أحدث المقالات

ترجمة: حيدر حب الله

المدرسة التفكيكية، المدخل التاريخي والأصولي ــــــــــ

ثمة مصادر ثلاثة لمعرفة الحقيقة، أو على الأقل هذا ما يدّعى، وهي: الوحي، والعقل، والشهود الباطني أو الكشف، وقد حفل التاريخ على امتداده بدراسات مكثفة وواسعة تتعلّق بإمكانية هذه المصادر وحجيّتها، فقد أنكر جماعة اعتبار المصادر الثلاثة وحجيتها معاً، فأنقصوها إلى مصدر واحد أو اثنين، فيما أقرّ بها جميعها جمع آخر، إلاّ أنّه تحدّث عن علاقتها بعضها ببعضها الآخر، من هنا ذهب جماعة من المفكّرين إلى اعتبار المصادر الثلاثة للمعرفة مترافقةً مع بعضها، يكمل بعضها بعضُها الآخر، ومن ثم يمكن تطبيق أحدها على البقية ليتأكّد التطابق المدّعى، وقد كان من بين هذا الفريق كل من ابن سينا, وشيخ الإشراق السهروردي، والملا صدرا، وابن رشد الأندلسي.

على الطرف الآخر، ذهب فريق آخر إلى إعلان الانفصال والتفكيك بين المصادر المذكورة، مدّعين أن كل مصدرٍ معرفي منفصل تماماً عن المصدر المعرفي الآخر، أو أنه لابد من أن نقوم نحن بهذا التفكيك، ومعنى ذلك أنه لا يصحّ توظيف مصدر منها مكان مصدر آخر؛ إذ ذلك ما يوجب الضياع والضلالة في الوصول إلى الحقيقة.

ويعدّ التيار الظاهري في الإسلام، والحركة التي أطلقها أبو حامد الغزالي (505هـ) ضدّ الفلسفة والكلام من نماذج تيار الفرز والتفكيك هذا، وتؤدّي هذه الرؤية لمصادر المعرفة غالباً إلى تعطيل واحدٍ منها أو تنحيته لصالح واحدٍ آخر.

لا نهدف هنا الحديث عن أصالة هذه المصادر الثلاثة، ذلك أننا نفرض هنا أصالتها، وحقانيتها، وإيصالها إلى الحقيقة، كما أننا لا نتناول فعلاً تنظيم هذه المصادر وترتيبها ضمن مسلسلٍ للأهمية، ذلك أن موضوعات من هذا النوع لابد أن توكل إلى مكان آخر، إنما نركّز جهدنا للإجابة عن السؤال التالي: هل يمكن ـ نظريّاً وعمليّاً ـ فصل المناهج الثلاثة عن بعضها أو لا؟ وهل يمكن الحديث عن فهمٍ للوحي دون الاستعانة بالعقل؟ وهل يتسنّى الحديث عن الوحي مع تعطيل العقل وجعله فداءً على مذبح الوحي أم لا؟

لقد ظهرت عبر التاريخ شخصيات وجماعات قدّمت جواباً إيجابياً عن هذه التساؤلات، واعتقدت أن الوحي يمكن فهمه والوصول إليه دون مدّ يد العون للعقل، بل لابد ـ من حيث المبدأ ـ تنحية العقل عن هذا الخط والمجال([1])، وقد تبدّى هؤلاء عبر التاريخ ضمن أشكال متنوّعة، مقدّمين رؤى وتصوّرات خاصّة، وفي أحدث صور هذا الاتجاه ما عرف في بلادنا (إيران) في العصر الحاضر بالمدرسة التفكيكية، وقد كان المشهد الذي قدّمه لنا الأستاذ محمد رضا الحكيمي عن هذه المدرسة بتقديم العقل القائم على البناء الديني الداخلي أقدر المشاهد على شرح هذا التمايز والانشطار الثنائي.

يعتقد الكاتب هنا أنه لا يمكن إيجاد حدود فاصلة ومعيّنة بين المصادر المعرفيّة الثلاثة، ليغدو كلّ واحدٍ منها منفصلاً تماماً عن الآخر، فقد خُلقنا نضع الأشياء جميعها على محكّ العقل ونعرضها في ميزانه، لتأخذ قيمتها واعتبارها بدعم منه نفسه، حتى الوحي لا يمكن أن يُقبل ما لم يقبله العقل، ولهذا لا يمكن حجب الوحي، والعقل، والشهود عن بعضها بالسُتُر والحجب، ليغدو كل واحدٍ منها متعلقاً بعالم مختلف عن الثاني، ودنيا متمايزةٍ عنه، وهذه الرؤية التي نحملها تخالف تماماً مذهب الذين يجعلون التفكيك بين الوحي والعقل والشهود ممكناً بل ضرورياً لازماً، من هنا، سوف نحاول نقل ــ ثم تحليل ــ مدّعيات التفكيكيين هنا، لوزنها وتحديد سليمها من سقيمها.

وحيث كانت أحدث أشكال التفكيك متجلّيةً اليوم في المدرسة التفكيكية (الخراسانية) المعروفة، فإننا نركز حديثنا على رصد أفكار هذه المدرسة، كما وحيث كان كلام الأستاذ محمد رضا الحكيمي أبرز منافحةٍ وأهمّ دفاعٍ عن هذه المدرسة، بل وأكثرها بسطاً وتفصيلاً، لهذا سوف نحاول الإرجاع إلى كتاباته ونتاجه، لكن قبل ذلك لابدّ لنا من تقديم صورةٍ تاريخية عن هذه المدرسة ورجالاتها.

المدرسة التفكيكية في مسارها التاريخي ــــــــــ

انبعثت المدرسة التفكيكية بوصفها تياراً دينياً ـ فكرياً عرفته العقود الأخيرة، من بلاد خراسان، وقد صنّفت من جانب معارضيها نحواً من الأخبارية الجديدة، وحركةً من الحركات المناهضة للعقل أو الفلسفة، أما مناصرو هذه المدرسة فلم يكتفوا بردّ هذه التهمة ونفيها فحسب، بل اعتقدوا أنهم يخدمون بمشروعهم هذا كلاً من الفلسفة والدين معاً، ذلك أنهم يشركون الاثنين معاً عبر تحديد نطاقهما ودائرة عملهما.

المؤسّسون أو الرعيل التفكيكي الأوّل ــــــــــ

تعود جذور هذه المدرسة إلى جملةٍ من تعاليم عددٍ من علماء الدين في القرن الأخير، ويذكر الأستاذ محمد رضا الحكيمي وجوهاً ثلاثة رئيسية، يراها أركاناً ثلاثة لها، وهي: 1 ـ السيد موسى الزرآبادي القزويني (1294 ـ 1353هـ). 2 ـ والميرزا مهدي الغروي الإصفهاني (1303 ـ 1365هـ)، 3 ـ والشيخ مجتبى القزويني (1318 ـ 1366هـ)([2]).

إلاّ أنّ الميرزا مهدي الإصفهاني يعدّ ـ من بين الثلاثة المشار إليهم ـ المؤسّس الحقيقيّ للقراءة التفكيكية، فقد قيل عنه: mالميرزا مهدي الإصفهاني مؤسّس هذه المدرسة، ومن تنبثق هذه الحركة الفكرية من رؤاه وأفكارهn([3])، وقد كان الإصفهاني معارضاً للفلسفة وللدراسات العقلية السائدة في المدارس الفلسفية في الحوزة، فاصلاً ما بين سبيل الدين وسبيل العقل الفلسفي، كما عدّ نفوذ التصوّف والفلسفة في العالم الإسلامي مؤامرةً هدفت إبعادَ الناس عن أهل البيت E، وقد صنّف الإصفهاني حركة الترجمات المشهورة مشروعاً مدروساً في هذا المجال: mإن المطّلع على سياسة الخلفاء يتضح له ـ مثل الشمس ـ أن علّة ترجمة الفلسفة اليونانية وترويج المذهب الصوفي المستقى من اليونان لم تكن سوى محاولةٍ للتغلّب على علوم أهل البيت E وقطع حاجة الناس إليهم، وذلك عندما فتحوا الباب على مصراعيه للمسائل كافّة أن يتحدّث فيها عبر منافذ الترجمةn([4]).

وقد تعدّى الإصفهاني ذلك إلى القول بأن سبيل الشرع مختلفٌ تماماً عن سبيل العقل البشري، ذاكراً أن القرآن المجيد جاء على أكمل وجهٍ وأتمّ بيان لهدم أساس العلوم البشرية وقلعها من الجذور([5]).

ويخرج الإصفهاني في نهاية المطاف بهذه النتيجة وهي: ليس هناك أيّ مشترك ما بين العلوم البشرية والعلوم الإلهية، والتي يَسِمُها بالعلوم الجديدة، ذلك أنّها مختلفة عن سنخ العلوم البشرية القديمة، مصنفاً ذلك الباب الأوّل من أبواب الهداية([6])، إنه يصرّ دوماً في مطاوي هذا الكتاب على هذا الفصل ما بين نوعي العلوم، فبعد نقله جملة موضوعات عديدة، يقوم الصفهاني بإجراء مقارنات، مدلّلاً على اختلاف سبيل الشريعة عن العلوم البشرية([7])، مؤكّداً أن العلوم البشرية تمثل عين الجهالة، وأظلم ما هناك من ظلمات([8]).

إنه يرى المنطق من هذا النوع أيضاً: mلا يقتصر فقط على مخالفة الموازين الفلسفية في كثير من الحالات، بل يتعدّى ذلك ليحجم عن الترحيب أو الملاطفة مع المعايير المنطقية نفسها، ليردّها ويرفضهاn([9])، ويواصل الإصفهاني مسيرته في مناهضة الفلسفة ليبلغ بها إنكار الاستدلالات المنطقية، معتبراً مبدأ العلية، الذي يعدّ أساساً لها، غير صحيح، بل باطل من أصله وجذوره، إنه يكتب في رسالة مصباح الهدى يقول: mلأن أكبر المقائيس وأحسنها قياس البرهان، وهو مؤسّس على العلية والمعلولية… والعليّة من أصلها باطلةn([10]).

والسبب الذي يدفع الإصفهاني لرفض قانون العلية أن لازمه اعتبار السنخيّة بين الخالق والمخلوق، وهو ينزّه الله تعالى عن نقصٍ من هذا النوع، mوالذي أوجبه إنكار هذا العالم المتقي قياسَ البرهان وقانون العلية أنه لم يكن قائلاً بالاشتراك المعنوي للوجود، وكان رافضاً لمختلف أشكال السنخيّة بين الخالق والمخلوقn([11])، إنه يعتبر أن استدلال إبليس لم يكن قياساً فقهياً بل قياس منطقي، mبل ذهب إلى أن ما ذكره إبليس عند تركه السجود… كان برهاناً منطقياًn، وينقل بعضهم عنه قوله: mأقول: وظاهرٌ أن قياس إبليس كان بصورة البرهانn([12]).

أمّا السيّد موسى الزرآبادي فكان هو الآخر من أركان هذه المدرسة وأعمدتها، فإضافةً إلى العلوم النقلية كان الزرآبادي من طلاب الفلسفة الإسلامية ودارسيها، بل كانت له نتاجات بادية في هذا المضمار، مثل حاشيته على منظومة السبزواري، وشرحه لـ (سلامان وأبسال) لابن سينا([13]).

أما الرجل الثالث الأكثر تأثيراً في هذه المدرسة، فكان الشيخ مجتبى القزويني، كان هذا الرجل مفسّراً للقرآن مشهوراً، وله تأثير راسخ على التفكيكيين المعاصرين، وقد انشغل القزويني أربعين عاماً في تدريس العلوم النقلية والعقلية في مدينة مشهد المقدّسة، مربياً فريقاً من التلامذة البارزين، mبيان الفرقانn أهم كتب القزويني، كتبه باللغة الفارسية في خمسة مجلّدات، وقد استوعب الكتاب مجمل الأصول العقائدية الدينية([14]).

وعلى غرار من سلفه، اعتقد القزويني أن طريق الدين مختلف تماماً عن طريق الفلسفة والعرفان، وهو انفصال كان له وجود في غابر الزمان أيضاً، يقول: mمن الواضح لأرباب الاطلاع الواردين طريق فقهاء آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين، وهم أنصار القرآن المجيد وأتباع سيد المرسلين، ممتاز منذ قديم الأيام عن طريق فلاسفة اليونان وعرفاء الصوفية، كما أنّ أتباع الفلسفة والعرفان مختلفون عن بعضهم البعض، فكلّ يرى طريقه الحق وسبيل غيره الباطل، ولم تكن لديهم مخاوف من مخالفة بعضهم بعضاً، ولهذا كان كل واحد منهم يتبرّئ من الآخر، إنها لمسلّمةٌ مخالفةُ سبيل القرآن والسنّة لطريق الفلسفةn([15]).

والجدير ذكره أن العلامة الطباطبائي يستعرض في تفسير الميزان، ضمن بحث حول منهج التفكير الذي دعا إليه القرآن…، يستعرض جملة إشكالات سجّلها أحد المعاصرين على المنطق اليوناني، ناقداً أفكاره وادعاءاته دون التعرّض لاسمه، والذي يبدو من خلال مقارنة ما جاء في تفسير الميزان وما أورد في كتاب بيان الفرقان، أن فرضية اعتماد العلامة على دعاوى كتاب بيان الفرقان تحظى باحتمالات أكبر([16]).

إلاّ أن نتاجات ومصنّفات هذه الفئة من رجالات التفكيك لم تعد متوفرةً اليوم، كما لا يرى لها طباعة محقّقة مصحّحة([17])، ولهذا كانت أفكارهم التفكيكية واصلةً إلينا غالباً عبر أقلام الآخرين وكلماتهم.

وإذا ما تخطّينا مؤسّسي المدرسة أو جيلها الأوّل، وبلغنا الجيل الثاني، وجدنا أبرز ممثل للمدرسة، بل واضع اسمها الجديد، متجلّياً في الأستاذ محمد رضا الحكيمي، فقد كان واحداً من طلاب حوزة مشهد العلمية، وتلميذاً مباشراً للشيخ مجتبى القزويني، حيث أخذ أصول المدرسة ومبادئها منه.

يعدّ الحكيمي عالماً بالأدب، والتاريخ، والدين، وذا اطلاعٍ واسع في هذا المجال، وقد نذر نثره السهل المنساب، وقلمه الرائع الجذاب ولسنوات طويلة للتعريف بالمدرسة التفكيكية وترويجها، وخلافاً لمؤسّسي المدرسة ممّن لا تشاهد مؤلّفاتهم في سوق الكتاب والنشر، كان الحكيمي مهتمّاً اهتماماً بالغاً بنشر مصنّفاته، منذ سنوات عديدة، فقد كان يشرف على طباعتها، ولهذا نجد مقداراً معتدّاً به منها اليوم منشوراً في الأسواق، حتى غدا غالب أصحاب القلم على اطلاع على نتاجاته، واستفادةٍ منها.

إن كثرة نتاجاته المدوّنة ـ حوالي ثلاثين مصنّفاً ـ لا تسمح لنا بالتغاضي عن عرض فهرس بأعماله هنا، إلاّ أنّ أهم آثاره الفكرية يتجلّى في مؤلّفاته التالية:

أدبيات وتعهد در إسلام (الأدب والالتزام في الإسلام)، إمام در عينيت جامعه، بعثت، غدير، عاشورا، شيخ آغا بزرك الطهراني، اجتهاد وتقليد در فلسفه، حماسه غدير، دانش مسلمين، تفسير آفتاب، خورشيد مغرب، سرود جهشها، فرياد روزها، قيام جاودانه، معاد جسماني در حكمت متعالية، هويت صنفي روحانيت، قصد وعدم وقوع، مكتب تفكيك، وفي النهاية: موسوعة الحياة التي تعدّ أهم أعماله وأوسعها، حيث صنفها بمساعدة أخويه([18]).

ويرتبط اسم المدرسة التفكيكية اليوم باسم الحكيمي، فقد نذر نفسه ووقفها للدفاع عن هذه المدرسة وشرح تصوّراتها وأفكارها، والمنافحة عن تعاليمها ومبادئها، وقد كانت المرّة الأولى التي كتب فيها الحكيمي مقالاً يحمل اسم: المدرسة التفكيكية، قد جاءت في شهرية: كيهان فرهنكي (العالم الثقافي)([19])، حيث سرد فيه أهم مبادئ المدرسة وأصولها.

وفيما بعد، اعتبر الحكيمي أن هدفه من وراء كتابة ذلك المقال تركّز في أمور ثلاثة: 1 ـ شرح التفكير التفكيكي. 2 ـ المصالحة بين الاتجاهين الفكريين: التفكيكي وغيره. 3 ـ التعرّض لذكر عدد من العلماء الربانيين التفكيكيين([20]).

وقد طبعت هذه المقالة ـ فيما بعد ـ مع شرحٍ وتفصيل أكثر في مجموعة mتاريخ وفرهنك معاصرn (التاريخ والثقافة المعاصرة)، على يد السيد هادي خسروشاهي، ثم طبعت في نهاية المطاف ضمن كتاب حمل عنوان: مكتب تفكيك (المدرسة التفكيكية)، في سلسلة مؤلّفات الأستاذ الحكيمي نفسه.

