المقدمة
الاحتفالات ظاهرةٌ اعتاد المسلمون على القيام بها إحياءً للذكريات الرائعة في تاريخهم الإسلامي، فشأنهم في ذلك شأن أيّ أمة أخرى تحترم مقدّساتها، وتبجّل أيّامها الكبرى، وذكرياتها الخالدة، بل هي حالة لدى الإنسان الفرد قبل الجماعة لا يشذّ عنها أحد.
إنّ الاقتران الزماني والمكاني للحوادث يترك أثره الكبير في النفس الإنسانية؛ لذا فهي تعمل على استعادة الذكريات واستيحاء العبر منها. وتلك طريقة من أفضل طرق التربية عموماً والتربية القرآنية بالخصوص؛ فما أكثر تذكير القرآن الكريم بأيام الله وشعائره، وما أشدّ تعظيم الإسلام لسير العظماء، وفي طليعتها سيرة إبراهيم %.
ولا يتسع لنا المجال لو أردنا أن نستعرض كلّ الأمثلة الزمانية والمكانية لهذه السمة القرآنية التربوية الفطرية؛ فالاحتفال بالذكرى العظيمة هو مقتضى الأصل والفطرة والطبيعة، بل ولا يحتاج إلى دليل شرعي، بعد أن كان يشكّل حالةً طبيعية، ومصداقاً لأوامر التكريم والتبجيل.
ترى ماذا على المسلمين لو أحيوا ذكرى المعراج واستقوا معاني العظمة الإنسانية منه؟ وهل عليهم من غضاضة لو احتفلوا بيوم الهجرة النبوية الشريفة، أو الثورة الحسينية العظيمة؟ وهل يعدّ ذلك بدعةً كما يدّعي السلفيون؟
فتاوى السلفية في الاحتفالات الدينية، رصد ومتابعة
طال النزاع في الآونة الأخيرة ــ عبر وسائل الإعلام وغيرها ــ حول الاحتفال بمولد النبي الأكرم 2 وغيره من المناسبات، وقد رفع بعضهم شعار البدعة فيه، بينما يراه الأكثرون أنه من السنّة، وإليك فتاوى السلفية في هذا الموضوع:
1 ــ قال ابن تيمية: «النوع الثاني: ما جرى فيه حادثة، كما كان يجري في غيره، من غير أن يوجب ذلك جعله موسماً، ولا كان السلف يعظّمونه، كثامن عشر من ذي الحجة الذي خطب فيه النبي 2 بغدير خم أثناء رجوعه من حجّة الوداع، فإنه خطب فيه خطبةً، وصّى فيها باتّباع كتاب الله، ووصىّ فيها بأهل بيته، كما روى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم L، فزاد بعض أهل الأهواء في ذلك، حتى زعموا أنه عهد إلى علي L بالخلافة بالنصّ الجلي، بعد أن فرش له وأقعده على فرش عالية، وذكروا كلاماً باطلاً وعملاً قد علم بالاضطرار أنه لم يكن من ذلك شيء.. وليس الغرض الكلام في مسألة الامامة، وإنّما الغرض أنّ اتخاذ هذا اليوم عيداً محدّث لا أصل له، فلم يكن في السلف، لا من أهل البيت، ولا من غيرهم، من اتّخذ ذلك عيداً حتى يحدث فيه أعمالاً؛ إذ الأعياد شريعةٌ من الشرائع، فيجب فيها الاتّباع، لا الابتداع.. وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى % أعياداً، أو اليهود، وإنما العيد شريعة، فما شرّعه الله اتبع، وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه.
وكذلك ما يحدثه بعض الناس إمّا مضاهاةً للنصارى في ميلاد عيسى %، وإما محبة للنبي 2 وتعظيماً له، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع، من اتخاذ مولد النبي 2 عيداً، مع اختلاف الناس في مولده؛ فإنّ هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف أحقّ به منّا، فإنّهم كانوا أشدّ محبةً لرسول الله 2، وتعظيماً له منّا، وهم على الخير أحرص..»([1]).
2 ــ وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: «لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول 2 ولا غيره؛ لأنّ ذلك من البدع المحدثة في الدين؛ لأنّ الرسول 2 لم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا غيرهم من الصحابة، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضّلة..»([2]).
3 ــ وقالت اللجنة الدائمة للفتوى: «لا يجوز الاحتفال بمن مات من الأنبياء والصالحين، ولا إحياء ذكراهم بالموالد، ورفع الأعلام، ولا بوضع السراج والشموع على قبورهم، ولا بناء القباب والمساجد على أضرحتهم أو كسوتها أو نحو ذلك؛ لأنّ جميع ما ذكر من البدع المحدثة في الدين، ومن وسائل الشرك، فإنّ النبي 2 لم يفعل ذلك بمن سبقه من الأنبياء والصالحين، ولا فعله الصحابة بالنبي 2 ولا أحد من أئمة المسلمين في القرون الثلاثة التي شهد لها 2 بأنها خير القرون من بعده بأحدٍ من الأولياء والصالحين..»([3]).
4 ــ قال ابن فوزان: «البدع المعاصرة كثيرة بحكم تأخّر الزمن، وقلّة العلم، وكثرة الدعاة إلى البدع والمخالفات، وسريان التشبّه بالكفار في عاداتهم وطقوسهم، فمن هذه البدع.. الاحتفال بمناسبة المولد النبوي في ربيع الأول.. ومن هذا التشبّه بالنصارى في عمل ما يسمّى بالاحتفال النبوي، يحتفل جهلة المسلمين أو العلماء المضلّون في ربيع الأول من كلّ سنة بمناسبة مولد الرسول 2، فمنهم من يقيم هذا الاحتفال في المساجد، ومنهم من يقيمه في البيوت أو الأمكنة المعدّة لذلك، ويحضره جموع كثيرة من دهماء الناس وعوامهم، يعملون ذلك تشبّهاً بالنصارى في ابتداعهم الاحتفال بمولد المسيح %، والغالب أنّ هذا الاحتفال ــ علاوةً على كونه بدعةً وتشبهاً بالنصارى ــ فإنّه لا يخلو من وجود الشركيات والمنكرات.. وقلنا: إنّه بدعة؛ لأنه لا أصل له في الكتاب والسنّة، وعمل السلف الصالح والقرون المفضّلة»([4]).
وبعد نقله الكلام المتقدّم لابن تيمية، قال ابن فوزان: «وقد ألّف في إنكار هذه البدعة كتب ورسائل قديمة وحديثة، وهو ــ علاوة على كونه بدعة وتشبهاً ــ فإنه يجرّ إلى إقامة موالد أخرى، كموالد الأولياء والمشايخ والزعماء، فيفتح أبواب شرّ كثيرة»([5]).
5 ــ وقال الشيخ ابن عثيمين: «إن الإحتفال بعيد الميلاد للطفل فيه تشبّه بأعداء الله، فإنّ هذه العادة ليست من عادات المسلمين، وإنما ورثت من غيرهم، وقد ثبت عنه 2 أنّ من تشبّه بقومٍ فهو منهم»([6]).
6 ــ وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: «وقد أحدث هؤلاء المشركون أعياداً عند القبور التي تُعبد من دون الله، ويسمّونها عيداً، كمولد البدوي بمصر وغيره، بل هي أعظم، لما يوجد فيها من الشرك والمعاصي العظيمة»([7]).
7 ــ وقال محمد حامد الفقى: «والمواليد والذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء، هي نوعٌ من العبادة لهم وتعظيمهم»([8]).
