تمهيد:
منذ أن أعلن عن إمكان استنساخ البشر في نهاية القرن العشرين، وكأنّ قنبلةً نوويةً أخرى قد فجّرت، كالتي ألقتها الولايات المتحدة على هيروشيما وناكازاكي في الحرب العالمية الثانية، وحصدت أرواح الآلاف من البشر الأبرياء، لكنّ القنبلة هذه المرّة لم تُلقَ على مدينةٍ معيّنة، ولم تودي بحياة شخصٍ، بل فجّرت في اسكتلندا وسُمع دويّها في جميع أنحاء العالم.
أمّا آثارها فكانت عبارةً عن إيجاد هزّةٍ في العقول والضمائر والقلوب البشرية، فبعد أن سادت طريقة الإنجاب المألوفة لدى أجيال البشرية جمعاء، واعتاد البشر على سلوك طريقٍ معين للوصول إلى الذريّة، وبعدما جاءت الأديان السماوية وهذّبت الروابط والعلاقات الاجتماعية، وأمضت ما تعارف عليه بنو آدم من طرق الارتباط بين الذكر والأنثى وتكوين الأسرة، إذ بهذا الكشف العلمي يحطّم كلّ ما تبانى عليه الناس وألفوه، ويأتي بطريقةٍ جديدةٍ للإنجاب، يمكن أن تجلب الويلات للبشرية، عندئذٍ هبّ العالم من أوّله إلى آخره مستفسراً عن هذا الكشف العلمي، ومناقشاً ما سيؤول إليه، ومستنكراً أحياناً قبل الاطلاع على التفاصيل.
فهناك الكثير من الأسئلة تدور في ذهن الإنسان عندما يسمع بالاستنساخ البشري، منها: هل يشكّل الاستنساخ البشري تحدّياً جديداً للبشرية، يحمل في طيّاته مخاطر أخلاقية واجتماعية وحقوقية استدعت كلّ هذا الجدل الذي يشهده العالم في الوقت الراهن؟ أم أنّه مجرد محاولاتٍ علمية لا تزال في بدايتها، ولم تمنح الفرصة الكافية لتعطي ثمارها التي يمكن أن تنفع الكثير من نظرائنا في الخلق ممّن يعانون من مشاكل أو نقصٍ في أعضائهم؟ وهل يمثل الاستنساخ في حدّ ذاته تجاوزاً للخطوط الحمراء التي رسمتها الأديان السماوية، والقوانين التي وضعها المشرّعون، وتعدّياً صارخاً على حقوق الإنسان؟ أم أنّ القضية لا تستدعي كلّ هذا القلق الذي ينتاب الإنسانية، بل كلّ ما في الأمر وضعه في إطارٍ قانونيٍّ وشرعي جديد يحدّد له مساحة التحرّك فيما هو مسموحٌ وممنوع؟
لقد كان سهم أصحاب الديانات والمؤمنين في محاولة الوقوف على حقيقة الاستنساخ وما يترتب عليه أكبر من غيرهم، وكان العبء الملقى على عاتقهم أعظم، لما يتحمّلونه من مسؤوليةٍ كبيرة في تنوير الأذهان، ومواجهة ما يخالف الأديان السماوية، ففي الحقيقة واجه علماء الدين الإسلامي وغيرهم من أهل الديانات والعقائد وعلماء الأخلاق والاجتماع مشكلةً عويصة، منذ واجهتهم قضية الاستنساخ البشري، وذلك بسبب تعارض الوجوه التي تقتضي حظره ومنعه بالكليّة مع الوجوه التي تقتضي إباحته والاستفادة منه، بعد ضبطه بضوابط تحول دون استخدامه في الضرر والفساد وأيلولته إليهما.
وكان الأمر المرعب الذي يقفز إلى أذهان أكثر الذين يتكلّمون في هذا الأمر، ما كان يفعله رجال الكنائس في العصور الوسطى، من الحجر على العقول والنشاط العلمي، وحرمان العلماء ووقف أفكارهم عن أن تجد سبيلها إلى دُور العلم من أجل تحسين أوضاع البشر، فيخشى الآن كلّ من تكلّم في الاستنساخ إذا أيّد منعه أن يندرج في صفّ الذين كسروا عجلات عربة الحضارة، فوقفت في مكانها جامدةً لعدّة قرون، إلى أن تخلّصت من قبضتهم، وأمكنها مواصلة السير سريعاً حتى بلغ الأمر ما هو عليه اليوم من التقدّم الحضاري الهائل، ومن جملته تقنية الوراثة ومنجزاتها.
وعلى الرغم من ذلك كلّه، فقد ارتفعت في أرجاء العالم أصوات تنادي بالمنع والحيلولة دون التقدّم في هذا الميدان، بدعوى أنّه تدخل في الخلق الذي هو من شأن الخالق وحده، لقد مرّ المؤمنون بمنعطفٍ كهذا عندما اكتشفت طريقة التلقيح الصناعي (أطفال الأنابيب) وولدت بهذه الطريقة أول طفلةٍ باسم (لويز براون) في تموز عام 1978م، فتصاعد الجدل والنقاش حينئذٍ حول هذا الموضوع، ومدى مطابقته أو معارضته للسنن الإلهية، وتعالت أكثر الأصوات مندّدةً به، باعتباره خروجاً عن السنن الإلهية الحاكمة في الخلق والإنجاب، واعتبره الكثير عملاً لا أخلاقياً ومنافياً للشريعة، فيجب منعه وحظر العلماء والقائمين عليه من إجراء التجارب في هذا الحقل.
لكن، وبعد أن اتضحت وبانت معالمه ولوحظت فوائده، وبعد أن أُطّر بالأطر الإسلامية والشرعية، وأرسيت قواعد ذلك الموضوع، أصبح اليوم مشروعاً ومتداولاً حتى في الدول الإسلامية، واعتبر فتحاً علمياً كبيراً، يُنتفع منه في علاج بعض حالات العقم، فهل يعتبر الاستنساخ البشري من قبيل التلقيح الصناعي؟ هذا ما يحتاج إلى بحثٍ ودراسة لمعرفة النتائج، وهو ما ستشهده السطور القادمة إن شاء الله.
الاستنساخ بين الجواز والحرمة
قبل الدخول في صلب الموضوع، لا بأس بتعريف عددٍ من المصطلحات التي سيتمّ استعمالها في البحث.
1ـ الحكم التكليفي: وهو الحكم المتعلّق بأفعال الإنسان والموجّه لها مباشرةً، وينقسم إلى خمسة أقسام هي: الوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة ([1]).
2ـ الحكم الأولي: وهو الحكم المجعول على الأفعال والذوات بعناوينها الأولية الخالية عن قيد طروّ العنوان الثانوي، وقيد الشك في حكمه الواقعي، كالوجوب المترتب على صلاة الصبح، والحرمة المترتبة على شرب الخمر، والطهارة والنجاسة المترتبتين على الماء والبول، فيطلق عليها الأحكام الواقعية، وعلى متعلّقاتها الموضوعات الواقعية ([2]).
3ـ الحكم الثانوي: وهو الحكم المترتب على الموضوع المتصف بوصف الاضطرار والإكراه ونحوهما من العناوين الثانوية غير عنوان مشكوك الحكم، فإذا كان صوم شهر رمضان ضررياً أو حرجياً على أحد، أو أكره على الإفطار، كان جواز الإفطار أو حرمة الإمساك حكماً واقعياً ثانوياً، والموضوع المعنون بتلك العناوين موضوعاً ثانوياً، وكذا إذا أمر الوالد ولدَه بصوم أوّل شهر رجب مثلاً، أو نذره الشخص، أو شرطه في ضمن عقدٍ لازم، أو صار مقدمةً لواجب، يقال: إنّ هذا الصوم بما هو صوم شهر رجب وبعنوانه الأولي مستحب، وبعنوانه الثانوي واجب، فاستحبابه حكم واقعي أولي، ووجوبه واقعي ثانوي، وتسميته ثانوياً لأنّه في طول الواقعي، وموضوعه عنوان ثانوي عارض على العنوان الأولي الأصلي ([3]).
4ـ الحرمة الذاتية: وهي كون الشيء حراماً بأصله كالزنا والسرقة والقتل بغير حقٍ وبيع الميتة، وهذا النوع من الحرمة تكون فيها المحرمات باطلةً، ولا يترتب عليها حكم أو أثر، فلا يثبت بالزنا نسب، ولا بالسرقة أو بيع الميتة ملك ([4]).
5ـ الحرمة العرضية: وهي أن يكون الشيء مباحاً أو واجباً أو مندوباً في ذاته، أي بأصله، لكنّه اقترن بأمرٍ خارجيٍّ جعله محرّماً، وذلك مثل الصلاة في أرضٍ مغصوبة، والبيع يوم الجمعة وقت الأذان ([5]).
6ـ أصالة البراءة: قاعدة فقهية (أصولية) مفادها أنّ المرء بريء من أيّ ذنبٍ (عديم الذنب) حتى يشغله تكليف شرعي ([6])، ويمكن القول بعبارةٍ أخرى: إنّ كلّ تكليفٍ لم يقم عليه دليل شرعي، فإنّ ذمّة المكلف لا تنشغل به، بل تجري البراءة عنه.
إنّ الدين الإسلامي ـ بوصفه خاتم الأديان السماوية ـ يتميّز بقدرته على مواكبة ومسايرة التطوّر في جميع العلوم وفي كلّ عصرٍ وزمان ومكان، فهذا القرآن الكريم كان وسيبقى معجزة الدهر الخالدة، فبالإضافة إلى الفصاحة والبلاغة وجودة الألفاظ والأساليب التي عجز فطاحل العلماء عن الإتيان بجزءٍ منها ـ حتى على مستوى تأليف سورةٍ واحدة كسوره بعد أن تحدّاهم الباري جلّ وعلا: >قل فأتوا بسورةٍ مثله< (يونس: 38) ـ نجده يحمل في طياته معاني غزيرة ً ونظرياتٍ بديعة وقوانين في مجالاتٍ متعددة تكوينية واجتماعية وسياسية وغيرها، لم يتوصّل لها العلم إلاّ بعد عدّة قرون، وسيظل القرآن غضّاً طرياً ينسجم مع متطلّبات جميع العصور، وإذا ضممنا إليه السيرة العطرة والتراث الثري من أحاديث وروايات النبي الكريم 2 والأئمة الأطهار E فسنحصل على قانونٍ متكامل وشامل لإدارة الحياة بجميع مجالاتها، يفوق جميع القوانين الوضعية بدقته وشموله وقدرته على حلّ كلّ مستجدّات العصر.
الآن، وانطلاقاً من ذلك، وبالخصوص من حديث الإمام الصادق B: «ما من شيءٍ إلا وفيه كتابٌ أو سنّة»([7])، نريد التوصّل إلى الحكم التكليفي للاستنساخ البشري، وحيث إنّه موضوع حديث ولم يكن موجوداً وقت التشريع، فلا يمكن أن نجد نصّاً صريحاً بهذا الخصوص، بل يجب أن نبحث عن مدى إمكان دخول هذا الموضوع تحت أحد عمومات الحرمة، ومعه يصبح الاستنساخ حراماً بالحرمة الذاتية إذا كان الحكم الأولي له هو الحرمة، وأمّا إن كان حكمه الأولي الجواز لكنّه حرم لاستلزامه المحرم، أي كان حكمه الثانوي هو الحرمة، فسوف تكون حرمته عرضيةً لا ذاتية.
ذلك كلّه، إذا دخل الاستنساخ تحت أحد عمومات الحرمة، وأمّا إذا لم نجد مسوّغاً لشمول تلك العمومات له فما علينا إلاّ التمسّك بأصالة البراءة لإثبات جواز هذا العمل، ولا نطالب حينئذٍ بالدليل؛ لأنّ أصالة البراءة التي هي أحد الأصول العملية التي بدورها أحد أنواع الأحكام الظاهرية، لا تصل النوبة إليها إلاّ مع فقد الدليل، ويمكن القول بعبارةٍ مغايرة إنّنا نواجه قضيةً حادثة، وموضوعاً نشكّ في حكمه التكليفي، فلا نعلم أنّه الحرمة أو الإباحة، فيجب أن نرجع إلى الأحكام الكلية، أي الأحكام التي انصبّت على مواضيع عامة أو كلية، لنرى أنّ الموضوع الذي نحاول معرفة حكمه الشرعي ينضوي تحت عمومات الحرمة أم لا؟ فإن كان مصداقاً وفرداً لموضوعٍ عام محكوم بالحرمة شرعاً، قلنا بحرمته، وإلاّ فهو جائز ومباح، وعلى فرض أنّنا انتهينا إلى أنّ حكمه الأولي هو الإباحة، نبحث بعدئذٍ عمّا يطرأ عليه من أحوال أو عناوين قد تؤدي إلى حرمته الثانوية.
إذن، لابدّ أن نستعرض الأدلة المذكورة والمحتملة على حرمة الاستنساخ، ونناقش ما يمكن مناقشته منها، ثم نرى مدى صمودها أمام النقاش، فإن صمدت وجب الحكم على ضوئها، وإلاّ آل الأمر إلى أصالة البراءة.
نظرية تحريم الاستنساخ، الأدلّة والمستندات:
1 ـ الاستنساخ زنا
يمكن أن يدّعى أنّ الاستنساخ أحد أنواع الزنا، ومصداق من مصاديقه وفرد من أفراده، ففي الزنا يتم إدخال خليةٍ جنسية (النطفة) من الرجل الأجنبي في رحم المرأة الأجنبية عنه، وفي بعض صور الاستنساخ توضع خلية جسمية من إنسانٍ أجنبيٍّ بعد تلقيحها للبويضة في رحم المرأة الأجنبية، فتحرم على ذلك بعض صور الاستنساخ بالحرمة الذاتية فيما لو لم يكن بين الرجل وزوجته؛ لانطباق عنوان الزنا على ذلك.
ويجاب عن ذلك بأنّه لأجل الوقوف على حقيقة هذا الإيراد يجب أن نذكر تعريف الزنا بنظر العلماء والفقهاء أولاً، فقد عرّفه الدكتور أحمد فتح الله في معجم ألفاظ الفقه الجعفري بأنّه وطء المرأة في الفرج «إدخال الرجل ذكره في فرج المرأة» من غير عقدٍ شرعيٍّ، ولا شبهة عقدٍ أو ملكٍ أو شبهةٍ، أي مع العلم بذلك أو غلبة الظنّ ([8])، وعرّفه الشهيد الأول S ـ وهو من علماء الإمامية ـ بما يلي: « وهو إيلاج البالغ العاقل في فرج امرأةٍ محرّمةٍ من غير عقدٍ ولا ملك ولا شبهة قدر الحشفة عالماً مختاراًn([9])، وعرّفته الزيدية ـ كما ينصّ عليه أحمد بن يحيى المرتضى «بأنّ الزنا إيلاج فرج حيٍّ في فرج حيٍّ قبلاً أو دبراً بلا شبهةٍ»، وعرّفه من الأحناف الكاساني: «الزنا اسم للوطء الحرام في قُبل المرأة الحيّة في حالة الاختيار في دار العدل ممن التزم بأحكام الإسلام العاري عن حقيقة الملك وشبهته وعن حقيقة النكاح وشبهته وعن شبهة الاشتباه في موضع الاشتباه للملك والنكاح»، وعرّفته الحنابلة في كثيرٍ من متونها الفقهية: «هو فعل الفاحشة في قبلٍ أو دبرٍ»، وعرّفه الفقيه أحمد الدردير من علماء المالكية: «الزنا إيلاج مسلمٍ مكلّف حشفته في فرج آدميٍّ مطيق عمداً بلا شبهة وإن دبراً»، وعرّفه الفقيه البيجوري من أعلام الشافعية: «هو إيلاج المكلّف ـ ولو حكماً فيشمل السكران المعتدي الواضح ـ حشفته الأصلية المنفصلة أو قدرها عند فقدها في فردٍ واضح محرم بعينه في نفس الأمر مشتبهاً طبعاً مع الخلو عن الشبهة» ([10]).
وبعد سرد تلك التعاريف عن الزنا من كافّة طوائف المسلمين تقريباً، نلاحظ أنّ الاستنساخ لا يمكن أن يدخل تحت أي واحدٍ منها، فقد اشترط الجميع الوطء وإيلاج الفرج، ولا يحصل وطء في الاستنساخ، ويمكن أن يدّعى كون نتيجة الاستنساخ مع
الزنا واحدةً لو وصل ماء الرجل (نطفته) إلى رحم المرأة الأجنبية، والحال أنّ ذلك لم يحصل أبداً.
2 ـ الاستنساخ وإشكالية خلق الإنسان
إنّ الاستنساخ خلق للإنسان ـ كما أطلق الخلق على عملية استنساخ النعجة دوللي ـ وهو من مختصّات الخالق الباري جلّ وعلا، فعليه يكون الاستنساخ تدخلاً في عمل الله تعالى، وهذه إحدى المشاكل العقائدية المهمّة المطروحة في حرمة الاستنساخ.
وقبل الإجابة، لا بأس بالتعريج على مسألة مبدأ وأساس ومنشأ الخلق ومكانه بنظر الكتاب العزيز، للوقوف على احتمال معارضة الاستنساخ لتلك المبادئ أو عدمها.
منشأ الخلق وأساسه في القرآن الكريم
ذكر القرآن الكريم مناشىء متعدّدة لخلقة الإنسان، يمكن تصنيفها إلى أربعة أصناف كالتالي:
المنشأ الأول: التراب أو الطين أو الصلصال أو الحمأ المسنون، قال تعالى: >ومن آياته أن خلقكم من ترابٍ ثم إذا أنتم بشر تنتشرون< (الروم: 20)، وقال تعالى: >هو الذي خلقكم من ترابٍ ثم من نطفةٍ ثم من علقةٍ ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدّكم ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلاً مسمىً ولعلكم تعقلون< (غافر: 67)، وقال تعالى: >ياأيها الناس إن كنتم في ريبٍ من البعث فإنّا خلقناكم من ترابٍ ثم من نطفةٍ ثم من علقةٍ ثم من مضغةٍ مخلّقةٍ وغير مخلقةٍ لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجلٍ مسمىً ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدّكم< (الحج: 5)، وقال تعالى: >إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثم قال له كن فيكون< (آل عمران: 59)، وقال تعالى: >والله خلقكم من ترابٍ ثم من نطفةٍ< (فاطر: 11)، وقال تعالى: >قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من ترابٍ ثم من نطفةٍ< (الكهف: 37)، وقال تعالى: >هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض< (النجم: 32)، وقال تعالى: >هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها< (هود: 61)، وقال تعالى: >ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طين * ثم جعلناه نطفة ً في قرارٍ مكينٍ< (المؤمنون: 12 ـ 13)، وقال تعالى: >إنّا خلقناهم من طينٍ لازبٍ< (الصافات: 11)، وقال تعالى: >ولقد خلقنا الإنسان من صلصالٍ من حمإٍ مسنونٍ< (الحجر: 26)، وقال تعالى: >خلق الإنسان من صلصالٍ كالفخّار< (الرحمن: 14).
المنشأ الثاني: النطفة أو الماء، قال تعالى: >خلق الإنسان من نطفةٍ فإذا هو خصيم مبين< (النحل: 4)، وقال تعالى: > أوَ لم يرَ الإنسان أنّا خلقناه من نطفةٍ فإذا هو خصيم مبين< (يس: 77)، وقال تعالى: >وأنّه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفةٍ إذا تمنى< (النجم: 45 ـ 46)، وقال تعالى: >ألم يكُ نطفةً من منيٍّ يمنى< (القيامة: 37)، وقال تعالى: >إنّا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً< (الإنسان: 2)، وقال تعالى: >من أيّ شيءٍ خلقه * من نطفةٍ خلقه فقدّره< (عبس: 18 ـ 19)، وقال تعالى: >ثم جعل نسله من سلالةٍ من ماءٍ مهينٍ< (السجدة: 8)، وقال تعالى: >فلينظر الإنسان ممّ خلق * خلق من ماءٍ دافقٍ< (الطارق: 5 ـ 6)، وقال تعالى: >وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً< (الفرقان: 54)، وقال تعالى: >والله خلق كلّ دابةٍ من ماءٍ< (النور: 24).
المنشأ الثالث: النفس الواحدة، والمقصود بالنفس الواحدة ـ مع الالتفات إلى أنّ الإنسان مخلوق من ذكرٍ وأنثى ـ هو النفس الإنسانية المشتملة على مواصفاتٍ متطابقة مقابل النفس الحيوانية أو النباتية، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في مواضع متعدّدة، منها قوله تعالى: > يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءاً< (النساء: 1)، وقال تعالى: >وهو الذي أنشأكم من نفسٍ واحدةٍ فمستقرّ ومستودع< (الأنعام: 98)، وقال تعالى: >هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وجعل منها زوجها ليسكن إليها< (الأعراف: 189)، وقال تعالى: >خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلقٍ في ظلماتٍ ثلاثٍ< (الزمر: 6).
المنشأ الرابع: العلق أو العلقة، حيث قال تعالى: >خلق الإنسان من علقٍ< (العلق: 2).
لقد مرّ معنا آيات بيّنت هذه المناشىء بصورةٍ متسلسلة مع ذكر أدوار ومراحل تكوين الإنسان بمنتهى الروعة والأدب، مثل قوله تعالى: >هو الذي خلقكم من ترابٍ ثم من نطفةٍ ثم من علقةٍ ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدّكم ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلاً مسمىً ولعلكم تعقلون< (غافر: 67)، وقوله: >يا أيها الناس إن كنتم في ريبٍ من البعث فإنّا خلقناكم من ترابٍ ثم من نطفةٍ ثم من علقةٍ ثم من مضغةٍ مخلقةٍ وغير مخلّقةٍ لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجلٍ مسمىً ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم< (الحج: 5)، وكذلك قوله تعالى: >ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طينٍ * ثم جعلناه نطفةً في قرارٍمكينٍ * ثم خلقنا النطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشاناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين< (المؤمنون: 12 ـ 14).
إنّ الذي يتضح من الاطلاع على مجموع تلك المبادئ لخلق البشر أنّها متعدّدة، ويقع أحدها في طول الآخر أحياناً؛ والاستنساخ لا يخالف هذه المبادئ، بل هو من ضمنها وأحد أفرادها، فالخلق من التراب حاصل؛ لأنّ الخلية أصلها من ذلك التراب، وكذلك النفس الواحدة والعلق عدا النطفة حيث سنجيب على مخالفة هذا المبدأ لاحقاً في جواب الدليل الرابع، وكذلك الحال بالنسبة إلى طيّ الطفل المستنسخ لمراحل التكوين والخلقة المذكورة في الآيات الشريفة.
محل الخلق ومكانه
بعد استعراضنا لمناشىء الخلق من وجهة نظر القرآن الكريم، والتوصّل إلى عدم منافاة ومخالفة الاستنساخ لها، نستعرض أماكن استقرار ذلك الخلق أثناء نشوئه بنظر القرآن الكريم أيضاً، وهذه الأماكن عبارة عن:
أولاً: الأرحام، وقد وردت عدة آيات تشير إلى كون الرحم هو وعاء ومحلّ تكوّن ونشوء الجنين مثل قوله تعالى: >يا أيها الناس إن كنتم في ريبٍ من البعث فإنّا خلقناكم من ترابٍ ثم من نطفةٍ ثم من علقةٍ ثم من مضغةٍ مخلّقةٍ وغير مخلّقةٍ لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجلٍ مسمىً< (الحج: 5)، وقوله تعالى: >الله يعلم ما تحمل كلّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكلّ شيءٍ عنده بمقدار< (الرعد: 13)، وقوله تعالى: >والمطلّقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ ولا يحل لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ< (البقرة: 228)، وقوله تعالى: >هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء< (آل عمران: 6).
ثانياً: البطون، حيث وردت في آيات متعدّدة من قبيل قوله تعالى: >والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً< (النحل: 78)، وقوله تعالى: >خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلقٍ في ظلماتٍ ثلاثٍ< (الزمر: 6)، وقوله عزّ وجلّ: >وإذ أنتم أجنّة في بطون أمهاتكم< (النجم: 32).
وبعد التعرّف على أماكن الخلق يطرح السؤال التالي: هل إنّ هناك مكانين للخلق يختلفان عن بعضهما البعض فأحدهما الرحم والآخر هو البطن؟ كلاّ فبعد الرجوع إلى معنى البطن في معاجم اللغة نجد أنّه خلاف الظهر في كلّ شيء([11])، أي إنّه مطلق ما يكون في جوف الإنسان وخلاف الظاهر، فهو نفس الرحم بقرينة الأدوار المختلفة للخلق من النطفة والعلقة والمضغة خلقاً من بعد خلقٍ، حيث ذكرت في آياتٍ أخرى أنّها تكون في الرحم.
ونجد خلال هذه الجولة السريعة أنّ الاستنساخ لا يتعارض مع أمكنة الخلق الطبيعية، فكلاهما يحصل في الرحم، غاية الأمر أنّه في الاستنساخ يحصل الانعقاد والإخصاب خارج الرحم، ثم يوضع فيه بعد ذلك وهذا لا يضرّ.
عودة إلى جواب الدليل الثاني:
بما أنّ هذا الدليل اعتبر الاستنساخ نوعاً من الخلق للإنسان، فلابد من المرور على التعريف اللغوي لكلمتي: خلق وإبداع؛ ليتسنى لنا الإجابة الدقيقة عن هذه الشبهة، قال ابن منظور: «أصل الخلق التقدير.. والخلق في كلام العرب: ابتداع الشيء على مثالٍ لم يسبق إليه؛ وكل شيءٍ خلقه الله فهو مبتدؤه على غير مثالٍ سُبق إليه. قال أبو بكر الأنباري: الخلق في كلام العرب على وجهين: أحدهما الإنشاء على مثالٍ أبدعه، والآخر التقدير؛ وقال في قوله تعالى: ]فتبارك الله أحسن الخالقين< (المؤمنون: 23): معناه أحسن المقدّرين»([12]).
وقال الراغب الإصفهاني([13]): «الخلق أصله التقدير المستقيم ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصلٍ ولا احتذاء، قال تعالى: >خلق الأرض والسموات< (طه: 20)، أي أبدعهما؛ بدلالة قوله: >بديع السموات والأرض< (البقرة: 117)، ويستعمل في إيجاد الشيء من الشيء نحو: >خلقكم من نفسٍ واحدةٍ< (النساء: 1)، >خلق الإنسان من نطفةٍ< (النحل: 4)، >خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طينٍ< (المؤمنون: 12)، >ولقد خلقناكم< (الأعراف: 11)، >وخلق الجانّ من مارجٍ من نارٍ< (الرحمن: 15)، وليس الخلق الذي هو الإبداع إلاّ لله تعالى، ولهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره: >أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون< (النحل: 17)، والخلق لا يستعمل في كافّة الناس إلا على وجهين: أحدهما في معنى التقدير، والثاني في الكذب، نحو قوله:>وتخلقون إفكاً< (العنكبوت: 17)».
أما الإبداع، فقد قال عنه ابن منظور([14]): «بدع الشيء يبدعه بدعاً وابتدعه: أنشأه وبدأه.. والبديع والبدع: الشيء الذي يكون أولاً، وفي التنـزيل: >قل ما كنت بدعاً من الرسل< (الأحقاف: 9)، أي ما كنت أوّل من أرسل».
وقال عنه الراغب([15]): «الإبداع إنشاء صنعةٍ بلا احتذاءٍ واقتداء.. واذا استعمل في الله تعالى فهو إيجاد الشيء بغير آلةٍ ولا مادة ولا زمان ولا مكان وليس ذلك إلا الله».
من هنا، يمكننا الردّ على الدليل الثاني بما يلي:
1ـ إنّ ما يمكن استنتاجه من ذلك أنّ الإبداع يختصّ بالله جلّ وعلا؛ لأنّه إيجاد شيءٍ من العدم، أمّا الخلق فله معانٍ متعددة، لكنّه إذا حصل من الخالق فيحتمل أن يكون إيجاداً من العدم، ويحتمل أن يكون إيجاد شيءٍ من شيءٍ آخر؛ وإذا تعلّق بغيره كالإنسان فلا يحتمل إلاّ إيجاد شيءٍ من شيء آخر، وليس هذا تدخّلاً في عمل الله تعالى ـ كما يتصوّر بعضهم ـ لأنّ هذا الخلق غير ذاك.
وربما يدور في خلد بعض عوام المسلمين أنّه لا يجوز تصديق الأخبار العلمية عن الاستنساخ؛ لأنّ الخلق من أمر الله وحده، فقد قال تعالى: >ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين< (الأعراف: 54)، وقال: >الله خالق كلّ شيء< (الزمر: 62)، >إنّ ربك هو الخلاق العليم< (الحجر: 86)، >وخلق كلّ شيءٍ وهو بكلّ شيءٍ عليم< (الأنعام: 101)، وقد غفل أولئك عن وجود أكثر من معنى للخلق.
قال الدكتور ماهر أحمد الصوفي: «إنّ الخلق هو إيجاد الشيء من العدم، والعالم (إيان ويلموت) لم يأت بشيءٍ من العدم، وأكثر ما فعله هو اكتشاف طريقةٍ أخرى للتوالد والتكاثر هي موجودة في أصل الخلق لم يعلم الإنسان مسبقاً عنها أيّ شيءٍ، وربما هناك مئات الطرق لعملية التوالد والتكاثر والاستنساخ في علم الله سبحانه؛ فأصل الخلق تلك الخلية المبرمجة والمشفّرة والمأمورة من الله سبحانه بالانقسام والتكاثر وتخليق الإنسان عبر أطوارٍ متعددة ومراحل كثيرة »([16]).
وقال أيضاً: «الإنسان وبتطوّره العلمي استطاع أن يكتشف طريقةً للتخلّق، وربما هناك طرق أخرى للتخلّق لم يكتشف الإنسان منها إلا واحدةً، واليوم اكتشف العلم طريقةً أخرى للخلق وسمّوه الاستنساخ الجيني، وربما هناك طرق أخرى كثيرة لم يكتشفها الإنسان، وربما لا يكتشفها أبداً، لكنّ الله سبحانه اختار لنا الطريقة الأولى وارتضاها؛ لأنّها أفضل الخلق وأكرمه للإنسان ومسيرة حياته»([17]).
فعلى هذا، يكون الاستنساخ وما شابهه من الاكتشافات علوماً تستجدّ يفتح الله تعالى منها لخلقه ما شاء؛ لتكون تذكرةً وعبرةً ومجالاً للتأمّل في قدرات الله تعالى وأسراره التي بثها في الخلق، فما يدركه البشر من العلوم حيناً بعد حينٍ إنّما هو من خزائن علمه سبحانه وتعالى.
2ـ مع التسليم بأنّ الإنسان قام بعملية الخلق التي هي من مختصّات الله جلّ وعلا، لكنّه لم يؤدِّ ذلك باستقلاله، بل هو أحد أفراد سلسلة مراتب العلل الطولية، فكثير من الأعمال التي يقوم بها البشر أو الملائكة ينسبها الله تعالى إلى نفسه؛ لأنّه منتهى وعلّة العلل، وكمثالٍ على ذلك، قال تعالى: >أفرأيتم ماتحرثون * ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون< (الواقعة: 63 ـ 65)، فمع أنّ الإنسان يقوم بالحراثة والزراعة، لكنّ الله تعالى ينسب ذلك إلى نفسه، فليكن الاستنساخ من هذا القبيل.
3ـ مع التنازل عن ذلك كلّه، فما هو الذي خلقه الإنسان؟ الجسم أم الروح؟ إنّّه لم ولن يستطيع خلق ونفخ الروح في الإنسان أو الحيوان حتى مع إمكان خلقه للجسم، فإنّ نفخ الروح من مختصّات ذاته المقدّسة، ولذا تحدّى الإنسان بخلق الذبابة، قال تعالى: >إنّ الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لايستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب< (الحج: 73)، فلا يضرّ خلق النعجة (دوللي) في المختبر، أو خلق الإنسان في المستقبل؛ لأنّه خلق للجسم العاري عن الروح.
3 ـ الاستنساخ والإعجاز في خلق عيسى B
أيّ معجزةٍ تبقى لخلق النبي عيسىB مع شيوع تقنية خلق الإنسان من الأم فقط ودون حاجةٍ لمشاركة الرجل؟!
ونجيب عن هذا الكلام بما يلي:
1ـ إنّ الإعجاز لا يزال قائماً؛ وذلك لأنّ الذي أمكن استنساخه إلى هذا الوقت أنثى من أنثى، ويظن أنّه سيكون بالإمكان استنساخ ذكرٍ من ذكر، أما وجود ذكرٍ من خليّة أنثى فليس بممكن في منظور العلم حتى الآن، والذي حصل لعيسى B وجود ذكرٍ من أنثى.
2ـ إنّ النبي عيسى B لم ينشأ من خليةٍ فيها لقاح ذكري، بل نشأ من خليّةٍ جنينية غير ملقّحة، ومثل هذا الأمر يقرّ العلم بالعجز عنه، حتى في الاستنساخ بنقل نواةٍ جسدية، فإنّ هذه النواة تحتوي على 23 كروموزوماً ذكرياً و23 كروموزوماً أنثوياً، فهي ملقّحة إذاً.
3ـ إنّه لو أمكن في المستقبل تجاوز هذه الموانع بإنتاج ذكرٍ من خلية أنثوية خالصة، وهو بعيد ويصل إلى درجة المستحيل فعلاً، فإنّ الإعجاز لا يزال قائماً؛ لأنّ الله تعالى خلق عيسى B من دون هذه الوسائل التكنولوجية، بل بقوله تعالى: >كن فيكون< (البقرة: 117) تماماً، كما أنّ صعود النبي عيسى Bإلى السماء كان معجزاً، ولا يزال معجزاً وإن أمكن الصعود إلى الجوّ بالطائرات، وإلى القمر بالأقمار الاصطناعية؛ لأنّه صعد بدون وسيلةٍ من وسائل البشر، ولا يزال الصعود من غير وسيلةٍ معجزاً.
4ـ إنّ عيسى Bلم يتحدّ أحداً بمعجزة كونه خلق من امرأةٍ فقط، ولم يرد في القرآن ولا في الإنجيل أنّ خلقه بتلك الصورة أمرٌ معجز، وإنّما ورد مجرّد وصفٍ لما وقع، ونحن الذين قدّرنا أنّه معجز.
4 ـ الاستنساخ وإشكاليّة تغيير الخلق الإلهي
إن لم يكن الاستنساخ خلقاً مقابل الخلق الإلهي فهو تغييرٌ لخلق الله، وممّا يأمر به الشيطان الذي لا يأمر إلاّ بالفحشاء والمعاصي، ومصداقاً للآية الكريمة: >ولآمرنّهم فليبتكنّ([18]) آذان الأنعام ولآمرنّهم فليغيرن خلق الله< (النساء: 119)، والدليل الآخر لحرمة هذا التغيير هو الآية الشريفة: >فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله< (الروم: 30).
ويجاب عن هذا الإشكال العقائدي بالقول:
1ـ نقل أكثر المفسرين أنّ الآية الشريفة نزلت بشأن بعض العادات التي كانت متبعةً في الزمن الجاهلي، والتي تتلخّص في استعمال الوشم والخصاء وفقء العين لبعض الحيوانات آنذاك، حيث كانوا يشقّون آذان أنثى الحيوان إذا ولدت خمس أبطن والخامس ذكر، وحرّموا على أنفسهم الانتفاع بها، وكانوا يفقؤن عين الفحل إذا طال مكثه عندهم ويعفونه عن الركوب عليه، لذا تكون الآية أجنبيةً عن الموضوع.
2ـ ورد في روايات متعدّدة أنّ المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله تعالى، فعن جابر، عن أبي جعفر B في قول الله: >ولآمرنّهم فليغيرنّ خلق الله< قال: «دين الله» ([19])، وهنا تكون الآية أجنبيةً عن الموضوع كذلك.
3ـ كيف يكون الاستنساخ تغييراً لخلق الله؟ فإمّا أن يكون المراد بالتغيير هو تغيير صورة وشكل الجنين، والتحكّم به وخروجه مشابهاً لصاحب الخلية، أو يكون المراد تغيير طريقة الإنجاب واستحداث أسلوبٍ جديد للتكاثر.
أما الأول، وهو تغيير صورة الجنين والتحكّم بشكله، فلم يمنع الإسلام عن ذلك قطّ، بل حثّ على جلب عناصر الجمال والخلق الحسن عن طريق اختيار الزوجة المناسبة، واختيار الزمان والمكان المناسبين للجماع وانعقاد النطفة، واختيار أفضل الصفات الجسدية والروحية للطفل من خلال استعمال بعض أنواع الأطعمة، فقد ركّزت الروايات على تأثير بعض أنواع الأطعمة تأثيراً مباشراً على جسم وروح الطفل، فمن ذلك بعض أنواع الفاكهة والسفرجل بالخصوص، فعن أبي عبد الله Bقال: «من أكل سفرجلةً على الريق طاب ماؤه وحسن ولده»([20])، وعنه أيضاً قال: «كان جعفر بن أبي طالب عند النبي2 فأهدي إلى النبي سفرجل، فقطع منه النبي 2 قطعةً وناولها جعفراً، فأبى أن يأكلها، فقال: خذها وكلها فإنّها تذكي القلب، وتشجّع الجبان. قال: وفي روايةٍ أخرى: كُل فإنّه يصفي اللون ويحسن الولد»([21]).
كذلك حثت الروايات كثيراً على أكل بقلة الهندباء، فعن أبي عبد الله Bقال: «عليك بالهندباء فإنّه يزيد في الماء ويحسن الولد، وهو حارّ لين يزيد في الولد والذكورة»([22])، وقال الإمام الرضا B: «عليكم بأكل بقل الهندباء؛ فإنّها تزيد في المال والولد، ومن أحبّ أن يكثر ماله وولده فليدمن أكل الهندباء»([23])، وعن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله B: «من سرّه أن يكثر ماله وولده الذكور فليكثر من أكل الهندباء»([24]).
وفي مجال اختيار الزوجة المناسبة نقرأ في إحدى الروايات، قال النبي 2:
«إختاروا لنطفكم؛ فإنّ الخال أحد الضجيعين»([25])، وفي روايةٍ أخرى قام النبي2خطيباً فقال: «أيها الناس إياكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول الله! وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء»([26])، ونقل عن الإمام أمير المؤمنينB أنّه قال: «إياكم وتزويج الحمقاء فإنّ صحبتها بلاء وولدها ضياع»([27])، وعن أبي جعفر B قال: سأله بعض أصحابنا عن الرجل تعجبه المرأة الحسناء، أيصلح أن يتزوّجها وهي مجنونة؟ قال: «لا، ولكن إن كانت عنده أمة مجنونة لا بأس أن يطأها ولا يطلب ولدها»([28]).
وفي مجال تأثير اللبن، جاء عن أمير المؤمنينB أنّه قال: «لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ اللبن يغلب الطباع، قال: قال رسول الله 2: لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ اللبن يشب عليه»([29])، وعن محمد بن مروان قال: قال لي أبو جعفر B: «إسترضع لولدك بلبن الحسان وإياك والقباح؛ فإنّ اللبن قد يعدي»([30]).
وفي مجال آداب الجماع واختيار الزمان والمكان المناسبين له؛ لتأثيره المباشر على الولد، نقل عن الإمام الصادق B، عن آبائه E في حديث المناهي، قال: «نهى رسول الله 2 أن يكثر الكلام عند المجامعة، وقال: يكون منه خرس الولد»([31])، وعن عبد الرحمن بن سالم، عن أبيه، عن أبي جعفرB قال: «قلت له: هل يكره الجماع في وقتٍ من الأوقات وإن كان حلالاً؟ قال: نعم، ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ومن مغيب الشمس إلى مغيب الشفق، وفي اليوم الذي تنكسف فيه الشمس، وفي الليلة التي ينكسف فيها القمر، وفي الليلة وفي اليوم اللذين يكون فيهما الريح السوداء، والريح الحمراء، والريح الصفراء، واليوم والليلة اللذين يكون فيهما الزلزلة، ولقد بات رسول الله2عند بعض أزواجه في ليلةٍ انكسف فيها القمر فلم يكن منه في تلك الليلة ما يكون منه في غيرها حتى أصبح، فقالت له: يا رسول الله! ألبغضٍ كان هذا منك في هذه الليلة؟ قال: لا، ولكنّ هذه الآية ظهرت في هذه الليلة فكرهت أن أتلذّذ وألهو فيها، وقد عيّر الله في كتابه أقواماً فقال: >وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم * فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون< (الطور: 44 ـ 45)، ثم قال أبو جعفرB: وأيم الله لا يجامع أحد في هذه الأوقات التي نهى عنها رسول الله 2 وقد انتهى إليه الخبر فيرزق ولداً فيرى في ولده ذلك ما يحبّ»([32]).
وأمّا إن كان المراد بالتغيير هو القسم الثاني، أي تغيير طريقة الإنجاب واستحداث أسلوبٍ جديد للتكاثر، فقد يقال: إنّ ذلك خروج على قواعد التكوين الحاكمة على قضية الخلق في الإنسان، وهو مخالفٌ للطريقة المعتادة والمألوفة والشائعة في الإنجاب، والتي تعارض عدداً من الآيات القرآنية المباركة، مثل قوله تعالى: >فلينظر الإنسان ممّ خلق * خلق من ماءٍ دافقٍ * يخرج من بين الصلب والترائب< (الطارق: 5 ـ 7)، وقوله: >والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة< (النحل: 72)، وقوله: >يا أيها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءاً< (النساء: 1)، وقوله: >إنّا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً< (الإنسان: 2).
فنستخلص من تلك الآيات الشريفة أنّ الإنسان يخلق من الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب، وبتعبيرٍ آخر يخلق الإنسان من نطفة الرجل وبويضة المرأة التي مصدرها الزوج والزوجة، لا أنّه يخلق من جهةٍ واحدة (الأم مثلاً) أو من اشتراك امرأتين في تكوينه، كما في بعض صور الاستنساخ.
لكنّ الجواب هو أنّه تعالى لم يحصر طريقة الخلق بهذه الطريقة المتعارفة، ولم ينفِ وجود طرقٍ أخرى، بل هو ساكت في هذا المجال، وقد ذكر الطريقة الشائعة في الخلق، «لا دليل في الشريعة على حصر مسار الإنسان في تكوّنه ونشاطاته بسلوك الطرق الطبيعية المألوفة، بل رقي الإنسان إنّما هو باستحداث الطرق الأخرى واستخدام نواميس الكون المودعة فيه التي يطلعه الله عليها بالبحث والاجتهاد في ضمن نطاق الأسرة»([33])، خصوصاً مع العلم أنّ هناك شخصيات عظيمة خلقت بخلاف تلك الطريقة المعهودة، وهم أبو البشر نبي الله آدم B والنبي عيسى B وأمّنا حواء J، بالإضافة إلى ناقة صالح؛ أما النبي آدم B فقد جاء في القرآن الكريم والروايات الشريفة أنّه خلق من ترابٍ أو طين، وليس من نطفةٍ وبويضة، قال تعالى: >إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثم قال له كن فيكون< (آل عمران: 59)، وعن أمير المؤمنين B: «إنّ الله تعالى خلق آدم B من أديم الأرض»([34])، وعن أبي عبد الله B قال: «إنّ الله تعالى خلق آدم من الطين وخلق حواء من آدم، فهمّة الرجال الأرض وهمّة النساء الرجال»([35]).
أما النبي عيسى المسيح B، فقد أشار القرآن الكريم إلى أنّه خلق من غير أب، أي من طرفٍ واحد، وهي أمّه العذراء مريم J، كما مرّ في الآية السالفة، والتي تساوي بينه وبين آدم من هذه الجهة، وقال تعالى حاكياً قصّة حمل مريم به: >واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً * فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً * قالت إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً * قال إنّما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً * قالت أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أكُ بغيّاً * قال كذلك قال ربك هو عليّ هيّن ولنجعله آيةً للناس ورحمةً منّا وكان أمراً مقضياً< (مريم: 16 ـ 21).
وأما قضية السيدة حواء J، فقد وردت في القرآن الكريم كما مرّ سابقاً: >وخلق منها زوجها< (النساء: 1)، وقال تعالى أيضاً: >هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وجعل منها زوجها<(الأعراف: 189)؛ فمع وجود اختلافٍ في كيفية خلقها من زوجها، إلاّ أنّ بعض الروايات تبيّن طريقة خلقها، منها ما رواه المجلسي في بحار الأنوار: «كان مكث آدم في الجنة نصف ساعةٍ، ثم أهبط إلى الأرض لتمام تسع ساعاتٍ يوم الجمعة، وذلك وقت صلاة العصر، قال: وسمّيت العصر؛ لأنّ آدم عصر بالبلاء، قال: ألقى الله النوم على آدم فأخذ ضلعه القصير من جانبه الأيسر فخلق منه حواء، فلم يؤذه ذلك، ولو آذاه ذلك ما عطف عليها أبداً، فقال آدم: ما هذه؟ قال: هذه امرأة؛ لأنّها من المرء خلقت، قال: ما اسمها؟ قال: حواء؛ لأنّها خلقت من شيءٍ حيّ، فقال ابن عباس: سمّيت حواء؛ لأنّها أمّ كلّ حيّ، قال جعفر: سمّين النساء لأنس آدم بحواء حين أهبط إلى الأرض، ولم يكن له أنس غيرها»([36])، وعن أبي عبد الله B قال: «إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم من الماء العذب وخلق زوجته من سنخه فبرأها من أضلاعه»([37]).
ولو قيل بأنّ هذه الروايات وأمثالها ضعيفة ولا يمكن الأخذ بها، وهناك روايات أخرى تؤكّد خلق حواء من فاضل طينة آدم B، أو بمعنى كون تلك الفضلة لو جعلت في جسد آدم لكان موضعها الضلع الأيسر له، فإنّ مرادنا يتمّ مع ذلك أيضاً؛ لأنّ النتيجة أنّ حواء لم تخلق بالطريقة الطبيعية، ولم تكن نتاجاً لتلاقح النطفة والبويضة، ولم تمرّ بمراحل الخلق المتعارفة، فإنّ هدفنا نقض الاقتصار في الخلق على الطريق المألوف للبشر وقد تمّ.
وأما ناقة صالح فلم تمرّ بمراحل الخلقة تلك أيضاً، فقد جاء في بحار الأنوار أنّ ملك الروم سأل الإمام الحسنB عن سبعة أشياء خلقها الله لم تركد في رحم، فقال الإمام الحسن B: «أول هذا آدم، ثم حواء، ثم ناقة صالح..»([38]).
4ـ إنّ الجواب الرابع على الدليل الرابع على حرمة الاستنساخ أنّه لو سلمنا حصول تغيير في عملية الاستنساخ، لكن لا يعدّ كلّ تغيير على الإنسان أو الحيوان أو حتى النبات محرّماً، بل المحرّم من التغيير هو الذي يعارض خلق الله سبحانه وتعالى، كأن يؤدّي إلى تشوّه الخلقة أو العبث بشكل الإنسان، أو ما يظهر الخلقة على غير ما جعلها الله تعالى عليه، كما إذا أدى الاستنساخ إلى وجود دجاجةٍ بستّ أرجلٍ مثلاً أو برأسين، أو إنسانٍ مشوه؛ لأنّه يلزم من تحريم جميع أنواع التغيير عدد من المحاذير، منها تحريم قلب شجرة اللوز إلى المشمش، أو السفرجل إلى تفاحٍ بالتطعيم وغيره، ويلزم أيضاً تحريم جميع أنواع عمليات التجميل التي تجري على الإنسان، وأضحت شائعة، وعمليات نقل الأعضاء السليمة وزرعها بدل الأعضاء التالفة للشخص كالكلية والقلب وغيرهما، وهذا مخالفٌ لإجماع المسلمين، ومؤدٍّ للعسر والحرج.
5 ـ أما الجواب الأكثر دقةً وعمقاً فهو أن يقال: ليس في الاستنساخ أيّ تغييرٍ لخلق الله، وليس فيه خروج عن الطريق المألوف للإنجاب، والقواعد الكلية الحاكمة على عملية الخلق، بل هو فردٌ من أفراد عملية الإنجاب الطبيعي، ويشترك الذكر مع الأنثى في تكوين الجنين، حتى في صورة أخذ الخلية من امرأةٍ والبويضة من امرأةٍ أخرى، أو من نفس المرأة، لكنّ الذكر لا يشترك هنا بنطفته ومنيه، بل إنّ الخلية المأخوذة من الأصل المستنسخ منه ناشئة في الأصل من تزاوج ذكرٍ وأنثى، وذلك عندما كان هذا الأصل خليةً واحدة ثم تكاثرت خلاياه بالانقسام إلى أن صارت مئات الملايين عدداً، وكلّ منها يتكون من 46 كروموزوماً، 23 منها أصلها من الذكر و23 أصلها من الأنثى، فهي إذاً من ذكرٍ وأنثى، وتدخل ضمن الآيات المتقدّمة من هذه الناحية.
5 ـ منافاة الاستنساخ للتنوّع وإفضائه إلى اختلال النظام
إنّ الأنظمة الاجتماعية في العالم قائمة على تحمّل كل إنسانٍ مسؤوليته عن أعماله، واستحقاقه لحقوقه التي يحفظها له المجتمع، وذلك بعد أن تميّز بشكله الخاص، وتفرّد في مظهره الجسدي، فأخذ هويته التي يعرف بها في المجتمع.
ويمكن القول بعبارةٍ أخرى: إنّ المجتمع مبني على الطبقية، ففيه الغني وفيه الفقير، وفيه المريض وفيه السليم، وفيه الذكي وفيه الغبي، ولم يستطع أحد حتى الآن أن يلغي كل هذه الفوارق؛ فلقد ظهرت أفكار متعدّدة منذ جمهورية إفلاطون إلى الشيوعية تريد أن تجعل كل الناس متساوين سعداء، ولكن ماذا حصل؟
الشيوعية وعدت أن توصل أتباعها إلى الفردوس الأرضي، وإلى سعادةٍ ليس بعدها سعادة، لكن ماذا حصل بعد عقودٍ من ممارسة هذه الشيوعية؟ لقد أفلست الشيوعية وتبدّد أنصارها، وراح كلّ واحد منهم يسعى بقدر طاقته ومواهبه إلى إسعاد ذاته، وتأمين ما يستطيع تأمينه من خيرات، ولو على حساب سعادة الآخرين.
لقد أراد الإنسان المعاصر أن ينسى أو يتناسى أنّ الاختلاف في المواهب والقدرات البشرية هو الذي يجعل المجتمع متكاملاً، إنّ المجتمع صورة للإنسان الفرد، فكما أنّ الإنسان الفرد يحتاج إلى كل عضوٍ من أعضائه مهما كان صغيراً أو ضعيفاً كذلك المجتمع، فلو أنّ الاستنساخ أخذ مجراه في البشر ووجد من الإنسان الواحد مئات من النسخ المتطابقة، فإنّ هذا يجعل من العسير تحديد محلّ الحقوق والالتزامات عن الأعمال البشرية.
إضافةً إلى المخالفة الصريحة لعدد من الآيات القرآنية التي تؤكّد ضرورة وجود الاختلاف بين أبناء البشر، قال تعالى: >ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولايزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم< (هود: 118 ـ 119)، وقال عزّ من قائل: >ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم< (الروم: 22)، وقال: >يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا< (الحجرات: 13).
وليس هذا التنوّع في الخلق الإلهي خاصاً بالإنسان، بل كان عاماً في كل المخلوقات، وسمةً من سمات هذا الخلق وإعجازاً، قال تعالى: >وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعنابٍ وزرع ونخيل صنوان وغير صنوانٍ يُسقى بماءٍ واحدٍ ونفضل بعضها على بعضٍ في الأكل إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون< (الرعد: 4).
فعلى هذا، يكون التنوّع نعمةً من نعم الله تعالى امتنّ بها على عباده، وهو هدفٌ من أهداف الخلق وسنّة الحياة، ومن شأنه إثراؤها، وهذا ما عرفته البشرية منذ نشأتها، والاستنساخ يأتي لنا بنسخٍ مكررة، في الوقت الذي أراد الخالق للناس أن يكونوا مختلفين، وأن يكون لكلّ فرد شخصيته المستقلّة؛ ولتأكيد هذا الاختلاف بين البشر أعطانا الله رمزاً يؤكّد ذلك يتمثل في عدم اتفاق بصمة إبهام فردين في هذا الوجود، وقد أشار الباري جلّ وعلا إلى هذه الظاهرة وقال: >بلى قادرين على أن نسوّي بنانه< (القيامة: 4).
وقد اكتشف العلم الحديث أنّ قرنية العين كذلك، أي تختلف من شخصٍ لآخر، فلا يمكن أن تتطابق قرنية عيني شخصين في الوجود، لكنّ الاستنساخ يلغي كلّ هذا التفاوت، ويجعل شرائح عديدة في المجتمع تتطابق تطابقاً كاملاً فيصعب التمييز بينها، ممّا يسبب مشاكل كثيرة وكبيرة في الوقت نفسه، من قبيل استغلال المجرمين والجناة لهذه العملية، انطلاقاً من التشابه المفرط بين النسخة والأصل، لتنفيذ مآربهم الشريرة بما يدمّر المجتمع ولو على المدى البعيد، فالسماح به هو إذنٌ بازدياد الجرائم في المجتمع، وكذلك يمكن زيادة عدد المجرمين وذلك بالاستنساخ منهم.
يقول آية الله الميرزا جواد التبريزي: «التمايز والاختلاف بين أبناء البشر ضرورةٌ للمجتمعات الإنسانية اقتضتها حكمة الله سبحانه وتعالى.. وذلك كلّه لتوقّف النظام العام عليه، بينما الاستنساخ البشري ـ إضافةً إلى استلزامه محرّماتٍ أخرى كمباشرة غير المماثل والنظر إلى العورة ـ يوجب اختلال النظام، وحصول الهرج والمرج، ففي النكاح يختلط الأمر بين الزوجة والأجنبية، وبين المحرم وغير المحرم، وفي المعاملات كافةً لا يمكن تميّز طرفيها، فلا يعرف الموجب من القابل، وفي القضاء والشهادات لا يمكن تميّز المدعي من المدعى عليه، وهما من الشهود، والملاّك عن غير الملاّك، وهكذا في المدارس والمشاغل والإدارات والامتحانات، حيث يسهل إرسال النسخ بدل الأصل، أو النسخة الأخرى، فتذهب الحقوق، وفي الأنساب والمواريث، حيث لا يتميّز الولد عن الأجنبي، إضافةً إلى كون النسخة لا يعدّ ولداً شرعياً، فتضيع الأنساب والمواريث، وهذا غيضٌ من فيض، وعليه فَقِس سائر الأمور، حيث لا يبقى نظام ولا مجتمع»([39]).
لقد قام عددٌ من العلماء بتحريم الاستنساخ لأجل هذا الإشكال، فهل يعدّ الإشكال المذكور عائقاً صعباً لا يمكن تجاوزه في هذا المجال، بحيث يكون ملازماً لعملية الاستنساخ ومفسداً لها من خلال إيجاده الفوضى والهرج والمرج واختلال النظام؟
نقد الدليل الخامس
الحقيقة أنّنا نرى عدم استلزام الاستنساخ لذلك كلّه، وبعبارةٍ أصحّ حتى لو أمكنه أن يؤدي إلى ذلك يمكننا التدارك والتلافي لكل ما من شأنه أن يحصل، وما عليك إلا الاستماع إلى الأجوبة التالية لينجلي الغبار عن تلك الحقيقة:
1ـ إنّ في الكرة الأرضية عدداً كبيراً من التوائم الذين يتشابهون إلى درجةٍ كبيرة، ومنهم من يتطابق إلى ما يقارب درجة 100%، وأولئك هم التوائم السياميون، أي الذين نشأوا وتكونوا من بيضةٍ واحدة ثم انقسمت، ولم يحدث أيّ خللٍ في المجتمع جرّاء ذلك، ولو قيل: إنّ نسبة هؤلاء التوائم قليلة جداً بالنسبة إلى البشر، فنقول: لم تحصل مشكلة أو خلل يتناسب مع هذه النسبة الصغيرة أيضاً، من جهةٍ أخرى يدلّل وجود هذه النسبة من التوائم المتشابهة على أنّ الاختلاف الكامل بين جميع أفراد البشر غير مرادٍ لله جلّ وعلا قطعاً، وإلاّ لما وقع، فالاختلاف والتفاوت الموجود بين غالبية الأفراد كافٍ في تحقّق الآيات الدالّة على الاختلاف.
2ـ أمّا بشأن المشكلة في استغلال المجرمين والجناة لهذه العملية، فنقول: لا يحرم كل ما يمكن استغلاله من قبل المجرمين والخارجين عن القانون، وإلا نقع في حرجٍ؛ لأنّ الجناة يستخدمون أموراً وقضايا كثيرة في تنفيذ جرائمهم، ومع التعميم المذكور يجب تحريم كل ما من شأنه الاستخدام من قبلهم؛ فهذا الحديد مثلاً يستعمل في قضايا الشرّ أكثر من استعماله في قضايا الخير، فما برح أعداء الإنسانية يصنعون منه الأسلحة والوسائل الحربية منذ قديم الزمان، فهل يحرم استعماله مطلقاً؟ وكمثالٍ آخر كثيراً ما يستعمل المجرم السكّين في ارتكاب جريمته، فهل يحرم استعمال السكّين في جميع الموارد؟
يقول آية الله محمد سعيد الحكيم: «.. فإنّ الإجرام وإن كان محرّماً إلا أنّ فعل ما قد يستغلّه المجرم ليس محرماً، وما أكثر ما يقوم العالم اليوم بإنتاج وسائل يستخدمها المجرمون وتنفعهم أكثر مما تنفعهم هذه العملية، ولم يخطر ببال أحدٍ تحريمها، وربما كان انتفاع المجرمين بمثل عملية التجميل أكثر من انتفاعهم بهذه العملية، فهل تحرم عملية التجميل لذلك؟ وفي الحقيقة إنّ ترتب النتائج الحسنة أو السيئة على مستجدّات الحضارة المعاصرة تابعٌ للمجتمع الذي تعيش فيه ويستغلها، فإذا كان مجتمعاً مثالياً كانت النتائج إنسانيةً مثمرة، وإذا كان مجتمعاً مادياً حيوانياً كانت النتائج إجراميةً مريعة، كما نلمسه اليوم في نتائج كثيرٍ من هذه المستجدات في المجتمعات المتحضرة المعاصرة»([40]).
من جهةٍ أخرى، لا دليل على كون النسيخ مجرماً لو كان الأصل كذلك؛ لأنّ الاستنساخ يحصل للجسم فقط دون الروح ـ كما سيأتي تفصيل ذلك في جواب الدليل السابع ـ فيكون النسيخ تابعاً لعوامل أخرى كثيرة غير العوامل الوراثية، مما يردّ فكرة تكثير المجرمين في المجتمع.
3ـ لا شك ولا ريب أنّ الإنسان استطاع ـ عبر تعاقب الأزمنة والعصور ـ أن يضع قوانين وبرامج في مجالاتٍ متعددة ومواضيع شتى؛ لأنّه يميل بطبعه وفطرته إلى النظم والترتيب، فنادراً ما نجد مجالاً من مجالات الحياة يفتقر إلى سيادة قانونٍ وضعيّ، لكن هل يمكن سنّ قانون ينظّم ويهذب عمليات الاستنساخ وما ينتج عنها باعتبار أنّها تشكل أحد مجالات الحياة؟
نعم، يمكن وضع هكذا قانونٍ جامع حتى لو وصلت عمليات الاستنساخ إلى ذروتها، وانتشرت على مدى واسعٍ وبشكل كبير، فحتى لو اتسعت رقعة الاستنساخ لا يشكّل ذلك عائقاً أمام تشريع جديد كامل وشامل لجميع جزئيات الاستنساخ، للحيلولة دون استغلال المجرمين وذوي النفوس الضعيفة لهذا الكشف الجديد، فيمكن أن نقدّم اقتراحات وحلولاً متعددةً لتلافي وقوع الخلط بين الأصل والنسخة، بالإضافة إلى إمكان إيجاد حلولٍ أكثر جدوى ونفعاً حينما يتجاوز الاستنساخ مرحلة النظرية ويصل إلى مرحلة الفعلية، وبعد أن يعرض الموضوع على المتضلّعين والمتمرّسين في سنّ القوانين لاختيار أفضلها، ونذكر ـ من باب المثال ـ الحلول التالية، وهي كفيلة بحلّ المشكلة إلى حدٍّ ما:
أـ توضع كلمة سرّ بين الزوج وزوجته، والمحرم ومحارمه، وصاحب الحساب في المصرف مع المسؤول هناك، وهكذا في بقية الدوائر، ويمكن تغيير هذه الكلمة بين الفينة والأخرى لئلا تتسرّب أو تنكشف، فلا يلتقي الزوجان إلاّ بعد ذكر تلك الكلمة أو الرمز، ولا تفتح المرأة الباب لأحد محارمها الذي له شبيه ومماثل إلا بعد سماع تلك الكلمة، أما في المصرف فبعد أن اعتاد الجميع على معرفة صاحب الحساب هناك عن طريق صورته الملصقة في هويته أولاً، وإمضائه ثانياً، نضيف إليها كلمة السرّ المذكورة بعد أن أصبحت الصورة وحدها عاجزةً عن الكشف عن صاحبها الحقيقي، فلا يستطيع الشخص سحب مبلغٍ من رصيده إلاّ بعد ذكر تلك الكلمة المثبتة في ملفه، بالإضافة إلى الإمضاء والهوية الحاملة لصورته، فيصعب التزوير مع ذلك.
ب ـ يمكن أن نستعمل الوشم للتمييز بين المتشابهين، فيوشم كلّ منهم في مكانٍ معين من جسده، أو يوضع خال في موضعٍ من وجهه أو جسمه، أو رقم يميّزه عن الآخرين، والأفضل من ذلك كلّه أن يكتب اسمه بواسطة جهازٍ حراريّ على موضع من بدنه، بحيث لا يمكن أن يمسح ذلك الاسم بوجهٍ من الوجوه، فيمكن معرفة طرفي المعاملة من خلال هذا الاسم، بالإضافة إلى القرائن الأخرى، وكذلك في القضاء والشهادات والدعاوي وغيرها، فلو رأينا طابوراً من التلاميذ المتشابهين في المدرسة يمكننا التمييز بينهم عن طريق هذا الاسم، فلا يمكن أن ينتحل أحد شخصية شبيهه بسهولة، ولا يمكن إرسال النسخ بدل الأصل أو النسخة الأخرى، فلا يضيع حقّ ولا تختلط الأنساب؛ هذا ويمكن الاستفادة من التقنيات الجديدة والمتطوّرة لإيجاد حلولٍ أخرى أكثر فاعلية، فلسنا في صدد الحصر لتلك الحلول.
زد على ذلك كلّه، أنّه يمكن التمييز أحياناً على أساس فارق السنّ بين النسخة والأصل، فلو أريد استنساخ الإنسان ذي العشرين عاماً سيكون الفارق ـ وهو عشرون عاماً ـ مميزاً لأحدهما عن الآخر.
6 ـ تدمير الاستنساخ لقيم الأسرة الرفيعة
إنّ الاستنساخ يؤدي إلى هدم المعاني السامية والقيم الأخلاقية الرفيعة للأبوّة والأمومة والعلاقات الأسرية؛ ولا يخفى مدى تأثير ذلك على الأبناء، في حين أنّ الإسلام يحرص كلّ الحرص على الحثّ على تكوين الأسرة الصالحة بوصفها الخلية الأولى لتكوين المجتمع الصالح، والتي تعتبر اللبنة الأساس لبنائه، ذلك الأساس القائم على الزوجية، وعلى كون كلٍّ من الزوجين ـ الذكر والأنثى ـ سكناً للآخر؛ فإنّ الله تعالى خلق كل شيءٍ على شكل أزواج، إبتداءً بالإنسان ومروراً بالحيوان والنبات وانتهاءً بالجماد.
نعم، لقد كشف العلم الحديث أنّ التزاوج قائم في عالم الجمادات كذلك، كما نرى في الكهرباء التي تتكوّن من قطبٍ موجب وآخر سالب، بل إنّ الذرة ـ وهي وحدة البناء الكوني كله ـ تقوم على الالكترون والبروتون، أي شحنة كهربائية سالبة وأخرى موجبة، بالإضافة إلى النواة التي تمثل المركز؛ ويشير القرآن الكريم إلى هذه الظاهرة في آياتٍ عديدة، كقوله تعالى: >وخلقناكم أزواجاً< (النبأ: 8)، و>ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون< (الذاريات: 49)، و>وأنّه خلق الزوجين الذكر والأنثى< (النجم: 45)، و>سبحان الذي خلق الأزواج كلّها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لايعلمون< (يس: 36)، وقال تعالى واصفاً العلاقة الزوجية: >ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً< (الروم: 21).
فالإنسان بفطرته محتاجٌ إلى الجنس الآخر ليس لمجرّد النسل، بل ليكمل كل منهما الآخر، كما قال تعالى: >بعضكم من بعضٍ< (النساء: 25)، وليستمتع كل منهما بالآخر؛ كما قال تعالى في تصوير تلك العلاقة الزوجية: >هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ< (البقرة: 187)، ولهذا حينما خلق الله آدم وأسكنه الجنة لم يبقه وحده، ولو كان في الجنة، بل خلق له من نفسه زوجاً ليسكن إليها كما تسكن إليه وقال له: >أسكن أنت وزوجك الجنة< (البقرة: 35)، وإذا كان كل من الرجل والمرأة بحاجةٍ إلى صاحبه ليسكن إليه وتقوم بينهما المودّة والرحمة، فإنّ ذريتهما أشدّ ما تكون حاجةً إليهما، فالذرية بحاجةٍ ماسة إلى جوّ الأسرة، وإلى الأمومة الحانية، وإلى الأبوّة الراعية، وإلى تعلّم الفضائل من الأسرة، وفضائل المعاشرة بالمعروف، والتفاهم والتناصح والتباذل والتعاون على البرّ والتقوى، وقد علم الناس أنّ أطول الطفولات عمراً هي الطفولة البشرية التي تمتدّ إلى سنواتٍ يكون الطفل فيها بحاجةٍ إلى أبويه وإلى أسرته مادياً وأدبياً.
ولا تتم تربية الطفل تربيةً سوية مكتملة إلا في ظلّ أبوين يحبّانه ويحنان عليه وينفقان الغالي والرخيص حتى يكتمل نموّه، وهما في غاية السعادة بما يبذلانه لأولادهما دون منّ ولا أذى، فكلّ من الأب والأم راعٍ في الأسرة، وهو مسؤول عن رعيته، كما قال رسول الله 2: «كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته»([41]).
لكنّ الاستنساخ لا يحقّق سكن كل من الزوجين إلى الآخر، كما لا يحقق الأسرة التي يحتاج الطفل البشري إلى العيش في ظلالها وحماها واكتمال نموّه تحت رعايتها ومسؤوليتها.
وقفة نقدية
ويجاب عن هذا الدليل بمجموعة أمور:
1ـ إنّ علاقة الزوجية ستبقى على حالها، أي كما كانت قبل الاستنساخ؛ لأنّ الميل الفطري الموجود بين الرجل والمرأة لا يمكنه أن يزول باستحداث طريقةٍ جديدة لتكثير النسل، فإنّ النسل ليس هو الهدف الوحيد للزواج، بل الاستقرار والاستكانة والوصول إلى حالة الكمال وإشباع الغرائز وغيرها أهداف أخرى للزواج، فحتى مع إمكان الحصول على النسل من طريقٍ آخر تبقى رغبة الرجل والمرأة في بعضهما على حالها، فلا يمكن قتل الغرائز في الإنسان ليعرض الجنسان عن بعضهما وتهدم الأسرة مثلاً.
2ـ يمكن ـ بعد سنّ قوانين شاملة وصارمة بخصوص الاستنساخ وتشريعه ضمن ضوابط عالمية ودولية يلزم الجميع بتطبيقها ـ أن يصبح المستنسخ كالطفل المولود بالطريق الطبيعي، من حيث امتلاكه لأسرةٍ تعطف عليه وتغذيه الحنان والمحبّة، لاسيما بعد امتلاك النسيخ لأمّ قطعاً ـ أعم من كونها صاحبة البويضة أو الحاملة له في رحمها ـ حينئذٍ لا يعزى الإشكال إلى الاستنساخ نفسه، بل ينسب إلى مخالفة القوانين وعدم تطبيقها، شأنه شأن ما يحصل في مجالات الحياة المختلفة، كما قال تعالى: >ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس< (الروم: 41).
3ـ إنّ ما ذكر لا يعدّ من العناوين الواضحة المؤثرة في الجانب السلبي، ناهيك عن عدم تأثيره في التحريم من دون أي نصّ يدل عليه.
7 ـ الاستنساخ وإحساس التفرّد، المعضل النفسي
يسبّب الاستنساخ إلغاء حالة الإحساس بالتفرّد للطفل النسيخ، أو فقل بعبارةٍ أخرى: إنّه يلغي مفهوم الغيرية، أي إنّه يلغي واحدةً من أهم الخصائص التي خصّ بها الخالق سبحانه وتعالى المادة الوراثية، وهي القدرة على إحداث التباين بين الأفراد ليصبح كل منهم فريداً ومتميزاً بين البشر كافّة؛ وقد يشكل هذا أزمةً نفسية للنسيخ، وذلك عندما لا يرى لنفسه شخصيةً مستقلة تتفاوت عن الباقين، فلا يمنحه مظهره الجسدي هويته الخاصة التي يتميز بها عمّن سواه، فلكم أن تتخيلوا تشابه جميع من أحاط بكم وتساويهم في الشكل الخارجي وكونهم نسخاً طبق الأصل من بعضهم! كيف ستكون الحياة حينئذ؟ وما هو شعور كل فرد؟
إنّ أطفالنا ينشأون بنوعٍ من الاستقلال الوراثي عن آبائهم، فهم ليسوا نسخاً متطابقةً مع آبائهم أو أمهاتهم ولا حتى أجدادهم وأقاربهم، وهذا يكسبهم ثقةً مضاعفة بالنفس، ولا شك ولا ريب أنّ الله تعالى أوجد هذه الاستقلالية ووهبها لأفراد البشر عن حكمةٍ بالغة وهدف منشود، فليس اعتباطاً ولا عبثاً جعل الله الناس متفاوتين وجعل ذلك أساساً للمجتمع، بل وجعل التفاوت والتنوّع يعمّ جميع الموجودات ـ كما مرّ في الدليل الخامس ـ قال تعالى: >وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعنابٍ وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان ٍ يسقى بماءٍ واحدٍ ونفضل بعضها على بعضٍ في الأكل إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون< (الرعد: 4)، أما بشأن الاختلاف بين أبناء البشر فقال جلّ شأنه: >ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم< (الروم: 22).
ويجاب:
1ـ إنّ عمليات الاستنساخ مكلفة جداً، ولا يستطيع القيام بها إلا ذوو الدخل المرتفع جداً ـ بعد وقوعه وتحققه طبعاً لأنّه مازال في طور النظرية ولم يصل إلى مرحلة التطبيق ـ فلا يمكن أن ينتشر بسرعةٍ تؤدي إلى حدوث خللٍ في المجتمع، فهذا التلقيح الصناعي وبعد مرور أكثر من عقدين على مولده، وبرغم أنّه أسهل من الاستنساخ بكثير، ولا يحتاج إلى تقنيةٍ عالية كالتي يحتاجها الاستنساخ، نرى عدم انتشاره على مستوى واسعٍ وكبير فكيف بالاستنساخ المعقّد؟!
2ـ حتى مع التنازل والقول بإمكان ذلك، لا يمكن أن يصبح البشر جميعهم بشكلٍ واحد، أي متشابهين في مظهرهم، نعم، كان يمكن ذلك لو كان قد طبّق الاستنساخ على أبينا آدم B وأمّنا حواء J، وقبل أن يوجد أكثر من ستّ مليارات وأربعمائة مليون نسمة على وجه الكرة الأرضية، بل يستحيل أيضاً أن يصبحوا على شكل مائة شخص، أي يكون الأصل مائة شخصٍ ويستنسخ جميع الباقين من هؤلاء المائة، بل ولا ألفاً، ولا مليوناً أيضاً؛ لأنّه لا يمكن إيقاف الإنجاب بالطريق الطبيعي
حتى مع انتشار الاستنساخ على أوسع المستويات، بل يبقى يسايره على الأقل ويستحيل إلغاؤه.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى يجب الالتفات إلى عدد سكّان العالم الكبير جداً، والتفاوت الفعلي الموجود بينهم، حيث يصعب جداً إلغاء هذا التفاوت والاختلاف حتى بعد أمدٍ طويل؛ أما حصول نسخةٍ أو نسختين أو ثلاثة أو أكثر من هذا أو ذاك فهو واقع في التوائم المتشابهة، ولم يحصل أنّهم فقدوا حالة الشعور بالتفرّد، أو أحسّوا بحالةٍ من الإحباط والتذمّر.
3ـ يمكن أن نناقش هذا الإشكال ونلغيه من جذره، وذلك بأن نقول: إنّ التفاوت والاختلاف موجود بين المستنسخين أيضاً فضلاً عن بقية البشر، فلا تلغى حالة التفرّد ومفهوم الغيرية بين النسخ أيضاً؛ وذلك لأنّ المقياس في التفاوت وعدمه هو الروح البشرية وليس البدن، فالبدن ما هو إلا وعاء وظرف، والتأثير كلّ التأثير لروح الإنسان، فالإنسان بروحه لا بجسده، ولا شك أنّ روح النسخة تختلف عن روح الأصل، فلو استنسخ من عالم هل يلزم أن يكون النسيخ عالماً، حتى لو نشأ وترعرع في بيئةٍ غير تلك البيئة التي نشأ فيها ذلك العالم، ومرّ بظروف تختلف عما مرّ به أصله؟ لا شك أنّه يختلف عن مثيله، وحتى لو وجدت لديه القابلية والمؤهلات الوراثية فسوف تلعب البيئة دوراً كبيراً في ارتسام شخصيته.
لكنّ هناك نوعاً آخر من الاستنساخ أخطر بكثير من الاستنساخ الجسدي المعروف، ألا وهو الاستنساخ الفكري والروحي، فغالباً ما يخرج الأطفال مشابهين لآبائهم في التبنّي الفكري، فيقومون بتقليدهم في كل شيءٍ حتى الاعتقاد، فيعتنقون ما كان يعتنق آباؤهم ويسيرون على دربهم بدون أدنى تدقيقٍ أو تمحيص، ومن المؤسف أنّ هذا موجود في مذهبنا أيضاً، فما أكثر من يقلّد آباءه فيما كانوا يعبدون، لا لدليلٍ أو برهان وحجة قوية، بل نشأ على هذه الحالة ووجد أسلافه على هذه السجيّة، ويظهر ذلك واضحاً للعيان عند مناقشة أولئك في عقيدتهم، حيث يتبين أنّهم لا يعرفون شيئاً سوى التقليد والوراثة من الآباء، وقد ذمّ القرآن الكريم ذلك في موارد كثيرة جداً مثل قوله تعالى: >وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أوَلو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون< (البقرة: 170)، وقوله في قصّة إبراهيم: >إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين< (الأنبياء: 52 ـ 53).
8 ـ الاستنساخ وحرمة قتل الأجنّة
إنّ الاستنساخ يؤدّي إلى قتل الأجنة، لكثرة التجارب الفاشلة قبل نجاح أيّ عملية استنساخ، ولا يسمح الشارع المقدّس بقتل الكائن الحي.
والجواب: إن كان المقصود أنّ إجهاضاً يحصل في عملية الاستنساخ فهذا أمر مرفوض؛ لأنّ الإجهاض هو انفصال الجنين عن بطانة رحم الأم وسقوطه خارج الرحم([42])، أما تعريفه اللغوي فهو: «جهض وأجهضت الناقة إجهاضاً وهي مجهض: ألقت ولدها لغير تمام، والجمع مجاهيض.. فإذا ألقت الناقة ولدها قبل أن يستبين خلقه قيل: أجهضت.. وفي الحديث «أجهضت جنيناً» أي أسقطت حملها»([43]).
والجميع متفق على حرمته مطلقاً بعد ولوج الروح في الجنين، أي بعد تجاوز الأربعة أشهر من حمله، وقبل ذلك يحرم أيضاً، لكنّه يجوز في موارد استثنائية ومحدودة جداً([44]).
لكن هل يحصل هذا في الاستنساخ؟ كلاّ، بل إنّ الذي يجري هناك هو موت عددٍ من البيوض المخصّبة قبل زرعها في الرحم، فهناك عملية واحدة تنجح من مجموع 377 عملية تقريباً، أي تُمنى 376 عملية بالفشل عند إنتاج كل كائنٍ واحد، ومن الممكن أن تتضاءل النسبة كثيراً في المستقبل؛ لأنّ كل محاولةٍ جديدة تكون نسبة نجاحها ضئيلةً في البداية، ثم تزداد فرص النجاح كلّما ازدادت المحاولات ودرست النتائج، وهذا ما يَعِد به المختصّون.
فلنعد الآن إلى حكم التسبّب في قتل تلك البيوض، هل يحرم أو لا؟ والجواب بالنفي؛ لأنّ الذي يحرم هو قتل البيوض المخصّبة بعد استقرارها وعلوقها في الرحم، فتصبح محترمةً عندئذٍ، أما قبل ذلك فلا دليل على حرمتها، فتكون مباحة، «إنّ المحرم عملية قتل الكائن الحي المحترم الدم، أو قتل البويضة الملقّحة التي هي في الطريق إلى الحياة، وذلك بمثل الإسقاط، وليس المحرّم على المكلف عملية إنتاج كائنٍ حيٍّ يموت قبل أن يستكمل شروط الحياة من دون أن يكون له يد في موته، فيجوز للإنسان أن يتصل بزوجته جنسياً إذا كانت مهيأةً للحمل، وإن كان الحمل معرضاً للسقوط نتيجة عدم استكمال شروط الحياة له، بسبب قصور الحيمن أو عدم تهيؤ الظرف المناسب لاستكمال الجنين نموّه وكسبه للحياة»([45]).
9 ـ الاستنساخ وإهانة الكرامة الإنسانية
إنّ الاستنساخ يؤدّي إلى امتهان كرامة الإنسان، وذلك بالتلاعب بطريقة التناسل باستخدام طرقٍ تناسلية غير جنسية، فيتمّ إهدار كرامة الفرد التي يحرص عليها الإسلام كلّ الحرص في عملية الاستنساخ البشري، فدور كل من الرجل والمرأة في عملية الإنجاب الطبيعي دور إيجابي فعّال كما هو معروف، والجنين يرث صفاتهما معاً، وكلّ منهما يشعر بأنّه يقوم برسالةٍ في هذه الحياة، إذ يشارك في إثراء الحياة عن طريق الإنجاب، أما إذا جاء الجنين عن طريق الاستنساخ فإنّ معنى ذلك تجريد كل من الرجل والمرأة من هذا الدور الإيجابي، إذ إنّ هذا الدور سينتقل إلى إرادةٍ خارجية وعملية مختبرية؛ وهذا في حدّ ذاته إهانة لكل منهما، فالمرأة ستشعر بأنّها لم تعد أكثر من مجرد حاضنةٍ للخلية، والرجل حين تؤخذ منه الخلية سيشعر بأنّه أصبح مجرد مستودع للخلايا، تؤخذ منه الخلية الحيّة لتوضع في رحم امرأةٍ قد تكون زوجته وقد لا تكون، بل قد تكون من محارمه المحرمّ زواجه منها، بل قد تؤخذ الخلية من أنثى والبويضة من أنثى أخرى، ثم تزرع بعد التلقيح في رحم أنثى ثالثة.
أليس في ذلك جناية على الجنين وإهدار لكرامته؟ ألا يعني ذلك أنّ الإنسان لم يعد ينظر إليه في الاستنساخ البشري على أنّه غاية في ذاته، بل يصبح مجرّد وسيلةٍ يمكن التلاعب بها؟ وهذا مخالف لقوله تعالى: >ولقد كرّمنا بني آدم< (الإسراء: 70)، لذا تفرض كرامة الإنسان علينا وقبل كل شيءٍ ألا نجعله موضوع تجارب واختبارات.
والجواب: إنّ الإشكال يفتقر إلى الدليل والبرهان، فنحن نقول: إنّ الزوجين سوف يحافظان على دورهما الإيجابي، فالمرأة سوف تقوم بالحمل وتشعر بآلامه، وتمرّ بمرحلة الطلق العسيرة ثم تضعه كما تضع جميع النساء أبناءهنّ لتبدأ مرحلة الرضاعة والتغذية الروحية إلى آخر المطاف، وكذلك الرجل سيقوم بدوره المناط به كما لو كان الحمل من نطفته، ويبدأ دوره الأكبر بعد الوضع حيث يفرض على نفسه ـ كجميع الآباء ـ توفير الجو الأسري الملائم، ويقع الجزء الأكبر من تربية الطفل على عاتقه؛ كل ذلك بعد تشريع عملية الاستنساخ وجعلها في إطارٍ قانونيّ، عندها سيشعر الابن النسيخ بقيمته في المجتمع أيضاً، أما أن نحرّم الاستنساخ لأجل هذا الإشكال وغيره، ثم نقول: إنّه يؤدي إلى جلب الإهانة للأبوين، ففي هذا مصادرة على المطلوب كما هو واضح.
يقول آية الله الحائري: «ليس في الاستنساخ نسفٌ لكرامة الإنسان، فإنّ الكرامة تثبت في القرآن لمطلق بني آدم، وهذا الولد من أولاد آدم ولو عن طريق أمه، والظاهر أنّ المقصود بالكرامة المعطاة لبني آدم من قبل الله هي منحه ـ جلّ جلاله ـ إيّاهم للنفس الناطقة القابلة لصعود مدارج الكمال»([46]).
أما لو أنتج النسيخ بدون أبٍ، كما لو أخذت البويضة من أنثى والخلية من أنثى أخرى، فسيفقد الطفل علاقاته الأبوية طبعاً، لكن لا تتم جميع عمليات الاستنساخ بهذه الطريقة من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى يمكن للقانون أن يحتضنه ويسنده ليوفّر له ما افتقده من طرف الأب عن طريق المنظمات الإنسانية والاجتماعية، وليس هذا بالشيء الجديد، فما أكثر من افتقدوا آباءهم في الصغر، ومنهم من لم يرَ أباه أصلاً، واليتامى الموجودون في المجتمع خير دليلٍ على ذلك، بالإضافة إلى أولاد الملاعنات، فلم يحصل خلل فيه بوجودهم، وأسمى مثالٍ في هذا المجال هو سيدنا عيسى B، حيث نما وترعرع وصار نبياً وهو فاقدٌ للأب.
10 ـ الاستنساخ وإلغاء دور الذكر
إنّ الاستنساخ يمثل أعلى درجات الإعتداء على البشرية، وذلك من خلال إلغاء الدور الفاعل للذكور في المجتمع، حيث سيتم الاستغناء عن الذكور في عملية الإخصاب، وسوف لن يكون لهم أدنى تأثيرٍ في المجتمع والعائلة، أي إنّ وجودهم وعدمه سواء؛ فهل هناك جريمة بحق الإنسانية تفوق تلك الجريمة؟! فبعد أن غرقت المجتمعات الجاهلية في وحل وأد البنات لما كانت تشكل الأنثى من عارٍ وخزي ٍ لرب الأسرة، حتى قال تعالى: >وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به أيمسكه على هونٍ أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون< (النحل: 58 ـ 59)، وقال: >وإذا الموؤدة سُئلت * بأيّ ذنبٍ قتلت< (التكوير: 8 ـ 9)، تطوّر البشر حتى صنعوا الأسلحة الفتاكة، وصار بالإمكان قتل شعب ومجتمع كامل خلال لحظات، كما وقع ذلك وحصدت القنبلة الذرية التي ألقيت على اليابان في الحرب العالمية الثانية أرواح عشرات الآلاف من البشر الأبرياء، ووصل التطوّر قمته باكتشاف الاستنساخ وما سوف يرافقه من جنايةٍ على نصف البشرية بإلغاء دور الرجال، مما يؤدّي إلى انحطاط مرتبتهم وتفوّق النساء عليهم، وقد قال تعالى: >الرجال قوّامون على النساء< (النساء: 34).
والجواب: إنّنا ندعي عكس ذلك؛ لأنّ تأثير الرجل في المجتمع لا ينحصر في عملية الإخصاب كي يفقد قيمته بفقدانه هذه الخصلة، بل تأثير الرجال أكبر من ذلك بكثير، وسيبقون قوّامين على النساء وعلى الأسرة بأسرها، كما كانوا كذلك طوال هذه المدة المديدة، ولا يؤدّي الاستنساخ إلى حصول خللٍ في دور ووظيفة كلٍ من الرجل والمرأة.
بالإضافة إلى أنّه لا يمكن إلغاء الطريق الطبيعي للإنجاب أبداً كما مرّ سابقاً، وذلك لعدم إمكان قتل الغريزة في البشر، بل وحتى في المتولّدين عن طريق الاستنساخ نفسه، فلا دليل على خلوّهم من الغرائز والأحاسيس، بل هم بشر كسائر أفراد البشر الأخرى يتمتعون بما يتمتع به أولئك، فلا يلغى دور الرجال أبداً، ولا يرد الإشكال المذكور.
11 ـ الاستنساخ والتحكّم بالمواليد
إذا تحقّقت قضية المطابقة بين الفرع والأصل في الاستنساخ في الذكورة والأنوثة، ربما أصبح التحكم في المواليد المطلوبة للمجتمعات تابعاً للساسة في كل مجتمع، ولهذا من العواقب الوخيمة ما قد لا يقدّرونه في الحال، فيؤدي ذلك إلى تدمير المجتمع على المدى البعيد؛ فإنّ الله تعالى جعل كلاً من الذكر والأنثى سكناً للآخر، وجعل ذلك أساس بناء المجتمع، وهذا كما أنّه مطلوب للديانات السماوية هو أيضاً من النواميس الجارية في الخلق، فإنّ الغالب في المجتمعات الإنسانية مساواة أعداد الرجال لأعداد النساء تقريباً، ولا يعرف البشر إلى هذا الوقت كيف تتحكّم الإرادة الإلهية فتساوي بين أعداد الجنسين، ولله حكمته البالغة، فكيف إذا كان الأمر تبعاً لأهواء البشر، قال تعالى: >ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهنّ< (المؤمنون: 71).
والجواب: بما أنّ العالم وقف من أوّله إلى آخره بوجه الاستنساخ خوفاً من الوقوع في مشاكل أخلاقية واجتماعية وقانونية، يمكنه أيضاً التوحّد في إصدار قانونٍ صارم وملزم لسلب المبادرة من أيدي الانتهازيين والساسة، وجعل الاستنساخ تابعاً للقانون فحسب؛ فكما أنّ المجتمعات ـ الإسلامية بالذات ـ تخضع لقوانين في تهذيب وتشذيب العلائق بين الرجل والمرأة من جهة، والأطفال معهما من جهةٍ أخرى، وإذا حصلت مخالفات وانتهاكات فتكون من باب عدم تطبيق القانون والتشريع، وهي ليست بالمقدار الذي يؤدي إلى إحداث إرباك في المجتمع، فلتكن عملية الاستنساخ كذلك.
بالإضافة إلى ما قيل من أنّ الإنجاب الطبيعي ماضٍ في طريقه ولا يمكن إيقافه وعرقلته، وبالنتيجة لا يحدث خلل في التوازن بين الرجل والمرأة.
12 ـ الاستنساخ وانتخاب الأقوى والأصلح
إنّ التكاثر التزاوجي فيه ارتقاء بجنس البشر؛ لأنّه يقوم على سنّة انتخاب النسل الأقوى والأوفر حظاً من الصحّة والجمال والقدرات العقلية، حيث يبدأ كل من الزوجين بانتخاب شريكه الآخر من بين المئات والألوف من البشر، ثم تجري عند الإخصاب عملية السباق بين ملايين الخلايا الذكرية الجنسية لتلقيح الخلية الأنثوية، ويكون ذلك من حظّ الأقوى والأسرع.
أما التكاثر الاستنساخي ـ إن أتيح للناس استخدامه ـ فسوف يكون الأمر فيه تابعاً لأهواء أصحاب القدرات المالية القادرين على دفع التكاليف الباهضة، ولن يكون هناك ارتقاء ولا انتخاب بل صورة مطابقة للأصل تماماً.
والجواب: برغم أنّ التكاثر التزاوجي قائم على انتخاب الأفضل، لكنّنا نرى المرضى والضعاف وأصحاب العقول المختلّة يشكّلون نسبةً في المجتمع، فلم ولن يخلو منهم، من جهةٍ أخرى لا يقوم الاستنساخ على الأهواء كما ادّعي، بل يدور مدار القانون الذي لن يسمح بتكثير ذوي العاهات والاختلالات العقلية، هذا بالإضافة إلى عدم رغبة المجتمع والفرد بتكثير أولئك؛ لأنّ الإنسان توّاق للتكامل والرقي بفطرته، ويبحث عن الأفضل دائماً.
بالإضافة إلى ذلك كلّه، إنّ الاستنساخ ـ وبعد هذا التطوّر الهائل في مجال رسم الخريطة الوراثية للإنسان ومعرفة وظيفة كل جينٍ في بدنه عن طريق مشروع الجينوم البشري ـ يفوق التكاثر الطبيعي بدقته وانتقائه للفرد الأفضل، فالأمر على العكس مما قيل تماماً.
13 ـ الاستنساخ والخلق لأجل القتل
يعتبر الاستنساخ خلقاً للإنسان من أجل قتله، أو بعبارةٍ أخرى يخلق الفرد المستنسخ من أجل الحصول على بعض أعضائه المهمّة كالقلب والكلية وغيرها، حيث إنّ أحد أهم أهداف عملية الاستنساخ هو الحصول على مثل تلك الأعضاء لزرعها للشبيه الذي يعاني من فقد أحدها، ويرفض جسمه قبول أي عضوٍ من أي إنسانٍ آخر سوى النسخة المشابهة، ولا يخفى مدى التأثير السلبي على نفسية المستنسخ عندما يعرف أنّه إنّما جيء به لغرض الاستفادة من أعضائه، وجعله مستودعاً للأعضاء الاحتياطية وقطع الغيار لاستعمالها عند الحاجة إليها!
والجواب:
1ـ ليس الهدف الوحيد أو الرئيس لعملية الاستنساخ هو الحصول على الأعضاء البديلة، بل كل ما قيل بأنّه يمكن علاج بعض الحالات المستعصية عن طريق أخذ العضو من النسيخ لعدم رفض جسم الأصل لأعضاء النسيخ، فلم يخلق الإنسان من أجل قتله كما ذكر، بل يمكن للنسيخ أن يساهم في إحياء بعض المرضى ذوي الحالات المستعصية لا غير، كأن تؤخذ إحدى كليتيه مثلاً لزرعها للمريض المذكور، ولن يرضى المجتمع ولا القانون ولا الفرد المريض نفسه بأخذ قلب النسيخ مثلاً ومن ثم رميه في سلّة المهملات؛ لأنّ النسيخ إنسان كباقي البشر له ما لهم وعليه ما عليهم، ويتمتّع بكل ما يتمتعون، والخلاصة لا يسمح الشرع والقانون بالتعدّي على النسيخ حتى قبل ولادته، أي بعد علوقه بجدار الرحم، كما مرّ في جواب الدليل الثامن.
2ـ أضف إلى ذلك أنّ الاستعداد جارٍ على قدمٍ وساق لاستنساخ الأعضاء البشرية فقط، أي يستنسخ العضو المراد فقط بلا حاجةٍ إلى استنساخ الإنسان بكامله، وعليه لا يحلّ الإشكال المذكور فحسب، بل تقدّم بذلك خدمة جليلة للبشرية جمعاء بصورةٍ عامة، ولآلاف بل ملايين المرضى بصورةٍ خاصة.
14 ـ الاستنساخ والتلاعب بهندسة الخلق
إنّ الاستنساخ لونٌ من ألوان التلاعب بهندسة الجينات ومعايير المورثات، ومن المعلوم أنّ القرآن نبّه إلى أنّ البيئة المناخية والاجتماعية والوراثية مركبة تركيباً كيميائياً وأحيائياً دقيقاً، وأنّه لا يجوز للإنسان التلاعب بمعاييرها، فالله سبحانه يقول: >وخلق كل شيءٍ فقدره تقديراً< (الفرقان: 2)، ويقول أيضاً: >إنّا كل شيءٍ خلقناه بقدرٍ< (القمر: 49)، ويقول ناهياً عن التلاعب بهذه المعايير: >ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها< (الأعراف: 56).
والجواب: لا يمكن أن يعدّ الاستنساخ تلاعباً بعد كل هذه الدقّة، وبعد كل تلك الخدمات التي قدمها في مجالي النبات والحيوان، وفي بعض الحالات للإنسان أيضاً، مما يدلّل على أنّ ما يقوم به عمل مدروس ومنظم، ويصبّ في صالح العلم والمعرفة، ويقوي الاعتقاد بوجود الخالق والبارئ من خلال اكتشافه لأسرار الكون الكامنة في ما يوجد على ظهره؛ فلا يعدّ الاستنساخ تلاعباً ولا إفساداً في الأرض، بل هو إصلاح لها ومحاولة للاستفادة من القوانين الإلهية للوصول بالبشرية إلى مدارج الكمال والترقي؛ وإلا لزم اعتبار جميع الاكتشافات العلمية الحديثة تلاعباً بالقوانين الإلهية، وخروجاً عمّا رسم لنا الباري، ولم يقل بذلك أحد، وإن قال فبُعده عن الصواب والعقل أوضح من أن يخفى، فمن بطلان اللازم يبطل الملزوم.
15 ـ الاستنساخ ولوازمه السلبية على الخلقة (معضل الشيخوخة المبكرة)
يؤكّد الأطباء والمختصّون في علم الوراثة أنّ الاستنساخ سيجلب الويلات للبشرية، لما ينطوي عليه من مخاطر ومغامراتٍ كبيرةٍ تكون حصيلتها جملة من التشوّهات الخلقية، وإصابة الإنسان بالشيخوخة والموت المبكّرين؛ لأنّ كل انقسامٍ للخلايا يؤدي إلى فقدها جزءاً من الحامض النووي، وعندما تصل الخلية إلى عمرٍ معين تكون قد مرّت بانقساماتٍ متعددة أدّت إلى هرمها وعجزها، فإذا أريد استنساخ طفلٍ من شخص يبلغ الثلاثين عاماً سوف يولد النسيخ وعمره لحظة الولادة ثلاثون عاماً؛ لأنّ الخلية التي خلق منها قد قضت هذه المدّة بالفعل وعاشت تلك الفترة الزمنية، عندها سيتحوّل الاستنساخ إلى وبالٍ على الإنسان في الكثير من موارده إلا اذا أجري على الطفل ذي السنّ القليلة، أو استعمل القسم الثاني منه الذي هو عبارة عن فصل البيوض المخصّبة، والمسمّى بطريقة النسخ الجنيني، كما شرحناها في دراسة أخرى.
والجواب: إنّ عمليات الاستنساخ لا زالت في باكورتها وبداياتها، فعلى الرغم من مرور بضع سنوات على استنساخ النعجة (دوللي) التي منحت العلماء الأمل في إجراء هذه العمليات على البشر؛ لكنّ هذه المدة غير كافيةٍ لإجراء هكذا عملياتٍ معقدة وواسعة على سيّد المخلوقات، لما يمكن أن يستتبعه من نتائج معكوسة وسلبية، لذا تحتاج إلى وقتٍ كاف للوصول إلى النتائج المرجوة، وجميع الاكتشافات تكون صعبةً في بداياتها وتحتاج إلى دراسةٍ وإمعان كبيرين، فكيف بهكذا مشروع ضخم ومعقد يمكنه أن يغيّر مجرى التاريخ؟ هذا بالإضافة إلى إمكان أن تكون نتيجة الاستنساخ على العكس مما ذكر في هذا الإشكال، أي يفتح الاستنساخ أبواب الخير والسعادة على البشرية، فيتمّ القضاء على الشيخوخة والوقوف بوجهها وما يلازمها من إفرازات ومضاعفات سلبية، فتكون فوائد الاستنساخ أكثر من مضارّه ومشاكله.
16 ـ الاستنساخ وتفكّك العلاقات القانونية
لا يقوم الاستنساخ على علاقاتٍ أسريةٍ ونسب محدّد، حيث لابد من سلسلةٍ تكون المجتمع، وهي عبارة عن أنّ الفرد يشكّل اللبنة الرئيسة لتكوين الأسرة، وهي بدورها تشكّل العامل الأساس لتكوين العشيرة والقبيلة، والعشيرة تعتبر وحدة بناء المجتمع، قال تعالى: >إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا< (الحجرات: 13)؛ فإذا تحطّمت عوامل بناء المجتمع ابتداءً من الفرد ومروراً بالأسرة والعشيرة سوف يؤدي إلى تقوّض وتلاشي المجتمع برمّته.
وبناءً على هذا ستنجم عن الاستنساخ مشاكل قانونية واجتماعية وفقهية كثيرة، تنشأ من علاقة الفرد المستنسخ بصاحب الخلية وصاحبة البويضة بصورة خاصّة، وبالمجتمع بصورةٍ عامة، ويمكن القول ـ بعبارةٍ أخرى ـ : سيؤدي الاستنساخ إلى اختلاط الأنساب وضياعها وانهدام علاقات الأبوّة والأمومة والأخوة والعمومة والخؤولة وهلمّ جراً، وما يستتبع ذلك من مشاكل في النكاح والإرث والنفقة وغيرها.
والجواب: لقد درسنا هذا الموضوع بالتفصيل في مقالةٍ أخرى، وأثبتنا أنّ العلاقات بين النسيخ ومن حوله قائمة وموجودة، فهو كالفرد المخلوق بواسطة التلقيح الصناعي، وعليه لا يرد هذا الإشكال أيضاً.
نتيجة البحث
بعد هذه الرحلة الطويلة نسبياً في بحث ومناقشة أدلّة حرمة عملية الاستنساخ، نحاول الإجابة عن السؤال التالي: ما هو الحكم التكليفي لعملية الاستنساخ البشري؟
لا يحرم الاستنساخ بالحرمة الذاتية؛ لأنّه ليس من العناوين المحرّمة، لكنّه يمكن أن يحرم بالحرمة العرضية الناشئة من استلزامه المحرم، أي أنّ حكمه الأولي هو الجواز، ووقع النقاش في الحكم الثانوي وذلك بملاحظة العناوين التي يستتبعها؛ وبعد هذه الجولة في أهمّ وأغلب ما استدلّ به على حرمته، ومناقشة جميع ذلك وردّه، نحرز عدم دخول الاستنساخ في أيٍّ من أدلة الحرمة المذكورة، أو نشكّ على الأقل في دخوله ضمنها، وهذا يقودنا إلى أن نقول بالجواز ببركة أصالة الإباحة بعد افتقاد الأدلّة على الحرمة.
لكنّ ذلك مبني على تظافر الجهود وتعاضد الجميع في إيجاد وصياغة قوانين شاملة وكاملة لمنع التلاعب واستغلال هذا الكشف العلمي العظيم، وتوظيفه لخدمة البشرية، لكي ترتفع الهواجس التي تراود المؤمنين والحريصين على مستقبل البشرية، والتركيز لإيجاد حلول أكثر انسجاماً مع الجانب الأخلاقي في الموضوع؛ لأنّه يقلق الجميع حتى غير المتدينين.
من جهةٍ أخرى، يثبت الجواز إذا لم يستلزم الاستنساخ عناوين ثانوية أخرى، من قبيل مباشرة غير المماثل والنظر إلى العورة ولمس الأجنبي، وإلاّ حرم بمقتضى هذه العناوين الثانوية، ولا يرفع هذه الحرمة سوى الاضطرار والحرج مثل انحصار الإنجاب بهذا الطريق مع الحاجة الماسّة إليه.
وبالرجوع إلى فتاوى العلماء والمراجع، نجد أنّ جميعها يصبّ في هذا الإتجاه، فمنهم من أفتى بجواز عملية الاستنساخ كالسيد محمد سعيد الحكيم والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ومنهم من علّق الجواز على عدم حصول المحذور، وقد تردّد بعضهم ولم يجزم بحصوله أو عدمه، وفي النتيجة يتفق الجميع على جوازه مع عدم تحقّق تلك العناوين الثانوية، وقد أثبتنا ذلك فيما تقدّم من حديث.
* * *
الهوامش
([1]) محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول 1: 54.
([2]) المشكيني، اصطلاحات الأصول: 124.
([3]) المصدر نفسه.
([4]) د. أحمد فتح الله، معجم ألفاظ الفقه الجعفري: 158.
([5]) المصدر نفسه.
([6]) المصدر نفسه: 55.
([7]) الشيخ الكليني، الكافي 1: 59.
([8]) معجم ألفاظ الفقه الجعفري: 217.
([9]) الشهيد الأول، اللمعة الدمشقية: 234.
([10]) حسن بحر العلوم، الاستنساخ البشري وموقف الشريعة الإسلامية: 72 ـ 73.
([11]) راجع: لسان العرب ومفردات غريب القرآن، مادة (بطن).
([12]) لسان العرب، مادة (خلق).
([13]) مفردات غريب القرآن، مادة (خلق).
([14]) لسان العرب، مادة (بدع).
([15]) مفردات غريب القرآن، مادة (بدع).
([16]) علي السبزواري، الاستنساخ بين التقنية والتشريع: 95.
([17]) حسن بحر العلوم، الاستنساخ البشري وموقف الشريعة الإسلامية: 42.
([18]) البتك: القطع، راجع: لسان العرب، مادة (بتك).
([19]) العلامة الطباطبائي، تفسير الميزان 5: 96.
([20]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 25: 166.
([21]) الكليني، الكافي 6: 357.
([22]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 25: 179.
([23]) المصدر نفسه: 180.
([24]) المصدر نفسه: 181.
([25]) الكليني، الكافي 5: 332.
([26]) المصدر نفسه.
([27]) المصدر نفسه: 354.
([28]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 20: 85.
([29]) المصدر نفسه 21: 467.
([30]) المصدر نفسه: 468.
([31]) المصدر نفسه 20: 123.
([32]) المصدر نفسه: 125 ـ 126.
([33]) آية الله الحكيم، فقه الاستنساخ البشري: 19.
([34]) المجلسي، بحار الأنوار 11: 113.
([35]) المصدر نفسه.
([36]) بحار الأنوار 57: 265.
([37]) المصدر نفسه 11: 112.
([38]) المصدر نفسه 10: 135.
([39]) الميرزا جواد التبريزي، صراط النجاة 3: 393 ـ 394.
([40]) آية الله الحكيم، فقه الاستنساخ البشري: 20.
([41]) العلامة المجلسي، بحار الأنوار 72: 38.
([42]) د. البرزنجي وشاكر العادلي، عمليات أطفال الأنابيب والاستنساخ البشري: 139.
([43]) ابن منظور، لسان العرب، مادة (جهض).
([44]) تفاصيل هذا الموضوع موجودة في الرسائل العملية للمراجع العظام.
([45]) آية الله الحكيم، فقه الاستنساخ البشري: 20 ـ 21.
([46]) آية الله كاظم الحائري، الفتاوى المنتخبة 2: 247 ـ 248.