أحدث المقالات

تأملات في تشتّت مفاهيم القرآن

د. عبد الهادي فقيهي زاده(*)

مقدمة ــــــ

تشتمل بعض سور القرآن الكريم ـ وبالخصوص السور الطوال ـ على مفاهيم ومواضيع متنوّعة ومتعددة، يصعب في بعض الأحيان أن نجد جامعاً بينها.

هذا الاعتقاد الواهن قد خَطَر في أذهان مجموعة من المحقّقين، الذين اعتقدوا بأن هناك بعض المواضيع غير مترابطة، وفيها نوع من التشتّت، في سور القرآن، وقد عدّ هؤلاء هذا التشتّت في مواضيع القرآن من الخصوصيات البيانيّة العالية له، وبالنتيجة فقد صرّحوا بأن عدم الانسجام هذا بين السور القرآنية أمرٌ طبيعي. في حين أن هذه النظرية الباطلة ناتجة عن عدم الاعتناء الكافي بالعناصر والعوامل المتعدّدة المؤثّرة في ذلك الاعتقاد، والتي يمكن تقسيمها إلى عوامل داخليّة وخارجيّة؛ من خلال مقارنة تلك العوامل والعناصر مع متن القرآن الكريم وخصوصياته المسلـّمة.

ومن أهم تلك العوامل التي يمكن أن نعدّها من العوامل الداخلية: الطريقة المَزجيّة في بيان مطالب القرآن الكريم، وعدم الالتفات إلى الوصل والحذف في تركيب الجمل القرآنية، وكذلك التدرج في نزول الآيات القرآنية وعدم نزولها دفعة واحدة.

وأما العوامل الخارجية فهي: الترجمة اللفظية للآيات والسور القرآنية، الإسهاب في بعض المطالب في التفاسير القرآنية، وعدم الالتفات إلى أسباب النزول ومواضيع الآيات.

بيان الإشكالية وتوضيح النظرية النقدية ــــــ

قال مجموعة من الباحثين بأن محتوى الكثير من السور القرآنية مبعثر، وغير مرتبط ببعضه البعض، وغير منسجم انسجاماً منطقياً، وعَدّوا كلام القرآن المُبَيَّن بهذه الطريقة من الخصوصيات البيانيّة للقرآن. وهؤلاء المحقِّقون يعتقدون أن قارئ القرآن ـ وبالأخص الذين هم مضطرون للاستفادة من ترجمة واحدة للقرآن ـ سوف يظلّون متحيّرين وخائفين من تشتّت المفاهيم في السور([1])، وحسب رأي هؤلاء المتبنّين للنظرية فإن منشأ هذا التشتّت والتشويش يعود إلى النزول التدريجي للقرآن، وتنوّع المخاطبين بالقرآن الكريم في عصر البعثة، وكذلك تنوّع وتكثّر الموضوعات المطروحة في القرآن الكريم، وبالخصوص في السور الطوال([2]).

وقد عزا مجموعة من المستشرقين هذا التشتّت والاضطراب في مطالب القرآن إلى رفع الملل والتعب عن قارئ القرآن، والحدّ من تنفّره عند القراءة؛ وعَزَتْه مجموعةٌ أخرى إلى العيب والنقص في طريقة الصحابة في ترتيب آيات كل سورة من سور القرآن([3]).

وأقدم نصّ يشير إلى هذه المسألة هو رواية ابن عباس، وهي دالة على أن سلام بن مشكم جاء مع ثلّة من اليهود إلى رسول الله، وقالوا: كيف نتّبعك وأنت كنت تصلي إلى قبلتنا وقد غيّرتها؟! والكتاب الذي جئت به لا يتناسب ولا يتناسق مع التوراة، ولا حسب طريقتها([4])؟!

ومن المسلّم أن القرآن الكريم لم يختصّ بموضوع واحد معين في كل سورة من السور حتى نقول: إن السورة الفلانية مختصّة ببيان مسائل التوحيد؛ والسورة الأخرى مختصّة بالنبوّة؛ وتلك بالمعاد؛ وهكذا..، وإن كل سورة تبيّن جزئيات ذلك الموضوع وتجعله محوراً لها، لذلك لا يمكننا أن نطلق على السور القرآنية بأنها موضوعات مستقلّة تتكلم عن موضوع محدَّد ومعيّن ذي أقسام وفصول، فلا نقول: إن سور القرآن ذات مواضيع مستقلة وذات بحوث متعددة، حالها حال أي كتاب عادي. وإنما القرآن كتاب هداية، هدفه إرشاد البشر وهدايتهم نحو الفلاح والصلاح، وكل سورة من سور القرآن الكريم تناولت موضوعات مختلفة ومتناسبة، وقد تظافرت تلك الموضوعات من أجل تحقيق ذلك الهدف الذي من أجله نزل القرآن الكريم.

كما أن كبار الأصوليين يعتقدون أن عامل اتّحاد مسائل أي باب علمي تضافر بعضها مع البعض الآخر في سبيل الوصول إلى الغرض والهدف من ذلك العلم، لذا فإن تعدد الموضوعات المطروحة في علم ٍ ما تظهر ثَمَرَتها عندما تكون وجهتها صحيحة، بحيث تتضافر كل المسائل من أجل تأمين هدف ذلك العلم([5]).

وعلى كل حال فإن هناك أسباباً وعللاً متنوعة عملت على جعل سور القرآن تُبتلى بالإبهام والترديد من خلال ما طُرح فيها من مواضيع، وبالنتيجة ظهر هذا الظن الباطل والاعتقاد الخاطئ في السور القرآنية ــ ولا سيما الطويلة منها ــ في أنها متفرقة وغير مرتبطة، وليس هناك نظم وانسجام بينها. وبعض هذه العوامل يرجع للقرآن نفسه، ونسمّيه العوامل الداخلية؛ وقسم آخر من هذه العوامل هي عوامل خارجية أدّت إلى هذا التوهّم.

العوامل الداخلية لتشتت السور القرآنية ـــــــ

1- الطريقة المزجيّة في بيان محتويات السور القرآنية ـــــــ

 أحد العوامل التي أدّت إلى تشتّت موضوعات القرآن الطريقة الخاصّة التي اعتمد عليها هذا الكتاب المقدَّس في بيان مضامينه ومطالبه، وهي (الطريقة المزجيّة)، وتعتبر هذه الطريقة حافظة للقرآن من التدخلات البشرية في التلاعب بموضوعات القرآن. وفي بعض الأحيان نلاحظ في هذه الطريقة اللجوء إلى بيان بعض المطالب من خلال الجُمل المعترضة؛ لأجل أن لا يثير حساسية بعض الأطراف في تناول الموضوعات الحسّاسة التي تثير حفيظتهم، مثل: موضوع الولاية والإمامة، التي كانت محط أنظار القبائل والأفراد آنذاك، لذلك لا نشاهد هذه الموضوعات مجتمعة في مكان واحد؛ كي لا تحرّك مشاعر الآخرين، أو تجلب انتباههم نحو قضيّة تثير الحساسية والشحناء، وغالباً ما تكون هكذا مواضيع مطروحة على شكل جمل معترضة([6]).

وبناء على ذلك يمكننا أن نستلهم الكثير من كلام الإمام جعفر الصادق× في هذا المجال، حيث يقول: إن القرآن نزل بطريقة (إيّاك أعني، واسمعي يا جارة)([7])، يعني أن بعض المواضيع القرآنية ليست صريحة جداً، بل هناك إشارات وإيماءات خفيّة إلى موضوع معين، فربما كان الخطاب القرآني موجَّهاً أصلاً إلى أولئك الأفذاذ الباحثين عن الحقيقة، والذين سوف يفهمون تكليفهم في ما بعد، ويقعون على المقاصد والمعاني الحقيقية التي خوطبوا بها فعلاً. وعلى هذا الأساس فإن بعض الأعمال التي تصدر من الآخرين تُنسب أحياناً إلى النبي‘، فيلومون النبي ويطعنونه بها. وقد قيل: إن الحديث المروي عن الإمام الرضا × حول الشرك في الآية المباركة: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر: 65) هو من باب (إياك أعني، واسمعي يا جارة)([8])، يعني اعلمي أيتها الأمة الإسلامية أن الأعمال سوف تحبط بالشرك، حتى لو كان المشرك ـ على فرض المحال ـ هو شخصٌ مثل رسول الله ‘، فإن كل أعماله وخدماته سوف تُحبَط وتذهب هباءً منثوراً إذا ما أشرك ـ والعياذ بالله ـ.

 وهناك أيضاً موارد أخرى في هذا الباب، فربما تظهر آيات معينة في موضوع يختلف فيها عن الآيات السابقة واللاحقة في موضوعها، ثم يرجع بعد ذلك للآيات التي كانت قبل مجيء ذلك الموضوع، كما في الآيات 238 ـ 239 من سورة البقرة، التي تظهر فيها أحكام الصلاة بين أحكام النساء، فيذكر الطلاق في الآية 237: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ }، ثم يأتي فجأةً بآية: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُواْ للهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أو رُكْبَاناً…} إلى آخر الآية، ثم يرجع في الآية 240 للقول: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم...}، وهذه الخصوصية التي يمتاز بها القرآن في محلها، وتُعتبر إحدى الطرق التي يمتاز بها البيان القرآني، وهذا الأمر أدى إلى قول البعض بأن القرآن يطرح مواضيع غير مترابطة ومن دون قاعدة، في حين تظهر في كل سورة من سور القرآن الكريم محاور موضوعية متعددة، يمكن من خلالها أن نفهم ضرورة طرح تلك المواضيع الخاصّة ضمن السورة الواحدة.

ونتيجة لهذه الطريقة المتّبعة في القرآن ـ يعني وجود محاور موضوعية منسجمة في السور القرآنية ـ سعى بعض العلماء الإسلاميين إلى التحقيق والبحث في السور القرآنية من خلال طرحها على شكل مجموعي، وليس آية آية، وقد أعطت هذه الطريقة نتائج قيّمة وباهرة([9]).

2ـ إهمال الحذف والوصل في جمل القرآن ــــــ

 العامل الثاني من العوامل الداخلية المؤثرة في تشتّت مفاهيم السور القرآنية هو إهمال الحذف والوصل في جمل القرآن، فمرّة تشاهد الجملة تظهر من دون حذف، وتارة أخرى تشعر أن هناك جملة أو كلمة محذوفة من بين الجملتين أو الجمل، وفي بعض الأحيان تبقى القرينة تشير إلى وجود طرف آخر محذوف، وبعض هذه القرائن رغم كثرتها قد خفي على الكثير من المفسّرين والمترجمين، مثلاً: (كما) التي هي حرف تشبيه واقع بين جملتين متماثلتين نراها في القرآن تقع بين جملتين غير متماثلتين؛ ففي بعض الأحيان نشاهد حذف جملة مماثلة بكاملها، مثل: الآية 5 من سورة الأنفال: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}، والتي نزلت في غزوة أحد، والتي حُذف منها جملة بكاملها، فبدون الحذف تكون هكذا: (كما أخرجك ربّك من بيتك لتقاتل المشركين خارج المدينة..)؛ وفي بعض الأحيان يُحذف قسم من كلا الجملتين، ويبقى القسم الآخر، مثل: الآية 26 من سورة الأعراف: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}، و(كما) هنا واقعة بين الجملتين المتماثلتين، وعند التدقيق في القرينة في ما بين جملتي الآية يمكننا أن نكمل الآية هكذا: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان بوسوسته فتضَعونَ لباسكم عنكم وتكونوا عراة فيُسلَبُ عنكم شرف الحضور في الجنّة كما وُضع لباس أبَوَيكم فأصبحوا عُراة).

ومن النماذج الأخرى البارزة للحذف والوصل في القرآن الكريم حذف المعطوف عليه، فمثلاً: القرآن الكريم يقول في خمسة موارد: {ألم يَرَوا} بدون حرف عطف، ويقول في أكثر من عشرة موارد {أَوَلَمْ يَرَوا} مع حرف العطف، وبناءً على ذلك يجب التنبّه إلى أن جملة {أَوَلَمْ يَرَوا} الحاوية على حرف العطف قد عُطفَت على جملة مشابهة لها، فإذا لم تُشاهَد تلك الجملة في المتن القرآني يجب أن نستخرج جملة المعطوف عليه، التي ربما تصل في بعض الأحيان إلى جملة واحدة أو جمل طويلة من خلال القرينة السابقة واللاحقة ومن الموارد المشابهة لها، فتُضاف إلى التفسير أو إلى الترجمة.

ويأتي نفس الكلام في (أرأيت) مع (أفرأيت)، و(أرأيتم) مع (أفرَأيتُم)، حيث إن الكلمة الأولى ليس فيها حرف عطف والثانية فيها فاء التفريع، وهذا يعني أنها متفرعة عن المسائل التي سبَقَتها([10])؛ لذلك لو بذلنا جهدنا في الحصول على النقاط الأدبية والمعارف القرآنية، والتي حُذفت بفضل القرائن الموجودة، فإننا سوف نضيف القرائن اللفظية والحالية المحذوفة إلى التفسير أو إلى الترجمة، فيتمّ كشف الارتباط القائم من خلالها بين المعاني المختلفة للسورة، أو المعنى المطلوب لمجموعة من الآيات.

3ـ النزول التدريجي للآيات ــــــ

من المسلّمات التاريخية والحديثيّة النزول التدريجي للقرآن الكريم([11])، ويدلّ عليه أيضاً بعض الآيات القرآنية، في حين أن طريقة نزول الآيات القرآنية لم تكن بشكل واحد، فمنها ما نزل من دون سابق إنذار، ومن دون وجود حادثة معيّنة أو سؤال يقتضي نزول الوحي المرتبط بتلك الحادثة، بل يمكننا أن نبحث السبب العام لنزولها. وبعبارة أخرى: إن احتياج النوع الإنساني لهكذا إرشادات وبيانات صادرة من السماء؛ لجبران النقص الموجود من خلال الوحي الإلهي، وللاستفادة منه في الحياة اليومية لتشخيص الحق من الباطل.

وهذا النوع من الآيات والسور الفاقدة لأسباب النزول تشمل قسماً من القرآن، وهي عبارة عن:

أ ــ الآيات والسور التي تُطرح فيها حوادث وحياة الأمم السابقة.

 ب ــ الآيات والسور القرآنية ـ وليست قليلة ـ التي تبحث في أخبار الغيب، وتعطي صورة عن عالم البرزخ، والجنة والنار، وحالاتهما يوم القيامة، والحالات التي يعيشها أصحاب الجنّة والنار، والتي لا يمكننا أن نبحث في سبب نزولها([12]).

وفي المقابل هناك آيات قرآنية نزلت بعد وقوع حادثة خاصّة، أي لها سبب نزول خاص، وهذه الأسباب إما أن تكون على شكل حادثة جميلة أو محزنة أو عظيمة، وإما أن تكون بسبب سؤال يوجّهه المسلمون لرسول الله ‘ فينزل الوحي بسببه؛ وفي موارد أخرى ينزل القرآن نتيجة لأوضاع يمرّ بها المسلمون، ولا يعرفون ماذا يصنعون تجاهها، فينزل الوحي ويشخّص لهم تكليفهم تجاه تلك الأمور([13]).

ويمكن أن نذكر بعض الأمثلة على هذا الكلام من خلال آيات اللّعان (النور: 6 ـ 9)، والظهار (المجادلة: 2 ـ3)، التي تبيّن سبب نزول هذه الآيات، والتي نقَلَتها كتب التفاسير والروايات المشهورة([14]).

وعلى كل حال فإن الآيات الدالّة على النزول التدريجي هي: آية 106 من سورة الإسراء: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}، وآية 32 من سورة الفرقان: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}.

إذاً فالهدف الأساس للنزول التدريجي لآيات القرآن ـ كما تفوّه به نفس القرآن الكريم ـ هو تسلية خاطر الرسول ‘، وإيجاد الطمأنينة في نفسه في ظلّ الارتباط المتواصل مع الوحي.

وكيف كان فإن النزول التدريجي للآيات ولّد التصور القائل بأن الأصحاب هم الذين قاموا بجمع الآيات والسور القرآنية بعد وفاة رسول الله ‘، ونتيجة لهذا العامل ـ بالإضافة إلى بعض العوامل الأخرى ـ صار التشتّت المزعوم بين الآيات الكريمة وعدم وجود ترابط بينها([15])، في حين لا ينبغي الالتفات إلى هذه التفاسير السطحية الوهمية؛ لأن السور القرآنية ـ طبقاً للأحاديث الصحيحة ـ قد نُظّمت ورُتّبت في حياة الرسول ‘، وإنّ هيئة السور الحالية وتراكيبها كانت موجودة في زمان الرسول ‘، فبناء على ذلك كان هناك ترتيب وتنظيم لكل سورة من سور القرآن من خلال تعيين حدود كل سورة، وهذا الطرح يشمل كل السور، بحيث يكون لها مقدمة وموضوع وخاتمة([16]).

وعلى كل حال فإن أكثر الكلام الموجود حول تشتّت مفاهيم السور القرآنية منبعه أن مدَّعي هذه النظرية قد قاموا بقياس نظم وترتيب الكتب الإنسانية العاديّة على المفاهيم القرآنية، لذلك سمحوا لأنفسهم أن يُبدوا وجهات نظرهم حول الموقع المناسب لبعض الآيات، وأخذوا يقترحون بعض الأمكنة المناسبة لها في السور، في حين أن المحقِّق (بلاشر) قد أجاب عن ذلك إلى حدّ ما بقوله: إن الاعتماد المطلق على الطريقة الانتقادية، والوصول إلى النتيجة القائلة بأن التسلسل للمطالب روعي أم لا، لا ينسجم حتى مع المنطق الغربي، فكيف ينسجم مع المنطق الإنساني([17]).

العوامل الخارجية لتشتت مفاهيم السور القرآنية ــــــ

1ـ الترجمة اللفظية للآيات والسور ــــــ

أحد العوامل الخارجيّة لتشتّت مفاهيم السور القرآنية الترجمة اللفظية وصعوباتها، والتي كانت في متناول الجميع، فمع شروع عصر الترجمة، التي بدأت قبل قرون، قاموا بترجمة المتن المقدّس للقرآن الكريم، وكانوا يراعون الدقّة المتناهية، بل المُفرطة، في إرجاع الآيات، ونتيجة لهذه الدقة المفرطة فقد أوقعوا أنفسهم في الترجمة اللفظية، وقد ابتعدوا في هذه الألفاظ والتعابير القرآنية المترجمة عن النص الأصلي. وعندما وقعت هذه الترجمة بأيدي العوام أحسّ البعض بأن المطالب القرآنية غير منسجمة، وغير متّصلة ببعضها البعض، وأن المفاهيم المتنوّعة للقرآن في حالةٍ من الإبهام والغموض. أضف إلى ذلك أن المتن المُتَرجَم ـ القرآن ـ فيه الكثير من القوّة وعلو المعاني، وقد أدّت ترجمتهم له إلى أُفول تلك المعاني العالية.

إذاً فهذه الترجمات لها الأثر الكبير في إظهار مفاهيم السور القرآنية وكأنها مبعثرة وغير منسجمة.

2ـ الإسهاب في التفاسيرالقرآنية ــــــ

مسألة التفصيل والإسهاب في التفاسير القرآنية مسألة لايمكن إنكارها، ولا تحتاج إلى دليل، والذي يهمنا من هذا الكلام في مقالتنا هذه أن هناك تفاصيل في غير محلها، وهناك بحوث مستقلة كثيرة في بيان معاني بعض الآيات القرآنية، أدّت إلى ضياع نظم وترتيب المطالب القرآنية وبعثرتها، بحيث إنّ القارئ يشعر في بعض الأحيان أنه لا وجود للجامع بين مفاهيم السور القرآنية، وأن كل واحدة من الآيات تتكلم عن موضوع أجنبي عن الموضوع الذي قبلها. ولا نريد القول هنا بأن التوضيح والتفصيل لكلام الله سبحانه أصالةً وبالذات غير مرغوب فيه ومردود، كلا، بل القصد من هذا الكلام هو أن بعض التطويلات في التفاسير تؤدّي إلى ضياع بعض مفاهيم السور القرآنية، وتظهرها وكأنها غير مترابطة. وعلى هذا الأساس فإن بعض التفاسير، التي فتَحَت المجال الواسع لبيان آراء المفسّرين، تبدو في بعض الأحيان وكأنها نسيت وتشاغَلَت عن الهدف الأساسي الذي هو بيان المقاصد القرآنية، فرغم أهمية المباحث اللغوية والأدبية، التي لا يُستهان بها في البحوث القرآنية، لكنها أخذَت حجماً كبيراً وحيّزاً واسعاً في التفاسير، حتى أدّت إلى أن يعرض بعض المفسرين المسائل اللغوية والأدبية فيخيّل للقارئ أنه عالِمٌ في اللغة العربية وليس مُفَسّراً، حيث يقوم بنقل الأقوال الغريبة والملتوية للغويين والأدباء، وينشغل بها وكأنه يكتب كتاباً أدبياً.

أضِفْ إلى ذلك أن عموم التفاسير لم تفسّر الآيات بشكل جمعي، بل على شكل آيات منفصلة، فلا يضمّون الآيات التي لها نفس المضمون إلى بعضها البعض، فلا يكون التفسير مكتملاً، وهذا الأمر أدّى في الآونه الأخيرة إلى تحوّل كتب بعض المفسّرين من المتأخرين إلى دائرة معارف، تنقل آراء المفسّرين المتقدمين، مع بعض التعليقات التي تصاحب هذا النقل من قِبَل كتّابها.

وفي بعض الأحيان تكون آراء المفسرين القدماء بعيدة كل البعد عن التفسير الصحيح للآيات، ولكن لا زال لبعض تلك التفاسير موقعها وتسلّطها على تفاسيرنا الحالية. وقد كَتَبَ رشيد رضا حول هذه المسألة: مع الأسف إن الكثير من الكتب التفسيرية تناولت بشكل واسع المواضيع الإعرابية والقواعد النحوية والبلاغية، بحيث مَنَعوا القرّاء من الوصول إلى المباحث السامية والمفاهيم العالية للقرآن الكريم. وهناك كتب أخرى نَقَلت المباحث الكلامية، والاستنباطات الأصولية والفقهية، والتأويلات الصوفية، والاختلافات بين الفرق، والأحاديث المخلوطة بالخرافات الإسرائيلية، بحيث أدّى نقلها إلى ترك المباحث العالية للقرآن والاهتمام بتلك المباحث.

ويضيف الفخر الرازي أيضاً بأن فتح باب العلوم الرياضيّة والطبيعيّة وسائر العلوم الجديدة للتفسير عامل آخر يُضاف إلى العوامل المانعة السابقة([18]).

وبعبارة أخرى: إن إحدى النتائج الثانوية لمطالعة التفاسير التفصيلية أو المطوّلة هي أن هناك من يظنّ بأن التسلسل والارتباط بين المفاهيم القرآنية لم يُراعَ بصورة جديّة.

3ـ الغفلة عن أسباب النزول وموضوع الآيات ــــــ

أغلب آيات القرآن لها مفهوم كلي يمكن تعميمه على الموارد المشابهة له([19])، ويمكن معرفة ذلك من خلال مواضيع الآيات وأسباب النزول لها، والتي تساعد المفسرين على الفهم الصحيح والأفضل للآيات القرآنية.

 وحول هذه المسألة يجب أن نعتمد على الموارد التي فيها الصفات التالية:

أولاً: ثبوت صحّة صدورها من المعصوم ×.

ثانياً: أن لا تتعارض مع المحتوى القرآني.

وبناءً على ذلك يمكن أن نعرف سبب بروز المشاكل في بعض الموارد التي لم تأخذ بعين الاعتبار أسباب النزول أو موضوع الآية فيها. وهذه المشكلات ربما ساعدت في عدم معرفة المعنى الدقيق للآيات، وهو ما أدى بالبعض إلى الاعتقاد بعدم وجود انسجام بين صدر الآية وذيلها.

وعلى هذا الأساس كتب المحدث النوري في كتابه «فصل الخطاب» حول الآية المباركة: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي اليَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} (النساء: 3)، من خلال اعتماده على روايةٍ في هذا المجال، قال: «وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء، ولا كل النساء يتامى، فهو ممّا تقدّم ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن، وبين قوله تعالى: «في اليتامى» وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن»([20])، يعني ليس هناك وجه شبه بين رعاية العدالة بالنسبة للأيتام وبين زواج النساء، لكي نوجد بينهما تقارناً معيّناً، وبالتالي يُذكران في آية واحدة. وفي الوقت ذاته نجد هذان الموضوعان مذكوران في الآية الثالثة من سورة النساء، ولا ربط بينهما، لكنهما رُبطا بفاء الجزاء، وهذا يدل حتماً على أن هناك تحريف أدّى إلى أن تظهر الآية بشكل غير مترابط.

وفي المقابل فإننا إذا أخذنا بنظر الاعتبار الآية 2 من سورة النساء: {وَآتُواْ اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} يمكن أن نعرف معنى الموضوع الذي وقع فيه البحث في الآية الثالثة من سورة النساء، وهو التحذير من ظلم البنات التي قُتل آباؤهنّ في الحروب، ووقعوا تحت تكفل الآخرين. وبعبارة أخرى: إذا لم تستطيعوا مراعاة العدالة في البنات اللاتي وقَعنَ تحت تكفّلكم، أو لا تستطيعون أن تعطونهنّ مهرهنّ عندما تتزّوجونهنّ، إذا لم تستطيعوا ذلك فاختاروا لكم نساءً غيرهنّ، تستطيعون أن لا تظلموهنّ([21]).

أما في «فصل الخطاب» فقد جاء سوء الفهم هذا من عدم الربط بين آية: {أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي اليَتَامَى} وآية: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء}، فظهر هذا التصوّر الواهي بين هذين القسمين من الآية، حتى قال: إن ثلث القرآن قد حُذف من بين هذين القسمين؛ بسبب التحريف.

لذا فإن عدم إدراك المفهوم الصحيح للآية، وعدم الانتباه إلى أسباب النزول ومواضيع الآية، بعَثَ على الاعتراض على صدر وذيل الآية، بل جرّهم إلى القول بحذف قسم كبير من القرآن بين هذين القسمين.

النتيجة ــــــ

بعد التأمل في ما طرحناه سابقاً يمكن أن نصل إلى أن تشتّت المفاهيم المطروحة في السور القرآنية ـ حتى السور الطوال منها ـ يرجع إلى النظرة الظاهرية، وهي ليست حقيقيّة، ولا واقعيّة.

ومع قليل من السعي العلمي لفهم وجوه المناسبة للآيات المجاورة، والنظر إلى الآيات الأخرى التي لها علاقة بالآية المُراد تفسيرها نظرة مجموعيّة لا فرديّة، يمكن أن نصل إلى وسيلة للفهم الصحيح المتناسق والمتّصل بين تلك الآيات في السور المختلفة، ومن خلاله يمكننا أن نفهم المحاور الموضوعيّة الموجودة في سور القرآن، ونستطيع أيضاً إدراك الأهداف والأغراض المتنوّعة في كل واحدة من تلك الآيات.

فإذا اتّبعنا هذا الأسلوب فسوف يسود الاعتقاد باتّصال الآيات والانسجام الموضوعي بين السور القرآنية، بدلاً عن القول بتشتّت مفاهيمها، وسوف تنتفي كل الشبهات العالقة في الأذهان الناتجة عن هذا المفهوم الخاطئ.

الهوامش

(*) أستاذ مساعد في قسم علوم القرآن، كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية في جامعة طهران.

([1]) (مقدمة bell، ومقدمة Arberry ).

([2])انظر: مكارم الشيرازي، القرآن وآخرين پيامبر(آخر رسول): 308 ــ 309.

([3]) درّاز، مدخل إلى القرآن الكريم: 118.

([4]) المحقق، نمونه بينات در شأن نزول آيات: 511.

([5]) الخراساني، كفاية الأصول: 21ـ22.

([6]) شريعتي، خلافة وولاية از نظر قرآن وسنت: 15ـ 18.

([7]) انظر: ميزان الحكمة 8: 101.

([8]) المصدر نفسه.

([9]) ولمزيد من الأمثلة راجع: محمد شتلوت، القرآن الكريم؛ تفسير الكاشف، لمحمد باقر حجتي وعبد الكريم بي آزار الشيرازي؛ خلافة وولاية از نظر قرآن وسنّت، لمحمد تقي شريعتي؛ الوحدة الموضوعية في سورة يوسف ×، لحسن محمد باجوده.

([10]) انظر: البهبودي، معاني القرآن: 5 ـ 7.

([11]) المسعودي، مروج الذهب: 282، الجلالي النائيني، تاريخ جمع القرآن الكريم 193؛ الصغير، دراسات قرآنية: 37.

([12]) الحجتي، أسباب النـزول: 19 ـ 20.

([13]) ويشهد لذلك المحقق، في نمونه بيانات در شأن نزول آيات.

([14]) للمزيد من الاطلاع والمعلومات حول سبب النـزول راجع: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 15: 86، 19: 181 ـ 182.

([15]) البقاعي، نظم الدرر في كتاب الآيات والسور 1: 7، السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 2: 108، الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1: 63.

([16]) درّاز، مدخل إلى القرآن الكريم: 119.

([17]) بلاشر، در آستانه قرآن: 218.

([18]) رشيد رضا، تفسير المنار 1: 7.

([19]) انظر:النمر، علوم القرآن الكريم: 100 ـ 101؛ صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن: 159.

([20]) النوري، فصل الخطاب في [تحريف] كتاب رب الأرباب، ذيل الآية الثالثة من سورة النساء.

([21]) الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 3: 10 ـ 11؛ الزمخشري 1: 497؛ الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 4: 166؛ الطالقاني، برتوى از قرآن 4: 17؛ مكارم الشيرازي، تفسيرالأمثل 3: 253؛ البلاغي، آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 7؛ ومغنية، التفسير الكاشف 2: 248.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً