مدخل منهجي ـــــــ
حجية الروايات التفسيرية ـ تلك الأحاديث الواردة في تفسير الآيات القرآنية ـ من المواضيع المهمة في باب حجية الروايات المنقولة عن الرسول وآل بيته ـ صلوات الله عليهم ـ ويندرج تحت سؤال أعمّ هو: bهل الروايات الواردة في مجال المعارف حجة أم لا؟v.
ولتسليط الضوء على هذا البحث الهام، لابد من التدقيق الواسع في هذا المجال، أما هذا المقال فإنه يختصّ بجانب من جوانب الموضوع، تاركين التفصيل فيه لفرصةٍ أخرى.
وقبل الولوج في صلب الموضوع، لابد من الإشارة إلى نقطتين:
1 ـ لروايات الأئمة المعصومين ( ـ كما نعلم ـ ثلاثة أركان لابد من ثبوتها كي يمكن العمل بها، وهي: التحقق من صدور الرواية، وثبوت دلالتها، ومعرفة سببها وظروفها، أي ـ على سبيل المثال ـ هل صدرت للتقية أم لبيان الحكم؟ فإذا توفرت هذه الشروط الثلاثة صدق عليها مفهوم الحجية، وبالنتيجة إمكانية العمل بها.
يختلف نوع الروايات المأثورة بلحاظ كيفية نقلها؛ فبعضها متواتر ممّا يحقق اليقين بصدورها وصحّتها، وبعضها الآخر غير متواتر، لكنه يتضمن قرائن توفر اليقين العقلائي بصحّته دون الحاجة لأدلّة حجية خبر الواحد.
أما الروايات التي لا يصدق عليها أحد هذين التعريفين؛ أي ليست متواترة أو متضمّنة للقرائن القطعية، فإنها تبقى بحاجة إلى دليل في ثبوت حجيّتها.
ويتركّز بحث bحجية خبر الواحدv في علم أصول الفقه على إثبات حجية هكذا نوع من الأخبار، وتأريخياً رفض جماعة من كبار علماء الأصول حجية خبر الآحاد جملةً وتفصيلاً، والجميع يعرف الإجماع المنقول عن السيد المرتضى P في هذا الباب، وهذا ما لا يهمّنا وإنما نعلن أنّ أخبار الآحاد الخالية عن القرائن القطعية حجة معتبرين ذلك فرضيةً يقدّمها هذا المقال، إما بناءً على رأي العقلاء أو بالاستناد إلى الآيات والروايات التي يتمسّك بها أرباب البحوث الموسّعة في bحجية خبر الواحدv.
ونظير هذا البحث، ما يطرح في مجال دلالة الأخبار والنصوص الروائية والقرآنية؛ فالأخبار تارةً تكون نصاً في الحكم المراد دون احتمالٍ لخلافه، وفي هذه الحالة تكون دلالتها حجةً من باب اليقين المحرز، دون الحاجة إلى دليل آخر في إثبات الحجية، وأخرى لا يتجاوز مدلول الرواية حدود ظاهرها ـ وهو الأعمّ الأغلب فيها ـ أي مع احتمال كون مراد المتكلم غير ما دلّ عليه ظاهر النص الروائي، وهنا تفتقر حجيّة هذه الظواهر إلى دليل لإثباتها، فالظاهر لا يفيد سوى bالظنv، والأصل فيه عدم الحجية، وللتخلص من هذا الأصل نبقى بحاجةٍ إلى دليل خاصّ يساعدنا في ذلك.
قلنا: إننا لسنا بصدد البحث في دليل حجية الظواهر، وإنما نعتبر الحجية فرضيةً مفروغاً عنها، إما وفقاً لرأي العقلاء، وإما استناداً إلى الروايات القطعية الدلالة، وإلاّ لزم الدور.
نعم، لعلّه يمكن التماس أدلةٍ عقلية على حجية الظواهر، لكن هذا ليس محلّ ذلك هنا([1]).
وهكذا فيما يخصّ مناخ الرواية وظروفها، كما في مثال التقية وعدمه، فإنه يحرز تارةً بشكل قطعي وأخرى وفقاً للأصول العقلائية أو الأصول العلمية إثباتاً للحجية.
2 ـ الروايات التفسيرية تارة تكون خاصّةً بآيات الأحكام، كالرواية التي تفسر آية: >أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ< بمعنى bأوفوا بالعهودv.. وهذه الروايات محكومةٌ بحكم روايات الأحكام الشرعية، ولا تحتاج كثيراً إلى البحث، أما محط بحثنا هنا فهو تلك الروايات الواردة في غير آيات الأحكام الشرعية، كتفسير آيات العقائد والعلوم والتكوينيات والتاريخ.
السؤال الرئيس: هل الخبر الواحد حجة في العقيدة والتفسير؟ ـــــــ
بعد هذه المقدّمة نطرح سؤالنا الرئيس هنا وهو: هل الروايات التي لا يقين بصدورها ودلالتها ووجه صدورها حجةٌ في العقائد والعلوم، وخصوصاً التفسير أم لا؟
يذهب الكثير من الأصوليين إلى الحكم بعدم حجية روايات الآحاد في باب العقائد والتكوينيات، ويسري هذا الحكم نفسه إلى الروايات التفسيرية، إذ ينقل عن الشيخ المفيد أنه صرّح مراراً في كتاب شرح اعتقادات الصدوق بأنّ: bخبر الواحد في هذا الباب لا يوجب علماً ولا عملاًv ([2])، وكذلك الشيخ الطوسي في مقدّمة تفسير التبيان؛ حيث رفض العمل بخبر الواحد في مجال التفسير:
bينبغي أن يرجع إلى الأدلة الصحيحة، إما العقلية أو الشرعية ممّا هناك إجماع عليه أو نقل متواتر به عمّن يجب اتباع قوله، ولا يقبل في ذلك خبر واحد، خاصة إذا كان ممّا طريقه العلم، ومتى كان التأويل يحتاج إلى شاهد من اللغة فلا يقبل من الشاهد إلاّ إذا كان معلوماً بين أهل اللغة، شائعاً بينهم، وأما طريقة الآحاد من الروايات الشاردة والألفاظ النادرة فإنه لا يقطع بذلك، ولا يُجعل شاهداً على كتاب الله، وينبغي أن يتوقف فيهv ([3]).
ويصرّ العلامة الطباطبائي أيضاً في مواضع مختلفة من تفسير الميزان على عدم حجية أخبار الآحاد في باب التفسير، منها ما ورد في قصّة لوط من سورة هود: b… والذي استقرّ عليه النظر اليوم في المسألة، أنّ الخبر إن كان متواتراً أو محفوفاً بقرينة قطعية فلا ريب في حجيته، وأما غير ذلك فلا حجية فيه، إلاّ الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية الفرعية إذا كان الخبر موثوق الصدور بالظن النوعي، فإن لها حجيةً؛ وذلك أنّ الحجية الشرعية من الاعتبارات العقلائية فتتبع وجود أثر شرعي في المورد يقبل الجعل والاعتبار الشرعي، والقضايا التاريخية والأمور الاعتقادية لا معنى لجعل الحجية فيها؛ لعدم أثر شرعي، ولا معنى لحكم الشارع بكون غير العلم علماً وتعبيد الناس بذلكv([4]).
والسرّ في عدم حجية الروايات التفسيرية غير القطعية ـ كما في كلام العلامة الطباطبائي ـ يكمن في أن التعبد ناشىء من دليل الحجية من مورد يقبل الاعتبار والجعل الشرعي، فلا معنى للتعبّد في ثبوت الأمور وعدمها حين ينتفي الأثر العملي فيها؛ كالتعبد بمسألة bالسماوات السبعv عندما لا يتوفر دليل قطعي على ذلك، فهل من فائدة ملموسة حينئذ؟!
نظرية الشيخ محمد هادي معرفت ـــــــ
أمّا من وجهة نظري، فإنّ مدّعى الأصوليين ودليلهم على ذلك محكم لا اعتراض عليه، وقد أشكل الأستاذ معرفة دام عزّه في مقالة علمية له حملت عنوان bاستخدامات الحديث في التفسيرv على ما تقدّم من مدعى ودليل، وهذه خلاصة لما علّق عليه:
bليس لخبر الواحد الثقة بلحاظ اعتباره صلة تعبدية، إنما هو ذو دلالة ذاتية من وجهة نظر العقلاء وهو ما يقرّ به الشرع أيضاً، وقد اتفق البشر على أن يرتبوا أثراً على إخبار الشخص الموثوق بكلامه، فيتعاملون معه كواقع محرزٍ ومعلوم، وهذا ليس من قبيل العقد والتوافق أو التعبد المحض، بل إنّ نفس ميزة الكشف فيه هي التي تمنحه هذه الصلاحية، وقد عمل الشارع المقدّس ـ وهو سيّد العقلاء ـ بهذا الأمر دون مؤاخذته، إلاّ فيما إذا كان صاحب الخبر غير ملتزم وليس بثقة ليعتمد عليه، فلا يمكن ترتيب أثر على كلامه دون التحقق والمتابعة الدقيقة >إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا< (الحجرات: 6)؛ لذا فإنّ العمل بخبر الواحد الثقة ليس مختصّاً بالفقة والأحكام الشرعية ولا جانبَ تعبديَّ فيه، إنما اعتباره عام في سائر المجالات التي يصادق عليها العقلاء ـ ومنهم الشارع ـ.
تأسيساً على ذلك، يحظى إخبار العدل الثقة بكلام المعصوم ـ سواء في مجال تفسير القرآن أو غيره من المجالات الأخرى ـ بتأييد عقلائي يوافق عليه الشرع، حيث إن هذا الإخبار كاشف عن رأي المعصوم فهو ذو حجة، وكأنك سمعت من المعصوم مباشرةً.
وفي الحقيقة، فإننا لو رفضنا حجية خبر العدل الثقة في باب التفسير سوف نكون في معزل تامٍ عن كلام المعصومين والصحابة والتابعين بشكل كامل؛ ذلك لأنّ العمل بأحاديثهم سوف يكون محصوراً بعصر الظهور، وهو أمر يعطّل هذه الأحاديث إلى أبد الآبدين!v ([5]).
نقد نظرية العلامة معرفت ـــــــ
ربما أحدث اللبس الواقع في هذه العبارات السابقة تداخلاً في الخطوات المتّبعة، ممّا أدى إلى خطأ في النتيجة، وهو أمر مرفوض حتماً، وذلك:
أولاً: لابد من التفريق بين خبر الواحد الذي هو موضوع الاعتبار وبين الاعتبار ذاته، وإذا كان هنالك شيء ذا دلالة ذاتية فهو الخبر الواحد لا اعتباره، أما قول الأستاذ هادي معرفت أن: bليس لخبر الواحد بلحاظ اعتباره صلة تعبدية، وإنما هو ذو دلالة ذاتية من وجهة نظر العقلاءv، فهو ضرب من التسامح، ويعني بذلك أنّ خبر الواحد هو بحدّ ذاته ذو دلالة ذاتية.
ثانياً: ما معنى أن يكون bخبر الواحد ذا دلالة ذاتيةv؟ فالجميع يقول بوجود الدلالة الذاتية بنحو من الأنحاء، إنّ دلالة خبر الواحد ظنية ناقصة، إلاّ أنها bدلالة ناقصةv ذاتية، وهذا الكشف الناقص في الظنون ليس تعبدياً ولا عقدياً، إنما هو من قبيل الكشف bالذاتيv، والسؤال هنا: أيّ أمرٍ بإمكان الذاتي إثباته؟ فـ (الدلالة الناقصة) ليست حجّةً في حدّ ذاتها؛ لأنّ مجرد احتمال وجود الخلاف يقضي بإلغاء العقلاء والشارع لاحتمال الخلاف تعبّداً.
لقد نهت بعض الآيات والروايات عن العمل بالظن، إلاّ أن يكون ظناً خاصاً خارجاً بالدليل، والدليل هو نفس ذلك المعنى في الحجية االتعبدية.
إلاّ أنّ الذي يظهر من كلام الأستاذ معرفت أن المراد من bالدلالة الذاتيةv هو الدلالة التامة، يقول: b… بما أنّ أساس اعتبار خبر الواحد الثقة نابع من توافق العقلاء المقرّ من قبل الشارع، لذا يكون ما قضى به العقلاء وأقرّه الشارع مستنبطاً من دلالته التامة، ولا سبيل للتعبد فيه إطلاقاًv ([6]).
ولابد أنه يعني من bالدلالة التامةv تلك التي لا تحتمل الخلاف مطلقاً، وهذا يعني أن خبر الثقة قطعي الصدور، وفي هذه الحالة يبرز إشكالان:
1 ـ إنّ أخبار الآحاد قطعية الصدور خارجة عن البحث؛ لأن قطعي الصدور لا يحتاج في إثبات حجيته إلى توافق العقلاء أو إقرار الشارع، وجميع أولئك الذين تعرّض الأستاذ معرفت لآرائهم وانتقدها كانوا يقولون بإمكانية العمل بالخبر القطعي الصدور سواء في التفسير أو الاعتقاد، وبالطبع هذا يصدق في موضعٍ لا تكون فيه حجية الدلالة تعبديةً كالروايات التي هي نصّ في الدلالة مع إحراز انتفاء وجود التقية.
إذن، فأصل البحث يدور حول الأخبار الظنية الصدور، من هنا قال الشيخ المفيد: bخبر الواحد في هذا الباب لا يوجب علماً ولا عملاًv.
وقد اعتبر الأستاذ معرفت ـ في مواضع متعدّدة من مقاله ـ أن العمل بخبر الواحد الثقة ممّا اتفق العقلاء عليه وأمضاه الشارع أيضاً، فإن كان خبر الواحد قطعيَّ الصدور فما الحاجة لرأي العقلاء وإمضاء الشارع، وهل يصدق هكذا نوع من التوافق والإقرار هنا؟ وقد ثبت في مباحث bالقطعv في علم الأصول أنّ العمل بالقطع غير قابل للنفي والإثبات، لا من قبل العقلاء ولا من الشارع.
2 ـ إن ادعاء كون خبر الواحد الثقة ذا دلالة تامة على الصدور بعيد كلّ البعد عن الحقيقة والواقع؛ فكيف لأخبار الآحاد التي تعدّدت وسائطها ورواتها الذين لا يتجاوز بعضهم ـ في علم الرجال ـ حدود الظن، أن تكون قطعية الصدور عندنا؟! فهذا من قبيل قول الأخباريين: إن روايات الكتب الأربعة جميعها مقطوعة الصدور، وبطلانه لا يحتاج إلى دليل([7]).
يتضح ممّا تقدم أنّ الكثير من أخبار الآحاد الثقات ظنية الصدور، وأنّ هذا الظن وإن كان قوياً أحياناً إلاّ أن حجيته تبقى بحاجةٍ إلى دليل، ولا يختلف الدليل بين أن يكون ممّا توافق عليه العقلاء ثمّ أمضاه الشارع، أو أن الشارع بنفسه اعتبر ظني الصدور حجةً.
ثالثاً: ثمة تهافت في كلام الأستاذ معرفت فيما يتعلّق بنفي bالتعبّدv بالعمل بخبر الواحد الثقة فهو يقول: b… وقد اتفق البشر على أن يرتبوا أثراً على إخبار الشخص الموثوق بكلامه، وهذا ليس من قبيل العقد والتوافق أو التعبّد المحض، بل إنّ نفس ميزة الكشف فيه هي التي تمنحه هذه الصلاحيةv.
فإذا لم يكن الأمر من نوع العقد والتعبّد المحض فهل من حاجةٍ للـ bالتوافقv؟! وهل يكون bترتيب الأثرv ـ حينئذ ـ توافقياً؟ هل يمكن أن نقول: إنهم يتعاملون معه بوصفه واقعاً محرزاً ومعلوماً؟ إن تعبير bاتفقوا على ترتيب الأثرv الذي جاء في كلامه ليس إلاّ ضرباً من التوافق العملي بين العقلاء في أن يرتبوا أثراً على خبر الواحد على غرار ترتيبهم في الأمر القطعي، أو أنهم يتعاملون معه كما يتعاملون مع الواقع المعلوم، لكن جميع هذه التفسيرات لا تتجاوز مفهوم كونها bتوافقاً عملياًv.
أمّا قضية صدق مفهوم bالتعبدv على bالتوافق العمليv وعدمه، فهو لا يؤثر كثيراً على النتيجة؛ فهو ممكن من ناحيةٍ وممتنع من أخرى؛ فإذا كان المقصود من bالتعبدv ما هو خال من أيّ مناط وملاك فلن يكون بناء العقلاء في باب حجية خبر الثقة تعبدياً؛ إذ لابد من دخالة الدلالة الظنية الناقصة لخبر الثقة في بناء العقلاء، وإن كان المقصود من bالتعبديv المفتقر لـ bبناء العقلاءv و bتوافقهم العمليv فإن حجية خبر الواحد الثقة هنا ستغدو أمراً تعبدياً؛ لأنّ دلالتها هنا ليست تامةً وبحاجة للتعبّد والتوافق العملي.
على أيّة حال، ليس لموضوع إطلاق التعبد على توافق العقلاء وعدمه مدخلية في أصل البحث، إنما الذي يقوله الأصوليون: أنّ لكل توافق علمي سواء من العقلاء أو الشارع أثر مترتب عليه كي يصدق عليه توافق، وإلاّ سيكون التوافق عبثاً ولغواً من العقلاء ومن الشارع على حدّ سواء.
ولابد أن نعتبر هذا القدر من قول الأصوليين من بديهيات مبحث bالتوافقاتv. حيث يقول الإستاذ معرفت: bقد اتفق البشر على أن يرتبوا أثراً على إخبار الشخص الموثوق بكلامه، فيتعاملون معه كواقع محرزٍ ومعلومv، فإن كان البشر في صدد ترتيب أثر على كلام الثقة، إذاً فلابد أن يكون أثراً منسجماً مع ما يتوافقون عليه من رأي، فإن لم يكن هناك أثر يذكر فما الفائدة من bترتيب الأثرv؟! وما معنى الانسجام معه؟ وهكذا في عبارة bالتوافق المترتب على ذلك الأثرv.
وعندما يقول: bفيتعاملون معه كواقع محرزٍ ومعلومv يعني أيضاً أن هذا التعامل عقلائي بحت؛ ليترتب عن طريق هذا التوافق الأثر المحرز والمعلوم على خبر الواحد، وإلا ماذا سيكون معنى bالتعامل معه كواقع محرز ومعلومv؟ فإذا لم يكن الواقع المعلوم من سنخية الأثر الناتج وكان أمراً نظرياً محضاً كيف سيفسر معنى bترتيب الأثرv أو bالتعامل مع الواقع المحرز المعلومv؟
فلو قيل: إنّ البشر متفقون على ترتيب الأثر في موضعٍ ما فيفترض أن يكون أثراً عيّنه العقلاء أنفسهم وفقاً لأمرٍ ما، أما في مجال الاعتقاد والتفسير والأمور النظرية فما هو الأثر المفترض؟ وعلى أيّ شيء يترتب؟
فالعلم والاعتقاد وغير ذلك من الأمور النظرية لا يمكنها أن تكون ذلك الأثر المقصود؛ لأنها لا يترتب عليها التوافق، إنّ العلم والاعتقاد من الأمور التكوينية إذا تحصلت لن تحتاج للتوافق المترتب، بل أكثر من ذلك إنها غير قابلة للتوافق، وإذا لم تحصل ليس بإمكان توافق العقلاء إيجادها بمفرده.
نعم، لو فُرض أنّ هناك أثراً عمليّاً مترتباً على العلم والاعتقاد أمكن لخبر الواحد الثقة أن يكون محلّ ذلك الأثر تعبداً بلحاظ توافق العقلاء وإمضاء الشارع، وهنا يصبح خبر الواحد الثقة حجة ولا يخالف الأصوليون ذلك.
رابعاً: يعبّر الأستاذ bمعرفتv عن إلغاء حجية إخبار العدل الثقة في باب التفسير بالاستبعاد فيقول: في الحقيقة إننا لو رفضنا حجية خبر العدل الثقة في باب التفسير سوف نكون في معزل تام عن كلام المعصومين والصحابة والتابعين بشكل كامل؛ ذلك لأنّ العمل بأحاديثهم سوف يكون محصوراً بعصر الظهور، وهو أمر يعطل هذه الأحاديث إلى أبد الآبدين([8]).
إلاّ أنّ هذا bالاستبعادv وذلك bالتعطيل السرمديv لا واقع له أساساً؛ فلم يُلغ الأصوليون حجية خبر العدل الثقة مطلقاً، إنما قالوا بعدم صدق الدليل العقلائي أو الشرعي على الحجية التعبدية، أي لا مجال للتعبد فيه، لذا لو كان صدور الخبر قطعياً ـ نظراً للقرائن أو التواتر ـ سيكون خبر الثقة معتبراً بلحاظ الصدور.
أضف إلى ذلك: إنّ الفائدة في كلام المعصومين ( ـ سواء في باب التفسير أو التكوينيات ـ لا تقتصر على ناحية التعبد به، كي يقال: إن إغلاق باب الاعتبار الشرعي يتسبّب في تعطيلٍ سرمدي لأحاديثهم (؛ فكثيراً ما كشفت كلماتهم عن سبل جديدة أمام البشرية هي بحد ذاتها في غاية من الأهمية بغض النظر عن قضية التعبد بها، فهذه الآفاق الجديدة هي نفسها فائدة كبيرة ومنفعة ثمينة.
فلو فرضنا أنّ برهاناً توحيدياً ذُكر في روايات الأئمة المعصومين ( فليس غرضها التعبّد به، بل الهدف منه توسيع وإنشاء آفاق جديدة أمام الإنسان، إذاً فهناك فائدة فيه وإن لم يكن قطعياً، فالحلول الجديدة لا يستهان بها حتى وإن كانت لا تزال في بقعة الاحتمال والظن، وبامكان الإنسان تتبّعها كي يحصل على ثمرتها، فقد يكون احتمال حلّ المسألة بقيمة السبيل إلى حلّها واقعاً.
وهذا الأمر منطبقٌ على موضوع الظواهر القرآنية؛ فمع أنّ القرآن قطعي الصدور إلا أن دلالته قد تكون ظنيةً في بعض الأحيان، لذا يصدق على الآيات الظنية الصدور ـ المرتبطة بالعقائد والعلوم ـ البحث المتقدم، ووفقاً للأصوليين لا يمكن لهذه الآيات أن يصدق عليها موضوع حجية الظواهر، لأنّ في الأمور التكوينية لا مجال للأثر العملي كي يترتب عليه التعبد والأثر المفترض.
ويمكن أن يقول قائل: إنّ معنى هذا الكلام أنّه لا قيمة لجميع الآيات المتعلّقة بالمعارف والتاريخ و….!! وجواب ذلك:
أولاً: ليس دلالة جميع هذه الآيات ظنية لنحتاج لأدلة حجية الظاهر، فهناك الكثر من الآيات التي يمكن القطع بمفادها وفقاً للقرائن.
ثانياً: ليس غرض آيات العقيدة والعلوم إثبات أمرٍ ما تعبداً، إنما مجرّد تقديم بعض الحلول والسبل وهو أمرٌ غاية في الأهمية بحدّ ذاته، وعلى الإنسان أن يسير خلف هذه العلامات حتى يهتدي بنفسه لسبيل الرشاد ويحصِّل اليقين.
ليس غرض الآيات القرآنية خلق bاليقين التعبديv لدى الإنسان، إنما وضع البشر في الاتجاه الصحيح وإن لم يكن في المجال القطعي ليشقّ الإنسان طريقه بنفسه نحو الهدف المنشود، فلطالما حذّرت آيات القرآن البشرية الموغلة في وَحل الماديات ودَعَت الناس إلى المعاد، فلو افترضنا أن أحدهم لم يحصل عنده يقين بهذه الآيات ـ وهو فرض ممتنع ـ إلاّ أنها تولّد عنده ظناً عقلياً بوجود عالم بعد الموت، وأن الإنسان لا يتلاشى وينعدم إنما ينتقل من منزل إلى آخر، ولو تبوأتْ هذه الفكرة مكانها من ذهن الإنسان ـ ولو مجرّد احتمال فقط ـ لم يعد حاله كما كان عليه سابقاً؛ فالذي يعيش هواجس الموت والمعاد سيخوض في أمورٍ جديدة غير معهودة له وستنقلب قضاياه رأساً على عقب،إذاً، لا ينحصر غرض آيات عالم التكوين ذات الدلالة الظنية ـ كالروايات الظنية الصدور ـ بالتعبّد.
كما ليس هناك فرق بين عصر الغيبة وعصر الظهور، كما قال الأستاذ معرفت: bلو فرضنا حجية خبر العدل الثقة لكان العمل والفائدة من أحاديثهم محصوراً بعصر الظهور، وهو أمر يعطّل هذه الأحاديث إلى أبد الآبدينv؛ فإنّ هذا الكلام ليس صحيحاً، لأنه حتى في عصر الظهور ليس بإمكان الجميع الاستماع للإمام ومجالسته، بل ذلك مقتصر على جماعة محدودة من الناس ممّن هو على اتصال وقرب منه وبإمكانهم سماع الرواية مباشرةً، في حين يبقى الملايين من المسلمين في شتّى بقاع العالم محرومين من هذه الميزة.
زدْ على ذلك أنّ الذي يستمع لرواية الإمام % بشكل مباشر أيضاً هو أمام مشكلة درك الدلالة الصحيحة وغرض الرواية وظروفها؛ فقد لا يتمكّن من تحصيل اليقين بذلك؛ لذا يتعيّن عليه الرجوع إلى أدلة حجية الظواهر والأصول العقلائية الأخرى، فيأتي الكلام عن البحوث المتعلّقة بمسألة الصدور في عصر الغيبة، لكن هذه المرّة في عصر الظهور.
إذن، فالقضية عامة لا تأثير للحضور والغيبة فيها. نعم سيكون الصدور وحده هو القطعي لدى أولئك الذي يشافهون الإمام %، فيقطعون بصدور الرواية عنه، الأمر الذي قد يكون ممكناً أيضاً في عصر الغيبة، كما في حالات التواتر وتوارد القرائن.
مدخل آخر لإثبات حجية الروايات التفسيرية والكلامية ـــــــ
يواصل الأستاذ معرفت بحثه في الموضوع، فيستشهد بكلام السيد الخوئي ) فيقول: كثيراً ما يشكل على حجية خبر الواحد من الرواة الموثوق بنقلهم عن المعصومين ( فيما يخصّ تفسير الآيات، ووجه ذلك أنّ معنى الحجية المفترضة لخبر الواحد وغيره من الأدلة الظنية هو ضرورة ترتيب الأثر الحاصل عليه في حالة الجهل بالواقع، كما لو أننا قطعنا به، وهذا لا يتحقق إلاّ إذا كان مفاد الخبر حكماً شرعياً أو موضوعاً رتّب عليه الشرع أثراً ما، وهذا الشرط لا يتوفر في خبر الواحد في باب التفسير.
وهذا إشكال لا يصمد أمام التحقيق، لما بيّنا في مباحث علم الأصول من أنّ معنى حجية الأمارة بلحاظ الواقع هو أنّها تعتبر علماً تعبدياً بحسب حكم الشارع، والطريق المعتبر ـ كخبر الواحد ـ من مصاديق العلم، إلاّ أنه تعبّدي وليس وجدانياً؛ لذا تترتب جميع الآثار المترتبة في حالة القطع على هكذا نوع من الأخبار، بحيث يمكن الإخبار عنه كما يخبر عن العلم الوجداني، وهذا الإخبار ليس خالياً من العلم.
ودليل ذلك ملموس في سيرة العقلاء؛ لأنهم يتعاملون مع الطريق الموثوق به كعلمٍ وجداني ولا يفرقون بين آثارهم، فعلى سبيل المثال اليد أمارة على الملكية عند العقلاء ثم يرتبون الآثار على تلك اليد من أمور الملكية ويخبرون عن ملكية صاحب اليد، ولا يوجد أحد ينكر هذا الموضوع، ولم يعارض من قبل الشارع وسيرة العقلاء([9]).
نقد نظرية الخوئي عند الأستاذ معرفت، وقفة تقويمية جامعة ـــــــ
ثمّة نقطة واحدة في كلام أستاذنا الخوئي خاضعة للنقاش، وهي عندما اعتبر خبر الواحد علماً تعبّدياً في مقابل العلم الوجداني، مع القول باتحادهما في الأثر! في حين ليس لخبر الواحد الثقة أساسٌ غير بناء العقلاء، واقتصار دور الشارع على تأييده، وأن اعتبار العقلاء وتأييد الشارع ناتج عن الدلالة التامة لذلك الخبر دون أن يكون للتعبّد مدخلية في ذلك([10]).
إنّنا نرى أنّ كلام كلٍّ من الأستاذين لا يخلو من المناقشة؛ أما كلام الأستاذ معرفت فهو غاية في الغرابة! حيث يظهر من كلامه هنا أن خبر الواحد له دلالة تامة على الواقع؛ لذا منع دخول التعبد فيه مطلقاً، وهذا يعني أنّ خبر الواحد الثقة دالّ على القطع بالصدور! الأمر الذي لم يقل به أحد وهو مخالف للتحقيق العلمي تماماً.
ناهيك عن التهافت الغريب في كلامه؛ إذ لو كان خبر الواحد كاشفاً عن القطع بالصدور وانتفى مجال التعبّد فيه، فما هي الحاجة لبناء العقلاء وإمضاء الشارع؟!
زِدْ على ذلك أن الظاهر من كلام السيد الخوئي ) أنّ بحثه يدور حول موضوع الأمارات الظنية، أي الذي لا تقودنا الإمارة فيه إلى اليقين، وإلاّ لانتفت بانتفاء الموضوع؛ إذاً فلا يرد إشكال الأستاذ معرفت على هذا الكلام.
ويبقى كلام السيد الخوئي ) هو الآخر أيضاً بحاجة للبحث والمناقشة، فإما أن يكون مراده القول بحجية روايات الأئمة ( في باب التفسير والتكوينيات معاً ولو في الجانب النظري الاعتقادي، وهذا ليس صحيحاً، وقد تقدّم دليل بطلانه؛ فنحن أينما فرضنا الحجية العملية وبأيّ معنى كانت لزم توفر الأثر العملي، ولا يعقل تحققها دون ترتيب الآثار العملية خارجاً.
وإما أن يكون مراده إمكانية توفر الجوانب العملية في روايات الأئمة ( في باب العقيدة والتفسير والتكوينيات، من قبيل bصحة الإسنادv والخروج من bالقول بلا علمv فيكون كلامه صحيحاً، إلاّ أنه لا يفيد الحجية في المجال النظري والاعتقادي.
توضيح ذلك: أنه يمكن التماس الآثار العملية في الأمور النظرية والتكوينية ـ كما ذهب إليه المحقق الخوئي ـ من قبيل bصحة إسناد الكلام للباريv والخروج من مسألة bالكلام بغير علمv، فنحن نعلم بأنه لا يوجد كلام خال من الحجية وينسب لله ـ عزّ وجلّ ـ أو الرسول والأئمة المعصومين (، إذ سيكون افتراء يرفضه العقل والشرع؛ فإذا وردتنا رواية تفسيرية في باب العقيدة والعلوم تتوفر فيها شروط الحجية، يمكن نسبتها إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ أو المعصومين نظراً لشمول دليل الحجية لها، وهذه النسبة لا تخلو من حجّة قطعاً، لذا فهي خارجة عن عمومات حرمة الافتراء ونسبة الكلام دون علم.
هذا كلام صحيحٌ، غير أنه لا ينطبق على الأثر النظري أو الاعتقادي أو التكويني ممّا نحن فيه، أي لا يمكن لهكذا نوع من أدلّة الحجية أن تقدّم اعتقاداً وعلماً في باب المعاد ـ مثلاً ـ أو التفسير والأمور الكونية، فإن الأمر الاعتقادي أو النظري إذا تحقق عن طريق خبر الواحد أو ظهور آية، فلن يحتاج لدليل الحجية، وإذا لم يتحقق بذلك فليس بإمكان دليل الحجية أن يلعب دوراً هنا.
إنّ مراد الأصوليين من عدم حجية أخبار العقائد والتفسير هو هذا الجانب النظري والاعتقادي عينه، من هنا يتضح كمال صحّة هذا الرأي، وأنّ ما قاله السيد الخوئي ) لا يمسّ بحال من الأحوال متانته أبداً.
نعم، بحث الخوئي وحقق حتى عثر على الأثر العملي في هذه الموارد مثل صحّة الإسناد وجواز الإخبار وغيرهما… وهو صائب في ذلك، إلاّ أن ذلك لا صلة له بالأثر النظري الاعتقادي.
إنّ نتيجة استدلال السيد الخوئي تقول بامكانية شمول أدلة حجية خبر الواحد لهكذا نوع من الأخبار بلحاظ ترتيب آثارها، وهو ممّا لا اعتراض عليه، إلاّ أن بحث الأصوليين الرئيس في منع ترتب الآثار الاعتقادية والنظرية باقٍ على ما هو عليه، دون أن يشمله كلام الخوئي.
وسنسوق لذلك مثالاً توضيحياً: فلنفرض أن هناك رواية معتبرة في معنى bالسماوات السبعv المذكورة في القرآن، لنقطع ـ فرضاً ـ بصحة سندها ودلالاتها، فما الجدوى حينئذٍ من شمول دليل الحجية لهذه الرواية؟
لقد كشف المحقق الخوئي ) عن أثر معقول هنا، وهو أنه إذا نسب أحد ذلك المعنى للقرآن فلن يعتبر افتراءً وحكماً بدون علم، لكن هل هذا هو ما نتوقعه من أثر في مجال التفسير؟! إننا في التفسير بصدد فهم كلام الله، فما هو دور دليل الحجية في هذا الفهم؟ فإن كان المراد هو الفهم الظني دون دليل الحجية فهو حاصل، وإن كان المراد هو الفهم القطعي فهذا لا يتحقق بدليل الحجية.
هذا هو ما يبحث عنه الأصوليون في هذا المبحث، وقد تطرّقتُ قبل سنين لهاتين النقطتين في كتاب (المعرفة الدينية) بشكل مختصر.
وثمّة مسألة هامّة أودّ الإشارة إليها هنا وهي: وجود فرق أساسي بين المعارف الدينية المتعلّقة بعالم التكوين والمعارف الدينية المتعلقة بالأحكام الشرعية من أوامر ونواهي؛ أما الشق الأول فلا مجال للتعبد بمضمونه، إنما التعبدّ يشمل آثاراً من قبيل bصحة إسناد المضمون للشارعv، وغير ذلك ممّا له قابلية ذلك، بخلاف الأمارة الشرعية في الأحكام مما يستوعبه مفهوم التعبّد بشتى أشكاله، وفي المضمون نفسه([11]).
فحص دقيق لنظرية المحقق الخوئي ـــــــ
ما هو الرأي الحقيقي السيد الخوئي؟ فهل صحيح أنه يعتقد بإمكانية وجود آثار لروايات التفسير على صعيد التفسير والاعتقاد، أو أنه يعني بذلك آثاراً من قبيل صحة الإسناد والإخبار وحسب؟
هناك في كلامه ما يدلّ على القول بالعموم: bويدلّنا على ذلك سيرة العقلاء، فإنّهم يعاملون الطريق المعتبر معاملة العلم الوجداني من غير فرق بين الآثار…v ([12]).
لكن يستبعد أن يكون مراده الآثار غير العملية، ويظهر مما تقدّم أنه يعني بذلك عموم الآثار العملية، لا جميع الآثار من عملية وغير عملية، وقد صرّح في تقريرات درس الأصول (مصباح الأصول) بأنّ حجية الروايات التكوينية والتأريخية منحصرة في معنى واحد، وهو جواز الإخبار بمتعلّق الظن: b… وأما الظن المتعلّق بالأمور التكوينية أو التاريخية، كالظن بأن تحت الأرض كذا أو فوق السماء كذا، والظن بأحوال أهل القرون الماضية وكيفية حياتهم ونحو ذلك… إن كان من الظنون الخاصة… فإنّه على مسلكنا من أنّ معنى الحجية جعل غير العلم علماً بالتعبّد يكون الظن المذكور حجة باعتبار أثر واحد وهو جواز الإخبار بمتعلّقه، فإذا قام ظن خاص على قضية تاريخية أو تكوينية، جاز لنا الإخبار بتلك القضية بمقتضى حجية الظن المذكور، لأنّ جواز الإخبار عن الشيء منوط بالعلم به، وقد علمنا به بالتعبد الشرعي… v ([13])
وتجدر الإشارة إلى ضرورة التفصيل في شمول أدلّة حجية الظنون لغير الأحكام ـ حسب تقريرات مصباح الأصول ـ؛ ففي الأصول الاعتقادية التي يلزم فيها المعرفة والعلم، من قبيل معرفة الله والمعاد الجسماني، ليس بإمكان أدلّة حجية الظنون إثباتها، حيث إن الظن غير كافٍ في هذا المجال، ولابدّ من تحصيل العلم، أمّا في الأمور التي لا تجب فيها المعرفة والعلم ويكتفى بالتزامها والإذعان بها، كموضوعات عالم البرزخ والمعاد وأحداث يوم القيامة، وتفاصيل الصراط والميزان، فيمكن أن تشملها تلك الأدلّة الظنية إذا لم تكن مخالفة لها، بمعنى أنه لا مانع من التزام تلك الظنون وعقد القلب على متعلّقها؛ لأنّ مفادها ثبت بالتعبد الشرعي، وإذا كان الظن متعلقاً بالأمور التكوينية والتاريخية فيكون معنى حجية الظنون الخاصة فيه من باب إمكانية الإخبار عن متعلّقه وفقاً للتفصيل الآنف([14]).
هذه عصارة مكثفة لما نقل عن السيد الخوئي في تقريرات مصباح الأصول، ويبقى أنّ ما جاء في موضوع عقد القلب والالتزام بمتعلّق الظن قابل ـ بحدّ ذاته ـ للنقاش ذلك أنه هل يصدق عقد القلب والالتزام والتسليم في غير العلم؟ وهل يصحّ لمن يحتمل الخلاف أن يذعن ويسلّم بالأمر؟ من جهة أخرى هل هكذا نوع من التسليم القلبي مطلوب؟ فأيّ دليل ينصّ على ضرورة التسليم بالأمور الظنية؟ وإذا وجد الدليل فما الحاجة لإطلاق دليل حجية الظنون؟
اللهم، إلاّ أن يكون مراده توفر الدليل في باب العلم على التعبد والتسليم بالمعلوم، وبما أنّ إطلاق دليل حجية الظنون اعتبر غير العلم علماً؛ لذا تعيّن هنا أيضاً عقد القلب والتسليم في هذا المجال.
وهنا نسأل: ما هو الدليل على ضرورة الانقياد والتسليم في مطلق العلم ـ وإن كان تعبدياً ـ حتى حمل في دليل الحجية على متعلّقات الظنون؟ لا سيما وأنّ التسليم الإجمالي بما جاء به النبي 2 متحقّق وممكن.
مواقف من الموضوع ـــــــ
إذن، لا دليل على ضرورة التسليم بالظنون المطلقة وإن كانت ممكنة عملاً. من هنا ينقل عن المحقق العراقي في نهاية الأفكار قوله: … نعم يبقى الكلام فيما لو تفحّص وحصل له الظن في أنه هل يقوم ظنه مقام العلم في ترتيب آثار العلم عليه من وجوب التدين والانقياد بمظنونه أم لا ـ والتحقيق هو الثاني ـ وهذا إذا كان الظن الحاصل من الظنون المطلقة التي لم تثبت حجيتها لدى العقلاء فظاهر، وأما لو كان من الظنون الخاصة المتبعة عندهم في أمور معاشهم ومعادهم، فعدم قيام مثله مقام القطع في ترتيب آثاره عليه من التديّن والتسليم وعقد القلب على طبعه، إنما هو من جهة كونها من الآثار العقلية المخصوصة بالعلم؛ إذ حينئذ لا يجدي مجرّد كونه من الطرق العقلائية في قيام مثله مقام العلم في ترتيب الآثار المزبورة، خصوصاً مع عدم إطلاقٍ لأدلة اعتبار الظن عقلاً أو شرعاً بالنسبة إلى أمثال هذه الأمور التي يمكن ترتّبها على نفس الواقع من دون احتياج إلى تعيّنه بالظن([15]).
وللشيخ الأنصاري P كلام في الرسائل في مبحث bاعتبار الظن في أصول الدينv، أيّد في مطلعه إمكانية القول بحجيّة الظنون في الاعتقادات، ثم عدل في الخاتمة واختار خلافه: b… ولكن يمكن أن يقال: إنه إذا حصل الظن من الخبر… إن أراد التدين به الذي ذكرنا وجوبه في الاعتقاديّات وعدم الاكتفاء فيها بمجرّد الاعتقاد… فلا مانع من وجوبه في مورد خبر الواحد، بناءً على أن هذا نوعُ عملٍ بالخبر، فإنّ ما دلّ على وجوب تصديق العادل لا يأبى الشمول لمثل ذلك… ومّما ذكرنا يظهر الكلام في العمل بظاهر الكتاب والخبر المتواتر في أصول الدين؛ فإنه قد لا يأبى دليل حجية الظواهر عن وجوب التديّن بما تدلّ عليه من المسائل الأصولية التي لم يثبت التكليف بمعرفتها، لكن ظاهر كلمات كثيرٍ عدم العمل بها في ذلك.
ولعلّ الوجه في ذلك: أنّ وجوب التدين المذكور إنما هو من آثار العلم بالمسألة الأصولية، لا من آثار نفسها، واعتبار الظن مطلقاً أو الظن الخاص ـ سواء كان من الظواهر أو غيرها ـ معناه ترتيب الآثار المتفرّعة على نفس الأمر المظنون، لا على العلم به…v([16]).
ويظهر من كلام الشيخ الأنصاري الأخير أنه يعتبر وجوب التديّن والاعتقاد من آثار العلم، وأن مفاد دليل حجية الظنون هو ترتيب الآثار ليس إلاّ؛ لذا فهو ينفي صدق دليل حجية الظنون في هذا المجال، وهذا الإشكال مبتنٍ على أساس أن المجعول في باب الأمارات هو bتنزيل المؤدّى منزلة الواقعv، أما في حالة كون المجعول هو الطريقية والعلمية ـ كما عند المحقق النائيني والخوئي ـ فإن كلام الأنصاري لا يصدق هنا، إلاّ إذا فسّرنا الحديث بنحوٍ يكون التدين والاعتقاد فيه من آثار العلم الوجداني ـ كما ذكرنا ـ لا مطلق العلم ـ أو علماً تعبدياً ـ، ففي هذه الصورة ليس بإمكان دليل الحجية إثبات التدين والانقياد ـ وإن على الطريقية والعلمية ـ وهذا واضح بأدنى تفكير، علماً أن دعوى جعل الطريقية والعلمية في باب الأمارة بحاجة إلى نقاشات مفصّلة خارجة عن نطاق بحثنا الحالي.
دعوى الاتفاق على حجية الآحاد في غير الفقه، وقفة نقدية ـــــــ
ويختم آية الله معرفت مقاله بالقول: وعلى أية حال فإن كبار العلماء من البداية وحتى اليوم أيّدوا اعتبار خبر الواحد الثقة وعملوا به في شتى المجالات([17]).
لعلّ هذا الكلام يحمل غرابةً في مفهومه إلى حدٍ ما، وذلك:
أوّلاً: الأستاذ معرفت على اطلاع بمخالفة غالبية كبار العلماء لأصل العمل بخبر الواحد حتى في الأحكام كالسيد المرتضى وابن إدريس وآخرين، حتى بلغ بالسيد المرتضى أن يرى إجماع العلماء على عدم العمل به، وإن كان التحقيق في مدّعى السيد المرتضى ومخالفته للإجماع المنقول عن الشيخ الطوسي أعلى الله مقامه هو الآخر بحاجة إلى بحوثٍ مستقلةٍ، إلاّ أن غرضنا هنا أن كبار العلماء لم يؤيّدوا العمل بخبر الواحد منذ البداية.
يقول الشيخ الأنصاري P في الرسائل، لدى البحث عن حجية خبر الواحد: فالمحكيّ عن السيّد والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس ـ قدّس الله أسرارهم ـ المنع، وربما نسبت إلى المفيد P؛ حيث حكى عنه في المعارج أنه قال: bإنّ خبر الواحد القاطع للعذر هو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالنظر إلى العلم، وربما يكون ذلك إجماعاً أو شاهداً من عقل، وربما ينسب إلى الشيخ، كما سيجيء عند نقل كلامه، وكذا إلى المحقق بل إلى ابن بابويه، بل في الوافية: إنه لم يجد القول بالحجية صريحاً ممّن تقدّم على العلامة، وهو عجيب([18]).
إذن، كيف يمكن ـ مع وجود هذه الأقوال ـ ادّعاء تأييد كبار العلماء ومنذ البداية لخبر الواحد؟
ثانياً: ليس البحث الحالي في هذا المقال حول حجية خبر الواحد مطلقاً، ذلك أنّ كبار الأصولين في العصور المتأخرة قالوا بحجيته في باب الأحكام والآثار العملية، إنما البحث حول حجيته في التفسير والعقائد؛ فالشيخ الطوسي ـ أعلى الله مقامه ـ مع ما ينقل عنه من دعوى الإجماع على العمل بخبر الواحد، إلاّ أنه عندما يصل إلى ذلك في باب التفسير ينفي حجيته، وكان قد نقل الأستاذ معرفت نفسه كلام الطوسي من مقدّمة تفسير التبيان، كما نقل أيضاً كلام الشيخ المفيد؛ حيث قال: bخبر الواحد في هذا الباب لا يوجب علماً ولا عملاًv.
أما الشيخ الأنصاري P في بحث اعتبار الظن في أصول الدين من كتاب الرسائل فيقول: قال شيخنا الشهيد الثاني في المقاصد العليّة ـ بعد ذكر أن المعرفة بتفاصيل البرزخ والمعاد غير لازم ـ : وأما ما ورد عنه 2 في ذلك من طريق الآحاد فلا يجب التصديق به مطلقاً وإن كان طريقه صحيحاً؛ لأنّ خبر الواحد ظنيٌ، وقد اختلف في جواز العمل به في الأحكام الشرعية الظنية، فكيف بالأحكام الاعتقادية العملية؟!([19]).
كذا ينقل عن الشيخ الطوسي P قوله بالاتفاق على عدم جواز الاعتماد على أخبار الآحاد في أصول الدين: bوظاهر الشيخ في العدّة: أنّ عدم جواز التعويل في أصول الدين على أخبار الآحاد إتفاقيٌ، إلاّ عن بعض غَفَلَةِ أصحاب الحديثv ([20]).
ثم يضيف الأنصاري قائلاً: bوظاهر المحكيّ في السرائر عن السيّد المرتضى عدم الخلاف فيه أصلاً، وهو مقتضى كلام كلّ من قال بعدم اعتبار أخبار الآحاد في أصول الفقهv ([21]).
وبلحاظ أقوال هؤلاء العلماء الكبار تتضح غرابة ما جاء في الكلام الأخير للأستاذ معرفت.
* * *
الهوامش
(*) أستاذ في الحوزة والجامعة، وعضو مجلسي صيانة الدستور والخبراء، من أهمّ النقاد لنظريات الدكتور سروش في إيران، له مصنفات عدّة قيّمة، منها: المعرفة الدينية، القبض والبسط في القبض والبسط الآخر، الفلسفة التحليلية و..
[1] ــــ وقد أقمت في كتاب المعرفة الدينية دليلاً عقلياً على حجية الظواهر، راجع: صادق لاريجاني، معرفت ديني: 158، مركز ترجمة ونشر الكتاب، طهران، 1991م.
[2] ــــ محمد هادي معرفت، bكاربرد حديث در تفسيرv، المجلّة التخصصية للجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية، السنة الأولى، العدد الأول: 142.
[3] ــــ المصدر نفسه.
[4] ــــ السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان 10: 351، مؤسسة الأعلمي، بيروت.
[5] ــــ bكاربرد حديث در تفسيرv: 145.
[6] ــــ المصدر نفسه: 146.
[7] ــــ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول 1: 239.
[8] ــــ bكاربرد حديث در تفسيرv: 145.
[9] ــــ هناك موردان للتهاون في ترجمة آية الله معرفت لنصوص bالبيانv: أولاً: في معرض ترجمته لهذا النص b… إنّ معنى الحجية التي تثبت لخبر الواحد، أو لغيره من الأدلة الظنية، هو وجوب ترتيب الآثار عليه عملاً…v سقطت كلمة bعملاًv في النصّ الفارسي المترجم، والحال أنّ مسألة ترتيب الآثار العملية تقع في صميم هذا البحث، وثانياً: وفي عبارة bوهذا الشرط قد لا يوجد في خبر الواحد الذي يروى عن المعصومين في التفسيرv، لم تترجم كلمة bقدv، الأمر الذي دعا النصّ المترجم وصاحبه للجزم بانعدام الشرط في أخبار الآحاد التفسيرية، وهذا ليس صحيحاً، لأن بعض الأخبار التفسيرية قد تكون متعلّقة بالأحكام أيضاً.
[10] ــــ المصدر نفسه.
[11] ــــ معرفت ديني: 173.
[12] ــــ البيان في تفسير القرآن: 279، المطبعة العلمية في النجف، 1377هـ.
[13] ــــ السيد محمد سرور الواعظ الحسيني، مصباح الأصول 2: 239، مطبعة النجف، 1386هـ.
[14] ــــ المصدر نفسه: 236 ـ 239.
[15] ــــ الشيخ محمد تقي البروجردي، نهاية الأفكار 3: 193، المطبعة العلمية في النجف الأشرف، 1371هـ.
[16] ــــ فرائد الأصول 1: 557 ـ 558.
[17] ــــ bكاربرد حديث در تفسيرv: 146.
[18] ــــ فرائد الأصول: 240.
[19] ــــ المصدر نفسه: 556.
[20] ــــ المصدر نفسه: 557.
[21] ــــ المصدر نفسه.