البكاء على الحسين(ع)…
نقد في السند والمتن لبعض نصوص الرثاء
د. محمد علي سلطاني(*)
ترجمة: محمد عبد الرزاق
تمهيد
إنّ البكاء على سيّد الشهداء الإمام الحسين(ع) وأصحابه في أيام عاشوراء ومحرّم وصفر، من معالم التشيّع بل وأهمها، منذ العصر البويهي ومعز الدولة الذي كان أوّل من أصدر أمراً بالحداد العام بهذه المناسبة، ودعا الناس فيها لممارسة طقوسهم بحرّية في ذكرى عاشوراء؛ فانطلقت المآتم وجرت الشعائر الحسينية في الأزقة والميادين([1]).
وإذا كانت المهدوية عاملاً في تبلور الحركات والمذاهب السياسية في العالم الإسلامي، فلا شك أنّ حادثة كربلاء وإحياءها هو العامل الآخر في ظهور المتغيّرات السياسية في التاريخ الإسلامي، والأهم على صعيد التشيّع.
وأبرز ما يميّز شعائر كربلاء ونهضتها أمران: أحدهما تلك الحركات الثورية التي أعقبت الحادثة ثأراً للدماء التي سالت على رمضاء الغاضرية، فبات كلّ حاكم ظالم يزيداً أو شمراً أو ابن زياد آخر، أي بعبارة أخرى: «كلّ يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء»، وفي هذا يتلخّص المشهد السياسي في تاريخ التشيّع الملهم من كربلاء. أما الجانب الآخر فهو انطباع الحادثة بطابع الحزن والبكاء وإحياء ذكراها كلّ عام، وهذا ما يعنينا من البحث في تقصّي الروايات الدالّة على تلك الطقوس والمراسم الرثائية.
هناك العديد من الروايات والأحاديث الداعية إلى إحياء ذكرى سيد الشهداء بالنوح والبكاء؛ فالكتب الروائية مليئة بشواهدها، ولطالما تناقلها الخطباء على منابرهم، وهذه الروايات ـ كغيرها من الأحاديث المروية ـ منها الصحيح ومنها الضعيف أو الموضوع، فهناك ما يستحقّ الدفاع عنه؛ وإثباته نظراً لقوّة سنده واعتبار متنه، كما وهناك ـ أيضاً ـ ما لا يمكن قبوله بوجهٍ من الوجوه نظراً لضعفه في السند أو المتن، وهذا التداخل هو الذي عقَّد أداء الخطباء الملتزمين بالبحث عن الحقيقة، حتى أنّ هذا التعقيد قد يجرّ بعضهم إلى تشويه صورة كربلاء لدى المستمع وتحريفها دون أن يكون لديهم قصد مسبق إلى ذلك؛ من هنا، تظهر الحاجة الملحّة إلى تفحّص تلك الأحاديث والروايات سنداً ومتناً، وفصل صحيحها عن سقيمها، تسهيلاً لعمل المهتمّين بهذا الجانب من كتّاب وخطباء ومؤرّخين.
الحاجة إلى نقد روايات السيرة الحسينية
وقبل الولوج في صلب البحث، علينا أن نذكر بأنّ نقد روايات كربلاء أو غيرها من الحوادث التاريخية لا يعدّ مساساً بحيثياتها أو انتقاصاً من منزلتها، إنما ـ وعلى العكس من ذلك ـ تعزيزٌ لموقفها وترسيخ لمبدئها، كذلك علينا أن لا نتهيّب من بعض النصوص حتى المشهورة منها؛ لأنّ ما ارتبط بالعاطفة يكون أوفر أرضيةً للوضّاعين والمستغلّين لمثل هذه الأجواء، ومن الطبيعي أن تنال كلماتهم شيوعاً وانتشاراً أكثر بين الناس.
من جانبٍ آخر، لا ينبغي أن يقودنا وجود هذه الأحاديث في بعض المصادر المرموقة وكتب بعض الأعلام الثقات إلى التغاضي عن مراجعتها وتحقيقها، ومن ثمّ نقدها نقداً موضوعياً، تعويلاً على استبعاد الخطأ عن أولئك الأفذاذ في إثباتها، فهم بشرٌ معرّضون للخطأ ولا تعصمهم شهرتهم وعلميّتهم عن الوقوع فيه؛ لاسيما في المسائل التي تشحّ مصادرها فتتضاءل المعلومات حولها، وهذه عوامل قد تحول دون وصول الباحث للحقيقة والصواب قبل هذا الوقت، بينما قد سهّلت بعض الوسائل المتاحة اليوم مهمّة ذلك؛ فزاد التدقيق والتحقّق من المعلومة الواردة في المصادر والمراجع قبل التعامل معها.
إضافةً إلى ذلك، قد يخضع الأعلام أنفسهم لما يتأثر به غيرهم من العواطف والأحاسيس، عندما تشكّل بدورها النواة الرئيسة لشحن أجواء بعض الأحاديث وإثباتها في كتبهم دون تمحيصها؛ لهذا ينبغي علينا أن لا نخشى النقد البنّاء ونتهيّب عواقبه؛ طالما الحقيقةُ ضالّتنا الوحيدة وغايتنا المثلى.
بعض نصوص رثاء الحسين(ع)، وقفات نقديّة في السند
هناك أكثر من أربعين حديثاً، نصّت مضامينها بشكل مباشر على رثاء الحسين(ع) واشتملت العديد من الأحاديث والأخبار الأخرى على إشارات ضمنية على استحسان هذا الموضوع والحضّ عليه. وقد وردت جلّها في (كامل الزيارات) لابن قولويه، بالإضافة لما ورد في كتب أعلام الطائفة الشيعيّة، كالصدوق والطوسي والبرقي وغيرهم. وهنا سنتطرّق ـ بدايةً ـ لأحاديث (كامل الزيارات)، ومن ثم بعض الكتب الأخرى.