الحب والبغض
الحبّ والبغض يعبّر بهما عن إقبال النفس وميلها إلى الشيء، وعن إدبارها عنه، ويستفاد من الأدلّة العقلية والنقلية وجوب محبّة الله ورسوله وأهل البيت (.
1 ــ حبّ الله تعالى
الذات الوحيدة التي تستأهل الحب ــ أولاً وبالذات ــ قبل كلّ شيء، هي الله تعالى؛ نظراً إلى ذاته وصفاته وأفعاله، وما يوجد لدى غيره من دواعي الحبّ وأسبابه فمن رشحة فضله وغيث وجوده، قال الله تعالى: >قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ< (التوبة: 24).
2 ــ حب رسول الله 2
يُستفاد من الآية السابقة لزوم حبّ الرسول 2 كحبّ الله تعالى؛ وقال رسول2: «أحبوا الله لما يغذوكم، وأحبّوني بحب الله»([9])، هذه ناحية واحدة من بواعث حبّ رسول الله 2، وهناك نواح شتّى لا تعدّ ولا تحصى؛ نظراً لصلته الوثيقة بالله سبحانه وتعالى، وانتسابه الأكيد إلى المولى الجليل تارة، وإلى ما جعل الله له من مناقب وفضائل، وإلى شخصيته الفذة العظيمة وما يحمله بين جوانحه من محاسن ومحامد وملكات يستدعي كلّ منها حبه والتعلق به قبل كل شيء بعد الله تبارك وتعالى تارةً أخرى؛ فهو 2 مع قطع النظر عن فضائل طينته، وما في خَلقه وخُلقه، ومولده ونشأته وكراماته وفضائله، لو لم يكن فيه إلا كونه غايةً للوجود لكان أجدر وأولى وأحقّ أن يكون أحبّ لكل امرء آمن به وصدّقه من نفسه وما تهواه.. وعلى هذا الأصل ــ المتسالم عليه ــ جاء في الصحيح ــ مرفوعاً ــ من طريق أنس بن مالك: «فوالذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين»([10]).
3 ــ حبّ آل الرسول 2
تظافرت السنّة في حب آل الرسول 2 وتواترت؛ فقد قال رسول الله 2: «أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبّوني لحبّ الله، وأحبوا أهل بيتي لحبّي»([11])، وقال 2: «أساس الإسلام حبّي وحب أهل بيتي»([12]).
والوجه في لزوم محبّة آل الرسول 2 كحبّه 2، أمور عديدة أبرزها:
1 ــ كون حبهم أجر الرسالة المحمدية بنصّ من الكتاب؛ قال تعالى: >قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى< (الشورى: 23).
2 ــ كون حبهم مسؤولاً عنه يوم القيامة، كما جاء في قوله تعالى: >وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ< (الصافات: 24)، قال ابن الجوزي: أي عن ولاية علي وأهل البيت (([13]).
3 ــ كون حبّهم علامة الإيمان، كما في الصحيح الثابت، قال 2 لعلي %: «لا يحبّك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق».
4 ــ كون حبّ أهل البيت وولائهم ( شرطاً عاماً في قبول مطلق الأعمال والطاعات والقربات، قال رسول الله 2: «لو أن رجلاً صَفَن بين الركن والمقام فصلّى وصام، ثم لقى الله وهو مبغض لأهل بيت محمد دخل النار»([14]).
5 ــ بواعث الحبّ الذاتية الموجودة فيهم من طهارة المحتد، وقداسة الأرومة، وما يمتازون به من الحكمة والعلم والخلق السامي والزهد والورع والتقوى.
وليست الأمة المؤمنة في الحبّ شرعاً سواء، بل هم فيه متفاوتون على اختلاف درجات عرفانهم به، كاختلافهم في حبّ الله تعالى، يقول القرطبي: «كلّ من آمن بالنبي إيماناً صحيحاً لا يخلو من وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة غير أنهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى..»([15]).
الحبّ في الحياة، الدور والمظاهر والانعكاسات
للحبّ مظاهر؛ إذ ليس الحبّ شيئاً يستقر في صقع النفس دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الإنسان وتصرفاته، بل من خصائصه أن يظهر أثره على ملامح الإنسان، وعلى قوله وفعله، بصورةٍ مشهودة ملموسة؛ فحبّ الله ورسوله لا ينفك عن اتباع دينه والاستنان بسنّته، والائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه.
ولا يقتصر أثر الحب على الاتّباع، بل له آثار أخرى في حياة المحبّ، فهو يزور محبوبه ويكرمه ويعظمه ويقضي حاجته، ويذبّ عنه، ويدفع عنه كل كارثة، ويهيئ له ما يريحه، إنّه يسرّه إذا كان حياً، ويحزن عليه إذا كان ميتاً أو مفقوداً أشدّ الحزن، ويجري له الدموع، بل يتعدى أثر الحب عند فقد الحبيب وموته هذا الحدّ، فنجد المحبّ يحفظ آثار محبوبه، وكلّ ما يتصل به من لباسه وأشيائه، وكما يحترم أولاده، يحترم جنازته ومثواه، ويحتفل كلّ عام بميلاده وذكرى موته، ويكرمه ويعظمه حباً به ومودةً له.
فإذا ثبت أن حبّ النبي 2 وتكريمه من أصول الإسلام، فيجوز للمسلم القيام بكل ما يعدّ مظهراً لحبّه 2، شريطة أن يكون عملاً حلالاً بالذات، ولا يكون منكراً في الشريعة، فيدخل ذلك في عمومات أدلّة المحبة؛ فقد روى البخاري في صحيحه أن أبا بكر دخل حجرة النبي 2 بعد رحيله، وهو مسجّى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبّ عليه يقبّله، ثم بكى، فقال: بأبي أنت يا نبي الله([16]).
نظريّة جواز الاحتفالات الدينية
1 ـ الاحتفالات الدينية على مستوى النصّ القرآني
1 ــ يستدلّ من يرى استحباب الاحتفال بذكرهم، على صحّة ذلك، بأنّ جلّ مناسك الحج احتفالٌ بذكرى الأنبياء والأولياء، ونذكر أمثلة منه فيما يلي:
أ ــ مقام إبراهيم %: قال سبحانه وتعالى: >وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى< (البقرة: 125)، فالله سبحانه وتعالى أمر الناس أن يتبركوا بموطئ قدمي إبراهيم % في بيته الحرام، ويتخذوا منه مصلّى؛ إحياءً لذكرى إبراهيم وتخليداً، وليس فيه شيء من أمر الشرك بالله جلّ اسمه.
وفي صحيح البخاري ما ملخصه: إنّ إبراهيم % وإسماعيل %، لما كانا يبنيان البيت جعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وفي رواية بعدها: حتى ارتفع البناء، وضعف الشيخ على نقل الحجارة، فقام على حجر المقام، فجعل يناوله الحجارة([17]).
ب ــ الصفا والمروة: قال سبحانه وتعالى: >إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أو اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا< (البقرة: 158)، فقد جعل الله السعي بين الصفا والمروة من مناسك الحج إحياء لذكرى سعي هاجر بينهما واحتفالاً بعملها، وجعل استحباب الهرولة في محلّ الوادي الذي سعت فيه هاجر سعي الإنسان المجهود؛ إحياءً لذكرى هرولتها هناك، وقد روى البخاري ما ملخصه: إنّ هاجر لما تركها إبراهيم % مع ابنها إسماعيل بمكّة ونفد ماؤها، عطشت وعطش ابنها وجعل يتلوّى، فانطلقت إلى جبل الصفا كراهية أن تنظر إليه، فقامت عليه تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت، هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، فعلت ذلك سبع مرات، وقال ابن عباس: قال النبي 2: فذلك سعي الناس بينهما..([18]).
ج ــ الفداء: قال الله سبحانه وتعالى في قصة إبراهيم وإسماعيل: >فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء الله مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ< (الصافات: 101 ــ 107)، فجعل الله إحياء ذكرى فداء إبراهيم ابنَه إسماعيل وإرسال الكبش فديةً له، والاحتفال بها من مناسك الحج، وأمر الحجّاج بالفدية في منى اقتداءً بإبراهيم، واحتفالاً بذكرى موقفه من طاعة الله.
2 ــ استدلّ بعضٌ بقوله تعالى: >ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ< (الحج: 32)، على اعتبار أن شعائر الله سبحانه هي أعلام دينه، خصوصاً ما يرتبط منها بالحجّ، كما قال القرطبي؛ لأنّ أكثر أعمال الحج إنما هي تكرار لعمل تاريخي، وتذكير بحادثة كانت قد وقعت في عهد إبراهيم %، وشعائر الله مفهوم عام شامل للنبي 2 ولغيره، فتعظيمه 2 لازم، ومن أساليب تعظيمه إقامة الذكرى في يوم مولده ونحو ذلك، فكما أن ذكرى ما جرى لإبراهيم % من تعظيم شعائر الله سبحانه، كذلك تعظيم ما جرى للنبي الأعظم محمد 2 يكون من تعظيم شعائر الله أيضاً.
3 ــ استدلّ أيضاً على شرعيّة المراسم والمواسم بقوله تعالى ــ مخاطباً موسى % ــ : >وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله< (إبراهيم: 5)، فإن المقصود بأيام الله، أيام غلبة الحقّ على الباطل، وظهور الحق، فما نحن فيه من مصاديق الآية الشريفة؛ ذلك أنّ إقامة الذكريات والمواسم فيها تذكيرٌ بأيام الله سبحانه، والآية الشريفة تدلّ ــ بإطلاقها ــ على جواز التذكير ولو بالاختصاص بيوم خاص، كيوم المولد النبوي.
4 ــ واستدلّ أيضاً بقوله تعالى: >قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى< (الشورى: 23)؛ إذ إقامة الاحتفالات للتحدّث عما جرى للأئمة ( من أبرز مصاديق المودّة.
5 ــ أمّا بالنسبة لتعظيم خصوص ليلة مولده 2 أو ليلة المعراج، فنورد هنا نصّاً يشير إلى هذا التعظيم من قبل الله سبحانه، فقد قال الحلبي وغيره: وقد أقسم الله بليلة مولده في قوله تعالى: >وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إذا سَجَى<، وقيل: المراد ليلة الإسراء، ولا مانع أن يكون القسم وقع بهما، أي استعمل الليل فيهما([19]).
6 ــ إن القرآن الكريم يشيد بجماعة كرّمت النبي 2 حيث يقول: >فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ< (الأعراف: 157)، فهل يحتمل أحد أن تكون هذه الكلمات والأوصاف خاصّةً بزمن النبي 2؟ بالتأكيد لا، ومع انتفاء هذا الاحتمال، تكون كلمة (عزّروه) ــ والتي تعني التكريم والتعظيم، كما في مفردات الراغب ــ عامّة لحياة النبي 2 وبعد رحيله، فالله تعالى يريد أن يكون حبيبه المصطفى 2 معظماً مكرماً حتى الأبد، وهنا نتساءل: أليست إقامة الاحتفالات في يوم ميلاد النبي 2 وبعثته، وإلقاء الخطب والقصائد مصداقاً واضحاً لقوله تعالى: >وَعَزَّرُوهُ<؟!
7 ــ إنّ النبي عيسى % سأل ربه أن ينزل مائدةً من السماء، ويعتبر نزولها عيداً له ولأصحابه؛ حيث قال تعالى على لسانه: >رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ< (المائدة: 111)؛ فهل شخصية الرسول 2 أقل شأناً ــ يا ترى ــ من تلك المائدة التي اتخذ المسيح يوم نزولها عيداً؟! وإذا كان اتخاذ ذلك اليوم عيداً لكون المائدة آيةً إلهية ومعجزة سماوية، أليس نبيّ الإسلام أكبر آية إلهية، وهو الآية الكبرى، ومعجزة القرون والعصور؟!
8 ــ قال سبحانه وتعالى: >وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ< (الانشراح: 7)، إنّ إقامة المجالس والاحتفالات نوعٌ من رفع الذكر، والمسلمون لا يهدفون من الاحتفال بميلاد النبي 2 ومبعثه وغير ذلك من المناسبات الدينية سوى رفع ذكره، وذكر أهل بيته الأطهار (؛ فلماذا لا يجوز الاقتداء بالقرآن الكريم؟ فليس لأحد ادّعاء أنّ رفع ذكره خاصّ بالله سبحانه لا يشمل غيره؛ لأنّ ذلك يشبه أن يقول: إن نصر النبي 2 خاصّ بالله سبحانه، ولا يجوز لأحد من المسلمين أن ينصره، وقد قال تعالى: >يَنصُرَكَ الله نَصْرًا عَزِيزًا< (الفتح: 3)، فلعلّ هدف هذه الآيات دعوة المسلمين إلى نصرة النبي 2 وتخليد ذكراه وإحياء أمره.
9 ــ يقول تعالى: >وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ< (هود: 120)، حيث تشير هذه الآية إلى أنّ الحكمة من حكاية أنباء الرسل وأخبارهم( للنبي 2 إنما هي لتثبيت فؤاده الشريف بذلك، ولا شك أننا اليوم محتاجون إلى تثبيت أفئدتنا بأنبائه وأخباره وسيرته وجهاده 2 بصورةٍ أشدّ، والاحتفال السنوي بالمولد يحقّق هذه الغاية النبيلة.
يقول الأستاذ عيسى بن عبدالله بن محمد بن مانع الحمري ــ مدير عام دائرة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدبي ــ : «في الآية طلب قصّ أنباء الرسل بما في ذلك من تثبيت الفؤاد، وسيدنا محمد 2 أفضل الرسل، والمولد النبوي يشتمل على أنباء النبي 2، ففي ذكره تثبيت لفؤاد المؤمنين، فهو حث على تكرار ذكر المولد والعناية به»([20]).
10 ــ وقال تعالى: >قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ< (يونس: 58)، فالله تعالى يطلب منّا أن نفرح بالرحمة، والنبي 2 رحمة، وقد قال الله تعالى: >وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ< (الأنبياء: 107)، وفي الدر المنثور: أخرج عن ابن عباس, في الآية قال: فضل الله العلم، ورحمة الله محمد 2، وقال الله تعالى: >وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ<([21]).
وذكر الرحمة في الآية بعد الفضل تخصيصٌ بعد العموم المذكور، وهو يدلّ على شدّة الاهتمام، ومجيء اسم الإشارة (ذلك) أكبر دليل على الحث على الفرح والسرور؛ لأنه إظهار في موضع الإضمار، وهو يدلّ على الاهتمام والعناية؛ ولذلك قال الآلوسي: «فبذلك فليفرحوا» للتأكيد والتقرير، وبعد أن رجّح كون الرحمة المذكورة في الآية هي النبي 2 قال: والمشهور وصف النبي 2 بالرحمة، كما يرشد إليه قوله تعالى: >وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ<([22]).
2 ـ الاحتفالات الدينية على مستوى السنّة النبوية
1 ــ أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة: أن رسول الله 2 سئل عن صوم الإثنين قال: «ذلك يوم ولدت فيه ويوم بعثت (أو أنزل عليّ فيه)»([23])، وهو نصّ في الاحتفال بيوم مولده 2 ولا يحتمل غيره، ولم نجد لمخالف جواباً عليه إلا طلب الاقتصار على الصيام فقط، وهي ظاهرية محضة، وتخصيص بدون مخصّص، لكنها مع ذلك موافقة لنا في مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه (لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف): «فيه إشارة إلى استحباب صيام الأيام التي تتجدّد فيها نعم الله على عباده، فإنّ أعظم نعم الله على هذه الأمة إظهار محمد2، وبعثته وإرساله إليهم، كما قال تعالى: >لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ<، فصيام يوم تجدّدت فيه هذه النعمة من الله سبحانه على عباده المؤمنين حسنٌ جميل، وهو من باب مقابلة النعم في أوقات تجدّدها بالشكر، والمقصود الوصول بهذه الطاعة إلى محبّة الله ورسوله، وقد يتحقّق هذا المقصود بأيّ وسيلة مشروعة، فالوسائل لها حكم المقاصد إذا كان المقصد شرعياً»([24]).
2 ــ أخرج مسلم أيضاً في صحيحه عن ابن عباس , قال: لما قدم النبي 2 المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسُئلوا عن ذلك، فقالوا: هو اليوم الذي أظفر الله موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصوم تعظيماً، فقال رسول الله 2: «نحن أولى بموسى» وأمر بصومه([25]).
وهذا الحديث تأصيل لملاحظة الزمان والعناية به، وقد استدلّ الحافظ ابن حجر العسقلاني بهذا الحديث على شرعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، كما في فتوى له نقلها السيوطي في (حسن المقصد في عمل المولد) فقال ما نصّه: «فيستفاد من فعل الشكر لله على ما منّ به في يوم معيّن من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم في كلّ سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأيّ نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي 2 نبي الرحمة في ذلك اليوم»([26]).
3 ــ كان الصحابة يتذاكرون سير الأنبياء، فأرشدهم النبي إلى ذكر سيرته؛ لأنه أفضل وأكمل الأنبياء، والجامع لما كان متفرقاً فيهم، وما المولد إلا عملٌ بهذا الإرشاد النبوي؛ لأنّ فيه ذكراً لسيرة النبي 2، فقد أخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال: جلس ناسٌ من أصحاب رسول الله 2، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، قال بعضهم: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وقال آخر: موسى كلّمه تكليماً، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه، قال آخر: آدم اصطفاه الله؛ فخرج عليهم رسول الله 2 وقال: «قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجي الله وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه ولا فخر، وأنا أوّل شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرّك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر»([27]). وهذا الحديث قويّ، وله شواهد ذكرها البيهقي في دلائل النبوة([28]).
4 ــ قال الحافظ بن ناصر الدين الدمشقي في كتابه: (مورد الصادي في مولد الهادي): «قد صحّ أن أبا لهب يخفف عنه العذاب في مثل يوم الإثنين؛ لاعتاقه ثويبة سروراً بميلاد النبي 2؛ فإذا كان هذا الكافر الذي جاء القرآن بذمّه يخفّف عنه العذاب لفرحه بمولد النبي 2، فما بال المؤمن الذي يحتفل بذلك؟!» وهذا ما ذكره وقرّره أيضاً شيخ القراء الحافظ شمس الدين الجزري في (عرف التعريف بالمولد الشريف).
5 ــ أخرج البيهقي عن أنس: أنّ النبي 2 عقّ عن نفسه بعد النبوة، مع أنه قد ورد أن جدّه عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته، قال الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي في الحاوي للفتاوي: «والعقيقة لا تعاد مرةً ثانية، فيحمل ذلك على أنّ الذي فعله النبي 2 إظهارٌ للشكر على إيجاد الله إياه رحمةً للعالمين، وتشريعٌ لأمته، كما كان يصلّي على نفسه؛ لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات، وإظهار المسرّات»([29]).
6 ــ صحّ أن النبي 2 قال في فضل يوم الجمعة: «وفيه خلق آدم»([30])، فقد تشرّف يوم الجمعة بخلق آدم، فبدلالة النصّ وفحوى الخطاب وقياس الأولوية ثبت فضل اليوم الذي ولد فيه المصطفى 2.
7 ــ إنّ الاحتفال بالمولد الشريف يشتمل على الصلاة على النبي 2 والذكر والصدقة ومدح وتعظيم الرسول 2، وذكر شمائله الشريفة وأخباره المنيفة، وكلّ هذا مطلوب شرعاً ومندوب إليه؛ فقد أخرج أحمد، وابن أبي شيبة، والطبراني، عن الأسود بن سريع قال: قلت: يا رسول الله! مدحتُ الله بمدحة ومدحتك مدحة، قال رسول الله 2: «هات وابدأ بمدحة الله»([31]).
رواه علي بن زيد جدعان ــ وهو ضعيف ــ إلا أن حمزة بن يوسف السهمي أخرجه في تاريخ جرجان عن أبي سعيد الأشج. قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن عوف، عن الحسن، عن الأسود، عن النبي 2 نحوه، وإسناده صحيح عندهم، مسلسل بالثقات، المحتجّ بهم في الصحيح. وعوف هو ابن أبي جميلة، والحسن هو البصري، وقد سمع من الأسود.
8 ــ روى أحمد والطيالسي في مسنديهما عن رسول الله 2 أنه قال: «إنّ جبرئيل ذهب بإبراهيم إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ، ثم أتى الجمرة الوسطى، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ، ثم الجمرة القصوى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ..»([32]). وهكذا جعل الله ذكرى رمي إبراهيم الشيطان، والاحتفال بذكره من مناسك الحج. وقد جاء مدح رسول الله 2 على لسان عدد من الصحابة.
المولد النبويّ عيد إسلامي، شهادات فقهية وتاريخية
1 ــ قال الدياربكري في هذا الصدد: «لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الشريف، ويظهر عليهم من كراماته كلّ فضل عظيم»([33]).
2 ــ وقال أبو شامة المقدسي: «ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل في اليوم الموافق ليوم مولده 2 من الصدقات والمعروف بإظهار الزينة والسرور، فإنّ في ذلك ــ مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء ــ شعاراً لمحبته»([34])، ومن الواضح أنه أراد بالبدعة المعنى اللغوي.
3 ــ وقال القسطلاني: «ولازال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده %، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات، ويعتنون بقراءة يوم مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عظيم.. فرحم الله امرءاً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً، ليكون أشدّ علة على من في قلبه مرض»([35]).
4 ــ ولقد أطنب ابن الحاجّ في المدخل في الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع والأهواء والغناء بالآلات المحرمة عند عمل المولد الشريف، فالله تعالى يثيبه على قصده الجميل([36])، وقال: «فإن كان يوم الجمعة فيه ساعة لا يصادفها عبدٌ مسلم يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، وقد قال الإمام أبو بكر القهري المشهور بالطرطوشي، معظّم العلماء والأخيار: أنها بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وقوى ) ذلك بحديث قال في كتابه: رواه مسلم في الصحيح، وذكر فيه: أن آدم خلق بعد العصر من يوم الجمعة في آخر ساعة من ساعات الجمعة، ما بين العصر إلى الليل.. ــ إلى أن قال: ــ إذ إنّ المعنى الذي فضل الله به تلك الساعة في يوم الجمعة هو خلق آدم عليه الصلاة والسلام، فما بالك بالساعة التي ولد فيها سيد الأولين والآخرين 2»([37]).
5 ــ وقال ابن عباد في رسائله الكبرى: «.. وأمّا المولد، فالذي يظهر لي أنه عيدٌ من أعياد المسلمين، وموسم من مواسمهم، وكلّ ما يُفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع، وإمتاع البصر والسمع، والتزين بلباس فاخر الثياب، وركوب فاره الدواب، أمرٌ مباح لا يُنكر على أحد»([38]).
6 ــ وللحافظ السيوطي رسالة سمّاها «حسن المقصد في عمل المولد»، قال: «فقد وقع السؤال عن عمل المولد الشريف في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع؟ وهل ممدوح أو مذموم؟ وهل يثاب فاعله أو لا؟ والجواب عندي: أنّ أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس، وقراءة ما تيسّر من القرآن، ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي 2، وما وقع في مولده من الآيات، ثم يمدّ لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها؛ لما فيه من تعظيم قدر النبي 2، وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف. وأول من أحدث فعل ذلك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين، أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد، وكان له آثار حسنة، وهو الذي عمّر الجامع المظفري بسفح قاسيون»([39]).
قال ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية): «كان يعمل المولد الشريف ــ يعني الملك المظفر ــ في ربيع الأول، ويحتفل به احتفالاً هائلاً، وكان شهماً شجاعاً بطلاً عاقلاً عالماً عادلاً، رحمه الله وأكرم مثواه»([40])، ويذكر سبط بن الجوزي في مرآة الزمان: أنه كان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية([41]).
7 ــ وقال الشيخ عبدالله الهروي المعروف بالحبشي في كتابه: الروائح الزكية في مولد خير البرية 2: «فتبيّن من هذا أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعةٌ حسنة فلا وجه لإنكاره، بل جدير بأن يسمّى سنّةً حسنة؛ لأنه من جملة ما شمله قول رسول الله 2: «من سنّ في الإسلام سنّةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء»، وإن كان الحديث وارداً في سبب معيّن، وهو أنّ جماعة أوقع بهم الفقر فجاؤا إلى رسول الله وهم يلبسون النمار مجتبيها، أي: خارقي وسطها، فأمر الرسول بالصدقة فاجتمع لهم شيء كثير، فسرّ رسول الله لذلك فقال: «من سنّ في الإسلام» الحديث؛ وذلك لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مقرّر عند الأصوليين، ومن أنكر ذلك فهو مكابر»([42]).
فوائد الاحتفال بمولد النبي 2 وأهل البيت (
1 ــ كونها ذكرى سنوية يتذكّر فيها المسلمون نبيهم 2، فيزداد حبّهم وتعظيمهم له.
2 ــ سماع بعض الشمائل والفضائل المحمدية، ومعرفة النسب النبوي الشريف، وقد قال الله تعالى: >لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ< (الأحزاب: 21).
3 ــ إظهار الفرح بولادة الرسول 2؛ لما في ذلك من حبّ الرسول وكمال الإيمان به.
4 ــ إطعام الطعام وهو مأمور به، وفيه أجرٌ كبير، لا سيما إذا كان بنيّة الشكر لله تعالى.
5 ــ الاجتماع على ذكر الله تعالى وقراءة القرآن.
6 ــ إنّ المولد الشريف مناسبةٌ وفرصة للإكثار من الصلاة والسلام على المصطفى الحبيب 2 المطلوبَين بنصّ قوله تعالى: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا< (الأحزاب: 56).
7 ــ إن الاجتماعات ــ أعني في المولد ــ وسيلةٌ للدعوة إلى الله تعالى.
من ألّف حول الاحتفال بالمولد النبوي من أهل السنّة
1 ــ الإمام السيوطي، ألّف كتاباً في المولد النبوي أسماه: «حُسن المقصد في عمل المولد»، وفي كتابه (الحاوي للفتاوي) يبيّن في أحد فصول الكتاب حكم الاحتفال بالمولد النبوي، ويردّ فيه على من قال بأنّ المولد بدعةٌ مذمومة.
2 ــ الإمام الحافظ ابن كثير (777 ــ 842هـ)، ألّف في المولد النبوي كتباً عدّة، ذكر صاحب (كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون) أنّ الحافظ ابن كثير قد صنّف في المولد النبوي الشريف أجزاء عديدة منها: (جامع الآثار في مولد النبي المختار) في ثلاثة مجلدات، و (اللفظ الرائق في مولد خير الخلائق)، وهو مختصر، وقال ابن فهد: إن لابن كثير كتاباً يسمّى: (المورد الصادي في مولد الهادي).
3 ــ الإمام الحافظ العراقي، صنّف كتاباً في المولد الشريف سمّاه: (الورد الهني في المولد السني).
4 ــ الإمام الحافظ السخاوي، له كتاب في المولد يسمّى: (التبر المسبوك في ذيل السلوك).
5 ــ الإمام ملا علي القاري، له كتاب في المولد سمّاه: (المورد الروي في المولد النبوي).
6 ــ العلامة الغماري.
نظرية تحريم الاحتفالات الدينية، الأدلّة والشواهد
من يراجع كلمات هذا الفريق يجد أنهم يستدلّون لما يذهبون إليه بأدلّة استنباطية وروائية، وان كانت كلماتهم قد جاءت ــ في الأكثر ــ خطابيةً، وعليه؛ فلابد من إيراد جانب منها، واستخلاص ما يمكن استخلاصه مما أوردوه على شكل استدلال أو مستند.
1 ـ عباديّة الاحتفالات الدينية، شبهة الشرك العبادي
جاء في هامش كتاب فتح المجيد ما نصّه: «وهي التي يسمّيها الناس اليوم «الموالد والذكريات» التي ملأت البلاد باسم الأولياء، وهي نوعٌ من العبادة لهم وتعظيمهم.. وقد امتلأت البلاد الإسلامية بهذه الذكريات، وعمّت المصيبة، وعادت بها الجاهلية إلى بلاد الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولم ينج منها إلا نجد والحجاز فيما نعلم بفضل الله، ثم بفضل آل سعود الذين قاموا بحماية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب»([43]). «والمستقرئ لشؤون البشر وما يطرأ عليها من التطوّرات الصالحة والفاسدة يعرف حقيقة هذه الأعياد الجاهلية بما يرى اليوم من الأعياد يسمّيها أهل العصر (الموالد)، أو يسمّيها (الذكريات) لمعظّميهم من موتى الأولياء وغيرهم.. وكلّ ذلك إنما هو إحياء لسنن الجاهلية، وإماتة لشرائع الإسلام من قلوبهم، وان كان أكثر الناس لا يشعرون بذلك؛ لشدّة استحكام ظلمة الجاهلية على قلوبهم، ولا ينفعهم ذلك الجهل عذراً، بل هو الجريمة كلّ الجريمة التي تولد عنها الجرائم من الكفر والفسوق والعصيان»([44]).
ويلاحظ عليه، أولاً: إنّ العنصر المقوّم لصدق العبادة على العمل هو الاعتقاد بألوهية المعظّم أو ربوبيته، أما إذا خلا التعظيم عن هذا الاعتقاد، واحتفل بذكرى رجل ضحّى بنفسه ونفيسه في طريق هداية المحتفلين، فلا يعدّ ذلك عبادةً له، وإن أقيمت له عشرات الاحتفالات، وألقيت فيها القصائد والخطب، ومن المعلوم أن المحتفلين المسلمين يعتقدون أن النبي الأكرم عبدٌ من عباد الله الصالحين، وفي الوقت نفسه هو أفضل الخليقة، فلأجل تكريمه يقيمون الاحتفال أداءً لشكر النعمة.
ثانياً: إنهم قد خلطوا بين العبادة والتعظيم وصاروا يكفّرون الناس استناداً إلى ذلك، يقول السيد الأمين ): «العبادة بمعناها اللغوي الذي هو مطلق الذلّ والخضوع والانقياد ليس شركاً ولا كفراً قطعاً، وإلا لزم كفر الناس جميعاً من لدن آدم إلى يومنا هذا؛ لأن العبادة ــ بمعنى الطاعة والخضوع ــ لا يخلو منها أحد، فيلزم كفر المملوك، والزوجة، والولد، والخادم و.. بإطاعتهم وخضوعهم للمولى والزوج، والأب، والمخدوم.. وقال تعالى لرسوله 2: >واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين<، والخلاصة: إنّ ما يترتّب عليه الكفر والشرك ليس هو التعظيم، ومطلق التعظيم ليس عبادة، وإنما الذي ترتب عليه الكفر والشرك هو الخضوع والانقياد الخاص»([45]).
2 ـ اشتمال الاحتفالات الدينية على محرّمات شرعيّة
قال ابن الحاج: «إن هذه الاحتفالات مشتملة على الأمور المحرّمة في الغالب، كاختلاط النساء بالرجال، وقراءة المدائح مع الموسيقى والغناء»([46]).
ويلاحظ عليه، أولاً: نحن لا ننكر أنّ ارتكاب أيّ من المعاصي لا يجوز، لكنّ عدم جواز ذلك لا يختصّ بالاحتفالات، بل حرمتها مطلقة، ولا يلزم من تحريمها تحريم إقامة الذكريات والمواسم والاحتفالات، بل يمكن أن تكون هذه محكومةً بالحلية، وتلك بالحرمة، ولا ملازمة بينهما، إذ يمكن إقامة الاحتفالات من دون تعرّض للمعاصي إطلاقاً، كما هو معلوم ومشاهد، وإلا فلو استغلّت الصلاة لخداع الناس مثلا فهل تكون محرّمةً أم أنّ المحرم خصوص هذا الذي يضاف إلى الصلاة، ويجب الابتعاد عنه وتركه؟!
ثانياً: إنّ الإستدلال على الجواز أو المنع بالأمور الجانبية خروجٌ عن الاستدلال الفقهي؛ فإنّ الحكم بالجواز والمنع ذاتاً يتوقف على كون الشيء بما هو هو جائزاً أو ممنوعاً، أمّا الاستدلال على أحدهما بالأمور الطارئة فليس استدلالاً صحيحاً.
ثالثاً: إنّ الإستدلال على الجواز بما جرت عليه السيرة العقلائية من إقامة الاحتفالات لعظمائهم قياسٌ مع الفارق؛ لأنّ الاحتفالات الرائجة بين العقلاء من الأمور العادية، والأصل فيها هو الحلية، أما الاحتفال بمولد النبي 2 فهو احتفال ديني، وعمل شرعي؛ فلا يقاس بتلك الاحتفالات.
قال السيوطي في «الحاوي للفتاوي»: «إنّ التحريم فيه إنما جاء من قبل هذه الأشياء المحرّمة التي ضمّت إليه، لا من حيث الاجتماع لإظهار شعائر المولد، بل لو وقع مثل هذه الأمور في الاجتماع لصلاة الجمعة مثلاً لكانت قبيحة شنيعةً، ولا يلزم من ذلك ذمّ أصل الاجتماع لصلاة الجمعة، كما هو واضح.. نقول: أصل الاجتماع لإظهار شعار المولد مندوبٌ وقربة، وما ضمّ إليه من هذه الأمور مذمومٌ وممنوع»([47]).
3 ـ المستند الروائي لتحريم الاحتفالات الدينيّة
وقد استدلّوا بما روي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله 2: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم»([48])، وقد رووا: «أنّ عمر نهى عن اتخاذ آثار الأنبياء أعياداً»([49]).
قال ابن القيم: «.. نهيه لهم أن يتخذوا قبره عيداً، نهيٌ لهم أن يجعلوه مجمعاً، كالأعياد التي يقصد الناس الاجتماع إليها للصلاة، بل يزار قبره 2 كما يزوره الصحابة 2 على الوجه الذي يرضيه ويحبّه..»([50]).
ويلاحظ عليه، أولاً: يحتمل أن يكون المراد الحث على كثرة زيارة قبره 2، وأن لا يهمل حتى يكون كالعيد، الذي لا يؤتى في العام إلا مرّة.
ثانياً: يحتمل أن يكون المراد أن اجتماعهم عند قبره ينبغي أن يكون مصحوباً بالخشوع والتأمل والاعتبار، حسبما يناسب حرمته 2؛ فإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فلا يكون ذلك مصحوباً باللهو واللعب والغفلة والمزاح، وغير ذلك مما اعتادوه في أعيادهم. قال السبكي: يحتمل لا تتخذوه كالعيد في الزينة والاجتماع وغير ذلك، بل لا يؤتى إلا للزيارة والسلام والدعاء([51]).
ثالثاً: قوله: صلّوا علي حيث ما كنتم، بيان لأمر آخر، وهو أن الصلاة على النبي2 لا يجب أن يراعى فيها الحضور عنده، بل إنّها تصله عن بُعد، كما تصله عن قُرب.
ويظهر مما تقدّم أنّ الرواية غير صالحة للاستدلال بها على المنع من الاجتماعات، وإقامة الموالد والذكريات و.. في أوقات معينة؛ إذ يكفي لردّ الاستدلال ورود الاحتمال العقلائي فيه، فكيف إذا كان هذا الاحتمال من القوّة بحيث يصير صالحاً لأن يدّعى أنّه هو الظاهر من الرواية دون سواه؟ مضافاً إلى أن الرواية خاصّة بالتجمع عند القبور، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى غيرها من المواضع، ولعلّ لقبر النبي 2 خصوصية في المقام.
4 ـ ظاهرة الاحتفالات وإشكاليّة التشبّه بالنصارى في أمر المسيح %
يقول ابن تيمية: «وكذلك ما يحدثه بعض الناس إمّا مضاهاةً للنصارى في ميلاد المسيح %، وإمّا محبةً للنبي 2 وتعظيماً له، والله قد يثيبهم على هذه المحبّة والاجتهاد لا على البدع، من اتخاذ مولد رسول الله 2 عيداً، مع اختلاف الناس في مولده..»([52])، وقال: «حتى أنّ بعض القبور يجتمع عندها القبوريون في يوم من السنة ويسافرون لإقامة العيد، إمّا في المحرم، أو رجب، أو شعبان، أو ذي الحجة أو غيرها..»([53]).
كما أنّ محمد بن عبد الوهاب قد أنكر تعظيم الموالد والأعياد الجاهلية التي لم تنزل في تعظيمها سلطان، ولم ترد به حجّة شرعية ولا برهان، لأنّ ذلك مشابهة للنصارى الضالّين في أعيادهم الزمانية والمكانية، وهو باطل مردود في شرع سيد المرسلين([54]).
وقال ابن فوزان: «البدع المعاصرة كثيرة بحكم تأخّر الزمن، وقلّة العلم وكثرة الدعاة إلى البدع والمخالفات، وسريان التشبّه بالكفار في عاداتهم وطقوسهم.. فمن هذه البدع.. الاحتفال بمناسبة المولد النبوي في ربيع الأول.. ومن هذا التشبه بالنصارى في عمل ما يُسمى بالاحتفال بالمولد النبوي.. يعملون ذلك تشبّهاً بالنصارى في ابتداعهم الاحتفال بمولد المسيح %..»([55]).
ويلاحظ عليه، أولاً: إن المضاهاة والتشبّه بالنصارى من العناوين القصدية التي يحتاج ترتب الحكم عليها إلى القصد، فنقول حينئذ: هل ابن تيمية وغيره على يقين بأنّ المسلمين يقيمون الاحتفال مضاهاةً للنصارى؟ وبعبارة أخرى: إنّ التشبّه من الأمور القصدية، كما يقتضيه باب التفعّل أيضاً، مثل القيام الذي يُقصد به التعظيم تارةً، والسخرية أخرى، وبعبارة ثالثة: إنّ الحكم في أمثال هذه الموارد المشتركة بين الراجح والمرجوح يدور مدار القصد، وعليه فلو قصد من إقامة الاحتفال التشبّه يكون مرجوحاً، وإن قصد منها إقامة شعائر الله، وتجديد العهد بالنبي 2 وأخلاقه يكون مستحباً وراجحاً؛ للعمومات الدالّة على لزوم تعظيم شعائر الله.
روى البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، في غزوة أحد: «.. فقال أبو سفيان: أعل هُبل، فقال النبي 2: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مُثلة لم آمر بها ولم تسؤني»([56]).
هل يجوز القول هنا: إنّ هذا العمل تشبّهٌ بالكفار؟ وقد قال تعالى: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ<، وهل هذا تشبّه بالكفار المنهي عنه؟ وهل مطلق التشبّه بالكفار حرام، أم أنّ الحرام هو الاقتداء والتشبّه بهم في خصوصيّاتهم الدينية المبتدعة، كاستعمال الصليب؟
قال الإمام الشيخ محمود شلتوت في (الفتاوى): «لا يشترط في صحّة الصلاة غطاء الرأس، فتصحّ الصلاة برأس مغطاة، وبرأس مكشوف، ولا يشترط في غطائها إذا غطّيت نوع خاص من الغطاء. فللمسلم أن يصلّي بعمامة وبقبعة ما دامت لا تمنعه من وضع الجبهة على الأرض، والإسلام لا يعرف زياً خاصاً للرأس، والزيّ وغطاء الرأس من الأمور التي يتركها الإسلام للعرف الذي يجري عليه الناس، وليس صحيحاً ما يقال: إن القبعة زيّ خاص بغير المسلمين وشعار غير إسلامي، فالمسلم وغيره في ذلك سواء، والذين يلبسون القبّعات من المسلمين لا يقصدون التشبّه بغيرهم فيما هو من خصائص دينهم، وإنما يلبسونها لتقيهم من حرّ الشمس أو برد الشتاء مثلاً، أو لأنّ عرف بلادهم جرى على ذلك»([57])، وقد مرّت رواية مسلم في صوم عاشوراء آنفاً([58]).
ثانياً: إنّ الأساس الذي يجب أن يُبنى عليه عمل المسلم هو انطباق العمل على الكتاب والسنّة، فلا تكون المضاهاة مانعةً عن اتّباع الكتاب والسنّة.
ثالثاً: إنّ عيد الفطر والأضحى يشبهان الأعياد الزمانية للنصارى أيضاً، كما أنّ الحج يُشبه أعيادهم المكانية؛ فينبغي أن تصبح هذه الأمور محرّمةً حسب ما يقتضيه الدليل المذكور، كما ينبغي تحريم بناء المساجد، بل تحريم الاجتماع فيها للصلاة؛ لأنه يُشبه تجمّع النصارى في كنائسهم.
رابعاً: الظاهر أنّ المراد من قوله 2: «لا تتشبّهوا باليهود ولا النصارى»، على تقدير صدوره عنه 2، لا يجوز أن تتشبّهوا بهم في خصوصياتهم الدينية، كنصب الصليب وضرب الناقوس و.. فتكونوا منهم، وإلا فإنّ المشابهة للنصارى إن كانت في أمور تقتضيها طبيعة البشر وحياتهم وتعاملهم العادي والطبيعي فلا مانع منها، وكذلك إن كانت نتيجةً لتشريع إلهي يتحرّى مصلحة البشر وسعادتهم، فلا مانع من ذلك أيضاً، وأما إذا كانت نتيجة اجتهاد بشري في مقابل التشريع الإلهي بهدف إبطال الشرع والدين، أو بهدف الزيادة أو إحداث النقص فيه خصوصاً إذا كانت من الأمور الخاصّة بهم فذلك هو الذنب.
5 ـ الاحتجاج بسنّة السلف في عدم إقامة الاحتفالات الدينية
قال ابن تيمية في (الفتاوى الكبرى): «أما اتخاذ موسم غير المراسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسمّيه الجهال: عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبّها السلف الصالح، ولم يفعلوها»([59])، وقال أيضاً: «إنّ هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف ــ رضي الله عنهم ــ أحقّ به منّا؛ فإنهم كانوا أشدّ محبّةً لرسول الله2 وتعظيماً له منّا، وهم على الخير أحرص»([60]).
وقال ابن الحاجّ في (المدخل): «فإن خلا ــ أي المولد النبوي ــ منه، أي السماع وتوابعه، وعمل طعاماً فقط، ونوى به المولد، ودعا إليه الإخوان، وسلم من كلّ ما تقدّم ذكره، فهو بدعة بنفس نيّته فقط؛ إذ إنّ ذلك زيادة في الدين، ليس من عمل السلف الماضين، واتّباع السلف أولى بل أوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه؛ لأنهم أشدّ الناس اتّباعاً لسنّة رسول الله 2 وتعظيماً له ولسنته 2، ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك، ولم ينقل أحدٌ منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبعٌ فيسعنا ما وسعهم»([61]).
وقال الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز، في رسالته حول حكم الاحتفال بالمولد النبوي: «لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول 2 ولا غيره؛ لأنّ ذلك من البدع المحدثة في الدين؛ لأن الرسول 2 لم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا غيرهم من الصحابة ــ رضوان الله على الجميع ــ ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضّلة، وهم أعلم الناس بالسنّة، وأكمل حباً لرسول الله 2، ومتابعةً لشرعه ممّن بعدهم»([62]).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب: «اعتبرناها من البدع المنهي عنها؛ حيث لم يأمر بها الرسول، ولا فعله الخلفاء الراشدون، ولا الصحابة ولا التابعون»([63]).
وقال محمد بن جميل زينو: «الاحتفال لم يفعله الرسول 2 ولا الصحابة ولا التابعون، ولا الأئمة الأربعة، وغيرهم من أهل القرون المفضّلة، ولا دليل شرعي عليه»([64]).
ويُلاحظ عليه، أولاً: قد ذكر في محلّه أن عدم فعل المعصوم لا يدلّ على الحرمة، بل يدلّ على عدم الوجوب فقط؛ كذلك فعل المعصوم لا يدلّ على الوجوب بل يدلّ على عدم الحرمة فقط؛ لأنّ المعصوم لا يفعل الحرام ولا يترك الواجب، هذا في المعصوم فضلاً عن غيره، وقد حرّر بحث الترك تحريراً ما عليه مزيد العلامة الكبير المحقق السيد عبدالله بن الصديق الغماري الحسني في رسالة (حُسن التفهم والدرك لمسألة الترك) فلتراجع.
ثانياً: على فرض أنّ السلف لم يفعلوا بعض الأمور، ومنها الأعياد، غير الفطر والأضحى، فإنّ عدم فعلهم لا يضرّ مادام قد انعقد الإجماع بعد ذلك على إقامة هذه المواسم والأعياد، ولا سيما عيد المولد النبوي 2، وعمّ ذلك جميع قطاعات الأمّة صغيرها وكبيرها، عالمها وجاهلها، رئيسها ومرؤوسها، وقد استمرّ عمل الناس على هذه المواسم إلى ظهور ابن تيمية الذي أقام الدنيا وأقعدها، في إنكاره أموراً واضحة، وفي دعاواه العريضة، وهم قد صرّحوا بأن الإجماع معصوم، وبأنه يمكن انعقاده في كلّ عصر وزمان، ويكون حجّةً، بل قد صرّحوا بأن الإجماع نبوة بعد نبوّة، وليس لهم دليلٌ معصوم سواه، وقد جعله الله من الشريعة خَلَفَ النبوة([65]).
ثالثاً: إنّ قولهم: إن السلف كانوا أكثر حبّاً لرسول الله 2 منّا، ينافي قول النبي2: «إنه سيأتي أقوام يحبّونه أكثر من حبّ أصحابه له»([66]).
رابعاً: لا يلزم على السلف أن يعملوا بجميع المباحات أو حتى بجميع المستحبّات.
خامساً: إنّ السلف إذا تأولوا ــ خطأ ــ حديث: «لا تتخذوا قبري عيداً»؛ فامتنعوا من عمل الموالد والذكريات، فلو أدركنا نحن خطأهم في فهم النص أو في الاستظهار منه كان لنا مخالفتهم، بعد أن فرضنا أن باب الاجتهاد كان ولا يزال مفتوحاً، حسبما اعترف به ابن تيمية نفسه الذي حكم بالأجر لمن اجتهد في هذا الأمر وأخطأ.
سادساً: إنّ المانع هو الذي يحتاج إلى الدليل، أما الآخرون فلا يدّعون أن ذلك جزءاً من الشريعة ليصحّ الاحتجاج عليهم بفعل السلف، أو بعدم فعلهم، وإذا كان عمل السلف حجةً، وإن لم يكن المعصوم داخلاً فيهم، وكان عصرهم العصر الذي تنعقد فيه الإجماعات، وتصير حجةً وتشريعاً متبعاً.. وإذا كان يجوز اطراح القرآن، وكلّ ما قاله النبي 2 لمجرّد أنه انعقد الإجماع بعد عصر النبي 2 على خلافهم، إذا جاز ذلك كلّه فلقد سُبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب % على المنابر في جميع أقطار العالم الإسلامي من قبل وعّاظ السلاطين طيلة العشرات من السنين، ومن قبل العديد من الصحابة، فماذا يُقال في ذلك؟
سابعاً: إنّ عدم الدليل ليس بدليل، قال ابن القيم في هذا المعنى ــ حيث اعترض عليه في مسألة القراءة للأموات في كتاب (الروح) ــ ما نصّه: والقائل: إنّ أحداً من السلف لم يفعل ذلك، قائلٌ ما لا علم له به، فإنّ هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه، وما يدريه أنّ السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه.
* * *
الهوامش
([1]) اقتضاء الصراط المستقيم: 293 ـ 295.
([2]) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 1: 183.
([3]) اللجنة الدائمة من الفتوى، رقم 1774.
([4]) ابن فوزان، البدعة: 25 ـ 27.
([5]) المصدر نفسه: 28.
([6]) فتاوى منار الإسلام 1: 42.
([7]) قرّة العيون، كما في فتح المجيد: 154.
([8]) تعليق فتح المجيد: 154.
([9]) المستدرك على الصحيحين 3: 149.
([10]) صحيح البخاري 1: 9؛ وصحيح مسلم 1: 49؛ ومسند أحمد 3: 177.
([11]) سنن التزمذي 5: 644، 3789.
([12]) كنز العمال 12: 105، ح 34206.
([13]) تذكرة الخواص: 10.
([14]) المستدرك على الصحيحين 3: 161، ح12.
([15]) فتح الباري 1: 50 ـ 51.
([16]) صحيح البخاري 2: 17، كتاب الجنائز.
([17]) المصدر نفسه 2: 158 ـ 159.
([18]) المصدر نفسه 2: 158.
([19]) السيرة الحلبية 1: 58؛ ودحلان، السيرة النبوية 1: 21.
([20]) بلوغ المأمول في الاحتفاء والاحتفال بمولد الرسول 3.
([21]) الدر المنثور 4: 367.
([22]) تفسير روح المعاني 10: 141؛ وتفسير أبي السعود 4: 146.
([23]) صحيح مسلم 2: 819.
([24]) لطائف المعارف: 98.
([25]) صحيح البخاري 7: 215؛ وصحيح مسلم، 1130.
([26]) الحاوي للفتاوي 1: 196.
([27]) تحفة الأحوذي 1: 86؛ وسنن الدارمي 1: 26؛ والقاضي عياض، الشفاء 1: 408.
([28]) دلائل النبوة 5: 270.
([29]) السيوطي، الحاوي للفتاوي 1: 196.
([30]) أخرجه مالك في الموطأ 1: 108؛ والترمذي: 491، وقال: حسنٌ صحيح.
([31]) مسند أحمد 4: 24؛ وابن أبي شيبة، المصنّف 6: 180؛ والطبراني، المعجم الكبير 1: 842.
([32]) مسند أحمد 1: 306؛ ومسند الطيالسي، ح 2697.
([33]) تاريخ الخميس 1: 323.
([34]) السيرة الحلبية 1: 83 ـ 84.
([35]) المواهب اللدنية 1: 148.
([36]) المصدر نفسه: 27؛ والسيرة الحلبية 1: 83 ـ 84؛ ودحلان، السيرة النبوية 1: 24.
([37]) المدخل 2: 29 ـ 30.
([38]) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل: 175.
([39]) الحاوي للفتاوي 1: 189 ـ 197.
([40]) البداية والنهاية 3: 163.
([41]) الحاوي للفتاوي 1: 190.
([42]) الروائح الزكية: 33 ـ 34.
([43]) فتح المجيد بشرح عقيدة التوحيد، هامش صفحتي: 154 ـ 155.
([44]) اقتضاء الصراط المستقيم، هامش ص119.
([45]) محسن الأمين، كشف الارتياب: 103 ـ 106، بتصرّف وتلخيص.
([46]) ابن الحاج، المدخل 2: 2.
([47]) الحاوي للفتاوي 1: 190.
([48]) مسند أحمد 2: 246.
([49]) اقتضاء الصراط المستقيم: 313.
([50]) العظيم آبادي، عون المعبود 6: 32.
([51]) انظر: الأمين، كشف الارتياب: 449.
([52]) اقتضاء الصراط المستقيم: 294 ـ 196.
([53]) المصدر نفسه: 375 ـ 376.
([54]) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل: 53.
([55]) ابن فوزان، البدعة: 25 ـ 27.
([56]) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة أحد ح4043؛ وابن كثير في البداية والنهاية 2: 28.
([57]) شلتوت، الفتاوى: 88.
([58]) صحيح مسلم 1130؛ وصحيح البخاري 7: 215.
([59]) حكم الاحتفال بالمولد النبوي 1: 31، نقلاً عن الفتاوى الكبرى لابن تيمية.
([60]) اقتضاء الصراط المستقيم: 293 ـ 294.
([61]) المصدر نفسه 1: 31 ـ 32، نقلاً عن كتاب (المدخل) لابن الحاج.
([62]) حكم الاحتفال بالمولد النبوي 1: 57.
([63]) منهاج الفرقة الناجية: 55، عن مجموعة الرسائل والمسائل 2: 357.
([64]) منهاج الفرقه الناجية: 107.
([65]) راجع: ابن الجوزي، المنتظم 2: 210؛ والإحكام في أصول الأحكام 1: 204 ـ 205.
([66]) راجع: مجمع الزوائد 10: 66، عن أحمد والبزار والطبراني، عن أبي ذر. أبي هريرة عنه 3 وعن عمار بن ياسر، كنز العمال 2: 374 عن ابن عساكر، عن أبي هريرة.