وعليه، يمكن اعتبار الحكيمي اليوم المدافع الرئيس والمنافح الأول عن المدرسة التفكيكية.

الصياغة الجديدة للمدرسة التفكيكية ــــــــــ

رغم أن الأستاذ الحكيمي كان يواصل بجهوده طريقَ مؤسّسي مدرسة التفكيك، ويعلن أن أفكاره مطابقةً لأفكارهم، إلاّ أن الذي يبدو لنا أنه أحدث درجةً من التغيير في مبادئهم وأساسيّاتهم، مقدّماً قراءةً جديدة عن المدرسة هذه المرّة، من هنا فما نعرفه اليوم باسم: المدرسة التفكيكية، لا يصحّ اعتباره مطابقاً ومماهياً لما قاله مؤسّسوها.

والذي يبدو أنّ ما يقدّمه لنا الحكيمي على أنه المدرسة التفكيكية يغاير ـ في الحدّ الأدنى ـ رؤى مؤسّسي المدرسة في مسائل رئيسية ثلاث هي: 1 ـ العلاقة ما بين الوحي والعقل والكشف. 2 ـ الاهتمام بالفلسفة والفلاسفة. 3 ـ البعد الاجتماعي ـ السياسي لمدرسة التفكيك.

1 ـ يذهب مؤسّس المدرسة التفكيكية إلى الانفصال الكامل ما بين الدين والعقل والعرفان، حتى أنه يركّز على المبدأ القائل بأنّ العلوم الإلهية إنما جاءت لاجتثاث العلوم البشرية([21])، وأنه لا سبيل إطلاقاً لمعرفة الله تعالى إلاّ عبر سبيل الوحي([22])، وأن نوعيّة العلوم الإلهية مختلفة ومتمايزة عن سنخ العلوم البشرية تمايزاً تاماً([23])، فالعلوم البشرية ـ بتمامها ـ جهالةٌ وظلام([24]).

أما الأستاذ الحكيمي،فهو يؤكّد ـ وهو يعرض هذا المبدأ ـ على الامتياز بين نوعي العلوم، كما سنرى لاحقاً، إلاّ أنه ربما ادعى أحياناً أن mالنسبة ما بين الفلسفة الإلهية الإسلامية والوحي القرآني ليست تبايناً كلياً، وإنما عدم التساوي الكليn([25])، وبهذا يظهر بوضوح هذا العدول الجليّ عن المبدأ الرئيس في المدرسة التفكيكية، مع الحكيمي نفسه.

2 ـ يعدّ المؤسّسون الأوائل لمدرسة التفكيك كلاً من الفلسفة والعرفان ظواهر خارجة تماماً عن الإسلام، ومغايرة للدين، وقد كانوا يذهبون إلى أنّهما إنما أتيا من اليونان، وأن الخلفاء سعوا إلى ترويج هذه العلوم لسدّ باب أهل البيت E، ومنع الناس عن الرجوع إلى آل الوحي([26])، ويعتقد الميرزا الإصفهاني أن هذه الدوافع الخاطئة شاهد على عدم صحّة الفلسفة والعرفان، كما ينقل ـ بعد قوله هذا ـ قصةً معارضة للفلسفة، تتضمّن حديثاً عن المأمون العباسي، وأنه حيث أراد توقيع اتفاق صلح ووقف إطلاق نار مع ملك قبرص، طلب منه الكتب اليونانية، وقد كانت هناك في خزانة هذا الملك مجموعةٌ من هذه الكتب لم يكن لأحد طريقٌ إليها، وبعد طلب المأمون، تشاور الملك مع المقرّبين منه في الموضوع، وقد خالف الجميعُ إرسال هذه الكتب إلى المسلمين، باستثناء قسّيس واحد اقترح على الملك إرسالها إليهم، قائلاً: إن هذه العلوم لا تغدو شرعيّةً في دولةٍ إلاّ بعد أن تُفسدها وتوقع الفُرقة والاختلاف بين علمائها([27]).

ثم ينقل الإصفهاني بعد ذلك أحاديث من هذا النوع، لا تخلو قراءتها من طرفةٍ ولطافة، إلاّ أن المدرسة التفكيكية الأولى على أي حال لم تكن ترى للفلسفة ولا العرفان أية قيمةٍ أو اعتبار، بل كانت تعتبر العرفاء والفلاسفة مدّعينَ الاستغناءَ عن أهل البيت E.

وفي هذه النقطة أيضاً، نلاحظ امتياز الحكيمي في قراءته للمدرسة التفكيكية، فقد أكّد في مواضع مختلفة على أنّ الفلسفة والعرفان يملكان قيمةً واعتباراً ومكانة، وأن المدرسة التفكيكية لم تكن بصدد رفضهما رفضاً مطلقاً، إنما طالبت بوضع حدود لهما وتعيين هذه الحدود تعييناً دقيقاً، mإنّ المدرسة التفكيكيّة تكرّم الفلاسفة والعرفاء، لكنّها لا ترى موضوعات الفلسفة والعرفان متطابقةً تماماً ـ ومائة في المائة ودائماً في كل الموضوعات والمسائل والموارد ـ مع أسس الوحي وبناءاتهn([28])، بل يرى الحكيمي ضرورة مطالعة الفلسفة ودرسها في بعض الحالات، ولبعض الأشخاص، وضمن ظروف وشرائط خاصّة([29])، محاولاً تقديم تصوير تفكيكي عن الملا صدرا، ليدّعي بعد ذلك أنه ـ أي الحكيمي ـ حرّره (أي الملا صدرا) من التكفير عبر ذلك([30]).

وإضافةً إلى ذلك كلّه، يدعو الحكيمي في مقالته حول الاجتهاد والتقليد في الفلسفة إلى ضرورة التجديد، معتبراً أن احترام الفلسفة والفلاسفة يجب أن يصاحبه إعادة نظر في محتوى الفلسفة الإسلامية من جهات ثلاث هي: 1 ـ النقد. 2 ـ التجديد. 3 ـ التكميل([31])، وقد تحدّث الحكيمي في مقالته هذه عمّا اعتبره  mالفلسفة الحيوية المتجدّدة الحراكيةn([32]).

من هذه الجهة نلاحظ أيضاً أن الحكيمي يعدل عن الأصل الأصيل القاضي بمخالفة الفلسفة، مما كان أخذ به مؤسّس هذه المدرسة نفسها، ولهذا وجدناه يعيد النظر في مبادئ المدرسة وأصولها، ومن الجدير ذكره أن موقف الحكيمي من المسألتين المشار إليهما أعلاه لم يكن واحداً ومستقرّاً، بل وجدنا فيهما تأرجحاً، يُشار إليه في محلّه.

3 ـ إلاّ أن الامتياز الهامّ في الصياغة الجديدة لهذه المدرسة تمثل في إيلائها الاهتمام بالأبعاد السياسية والاجتماعية، فهذا العنصر الذي لم نلحظ له وجوداً في نتاجات مؤسّس المدرسة غدا مع الحكيمي العنصر المحوري الرئيس، إنه يؤكّد دوماً على أهمية البعد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي للمدرسة التفكيكية، ويقول: mحيث كانت المدرسة التفكيكية قائمةً على الأصول المفتاحية والأسس الرئيسية للتعاليم القرآنية وتعاليم الأوصياء، لهذا فهي تطرح موضوعات هامّة وحياتية، سياسية، ومجتمعية، واقتصادية، وتربوية، وهي موضوعات لا يمكن من دونها تحقيق المجتمع القرآني البنّاءn([33])، ولعلّ هذا البعد الاجتماعي في المدرسة هو ما شدّ الآخرين نحوها واجتذبهم.

وعلى أية حال، فالصياغة الجديدة للمدرسة التفكيكية في النقاط الثلاث المشار إليها تختلف عن الصياغة التي قدّمها مؤسّسو المدرسة أنفسهم، إلاّ أننا ـ مع ذلك ـ سوف نأخذ في دراستنا هذه بصياغة الأستاذ الحكيمي، لنجعلها مركزاً لبحثنا ومادّةً لقراءتنا.

ما هي المدرسة التفكيكية ؟ ــــــــــ

يقول الأستاذ الحكيمي حول التسمية التي حملتها المدرسة التفكيكية: mلقد اقترحت في كتاباتي منذ سنوات سبقت، استخدام مصطلح mالمدرسة التفكيكيةn للإشارة به إلى البناءات المعرفية والعقدية لمدرسة خراسان، وقد قمت فعلاً بعد نحت المصطلح باستخدامه أيضاًn([34])، وعليه فهذا الاسم مدين للحكيمي، أخذ شهرته من اقتراحه.

ويوضح الحكيمي نفسه معنى المصطلح الذي نحته بالقول: mالمدرسة التفكيكية مدرسةٌ تذهب إلى الاعتقاد بفصل مناهج المعرفة الثلاثة، والمدارس المعرفية الثلاث التي شهدها تاريخ المعرفة والتأمّلات البشرية والتفكير الإنساني، وهي: المنج القرآني، والمنهج الفلسفي، والمنهج العرفانيn([35]).

ويذهب الحكيمي إلى الاعتقاد بأن التاريخ البشري عرف على الدوام اتجاهات معرفية ايبستمولوجية ثلاثة، وأن الوصول إلى الحقيقة إنما يكون عبر هذه الطرق، وهذه الاتجاهات هي:

1 ـ الاتجاه الوحياني (الدين ـ القرآن).

2 ـ الاتجاه العقلي (الفلسفة ـ البرهان).

3 ـ الاتجاه الكشفي (الرياضة ـ العرفان)([36]).

إن ما نسمّيه: المعرفة البشرية إنما يقوم على واحد من هذه المناهج الثلاثة أو على تركيب منها، ولكل واحدٍ من هذه المناهج أصول وقواعد خاصّة به، والمشكل الأساس إنما يظهر عندما يقوم شخصٌ ما بإحلال أحد هذه المناهج محلّ الآخر أو يقوم بخلطها والمزج بينها، فعلى سبيل المثال، قد يقوم فيلسوفٌ يبتني عملُه الفلسفي على العقل بسلوك سبيل العرفان؛ لكي يثبت رأيه أو يؤكّد قوله.

ثمّة من عرفته ثقافتنا يمكن القول: إنهم مارسوا شيئاً من هذا النوع، دون أن يروا في عملهم هذا إجراءً خاطئاً، بل اعتبروه ـ على العكس تماماً ـ شرطاً لازماً وضرورياً لفهم الحقيقة ووعيها، ولكي نقدّم عينةً من هذا الفريق يمكن ذكر اسم شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي، حيث اعتمد منهجاً خلط فيه وركّب بين العقل والكشف، إلاّ أن هذا الفعل بالغ الخطأ من وجهة نظر المدرسة التفكيكية، بل يمثل ـ برأيها ـ أساساً ومنطلقاً لأخطاء أخرى، من هنا كان هدف المدرسة التفكيكية ـ كما يقول الحكيمي ـ: mتأصيل المعارف القرآنية وتصفيتها، وتكوين فهم لها خالصٍ بعيد عن التأويل والمزج والخلط مع الأفكار والنحل الأخرى، وبعيدٍ أيضاً عن ممارسة أشكال التفسير بالرأي، أو إخضاع النصّ وإسقاط الرؤى الشخصيّة عليه، وذلك بغية حفظ حقائق الوحي وأصول العلم الصحيح مصونةً، دون خلطها أو شوبها بمعطيات الفكر الإنساني والذوق البشريn([37]).

ويمكن القول ـ نتيجةً ـ: إنّ للمدرسة التفكيكية هدفين أساسيين، أحدهما: تفكيك الاتجاهات المعرفية البشرية، ووضع حدود فاصلة بينها، وثانيهما: وهو الأهم، بيان المعارف القرآنية وتقديم قراءةٍ لها وتفسير، من هنا لا ينبغي حصر أهداف المدرسة التفكيكية بممارسة تفكيكٍ ما فحسب، فالوظيفة الأخرى لها تكمن في تقديم قراءة للدين لم ينلها عبر الزمن سوى الطمر والكتمان أو التحريف والتشويه.

يقول الحكيمي: mولا بد لنا هنا من مزيد توضيح نراه لازماً، لابد لنا أن نضيف: إن هذه المدرسة لا يقتصر نشاطها على ممارسة فصل وإحداث قطيعة بين الاتجاهات المعرفية الثلاثة، بل لها بُعد آخر، ألا وهو تقديم شرح خاص للمعارف الأصلية الصافية للقرآن، دون أيّ مزج، أو التقاط، أو خلط، أو تأويل من نوع التأويلات التي نعرفها، وهذا هو الجوهر النهائي للمدرسة برمّتهاn([38]).

وعليه، تنطلق المدرسة التفكيكية من ضرورة تفكيك المساحات المعرفية من جهة، وعرض المعارف الدينية بشكل مناسب وصحيح من جهة أخرى، وطبقاً لذلك يمكن اعتبار جوهر هذه المدرسة ـ ولبّها وروحها ـ كامناً في تفكيك معطيات الوحي عن تلك المعطيات الإنسانية الأخرى، ومعنى ذلك وجود امتياز ما بين نوع المعطيات التي يتوصل إليها البشر بما هم بشر، ونوع المعطيات القادمة إلى البشر من عند الله تعالى، أي اختلاف النتاج البشري عن نتاج الوحي اختلافاً حاسماً مؤكّداً.

إن هذا المنحى الذي تتّخذه المدرسة التفكيكية يقف على النقيض تماماً من المنحى الذي يذهب أصحابه إلى القول بوحدة المعطيين: البشري والإلهي، مثل بعض الفلاسفة المسلمين ممن لا يرى فرقاً بنيوياً بين المعطيات الإنسانية والإلهية.

مع ذلك كلّه، نجد أن الهدف الرئيس للمدرسة التفكيكية ينبني على أصول ومبادئ عديدة، يجدر بنا رصدها، ونراها بحاجة إلى بحث ومتابعة.

مبادئ المدرسة التفكيكية ــــــــــ

يعدّد الحكيمي بعض المبادئ الرئيسية لمدرسة التفكيك، ويصرّح بها دون مواربة، وبعض هذه المبادئ هو:

1 ـ القطيعة والانفصال ما بين الفلسفة، والعرفان، والدين([39]).

2 ـ أصالة المعرفة الدينية ,وأفضليتها.

3 ـ قيام المعرفة الدينية على القرآن والحديث.

4 ـ الاعتماد على ظاهر الآيات والروايات.

5 ـ رفض مختلف أشكال التأويل.

1 ـ القطيعة بين الفلسفة، والعرفان، والدين ــــــــــ

تنبعث المدرسة التفكيكية من هذا المبدأ الأول، إذ يرى أنصارها أن البشر يسلكون سبلاً ثلاثة لبلوغ الحقائق وهي: سبيل الوحي، وسبيل العقل، وسبيل الكشف، وهذه الطرق الثلاثة متمايزة عن بعضها بعضاً، كما ومنفصلة كذلك، سواء من حيث المصدر أو من حيث المنهج والآليات، ويصرّح الحكيمي بأن وجود سبل ثلاثة للمعرفة لا يعني احتقار أو تقزيم الجهود المختلفة في المجالات المتعددة، إن رجال المدرسة التفكيكية يصرّحون بذلك، ويرون أنّ مرادهم الالتفات جيداً إلى عدم خلط المناهج الثلاثة ببعضها، فالجهود التي بذلها جمع من الفلاسفة ـ كابن رشد ـ لتفسير الدين وفقاً للعقل، وإثبات أن ما جاءت به الشريعة هو عين العقل، وأنه يمكن الوصول إليه عبر العقل الإنساني.. هذه الجهود كانت خطأ، إن هذه الجهود التي قام بها بعض الفلاسفة المسلمين لا تخدم الفلسفة ولا الدين، mإن هذا اللون من التفكير ليس حكراً على أصحاب المدرسة التفكيكية، فأهل النظر والاطلاع يدركون أن الدين ـ من حيث منطلقه وماهيّته ـ شيء، فيما الفلسفة شيء آخر، والعرفان شيء ثالثn([40]).

لكن لا ينبغي أن يتصوّر أن امتياز الدوائر الثلاث المشار إليها يعني تضادّها أو تباينها الكلّي، فحديثنا هنا عن امتيازها في المنهج والمصدر، دون ما يمنع عن تلاقيها في الأهداف، من هنا يقول الحكيمي: mإن الهدف الذي تنزع نحوه الاتجاهات الثلاث: (الدين، الفلسفة الإلهية، العرفان) واحد، أي أن جميعها يطلب الله تعالى ويهدف كشفه والتعريف به، إلاّ أن النتائج لا تتّسم بالوحدة، فقد تكون مختلفةً، بل ـ وأحياناً ـ اختلافاً بنيوياً وأساسياً، من هنا، فالمدرسة التفكيكية لا تعتقد بالتباين الكلي ما بين الدين، والفلسفة، والعرفان، إلاّ أنها تنفي ـ في الوقت عينه ـ تساويها الكلّي وتطابقها التامn([41]).

ومن الواضح، أنّ هذا الملحق التوضيحي الذي ذكره الحكيمي مختلفٌ تمام الاختلاف عما كان الميرزا مهدي الإصفهاني حدّث به من التباين الكلّي، من هنا ينظر التفكيكيون إلى المساعي التي بذلها أمثال ابن رشد، وابن سينا، والسهروردي، والفارابي، والكندي، والقاضي سعيد القمي، والملا صدرا و.. ينظرون إليها مساعي مخفقة غير مجدية،إنها تلك المساعي الهادفة لتقريب الدوائر الثلاث من بعضها وإيقاع الألفة فيما بينها.

2 ـ أصالة المعرفة الدينية وأفضليّتها ــــــــــ

المبدأ الثاني المعترف به في هذه المدرسة، الاعتقاد بأن سبيل الدين والمعارف الناتجة عنه تتسم بالأصالة والأفضلية، يقول الأستاذ الحكيمي في هذا المضمار: mإن هذا الأمر لا أظنه بحاجةٍ إلى توضيحn([42]).

ولكي يثبت الحكيمي هذا المبدأ ينقل كلمات عدّة عن الإمام علي A والإمام الصادق A، وكذلك عن بعض الفلاسفة مثل الكندي، ومير فندرسكي، ثم يستعين بالعقل نفسه لإثبات المبدأ عينه، فيقول: mما هو الحكم الذي يصدره العقل هنا؟ الأخذ بالمعارف المستمدّة من الوحي، والمنزّهة عن الخطأ، أم تعلّم تلك المنبثقة عن المصادر الفلسفية المشوبة بالاختلافات العالقة التي لا حلّ لها (كما يقول الخواجة نصير الدين الطوسي) أو المشوبة بالخطأ (كما يقول مير فندرسكي)؟n([43])، وعليه، فسبيل الدين هو السبيل الأفضل، وصاحب كلمة الفصل ما بين السبل المعرفية الثلاثة.

3 ـ قيام المعرفة الدينيّة على القرآن والحديث ــــــــــ

تتمثل النتيجة التلقائية للمبدأين: الأول والثاني في ضرورة توظيف الدين نفسه لفهم مسائله، والرجوع إليه لوعيه، فإذا كان للدين سبيلٌ خاص متمايز عن سبيل العقل والكشف غير متطابق معهما، وإذا كان هذا السبيل الديني هو السبيل الأفضل من بين السبل المعرفية الأخرى، إذاً، فلا يمكن الرجوع ـ لفهم الدين ـ إلى غيره، فللدين أصول وقواعد، إنه يملك اكتفاء ذاتياً وقيامةً خاصة، mنعم، المعرفة الدينية مكتفيةn([44])، وهذا معناه أن إثبات القضايا الدينية وكذلك الدفاع عنها لا يحتاج إلى أيّ معيار من خارج النطاق الديني نفسه، وعليه، فالقرآن والحديث هما المصدران الوحيدان لفهم الدين، لا غير.

4 ـ الاعتماد على ظاهر الآيات والروايات ــــــــــ

ومن المبادئ التفكيكيّة الأخرى الاعتقاد بأنّ لغة الدين لغةٌ واضحة بعيدة عن ألوان التعقيد والعُسر اللغوي والبياني واللفظي، وهذا معناه ـ بحسب النتيجة ـ عدم حاجة هذه اللغة إلى ألوان التأويل والتفسير، إن المدرسة التفكيكية تعتقد بأن حجيّة الظواهر أصل عقلائي اعتمده القرآن وقَبِل به، mإن حجيّة الظواهر تكتسب في مجال العقيدة والأحكام الشرعية أهميةً استثنائية، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال التخلّي عن الظاهر، (أي التخلّي عن ذاك الطريق العقلائي الذي جرى عليه الشرع وتحدّث وفقاً له)، اللهم إلاّ ذاك الظاهر الذي يقف في قباله برهان بديهي، لا نظري يمكن أن يقع في مقابله تماماً برهان نظري آخرn([45]).

لقد بُيّنت الحقائق الدينية بلغةٍ عقلائية، وقد قامت هذه اللغة ـ بالدرجة الأولى ـ على أساس حجية الظهور، ولا يمكن إطلاقاً التخلّي عن هذه الحجية، ما لم يكن هناك نصّ أقوى ظهوراً ودلالةً من الأوّل، ولهذا يمكن للناس، حتى لو لم يدرسوا الفلسفة ولم يكونوا من أهل العقل والمعقول، أن يفهموا ـ وببساطة ـ الحقائق الإيمانية، وهذا الفهم الساذج البديهي كافٍ لوعي المعارف الدينية، يقول الحكيمي: mعموم المتديّنين ـ على طريقتهم في الإدراك الديني والفهم الفطري ـ تفكيكيّون، وما لم يتدخّل أحد في تفكيرهم فهم معتقدون بما يقوله أصحاب مدرسة التفكيك، أي أنهم يبحثون عن العقائد الدينية الخالصة في النصوص الدينية القرآنية والحديثية، ويعتقدون بما توصّلوا إليه، وإذا كانت لديهم نسخةٌ مترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة الفارسية فإنهم يعتقدون بما يقرأونه منها، دون أن ينجرّ تفكيرهم إلى ممارسات تأويليةn([46]).

5 ـ رفض مختلف أشكال التأويل ــــــــــ

إنما نحتاج التأويلَ عندما يكون النصّ غير مفهوم أو غير منسجم مع بعض المبادئ والأصول، أما إذا كانت لغة الدين وآياته ورواياته واضحةً، دالّةً، معبرّةً، فصيحة، وكانت المفاهيم الدينية مستغنيةً عن ممارسة تبريرات من خارجها، وتتحدّث عن صوابها وحقانيتها… فلا حاجة بعد ذلك إلى التأويل، إن علينا أن لا ننسى أن أكثر التأويلات القرآنية والحديثية إنما كانت لأجل تطبيقها على قضايا أخرى، ولهذا فإن قبلنا بالمبادئ العليا فلن يكون لنا بعد ذلك أيّ حقٍ في التأويل، mوعليه، لن يبقى أي مجال للتأويل أو الاستنتاجات العندية، أما من الناحية الشرعية فقد ورد أيضاً المنع عن تأويل الآيات والروايات، ذلك أن التأويل تعبير آخر عن كمّ أفواه المتكلّمين، ثم الحديث عن عقيدة المؤوّل على لسان المتكلّم نفسه، وهو أمرٌ غير جائز، لا عقلاً، ولا شرعاً، ولا وجداناً، اللهم إلاّ إذا كنا أمام برهان بديهي المادة والإنتاج كما أشرنا من قبل، ولم يقدّم ـ حتى الآن ـ أيّ ظاهر شرعي يقف أمامه برهان من هذا النوعn([47]).

والمراد بالبرهان البديهي عند الحكيمي: mأن تكون هيئة البرهان من الشكل الأول، كما تكون مادة المقدّمتين من اليقينيات البديهيات غير المحتاجة إلى برهان، مثل الواحد نصف الاثنينn([48]).

إن التأويل ـ أيّ تأويل ـ حجابٌ يلقى على مقالة الدين، لهذا ينبغي الابتعاد عنه وتجنّبه، mفكتاب الله وحده ـ فقط فقط ـ هو الكتاب الخالص البعيد عن مختلف أنواع التعرية، والتأويل، والتبديل، والتعليل، والتطبيق، والتحريف، والتغيير، والتفسير بالآراء والأقوالn([49]).

إلاّ أن الحكيمي لا يغيب عن نظره هنا عُسر بل عدم إمكان الالتزام بهذا المبدأ، لهذا يقول ـ مستدركاً على القاعدة الكلية التي أبداها آنفاً ـ: mنعم، إن التعبير بـ mرفض مختلف أشكال التأويلn في المبدأ أعلاه، يحتوي على نوع من المسامحة، ذلك أنه عند يبدو لنا تأويل اقتضته الضرورة العقلية أو النقلية، أو مطلق التأويلات الإسنادية والأدبية، مثل: mوجاء ربكn فإننا نقبله ونقرّ به، ذلك أن هذا النوع من التأويل ليس من تلك التأويلات الفلسفية والعرفانية والعصرية التي تحدث انقلاباً في بناء المراد القرآني برمّته، وتكون منسجمةً مع الموازين الخاصةn([50]).

كانت هذه أهم مبادئ هذه المدرسة، أما سائر الأصول المذكورة لها فلا تعدو أن تكون فروعاً ونتائج لهذه المبادئ، مثل مبدأ اعتماد العقل على النقل([51])، ومبدأ تقديم الدين على العقل عند التعارض([52]).

وعليه، يعتبر المذهب التفكيكي نفسه الممثل الحقيقي للإسلام، وأن من لا يتبع هذا المذهب يبتعد عن الإسلام تبعاً لابتعاده عن تعاليم المدرسة التفكيكية، أي ثمة تناسبٍ ما، إن أصحاب هذه المدرسة ورموزها يذهبون ـ بطرحهم هذه المبادئ ـ إلى وحدة تعاليمهم مع التعاليم الإسلامية، وتطابقها تطابقاً تاماً، فالأستاذ الحكيمي يعلن ـ وبصراحة ـ عينيّة الإسلام والمدرسة التفكيكية، فيقول في هذا المجال: mإن واقع الحركة التفكيكية مساوٍ للإسلام ومظاهره وتجلّياته، أي للقرآن والحديث، للكتاب والسنّة، للمعارف القرآنية وتعاليم أهل البيت E، وبكلمة مختصرة: كلّ ما استفيد من الثقلين (ميراثي النبي) دون أيّ اقتباسٍ من أحد أو مذهب، ودون حاجة لأيّ فكر أو نحلة، هذا ولا غير، وهذا هو مقتضى المعرفة الأخلاقية والقرآنية المستقلّة المبنية على الفطرة، والقائمة على أسس الاعتقادات الإيمانية لدى المؤمنينn([53]).

لقد أدّت هذه النزعة داخل المدرسة التفكيكية إلى انبثاق حركة نقدية ضدّها، فالذين اعتبروها مناهضةً للعقل، والفلسفة، أو منسجمةً مع الاتجاه الكلامي للمتكلّمين، انطلقوا في قولهم هذا من أخذ هذه المدرسة بالمبدأ المشار إليه، يقول الدكتور ديناني: mلقد اقترب التفكيكيون من المواقف الكلامية في كثير من المواضع، بل قاموا بتكرار كلماتهم، ويمكن لنا من باب المثال الإشارة إلى مسألة الوجود الذهني، والتحقق الكلّيn([54]).

وهكذا ذهب فريق آخر إلى القول بأن رأس حربة الحملات والهجمات التي شنّتها هذه المدرسة كان متوجهاً ناحية كلٍ من صدر الدين الشيرازي ومحيي الدين بن عربي، mإن إشكالات المدرسة التفكيكية كانت مركّزةً في الغالب على أفكار صدر المتألهين الشيرازي وابن عربيn([55]).

فريق ثالث اعتبر المدرسة التفكيكية اتجاهاً أخبارياً، ذاهباً إلى أن تعاليمها تهدف إلى تقوية الحركة الأخبارية ورفض العقل واستبعاده، إلاّ أن الأستاذ الحكيمي وضع فرقاً بين الأخبارية المعروفة والميل ناحية الأخبار واعتمادها، لقد اعتبر نفسه رجل الروايات، لا رجلاً أخبارياً، إنه يرى: mأن المدرسة الأخبارية (والتي يمكن اعتبارها بمعناها المتداول اليوم نزعة خبرية قوية) ليست اتجاهاً كلامياً أو عقدياً، بل مدرسة تقوم بشكل رئيس على مجال الفقه والأحكام الفقهيةn([56])، من هنا يذهب الحكيمي إلى رفض الاتجاه الأخباري الذي يرى فيه نتائج غير صحيحة([57])، فيما يرى الاتجاه الصحيح كامناً في المنهج النازع للأخبار mوالمبتني على الاجتهاد والتفقه في الروايات، والاستقلال في الفهم والتأمّل العقلي، وقبول الاستدلالات الكلاميةn([58]).

إنّ مقالة الحكيمي حول الأخبارية والنزعة الخبرية المتمحورة حول الروايات كانت محاولة جاهدة لوضع فواصل وحدود تفرّق بين المنحيين، إلاّ أن تحديد مدى نجاح أو عدم نجاح الحكيمي في محاولته هذه يبقى خارجاً عن إطار دراستنا هنا.

المدرسة التفكيكية، قراءة تحت المجهر ــــــــــ

لا نهدف في هذه الدراسة ممارسة متابعة تفصيليّة لمبادئ المدرسة التفكيكية، وإنما الإشارة إلى النواقص والثغرات التي تعاني منها هذه المبادئ من الناحيتين النظرية والعملية، بمعنى أنّها غير قابلة نظرياً للإثبات، كما أنه لا يمكن الاستناد إليها عملياً، [ونكتفي فعلاً بالرصد النظري للمدرسة، تاركين مجال النقد العملي إلى فرصة أخرى].

النقد النظري لأساسيّات التفكيك ــــــــــ

تتعرّض المبادئ المشار إليها أعلاه من الناحية النظرية والمعرفية إلى ملاحظات ناقدة متعدّدة الجهات، إلاّ أنه وحيث لا يسمح المجال بالاستعراض الشامل، نكتفي هنا بجملة ملاحظات رئيسية حولها.

1 ـ العلاقات بين المصادر المعرفية وأزمة التحديد ــــــــــ

إذا لم تكن هذه المسارات المعرفية الثلاثة متباينةً تبايناً كلياً ـ كما هو المعترف به عند التفكيكيين ـ فإن النتيجة المنطقية المترقّبة حينئذٍ أنها سوف تكون متداخلةً في بعض الحالات، فإذا ادّعي أن هذه الثلاثة منفصلة عن بعضها انفصالاً تاماً ومطلقاً، فلا يمكن بعد ذلك الحديث عن أي تداخل أو تقاطع، أمّا إذا أقررنا بعدم وجود تباين كلّي، فهذا معناه اعتراف ضمنيّ منّا بتلاقي هذه الثلاثة في بعض المواضع هنا أو هناك.

إن الجهود التي بذلها الملا صدرا، وابن رشد، وابن سينا، وابن عربي إنما تركّزت على تعيين تلك المواضع التي تلاقت فيها الاتجاهات الثلاثة، أمّا أنه إلى أيّ حدّ نجح هؤلاء في خطوتهم هذه؟ فهذا أمرٌ آخر، فالحديث منحصر هنا فقط في مبدأ تداخل الثلاثة وعدمه، وجهود المذكورين إنّما جاءت لكشف مواقع التداخل هذه، وهي جهود مشكورة مقدّرة، لكن ما أكثر ما أخفقت في تحديد المطلوب أو الوصول إلى الهدف المنشود.

إنّ على التفكيكيين أن يدلّلوا على أن الثلاثة إذا لم تكن على تباين كلّي فهي ليست على تساوٍ كذلك، إذن أين حصلت القطيعة والانفصال؟

إن بين الثلاثة ـ كما في الاصطلاح المنطقي ـ نسبة العموم والخصوص من وجه، إن هذه المسؤولية تقع على عاتق رجال المدرسة التفكيكية، إلاّ أنهم لم يقوموا بخطوةٍ في هذا المضمار.

ولو سلّمنا بوجود اختلاف بنيوي بين العقل والدين، وبين المعطيات السماوية والإنسانية، إلاّ أنه لو ادعى شخص امتلاك تمام المعطيات البشرية جذوراً في الوحي الإلهي، ثم قام بإنزال الوحي بجعله وديعةً عند الإنسان مسمّاةً بالعقل، وإذا كان الأنبياء عقولاً ظاهرة فيما العقول أنبياء باطنيون… إذا كان ذلك كلّه، فإن التقسيم المذكور في كلمات التفكيكيين سوف يتلاشى تماماً.

والجدير ذكره هنا أن هذا الإشكال يمكن أن يرد على أمثال الأستاذ الحكيمي ممّن لا يعتقدون بالتباين الكلّي، أما أمثال الميرزا مهدي الإصفهاني ممّن يتحدّثون عن تباينٍ مطلق فهم غير معنيين برسم الحدود والمساحات إطلاقاً.

2 ـ مسألة العلم الديني الخالص ــــــــــ

هل يمكن تكوين علم ديني محض بعيداً عن الدائرة العقلية وبدون حاجة إلى النتاجات البشرية؟ إن جواب المدرسة التفكيكية عن هذا السؤال إيجابيّ، فالحكيمي يعتقد أن الفقه يمثل عينةً من العينات الدالّة، mفالفقهاء الكبار أتوا بمدرسة فقهية إسلامية خالصة، ففي كتابٍ مثل mشرائع الإسلامn حصل مثل ذلك دون أن يمدّ الفقهاء أيديهم ناحية ما هو موجود عند النحل والمذاهب الأخرىn([59]).

لكن السؤال: هل يعدّ علم الفقه ـ واقعاً ـ علماً خالصاً، لا يستفاد فيه من أيّ من النتاجات البشرية المتنوّعة؟ هل يمكن تأسيس علم الفقه اعتماداً ـ فقط وفقط ـ على القرآن الكريم والأحاديث المتوفرة؟ إن قليلاً من التفكير المركّز في هذا الموضوع يجعلنا نخرج بنتيجة سلبية.

وقبل هذا بكثير، كان الشهيد مرتضى مطهّري قد صرّح بهذا الأمر بوضوح، لقد ادعى المطهري mأننا لو كنا لوحدنا مع عشرين حديثاً بديهياً عن الرسول
الأكرم 2 لوقعنا في مشكلة، أي أننا لو أردنا استنباط الأحكام وفهمها اعتماداً على ظواهر القرآن وعشرين حديثاً للنبيّ لما تسنّى لنا الخروج بفقه بهذه السعة والرحابةn([60]).

لا نتحدث هنا عن مقدار ما عندنا من أحاديث، فحتى لو توافرت لدينا آلاف الأحاديث لا يمكن أيضاً بناء نظام فقهي، إن المطهري يثير هذا الموضوع في سياق حديثه عن أسباب نزوع جماعةٍ ناحية الأخذ بمقولة القياس، إلاّ أن هذه القاعدة تصدق أيضاً على كل من يدّعي وجود فقه خالص صافي، فالأحاديث وآيات الأحكام كلّها تؤمن مجرّد مواد خام وأولية للفقه، وهي مواد يفترض أن تتحوّل إلى علمٍ منضبط باسم الفقه عبر الاستعانة بأدوات أخرى، إن هذه الأدوات الموظّفة يمكن أن تكون لدى شخص قياساً، فيما تكون لدى آخر إجماعاً، أو استصلاحاً([61])، أو سدّاً للذرائع([62])، أو عقلاً.

على أيّة حال، من المؤكّد أن معونة هذه الموادّ الخام لا يمكنها لوحدها تكوين فقه مترامي الأطراف، وعليه، فلا صواب في الاعتقاد بفقه خالصٍ والحديث عنه، عندما يفسّر خلوصه بعدم الاحتياج أبداً ولا الارتهان إطلاقاً لأيّ علمٍ من العلوم، وإذا كان مقصود الحكيمي من مقولة الفقه الخالص ردّ ادعاءات بعض المستشرقين الذين يزعمون أن الفقه مدين ومتأثر بمجموعة القوانين والمداخل الحقوقية الرومانية، فهذا ما يخرج هذه الدعوى عن محلّ بحثنا هنا ونزاعنا، ذلك أن هناك فرقاً بين أن نقول بارتهان الفقه لمدارس أخرى، وأن نقول بقدرة الفقه على الاستقلال التام عن العلوم كافّة، دون أن يحتاج إلى أبسط مظاهر العلاقة أو الاقتباس.

إن الحكيمي يدرك جيداً أن نضوج الفقه كان مرتهناً ـ في الحدّ الأدنى ـ لارتباطه الوثيق بعلمٍ آخر هو علم أصول الفقه، وهذا الأخير وإن كان نتاجاً إسلاميّاً في الثقافة، إلاّ أنه استفاد جيداً من معطيات الدراسات اللغوية والمنطقية، بحيث لم يعد بالإمكان القول اليوم: إن مباحث الألفاظ أو الدلالات، والمستقلات العقلية من المسائل الخارجة عن النطاق الديني، وهكذا الحال في موضوعات مثل الوضع وأنواعه مما يدرس في علم أصول الفقه الإسلامي.

إن الفقهاء أنفسهم يقرّون بحاجة الفقه والفقيه إلى العلوم الأخرى، معتبرينه من لوازم الاجتهاد ومقدّماته، فالشهيد مطهري ـ على سبيل المثال ـ يذهب إلى أن الفقيه ـ بوصفه فقيهاً ـ محتاج إلى علوم عديدة يلزمه معرفتها، وهذه العلوم هي: اللغة والأدب العربيّين، وتفسير القرآن، والمنطق، وعلم الحديث، وعلم الرجال، وعلم أصول الفقه([63]).

وفي موضعٍ آخر، يضيف المطهري على ما تقدّم من علوم، الهيمنة على علم الكلام، ويرى ذلك لازماً من لوازم الاجتهاد والفقاهة([64])، وعليه لا يمكن للفقيه تأسيس فقهه إلاّ عقب التسلّط على ستةٍ من العلوم في الحدّ الأدنى، وهذا التسلّط وتلك الهيمنة ليست أمراً كمالياً يهدف إلى تجميل علم الفقه وإلباسه لبوس الزينة والحليّ، بل هو ضرورة جادّة للعمل الفقهي وللفقه نفسه، فالفقيه يفترض مسائل تلك العلوم ومعطياتها أصولاً موضوعةً أو مسلّمات، ثم يشيد استنباطاته الفقهيّة على أساسٍ منها.

من هنا، لا يبدو الحديث عن فقهٍ خالص حديثاً صائباً، فمن بين هذه العلوم المشار إليها يبرز علم المنطق في تدخّله في الفقه واضحاً جلياً، فهو الحدّ الأدنى من العلوم الدخيلة فيه، وهو واحد من العلوم اليونانية التي لاقت ترحيباً في أوساط المسلمين، وهكذا الحال في علم الكلام، فمع كونه علماً دينياً إلاّ أن بعضاً من مفروضاته ومسلّماته مستقى من الطبيعيات ومن الميتافيزيقا اليونانية، ونظرةٌ عابرة على الموضوعات العقلية في علم الكلام مما عرف باسم: mدقيق الكلامn تعطينا شهادةً ناطقةً على ما نقول، وهذا معناه أن الحديث عن فقهٍ خالص ناشئ من عدم الأخذ بعين الاعتبار التبلور التاريخي لعلم الفقه، وتأثير غيره من العلوم فيه.

إنّ ذاك الفقه الذي يقدّره الحكيمي، ويراه أنموذجاً جليّاً للعلم الديني الخالص، إنما يتسنّى توفّره وتأسيسه عندما تكون مباحث أصول الفقه منقّحةً واضحةً محسومة، وأصول الاجتهاد مستنتجةً متبلورة مؤكّدة، إن إجماع الفقهاء على اشتراط التفقه بمجموعةٍ من المعلومات مفيدةٍ، من علومٍ مثل المنطق، والأدب، والدراسات اللغوية، شاهد صارخ على مكانة العلوم البشرية في الفهم الديني، وهكذا الحال في المباحث العقلية الواردة في باب الحجيّة وأمثال ذلك، مما يندرج في هذا المضمار أيضاً.

ولربما اتسع نطاق تأثير المعلومات الخارج ـ دينية في فهم الدين حتى بلغ حداً لا يقدر الحكيمي نفسه على إنكاره أو التهرّب منه، فمن جملة الموضوعات التي دعا فيها الحكيمي إلى التجديد: mالنتائج السلبية التي تركها تورّم علم أصول الفقه في الفقه نفسهn([65])، مندداً بـ mإتلاف الوقت في البحوث المتورّمة غير المثمرة ولا المفيدة من علم أصول الفقهn([66])، غافلاً عن أن هذه المسائل بتمامها قد أتى بها هؤلاء الفقهاء أنفسهم ممّن كانوا بصدد تكوين مدرسة فقهية خالصة، من هنا، لا معنى ولا صحّة للحديث عن خلوص في علم الفقه الإسلامي أو نقاء.

لقد تجاهل الحكيمي العلاقات المتبادلة بين العلوم، مقدّماً صورةً عن علم الفقه وكأنّه علم مكتفٍ اكتفاءً ذاتياً، قد طوى مراحله وتاريخه وأطواره حتى بلغ سنّ النضج والاختمار، فمن جملة العناصر الدخيلة في تبلور الفقه وتشكّله: شخصيةُ الفقيه، ومعارفه المسبقة، وميوله، ومفروضاته القبلية، ونوع الأسئلة الموجّهة للفقه، وطبيعة الحاجات التي تبعث الفقيه على إصدار الحكم، فمن هذه الزاوية يختلف الفقه المتكوّن في العراق، عن ذاك المتبلور في إيران.

ويكفينا هنا الأخذ بنظر الاعتبار كلمات الشهيد مرتضى مطهري، حيث ركّز على هذه النقطة بالخصوص، فإذا فرضنا فقيهاً يعيش في مدينة طهران، فإنه سوف يقرأ الأدلّة المرتبطة بالطهارة والنجاسة بشكل تتصاحب فيه فتاواه مع الاحتياط والتشدّد، أما إذا توجّه هذا الفقيه إلى زيارة بيت الله الحرام في مكّة، وشاهد هناك حالة نقص المياه ومصاعب الوصول إلى الماء، فإن رؤيته لهذه الأدلّة نفسها سوف تتبدل، وسوف ينظر إليها ـ من اليوم فصاعداً ـ نظرةً مختلفة.

وعقب ذكر المطهري هذا المثال، يصل إلى هذه القاعدة الكلية: mإذا ما قام شخص بمقارنة فتاوى الفقهاء مع بعضها، ملاحظاً ـ بشكل ضمني ـ أوضاعهم الشخصية، ونمط تفكيرهم ومعالجاتهم لقضايا الحياة، فسوف يرى كيف أن القبليّات الذهنية لكلّ فقيه، ومعلوماته واطلاعاته الخارجية عن الدنيا، تملك تأثيراً في فقهه واجتهاده، إلى حدّ تفوح رائحة العربية من فتوى العربي، ورائحة العجمية من فتوى العجمي، ورائحة القروية من فتوى القروي، ورائحة المدنية من فتوى المدنيn([67]).

إن هذا الكلام صادر من فقيه ـ فيلسوف معاً، يتحدّث عن كيفية تأثير القضايا الجانبية والسوابق الشخصية للفقيه في الفقه، إنه لا يرى هذا التأثير مما يمكن تجنّبه، وإنّما يعدّه طبيعياً عفويّاً أيضاً، بل يتعدّى المطهري هذا المقدار إلى دعوة الفقهاء لتعلّم العلوم الأخرى، وتوسعة أفقهم ورؤيتهم الكونية، معتبراً ذلك تكليفاً عليهم وواجباً، يقول: mثمة مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المجتهدين، تتمثل في معرفتهم بالموضوعات.. وهنا بالضبط يغدو لزاماً على الفقهاء المجتهدين وواجباً أن يكونوا واعين بظروف عصرهم وزمانهمn([68]).

ويخالف المطهري المدرسةَ التفكيكية، فلا يذهب ـ فقط ـ إلى تخويل العقل حقّ الحكم والبتّ في مجال الفقه والأحكام، بل يرى ذلك عنصراً لازماً، مقوّماً لفعل الاجتهاد الفقهي، إنه يرى أن mالاجتهاد الصحيح والاستنباط السليم يعني تدخّل العقل ونفوذهn([69]).

ويدّعي المطهري أن في فقهنا حالات ليس لها أيّ مستند شرعي، بل لا مستند آخر لها سوى العقل فقط، يقول: mفي فقهنا موارد يجزم الفقهاء فيها بوجوب شيء ما، لا لشيء إلاّ لإدراكهم ضرورة الموضوع وأهميّته، أي أنه رغم عدم وجود دليل نقلي من آيةٍ أو حديث بشكل صريح وكافٍ، ولا إجماع معتبر في البين، إلاّ أن الفقهاء يستفيدون من الأصل الرابع للاستنباط، ألا وهو الدليل العقلي المستقلّn([70]).

ولا يقتصر الحال في هذه المسألة على ما ذكرناه، بل يواصل المطهري مسيره التصاعدي هذا إلى حيث يدّعي قدرة العقل على إلغاء حكم الشرع في بعض الحالات، فيحرّم مباحاً، بل وأعلى من ذلك، يوجب حراماً، إن هذا الادعاء ليس ادعاءً من جانب شخص مستلَب بالعقل، أو بعيدٍ عن التربية الدينية، بل كلام فقيهٍ بذل جهوده بأجمعها لقيامة الفقه وحفظه وإحيائه، وعلى حدّ قوله هو نفسه: mمن الممكن أن يكتشف العقل مصلحةً ملزمة أو مفسدةً كذلك في موردٍ من الموارد، بحيث تكون هذه المصلحة أو تلك المفسدة مزاحمةً لحكمٍ وارد في الإسلام، أي أنّ حكماً لم يبيّنه الإسلام واكتشفه العقل يزاحم حكماً شرّعه الإسلام وبيّنه، إلاّ أن ما لم يبيّنه الإسلام كان أكثر أهميةً مما بيّنه، فالجاري هنا حكم العقل، بل يقوم هذا الحكم بتضييق ذاك الحكم الشرعي المبيّن، وهنا تماماً ربما تسنّى للفقيه تحريم حلال منصوص عليه شرعاً؛ نظراً لتلك المفسدة الكامنة فيه، والتي كشفها العقل بدوره، بل قد يتمكّن العقل من تحريم واجب شرعي، أو إيجاب حرام يحتوي على مصلحة لازمة اكتشفها العقلn([71]).

وطبقاً لذلك، يحتل العقل مكانةً رفيعة مرموقة في تلك المساحة التي اعتبرها أنصار المدرسة التفكيكية الأنموذج الأكمل لخلوص الوحي، ألا وهي الفقه، إلى حدّ يضيف العقل فيه على الفقه نفسه، فيحرّم حلالاً منصوصاً على حليّته، وهنا تماماً لا يصبح من الممكن الحديث عن خلوص الفقه الإسلامي.

ويبيّن المطهري نفسه أسباب قدرة العقل في هذا المجال بشكل دقيق ومحكم، فأحكام الشارع ليست مجموعةً من الأسرار التي لا يجوز البوح بها أو الرموز التي لا تقبل الفك أو الحلّ، حتى نغدو تجاهها ملزمين ـ فقط وفقط ـ بالإطاعة، بل إن لهذه الأحكام مفاسد واضحة يمكن الكشف عنها، إنه يقول: mأحكام الإسلام أحكام أرضية، أي أنها قامت على أساس سلسلةٍ من المصالح، وهذه المصالح وحدودها ودرجاتها إما بيّنها الإسلام نفسه، بحيث حدّد لنا أن هذا الحكم يقع في هذه الدرجة فيما يقع ذاك في درجةٍ أخرى، أو لم يبيّنها الإسلام، غير أننا قادرون، بحكم دليل العقل، على فهم درجة هذا الحكم ومكانته وأهميته، وكذا الحال في سائر الأحكامn([72]).

وهنا لابد من تكرار هذا التأكيد، وهو أن هذه الكلمات التي نطالعها الآن لم تصدر من متغرّب مستلب بعلوم الأجانب أو العلوم اليونانية، بل هي كلمات من كان في حدّ نفسه نتاجاً لتربية الفقهاء الكبار والمفسّرين المعروفين، وكان على الدوام مواظباً على إعطاء الفقاهة حقّها والوفاء لها.

قد يدّعي التفكيكيون أن هذا اللون من الفقه الخاضع لهيمنة العقل وسلطان العلوم البشرية لم يعد فقهاً أصيلاً، بل فقه مشوب ملوّث بمعطيات البشر الناقصي العقل، إلاّ أننا نجيب عن هذا الادعاء بأن الفقه تأثر بعلوم عصره على الدوام، كما خضع للأوضاع الجغرافية والمناخية للفقهاء، ولفرضياتهم ومعلوماتهم المسبقة، ومعنى ذلك أنه لا يمكن من الناحية العملية الوصول إلى فقه يمثل أنموذجاً للصفاء والخلوص الكاملين، وعلى فرض إمكان تصوّر فقيهٍ يمارس الاجتهاد الفقهي دون أي خلفية مسبقة أو مفروضة متقدّمة على بحثه، ويستعين فقط بالنصوص الفقهية.. إلا أنه مما لا شك فيه أن فقهاً من هذا الطراز ليس قادراً على الإجابة عن التحديات والاستفهامات الكبرى في عصرنا، فالفقه نتاج تفاعل جدلي بينه وبين العلوم الأخرى، لقد نضج هذا الفقه نتيجة هذا التفاعل حتى بلغ وضعه الحالي، وهو بذلك يمثل عصارةً لجهود الفقهاء للإجابة عن تساؤلات عصرهم ومستجدّات حياتهم وزمانهم، وعندما يكفّ الفقه عن تقديم أجوبةٍ لإشكاليّات عصره فإن معنى ذلك أن الفقهاء إمّا لم يريدوا أو لم يتمكّنوا من استبدال أو تجديد ظروفهم الزمانية ومفروضاتهم المعرفية القبليّة.

من هنا، يبدو من السذاجة تصوّر أننا قادرون على الوصول إلى علم خالص أصيل بممارسة تفكيك يفصل بين الدوائر المعرفية المتنوّعة، فعندما يلقى الفقه ـ وهو أنموذج الخلوص المعرفي عند التفكيكيين ـ مصيراً من هذا النوع، فإن سائر العلوم سيغدو حالها أوضح ومصيرها أجلى.

نعم، كما يمكن أن تقع العلوم النقلية تحت هيمنة العقل وسلطانه القاهر، كذلك يمكن أن يخضع العقل نفسه لهيمنة الشهود أو الوحي، فالعقل ليس حَكَماً نهائياً في تمام المجالات وعموم الدوائر، ولهذا يصدق كلامنا السابق عن التفاعل الجدلي والتأثر المتبادل على العلوم العقلية نفسها كصدقه على النقليات، بمعنى قيام العلوم الأكثر عقلية ـ فضلاً عن غيرها ـ على مجموعة من الأصول والمبادئ غير الثابتة، وأحياناً على نوعٍ من الكشف والشهود.

وهذه الحقيقة، كشف عنها اليوم بصورةٍ ممتازة فلاسفة العلم، إذ ذكروا أن الإنسان كائن يعتمد دوماً على مفروضاته ومعلوماته المسبقة البالغة الكثرة، وحتى أبسط مشاهداته تقوم ـ هي الأخرى ـ على تصديقات مسبقة، وتستمدّ جذورها منها، وبعبارةٍ أخرى، ليس عندنا مشاهدة بسيطة خالصة، أو قراءة للوجود لا أغراض فيها، وهذا الادعاء يصدق أيضاً على تمام المحسوسات، فكم يرى شخصان ظاهرةً واحدة رؤيةً مختلفة، لقد دلّت التجارب العديدة على رؤية شخصين لظاهرة واحدة بشكل مختلف، دون أن يكون لديهما غرض في البين، والسبب الذي أحدث هذا الاختلاف ليس سوى معلوماتهم المسبقة ومفروضاتهم القبلية، لا الواقع الخارجي.

يقول تشارملز، أحد أساتذة فلسفة العلم: mعندما يلقي مشاهدان عاديان نظرهما على شيء واحد، من مكان واحد، وضمن ظروف مادية واحدة، فمن الضروري أن لا يكون هناك تشابه بينهما في تجاربهما البصرية، حتى لو كانت الصور المنتقلة أو الحادثة في شبكتيهما واحدة عمليّاًn([73]).

إن الامتيازات الثقافية والاعتقادات السائدة تترك تأثيراً حتى على مشاهداتنا الحسيّة، وتشكّل بنفوذها محسوساتنا البسيطة، فمجموعة الخطوط التي تجعلنا نرى سلّماً، يراها الأشخاص الذين لا يعرفون في ثقافتهم رسم صوراً مثلثة الأبعاد، عبر تجسّم منظرٍ ذي بعدين mيرون هذا السلّم سلسلةً من خطوط لا سلّماًn([74])، إن هذه القضية التي تحكم بأن المشاهدات الحسية مسبوقة على الدوام بنظرية وعدم وجود رؤية بسيطة خام غير مسبوقة، غدت اليوم من المسائل المسلّمة، وقد أكّدتها التجارب المتكرّرة لعلماء النفس التجريبي، فتجارب عديدة أجريت تدلّل على رؤية شكل واحدٍ بشكل مختلف حتى مع اتحاد الظروف اتحاداً كاملاً، وقد دفعت هذه التجارب فلاسفة العلم إلى الاعتقاد بأن مشاهدتنا مسبوقة على الدوام بنظريةٍ ما أو حاملة لنظرية كذلك (Theorg – Iaden).

وسبب اختلاف أنواع الرؤية وآحادها تعيين المشاهد ـ ولو من حيث لا يشعر ـ لما يريد أن يراه، وبعبارةٍ أخرى: mإن التجربة البصرية للمشاهد والناظر ترتبط إلى حد معين عند إلقاء البصر على شيء ما بالتجارب الماضية له، وبمعرفته، وبتوقعاتهn([75]).

وخلاصة القول: إن أبسط المعطيات الحسية التي نصلها تُسبق عادةً بمفروضات وتصوّرات كامنة لدى العقل، وهو أمر يصبح أكثر جديةً عندما ندخل نطاق القضايا النظرية.

لقد نسي الأستاذ الحكيمي أن الفقه نتاج بشري أتى به بشر نسمّيهم الفقهاء، إلا أن أفراد البشر هؤلاء لديهم رؤاهم، وتصوّراتهم، وميولهم، ونزعاتهم، ولهذا وجدنا فقهاً قائماً على القراءة الأخبارية، وآخر مبنياً على التصوّر الأصولي، والإثنان معاً قاما من داخل النسيج الإسلامي لا من خارجه، ومع كلّ هذا التفاعل الجدلي ما بين العلوم بأجمعها، ومنها علم الفقه، يبدو لنا أن كلام رجال التفكيك غير صائب ولا مقبول.

وتتطوّر هذه الغفلة عند التفكيكيين إلى حدّ أن بعض الفقهاء والمعتقدين بقوّة بالمباحث الأصولية، وهي المباحث التي يراها الحكيمي تورّماً عديم الفائدة، والذين تطول دورتهم الأصولية التدريسية سنوات عديدة، يقدّمهم التفكيكيون أساتذةً للعلوم الوحيانية الأصيلة، فيقال عنهم: mالفقيه الجليل، الجامع للعلوم النقلية والعقلية والأدبية، وبعض العلوم الأخرى، أستاذ المعارف الخالصة الوحيانية، والتعاليم الأصلية الولوية، حضرة آية الله العظمى الحاج الشيخ حسين الوحيد الخراسانيn([76])، والحال أن الخراساني نفسه يستعين بتمام معلوماته الأصولية، والفلسفية، والأدبية، لإنتاج الفقه، وهذا معناه أن الحديث عن فقهٍ خالص ليس له مدلول واضح.

لقد حظي موضوع تأثير شخصية القارئ للنص والمفسّر له اليوم في تفسيره له وتحليله لمعطياته باهتمام جماعة من الباحثين المعاصرين، وقد كانت هذه المسألة موضع بحث واهتمام لدى علماء الهرمنيوطيقا، فيما لقيت اليوم وتلقى اهتماماً واسعاً ومتزايداً في الدراسات التفسيرية، وإذا أردنا أخذ مثال على ذلك، أمكننا مراجعة ما كتبه السيد أيازي المعاصر، في مقالةٍ له حملت عنوان: mتأثير شخصية المفسّر في تفسير القرآنn، فقد توصّل هذا الباحث إلى أن المعلومات المسبقة للمفسّر، ومفروضاته القبلية، وطبيعة تساؤلاته.. تلعب دوراً نشطاً في تفسيره للقرآن الكريم، mوليس هناك من مفسّر قد نجى من دائرة التأثير هذهn([77]).

وهذا الأمر لا يختصّ بمفسّر القرآن، بل يعمّ كل من يقف أمام نصّ يهدف فهمَه، إنه مضطرّ في مشوار الفهم هذا للاستعانة بتمام مفروضاته ومخزوناته المسبقة.

لقد تحدّث العرفاء والمفسّرون المسلمون عن هذه الحقيقة قبل هذا الوقت، إلاّ أنها لم تدرس بعمق ووضوح وتنقيح سوى في القرن أو القرنين الماضيين مع حركة الهرمنيوطيقا الجديدة، إن هذا الأمر لا يبعث على القلق، كما لا نراه يجرّ أو يدفع ناحية سيادة الفوضى في النشاط التفسيري، مما لاحظناه همّاً لدى التفكيكيين وقلقاً، ليس هذا فحسب، بل إننا نرى أن الاهتمام بهذه الحقيقة سيكون باعثاً على تخفيض بعض الاشتباهات والأخطاء واستبعادها، كما سيكون مانعاً عن النزعة الإطلاقية المهيمنة على بعض المفسرّين وموقفهم من تفاسيرهم بحيث تجعلهم ينظرون إليها كالوحي المنزل من السماء.

إن كلمة mوالله العالمn التي غدت إيقاعاً رتيباً لدى الكثير من الفقهاء والمفسّرين الكبار، وهم يدرجونها نهايات تفسيرهم أو رأيهم وفتواهم، تشعر ـ بدرجةٍ ما ـ بهذا الواقع الذي نتحدّث عنه، وكأنهم يلمسون بوجدانهم هذه التدخلات المناسبة وغير المناسبة لبعض مفروضاتهم في فهم النصوص، ويلفتون ـ طبقاً لذلك ـ الأنظار إليها.

وبعبارة مختصرة: لا يبدو أن دعوة التفكيكيين إلى فصل المعارف الوحيانية عن المعطيات البشرية أمر مقبول أو عملي.

3 ـ الاستدلال العقلي ومسألة الإيمان ــــــــــ

يتضمّن المبدأ الثاني من مبادئ التفكيك دعوى أصالة المعرفة الدينية وأفضليّتها، لكن إذا قلنا بعدم الحاجة للاستدلال العقلي واستحضرنا الإيمان الاتّباعي الأعمى، فلماذا يجب قبول دعوى الرجل (ألف) في زعم النبوّة دون المدّعي (باء)؟ ما هو الفرق بين الإيمان بالله والخضوع للأصنام والاعتقاد بها؟

لقد فرض التفكيكيون المسألة وكأن مخاطبيهم هم دوماً من الشيعة الإثنا عشرية، إلاّ أن توسعةً طفيفةً لدائرة المخاطبين يمكنها أن تكشف لنا صعوبة الموقف، ولأخذ مثالٍ على ذلك نقول: إذا أردت ـ أنا المناصر لمدرسة التفكيك ـ أن أدعو مسيحياً إلى الإسلام والتشيّع، فهل عليّ القول له: إن عليك الاعتقاد بكلامي دون أيّ دليل، ودون أدنى ممارسة للفعل العقلاني، وعليك أن تتّبع النبيّ الذي أذكره لك، أم عليّ تقديمٍ دليل له؟

فإذا أخذنا بالافتراض الأول، أمكنه أن يردّ عليّ بالقول: حيث لم تكن هناك حاجة لدليل، إذاً فتعالى أنت وصِرْ مسيحياً، والذي يبدو أن الطرفين معاً متساويان هنا في الموقف والحال.

وإذا ما سعيت لإقامة دليل له، فلا ينبغي أن يكون هذا الدليل داخلياً، أي من داخل النظام الديني الذي أعتقد أنا به، وبعبارةٍ أخرى: لا يمكنني أن أقول له: إن الإسلام أكمل من المسيحية، لأن نبيّنا قال ذلك بنفسه، إذ يعدّ ذلك نحواً من المصادرة على المطلوب، وحتى لو اعتبرنا المصادرة على المطلوب مسألةً خالية عن أيّ مشكلةٍ أو معضل منطقي، فإن بإمكان الطرف الآخر أيضاً أن يطالبني بأن أصبح مسيحياً، انطلاقاً من أن الحبر الأعظم يعتقد أن المسيحية خيرٌ من الإسلام وأفضل.

والسبيل الوحيد المتبقي أمامنا هو الأخذ بالاستدلال، بأن نقيم له دليلاً خارجياً، دليلاً يعتقد هو نفسه بحجيّته واعتباره، وهذا الدليل قد يكون العقل أحياناً، وقد يكون الكشف والشهود، إنّ بإمكاني أن أقيم له استدلالاً عقلياً، أو أحدّثه عن تجربة عرفانية، لكن على أيّ حال، لابد من وجود أرضية مشتركة بيننا يمكننا الانطلاق منها، وليس من أرضيةٍ كذلك بين أبناء البشر سوى العقل، فإذا ما أنكرناه انعدمت فرص الحوار مع من سبق أن تبنّى موقفاً خاصّاً أو ديناً معيناً، لم يعد بعد اليوم ممكناً الحديثُ عن أفضلية المعرفة الدينية عندما تحاور شخصاً من خارج دائرة الدين، أو آخر لا يؤمن بدينٍ إطلاقاً، بل يريد الآن أن يتخذ موقفاً لنفسه منه.

والملفت هنا، أن الحكيمي يستعين ـ لإثبات هذا المبدأ القاضي بتقديم المعرفة الدينية على المعرفة العقلية ـ بكلام المعصوم A، أو يستند إلى بعض الفلاسفة وكلماتهم، والحال أن هذين المستندين ينتميان إلى الأدلّة النقلية، ومن ثم لا وقع لهما إلاّ لمن كان قد سبق له القبول بهما واعتقد ـ نتيجة دليلٍ عقلي أو كشفي ـ بحجيّتهما، إن علينا أن لا ننسى أن مدّعي التفكيك يقولون: إن كلامنا هو عين الإسلام، وليس فهماً له، فإذا أردت ـ بعد ذلك ـ أن أتحدّث مع من لا أشترك معه في العقيدة الدينية، وأقول له: قال الصادق… فلا بد لي ـ سلفاً ـ من إثبات ضرورة الأخذ بكلام الصادق، وهو ما يحتاج إلى إثبات مسبق لكلام النبي 2، الأمر الذي يحوجني إلى استدلال منفصل عن المعتقدات الدينية.

إننا نقبل في البداية بدينٍ ما، ثم نتعبّد به، لا أننا نمارس التعبّد تجاهه قبل قبوله، إلاّ إذا قيل: إن قبوله يعني أن نكون مدرجين على الهوية (البطاقة الشخصية) من أتباع هذا الدين أو ذاك.

4 ـ ضرورة التفكيك بين القضايا الدينية ــــــــــ

أما فيما يخصّ المبدأ الثالث من مبادئ التفكيك، وهو اعتماد المعرفة الدينية على القرآن والحديث، ومن ثم ضرورة تفكيك القضايا الدينية، فنلاحظ أن بعض القضايا أصليّ لابد من إثباته قبل الأخذ بالدين نفسه، إن هذا النوع من القضايا لا يمكن إثباته عن طريق النصوص الدينية، لنفرض أننا قلنا لشخصٍ ما: إن الله موجود، ثم طالَبَنا بدليلٍ على كلامنا هذا، إنه لا يمكننا في هذه الحالة أن نحتجّ عليه بقول القرآن بذلك، إذاً، فعلينا الإقرار بوجوده تعالى، ذلك أن اعتبار القرآن منوط بكونه من كلام الله تعالى، وأنه سبحانه هو الذي أنزله، ومن الواضح أن كون الكلام إلهياً متفرّع على وجود الله من حيث المبدأ، ووجود الله كذلك هو الذي وقع هنا محلاً لتساؤلنا، وهذا معناه أننا مطالبون بإثبات وجود الله سلفاً عبر سبيلٍ مغاير للقرآن نفسه، وعندها يمكن الاستناد إلى النص القرآني لإثبات قضايا أخرى.

أمّا القضايا التي تنتمي لداخل الدائرة الدينية فيصحّ فيها المبدأ التفكيكي المشار إليه أعلاه، بمعنى أننا نثبت أولاً وجود الله تعالى، ثم نقرّ بأن القرآن كلامه، وعقب ذلك نستطيع الاعتماد على الدليل النقلي للجواب عن صفة الجنة، وجهنّم، فنقول: هذا ما قاله القرآن، أو ذاك.

إن هذه هي القاعدة التي جرى عليها علماء الدين قاطبةً، ولهذا حكموا بوجوب الاجتهاد العقلي في الأصول، فيما يجوز التعبّد في الفروع، بل قد يلزم أحياناً.

وعليه، فإذا أراد التفكيكيون لزوم استناد المعارف كافّة إلى القرآن والحديث، فهذا كلام مرفوض لا يمكن البرهنة عليه، أما إذا أرادوا ضرورة الرجوع إلى الكتاب والسنّة بغية فهم القضايا الجزئية، فهو كلام صحيح، بيد أنه غير جديد، بل لا يخالف فيه أحدٌ، حتى يُجعل ركناً من أركان المدرسة التفكيكية، وعليه، فعمومية المبدأ المذكور محلّ شك ونقاش، وهو صائب ضمن نطاق جزئي، وهو نطاق لا يجرّ نفعاً على التفكيكيين.

5 ـ موضوعة حجية الظهور ــــــــــ

الأصل الرابع من أصول المدرسة التفكيكية ومبادئها التركيز على ظواهر النصوص الدينية، وتجنّب أشكال التأويل برمّتها، يعتقد الحكيمي أن النص الديني، لا سيما منه القرآن الكريم، واضح الدلالة جليّ الإشارة بما يغنيه عن التأويل.

وثمة ملاحظات جديرة بالذكر هنا، هي:

الملاحظة الأولى: هل يقصد بهذا الكلام أن كل من يعرف اللغة العربية أو يحصل على نسخة مترجمة للقرآن الكريم إذا لم يكن يعرفها يمكنه فهم تمام المعطيات التي يضخ النص بها، ومن ثم يكون ما فهمه من النص حجةً له؟

الذي يبدو أن الاستدلال الذي يشيده الحكيمي للبرهنة على هذا المبدأ يؤكّد أنه يفهم منه ما أشرناه آنفاً، إنه يقول: mعموم المتديّنين ـ على طريقتهم في الإدراك الديني والفهم الفطري ـ تفكيكيّون، وما لم يتدخّل أحد في تفكيرهم فهم معتقدون بما يقوله أصحاب مدرسة التفكيك، أي أنهم يبحثون عن العقائد الدينية الخالصة في النصوص الدينية القرآنية والحديثية، ويعتقدون بما توصّلوا إليه، وإذا كانت لديهم نسخةٌ مترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة الفارسية فإنهم يعتقدون بما يقرأونه منها، دون أن ينجرّ تفكيرهم إلى ممارسات تأويليةn([78]).

إلاّ أن هذا الكلام بالغ الخطورة، وهو يعني ـ بدرجةٍ من الدرجات ـ إقراراً بالمعتقدات التشبيهية في حقّ الله تعالى، إن علينا أن لا ننسى بأن هذه القاعدة العامّة من المتدينين، والتي لم تعرف في حياتها شيئاً عن الفلسفة، توصّلت من خلال بعض الآيات القرآنية إلى تصوير الله تصويراً بشرياً، فجعلت له يداً ورجلاً، وأعضاءً كأعضاء بدن الإنسان.

نعم يمكن أن يقال: إن هذا الاستنتاج خاطئ، نظراً لوجود آيات قرآنية أخرى تنفي التشبيه، إلاّ أننا لا نتحدّث عن صحّة هذا الاستنتاج أو عدم صحّته، بل نعتقد بأنه لا يمكن ـ اعتماداً على الفهم العام ـ قول شيء من هذا القبيل، لا سيما وأن بعضاً من عموم الناس، إن لم نقل أكثرهم، يختلط إيمانهم بالشرك كما يحدّثنا القرآن الكريم نفسه، وهم قاصرون عن فهم الحقائق الإيمانية العميقة؛ ولهذا عندما سئل الإمام الباقر A عن الآية الشريفة: >لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ< البقرة: 143، وأنه هل المراد منها عموم الناس؟ أجاب بلغةٍ استنكارية: كيف يمكن أن يكون هؤلاء شهداء على الناس في الآخرة وهم لا يشهدون في الدنيا على قبضةٍ من خضار؟!([79]).

وعليه، فإذا كان المقصود دعم الفهم العام، فإن الحكيمي نفسه في مواضع عديدة من تأليفاته ردّ ذلك بشدّة.

الملاحظة الثانية: إذا كانت الظواهر بأجمعها حجّةً، فما هو الفرق ـ إذاً ـ بين التفكيكيين والمدرسة الظاهرية المعروفة في التراث الإسلامي؟!

إن الظاهريين كانوا يرون ما يفهم من الآيات بظاهرها حجةً، حتى مثل ظاهر آياتٍ تشبه قوله تعالى: >الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى< طه: 5.

وليس ثمة معيار يمكنه أن يميّز لنا بين الاتجاهين: التفكيكيي والظاهري، فأحد معايير تقسيم الاتجاهات الدينية، موقفُها من العقل ومكانته في شرح التعاليم الدينية وتأييدها، فإذا ما تحدّثنا هنا عن العقل المؤسّس على الدين، وقلنا بعدم الحاجة إلى العقل الخارج عنه، ثم ذهبنا إلى القول بحجيّة تمام الظواهر الدينية، وعدم حاجتها إلى التأويل، فإننا نكون بذلك قد انخرطنا داخل النزعة التي سار عليها الحنابلة والظاهرية، ومن هنا، يمكن للإنسان وضع المدرسة التفكيكية في الصفّ نفسه والقول: mثمّة طائفة تعتقد بأن عقلنة الدين عملية غير مسموح بها إلاّ إذا جاءت في سياق مفاهيم ومقولات تمّ أخذها ـ سلفاً ـ من الدين نفسه، إن هذه الطائفة تمثلها الحنبلية، والظاهرية (والمدرسة التفكيكية مؤخراً)([80])؟

الملاحظة الثالثة: لقد توصّل بعض علماء الشيعة الكبار ـ بأخذهم بحجية الظواهر ـ إلى نتائج لا أظنّ أن رجال التفكيك يقبلون بها، فعلى سبيل المثال، يستنتج العلامة المجلسي (1111هـ) من جملة: mلن يفترقاn الواردة في حديث الثقلين، أن لفظ القرآن ومعناه عند أهل البيت، كما أن بعض الروايات التي تتحدّث عن القرآن يحاذر منها كثيراً التفكيكيون أنفسهم.

الملاحظة الرابعة: ثمّة من لديه وجهة نظر أخرى تخالف رأي التفكيكيين في عمومية اللغة القرآنية، مثل العلامة الطباطبائي، إن الفرضية التي تقول: إن أيّ إنسان بإمكانه ـ ببساطة ـ فهم الحقائق الإيمانية، قد خضعت لمساءلة وتشكيك من جانب بعض علماء الدين، ومن ثم، لا يمكن ـ وبالبساطة نفسها.ـ اعتبار الفرضية المشار إليها حقيقةً بديهيةً.

ونكتفي هنا بالخلاف النظري ما بين العلامة الطباطبائي والعلامة المجلسي في فهم الأحاديث، حتى نستدلّ بالخلاف نفسه على عدم بساطة الموضوع ولا بداهته، لقد اعتبر المجلسي لغة الدين لغةً عامة شعبية، فيما رآها الطباطبائي لغةً علمية وعلمائية([81]).

لا نهدف هنا اختيار موقفٍ في البين، حتى ندافع عن هذا الاتجاه أو ذاك، إنما نقصد التدليل على أنه لا يمكن بهذه البساطة اعتبار هذا المبدأ التفكيكي واضحاً بديهياً.

الملاحظة الخامسة: وهي الملاحظة الأكثر أهميةً، والتي نركّز فيها على الدليل الذي شاده الحكيمي لإثبات هذا المبدأ، لقد اعتمد الحكيمي في ذلك على اعتبار حجية الظهور أصلاً عقلائياً، يقول: في حالةٍ واحدة يمكن التخلّي عن هذا الظهور، وهي حالة mالظاهر الذي يقف في قباله برهان بديهي، لا نظري يمكن أن يقع في مقابله تماماً برهان نظري آخرn([82]).

وبعبارةٍ أخرى، حجيّة ظواهر النصوص الدينية تنبع من اعتبار العقلاء هذا الظاهر حجةً، واستمرار الشرع على مسير العقلاء في ذلك، وجريه في خطاباته وكلماته ونصوصه على طبقه، إلاّ أن إشكالاً هنا يثار في أن العقلاء حتى لو اعتبروا الظاهر حجةً إلاّ أنه لا يمكن ـ طبقاً لأساسيّات المدرسة التفكيكية ـ استنتاج حجية الظواهر الدينية منه؛ ذلك لأنها فصلت الدائرة الدينية عن الدائرة العقلية، ورأت أن المعرفة الدينية معرفة ذاتية داخلية، وعليه، يكون الاستناد إلى سيرة العقلاء لإثبات حجية الظواهر مخالفاً للنظرية التفكيكية نفسها.

الملاحظة السادسة: لقد ادّعى التفكيكيون أن الظهور حجةٌ دائماً، وأنه لا يمكن إسقاط الحجيّة عنه إلاّ إذا جاء ظاهر آخر يكون بمستوى البرهان البديهي، ومعنى ذلك أن كلّ ما نفهمه من ظاهر الكلام يغدو حجّةً، لا يمكن التخلّي عنه، إلاّ إذا واجهه ظاهر آخر يكتسب طابعاً برهانياً بديهياً يصرفنا عن الأخذ بالظهور الأوليّ في النص.

لكن السؤال هنا: ما هو البرهان البديهي؟ إن الحكيمي يجيبنا عن هذا التساؤل بشرح المقصود من البرهان البديهي عبر القول: mأن تكون صورة البرهان على الشكل الأول (من أشكال القياس الأربعة المنطقية) كما تكون مقدّمتاه بديهيتين يقينيّتين لا تحتاجان إلى برهان، مثل الواحد نصف الاثنينn([83]).

إن هذه المفاهيم غير دينية، إنها من مباحث المنطق الصوري، إن الشكل الأوّل أحد أشكال المنطق الصوري، الذي أسّسه أرسطو، إنه أحد الموروثات اليونانية التي يعتقد الحكيمي نفسه بأنها أُدخلت إلى بيت الحكمة ببغداد لسدّ بيت القرآن([84])، ألم نقرّر عدم وضع قفل الأسطورة الأرسطية على باب أحسن الملل؟! ألم يعدل الحكيمي هنا عن بناءاته ورؤاه الأساسيّة؟! فمهما فسّرنا البرهان البديهي، لا ريب في أنه واحد من أدبيات الثقافة اليونانية، إنه يعني الإقرار بمرجعية العقل في الأمور الدينية.

وإذا أردنا ـ فعلاً ـ أن نبيّن ادّعاء الحكيمي المشار إليه بعيداً عن اللغة العلمية، أمكننا القول: في حالةٍ واحدة يمكن رفع اليد عن ظاهر النصوص الدينية، وذلك عندما تقع في مقابلها دلالة عقلية صريحة مضادّة، وهذا هو ما يعني إنكار نظرية العقل المؤسّس على الدين، فإذا كنا نؤمن ـ حقيقةً ـ بهذا النوع من العقل الديني فلا بدّ لنا من الأخذ بظاهر النصوص أو رفضها طبقاً لما يحكم به هذا العقل نفسه، لا طبقاً لما يحكم به نظام المفاهيم الأرسطية، من الواضح أن الإرجاع إلى مقدّمات البرهان، ومادته، وصورته، ومفاهيم أخرى.. هو من هذا النوع.

إن هذا الإشكال ليس من الحكيمي، بل من العقل نفسه، ذاك العقل الذي لم يتمكّن أحدٌ من تنحيته عن مسند السلطة والهيمنة، وكلّ من توهم ذلك فإنما توهّمه بمعونة العقل عينه، وبعبارةٍ أخرى، إن الجهود التي تبذل لإثبات عجز العقل وعدم إنتاجيّته لا تتبلور إلاّ عبر توظيف العقل نفسه ومساعدته، من هنا كان لا بدّ من استدلال عقلاني لإثبات عجز العقل.

والذي يبدو أن تصوّر إقصاء العقل بدون العقل تصوّر غير ممكن، فحتى أولئك الذين بذلوا جهوداً مضنيةً لإثارة موضوعات فوق عقلية كانوا مضطرّين للاعتماد على العقل بغية إثبات رؤاهم وتصوّراتهم.

6 ـ معضلة التأويل ــــــــــ

رفض مختلف أنواع التأويل هو المبدأ الخامس من مبادئ التفكيك الخراساني، ولكي نتحدّث عن هذا المبدأ لابدّ من ذكر أمرين:

الأوّل: إن المعنى الذي يقدّمه الحكيمي للتأويل يبدو خاصّاً به، فالتأويل عنده يعني mالاستنتاجات العنديةn، ويساوق mكمّ فاه المتكلّم، وتكلّم المفسّر بعقيدته وكلامه على لسانهn، إلاّ أننا لا نملك في نصوصنا الدينية تأويلاً بهذا المعنى.

ففي القرآن الكريم، يراد بالتأويل ـ كلّما جرى التعبير بهذه الكلمة ـ معنى سامياً يختصّ بالله تعالى، أو به وبالراسخين في العلم على رأي آخر، إن ترجمة مفردة التأويل إلى استنتاجات عندية وتحميلات قهرية على النص وتطويعات مشبوهة له وما شابه ذلك لا يزيد المقولة إلاّ غموضاً والتباساً، ولا يساعد أبداً على تبيين الموضوعات والأفكار، فما نهت عنه الشريعة وحرّمته النصوص الدينية ليس إلاّ التفسير بالرأي لا التأويل، أما ما هو معنى التفسير بالرأي، فهو أمر آخر خارج عن بحثنا هنا، وإذا عنى التأويل كمّ فاه المتكلّم فلن يكون جائزاً حتى لو كان بأيدينا برهان بديهي.

الثاني: إن الوصول إلى نصّ خالص بعيد عن التأويل ليس ممكناً لا في النصوص الدينية ولا في غيرها، إن هذا الأمر بات اليوم حقيقة مكرورةً من جانب علماء المعرفة ومختصّي الايبستمولوجيا.

وبعيداً عن ذلك، تحتاج نصوصنا الدينية إلى التأويل، لأسباب لا مجال لاستعراضها فعلاً، من هنا لا يغدو شعار: mفقط كتاب الله بلا تأويل ولا تفسيرn عملياً، وهذا ما أدّى بالحكيمي إلى استثناء حالات ومواضع أجاز فيها التأويل، رغم إصداره في بداية كلامه حكماً عاماً وقاعدةً كلية بالمنع عنه، فيكون بذلك قد أحدث ثغرةً في جدارٍ صلد لا يقبل عنده الاختراق.

لقد سمح الحكيمي بممارسة التأويل في مواضع عدّة داخل النصوص الدينية، ومن ثم التخلّي عن الظهورات، ويجمع هذه المواضع الحالة التي يكون فيها لزوم قهري ـ عقلاً ونقلاً ـ يفرض التأويل، علاوةً على الحالات التأويلية التي تستدعيها اللغة والنظام الأدبيين،وعلى حدّ قول الحكيمي نفسه: mإننا نعتقد بالتأويل طبق الضرورة العقلية والنقلية، كما نأخذ به عندما تستدعيه أشكال الإسناد واللغة مثل: >وَجَاء رَبُّكَ<n([85]).

إن هذا الاستثناء الذي وضعه الحكيمي يفتح الباب على مصراعيه لمختلف أشكال التأويل، فإذا ما سمحنا للعقل بأن يخطو خطوته، فضلاً عما إذا جعلناه مرجعاً معرفياً، فسنكون مضطرّين للسماح ببعض أشكال التأويل، انطلاقاً من روح العصر وتساؤلات الزمان، فعلى سبيل المثال، إذا كانت كلمة: mسبع سماواتn حتى الأمس القريب غير مبهمة، بل منسجمة مع العقل الجمعي، إلاّ أنها اليوم لا تبدو كذلك، مما يجبرنا على تأويلها لكي تغدو متناغمةً مع علم الهيئة الكوبرنيكي.

وإذا ما قبلنا بهذا الكلام، انفتح المجال مشرّعاً أمام نفوذ التأويلات الفلسفية والعصرية، تلك التأويلات التي تشدّد الحكيمي نفسه في منعها، والعمل الوحيد الذي يمكننا القيام به هو تحديد مقصودنا من العقل، لكي تبدأ مرحلة جديدة من التأويل.

إن المعيار النقلي غير مجدٍ هنا، افرضوا أن قانوناً صدر عن المعصوم، ثم وصلنا، يقضي بلزوم تأويل كلّ آيةٍ لا تتناسب مع تنزيه الحقّ تبارك وتعالى، إنّ هذا القانون وإن مثل معياراً نقلياً، إلاّ أن تطبيقه في الحالات المختلفة والتأكّد من التطابق وعدمه أمر عقلاني على المفسّر القيام به.

أمّا مسألة التأويلات اللغوية والأدبية، فيمكننا القول فيها: إنّها أقلّ الحالات حاجةً للتأويل، فالآيات القرآنية مسوقة داخل أسلوب لغوي أدبي بعيد عن التعقيد والارتباك، كما يقول الحكيمي، كما أن الأغلبية العامة إنما تفهم هذه الظهورات من القرآن الكريم، ولهذا فإن الفهم اللغوي والأدبي للآيات لا يحتاج إلى تأويل.

إن الآية التي يسوقها الحكيمي مثالاً، لا تؤيّد وجهة نظره، بل تنافيها، فالآية لا تواجه أيّ معضلة لغوية، فنصّها الأساسي هو: >وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا< الفجر: 23، ومعنى الآية ـ طبقاً لهذا النص ـ أن الله تعالى يأتي مع الملائكة في حال اصطفاف، فإذا ما قرأ عامّة الناس والمتديّنون ـ طبقاً لإدراكهم الإيماني وتلقيهم الفطري ـ هذه الآية، دون أن يحصل تلاعب في ذهنهم، فإنهم سوف يفهمون منها أن الله تعالى يأتي يوم القيامة مع الملائكة، دون أن يتبادر إلى ذهنهم ما يحيجهم أو يدفعهم إلى ممارسة تأويل فيها([86])، فإذا ما كنا مع هذه الآية فلن نحتاج إلى تأويلٍ قط، تماماً كما ذهب الكثير من المشبهة إلى إثبات صفات جسمانية لله سبحانه، لقد قرؤا الآية وفهموها على هذا النحو.

ورغم ذلك كلّه، يعتبر الحكيمي الآية من المواضع التي يلزم فيها التأويل، أمّا لماذا؟ ذلك أنها لا تنسجم مع بعض أصولنا الاعتقادية، فنحن نعتقد بعدم جسمانية الله، وننزّهه عن أوصاف الجسم والجسمانية، من هنا تجدنا ـ وببساطة ـ نمارس تأويلاً في هذه الآية عندما نقوم بترجمتها (إلى اللغة الفارسية مثلاً)، فنقدّر كلمةً، ونقول: وجاء أمر بك([87])، كما لاحظنا أن مترجِماً آخر ترجمها بشكل مختلف فقال: mويأتي ربك مع الملائكة صفاً صفاًn([88])، وهنا إذا قام أحد العامّة من الناس بترجمة هذه الآية دون ممارسة أيّ تأويل،وقرأها كذلك، مستنتجاً منها الحضور والمجيء المادي لله تعالى يوم القيامة، فهل يجب تأييد استنتاجه أم نلزمه بالقيام بتأويل الآية الكريمة؟

وعليه، فالآية عينها التي يراها الحكيمي غير محتاجةٍ إلى التأويل، تبدو في ظاهرها غير مبهمة، فيما تكون دوافع تأويلها ـ وغيرها ـ معتقدات المفسّر أو المترجم، فإذا لم يقرّ شخص ما بتلك الأصول الاعتقادية وآمن بالصفات الجسمانية في حقه سبحانه، أو ادعى إمكان رؤية الله سبحانه يوم القيامة كما ذهب إليه الأشاعرة، ففي هذه الحالة لن يكون في هذه الآية ما يضطرّنا لتأويلها، ذلك أن الموضوع ليس موضوعاً لغوياً أو أدبياً وما شاكل ذلك، حتى نستند إلى آيات مثل: >وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ<، وإذا ما اعتبرنا هذه التأويلات ـ جدّاً وعن قصد ـ تأويلات لغوية وأدبية مثل: وجاء ربك، فإن تمام المتخصّصين باللغة العربية أو أغلبهم سيكونون متفقين عليها حينئذٍ.

إن من يعتقد برؤية الله في الآخرة لا يرى أيّ حاجة إلى ممارسة التأويل في قوله تعالى: >وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ< القيامة: 23، أما إذا كان منكراً للرؤية، فإنه سيكون مضطراً لتأويل الآية المذكورة، وهذا معناه أن تأويل هذه الآيات إنما جاء انطلاقاً من الخلفية العقدية لا اللغوية، وحيث كان الأمر كذلك ندرك جيداً أن التأويل إنما يتمخّض ـ من حيث المبدأ ـ عن ضرورة حلّ المعضلات العصرية، والفلسفية، والعقلية، وعلى هذا الصعيد لا فرق بين التفكيكيين وغيرهم.

يرى التفكيكون قولَه تعالى: >وَجَاء رَبُّكَ< مصداقاً للتأويل، وكما يرى الملا صدرا لنفسه الحق في تأويل آيات المعاد الجسماني، كذلك التفكيكيون حيث أعطوا أنفسهم هذا الحقّ أيضاً، حتى أنهم ادعو أن كلامهم عين الإسلام لا ينحرف عنه قيد رأس إبرة.

لقد بذل الملا صدرا جهوداً مضنية ليثبت المعاد وفق تصوّره، مدّعياً أن ما قاله هو عين الشريعة ومطابق لها، فذاك هو الاعتقاد الصحيح، المطابق للعقل والشرع، والموافق للدين والحكمة، فكلّ من آمن بهذا النوع من المعاد، فقد اعتقد بيوم الحساب والجزاء، وكان مؤمناً على نحو الحقيقة، وأيّ تقصير في هذا الإيمان لا يجرّ سوى الضرر، بل هو كفر وعصيان([89])، فالمعاد الذي يراه الملا صدرا لائقاً بالاعتقاد وجديراً هو ذاك المعاد الذي ثبت اعتماداً على بعض الأصول الفلسفية مع جملةٍ من الممارسات التأويلية، إننا لا نهدف هنا الحكم والفصل في وجهة نظر صدر المتألهين، إنما لفت الانتباه إلى قضية يجدر التركيز عليها، وهي: لماذا ادعى التفكيكيون حصر رخصة التأويل بنوعٍ خاص منه فيما منعوا التأويلات العصرية والفلسفية؟!

ومع هذه الثغرة في رفض التفكيكين للتأويل، وعدم وضعهم معياراً له، تُفتح السبيل أمام مختلف التأويلات، فلا نعرف في المستقبل أيّ تأويل هو الجائز وأيّه الممنوع؟ نعم، لقد اعتبر الحكيمي أن التأويلات المسموح بها ممتازة عن التأويلات العصرية التي تغيّر المرادات القرآنية، مع إشارته إلى أن التأويل الجائز mمنطبق على موازينه الخاصة، والمعقولةn([90])، إلاّ أن هذه الإحالة منه إحالةٌ على مجهول، فهو لا يقول لنا: ما هي تلك المعايير؟ وبأيّ شيء غدت معقولةً؟

هذا، وقد سعى الحكيمي في موضعٍ آخر للإمساك بضوابط معيارية للتأويل، فقد ذهب ـ طبقاً لذلك ـ إلى ضرورة تحقّق شروط خمسة فيه، وقد بيّن الشرط الثاني منه على الشكل التالي: mيفترض بالتأويل في المواضع المقررة، أن ينحصر بها ولا يتعدّاها، وأن لا يتجاوز المورد اللازم والمقدار الضروريn([91]). إن هذا الكلام صحيح، لكن من هو الذي يقوم بتحديد مواضع الضرورة والإرشاد إلى الحاجة إلى التأويل في هذا الموضع أو ذاك؟

إن ما يحصل في هذه الحالات، أن يقوم المفسّر ـ انطلاقاً من ميوله الفكرية ونمط قراءته ـ بتحديد موضعٍ يراه بحاجةٍ إلى تأويل، فيما نجد مفسّراً آخر يعتبر الموضع نفسه غنيّاً عنه؛ نظراً لوضوحه وشدّة ظهوره، وهنا لا مرجع إلاّ العقل، فهو المرجع النهائي، وإحراز شروط التعيين إنما يكون بيده.

وبهذا نرى ـ في نهاية المطاف ـ أن المبادئ التي ذكرناها سابقاً إما لا تقبل الدفاع عنها أو أنه تتحمّل قدراً كبيراً من الاستثناء إلى حدّ لا يعود من الممكن بعده جعلها من أصول المدرسة التفكيكية، ذلك أنها لا تعطيها التمايز والخصوصية عن غيرها، والأصحّ من ذلك أن نقول: إنّ التفكيك اتجاهٌ ينضم إلى اتجاهات أخرى في الثقافة الدينية، تحتاج بدورها إلى إثبات وبرهنة، والذي نراه عند التفكيكيين مائزاً إنما هو نمط اعتمادهم على الآيات والروايات، وهذا ما يجعل بالإمكان تصنيفهم ضمن المدرسة الأخبارية.

ونحاول هنا الاكتفاء ببعض ما قاله الشهيد مطهري في هذا المجال، إنه يرى أن الأخباريين لا يرون للعقل حجيةً، ويقولون للأصوليين وأنصار الخط الاجتهادي: إنكم تقحِمون العقل في القضايا الدينية، إنّ هذه الأفعال الفضولية لا تليق بالعقل، إنه يرتكب آلاف الأخطاء، إنه يشتبه، ليس للعقل من حقّ في التدخل في شؤون الدين، بل على الإنسان نفسه أن يقوم بتخطئة عقله، إن الأخباريين يقولون ـ كما يذكر المطهري أيضاً ـ: ليس للعقل حقّ التدخل في الموضوعات الدينية([92]).

ويعزو المطهري سبب تفشي الأخذ بهذا الطراز من التفكير بين عوام الناس إلى انحياز هذا المسير للحق وقبوله بعوام الناس، ذلك أنهم يقولون: إننا لا نأتي بشيء من عندياتنا، إنما نحن أهل تعبد وتسليم، إننا لا نملك سوى قال الباقر A، وقال الصادق A، ليس لدينا كلام من عندنا، بل نقول كلام المعصوم فقط([93])، ويذهب المطهري ـ في نهاية المطاف ـ إلى بقاء بقايا الأخبارية في عقولنا اليوم([94]).

من هنا يتهم بعض مناهضي المدرسة التفكيكية، يتهمها بأنها أخبارية جديدة.

7 ـ سلطة العقل: المرجعية والهيمنة ــــــــــ

ودون أن ندخل هنا في منازعات من هذا النوع، يجدر بنا توضيح أمر وهو: هل يمكن للتفكيكيين إقناع خصومهم أم لا؟ فإذا كانوا هادفين لإقناع غيرهم فلا بدّ لهم من وسيلة تفاهم مشتركة، وليست سوى العقل، إنه من اللازم الانتباه إلى أن واحدةً من الأعمال الجادّة للمدرسة التفكيكية اليوم التدليل على عناصر الضعف والنقص في الفكر الفلسفي المدرسي والتقليدي الموروث.

الأمر الآخر الذي نجد أنفسنا مضطرّين لإيضاحه يتلخص في أن نقد الرؤية التفكيكية لا يعني الدفاع عن الفلسفة الرسمية أو العرفان الرسمي، فلا يمكن العبور من رفض الفلسفة إلى تصحيح التفكيك، كما لا يمكن مدّ الجسور من نقد التفكيك إلى تصويب الفلسفة، فلا شك في أن بعض الملاحظات النقدية التي أثارها التفكيكيون ضدّ الفلسفة كانت ملاحظات صائبة ومسجّلة، كذلك لا بدّ من أخذ العلوم الدينية من أصحابها الحقيقيين، لكن هذا الكلام الصائب لا يعني أبداً تعطيل العقل، إذ لا يمكن لأيّ حُكْم أو حَكَم أن يبطل دور العقل، وإذا ما هَدف شخص القيام بذلك وتحقيقه فيتعيّن عليه الإتيان بدليل، وإذا ما فعل ذلك يكون قد استعان بالعقل من حيث أراد أو لم يرد.

وهذا تماماً ما حصل مع الأستاذ الحكيمي، الذي أكثرَ من ضبط العقل وإلقاء السلاسل على أطرافه، ذلك أنه استعان به بل استغاث مضطرّاً في مواضع عديدة، وذلك لكي يثبت ادّعاءاته ومواقفه، من هنا لا يمكن قبول فكرة التفكيك من أصحابها والمدافعين عنها دون دليل عقلي، والاعتراف بها انطلاقاً من الدليل العقلي معناه سحب البساط من تحت أقدام التفكيكيين أنفسهم، فكل دعوى لابد لها من الاستناد إلى العقل، ولا يمكن أن يؤخذ بادعاء فوق العقل أو متعالٍ عنه.

ومن الممكن هنا أن يدّعى أن المدرسة التفكيكية تقبل بحكم العقل الصريح، وأنها إنما تعارض إقحام العقل الفلسفي أو اليوناني في فهم الدين وتفسيره، وهذا الأمر يحتاج إلى مزيد من التجلية، إذ لم نجده واضحاً في كتابات التفكيكيين، لقد نسجت الطروحات الرئيسية للمدرسة التفكيكية بصورة عامة ومطلقة لا تحوي تفسيراً جلياً لهذا الأمر، وإذا كان المقصود من العقل خصوص العقل الفلسفي الذي تمظهر في قالب النظم الفلسفية اليونانية وأمثالها، فلابدّ للتفكيكيين من تغيير معادلتهم بتحويلها من مبدأ تقدّم المعرفة الوحيانية على المعرفة العقلانية وأمثالها إلى تقدّم هذه المعرفة على خصوص المعرفة الأرسطية أو الأفلاطونية، وهذا معناه أن المعارضة التفكيكية لفهم الدين إنما هي معارضة لفهمه من زاوية نظريةٍ خاصة، أو نظامٍ فلسفي محدّد، وهو ادعاء يمكن القبول به وتبنّيه، نتيجته أن دين الإسلام وتعاليمه لا يجوز فهمها أو تفسيرها طبقاً لمعايير مدرسةٍ فكرية خاصة، مثل المدرسة الأفلاطونية، إلاّ أن التفكيكيين لا يصرّحون بهذا الأمر على هذه الشاكلة، بل يعمّمون قضيّتهم لتشمل العقل عامّةً.

الأمر الآخر هنا، أنه إذا اعتبر التفكيكيون العقل بمعناه السائد المتداول والذي يعادل فهم العامّة أو الذوق السليم common sence فإن عليهم أن يدركوا جيداً أن هذا العقل طيف وسيع لا توجد له حدود واضحة وأكيدة وثابتة، فأقلّ حدوده الحكم الوجداني والصريح، مثل قاعدة الواحد نصف الاثنين، كما يقول الحكيمي، إلاّ أن هذا العقل لا يقف عند هذا الحدّ أبداً، بل يتخطّى ذلك إلى علامات وسمات وقدرات تتجلّى في ممارسته أشكال الانتزاع، والتجريد، والتعميم وأمثال ذلك، ولهذا يشرع العقل من تلك الأصول البديهية ليشيد البناءات النظرية لنفسه بغية إيجاد نظم عريضة، وربما أحياناً عسفية جزافية، رغم أن بعض النتائج التي يتوصّل إليها عبر ذلك تحتاج أيضاً إلى تحليل وتعمّق على خلاف مقتضى العقل، وهنا إذا قبلنا العقل وصوّبنا أحكامه فلابد لنا من اتباعه في أحكامه حتى النهاية المنطقية لها، كما أن علينا أن نمارس نقداً وتقويماً لجزافياته اعتماداً على الأسس المسلّمة والأصول المتيقنة.

لقد تمركزت تمام جهود عمانوئيل كانط ـ الفيلسوف الألماني الكبير ـ حول إعادة قراءة حدود المعرفة العقلية وتفكيكها عن التخمينات الظنية العسفية الباطلة، ولهذا كتب mنقد العقل المحضn، فعندما يسمح لطائر العقل بالتحليق فإنه لن يحلّق إلى ذاك الارتفاع الذي توقعناه أو رسمناه فحسب، بل سيتخطّى ذلك ساعياً لبلوغ عنان السماء، ليضع يده على شمس الحقيقة، وهنا بالضبط نشهد تشييد نظام فلسفي، ونرى أنه كلّما كان هناك عقل وتفكير ظهرت نظم فلسفية متنوّعة.

وعليه، فإذا أراد التفكيكيون من العقل ذاك الذوق السليم فعليهم الالتفات إلى تعدّي هذا العقل حدوده الأولية، ليبدي نفسه ـ فيما بعد ـ نظاماً فلسفياً أرسطياً زمناً، أو نظام نقدياً كانطياً زمناً آخر، ونظاماً هرمنيوطيقياً حديثاً مرّةً ثالثة… إنّ هذه التمظهرات ليست سوى ظهورات للعقل السليم الذي يبدي لنا نفسه بأشكال مختلفة.

إن علم الهيئة والأفلاك الأفلاطوني ليس سوى نتيجٍ لهذا العقل، ومؤشرٍ على عطشه الذي لا ظمأ فيه أبداً للوصول إلى الحقائق، وملئ مساحات الفراغ المعرفية بتخمينات غير صائبة، أما فلسفة كانط فهي مظهر آخر للعقل نفسه، هَدِف ـ أي هذا المظهر ـ التدليل على حدود العقل التي يبلغها، وتعيين معلوماته ومعرفياته، وتمييزها عن الأقيسة الكاسدة الفاسدة، وعلى حدّ قول كانط نفسه: mإذا ما حلقت الفاهمة ـ وهي التي يفترض بها التفكير ـ عالياً فإنّها لن تعود أبداًn([95]).

وعليه، فإذا اعترف التفكيكيون بالعقل بمعناه المتعارف فسيكونون مضطرّين للأخذ بعين الاعتبار لوازم هذا العقل ونتائجه، وهي عبارة عن السعي نحو التجريد، والانتزاع، والتعميم، و.. وعقلٌ من هذا النوع ـ شئنا أم أبينا ـ لن يخرج سوى بنظرية أو نظام نظري، وهذا النظام النظري ربما يتركّز ناحية التاريخ، فنشاهد فرعاً علمياً خاصاً باسم فلسفة التاريخ، وقد يتمحور حول المجتمع فتكون نتيجته ظهور الفلسفات السيسيولوجية، وقد يتجه ناحية قضايا الوجود العامة والمبدأ و… مما يبدي أمامنا نظماً فلسفية وجودية.

من هنا، لا انسجام بين مبدأ الاعتراف بالعقل وإنكار منظوماته الناتجة عنه، فإذا ما عارضنا إنتاجه النظري فإن علينا أن نخطو ما خطاه كانط من تحديد مدَيات العقل النظري، وأين يمكنه الإنتاج؟ وأين يقع في الوهم والتخمين؟ وهذا العمل يعدّ بنفسه جهداً فلسفياً وإقراراً والتزاماً بمرجعية العقل، نعم، هذا الأمر ليس وظيفة التفكيكيين فحسب، بل كل من يرفض هذا النظام الفلسفي أو ذاك، وهو إن لم يكن نابعاً من التسليم والتعبّد فلا بدّ له أن يتخذ صورةً استدلاليةً فلسفية، ومعنى ذلك أن إقصاء الفلسفة ورفضها لابد أن يأتي بصورة فلسفية، وهذا هو منظور كلمات أرسطو المنسوبة إليه حين قال: mإذا كان لابد من التفلسف فلا بدّ منه، وإذا كان لابد من عدمه فلا بد أيضاً منهn([96])، ومعنى هذا الكلام ـ على ما يشرحه الشهيد مطهري ـ أنه لو كانت الفلسفة صحيحةً فلا بد من الاعتراف بها، أما إذا لم تكن كذلك فلا بد أيضاً من تشريح خطئها وانحرافها عبر القيام بعمل فلسفي([97]).

وهنا نبلغ نقطةً أكثر بنيويةً، وهي أن أيّ جهد يهدف لرفض الفلسفة أو الفلسفات الموجودة أو العقل الفلسفي إنما هو نوع من الفلسفة، وكمثال على ذلك نستحضر المذهب العملي الذي يشجّع على مناهضة المباحث الفلسفية النظرية البحتة، إن هذا المذهب ليس سوى نوعٍ من الفلسفة ومدرسةٍ من مدارسها، سمّيت فيما بعد بالمذهب البراغماتي، فكما كان نفي العقل إثباتاً له بشكلٍ من الأشكال لأنه لا يتم إلاّ عبر المنهج الاستدلالي، كذلك رفض الفلسفة ليس سوى شكل من أشكالها، وأسلوب من أساليب التفكير الفلسفي، ولهذا يحذّر المطهري من هذا النحو من التفكير السطحي الساذج الذي يتوهم أن بالإمكان معارضة الفلسفة دون أخذ العون منها، إنه يقول: mلا بد أن نعرف أن أيّ نوعٍ من أنواع إنكار الفلسفة ليس سوى لونٍ فلسفي أيضاًn([98]).

من هنا، لا تخرج الحالة عند التفكيكيين عن اثنتين: إما أن يكون المقصود من العقل ذاك العقل الفلسفي، وهو الذي يؤدي استبعاده إلى استحضاره عملياً، ومن ثم العود إلى الدائرة الفلسفية من جديد، أو كلّ عقلٍ لا يقوم على البديهيات، وهو العقل الذي يشرع منها، بيد أنّه ـ كما ذكرنا سابقاً ـ لا يجمد عليها بل يحلّق عالياً ويسمو، ومنع العقل عن تحليقه وطيرانه لا يمكن أن يكون إلاّ عبر معونته نفسه، وهذا ما يضعنا بالضبط أمام العقل الفلسفي وعمليات التفلسف العقلي.

ولذلك نرى كانط الذي سعى جاهداً لتحطيم تمام المنسوجات الفلسفية قبله، قد أتى ـ في المقابل ـ بنظام فلسفي خاص به، كما أنّ المعارضين للنزعات الفكرية التجريدية مثل جون ديوي لم يتمكّنوا إلاّ من إحضار فلسفة بديلة، أسمها: الفلسفة البراغماتية، فبأي معنى من المعاني قبلنا بالعقل لا سبيل أمامنا إلاّ اللقاء على نتيجة واحدة.

*    *     *

الهوامش

 



(*) باحث في الفكر الديني، يُعد أطروحة دكتوراه حول الاستنساخ.



[1] ــ راجع ـ على سبيل المثال ـ: الميرزا مهدي الإصفهاني، أبواب الهدى في بيان طريق الهداية الإلهية ومخالفته مع العلوم اليونانية: 6، 12.

[2] ــ محمد رضا الحكيمي، مكتب تفكيك: 45، دفتر نشر فرهنك إسلامي، 1996م، وقد تحدّث هناك عن الحياة الفكرية لهذه الشخصيات الثلاث مع جملة شخصيات اُخرى أيضاً للمدرسة نفسها [وقد ترجمنا دراسته هذه في العددين: 2 ـ 3 من نصوص معاصرة، تحت عنوان: رجال المدرسة التفكيكية فراجع. التحرير].

[3] ــ غلام حسين إبراهيمي ديناني، ماجراى فكر فلسفي در جهان اسلام 3: 423، طهران، طرح نو، 1379ش/ 2000م.

[4] ــ الميرزا مهدي الإصفهاني، أبواب الهدى في بيان طريق الهداية الإلهية ومخالفته مع العلوم اليونانية: 3، تنظيم وإعداد: محمد باقر اليزدي، مشهد، 1363ش / 1984م، إنّ هذا الكتاب ـ رغم حجمه الصغير ـ يبيّن مع تمام الأمانة ونهاية الاختصار مبادئ المدرسة التفكيكية، لقد شرح الميرزا الإصفهاني أصول أفكاره وأساسيّاتها في هذا الكتاب شرحاً واضحاً وجليّاً، وذلك بشكل أمين وصادق، دون توظيف المحسّنات الكلامية المختلفة، وربما المضلّلة، ولهذا يمكن لكلّ من يطالعه أن يحدّد موقفه تجاه رؤى هذه المدرسة، فيقبلها أو يرفضها، وما كان أجدر بالأستاذ الحكيمي ـ محيي هذه المدرسة ـ أن يعيد طباعة هذا الكتاب بحلّة جميلة، وينشره في الأسواق لتبلغه أيدي الجميع، فيفسح ذلك في المجال للحكم عليه أو معه.

[5] ــ قال: mفلابد لنا من التذكّر بأساس العلوم البشرية ومبانيها، والنتائج الحاصلة منها بعد استكمالها بكثرة أنظار فحول البشر وأكابرهم، وغورهم فيها، فإن القرآن المجيد جاء من الله العزيز الحميد هادماً لأساسها، وقالعاً لبنيانها، ودافعاً لما يتولّد منها، بأكمل وجهٍ وأتمّ بيانn، المصدر نفسه: 6.

[6] ــ قال: mالباب الأول من أبواب الهدى، وهو باب الأبواب: أنه لا جامع بين العلوم البشرية والعلوم الجديدة الإلهية في شيء من الأشياء، حتى في مدخلها وبابهاn، المصدر نفسه: 12.

[7] ــ للمثال راجع: المصدر نفسه: 8، 14، 16، 17، 26، 36، 40، 47، 61، 63، 69، 70، 73، 89، 90.

[8] ــ المصدر نفسه: 73.

[9] ــ غلام حسين إبراهيمي ديناني، ماجراى فكر فلسفي در جهان إسلام 3: 424.

[10] ــ مصباح الهدى: 6، المطبوع في رسائل السيد محمد باقر النجفي اليزدي، نقلاً عن: ماجراى فكر فلسفي 3: 424.

[11] ــ المصدر نفسه: 424.

[12] ــ المصدر نفسه: 425.

[13] ــ الحكيمي، مكتب تفكيك: 194.

[14] ــ المصدر نفسه: 247، ولمزيد من الاطلاع على سيرة القزويني وحياته العلمية يراجع ـ إضافةً إلى كتاب mمكتب تفكيكn للحكيمي ـ كتاب: متأله قرآني، شيخ مجتبى قزويني خراساني، لمحمد علي رحيميان الفردوسي، قم، دليل ما، 1382ش / 2003م، وقد نشر هذا الكتاب مع مقدّمة مفصّلة للأستاذ محمد رضا الحكيمي.

[15] ــ بيان الفرقان 1، المقدّمة، نقلاً عن: متألّه قرآني: 108، محمد علي رحيميان فردوسي، قم، دليل ما، 1382ش / 2003م.

[16] ــ الطباطبائي، الميزان 5: 254 ـ 271، قم، انتشارات إسلامي، بدون تاريخ.

[17] ــ فعلى سبيل المثال، طبع كتاب: أبواب الهدى بصورةٍ غير مناسبة ولا لائقة، إن هذا الكتاب الصغير الحجم (128ص) قد طبع (أوفست) دون صفّ حروفه، بل كتابة يدوية من جانب أحد تلامذة الميرزا الإصفهاني، ولهذا كانت مطالعته صعبةً وشاقة لأسباب منها الأخطاء الكتابية، أو وجود بعض الكلمات غير المقروءة، كما أن انعدام وجود فهرس للكتاب يضاعف من هذه المشقّة، وكذلك الحال في كتاب: بيان الفرقان، حيث طبع منذ سنوات عديدة دون أن يعاد طبعه مرّة أخرى، من هنا، نعتقد أنّه من الضروري طباعة هذه المصنفات مرّة أخرى طباعةً منقّحةً جديدة.

[18] ــ خصّصت مجلّة mبيناتn مؤخّراً عددين خاصّين متتالين: السنة العاشرة، العدد: 37 ـ 38، ربيع وصيف 1382ش / 2003م، وذلك لدراسة الحركة التفكيكية، وقد حمل العددان الخاصّان عنوان: mشناختنامه الحياة / 1n، وقد دوّنت مقالات عدّة تعرّف بموسوعة الحياة، كما كتبت دراسات حول مؤلّفيها، وقد قيل: إنهم خصّصوا عددين لاحقين أيضاً للموضوع نفسه، يشتملان على دراسات أخرى تتصل بكتاب الحياة.

[19] ــ كيهان فرهنكي (عدد خاص بالمدرسة التفكيكية)، السنة التاسعة، العدد: 12، 1371ش، 1992م: 5 ـ 25.

[20] ــ الحكيمي، مكتب تفكيك: 14.

[21] ــ أبواب الهدى: 6.

[22] ــ المصدر نفسه: 7.

[23] ــ قال: mلا جامع بين العلوم البشرية والعلوم الجديدة الإلهية في شيء من الأشياء، حتى في مدخلها وبابهاn، المصدر نفسه: 12.

[24] ــ المصدر نفسه: 73.

[25] ــ الحكيمي، معاد جسماني در حكمت متعالية: 308، قم، دليل ما، 1381ش / 2002م؛ وراجع أيضاً: اجتهاد وتقليد در فلسفه: 66، طهران، دفتر نشر فرهنك اسلامي، 1378ش / 1999م.

[26] ــ أبواب الهدى: 3.

[27] ــ المصدر نفسه: 5.

[28] ــ الحكيمي، اجتهاد وتقليد در فلسفة: 154، وأيضاً: 66.

[29] ــ الحكيمي، معاد جسماني: 342.

[30] ــ محمد رضا الحكيمي، پيام جاودانه: 97، قم، دليل ما، 1382ش / 2003م.

[31] ــ الحكيمي، اجتهاد وتقليد در فلسفه: 188.

[32] ــ المصدر نفسه.

[33] ــ الحكيمي، معاد جسماني: 343.

[34] ــ مكتب تفكيك: 44.

[35] ــ المصدر نفسه: 46 ـ 47.

[36] ــ المصدر نفسه: 54.

[37] ــ المصدر نفسه: 47.

[38] ــ المصدر نفسه: 159.

[39] ــ ما أذكره (في هذا المقطع) من عناوين هذه الأصول، إنما استقيناه من الأستاذ الحكيمي نفسه في مقالته: عقل خود بنياد ديني.

[40] ــ الحكيمي، عقل خود بنياد ديني: 39، همشهري ماه، العدد: 9، 1380ش / 2001م.

[41] ــ المصدر نفسه.

[42] ــ المصدر نفسه: 40.

[43] ــ المصدر نفسه.

[44] ــ المصدر نفسه: 41.

[45] ــ المصدر نفسه.

[46] ــ مكتب تفكيك: 178.

[47] ــ الحكيمي، عقل خود بنياد ديني: 42.

[48] ــ المصدر نفسه: 41.

[49] ــ مكتب تفكيك: 181؛ ورغم هذا كلّه، يخوض الأستاذ الحكيمي في كتاب mخورشيد مغربn في تأويل سورة القدر، مسنداً تأويله هذا إلى أحاديث غير معتبرة، وفي هذا الصدد، يقول الأستاذ محمد علي كوشا ـ أحد فضلاء الحوزة العلمية وأحد الباحثين الناشطين في مجال علوم القرآن والحديث ـ: إن الروايات التي أوردها الحكيمي في هذا الفصل تبلغ التسع، كلّها منقول عن الحسن بن عباس بن حريش، وهو الرجل الذي ضعّفه الرجاليّون من أمثال النجاشي، وابن الغضائري، والمحقق التستري، وعلى حدّ قول الأخير: إن هذا الراوي ضعيف، ورواياته حول سورة القدر لا اعتبار بها، فضلاً عن ابتلائها بضعف المتن أيضاً، فألفاظ حديثه فاسدة غير سليمة، تبدو عليها علائم الجعل والوضع في الحديث، وعليه، فلا يعتنى بشخص من هذا النوع، كما لا يقبل حديثه الثبت والكتابة. راجع المقالة المخطوطة للأستاذ كوشا تحت عنوان: mنظرة في كتاب شمس المغربn: 11، ويجدر القول هنا: إن الأستاذ كوشا قد سلّم هذا المقال النقدي للحكيمي، إلا أن الأخير شطب بقلمه على هذا الموضوع دون تبرير.

[50] ــ عقل خود بنياد ديني: 42.

[51] ــ المصدر نفسه: 46.

[52] ــ المصدر نفسه: 47.

[53] ــ مكتب تفكيك: 187.

[54] ــ ديناني، ماجرى فكر فلسفي در جهان إسلام 3: 438.

[55] ــ المصدر نفسه: 447.

[56] ــ الحكيمي، اجتهاد وتقليد در فلسفه: 123.

[57] ــ المصدر نفسه: 129.

[58] ــ المصدر نفسه.

[59] ــ الحكيمي، مكتب تفكيك: 68.

[60] ــ مرتضى مطهري، تعليم وتربيت در اسلام: 314، طهران، صدرا، 1373ش / 1994م.

[61] ــ من قواعد الاستنباط لدى بعض أهل السنّة.

[62] ــ من قواعد الاستنباط لدى بعض أهل السنّة.

[63] ــ مرتضى مطهري، آشنائي با علوم إسلامي، أصول فقه ـ فقه 3: 16، طهران، صدرا، 1368ش / 1989م.

[64] ــ مرتضى مطهري، تكامل اجتماعي إنسان به ضميمه هدف زندكي: 197، طهران، صدرا، 1372ش / 1993م.

[65] ــ مكتب تفكيك: 142.

[66] ــ المصدر نفسه.

[67] ــ مرتضى مطهري، بحثي درباره مرجعيت وروحانيت: 60، طهران، صدرا.

[68] ــ مرتضى مطهري، إسلام ومقتضيات زمان 2: 26، طهران، صدرا، 1373ش / 1994م.

[69] ــ المصدر نفسه: 81.

[70] ــ مرتضى مطهري، ده كفتار: 122، طهران، صدرا، 1368ش / 1989م.

[71] ــ مطهري، إسلام ومقتضيات زمان 2: 30.

[72] ــ مطهري، إسلام ومقتضيات زمان 2: 81 ـ 82.

[73] ــ آلن. أف تشارملز، چيست علم، در آمدى بر مكاتب علم شناسي فلسفي: 36، ترجمة: سعيد زيبا كلام، طهران، سمت، 1381ش / 2002م.

[74] ــ المصدر نفسه: 37.

[75] ــ راجع تفصيل ما أوردناه أعلاه، وأن المشاهدات الحسية مسبوقة على الدوام بنظريةٍ ما، المصدر التالي: دونالد غيليس، فلسفه علم در قرن بيستم (فلسفة العلم في القرن العشرين)، الفصل السابع: 162 ـ 179، ترجمة: حسن ميانداري، قم ـ طهران، سمت وطه، 1381ش / 200م.

[76] ــ محمد رضا الحكيمي، حديث متواتر ثقلين وكتابي عظيم: 59، مجلّة آينه پژوهش، العدد: 71 ـ 72، 1380ش / 2001م.

[77] ــ السيد محمد علي أيازي، تأثير شخصيت مفسّر در تفسير قرآن، فصلية مبين، السنة السابعة، العدد 19: 9.

[78] ــ مكتب تفكيك: 178.

[79] ــ المجلسي، بحار الأنوار 23: 351، 352.

[80] ــ عبدالكريم سروش، فربه تر از ايدئولوژي: 202 ـ 203، طهران، صراط، 1372ش / 1993م.

[81] ــ لمزيد من الاطلاع على إشكالية العقل والدين عند الطباطبائي والمجلسي، راجع: شناخت نامه مجلسي 1: 124 ـ 295، إعداد وتنظيم: مهدي مهريزي وهادي رباني، طهران، سازمان چاب وانتشارات وزارت فرهنك وارشاد اسلامي، 1378ش / 1999م.

[82] ــ الحكيمي، عقل خود بنياد ديني: 41.

[83] ــ المصدر نفسه.

[84] ــ المصدر نفسه: 43.

[85] ــ المصدر نفسه: 42.

[86] ــ الحكيمي، مكتب تفكيك: 178.

[87] ــ القرآن الكريم، ترجمة عبدالحمد آيتي: 95، طهران، انتشارات سروش، 1374ش / 1995م.

[88] ــ القرآن الكريم، ترجمة معزي، ذيل الآية.

[89] ــ محمد بن إبراهيم صدر المتألهين، المبدأ والمعاد: 510، تصحيح السيد جلال الدين الآشتياني، قم، دفتر تبليغات إسلامي، 1380ش / 2001م.

[90] ــ الحكيمي، عقل خود بنياد ديني: 42.

[91] ــ الحكيمي، اجتهاد وتقليد در فلسفه: 131.

[92] ــ مرتضى مطهري، إسلام ومقتضيات زمان 1: 147، 1373ش / 1994م.

[93] ــ مرتضى مطهري، ده كفتار: 107، 1368ش / 1989م.

[94] ــ المصدر نفسه.

[95] ــ عمانوئيل كانط، تمهيدات، مقدمه اي براي هر ما بعد الطبيعة آينده كه به عنوان يك علم عرضه شود: 160، ترجمة: غلام علي حداد عادل، طهران، مركز نشر دانشكاهي، 1370ش / 1991م.

[96] ــ مطهري وروشنفكران: 85، طهران، صدرا، 1372ش / 1993م.

[97] ــ المصدر نفسه.

[98] ــ المصدر نفسه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً