين، ولو ورد كلام في هذا الشأن فهو لا يعني بالضرورة كونه أمراً دينياً، بل لا بد من حمله على أمور أخرى، كشأن التفريع، أو الشأن العادي للمعصوم، أو الإرشاد؟ ذهب بعض الأخباريين من الإمامية إلى أن الدين هو المصدر المباشر لعلم الأصول، وأن قواعد الاستـنباط نفسها دينية([49])؛ إلا أن بعض الأصوليين من الإمامية ذهبوا إلى دينية أدلة اعتبار بعض القواعد الأصولية، دون القواعد نفسها، ومن هنا فقد استـندوا إلى الآيات والروايات لإثبات بعض المسائل الأصولية، وحتى عندما تمسكوا بسيرة العقلاء لم يروها بمفردها دليلاً على اعتبار المسألة الأصولية، بل حاولوا أن يضموا إليها عدم ردع المعصوم عنها؛ ليكون عدم ردعه كاشفاً عن موقف الدين والشريعة. فمثلاً: تمسك الآخوند الخراساني بسيرة العقلاء لإثبات حجية ظاهر كلام الشارع، ثم أضاف قائلاً: «نقطع بعدم ردع المعصوم عن هذه السيرة»([50])، أي إننا نستفيد إمضاءه وتأييده من عدم ردعه.

وفي مقام الاستـناد إلى العقل لم تضف مقدمة أخرى، وإنما قالوا بدلالة العقل على هذا الأمر بشكل مطلق. وإنهم حينما جعلوا العقل مستـنداً للحكم الفقهي استـندوا إلى قاعدة الملازمة، وقالوا: إن حكم العقل كاشف عن حكم الشرع([51]).

4ـ مسائل علم الأصول

إن تأثير الرؤى الكلامية في مسائل علم الأصول واضح بنحو أجلى وأكبر. وهنا سنتعرض لبحث بعض هذه الرؤى في عدد من المسائل الأصولية المهمة:

أـ حجية خبر الواحد

إحدى المسائل المهمة في علم الأصول حجية (خبر الواحد)، حيث تم بحثها منذ تأسيس هذا العلم. فذهبت جماعة إلى حجيته؛ بينما ذهبت جماعة أخرى إلى خلاف ذلك. وقد تدخلت عوامل عديدة في عدم اعتبار حجية خبر الواحد. ولا يمكن إغفال دور العامل الكلامي في هذا المجال. فمثلاً: نقل عن ابن قبة في هذا الشأن استدلاله على أن اعتبار حجية خبر الواحد يؤدي إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال([52]). وفي الحقيقة إن معنى ومبنى هذا الاستدلال يفيد ـ أولاً ـ أن التشريع مختص بالله تعالى؛ وثانياً: أن الله تعالى من خلال تشريعاته جعل المحرمات في جانب والمباحات في جانب آخر، وأن لازم اعتبار حجية خبر الواحد الظني إخراج ما كان حراماً عن دائرة المحرمات وإدخاله في دائرة المباحات، والعكس صحيح أيضاً؛ وهذا يعني تدخلنا في مجال التشريعات الإلهية([53]).

وكذلك هو ظاهر كلام من ذهب إلى أن العقل لا يجيز العمل بخبر الواحد([54])، فإنه يحكي عن تأثير آرائه الكلامية.

وهكذا هو رأي السيد المرتضى، حيث يقول: «لا بد من القطع في أصول الفقه، كما في أصول الدين»([55])، فإنه يُظهر تأثير آرائه الكلامية في مسائل أصول الفقه، ومنها خبر الواحد([56])، كما صرح بعض المحققين بذلك([57]).

وعليه يشكِّل الكلام المتقدم قرائن تبعث على الظن أو الاطمئنان بتأثير الرؤى الكلامية في عدم حجية خبر الواحد. كما يمكن الاستدلال لإثبات حجية خبر الواحد من خلال الاستفادة من العناصر الكلامية في مقدماته على النحو التالي:

1ـ إن إيصال النداء أمر عقلائي، لا علاقة له برقعة الدين.

2ـ إن الشارع نفسه قد استعمل هذا الأسلوب العقلائي؛ بغية إيصال كلماته، ولم يخترع أسلوباً جديداً.

3ـ إن العقلاء في إيصال كلماتهم والاعتقاد بها يكتفون بحصول (الوثوق والاطمئنان بالخبر)([58])، أو (وثاقة المخبر)، وعليه فإن (الخبر الموثوق الصدور) أو (خبر الثقة) حجة.

ب ـ حجية الإجماع

تعدّ (حجية الإجماع) من المسائل المهمة في علم الأصول، وقد تم طرحها أولاً في علم الكلام([59])، ثم استـند إليها فقيهاً؛ وبحثت أدلتها في علم الأصول.

وقد اثبت علماء الأصول من أهل السنة الحجية للإجماع؛ بملاك (عصمة الأمة)، مستدلين بالحديث القائل: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»([60]). فقد حمل الغزالي هذا الحديث على (عصمة الأمة)، بمعنى أن الأمة هي التي تخلف النبي‘ بعد رحيله؛ لأن إجماع الأمة بمنأىً عن الخطأ والسهو والكذب في الدين([61]).

في حين ذهب علماء الأصول من الإمامية إلى أن ملاك حجية الإجماع هو (عصمة الإمام)؛ وذلك لأن الإمام ـ بناءً على الأدلة الكلامية([62]) ـ هو نائب النبي ‘، ومعصومٌ مثله، وإنما يكون الإجماع حجة بما هو كاشف عن رأي المعصوم([63]).

ومضافاً إلى أصالة حجية الإجماع فقد حاول بعض علماء الأصول من الإمامية إثبات دخول المعصوم وموافقته لمورد الإجماع من خلال الاستدلالات الكلامية، ومن بينها التمسك بـ (قاعدة اللطف)، بمعنى أن وظيفة الإمام تجاه هداية الناس وبيان الأحكام الإلهية تفرض عليه فيما لو أجمع الفقهاء على حكم مخالف للواقع أن ينبههم إلى وقوعهم في مخالفة الواقع؛ بمقتضى قاعدة اللطف، ولو عن طريق بيان حكم الله الواقعي على لسان بعض الفقهاء، وبذلك يخرق اتفاق الفقهاء على المستوى العملي، فلا يكون هناك إجماع على الحكم بينهم([64]).

ج ـ حجية القياس

من المسائل الأصولية المختلف فيها بين المذاهب الإسلامية (مسألة حجية القياس)؛ حيث ذهب بعضهم إلى حجيته واعتباره؛ بينما صار البعض الآخر إلى خلاف ذلك، وقد ذكرت كل طائفة منهم أدلةً على إثبات أو نفي حجيته، غير أن الملفت أن كلا الطائفتين قد تمسكت بأدلة كلامية لإثبات ما تدّعيه. فمثلاً: قال جمع من أنصار القياس: إن من جملة خصائص الشريعة جامعيتها وشمولها لجميع مجالات حياة الإنسان، في حين أن نصوص الكتاب والسنة محدودة، فلو أردنا الإجابة عن جميع الوقائع التي تحدث في حياة الإنسان على طول الزمن، من خلال الرجوع إلى ظواهر الكتاب والسنة فقط، دون اللجوء إلى القياس، سنجد أن ظواهر الكتاب والسنة غير كافية ووافية في تلبية هذه الحاجة الماسة، وعليه لا بد من الذهاب إلى ما هو أبعد من ظواهر ألفاظ الكتاب والسنة، والبحث عن العلة الواردة في الكتاب والسنة، من خلال أصول وقواعد أخرى، كالقياس مثلاً، وتعديتها إلى الفروع والحوادث الواقعة والأمور المستحدثة، وصولاً إلى حكمها([65]).

