إعداد: سليمان ثابت
نشر في صحيفة الدار الكويتية في العددين: 439 ـــ 440، بتاريخ 29 ـ 30 حزيران، 2009م
س 1: ما هي الرؤية العلمانية للاختلاط وآثارها السلبية على بنية المجتمع القيمية والأخلاقيّة؟
حبّ الله: لا أعرف ما هو المقصود بالضبط في السؤال من مصطلح علمانية، وإن بدا لي أنّ المراد هو الرؤية غير المنضبطة بأيّ نظام أخلاقي أو ديني، أظنّ أنّ أهم مشكلة يعاني منها دعاة الاختلاط بهذا المعنى أنّهم يتصوّرون أنّ في عدم الاختلاط كبتاً، يجب أن لا يغيب عن ناظرنا سيغموند فرويد ونحن ندرس فكرة الاختلاط التي عرفها الغرب الحديث، إنّ ربط نظام الاختلاط برفع الكبت، ومن ثم ربط النظم الأخلاقية والدينية بمفهوم الكبت معناه وضعنا ضمن ثنائيات فرويد في التحليل النفسي، ونحن نلاحظ هنا ـ باختصار ـ:
أ ـ إنّ الذهنية الاجتماعية هي التي تساعد على خلق الكبت ورفعه، فعندما يتواضع المجتمع على أمرٍ ما ويصبح من الأمور المتفق عليها اجتماعيّاً وليس حكوميّاً ولا قانونياً، ولا يوجد انفتاح على نظم بديلة على المستوى الاجتماعي، فإنّ الجميع سوف يرضى حينئذٍ بهذا الوضع ولن يشعر بمردود سلبيّ على نفسيتّه وشخصيّته وحالته الروحية، فعندما ننظر إلى قضيّة الحجاب في المجتمعات التي تواضعت واتفقت جماهيرها عليه في القرون الغابرة فقد لا نجد أزمات نفسية يخلقها هذا المفهوم، وكذلك مفهوم تعدّد الزيجات، لكن عندما يحدث انقسام في المجتمع فإنّ حضور البديل سيكون له تأثير سلبي على منافسه من حيث إيحائه بوجود عنصر الكبت فيه، الأمر الذي سوف يعزز في النفس الاجتماعية هذه الظاهرة، وسيكون الحديث عن الكبت في هذا القانون أو ذاك من قوانين المجتمع منطقيّاً.
ب ـ فيما يتصل بموضعنا هنا خاصّة، القانون العام يقول بأنّ الكبت مضرّ وله مفاعيله السلبية التي تظهر على مختلف عناصر الشخصية وعلى البدن أحياناً حسب نوعية الكبت، لكن فيما يخصّ موضوعنا الذي يتصل ـ شئنا أم أبينا ـ بموضوعة الجنس، يجب أن لا يغيب عنّا أنّنا نواجه ظاهرة لا تشبه سائر الظواهر، فعندما يكون هناك شخص غضبان فإنّ السماح له بتنفيس احتقانه سوف يخفّف من غضبه، وبذلك ننتهي من المشكلة، لكن عندما نجد احتقاناً جنسياً فإنّ السماح بتنفيسه كيفما شاء قد يوحي لنا للوهلة الأولى بأنّ الاحتقان قد انجلى، لكنّ الغريزة الجنسية تشبه إلى حدّ كبير النار، فعندما تفسح لها في المجال فإنّها لا تنطفئ بل تزداد اشتعالاً، والتجربة الغربية خير شاهد على ما نقول، فهل فتح المجال بهذه الطريقة هدّأ المجتمع على مستوى الجرائم الجنسية؟! وهل خفّف من التأثيرات السلبية لهذه الغريزة أم أنّ الذي وجدناه أنّ المجتمع أخذ يسير بشكل تصاعدي وراء الشهوة الجنسيّة لتزداد تأجّجاً وحراكاً والتهاباً؟ إنّ تقديم الهشيم للنار لا يخفّف منها وإن غطّاها للحظات لكنّه يؤججها ويلهبها أكثر فأكثر.
لست أريد أن أقارن مجتمعاتنا بتلك المجتمعات حتى لا نقع في الثنائيات الوهمية القاتلة، إمّا هذا أو ذاك، وإنّما أهدف التأكيد على أنّ موضوعة الاختلاط يجب ربطها دائماً بموقفنا من إشكاليّة العلاقات الجنسية، ولا يمكن التفكيك بين الأمرين عندما ننظر لها بمنظار اجتماعي عام وليس فردياّ. ولا أقصد جعل الجنس فزّاعة، بل عنصر يحمل إيجابياته وسلبياته ليضعنا أمام صورة أكثر واقعية للمشهد المختلط، فقد يكون رأس الخيط في يدنا لكن نهايته ليست تحت سيطرتنا، وكما قال الحكماء: ربّ فعل يقوم به صاحبه لكنّه لا يعرف ما هي الآثار التي ستنجم عنه بعد وفاته.
س 2: ما هو موقف الإسلام من المنع المطلق للاختلاط (الإفراط) ومن الاختلاط المطلق بدون ضوابط (التفريط)؟
حب الله: الذي يبدو أنّ موضوعة الاختلاط بين الجنسين تحتاج إلى تعريف دقيق لكي لا نقع في التباس المفاهيم وإحراجات الكلمات، فنحن لا نملك في القرآن الكريم نصّاً يمنع مبدأ الاختلاط بين الجنسين ولو كظاهرة اجتماعية عامّة، باستثناء قوله تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن…[ (الأحزاب: 53)، فإنّ هذه الآية الكريمة إذا عمّمناها لغير زوجات النبي على أساس أنّ التعليل الوارد فيها ـ وهو الطهارة للقلوب ـ أمر مشترك بين الناس ولا يختصّ بزوجات النبي، فسوف نفهم في هذه الحال رجحان التحادث من وراء حجاب، لكنّه ليس تأسيساً لحكم إلزامي، فليس الاختلاط منبوذاً في التشريع الديني، والعديد من الروايات التي تطرح بوصفها أساساً لمنع الاختلاط مثل: خيرٌ للرجل أن لا يرى المرأة ولا تراه، ضعيفة السند، وكذلك حال ما دلّ على أنّ المرأة أو صوتها عيّ وعورة؛ لهذا لم يفتٍ الفقهاء بحرمة الاختلاط من حيث المبدأ.
إنّما الإشكالية في الآثار اللاحقة على الاختلاط وفقاً لقانون سدّ الذرائع، بما ينتهي إلى ارتكاب الحرام من النظر المحرّم أو اللمس أو غير ذلك، ومن وجهة نظري الشخصية لا مانع حتى من إقامة علاقات حبّ ومودّة بين الجنسين ولا يوجد ما يحرّم ذلك في الكتاب والسنّة لو خضع للضوابط الأخلاقية والشرعية.
إنّ الرؤية الإفراطية للاختلاط والتي تتعاطى معه بكل امتداداته وتأثيراته السلبية بنظرة إيجابية أمر لا يقرّه الشرع لأنّه وضع قوانين واضحة وصريحة بحرمة مجموعة من الأمور التي قد يفضي إليها الاختلاط أحياناً، كما أنّ الرؤية المتشدّدة في موضوع الاختلاط لا أساس لها في الإسلام، فمن أين نحصل على نصّ ثابت السند واضح الدلالة بحرمة خروج المرأة من المنزل أو حرمة حديثها مع رجل أجنبي؟ ونشاطات السيدة الزهراء والسيدة عائشة جليّة واضحة بين المسلمين ولم يردع أحد أو يستنكر شيئاً من ذلك سوى خروج عائشة زوج النبي من منزلها بوصفه حكماً خاصّاً بزوجات النبي، فلو كان التواصل الاجتماعي للمرأة أمراً منبوذاً بين المسلمين الأوائل ـ ومنهم أهل البيت والخلفاء الأوائل وكبار الصحابة ـ فلماذا لم يتم استنكار هذا الأمر على الزهراء وعائشة وزينب وغيرهنّ الكثير الكثير من نساء المسلمين؟! بل لقد امتدح سلوكهنّ ـ بصرف النظر عن المواقف المذهبية ـ والغريب أنّ بعض النصوص التي نجدها مرويّة عن عائشة زوج النبي ـ ولم يستنكرها الصحابة وأهل البيت ـ أنّها كانت تتحدّث عن بعض الأحكام الشرعية الخاصّة بالوضع الزوجي مع رسول الله $ وتنقل ذلك إلى رجال الصحابة ونسائهم على السواء، دون حرج.
لقد كانت النسوة تشاركنّ في الحرب زمن النبي دون أن نسمع أنّ النبي أعمل قانون التزاحم واعتبر مشاركتهنّ حالة ثانوية طارئة، وكانت المرأة تخرج إلى الأسواق ولم نسمع أنّ النبيّ حظر ذلك على نساء المدينة، فإذا خرجت إلى السوق فمع من ستتكلّم؟ وممّن ستشتري؟ وهل كانت هناك أسواق خاصّة بالنساء آنذاك؟!
إنّ نظام العزل والحجب ونظام الحريم الذي شهده العصر العباسي تاريخياً لم يكن له وجود في الأزمنة الغابرة، ونحن نجد في الروايات الشيعية والسنيّة رواةً من النساء يروين عن النبي وأهل بيته وصحابته للرجال الكثير من الأحاديث، ولم نسمع أحداً استنكر ذلك، وهذا السيد أبو القاسم الخوئي رحمة الله تعالى عليه يذكر في معجم رجال الحديث 135 امرأة راوية للحديث ويترجمهنّ في هذا الكتاب، فمبدأ الحجب والحيلولة دون الاختلاط لا أساس له في الشريعة الإسلامية، تماماً كمبادئ حظر عمل المرأة وتعلّمها وغير ذلك.
س 3: هل وظيفة الدولة فرض الحجاب أم نشر القيم والأخلاق؟
حبّ الله: هناك مناقشات فقهية في موضوع حقّ الدولة الشرعية في الإلزام بالحجاب وهناك تعدّد في الرأي في هذا الموضوع، فبعض العلماء يذهب إلى ثبوت هذا الحقّ للدولة انطلاقاً من مبادئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث دلّت الآية على أنّ الذين يمكّنون في الأرض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وينطلق هذا الفريق من أنّ الشريعة وضعت لكل حرام من المحرمات عقاباً وأنّ المحرمات التي لم تضع لها عقاباً محدّداً جعل أمر تحديد العقوبة فيها للحاكم الشرعي وعبّر عنها بالتعزيرات، وقالوا بأنّ كل محرّم يرتكبه أيّ فرد يمكن للحاكم الشرعي أن يعاقب عليه من حيث المبدأ، ولهم أدلّة أخرى أيضاً.
في المقابل يذهب الفريق الآخر إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتضمّن حالة الإلزام بالفعل، عبر ممارسة العنف ضدّ تارك المعروف أو فاعل المنكر، وإنّما هو سبيل دعوي تبليغي، وما قيل عن وجود مرتبة في الأمر بالمعروف سمّيت بمرتبة اليد لا يعني ذلك؛ لأنّ روايات هذه المرتبة أغلبها ضعيف السند، وكلمة الأمر لا تعني الإلجاء إلى فعل والفرض والقهر، بل تعني الدعوة اللسانية، فضلاً عن أنّ بعض العلماء المتقدّمين فسّر مرتبة اليد بأنّها قيام الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بفعل المعروف وترك المنكر ليكون قدوةً لغيره، ولهذا جعل بعض العلماء مرتبة اليد أوّل المراتب وليس آخرها، بل هذا هو ما ورد في بعض الروايات، وليس من المعقول أن يكون التغيير باليد هو أوّل خطوة نواجه بها أيّ منكر يصدر من شخص أو جماعة.
وأمّا القاعدة التي قالوا بأنّها تسمح للحاكم بالتعزير في كلّ معصية فهذه لم يثبت عليها أي دليل صحيح السند، فالموضوع محلّ خلاف في هذا الأمر، وقد كان وما يزال كذلك.