أثبت ابن قولويه جملةً من الأحاديث تعدّ نصوصها مقتبسات من أحاديث أخرى إذا ما قورنت بها، وقد نقل بعضها بسندٍ واحد وبعضها الآخر بأسانيد متعدّدة، وأحياناً قد يتحوّل الكلام عن بعض الرواة والرجال إلى حديث إذا اتصلت أسانيدهم، ومن جملة تلك الأحاديث رواية عن الإمام الصادق(ع) سندها كالتالي: حدثني حكيم بن داوود، عن سلمة، عن يعقوب بن يزيد، عن محمد بن أبي عمير، عن بكر بن محمد، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله. وهذا متن الحديث: قال: «من ذُكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب([2]) غُفر له ذنوبه ولو كان مثل زبد البحر»([3])؛ فبالإضافة إلى مجهولية حكيم بن داوود، هناك إشكالية أخرى أهمّ في سند الرواية، وهي وجود سلمة بن الخطاب فيه، وهو من قرية من قرى الري تدعى (براوستان)، وقد ضعّفه جملة من الرجاليين أمثال: النجاشي، وابن الغضائري، وقالوا فيه: أبو الفضل البراوستاني الأزدورقاني قريةٌ من سواد الري، كان ضعيفاً في حديثه. وقال ابن الغضائري: إنه يكنّى أبا محمد، وضعّفه([4]).
إلا أنّ البرقي أورد الرواية ذاتها في محاسنه نقلاً عن يعقوب بن يزيد، عن محمد بن أبي عمير، عن بكر بن محمد، عن الفضيل بن يسار عن الإمام الصادق(ع)، وسندها هنا خالٍ من الضعف([5]).
وقد نقل في كامل الزيارات حديثاً مشابهاً لهذا الحديث، عن فضيل بن فضالة، إلاّ أن ملاحظة رواة سائر السند يقودنا إلى الحكم بالخطأ الوارد في اسم الفضيل بن فضالة، وأنّ الصحيح هو الفضيل بن يسار. وقد نقل الرواية حكيم بن داوود عن سلمة عن علي بن سيف، بالنص التالي: «من ذُكرنا عنده ففاضت عيناه، حرّم الله وجهه على النار»([6])؛ فعلى الرغم من عمومية لفظ الحديث وعدم اختصاصه بالإمام الحسين(ع) إلا أنّ عامّة المحدّثين أدخلوه في باب البكاء على الإمام الحسين، و قد نُقلت الرواية ذاتها عند الحميري في كتاب قُرب الإسناد، بنصّ أكمل، جعلها أعمّ بكثير من موضوع الإمام الحسين(ع) لتشمل مظلوميّة كلّ العلويين؛ فجاء النصّ كالآتي: حدثنا أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله(ع) قال: «قال لفضيل: تجلسون وتحدّثون؟ قال: نعم، جعلت فداك. قال: إن تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا. يا فضيل! فرحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل! من ذكرنا أو ذُكرنا عنده، فخرج من عينيه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»([7]).
وكما يلاحظ، فإنّ الرواية لم تنصّ على قضية الإمام الحسين(ع) وعاشورائه، وإنما هي من مصاديقها البارزة، فالنصّ يتضمّن أيضاً الدعوة إلى ذكر سائر الشهداء العلويين أمثال: زيد، ويحيى وغيرهما بل هو شامل أيضاً لعامّة الشيعة ممن هُجِّر وعانى التعسّف والاضطهاد، وقد تضمّنت الرواية أيضاً التذكير أو التلميح بالحقّ المغتصب من الأئمة^، وما لا شك فيه أن تكون واقعة كربلاء واستشهاد قائدها وأصحابه المصداقَ الأجلى لذلك. وينقل صاحب الكتاب حديثاً عن الإمام زين العابدين(ع) هو الأكثر تطابقاً مع الرواية السابقة، وزاد من مناسبته لحادثة كربلاء كونه مروياً عن الإمام السجّاد، إلاّ أنّ الحديث لا يصمد سنده أمام التمحيص لضعفه وإليك المتن والسند: حدثني حكيم بن داوود بن حكيم، عن سلمة بن الخطاب، قال: حدثنا بكار بن أحمد القسّام والحسن بن عبد الواحد، عن مخول بن إبراهيم، عن الربيع بن منذر، عن أبيه، قال: سمعت علي بن الحسين‘ يقول: «من قطرت عيناه فينا قطرةً ودمعت عيناه فينا دمعة بوّأه الله بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً» ([8])؛ فمضافاً لوجود سلمة بن الخطاب، هناك أسماء أخرى في السند أمثال مخول بن إبراهيم والربيع بن منذر وأبيه، وبكار بن أحمد القسّام وحسن بن عبد الواحد كلّهم مجهولون، أو غير موثقين في أقل تقدير.
وقد ذكر ابن قولويه الحديث أيضاً في موضع آخر مع تفاوت في السند والمتن، نقلاً عن الباقر(ع)، وفيه تنصيص على رثاء الحسين.. وهو كالتالي: حدثني حكيم بن داوود، عن سلمة بن الخطاب، عن الحسين بن علي، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(ع) قال: «أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين(ع) دمعةً حتى تسيل على خدّه بوأه الله بها غرفاً في الجنّة يسكنها أحقاباً»([9])؛ فموضوع هذه الراوية هو البكاء على مصاب الحسين، أما السند ففيه سلمة بن الخطاب، وقد تقدّم الكلام فيه.
وفي الكتاب رواية أخرى عن الإمام الحسين(ع) يصف فيها نفسه بقتيل العبرات، وهي مروية بثلاثة أسانيد، أحدها: حدثني أبي، عن سعد بن عبد الله، عن الحسين بن موسى الخشاب، عن إسماعيل بن مهران، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله(ع): «قال الحسين بن علي(ع): أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا استعبر»([10])، بينما سقط من الآخرين المقطع الأخير من الرواية([11])، وفي السند اسمان أشكلاه: أحدهما إسماعيل بن مهران المختلف في أمره، حيث قيل فيه: هو إسماعيل بن مهران بن محمد بن أبي نصر السكوني ـ واسم أبي نصر زيد، مولى كوفي وكنيتهُ أبو يعقوب ـ من الثقات المعتمد عليهم، وهو من أصحابنا، وقد روى عن أبي عبد الله(ع)، هذه هي وجهة نظر خلاصة الرجال ورجال النجاشي والفهرست، وقد جاء في الأخير: وقد التقى بالإمام الرضا(ع) وروى عنه. وعدّهُ أبو عمرو الكشي من أصحاب الإمام الرضا، وقال فيه ابن الغضائري: يكنّى أبا محمد، ليس حديثُه بالنقيّ، يضطرب تارةً ويصلح أخرى، وروى عن الضعفاء كثيراً، ويجوز أن يخرج شاهداً، والأقوى عندنا الاعتماد على روايته. ويقول العلامة الحلي في خلاصة الرجال: ويمكن الاعتماد على روايته؛ لتوثيق الشيخ والنجاشي له. وقال الكشي: حدثني ابن مسعود، قال سألت علي بن الحسن عن إسماعيل بن مهران، قال: رمي بالغلو، قال محمد بن مسعود: يكذبون عليه، كان تقياً ثقة خيراً فاضلاً([12]).
وبالرغم من اشتمال هذه الآراء على الاتهام والتضعيف في بعض الأحيان، إلا أنه يمكن الاعتماد على بعضها في ترجيح كفّة قبول رواية إسماعيل بن مهران.
الراوي الآخر في السند هو علي بن أبي حمزة، وقد تشدّد الرجاليون تجاهه، فقال فيه النجاشي: «واسم أبي حمزة سالم البطائني أبو الحسن مولى الأنصار، كوفي، وكان قائد أبي بصير يحيى بن القاسم، وله أخ يسمّى جعفر بن أبي حمزة، روى عن أبي الحسن موسى(ع)، وروى عن أبي عبد الله(ع)، ثم وقف، وهو أحد عمد الواقفة». وجاء في خلاصة الرجال: قال علي بن الحسن بن فضال: علي بن أبي حمزة كذّاب متهم ملعون. وقد رويت عنه أحاديث كثيرة وكتب تفسير القرآن كلّه من أوله إلى آخره، إلا أني لا أستحيل أن أروي عنه حديثاً واحداً. وفي الكتاب أيضاً عن ابن الغضائري: علي بن أبي حمزة ـ لعنه الله ـ أصل الوقف وأشدّ الخلق عداوةً للولي من بعد أبي إبراهيم(ع). وقد ذكره الشيخ الطوسي في أصحاب الإمام الصادق(ع). وروى الكشي في ذمّه روايات كثيرة منها: عن حمدويه، عن الحسن بن موسى، عن داوود بن محمد، عن أحمد بن محمد، قال: وقف علي أبو الحسن وهو رافع صوته يا أحمد، قلت: لبيك، قال: إنه لمّا قبض رسول الله’ جهد الناس في إطفاء نور الله فأبى الله إلا أن يتمّ نوره بأمير المؤمنين(ع)، فلما توفي أبو الحسن(ع) جهد علي بن أبي حمزة وأصحابه في إطفاء نور الله، فأبى الله إّلا أن يتم نوره([13]).
ويشير هذا الجانب من الروايات إلى جرح علي بن أبي حمزة البطائني، وعلى ذلك لا يمكن الاعتماد على ما يرويه، وإن كان مضمون الحديث المذكور خالياً من الخلل، لاسيما وأنّ القسم الأول منه نُقل في كامل الزيارات بسند مختلف عن السابق؛ ففيه لم ينقل الحسن بن موسى الخشاب عن إسماعيل بن مهران، وإنما عن محمد بن سنان عن إسماعيل بن جابر، عن الإمام الصادق(ع)([14])؛ وقد دارت نقاشات الرجاليين حول محمد بن سنان بما يستشفّ منها عدم توثيقه، حتى أنه ينقل عن الفضل بن شاذان اتّهامه بشهرة الكذب. ونقل عنه: لا أحلّ لكم ترووا أحاديث محمد بن سنان، وعدّه من الغلاة، وهناك أيضاً من أيّده واعتمد أحاديثه كالشيخ المفيد، وينقل محمد بن سنان بدوره روايةً عن الكاظم تؤيّده، إلا أن روايته هذه لم تحظ بالقبول؛ لأنها مروية عنه. والمحصّلة من أقوال الرجاليين فيه هو الترديد في أمره([15]).
أما فيما يخصّ إسماعيل بن جابر ـ الراوي الآخر في السند ـ فيمكن الدفاع عن توثيقه على الرغم مما ورد في ذمّه.
وينقل كامل الزيارات هذه الرواية بسند آخر: عن محمد بن جعفر الرزاز، عن محمد بن الحسين، عن الحكم بن مسكين، عن أبي بصير، عن الصادق(ع)([16])، وهو سند قوي لا إشكال يشوبه لاشتماله على أسماء شيعية بارزة، باستثناء محمد بن جعفر الرزاز إذا كان هو محمد بن جعفر بن محمد بن عون الأسدي ـ وهذا غير مستبعد ـ حيث توقف بعض الرجاليين في روايته كالعلامة الحلي؛ فهو وإن كان ثقةً صحيح الحديث إلاّ أنّه روى عن الضعفاء، وكان يقول بالجبر والتشبيه([17])، لكن ذلك كلّه لا ينطبق على ما نحن بصدده من رواية؛ لأنه هنا لم ينقل عن الضعفاء، وعليه تكون من رواياته الصحيحة.
وفي موضع آخر، ينقل صاحب كامل الزيارات أربع روايات مطوّلة في البكاء على الإمام الحسين(ع)، وهي ممّا تناقله أرباب المنابر وذاع على الألسن، إلا أن ما يؤسف له وجود راوٍ في سندها عُرف بالكذب؛ فأسقط الرواية من الاعتبار.
وبدايةً، نتناول أسانيد الروايات، ثم نستعرض متنها الكامل بالنقد والتحليل:
فسند الحديث الأول هو: محمد بن عبد الله، عن أبيه، عن علي بن محمد بن سالم، عن محمد بن خالد، عن عبد الله بن حمّاد البصري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير.
وفي سند آخر: عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن أبي يعقوب، عن أبان بن عثمان، عن زرارة. وفي سند ثالث: عن مسمع بن عبد الملك كردين البصري، أما السند الرابع فهو كالآتي: عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن عبد الله بن بكير الأرجاني.
كذلك لهذه الرواية سند آخر هو: عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عبد الله بن زرارة، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن عبد الله بن بكير.
إنّ ما يؤخذ على هذه الأسانيد المتقدّمة جميعها وجود عبد الله بن عبد الرحمن الأصمّ في صلبها، وهو من أهل البصرة وكذّابيها ـ حسب خلاصة الرجال ـ وله كتاب في الزيارات ينمّ عن فساد عقيدته، وقد اعتبره العلامة الحلي والنجاشي ضعيفاً مغالياً لا قيمة لرواياته([18])، وأغلب الظنّ أن هذه الروايات مستخرجة من كتابه الدالّ على تهافت اعتقاداته؛ ولذا فهي روايات غير معتمدة، ولا تصلح للنقل والإثبات، ولوقوف القارئ على نصّ الروايات ودلالاته نوردها كاملةً للاطلاع وتجنّب نقلها.
بعض نصوص رثاء الحسين(ع)، وقفات في النقد المضموني
الحديث الأول: عن أبي بصير، قال: «كنت عند أبي عبد الله(ع) أحدّثه، فدخل عليه ابنه فقال له: مرحباً، وضمّه وقبله، وقال: حقّر الله من حقّركم وانتقم ممّن وتركم، وخذل الله من خذلكم ولعن الله من قتلكم، وكان الله لكم ولياً وحافظاً وناصراً، فقد طال بكاء النساء وبكاء الأنبياء والصدّيقين والشهداء وملائكة السماء. ثم بكى وقال: يا أبا بصير! إذا نظرت إلى ولد الحسين أتاني ما لا أملكه بما أتى إلى أبيهم وإليهم، يا أبا بصير! إنّ فاطمة÷ لتبكيه وتشهق فتزفر جهنّم زفرةً لولا أنّ الخزنة يسمعون بكاءها وقد استعدّوا لذلك مخافة أن يخرج منها عذق أو يشرد دخانها فيحرق أهل الأرض فيكبحونها، ما دامت باكية ويزجرونها ويوثقون من أبوابها مخافةً على أهل الأرض، فلا تسكن حتى يسكن صوت فاطمة÷. وإنّ البحار تكاد أن تتفتق فيدخل بعضها على بعض، وما منها قطرة إلاّ بها ملك موكّل، فإذا سمع الملك صوتها أطفأ نارها بأجنحته وحبس بعضها على بعض مخافةً على الدنيا وما فيها ومن على الأرض فلا تزال الملائكة مشفقين، يبكون لبكائها، ويدعون الله ويتضرّعون إليه، ويتضرّع أهل العرش ومن حوله، وترتفع أصواتٌ من الملائكة بالتقديس لله مخافةً على أهل الأرض، ولو أنّ صوتاً من أصواتهم يصل إلى الأرض لصعق أهل الأرض، وتقطّعت الجبال وزلزلت الأرض بأهلها. قلت: جعلت فداك، إنّ هذا الأمر عظيم، قال: غيره أعظم منه ما لم تسمعه، ثم قال لي: يا أبا بصير! أما تحبّ أن تكون فيمن يُسعد فاطمة÷؟ فبكيت حين قالها، فما قدرت على المنطق، وما قدرت على كلامي من البكاء، ثم قام إلى المصلّى يدعو، فخرجت من عنده على تلك الحال، فما انتفعت بطعام وما جاءني نوم، وأصبحت صائماً وجلاً حتى أتيتُه، فلما رأيته قد سكن سكنت، وحمدت الله لم تنزل بي عقوبة»([19]).
هذه هي أولى روايات عبد الله بن عبد الرحمن الأصمّ، وبشيء من التأمل يمكن لمس الطابع السردي الأسطوري المهيمن على مضمونها؛ فقارئ النصّ يتخيّل له استقرار الإله والملائكة على جانب يقابله آخر يقطنه أهل الأرض، وأنّ هناك معركة دائمة ومبيّتة. أما نار جهنم فهي ما تفتأ أن تدخل صراعاً مع من هو موكّل بها من الملائكة، فتشهق وتزفر فيتدخّل الملائكة حفاظاً ورأفةً بأهل الأرض للحدّ من غضبها. إنّ هكذا نوع من الخطاب لا يتلاءم مع المخاطب ـ أي أبي بصير ـ ولا هو من شأن المتكلّم وهو الإمام، فما ورد في هذا المتن كفيلٌ بإثبات الافتعال والوضع فيه، مضافاً لكون كتاب الراوي خير دليل على الخبث والتهافت في المعتقد حسب رأي العلامة الحلي.
الحديث الثاني: منقولاً عن زرارة عن الصادق(ع)، قال: «يا زرارة! إنّ السماء بكت الحسين أربعين صباحاً بالدم، وإنّ الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد، وإنّ الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، وإنّ الجبال تقطّعت وانتشرت، وإنّ البحار تفجّرت، وإنّ الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين(ع)، وما اختضبت منّا امرأة ولا ادّهنت ولا اكتحلت ولا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد، وما زلنا في عبرة بعده، وكان جدّي إذا ذكره بكى حتى تملأ عيناه لحيتَه، وحتى يبكي لبكائه ـ رحمةً له ـ من رآه. وإنّ الملائكة الذين عند قبره ليبكون، فيبكي لبكائهم كلّ من في الهواء والسماء من الملائكة، ولقد خرجت نفسه(ع) فزفرت جهنم زفرةً كادت الأرض تنشق لزفرتها، ولقد خرجت نفس عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية فشهقت جهنم شهقةً لولا أنّ الله حبسها بخزّانها لأحرقت من على ظهر الأرض من فورها، ولو يؤذن لها ما بقي شيء إلا ابتلعته، ولكنّها مأمورة مصفودة، ولقد عتت على الخزّان غير مرّة حتى أتاها جبرئيل فضربها بجناحه فسكنت، وإنها لتبكيه وتندبه وإنها لتتلظى على قاتله، ولولا من على الأرض من حجج الله لنقضت الأرض وأكفأت بما عليها، وما تكثر الزلازل إلاّ عند اقتراب الساعة، وما من عين أحبّ إلى الله ولا عبرة من عين بكتْ ودمعت عليه، وما من باكٍ يبكيه إلا وقد وصل فاطمة÷ وأسعدها عليه، ووصل رسول الله وأدّى حقنا، وما من عبد يحشر إلا وعيناه باكية إلا الباكي على جدّي الحسين(ع) فإنه يحشر وعينه قريرة، والبشارة تلقاه، والسرور بيّن على وجهه، والخلق في الفزع وهم آمنون، والخلق يعرضون وهم حداث الحسين(ع) تحت العرش وفي ظلّ العرش لا يخافون سوء الحساب، يقال لهم: ادخلوا الجنة، فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه. وإنّ الحور لترسل إليهم أنّا قد اشتقناكم مع الولدان المخلّدين، فما يرفعون رؤوسهم إليهم لما يرون في مجلسهم من السرور والكرامة، وإنّ أعداءهم من بين مسحوبٍ بناصيته إلى النار، ومن قائلٍ: ما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميم، وإنهم ليرون منزلهم وما يقدرون أن يدنوا إليهم، ولا يصلون إليهم. وإنّ الملائكة لتأتيهم بالرسالة من أزواجهم ومن خدّامهم على ما أعطوا من الكرامة، فيقولون: نأتيكم إن شاء الله، فيرجعون إلى أزواجهم بمقالاتهم، فيزدادون إليهم شوقاً إذا هم خبروهم بما هم فيه من الكرامة وقُربهم من الحسين(ع) فيقولون: الحمد لله الذي كفانا الفزع الأكبر وأهوال القيامة، ونجّانا ممّا كنا نخاف، ويؤتون بالمراكب والرحال على النجائب، فيستوون عليها وهم في الثناء على الله والحمد لله والصلاة على محمد وآله حتى ينتهوا إلى منازلهم»([20]).
هذه الرواية ـ كسابقتها ـ واضحة التكلّف والافتعال، مضافاً للاضطراب المهيمن على نصّها ودلالاته، وهذا لا يصدر إلاّ عن مخيلة وضّاعة كالتي عند عبد الله بن عبد الرحمن الأصم؛ فهو لم يفكّر في الذي سوف يحصل عند كسوف الشمس لمدّة أربعين يوماً على التوالي، فهذا أمرٌ ممتنع حسب قوانين الطبيعة، وإذا سلّمنا ـ جدلاً ـ بوقوعه، لكان له انعكاس واسع على صفحات التاريخ، وهكذا بالنسبة لبكاء السماء دماً أربعين يوماً!
ولو سلّمنا وفرضنا الجانب المجازي في تصوير البعد المأساوي المسيطر على الكون لمصاب سيّد الشهداء(ع)، لكان على متكلّم بليغ ـ كالإمام الصادق ـ أن يوظّف استعمالات بليغة فصيحة لغرض ذلك تكون معبّرةً عن المأساة بأروع تعبير، لا ما يواجهنا من عبائر في الرواية من قبيل مشهد الحرب والسجال في جهنّم مع حراسها، وتدخّل جبرئيل لنصرتهم وتهدئة أوضاع جهنم، الأمر الذي أشبه ما يكون بنزاع بين شخصين حلّهُ ثالث بوساطته. أما قصّة المراسلة بالمكاتيب من الحور والولدان، فهو ضرب لانعكاس قصص الغرام الدنيوية المرتسمة في ذهن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، فنسجها في مخيّلته ونسبها للصادق(ع)، ثم ختمها بارتقاء الصهوات للوصول إلى المنازل.
إذن، فهذا المنطق أبعد ما يكون عمّا عهدناه عن الإمام الصادق وهو لا يثبت فضيلةً للحسين(ع) وحسب، إنما هو مدعاة للمساس بمكانته وحقيقته الخالدة، ولا نقول إلاّ كما قال العلامة الحلي: إنّ نصوص عبد الله بن عبد الرحمن لا تنمّ إلاّ عن سخافة أفكاره وتهافت اعتقاده.
الحديث الثالث: نقلاً عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن عبد الله بن بكير، قال: «حججت مع أبي عبد الله(ع) ـ في حديث طويل ـ فقلت: يا ابن رسول الله! لو نُبش قبر الحسين بن علي(ع)، هل كان يُصاب في قبره شيء؟ فقال: يا ابن بكير! ما أعظم مسائلك، إنّ الحسين(ع) مع أبيه وأمّه وأخيه في منزل رسول الله’، ومعه يرزقون ويحبرون، وإنه لعَنْ يمين العرش متعلّقٌ به يقول: يا رب! أنجز لي ما وعدتني، وإنّه لينظر إلى زوّاره، وإنه أعرف بهم وبأسمائهم وأسماء آبائهم وما في رحالهم من أحدهم بولده، وإنه لينظر إلى من يبكيه فيستغفر له ويسأل أباه الاستغفار له ويقول: أيها الباكي! لو علمت ما أعدّ الله لك لفرحت أكثر مما حزنت، وإنه ليستغفر له من كل ذنب وخطيئة»([21]).
لعلّ هذا الحديث أقلّ غرابةً من بين أحاديث عبد الله الأصمّ، إلا أنّ ما يؤاخذ عليه هنا هو السؤال المطروح من قبل عبد الله بن بكير، فهو لا يتناسب مع شخصيةٍ بوزن ابن بكير. ناهيك عن المبالغة في ثناء الإمام(ع) على سؤال ابن بكير في الرواية، إذا علمنا أنّ السؤال غاية في السذاجة، وهو مستبعد أساساً من ابن بكير. وعلى كل حال، فهذا الحديث ـ أيضاً ـ لا يصلح في نسبته للصادق(ع) وإنما هو منسجم مع ذهنية عبد الله الأصم.
الحديث الرابع: عن الأصم، عن مسمع بن عبد الملك كردين البصري قال: قال لي أبو عبد الله(ع): «يا مسمع! أنت من أهل العراق، أما تأتي قبر الحسين(ع)؟ قلتُ: لا، أنا رجل مشهور عند أهل البصرة، وعندنا من يتّبع هوى هذا الخليفة، وعدوّنا كثير من أهل القبائل من النصّاب وغيرهم، ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثلون بي، قال لي: أفما تذكر ما صنع به؟ قلت: نعم، قال: فتجزع؟ قلت: أي والله وأستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك عليّ فامتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي، قال: رحم الله دمعتك، أما إنّك من الذين يعدّون من أهل الجزع لنا والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا آمنا، أما أنك سترى عند موتك حضور آبائي لك ووصيّتهم ملك الموت بك، وما يلقونك به من البشارة أفضل، وملك الموت أرقّ عليك وأشدّ رحمةً من الأم الشفيقة على ولدها. قال: ثم استعبر واستعبرت معه، فقال: الحمد لله الذي فضلنا على خلقه بالرحمة وخصّنا أهل البيت بالرحمة. يا مسمع! إن الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين(ع) رحمةً لنا، وما بكى لنا من الملائكة أكثر وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا، وما بكى أحد رحمةً لنا ولما لقينا إلا رحمه الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه، فإذا سالت دموعه على خدّه فلو أنّ قطرة من دموعه سقطت في جهنم لأطفأت حرّها حتى لا يوجد لها حرّ، وإنّ الموجع قلبه لنا يفرح يوم يرانا عند موته فرحةً لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتى يرد علينا الحوض، وإنّ الكوثر ليفرح بمحبّنا إذا ورد عليه حتى إنه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه. يا مسمع! من شرب منه شربةً لم يظمأ بعدها أبداً ولم يستق بعدها أبداً، وهو في برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل، أحلى من العسل وألين من الزبد، وأصفى من الدمع، وأذكى من العنبر، يخرج من تسنيم ويمرّ بأنهار الجنان، يجري على رضراض الدرّ والياقوت، فيه من القدحان أكثر من عدد نجوم السماء، يوجد ريحه من مسيرة ألف عام، قد حانه من الذهب والفضة وألوان الجوهر، يفوح في وجه الشارب منه كل فائحة حتى يقول الشارب منه: يا ليتني تركت هاهنا لا أبغي بهذا بدلاً ولا عنه تحويلاً. أما إنك يا كردين ممّن تروي منه، وما من عين بكت لنا إلا نعمت بالنظر إلى الكوثر وسقيت منه من أحبّنا، وإن الشارب منه ليعطى من اللذة والطعم والشهوة له أكثر مما يُعطاه من هو دونه في حبّنا، وإنّ على الكوثر أمير المؤمنين(ع) وفي يده عصا من عوسج يحطم بها أعداءنا، فيقول الرجل منهم: إني أشهد الشهادتين، فيقول: انطلق إلى إمامك فلان فاسأله أن يشفع لك، فيقول: يتبرأ منّي إمامي الذي تذكره، فيقول: ارجع إلى ورائك، فقل للذي كنت تتولاه وتقدّمه على الخلق فاسأله إذا كان خير الخلق عندك أن يشفع لك، فإن خير الخلق حقيقٌ أن لا يردّ إذا شفع، فيقول: إنّ أهلك عطشاً، فيقول له: زادك الله ظمأ وزادك الله عطشاً. قلت: جعلت فداك، وكيف يقدر على الدنوّ من الحوض ولم يقدر عليه غيره، فقال: ورع عن أشياء قبيحة وكفّ عن شتمنا أهل البيت إذا ذكرنا، وترك أشياء اجتدى عليها غيره، وليس ذلك لحبّنا ولا لهوى منه لنا، ولكن ذلك لشدّة اجتهاده في عبادته وتديّنه ولما قد شغل نفسه به عن ذكر الناس، فأمّا قلبه فمنافق ودينه النصب باتّباع أهل النصب وولاية الماضين وتقدّمه لهما على كلّ أحد»([22]).
لا يتعارض مطلع الرواية مع المعهود في نصوص الأئمة(ع)، إلاّ أنه سرعان ما ينحرف محتوى النص عن مساره ليقترب من ملامح الوضع والافتعال حتى يطغى على القسم الأخير من الرواية تناقض واضح في المضمون مما اضطرّ الراوي عبد الله الأصم إلى صياغته في سؤال على لسان مسمع بن عبد الملك يطرحه على الإمام(ع)، وما يفرضه الراوي من جواب ليس قادراً على رفع التناقض وحسب بل زاد في الطين بلّة أيضاً. فكيف يمكن فرض شخص متديّن ورع عن القبائح وكافّ عن عداء أهل البيت ثم يكون في داخله منافق؟! وهو من التديّن بمنزلة توصله إلى حدود الحوض فيكلّم أمير المؤمنين، وهذا لا يتوافق مع صفة النفاق إطلاقاً. ولو فرضنا ـ جدلاً ـ بوجود رجل موالٍ لشخصين ـ حسب الرواية ـ فإنّ ذلك نابع عن جهله وقصوره وهو أمرٌ لا يستوجب غضب أمير المؤمنين له بحيث يتسبّب بشدّة الجوع والعطش! نعم لو كان ذلك الشخص منافقاً وعدواً لأهل البيت^ وسبّاباً لهم حقّ عليه الحكم المتقدّم، ولكنها سالبة بانتفاء الموضوع.
إذن، فهذه الرواية أيضاً لا يمكن نسبتها للإمام الصادق(ع)، بل يرجّح أن تكون هي الأخرى من نسج خيال عبد الله الأصم. والملاحظ في تلك الروايات سعيُ عبد الله الأصم إلى إقحام بعض الأسماء المرموقة ضمن أسانيدها أمثال: أبي بصير، ابن بكير، مسمع بن كردين، وزرارة، كي تشقّ طريقها إلى عوام الشيعة.
وهناك روايات أخرى في كامل الزيارات حول موضوع البكاء على الإمام الحسين تضمّنت أسانيدُها من يضعّفها ويسقطها من الاعتبار، فقد جاء فيه مثلاً: حدثني أبي سعد بن عبد الله، عن الحسين بن عبيد الله، عن الحسن بن علي بن أبي عثمان، عن عبد الجبار النهاوندي، عن أبي سعيد، عن الحسين بن ثوير، عن يونس وأبي سلمة السراج والمفضل بن عمر، قالوا: سمعنا أبا عبد الله يقول: «لما مضى الحسين بن علي(ع) بكى عليه جميع ما خلق الله إلا ثلاثة أشياء: البصرة ودمشق وآل عثمان»([23])؛ فقد تضمّن سند الرواية شخصاً باسم الحسن بن علي بن أبي عثمان الملقّب بسجادة، وهو مصنّف على أصحاب الإمام الجواد والهادي‘، كنيته أبو محمد. وهو غالٍ ضعيف في عداد القميّين. يقول فيه العلامة الحلي نقلاً عن الكشي: على سجادة لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين، فلقد كان من العليانية الذين يقعون في رسول الله’ ليس لهم في الإسلام نصيب. وقال النجاشي: أبو محمد كوفي، ضعّفه أصحابنا([24])؛ إذن فهو مطعون فيه بحيث يُلعن من قبل رجاليّ كالكشي.
وقد نقلت هذه الرواية عن عبد الجبار النهاوندي، ومع أنّ متنها ممّا يعتدّ به، إلاّ أن ضعف السند ألغى فرصة ذلك.
وفي كامل الزيارات رواية أخرى عن الشخص ذاته بهذا السند والمضمون: حدثني جماعة مشايخي، عن محمد بن يحيى العطار، عن الحسين بن عبد الله، عن الحسن بن علي بن أبي عثمان، عن الحسن بن علي بن عبد الله بن المغيرة، عن أبي عمارة المنشد، قال: «ما ذكر الحسين(ع) عند أبي عبد الله(ع) قط فرُئي أبو عبد الله(ع) متبسّماً في ذلك اليوم إلى الليل، وكان(ع) يقول: الحسين(ع) عبرة كلّ مؤمن»([25]).
فمتن الرواية ـ كما نلاحظ ـ لا شائبة عليه ومضمونه طبيعي تماماً، فمن المنطقي أن يتأثر الإمام الصادق باستذكار الحسين ومأساته الأليمة فتهجرُه الابتسامة في ذلك اليوم، فيقول: الحسين عبرة كلّ مؤمن. لكن المشكلة تنشأ من حيث دخول شخص ملعون في سند الحديث هو الحسن بن علي بن أبي عثمان. والمستغرب في الأمر أنّ قسماً من الرواية ذاتها قد نقل عن الصادق(ع) بطريق أكثر صحّةً، وقد نقله صاحب كامل الزيارات بشيء من التغيير في جملة من الأسانيد الصحيحة والقريبة من الصحّة، منها: حدثني أبي وعلي بن الحسين ومحمد بن الحسن، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن سعيد بن جناح، عن أبي يحيى الحذّاء، عن أصحابنا، عن أبي عبد الله(ع) قال: «نظر أمير المؤمنين(ع) إلى الحسين فقال: يا عبرة كلّ مؤمن، فقال: أنا يا أبتاه، قال: نعم يا بُني»([26]).
هذهِ الرواية وإن كانت مرفوعةً، إلاّ أنّ كل رواتها ثقات باستثناء أبي يحيى الحذّاء. أما فيما يتعلق بالمتن ووصف الحسين بـ «عبرة كل مؤمن» فهناك ما يؤيّده من الروايات الصحيحة في الكتاب، نقلنا بعضها سابقاً، وهنا نضيف هذه الصحيحة: حدثني محمد بن الحسن، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد البرقي، عن أبان الأحمر، عن محمد بن الحسن الخزار، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله(ع) قال: «كنّا عنده فذكرنا الحسين(ع)، فبكى أبو عبد الله(ع) وبكينا، قال: ثم رفع رأسه، فقال: قال الحسين(ع): أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا بكى»([27]).
ويلاحظ في هذه الرواية وسابقاتها التقاؤها في المضمون؛ مما يولّد بعض الاطمئنان بنسبتها للمعصوم(ع)، فجميعها يعتبر الحسين قتيل العبرة.
وهناك رواية أخرى أيضاً بهذا الخصوص ينقلها كامل الزيارات: حدثني أبي، عن سعد بن عبد الله، عن أبي عبد الجاموراني، عن الحسن بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي عبد الله(ع)، قال: سمعته يقول: «إنّ البكاء والجزع مكروهٌ للعبد في كلّ ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي(ع)، فإنه فيه مأجور»([28])؛ فمتن الرواية لا يؤاخذ في شيء، لكنّ سندها اشتمل على الحسن بن علي بن أبي حمزة وأبيه البطائني، وقد تحدّثنا عن الأب سابقاً وذكرنا طعن الرجاليين له. أما ابنه فلا يقلّ مرتبةً في الكذب والوضع عن أبيه، وهو واقفي، وقد قال فيه الكشي: قال محمد بن مسعود: سألت علي بن الحسن بن فضال عن الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني فطعن عليه، وقال: متّهم ملعون، وقد رويت عنه أحاديث كثيرة وكتبت عنه تفسير القرآن كلّه، من أوّله إلى آخره، إلا أني لا استحلّ أن أروي عنه حديثاً واحداً. وقال حمدويه ـ نقلاً عن مشايخه ـ: الحسن بن علي بن أبي حمزة رجل سوء. وقال ابن الغضائري: هو واقف ابن واقف، ضعيفٌ في نفسه، وأبوه أوثق منه، وقال علي بن الحسن بن فضال: إني لأستحي من الله أن أروي عن الحسن بن علي، وحديث الرضا(ع) فيه مشهور. وجاء في رجال النجاشي: كان أبوه قائد أبي بصير، ورأيت شيوخنا يذكرون أنّه كان من وجوه الواقفة([29])؛ وتأسيساً على ذلك يكون سند الرواية فاقداً للاعتبار.
لقد حاولنا هنا أن نقدّم صورةً عن جانب من الروايات التي ذكرها ابن قولويه حول موضوع البكاء على سيّد الشهداء(ع). وهناك جانب آخر من تلك الروايات التي ذكرها هو وغيره من أرباب السير والتاريخ، سنتطرّق له في بحوث لاحقة.
نتائج
بات واضحاً ـ من خلال ما تقدّم ـ المآرب المريضة لدى المعاندين والمناهضين لثقافة عاشوراء ومبدأ الإمامة، ومساعيهم في تحريفهما من خلال دسّ الأحاديث الموضوعة والنصوص المحرّفة، وهذه حقيقة تجعل نصب أعيننا الأمور التالية:
1 ـ إنّ استعاضة حركة عاشوراء الحماسية بمظاهر البكاء والاستكانة، وتحوّلها إلى بضاعة وتجارة مقايضة بالجنّة هي من أهداف أعداء عاشوراء المشؤومين.
2 ـ لابدّ في فكر عاشوراء وثقافتها الالتزام بالتثبّت من صحّة الروايات أو عدمها قبل تداولها، وإنّ دافع المظلومية والبكاء وتحريك الأحاسيس ليس معياراً كافياً في نقل الأحاديث.
3 ـ هناك روايات غير صحيحة بين طيّات الحوادث التاريخية، قد يتناقلها حتى الأعلام من الرجاليين والفقهاء كابن قولويه؛ لذا يجب أن لا تكون مؤلّفاتهم بمنأى عن النقد والتحقيق.
إذن، فالمرجوّ أن تشيع هكذا نقود بنّاءة في ثقافة عاشوراء ومصادرها؛ لتغربل الصحيح من السقيم.
من مجلة نصوص معاصرة – العدد التاسع
الهوامش
(*) باحث في الحوزة والجامعة.
([3]) أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، كامل الزيارات: 111، ح8، نشر الصدوق، 1357ش/1978م، الطبعة الأولى.
([5]) أحمد بن محمد البرقي، المحاسن 1: 63، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، قم، المجمع العالمي لأهل البيت^، 1213هـ، الطبعة الأولى.
([7]) عبد الله بن جعفر الحميري، قرب الإسناد: 36، 117، تحقيق: مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، 1371ش/1992م.