كما قال بعض أنصار حجية القياس: إن الغاية من تشريع الأحكام رعاية مصالح الإنسان؛ إذ لم يشرع الله حكماً من دون مصلحة. وقد وردت أحكام كثيرة في الكتاب والسنة، ولكن مع ذلك لم ترِدْ فيهما أحكام بعض الوقائع. فعندما نجد واقعة غير منصوصة الحكم، مثل: (النبيذ)، تشترك مع واقعة منصوصة، مثل: (الخمر)، في علة الحكم، وهو (الإسكار)، كان مقتضى الحكمة والعدالة أن يجعل الله حكم النبيذ مساوياً لحكم الخمر([66]).

كما اعتمد المنكرون للقياس على الاستفادة من أنواع من الأدلة الكلامية. فقال بعضهم: إن رعاية الأصلح وتجنب المفسدة واجبة على الله تعالى، وهذا أصلٌ كلاميٌّ، في حين أن اعتبار القياس ليس من الأصلح في شيءٍ، بل فيه مفسدة أيضاً؛ لما يترتب عليه من التبعات والمفاسد، كالاختلاف في الدين وما إلى ذلك([67]).

واستدل بعضٌ آخر بأن دليل الحكم الشرعي إما أن يستـنبط من مصادر الدين (الكتاب والسنة) بشكل مباشر، أو أن يثبت الكتاب والسنة دليليته في مرتبة سابقة، في حين أن القياس ليس من الكتاب أو السنة، ولم يقم دليل من الكتاب والسنة على حجيته([68]).

وهناك من استدل بجامعية الشريعة وشمول الكتاب لجميع حوادث الحياة، وقال: إن من المسلَّمات الكلامية جامعية الشريعة وشمولها لكافة حياة الإنسان، وبذلك نصل إلى كفاية الكتاب والسنة، وعدم اعتبار أي مصدر آخر في عرضهما([69]).

دـ حجية المصالح المرسلة

من المسائل الأصولية المختلف فيها بين المذاهب الإسلامية مسألة (حجية المصالح المرسلة). فاعتبرتها بعض المذاهب؛ وخالفتها المذاهب الأخرى. واستدل كلٌّ منهما ـ إثباتاً ونفياً ـ بأدلة متـنوعة تلوح منها المواقف الكلامية. فمثلاً: قال بعض أنصار حجية المصالح المرسلة: إن الغاية من تشريع الأحكام هي رعاية مصالح الناس، فلم يجعل الله تعالى حكماً من دون مصلحة، بل إن جميع الأحكام تقوم على المصالح، وإن هذه المصالح يمكن إدراكها ـ في الأقل ـ في غير العبادات، وبذلك يدرك العقل حسنها وقبحها. وعليه بالالتفات إلى عدم تـناهي الوقائع إذا حدثت واقعة لم يمكن استـنباط حكمها من الكتاب والسنة، وأدرك العقل نفعها أو ضررها، كان حكم العقل وإدراكه حجة عند الشارع؛ إذ إن عدم اعتبار إدراك العقل يعني نقصان الشريعة وعجزها عن تلبية حاجة العصر، وهذا لا ينسجم مع الخاتمية واكتمال الشريعة([70]).

وكما هو واضح فإن هذا الدليل يقوم من جهة على حكمة الشارع وهدفية أفعاله، وعلى جامعية الشريعة لكافة مجالات حياة الإنسان من جهة أخرى.

كما استفاد المنكرون لحجية المصالح المرسلة؛ بغية نفي اعتبار حجيتها، من الأدلة الكلامية أيضاً، فقالوا ـ مثلاً ـ: إن التشريع وتكليف الناس هو فعل الله، ويختصّ به، فالله وحده العالم بمصالح العباد ومفاسدهم، في حين أن علمنا بتلك المصالح والمفاسد ـ إلا في بعض الموارد التي كشفها الله لنا ـ ظنيّ، والظن ليس حجة، إلا إذا قام الدليل القطعي على حجيته، في حين لم يقم دليل قطعي على خصوص المصالح المرسلة([71]).

هـ ـ حجية العقل

من مسائل علم الأصول المهمة للغاية (حجية العقل)؛ بوصفه دليلاً على الحكم الفقهي. ويشكل هذا البحث في الواقع أحد الأسباب المهمة في الاختلاف بين الإمامية من الأصوليين والأخباريين([72]). فقد ذهب الأصوليون إلى أن العقل من أدلة الأحكام الفقهية؛ بينما أنكر الإخباريون ذلك. فمثلاً: قال الوحيد البهبهاني: «لما كان فقهاء الشيعة والمعتزلة يؤمنون بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع فقد ذهبوا إلى كون العقل كاشفاً عن حكم الشرع، وإلى كون الشرع كاشفاً عن حكم العقل، ومن هنا جعلوا حكم العقل أحد الأدلة على الأحكام الشرعية»([73]).

وفي المقابل ذهب الأخباريون إلى عدم جعل العقل في عداد أدلة الأحكام. فمثلاً: يقول المحدث البحراني: «إن الأحكام الشرعية، سواء ما كان منها من العبادات أو المعاملات، توقيفية بأجمعها، ولا طريق لنا إليها سوى السماع من المعصوم، وإن الأخبار المستفيضة لم تـنهَ عن إبداء الرأي بشان الأحكام الشرعية، سوى ما كان منها قد سمع من المعصوم، وليس لذلك من سبب آخر غير قصور العقل وعجزه عن الإحاطة والعلم بالأحكام الشرعية، بل لو تمكَّن العقل من الوصول إلى الأحكام الشرعية بشكل مستقل لما كانت هناك حاجة إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب»([74]).

وكما يلاحظ فإن لهذا البحث جذوراً كلامية، والسؤال هو: هل للعقل ـ ولو على نحو الموجبة الجزئية ـ أن يكشف عن حكم الشارع، أو ليس له مثل هذه القدرة، وأن المصدر الوحيد للوصول إلى الأحكام الشرعية هو النقل، وإلا لانتقض الغرض من بعث الأنبياء؟

إن علماء الأصول، وإن اعترفوا في الجملة بحجية العقل، إلا أنهم، وقلَّما أجابوا بالتفصيل عن الأسئلة الكثيرة المطروحة في هذا المجال، اكتفوا بطرح البحوث بشكل عابر أو في طيات المواضيع، من قبيل: هل العقل حجة في (دائرة ما لا نصّ فيه)، وفي الموارد التي ينعدم فيها الدليل النقلي، أو هو حجة حتى في الموارد التي يتوفر فيها الدليل النقلي؟ وفي الصورة الأولى: هل يكون الاعتبار والحجية لمجرد تحديد الوظيفة العملية والحكم الظاهري في دائرة ما لا نصّ فيه، أو من باب تحديد الحكم الواقعي؟ وإذا كان حجة في موارد توفر الدليل النقلي فهل تتحدد حجيته بصورة عدم مخالفته للدليل النقلي، أو تثبت له الحجية حتى في صورة المخالفة؟ ولو تعارض الدليل العقلي مع النقلي فهل نقدم الدليل العقلي، أو النقلي، أو نذهب إلى التفصيل؟ ولو ذهبنا إلى التفصيل فأيّ تفصيل يكون هو المختار؟ ومن جهة العقل يمكن التفصيل بين أحكام العقل البديهية وأحكامه النظرية والاستدلالية؛ كما يمكن التمييز بين الحكم العقلي القطعي والحكم العقلي الظني؛ كما يمكن التفصيل بين معرفة الأصل بنحو الموجبة الجزئية أحياناً وبين معرفة جميع مصاديقه في بعض الموارد الأخرى؛ كما تبدو الكثير من الاختلافات في الدليل النقلي، كالتفاوت بين أصل الحكم وبين عمومه أو إطلاقه؛ كما يجب التفريق بين الإطلاق الأزماني من جهة والإطلاق الأحوالي أو الأفرادي من جهة أخرى؛ كما يمكن التفصيل بين الدليل النقلي القطعي الصدور، كالقرآن والحديث المتواتر، وبين الدليل الظني؛ ومن جهة أخرى هناك تفصيل آخر بين القرآن والروايات؛ وفي الروايات ـ بالالتفات إلى شؤون المعصوم غير الإبلاغية ـ([75])؛ وكما يحتمل صدور الرواية عن الشأن الديني للمعصوم([76]) يحتمل صدورها عن الشأن العادي أو الحكومي له([77])؛ وهكذا يعقل التفصيل بين العبادات التي يكون للشارع فيها دور تأسيسي وبين المعاملات بالمعنى الأعم التي يكون دور الشارع فيها إمضائياً مع إجراء تعديلات في بعضها؛ وكذلك يمكن البحث في التفصيل بين الأحكام الأخلاقية التي لا يكون فيها قرينة على الإلزام وبين الأحكام الحقوقية التي تقوم على الإلزام.

وهنا ندرس أهم موارد العلاقات بين العقل والنقل بالالتفات إلى شقوقها المتـنوعة([78]).

1ـ حجية العقل في دائرة ما لا نصّ فيه

هناك بعض الموارد التي لا يمكن للوهلة الأولى الحصول على حكمها الواقعي ـ في قبال حكمها الظاهري ـ كقاعدة عامة أو عنوان خاص من الدليل النقلي، وهو الذي يعبر عنه بـ (ما لا نصّ فيه). وعندها يسعى الفقيه ـ قبل كلّ شيء ـ إلى إدراجه ضمن عنوان منصوص في الكتاب والسنة، أو العثور على حكمه الواقعي من طريق العقل، وفي صورة عدم وجدان حكمه الواقعي يتم في المرحلة التالية تحديد الحكم الظاهري الذي يعني الوظيفة العملية للمكلَّف.

وفي المرحلة الثانية([79]) أجازت جماعة الرجوع إلى الدليل النقلي في هذا المجال فقط؛ كما ذهبت جماعة إلى اعتبار حكم العقل، بمعنى أنه لا يمكن نفي الحكم والتكليف إلا عن طريق العقل، ولكن لا يمكن إثبات حكم من خلاله؛ وذهبت جماعة ثالثة إلى اعتبار حكم العقل في مقام نفي الحكم وإثباته على السواء.

إن اختصاص حجية العقل في مقام تحديد الحكم الظاهري ـ وخاصة في نفي الحكم ـ يعدّ من أضيق دوائر العقل تأثيراً، وهذا يضاهي القول بنفي تأثير العقل وقدرته، وبهذا لا يختلف كثيراً عن نهج الأصوليين من الأشاعرة([80]).

إن اعتبار حكم العقل في مقام إثبات الوظيفة الظاهرية تُظهِر ضآلة قدرة العقل، وهذه هي إحدى مهام الدليل العقلي التي حددها علماء الأصول من الإمامية قبل القرن الثاني عشر والثالث عشر (قبل عصر الوحيد البهبهاني). فمثلاً: ذهب علماء الأصول في هذه المرحلة إلى كون الاستصحاب من مصاديق الدليل العقلي، وأقاموا على حجيته دليلاً عقلياً([81])، خلافاً للأصوليين في عصر الوحيد البهبهاني، الذين سعوا إلى إثبات حجية الاستصحاب عن طريق الروايات([82]).

وقد ذهب عددٌ من الأصوليين من أهل السنة إلى أن الاستصحاب أحد مصاديق الدليل العقلي أيضاً، وأنه يدخل في إثبات الحكم الظاهري في دائرة ما لا نصّ فيه([83]).

والأهم من كشف الوظيفة الظاهرية كشف العقل عن الحكم الواقعي الذي يظهر قدرة ودور الدليل العقلي بوضوح. وإن مسألة (أصالة الحظر) و(أصالة الإباحة) من مصاديق هذا البحث، حيث تقوم آراء أنصار (أصالة الحظر) على الرؤى الكلامية. ومن باب المثال: جاء في كلمات هذه الجماعة: إن جميع الأمور، ومنها الإنسان، ملك لله، ولا يجوز التصرف في ملك الغير من دون إذنه، وعليه تقوم القاعدة الأولية في التصرفات على عدم الجواز (أصالة الحظر)([84]). وكذلك تقوم آراء الذاهبين إلى (أصالة الإباحة) على الرؤى الكلامية أيضاً، فقد جاء في أدلتهم: لقد كان لله الحكيم هدف من وراء الخلق، وإنما يتحقق هذا الهدف فيما لو تمكن الناس بحسب التكوين من الاستفادة من النعم، وإن الإمكان التكويني رهن بالجواز التشريعي (أصالة الإباحة)، إذاً فالأصل على جواز الانتفاع، إلا إذا استلزم منه المفسدة أو الضرر([85]).

2ـ حجية العقل القطعي في مجال المنصوصات

يذهب الكثير من الأصوليين من أهل السنة إلى حجية العقل حتى في الأمور الظنية([86])، في حين تذهب الأكثرية المطلقة من أصوليّي الإمامية إلى حجية العقل إذا كان قطعياً؛ فهناك منهم من ذهب إلى حجية العقل إذا كان قطعياً في الجملة([87])؛ وهناك من صرح بحجية الحكم العقلي حتى إذا حصلنا عليه من طريق الاستدلال([88])، إلا أن حجيته في قبال الدليل النقلي تتوقف على نوع ذلك الدليل النقلي. ولذلك لا بد من بحث هذه الصور المختلفة بشكل منفصل:

1ـ2ـ الدليل العقلي وعموم الدليل النقلي

لو كان الدليل النقلي مفيداً للعموم أو الإطلاق (الأحوالي أو الأفرادي)، وعارض الدليل العقلي القطعي عمومه أو إطلاقه، فقد ذهب الكثير من الأصوليين الإمامية إلى تقديم الدليل العقلي القطعي على عموم وإطلاق الدليل النقلي؛ ودليلهم في ذلك حكم العقل وقابليته، فمن جهة إذا وقع التعارض بين الدليل القطعي والدليل الظني كان المقدم بشكل عام هو الدليل القطعي، ومن جهة أخرى يتحدد هنا مصداق الدليل القطعي والظني؛ فإن دلالة الدليل النقلي على العموم والإطلاق ظنية، في حين أن دلالة الدليل العقلي قطعية بحسب الفرض([89]).

ويبدو في هذا المجال عدم الفرق بين ما إذا كان الدليل النقلي قطعي الصدور أو معتبراً دون أن يصل إلى درجة القطع واليقين. كما يوجد اختلاف بين العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم، أو بين الحكم القرآني وغيره، في تقديم الدليل القطعي على الدليل الظني، وإن أدى في بعض الموارد إلى تغير مصداق الدليل القطعي والدليل الظني.

2ـ2ـ الدليل العقلي وأصل الدليل النقلي

إذا أفاد الدليل النقلي حكماً معارضاً للدليل العقلي فهنا يمكن تصوّر عدّة وجوه:

أـ الدليل النقلي القرآني في مجال العبادات

إذا كان القرآن مستـند الحكم النقلي، وكان قطعي الصدور صريح الدلالة، ولم يمكن تأويله، وكان وارداً في الأحكام العبادية التي لا يحتمل اختصاصها بزمن خاص، كصدر الإسلام مثلاً، فعندها يزول القطع بالدليل العقلي. وبعبارة أخرى: بالالتفات إلى ما تقدم يغدو مفاد الدليل القرآني قطعياً، ومفاد الدليل العقلي ظنياً، ومقتضى القانون العام (تقديم القطعي على الظني) هو تقديم القرآن على حكم العقل، ولكن إذا لم تكن دلالة الآية القرآنية صريحة، وأمكن تأويلها من جهة، وكان الدليل العقلي قطعياً لا يقبل النقاش من جهة أخرى، فلا بد حينها من التصرف في مفاد الدليل القرآني وفقاً لما يقتضيه الدليل العقلي([90]).

ب ـ الدليل النقلي القرآني في مجال المعاملات

إذا كان القرآن مستـند الحكم النقلي، وكان قطعي الصدور، فإن كان وارداً في مجال المعاملات بالمعنى الأعم، واحتملنا اختصاصه بعصر الصحابة، فلا بد من تأويله، والعثور على حلّ للحكم القرآني، فإن أمكن تأويله فبها، وإلا وجب البحث عن توجيه آخر، كأن يكون الحكم حكماً إمضائياً ومناسباً لمقتضيات الأزمنة المتقدمة([91]).

ج ـ الدليل النقلي الروائي

لو تعارض مستـند الحكم النقلي مع الدليل العقلي في الرواية فإنّ حل هذا التعارض يبدو يسيراً؛ وذلك للأسباب التالية:

أولاً: إن صدور الرواية غير قطعي، وعليه بناءً على مبنى الصدور التعبدي لخبر الثقة فإن دليل الحجية لا يشمل مثل هذه الروايات، وبناءً على وثاقة الصدور ـ الذي يبدو راجحاً ـ لا يحصل للفقيه بعد عثوره على الدليل العقلي القطعي المعارض وثوق واطمئنان بصدور الرواية المخالفة للدليل العقلي القطعي عن المعصوم، ليتم عليه موضوع الحجية والاعتبار، وعليه لا تكون الرواية معتبرة على كلا المبنيين([92]).

ثانياً: على افتراض حجية صدور الرواية لابد من ثبوت أن الرواية قد صدرت لبيان حكم فقهي، لا أن تكون منبثقة عن دواعٍ أخرى غير شأن المعصوم التبليغي، كأن تكون صادرة من باب ولاية المعصوم وحكومته، أو شأنه العادي، أو الإرشاد إلى أمر عقلي أو أخلاقي، وما إلى ذلك من الأمور.

إن صدور الرواية لبيان حكم فقهي مستـند إلى ظاهر حال المعصوم، والقاعدة الأولية مستـندة إلى أشرفية شأن المعصوم التبليغي، وكلاهما من قبيل الظواهر الظنية، ولا يمكنهما الوقوف أمام دليل ظنّي أقوى، فما ظنك لو كان الدليل المقابل لهما قطعياً؟

ثالثاً: يجب التثبت من أن الرواية قد صدرت لبيان الحكم الفقهي الواقعي الأولي، ولم تصدر بدافع الاضطرار والحكم الثانوي، نظير: حالات التقية، وأمثالها. إن صدور الرواية لبيان الحكم الفقهي الواقعي يستـند إلى الأصل والقاعدة الأولية التي تقوم على عدم الصدور بداعي التقية، أو الاضطرار، وأمثالهما، مما هو من قبيل الظواهر الظنية، وينهار بناء هذه القاعدة الأولية أمام الدليل الظني الحاكم، الذي هو كالقرينة على الصدور تقية([93]). وعليه فإنه لا يقاوم الدليل القطعي من باب أولى.

وإذا كانت الرواية واردة في مجال المعاملات بالمعنى الأعم فعندها لا يكون دور الشارع تأسيسيّاً، بل هو إمضائيٌّ، وقد يكون مصحوباً ببعض التعديلات أحياناً، وعليه يكون تقديم الدليل العقلي عليه بطبيعة الحال أيسر([94]).

إننا، وإن ذكرنا صوراً عديدة لتقابل الدليل العقلي والنقلي على المستوى النظري، ولكن قلَّما نشاهد دليلاً عقلياً قطعياً يمكنه الوقوف أمام الدليل النقلي المعتبر. ومن هنا فإننا لا نجد في السيرة الاجتهادية للفقهاء ـ بعد التتبع الحثيث ـ إلا نزراً قليلاً من هذه الموارد، ونشير ها هنا إلى نموذجين منها:

1ـ أجازت بعض الروايات الحيلة في الربا، بَيْد أن الإمام الخميني يرى الربا ظلماً من الناحية العقلية، وذهب إلى عدم حجية هذه الروايات؛ بسبب مخالفتها لهذا الحكم العقلي([95]).

2ـ نسبت بعض الروايات إلى المعصوم أموراً تـنافي العصمة، ولذلك ذهب الفقهاء إلى عدم اعتبار هذه الروايات؛ لقيام الأدلة العقلية على ضرورة العصمة([96]).

الهوامش

(*) أستاذ في الحوزة العلمية، ومدير قسم فلسفة الفقه والحقوق في كلية الفقه والحقوق في قم.

([1]) من أمثال: هشام بن الحكم (199هـ)، مؤلف كتاب الألفاظ (راجع: رجال النجاشي: 432، رقم1164)؛ ويونس بن عبد الرحمن (208هـ)، مؤلف كتاب اختلاف الحديث (راجع: الشيخ الطوسي، الفهرست: 181)؛ والشيخ المفيد (413هـ)، مؤلف التذكرة بأصول الفقه، وغيره من الكتب الأصولية؛ والسيد المرتضى (436هـ)، مؤلِّف الذريعة إلى أصول الشريعة؛ والشيخ الطوسي (460هـ)، مؤلِّف العدة في أصول الفقه.

([2]) من أمثال: أبي الحسن الأشعري (324هـ)، مؤلف الاجتهاد في الأحكام وإثبات القياس؛ وأبي منصور الماتريدي (330هـ)، مؤلف مآخذ الشرائع؛ وأبي بكر الصيرفي (330هـ)، مؤلف دلائل الأعلام على أصول الأحكام؛ وأبي إسحاق الشيرازي (393هـ) مؤلف التبصرة واللمع؛ وأبي بكر الباقلاني (403هـ)، مؤلف الإرشاد؛ والقاضي عبد الجبار الهمداني (415هـ)، مؤلف العمد، والعهد، والنهاية؛ وأبي الحسين البصري (436هـ)، مؤلف المعتمد؛ وابن حزم الأندلسي (456هـ)، مؤلف الأحكام والنبذ؛ وإمام الحرمين الجويني (478هـ)، مؤلف البرهان.

([3]) كالغزالي (505هـ)، مؤلف المنخول، والمستصفى؛ والفخر الرازي (606هـ)، مؤلف المحصول، والمحصل، والمعالم؛ والمحقق الحلي (676هـ)، مؤلف معارج الأصول؛ والعلامة الحلي (726هـ)، مؤلف مبادئ الأصول، وتهذيب الوصول، ونهج الوصول، ونهاية الوصول، وتحرير الذريعة، ومنتهى الوصول؛ والقاضي البيضاوي (685هـ)، مؤلف منهاج الوصول؛ والقاضي عضد الدين الإيجي (756هـ)، شارح مختصر الأصول؛ ومسعود التفتازاني (792هـ)، شارح مختصر الأصول؛ والسيد الشريف الجرجاني (816هـ)، شارح مختصر الأصول.

([4])  بل كان منهج المتكلمين في علم الأصول منهجاً معروفاً ومشهوراً منذ القدم (من باب المثال: راجع: محمد الغزالي، المستصفى: 9؛ ومحمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد: 67؛ والسيد محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن: 78).

([5])  فقد ذكرها الشيخ المفيد (413هـ) في كتاب «الإفصاح»، المطبوع ضمن (سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) 8: 49؛ والشيخ الطوسي (460هـ) في كتاب «الغيبة»: 156؛ والسيد المرتضى (336هـ) في كتاب «الذخيرة»: 345، وهي كتب كلامية بأجمعها. كما نقل السيد المرتضى في كتاب «الذخيرة» آراء بعض المتكلمين من المعتزلة، كالبلخي (317هـ)؛ وأبي علي الجبائي (303هـ)؛ وأبي هاشم الجبائي (320هـ) (راجع: المصدر المتقدم).

([6])  إنّ أول من طرح هذا البحث هم المتكلمون، من باب المثال، انظر: أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين: 478؛ والسيد المرتضى، الشافي في الإمامة 1: 78؛ والشيخ الطوسي، تلخيص الشافي 1: 59 فما بعد.

([7])  من باب المثال، انظر: مطارح الأنظار، لأبي القاسم الكلانتري (تقريرات أصول الشيخ الأنصاري): 245؛ وبحر الفوائد، لمحمد حسن الآشتياني 2: 9؛ وتقريرات الشيرازي، لعلي الروزدري (تقريرات درس أصول الميرزا الشيرازي) 2: 210.

([8])  من باب المثال، انظر: مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري: 450.

([9])  من باب المثال، انظر: معالم الدين، لحسن العاملي: 93؛ والفوائد الحائرية، لمحمد باقر الوحيد البهبهاني: 165، تجد المسائل المنقولة من علم الكلام إلى علم الأصول كثيرة، وإنّ نظرة عابرة على الكتب الأصولية، من قبيل: الذريعة؛ والعدة، توضح هذه الحقيقة على نحو جلي، وقد جمع علي الضويحي الآراء الأصولية عند المعتزلة في كتابه «آراء المعتزلة الأصولية»، وجمع مسعود الفلوسي آراء المتكلمين في أصول الفقه في كتابه «مدرسة المتكلمين».

([10])  يلاحظ هذا الأمر في الكثير من المسائل الأصولية، ومن أمثلته الواضحة البحث في حجية القياس وعدم حجيته، حيث لجأ كلا الفريقين من المؤيدين والمنكرين له إلى الأدلة الكلامية (من باب المثال، انظر: المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسن البصري 2: 200؛ والإحكام في أصول الأحكام، لعلي الآمدي 4: 10؛ واللمع، لإبراهيم الشيرازي: 93؛ والمستصفى، لمحمد الغزالي: 285؛ وأعلام الموقعين، لابن القيم 1: 234).

([11])  من باب المثال، انظر: الإبهاج، لابن السبكي 1: 61 و81.

([12]) من باب المثال، انظر: العدة في أصول الفقه، للشيخ الطوسي 1: 42ـ 48؛ 2: 504 و563؛ وتهذيب الوصول، للعلامة الحلي: 93، 113، 161، 171، 241؛ ومبادئ الوصول: 69، 115، 165.

([13])  انظر: المستصفى: 6ـ 7، فقد ذكر الكثير من العلماء هذا المطلب أيضاً، (من باب المثال، انظر: نقد المحصل، للخواجه نصير الدين الطوسي: 1؛ وزبدة الأصول، للشيخ البهائي: 41؛ والبحر المحيط، للزركشي 1: 28؛ وميزان الأصول، لمحمد السمرقندي 1: 25؛ والمنهاج الواضح، لعبد المجيد الديباني 1: 35؛ ومنتهى الوصول إلى علمي الكلام والأصول، للعلامة الحلي، حيث ألف هذا الكتاب في كلا العلمين، مما يثبت ارتباط هذين العلمين عنده؛ كما يؤكد هذا الشيء تأليف نهج الحق في الكلام والأصول والفقه المقارن.

([14])  نرى أن البنية الحالية لعلم الأصول تختلف عما يطبقه الفقيه في مقام الاجتهاد، فلابد من تـنظيم علم الأصول بشكل يطابق المراحل التي يطويها الفقيه في مقام الاستـنباط، وهنا نشير إلى فهرستها بشكل عام:

القسم الأول: الكليات والمبادئ التصورية والتصديقية.

القسم الثاني: بحث المبادئ وأدلة حجية الخبر والرواية.

القسم الثالث: بحث صدور الرواية لبيان الحكم الشرعي الدائم.

القسم الرابع: بحث قواعد وضوابط الدلالة.

القسم الخامس: بحث قواعد التعارض.

والوجه في هذا التقسيم أنّ الفقيه في مقام الاستـنباط يستـند إلى الآية أو الرواية، وسند الآيات قطعي، ولكن لابد التماس دليل يثبت حجية الرواية، ومن هنا كان هذا البحث هو البحث الأول. وبعد ذلك يجب؛ طبقاً للقواعد والضوابط، أن تقوم أصولٌ أو أصلٌ أوّلي على إثبات أن الرواية قد صدرت لبيان الحكم الشرعي الدائم، لا أنه حكم مؤقت صادر بداعي التقيّة. وفي المرحلة الثالثة لابد من البحث في القواعد والضوابط، وطبعاً سيحتوي هذا القسم جميع مباحث الألفاظ، وفي بعض الموارد تتعارض آية أو رواية مع آية أو رواية أخرى من حيث المدلول تعارضاً مستقرّاً، وعندها يجب البحث في قواعد التعارض، ولكن قبل ذلك لابد من إيضاح مصادر وأدلة الحكم الشرعي، ومن هنا تبحث المبادئ التصورية والتصديقية للاجتهاد، والتي يبحث فيها عن أدلة ومصادر الأحكام (الكتاب، والسنة، والسيرة، والعقل، والإجماع، وما إلى ذلك)، وعليه تـنقسم مباحث علم الأصول؛ طبقاً لمراحل الاجتهاد، إلى خمسة أقسام.

([15])  من باب المثال، انظر: كفاية الأصول، للآخوند الخراساني: 8.

([16])  من باب المثال، انظر: فوائد الأصول، للشيخ الأنصاري: 108.

([17]) من باب المثال، انظر: معارج الأصول، للمحقق الحلي: 45 و48؛ والمدخل إلى عذب النهل، لأبي الحسن الشعراني: 5.

([18])  انظر: الذريعة، للسيد المرتضى 1: 7؛ والعدة في أصول الفقه، للشيخ الطوسي 1: 188؛ وزبدة الأصول، للشيخ البهائي: 41.

([19])  من باب المثال، انظر: قوانين الأصول، للميرزا أبي القاسم القمي: 5؛ والفصول الغروية، لمحمد حسين الإصفهاني: 4؛ وأوثق الوسائل، للميرزا الموسوي التبريزي: 586.

([20])  من باب المثال، انظر: بحوث في علم الأصول، لمحمد حسين الإصفهاني: 20؛ نهاية الأصول، لحسين علي المنتظري (تقريرات درس خارج أصول السيد البروجردي: 11؛ وتقريرات في أصول الفقه، لعلي پناه الاشتهاردي (درس خارج أصول السيد البروجردي): 248.

([21])  كما تصور ذلك الأخباريون من الإمامية، (من باب المثال، انظر: الفوائد المدنيّة، لمحمد أمين الإسترآبادي: 283، 335، 336).

([22])  كما يذهب إلى ذلك جميع الأصوليين من الإمامية (من باب المثال، راجع: الفوائد الحائرية، لمحمد باقر الوحيد البهبهاني: 114، 148؛ وفوائد الأصول، لمحمد علي الكاظمي (تقريرات درس خارج الأصول للمحقق النائيني) 3: 135.

([23])  حاشية الكفاية 1: 14.

([24]) من باب المثال، انظر: قوانين الأصول، للميرزا أبي القاسم القمي: 242؛ والفوائد الرضوية، لرضا الهمداني: 519؛ ومناهج الوصول، للإمام الخميني 1: 137؛ وأنوار الهداية 1: 313 فما بعد؛ والاجتهاد والتجديد، لمحمد مهدي شمس الدين: 85؛ والمباحث الأصولية، لمحمد إسحاق الفياض 1: 6.

([25])  المراد من الموضوع ذلك المحور الذي يتفق عليه علماء الفن إجمالاً، ويجعلونه موضوعاً لبحثهم، مهما اختلفوا في مراتبه سعة وضيقاً، كما يمكن أن يختلفوا في غاياته ووظائفه، وعليه يؤثر في رقعة المسائل سعة وضيقاً، وفي الأهداف والغايات المتوخاة من العلم.

([26])  من باب المثال، انظر: قوانين الأصول، للميرزا أبي القاسم القمي: 5.

([27]) من باب المثال، انظر: كفاية الأصول، للآخوند الخراساني: 9.

([28])  ذكرى الشيعة 1: 40؛ وكذلك انظر: منتهى المطلب، للعلامة الحلي 1: 5؛ وروض الجنان، للشهيد الثاني: 1: 42؛ ومدارك الأحكام، للسيد محمد العاملي 1: 4؛ والمحجة البيضاء، للملا محسن الفيض الكاشاني 1: 59.

([29])  من باب المثال، انظر: بحوث في الأصول، لمحمد حسين الاصفهاني: 20.

([30]) من باب المثال، انظر: محاضرات في أصول الفقه، لمحمد إسحاق الفياض (تقريرات درس خارج أصول السيد الخوئي) 1: 5.

([31]) كما يرى ذلك كثير من علماء الفقه والأصول، من باب المثال انظر: الاجتهاد والتقليد، للإمام الخميني: 12؛ ومعالم الدين، لمحمد العاملي: 28؛ ومشارق الشموس، لحسين الخوانساري: 4 ـ 5؛ وكشف الغطاء، للشيخ جعفر كاشف الغطاء 1: 143؛ والبدر الزاهر، لحسين علي المنتظري (تقريرات درس خارج فقه السيد البروجردي): 74.

([32])  من باب المثال، انظر: أصول الفقه، لمحمد أبي زهرة: 364ـ 379؛ وعلم أصول الفقه، لعبد الوهاب الخلاف: 89 ـ 95؛ والمدخل الفقهي العام، لمصطفى أحمد زرقاء 1: 90 ـ 130؛ وضوابط المصلحة، لمحمد رمضان البوطي، حيث يبدو أن هذا هو اللازم من كلام الذين ذهبوا إلى كون الدين مجرد بيان لهذه الأمور الكلية (من باب لمثال، انظر: أي حكومة دينيّة؟ أي حريّة؟، لمحسن كديور، المطبوع في رابطة الدين والحرية): 209، وطبعاً ذهب السنة في تأسيسهم لقاعدة المصالح المرسلة إلى إعمالها غالباً في دائرة ما لا نصّ فيه، إلا أن الرأي المتقدم لم يتعرض لذكر هذا القيد.

([33])  وتقريباً إن هذه الرؤية هي السائدة بين الكثير من علماء الفقه والأصول في كلا الفريقين

([34])  كما هي رؤية الكثير من الفقهاء المتقدمين حول رقعة علم الفقه (من باب المثال، انظر: منتهى المطلب، للعلامة الحلي 1: 6ـ7؛ ونضد القواعد الفقهيّة، للفاضل المقداد السيوري: 9؛ ومنتقد المنافع، للملا حبيب الله شريف الكاشاني 1: 97).

([35])  من باب المثال، انظر: مناهج الأصول، للإمام الخميني 1: 41؛ وكتاب البيع، له 2: 633؛ وكلمات في تاريخ أصول الفقه، للسيد محمد الصدر، (المطبوع في أصول الفقه الجعفري): 9؛ والاجتهاد والحياة، لمحمد مهدي شمس الدين: 12؛ ودراسات في ولاية الفقيه، لحسين علي المنتظري 1: 163.

([36])  ومن هنا ذهب البعض إلى أن هناك من قواعد أصول الفقه ما هو فردي، ولا يمكن تطبيقه على الفقه الاجتماعي وإدارة المجتمع (من باب المثال، انظر: كشف الغطاء، للشيخ جعفر كاشف الغطاء 1: 232؛ والمكاسب المحرمة، للإمام الخميني 1: 228؛ وميزكرد مباحث فقهي، لعلي رضا فيض: 13، پژوهشهاي متين، العدد10).

([37])  هناك من اقترح ضرورة تغيير الفقه، ورأى أن أحد المباني في هذا التغيير تكمن في تدوين أصول فقهٍ اجتماعيٍّ شاملٍ، حوار مع الدكتور أبي القاسم الكرجي (وقفة مع المذاهب والأدوار الأصولية)، المطبوع في (جايگاه شناسي علم أصول) 1: 137.

([38])  كما قدم بعض مثل هذا المقترح، انظر: جايگاه شناسى علم أصول 1: 334 و389.

([39]) إن لازم القول بدخول التـنظيم في رقعة الدين تدوين قواعد لاستكشاف النظام. من باب المثال، انظر: شريعت در آيينه معرفت، لعبد الله جوادي الآملي: 116 فما بعد؛ والمذهب والنظام الاقتصادي في الإسلام، لمهدي هادوي الطهراني: 64: وحوار مع حجة الإسلام علي رضا الأعرافي، العلوم الإنسانية والدينية والمنهج الاجتهادي (المطبوع في جايگاه شناسى علم أصول) 1: 569.

([40])  لم يُشِرْ إلى دخول التخطيط في رقعة الدين سوى عدد قليل (من باب المثال، انظر: الدين والمتطلبات الجديدة، للسيد منير الدين الحسيني، المطبوع في مجموعة آثارمؤتمر دور الزمان والمكان في الاجتهاد 14: 114، وكذلك فإن لازم دخول التخطيط في رقعة الدين أن يتصور الفقيه للحكم الشرعي ثلاث مراحل: 1ـ تشريع الحكم؛ 2ـ استـنباط الحكم؛ 3ـ التخطيط ورسم الخطوط العريضة للدولة والمسؤولين (انظر: دراسات في ولاية الفقيه، لحسين علي المنتظري 2: 60 ـ 61)، حيث تمسك في الختام ببعض الأحاديث وشمولية الدين (انظر: المصدر: 61 ـ 62)، وكذلك انظر: معالم الحكومة الإسلامية، لجعفر السبحاني: 300 ـ 301؛ وأنوار الفقاهة، كتاب البيع، لناصر مكارم الشيرازي 1: 553.

([41])  هذا، وهناك مشكلة أخرى تكمن في كيفية استفادتـنا من قواعد أصول الفقه الراهن في فروع العلوم الدينية الأخرى، من قبيل: الأخلاق، والتفسير، والكلام، وما إلى ذلك، مما يفتقر إلى تفصيل طويل أشرنا إليه في الفقرة الثالثة من مقدمة هذه المقالة.

([42])  وطبعاً إن المصادر لا تعني الأدلة، فإن الأدلة تستخرج عادة من بطن المصادر، وعليه فهما غير متساويين، ولكنهما متقاربين، ولذلك أدرجناهما من هذه الناحية في محور واحد.

([43])  من باب المثال، انظر: كفاية الأصول، للآخوند الخراساني: 63، 296، 298، 339.

([44]) من باب المثال، انظر: المصدر المتقدم: 292، 301، 339، 388، 442.

([45])  من باب المثال، انظر: المصدر المتقدم: 302، 343؛ وأجود التقريرات، للسيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (تقرير درس خارج أصول المحقق النائيني) 1: 505.

([46])  من باب المثال، انظر: المصدر المتقدم، للآخوند الخراساني: 303 و343.

([47]) من باب المثال، انظر: المصدر المتقدم: 304 و343.

([48])  من باب المثال، انظر: المصدر المتقدم: 13؛ وكذلك: معالم الدين، لحسن العاملي: 92؛ والوافية، للفاضل التوني: 60؛ وقوانين الأصول، للميرزا أبو القاسم القمي 48؛ وهداية المسترشدين، لمحمد تقي الإصفهاني: 331؛ وحاشية على القوانين، للشيخ الأنصاري: 87 و273؛ ومثالات الأصول، لضياء الدين العراقي 2: 38؛ ودروس في علم الأصول، للسيد محمد باقر الصدر1: 313.

([49])  من باب المثال، انظر: الفوائد المدنية، لمحمد أمين الإسترآبادي: 283؛ والفوائد الطوسية، لمحمد الحر العاملي: 464؛ وسفينة النجاة، للملا فيض الكاشاني: 36؛ وبحار الأنوار، للعلامة المجلسي 40: 120.

([50])  انظر: كفاية الأصول: 281.

([51])  من باب المثال: تمسك الآخوند الخراساني بالعقل في موارد كثيرة، دون أن يضيف هذه المقدمة ولو لمرة واحدة، في حين أضافها في ما يتعلق بسيرة العقلاء. من باب المثال، انظر: كفاية الأصول: 74، 82، 83، 89، 99، 110.

([52])  الذي نقل هذا الكلام عنه الشيخ الأنصاري (انظر: فوائد الأصول 1: 40).

([53])  وقد ساق المحقق الحلي الاستدلال لصالح هذه الرؤية المستـندة إلى هذا المطلب (انظر: معارج الأصول: 141).

([54]) للاطلاع على هذه الرؤية انظر: المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين البصري المعتزلي 2: 123؛ والتبصرة، لإبراهيم الشيرازي: 301.

([55])  انظر: الذريعة 1: 25.

([56])  انظر: المصدر المتقدم 2: 530، حيث تعرض لبحث خبر الواحد في كتاب «الذخيرة»، ونسب في كتابه «رسالة إبطال العمل بأخبار الآحاد» عدم حجية العمل بخبر الواحد إلى الإمامية (رسائل الشريف المرتضى 3: 309)، وقال الوحيد البهبهاني في رسالة الإجماع: إن السيد المرتضى قرأ كتب المتكلمين في عصره، وقال: إنهم متفقون على عدم حجية خبر الواحد (انظر: الرسائل الأصولية: 290)، وقال في موضع آخر: قد صرح المتقدمين من المتكلمين الشيعة بعدم حجية خبر الواحد (انظر: الفوائد الحائرية: 208)، كما نسب المحقق الحلي القول بعدم حجية خبر الواحد إلى جماعة من المتكلمين (انظر: معارج الأصول: 141).

([57])  انظر: المعالم الجديدة، للسيد محمد باقر الصدر: 49.

([58])  بناء على قول الذين يفسرون سيرة العقلاء بناءً على تعبدهم بقبول خبر الثقة.

([59]) من باب المثال، انظر: مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري: 478.

([60])  انظر: سنن ابن ماجة 2: 1303؛ وكنز العمال، لعلي متقي الهندي: 180، وقد ورد في الجوامع الحديثية لدى الشيعة مرسلاً (انظر: تحف العقول، لابن شعبة الحراني: 258؛ والاحتجاج، للطبرسي 2: 251).

([61])  انظر: المستصفى: 128 و140؛ والمنخول: 303؛ والمعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين البصري 2: 3 ـ 4؛ وشرح اللمع، لإبراهيم الشيرازي 2: 665؛ وإرشاد الفحول، لمحمد الشوكاني: 134؛ والإحكام، لعلي الآمدي 1: 170؛ والمحصول، للفخر الرازي 3: 770.

([62])  من باب المثال، انظر: تلخيص الشافي، للشيخ الطوسي 1: 59 فما بعد؛ وجايگاه مباني كلامي در اجتهاد، لسعيد ضيائي فر: 589 فما بعد.

([63])  من باب المثال، انظر: الذريعة، للسيد المرتضى 2: 605؛ والعدة في أصول الفقيه، للشيخ الطوسي 2: 602؛ وتجريد الأصول، لمحمد مهدي النراقي: 75؛ وعوائد الأيام، لأحمد النراقي: 671.

([64])  انظر: المصدر المتقدم، للشيخ الطوسي: 641ـ642، فإن هذا الدليل، وإن صاغه بعض علماء الأصول، ولكنّه تعرض لنقد الكثير من الأصوليين الإمامية (من باب المثال، انظر: بحوث في علم الأصول، للسيد محمود الهاشمي الشاهرودي (تقريرات درس خارج أصول الشهيد الصدر) 4: 306؛ وأنوار الهداية، للإمام الخميني 1: 138).

([65])  من باب المثال، انظر: المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين البصري 20: 200؛ والمدخل الفقهي العام، لأحمد مصطفى الزرقاء 1: 68.

([66])  مصادر التشريع في ما لا نصّ فيه، لعبد الوهاب خلاف: 29؛ وآراء المعتزلة الأصولية، لعلي الضويحي: 383.

([67])  أعلام الموقعين، لابن القيم 1: 228؛ والمستصفى، للغزالي: 283، فقد نقل ذلك، وقام بنقده.

([68]) انظر: ابن القيم، المصدر المتقدم: 234.

([69])  الإحكام، لابن حزم 6: 210؛ والقياس ومدى حجيته، لصلاح الدين عبد الحليم سلطان: 105، وقد نقل الغزالي هذا الدليل، وقام بنقده (انظر: المستصفى: 283 و296).

([70])  انظر: مصادر التشريع في ما لا نصّ فيه، لعبد الوهاب الخلاف: 75؛ وأصول الفقه الإسلامي، لوهبة الزحيلي 2: 763.

([71])  من باب المثال، انظر: معارج الأصول، للمحقق الحلي: 222؛ والمستصفى، لمحمد الغزالي: 179، حيث أن ظاهر كلّ من قال: «من استصلح فقد شرع» قد نظر إلى هذا الدليل الذي يتألف من بعض المقدمات الكلامية، كما استفاد بعض من هذا الدليل لنفي حجية الاستحسان (انظر: المصدر المتقدم، لمحمد الغزالي: 180).

([72]) كما يمكن عدّ هذه المسألة من الأدلة على الاختلاف بين سائر المذاهب الإسلامية.

([73]) انظر: الفوائد الحائرية: 96.

([74])  انظر: الحدائق الناضرة 1: 131؛ والفوائد المدنية، لمحمد أمين الإسترآبادي: 180 و239 و254؛ والأنوار النعمانية، للسيد نعمة الله الجزائري 13: 131.

([75])  كالشأن الحكومي والعادي.

([76]) القاعدة والأصل الأولي يقول بصدورها عن الشأن الديني.

([77])  فيتحول الحكم المخصوص بنوعٍ ما إلى موقع خاص.

([78])  تم بحث بعض صور مدخلية العقل في علم الأصول، كما طرح الكاتب بعض الموارد في مقالة أخرى (انظر: جايگاه عقل در اجتهاد، في مجلة نقد ونظر، العددان 31 ـ 32: 427 فما بعد)، لا يخفى أن البحث الحاضر ينظر إلى كفاءة العقل والمبنى الكلامي في مسائل الأصول.

([79])  تحديد الوظيفة الظاهرية.

([80])  من باب المثال، انظر: المستصفى، لمحمد الغزالي: 159، 51، 80.

([81]) من باب المثال، انظر: الذريعة، للسيد المرتضى 2: 819؛ والعدة، للشيخ الطوسي 2: 755؛ ومبادئ الوصول، للعلامة الحلي: 250 فما بعد؛ والوافية، للفاضل التوني: 178.

([82])  من باب المثال، انظر: الفوائد الحائرية، لمحمد باقر البهبهاني: 277 فما بعد؛ وفرائد الأصول، للشيخ الأنصاري 2: 563 فما بعد، فحتى ما قبل ظهور الأخباريين كان الأصوليون من الشيعة والسنة متفقين على حجية العقل بحكم العقل، ولكن بعد مؤاخذات الأخباريين بدأوا بالبحث عن مستـند روائي لإثبات حجية الاستصحاب، ويبدو أن أحد الأسباب المهمة في تغيير هذا الاتجاه يكمن في الفرار من المؤاخذات اللاذعة التي وجهها الأخباريون إلى المنهج الأصولي.

([83])  من باب المثال، انظر: المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسن البصري 2: 325؛ والإحكام، لعلي الآمدي 4: 368؛ وميزان الأصول، لمحمد السمرقندي 2: 936؛ والمستصفى، لمحمد الغزالي: 160.

([84])  لم نعثر على مؤلَّف لهذه الجماعة يشتمل على رؤيتهم في هذا الخصوص، وإنما نقل عنهم في مؤلَّفات الآخرين. من باب المثال، انظر: الذريعة، للسيد المرتضى علم الهدى 2: 821؛ والتبصرة في أصول الفقه، لإبراهيم الشيرازي: 534؛ والمعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسن البصري 2: 315.

([85])  من باب المثال، انظر: المصدر المتقدم، للسيد مرتضى علم الهدى: 809 فما بعد؛ ومعارج الأصول، للمحقق الحلي: 204؛ وتمهيد القواعد، للشهيد الثاني: 67.

([86])  من باب المثال، انظر: ميزان الأصول، لمحمد السمرقندي 1: 471.

([87])  من باب المثال، انظر: الفوائد الحائرية، لمحمد باقر الوحيد البهبهاني: 457.

([88]) من باب المثال، انظر: فرائد الأصول، للشيخ الأنصاري 1: 18؛ وكفاية الأصول، للآخوند الخراساني: 161ـ162، وفلسفة حقوق الإنسان، لعبد الله جوادي الآملي: 41.

([89])  وقد صرح الكثير من علماء الأصول الإمامية بهذا التقديم (من باب المثال، انظر: الذريعة، للسيد المرتضى 1: 391؛ وحقائق التأويل، للشريف الرضي: 9؛ والسرائر، لابن إدريس الحلي 1: 409؛ والعدة، للشيخ الطوسي 1: 336؛ ومعارج الأصول، للمحقق الحلي: 95؛ والفوائد الحائرية، لمحمد باقر الوحيد البهبهاني: 457، ورسالة الاجتهاد والأخبار، له، مطبوع في الرسائل الأصولية: 96؛ ورسالة أخبار الآحاد، له، مطبوع في المصدر المتقدم: 339؛ وفرائد الأصول، للشيخ الأنصاري 1: 18؛ وكفاية الأصول، للآخوند الخراساني: 162.

([90])  قال الشيخ الأنصاري: «والذي يقتضيه النظر ـ وفاقاً لأكثر أهل النظر ـ أنه كلما حصل القطع من دليل عقلي فلا يجوز أن يعارضه دليل عقلي، وإن وجد ما ظاهره المعارضة فلابد من تأويله، إن لم يمكن طرحه» (فرائد الأصول 1: 18)؛ وكذلك انظر: أنوار الهداية، للإمام الخميني 1: 141ـ142.

([91])  ليس بأيدينا مثال واقعي على ذلك، ولكن يمكننا أن نفترض مثالاً له على النحو الآتي: لو افترضنا أن جواز أخذ الرقيق من ساحة الحرب حكمٌ إسلاميٌّ جائرٌ، سنقول: إنه حكم إمضائي لتلك البرهة الزمنية. للاطلاع أكثر، انظر: الميزان في تفسير القرآن، للسيد محمد حسين الطباطبائي 6: 345.

([92])  قال الإمام الخميني في جوابه لكاتب «أسرار هزار ساله»: «نحن نقول أيضاً: لو نسب شيءٌ إلى الله ورسوله، وكان مخالفاً للبرهان العقلي، فهو مرفوض، وقد ذكرنا هذا الشيء في كتبنا» (كشف الأسرار: 104)؛ وقال في موضع آخر: «إن الأخبار المخالفة للعقل ليست بشيء»، (المصدر المتقدم: 318).

([93])  قال الإمام الخميني في بحث الأنفال بعد عرضه تحليلاً عقلائياً حول ملكية المعصوم: «والإسلام في هذه الأمور السياسية ونحوها لم يأتِ بشيءٍ مخالفٍ لما عند العقلاء إلا في ما فيه المفسدة»، كتاب البيع 3: 14.

([94])  من باب المثال، انظر: مصباح الأصول، للسيد محمد سرور واعظ الحسيني البهسودي (تقريرات درس خارج السيد الخوئي) 2: 91.

([95])  انظر: كتاب البيع 2: 415ـ416؛ و5: 353.

([96])  من باب المثال، انظر: تذكرة الفقهاء، للعلامة الحلي 3: 309؛ وجواهر الكلام، لمحمد حسن النجفي 12: 259؛ وكتاب الطهارة، للشيخ الأنصاري 1: 111ـ112؛ وكتاب البيع، للإمام الخميني 2: 413؛ والمكاسب المحرمة 1: 146ـ147.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً