د. منصور نصيري(*)
1ـ المدخل
في القرن العشرين تخطَّتْ الدراسات الفلسفية في مجال التجربة الدينية ثلاثة منعطفات هامّة. ويمكن بيان هذه المنعطفات على النحو التالي:
1ـ في بداية القرن العشرين قام (وليم جيمس)([1]) بـ «تنظيم وتبويب» مسائل التجربة الدينية.
2ـ خلال فترة الخمسينيّات والستينيّات جعل المفكِّرون، من أمثال: (والتر ستيس)([2])، من «الاهتمام بموقع العرفان في المعتقدات الدينية» شغلهم الشاغل.
3ـ منذ عقد الثمانينيّات فصاعداً أخذ مفكِّرون، من أمثال: (وليم ألستون)([3]) و(جون هيك)([4]) و(سوينبورن)([5])، يهتمّون بـ «القيمة الأبستمولوجية للمعرفة الدينية».
لا شَكَّ في أن مناقشة الحجّية الأبستمولوجية والمعرفية للتجربة الدينية ـ من بين هذه الهواجس الثلاثة ـ لإثبات متعلَّقها، وبالتالي دَعْمها أو عدم دَعْمها للإيمان والاعتقاد بالله، تُعَدّ من أهمّ المسائل في التجربة الدينية. إن سائر أبحاث التجربة الدينية ـ من قبيل: ماهية التجربة الدينية، وأقسام التجربة الدينية، ووجود وعدم وجود عنصر مشترك في التجارب الدينية المختلفة ـ تعود بأَجْمعها في الحقيقة والواقع إلى هذه المسألة الأصلية. إن من بين المسائل المطروحة في التجربة الدينية ـ وهي المسألة التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بإثبات الاعتقاد بالله ـ علاقة التجربة الدينية، وكشف البيان الطبيعي عليها، والسؤال هو: هل يؤدّي كشف البيان الطبيعي المقنع للتجربة الدينية إلى ردّ قيمة قرينيّة التجربة الدينية؟ وبعبارةٍ أخرى: رفض حجّيتها المعرفية والأبستمولوجية؟
هناك رأيان في هذا الشأن؛ فقد ذهب فلاسفةٌ بارزون ـ من أمثال: سي. دي. براد، وريتشارد سوينبرن، ووليم وينرايت (من الفلاسفة المعاصرين) ـ إلى الدفاع عن الرأي الأوّل (بقاء الحجّية الأبستمولوجية). ويستدلّ هؤلاء الفلاسفة على أنه في حالة عدم إثبات عدم وجود الله فإن كشف البيان الطبيعي للتجربة الدينية لن يحدث خَلَلاً في القيمة القرينيّة له أبداً. إنهم يرَوْن أن البيان الطبيعي إنما يضرّ بقرينيّة التجارب الدينيّة إذا تمّ إثبات عدم وجود الله.
وفي المقابل يذهب أشخاصٌ، من أمثال: جِفْ جوردن، من خلال الدفاع عن الرأي الثاني (عدم الحجّية الأبستمولوجية)، إلى الاعتقاد بأن كشف البيان الطبيعي يؤدّي إلى ردّ القيمة القرينيّة للتجربة الدينية. يذهب جوردن إلى التأكيد على أن التفسيرات الطبيعيّة تعمل على تفسير التجارب الدينية دون حاجةٍ إلى افتراض وجود الله أو الأمور ما وراء الطبيعية بوصفها أموراً مفروغاً عنها. وبطبيعة الحال فإنه يذهب إلى الاعتقاد بأن وجود التفسير الطبيعي لا يؤدّي بنا إلى اعتبار جميع التجارب الدينية وَهْميّة، وإنما الذي يسقط عن الاعتبار هو خصوص التجربة الدينية التي تمّ العثور عليها لذلك التفسير الطبيعي.
وفي هذه المقالة([6]) سوف نعمل ـ من خلال التركيز على بَحْث جِفْ جوردن([7]) ـ على بيان نزاعه مع أنصار الرأي الأوّل. وفي الختام سوف نقترح رأياً ثالثاً، بعنوان «الفصل بين نوعين من أنواع التجربة الدينية»؛ الأولى: التجارب الدينية التي تحتوي على معايير خاصّة؛ والثانية: التجارب الدينية المفتقرة إلى تلك المعايير. وفي ما يلي سوف نبحث هذه المسألة من خلال التركيز على رأي جِفْ جوردن وبنية بَحْثه في هذا الشأن([8]).
2ـ بقاء الحجّية الأبستمولوجية للتجربة الدينية
إن الرأي الأوّل في هذه المسألة هو الاعتقاد بـ «بقاء الحجّية الأبستمولوجية للتجربة الدينية»، والذي يدافع عنه أشخاصٌ من أمثال: سي. دي. براد، وجون هيك، وريتشارد سوينبورن، ووليم وينرايت. وطبقاً لهذا الرأي ما لم يثبت أن الله غير موجود فلا يمكن اعتبار كشف التفسير الطبيعي للتجربة الدينية مؤدّياً إلى رفض الحجّية الأبستمولوجية له في إثبات الاعتقاد بالله.
ومن مجموع المسائل التي أثارها جِفْ جوردن حول الرأي الأوّل يمكن اقتناص دليلين لصالح الرأي الأوّل:
الدليل الأوّل: عدم تعارض علّية الله مع العلّية الطبيعية.
الدليل الثاني: العلّية العامّة أو تقوّم العلّية العامة لله.
إن هذين الاستدلالين وإنْ كانا لا يختلفان عن بعضهما اختلافاً جَوْهرياً، فسوف نطرحهما في إطار أبحاث جوردن، وعلى نحوٍ مستقلّ.
الاستدلال الأوّل: عدم تعارض علّية الله مع العلّية الطبيعية
إن الاستدلال الأوّل الذي تذكره الجماعة الأولى عبارةٌ عن التأكيد على عدم تعارض علّية الله مع علّية الأمور الطبيعية. وهذا الاستدلال هو الذي ذكره سي. دي. براد بالتحديد، فقد استدلّ في كتابه واسع التأثير ـ والذي صدر عام 1939م ـ على أن وجود التفسير الطبيعي للتجارب الدينية ـ ولا سيَّما تفسيرها النفسيّ ـ لا يُثبت وَهْمية التجارب الدينية أو كونها واهيةً([9]). وهو يقول: حتّى لو ثبت أن التجارب الدينية ناشئةٌ عن اضطراباتٍ نفسيّة لا يمكن أن يُستَنْتَج من ذلك أن التجارب الدينية وَهْميّةٌ؛ إذ من الممكن أن تكون حالةٌ نفسية خاصّة ـ من الناحية العلّية ـ شرطاً ضرورياً لكون التجارب الدينية واقعيّةً وحقيقية. وهو يقول في بيان دليل هذا الكلام: «من الممكن للإنسان أن يكون بحاجةٍ إلى شيء من «الجنون»؛ للعثور على طريقٍ ومنفذ إلى العالم الميتافيزيقي»([10]).
وقد ذهب وينرايت ـ في استدلالٍ مشابه لاستدلال سي. دي. براد ـ إلى التأكيد على أنه لو تمّ العثور على تفسيرٍ طبيعي للتجربة الدينية، بحيث يكون مقنعاً من الناحية العلمية، لا يُستَنْتَج من ذلك أن الله أو هويّة ميتافيزيقية ليست هي العلّة له؛ إذ بناءً على التعاليم الدينية التقليدية، وإنْ أمكن تقديم تفسيراتٍ علمية مقنعة للكثير من الظواهر الطبيعية، فإنّ هذه التفسيرات لا تتنافى مع العمل العلّي لله، بل إن هذه التفاسير في الأساس تقوم مباشرةً على العمل العلّي لله([11]).
وقد ذكر ألستون ما يُشبه هذا الاستدلال أيضاً، وقدَّم ـ في جواب دعوى أولئك الذين يقولون: يمكن لنا تفسير التجارب الدينية على أساس العوامل والأسباب الطبيعية ـ عدداً من النقاط، ومن أهمّها أنه حتّى إذا كانت التجربة الدينية تحظى بعلل وأسباب كافية في عالم الطبيعة لا يشكِّل ذلك مانعاً ـ بأيّ وجهٍ من الوجوه ـ أمام ارتباطه العلّي بالله؛ إذ إن الله ـ بناءً على التعاليم الدينية ـ على صلةٍ علّية بكلّ الحوادث([12]).
الاستدلال الثاني: التقوُّم العلّي العامّ لله
الاستدلال الثاني بدَوْره يُشبه الاستدلال الأوّل أيضاً. إن هذا الاستدلال عبارةٌ عن «التقوُّم العلّي العامّ لله»، وبعبارةٍ أخرى: «القيمومة العلّية الشاملة لله». فقد استدلّ كلٌّ من: ريتشارد سوينبورن([13])؛ ووليم وينرايت([14])، على أن الله موجودٌ بين عِلَل كلّ تجربةٍ. وفي الحقيقة فإنه بالالتفات إلى هذه النقطة ـ وهي أن المسارات العلّية إنما هي موجودةٌ لأن الله هو الذي يعمل على تقويمها ـ يمكن القول: إن الله موجودٌ في المسار العلّي لكلّ تجربةٍ دينية. وعلى هذا الأساس ما لم يتمّ نقض وجود الله بالأدلّة الكافية فإن كشف التفسير الطبيعي لا يمكنه أبداً أن يؤدّي إلى زوال الحجّية المعرفية والأبستمولوجية للتجربة الدينية؛ إذ لو لم يتمّ إثبات عدم وجود الله يمكن القول: حيث إن لله دَخْلاً في جميع المسارات العلّية فإن له دَخْلاً في ظهور هذه التجربة الدينيّة أيضاً.
3ـ زوال الحجّية المعرفية للتجربة الدينية
إن الرأيَ الثاني حول المسألة مورد البحث في هذه المقالة عبارةٌ عن الاعتقاد بـ «زوال الحجّية المعرفية للتجربة الدينية». إن الحجّية المعرفية للتجربة الدينية ـ طبقاً لهذه الرؤية التي يدافع عنها جِفْ جوردن ـ سوف تتعرَّض للتساؤل والتشكيك بمجرّد الكشف عن تفسيرها الطبيعي، ولا يمكن توظيفها لتأييد الإيمان بالله. وهو يؤكِّد على أنه إنْ وُجد تفسيرٌ طبيعي للتجربة الدينية فإن حجّيتها المعرفية سوف تزول. وأما مسألة العثور على مثل هذا التفسير للتجارب الدينية أم لا فهي مسألةٌ أخرى مختلفة تماماً عن مورد بحثنا في هذه المقالة([15]).
إن أهمّ دليلٍ يذكره جِفْ جوردن على إثبات هذا الرأي هو «النظرية العلّية للإدراك»([16])، والأُسُس المذكورة فيها. وقد عمد جوردن، ضمن بيان هذه النظرية، إلى نقد وردّ أدلّة الرأي الأوّل بالنظر إليها. وبطبيعة الحال فإن استدلال جوردن يقوم على أن نعتقد بأن هناك ارتباطاً مباشراً بين المنشأ العلّي للتجربة الدينية والقيمة المعرفية لها. بالالتفات إلى أهمّية هذه النقطة يذهب جِفْ جوردن ـ قبل بيان الأصول المطروحة في النظرية العلّية للإدراك ـ من باب المقدّمة إلى بحث هذه المسألة، وهي بيان صلة الجذور العلّية أو المنشأ العلّي لظهور التجربة الدينية بالقِيَم المعرفية لها. وهو يرى أن هناك رؤيتين عامّتين في هذا الشأن:
1ـ طبقاً للرأي الأوّل ـ الذي يُعَدّ البراغماتيّون هم المدافعون الأصليّون عنه ـ فإن القيمة المعرفية لتجربةٍ ما إنما تكون رَهْناً بالملاحظات العملانية والثمار والفوائد العملية والسلوكية لتلك التجربة، وليس المنشأ العلّي. وطبقاً لهذا الرأي لا رَبْط للتحقيق بشأن أسباب وعِلَل حصول التجربة بقيمتها المعرفية، وإن كلّ اهتمامنا يجب أن ينصبّ على نتائج التجربة. إن هذه الجماعة لا تهتمّ بالمنشأ العلّي للتجربة؛ إذ ليس من المهمّ بالنسبة إليهم ماذا يفيد المنشأ العلّي للتجربة؟ وإنما المهمّ بالنسبة إليهم هو الثمار والفوائد العملية للتجربة فقط. ويرى جِفْ جوردن أن رأي ستيس في كتابه (العرفان والفلسفة) متناغمٌ ومنسجمٌ مع هذه الرؤية([17]).
إن جِفْ جوردن لا يرتضي هذا الرأي. فهو يرى أن هذا الرأي قد غفل عن نقطةٍ هامّة في اللجوء إلى التجربة الدينية بوصفها قرينةً على وجود الله. وهو أنه قيل: إن المشروعية المعرفية للتجربة الدينية تنشأ من أوجه الشبه بين التجربة الدينية والتجارب الحسّية. وطبقاً لهذا المُدَّعى تكون التجربة الدينية، مثل التجربة الحسّية، نوعاً من الإدراك. وبطبيعة الحال يمكن أن يكون دليل هذا الادّعاء مختلفاً. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن سوينبورن يرى أن دليل هذا الاتجاه العامّ هو الإيمان البسيط، وكذلك أصل الشهادة حول كلا الأمرَيْن معاً([18]). وقد أقام ألستون دليلَ التشابه بين هاتين التجربتين على البنية والعناصر الأصلية المشتركة بينهما([19]). وقد ذهب بعض المفكِّرين، من أمثال: غاتينغ، إلى القول بأن دليل هذا الادّعاء يكمن في الخصائص الكثيرة المشتركة بين هذَيْن النوعين من التجربة([20]). يذهب جِفْ جوردن ـ بالالتفات إلى هذه النقطة ـ إلى التأكيد على أن القيمةَ المعرفية لتجربةٍ خاصّة رَهْنٌ بالارتباط العلّي المفترض فيها. وكما يتّضح من هذا البحث، وصرَّح به جوردن نفسه في بعض المواضع([21])، فإنه يذهب إلى الاعتقاد بتماهي وسِنْخيّة التجربة الدينية والتجربة الحسّية([22]).
2ـ الرأي الثاني هو رأي أولئك الذين يعتقدون بنظرية العلّية الإدراكية، ويرَوْن المنشأ العلّي للإدراك في الارتباط المباشر مع قيمته المعرفية. ومن هؤلاء: برتراند راسل([23])؛ وغرايس. لقد ذكر غرايس رأيه حول نظرية علّية الإدراك في مقالته الشهيرة بعنوان «نظرية علّية الإدراك»([24])، والتي استند إليها جِفْ جوردن في بحثنا الراهن. فطبقاً لهذه النظرية، لكي يدرك الشخص شيئاً يجب أن يكون لذلك الشيء تأثيرٌ عِلِّي على ذلك الشخص، بحيث يصير ذلك الشيء سبباً لحصول هذا الشخص على تجربةٍ إدراكية بشأنه؛ بمعنى أنه لكي يتحقّق الإدراك يجب أن تكون هناك علاقة عِلِّية بين الشخص ومتعلَّق الإدراك، وأن يغدو متعلّق الإدراك سبباً لتحقّق الإدراك. ومن خلال القول بالنظرية العلّية للإدراك يتوقَّف أن تكون التجربة حقيقيةً([25]) على إحراز شرائط ورد ذكرها في الأصل التالي (الأصل أ)([26]).
الأصل أ ـ إنما يمكن أن يُقال: إن تجربة شيء بوصف X (متعلّق التجربة) بواسطة S (الشخص الذي يخوض التجربة) إدراكٌ حقيقيّ يقوم على ثلاثة شروط:
1ـ X حاضراً عند S (شرط الحضور)؛
2ـ تجربة X بواسطة S بأسلوبٍ مناسب بواسطة X (أن يكون معلول X) (شرط العِلِّية)؛
3ـ أن يعلم S أن الذي يدركه هو X (شرط الإدراك).
إن لازم الشرط 1، بمعنى «شرط الحضور»، هو أن الإدراك إنما يكون حقيقياً إذا كان متعلَّقه موجوداً، وأن يكون داخلاً ضمن الدائرة المعرفية للفاعل المعرفي. أي إنه لكي يتمكَّن الشخص من رؤية شجرةٍ ما يجب أن تكون تلك الشجرة داخلةً ضمن نطاق رؤيته. وإن لازم الشرط 2، أي «الشرط العلّي»، هو أن يلعب متعلَّق الإدراك الحقيقي دَوْراً مناسباً في تحقُّق تلك التجربة. وبطبيعة الحال صحيح أن هناك الكثير من الأبحاث بشأن مفاهيم العلّية والحضور التي ورد ذكرها في الشرطين 1 و2، ولكنْ على أيّ حال لو كان من المقرَّر أن نعتبر الإدراك S لـ X إدراكاً حقيقياً وجب أن تلعب X دَوْراً مناسباً في تحقّق التجربة المذكورة من قِبَل S. وعلى هذا الأساس لو قام البناء على اعتبار التجربة الدينية نوعاً من الإدراك وجب أن تحتوي على كلا الشرطين 1 و2. وعلى هذا الأساس لكي يتمكن S من إدراك الله في التجربة الدينية يجب أوّلاً: أن يكون الله موجوداً؛ وثانياً: أن يكون لله دَوْرٌ عِلِّي مناسبٌ في تجربته.
وبالالتفات إلى الأصول والقواعد المطروحة في نظرية العلّية الإدراكية لو تمّ اكتشاف تفسيرٍ طبيعيّ مُقْنِع للتجربة الدينية فإن هذا سوف يثبت في الواقع عدم وجود واحدٍ من الشرطين 1 أو 2، وبذلك تزول قيمته القرينيّة، أو بعبارةٍ أخرى: تزول حجّيته المعرفية([27]). ومن هنا كان جِفْ جوردن يؤكِّد على أنه حتّى إذا لم يكن هناك استدلالٌ متْقَن على عدم وجود الله فإن اكتشاف تفسيرٍ طبيعيّ للتجربة الدينية سيكون ـ في الحدّ الأدنى ـ دليلاً وجيهاً على عدم وجود الشرط 1 ولا الشرط 2 في التجارب الدينية.
وبطبيعة الحال فإن جِفْ جوردن يُذعن بأن الله إذا كان موجوداً فإن بإمكانه أن يُظهر نفسه، وعلى هذا الأساس يمكن أن تكون هناك تجارب دينية حقيقية لا تندرج ضمن التفاسير الطبيعية. وعلى هذا الأساس فإنه لرفض التجربة الدينية يجب أن يتحقَّق مضمون الشرط العلّي، بالإضافة إلى تحقُّق مضمون شرط الحضور. وبعبارةٍ أخرى: بالإضافة إلى فقدان شرط الحضور نحتاج في ردّ التجربة الدينية إلى عدم وجود الشرط العلّي أيضاً. ومن هنا يؤكِّد جِفْ جوردن على أنه لردّ حجّية التجربة الدينية التي تحظى بالتفسير الطبيعيّ لا بُدَّ من تحقُّق كلا الشرطين 1 و2، وأن الشرط 2، أي «شرط العلّية»، هو الأهمّ والأدعى إلى التفاؤل في هذا الشأن([28]).
إن لازم الشرط العلّي هو أن S إنما يشتمل على إدراكٍ حقيقي لـ X، إذا كان لـ X دَوْراً عِلِّياً مناسباً في تحقُّق تجربة S، بمعنى أن X يجب أن يكون شرطاً علّياً ضرورياً مناسباً لتجربة X بواسطة S. وعلى هذا الأساس فإن تحقُّق تجربة X دون تدخُّل X يثبت أن تجربة X لم تكن إدراكاً حقيقياً لـ X، وبعبارةٍ أخرى: يثبت عدم وجود الشرط العلّي في هذه التجربة. ومن هذه الزاوية يذهب جِفْ جوردن إلى القول: في التجارب التي تشتمل على تفسيراتٍ طبيعية مقنعة ـ حتّى إذا كان الله موجوداً ـ يمكن إثبات أنها لا تنطوي على دَوْرٍ عِلِّي مناسب فيها.
يسعى جِفْ جوردن في إثبات سبب عدم اشتمال علّية الله في التجربة الدينية ـ التي تمّ اكتشاف تفسيرٍ طبيعي لها ـ على دَوْرٍ عِلِّي مناسب إلى إظهار فقدان الشرط العلّي فيها. ومن وجهة نظره يمكن إثبات فقدان الشرط العلّي من طريقين، أو بعبارةٍ أخرى: يمكن إثبات ذلك من خلال إظهار مانعين، وهما:
1ـ من طريق إثبات أن تحقُّق التجربة X (وهي هنا عبارةٌ عن الله) بواسطة علّة أخرى غير الله X، ونتيجة لذلك فإن X لم يكن لها تدخُّل في تحقُّق التجربة المذكورة (المانع رقم 1).
2ـ من طريق إثبات أن X (وهي هنا عبارةٌ عن الله) لم يكن يشتمل على تدخُّل عِلِّي مناسب؛ بمعنى أن شرطه العلّي لم يكن مناسباً أو ذي صلة بالموضوع (المانع رقم 2).
ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: لو وقف خالد خلف بكر، وتمكّن من خلق ظروف عبر تقنية الحاسوب بحيث يعيش بكر تجربة أن خالد يقف أمامه، يجب اعتبار هذه التجربة واهيةً أو خادعةً، وليست تجربةً حقيقية؛ لأن خالداً في هذه التجربة لا يمثِّل شرطاً عِلِّياً ضرورياً في هذه التجربة على نحوٍ مناسب، وبعبارةٍ أخرى: على الرغم من أن لخالد تدخُّلاً عِلِّيّاً في هذه التجربة بوصفه متعلّقاً لتجربة بكر، بَيْدَ أن هذا التدخُّل ليس تدخُّلاً عِلِّيّاً مناسباً؛ إذ عندما يكون خالد واقفاً خلف بكر لا يمكن أن يكون له تدخُّلٌ مناسب في التجربة البَصَرية لبكر. لقد كان خالد خارج نطاق المدى البصري لبكر، ومن هنا تكون تجربة بكر مفتقرةً إلى الخصائص الضرورية للربط والتناسب البصري. وفي أحسن الحالات كانت تجربة بكر عبارةً عن إدراك غير مباشر لخالد. وعلى هذا المنوال لو قاموا بشيءٍ بحيث نرى صورةً ثلاثية الأبعاد لفنجان على الطاولة لن تكون تجربتنا هي تجربة الفنجان، ورغم إمكان أن يكون الفنجان الحقيقي شرطاً عِلِّياً ضرورياً في خلق تلك الصورة، وأن يكون ذلك في نهاية المطاف تجربة نخوضها.
مرَرْنا حتّى الآن باستدلال جِفْ جوردن لإثبات زوال الحجّية الأبستمولوجية للتجربة الدينية عند الكَشْف عن التفسير الطبيعي المقنع. وفي ما يلي سوف نرى كيف أنه، بالاستناد إلى هذا الاستدلال، ينتقد أدلّة الذاهبين إلى الاعتقاد ببقاء الحجّية المعرفية والأبستمولوجية للتجربة الدينية.
مناقشة أدلّة بقاء الحجّية الأبستمولوجية
كما رأَيْنا فإن استدلال جِفْ جوردن يستند بالكامل إلى الاستدلال الذي ذكره غرايس في مقالته الشهيرة بعنوان «النظرية العلّية للإدراك». إن جوردن، بعد بيان وإيضاح استدلاله في ضَوْء هذا الاستدلال، واستناداً إلى الشرائط المذكورة في نظرية عِلِّية الإدراك، يعمد إلى مناقشة أدلّة الرأي الأوّل، وهو ما سنلاحظه تِبَاعاً.
أـ مناقشة الاستدلال الأول
كما رأَيْنا فإن الاستدلال الأوّل يقوم على عدم تعارض علّية الله مع العلّية الطبيعية. وطبقاً لهذا الاستدلال يُقال: إن الله ـ في ضَوْء الاعتقاد والإيمان التقليدي ـ يمثِّل علّةً عامّة لجميع الظواهر، ومن هنا يمكن اعتبار الله علّةً لتحقُّق التجربة الدينية؛ لأن لله علاقةً عِلِّية بجميع الحوادث، ومن هنا فإنه حتّى إذا تمّ اكتشاف تفسيرٍ طبيعيّ للتجربة الدينية يمكن مع ذلك اعتبارها معلولةً عن الله، واعتبارها بالتالي قرينةً على إثبات وجود الله. وعلى حدّ تعبير الفلاسفة المسلمين: إن العلل الطبيعية تقع في طول العلّة الأسمى لله.
يمكن لنا أن نصطاد من أبحاث جِفْ جوردن نوعين من الإجابة عن هذا الاستدلال:
الجواب الأوّل: يعود إلى فقدان الشرائط والمقدّمات المطروحة في الأصل «أ»؛
الجواب الثاني: يستند إلى التعاليم الإيمانية.
فقدان الشرائط والمقدّمات
يؤكِّد جِفْ جوردن في الجواب الأوّل على أنه حتّى إذا كانت العلّية الشاملة لله ـ طبقاً للاعتقاد التقليدي بالله ـ موجودةً، مع ذلك يمكن القول بعدم توفُّر شرط العلّية المناسبة؛ إذ يمكن من خلال استعمال دواءٍ خاصّ إيجاد تجارب لا يمكن تمييزها ـ من الناحية الفينومينولوجية ـ من التجارب التي تعتبر على المستوى التقليدي من التجارب الدينية؛ بمعنى أن تناول هذا الدواء يكفي لتحقيق تجربة الله. وفي هذه الحالة يتمّ إيجاد تجربةٍ دينية بوسيلةٍ طبيعية (مثل: تناول الدواء)، وبذلك يكون تحقُّق التجربة الدينية بطريقةٍ طبيعية قرينةً ضدّ القيمة المعرفية للتجربة الدينية، وعندها لا يمكن اعتبار منشأ تحقُّق التجربة الدينية منحصراً بالله فقط. وبذلك سوف يكون وجود هذا الدواء دليلاً معقولاً على تحقُّق المانع رقم (2).
وعلى هذا الأساس، صحيحٌ أن الله ـ طبقاً للإيمان التقليدي ـ هو علّة جميع الأشياء والظواهر، بَيْدَ أن هذه العلّية ليست علّيةً مناسبة، ومن هنا فإنها لا تُلبّي الأصل «أ». إن علّية الله في هذه النقطة ـ على فَرْض وجود الله ـ ليست من النوع المذكور في «أ»؛ لأن هذا النوع من عِلِّية الله أعمُّ وأوسع بكثيرٍ من أن يكون بإمكانها أن تكون من النوع المذكور في «أ». وعليه فحتّى إذا كان الله عنصر علّيةٍ كافية لجميع الأشياء ممكنة الوجود فإن التجربة الحادثة بواسطة هذا الدواء سوف تكون دليلاً صالحاً لحصول المانع رقم (2)، في مقابل إثبات فقدان شرط العلّية([29]).
ولكنْ يمكن لنا أن نسأل جِفْ جوردن: لو أمكن صنع دواء يخلق عندنا تجربة فنجان، بحيث نطمئنّ إلى عدم واقعيتها، ولكنّها من الناحية الظاهراتية شبيهةٌ بتجربة الفنجان والشخص، فهل التجربة المنبثقة عن الدواء المذكور في هذا المورد يمكنها أن تؤدّي إلى التشكيك في التجارب العادية للناس بشأن الفنجان أو الأشخاص، ويقف أمامها المانع رقم (2)؟ يبدو أن الجواب عن هذا السؤال يكون بالنَّفْي. وعليه لماذا لا يكون هذا هو الجواب عن التجارب الدينية أيضاً، وبذلك يبقى الدفاع عن قيمتها الأبستمولوجية والمعرفية قائماً؟
يسعى جِفْ جوردن في الجواب عن هذا الإشكال إلى إثبات أن تجربة الفنجان تختلف عن تجربة الله اختلافاً كبيراً. فهو من خلال اللجوء إلى أصلٍ آخر (الأصل ب) يصل إلى نتيجةٍ مفادها أن هذا الأصل لا يجري بشأن التجارب الدينية.
الأصل ب ـ كلّما كان هناك تجارب مختلفة، وكان لها في الوقت نفسه من الناحية الفينومينولوجية والظاهراتية مشابهاً بعنوان M وN، كان هناك احتمال أن تكون أسباب وعلل تحقّق M وN واحدة / متشابهة.
إن الإدراك الحقيقي للفنجان يستلزم وجود علّة وسبب فيزيقي (يعني الفنجان الحقيقي)؛ وهذا تماماً يجري بشأن مثال الدواء؛ بمعنى أن العلة الفيزيقية هو الدواء. إلا أن علّة تحقّق التجارب الدينية الواقعية (أي الله) تختلف تماماً عن العِلَل الفيزيقية، وإن هذا الاختلاف الكيفيّ الشديد بين الأسباب والعِلَل الاحتمالية في التجارب الدينية يؤدّي إلى عدم جريان الأصل (ب) في التجارب الدينية. ونتيجةً لذلك لا يمكن التمييز بين التجارب الدينية الحقيقية وغير الحقيقية. وعلى هذا الأساس فإن الأصل (ب)، بالإضافة إلى حقيقة أن هناك تجارب تحدث بفعل تناول الدواء، وإن هذه التجارب تمثِّل إعادةَ صياغةٍ أو بديلاً عن التجارب التي تعتبر تجارب دينية حقيقية، تضعف من احتمال أن تعني التجربة الدينية إدراكاً حقيقياً لله إلى حدٍّ كبير. إن هذه المُشاكَلة التي تتحقَّق بفعل تناول الدواء تكفي لبيان الاختلاف بين العِلَل والأسباب، ومن هنا لا ينبغي التعجُّب من أن مسألة المُشاكَلة بواسطة الدواء تترك تأثيراً مختلفاً في هذَيْن الموردَيْن (تجربة الله؛ وتجربة الفنجان)([30]). وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبار نتيجة مشاكلة الدواء بشأن رؤية الفنجان والتجربة الدينية واحدةً. ومن هنا لا يمكن في تجربة رؤية الفنجان تسرية نتيجة المشاكلة إلى جميع مواردها، واعتبارها بأجمعها تجارب غير حقيقيّة، ولكنْ يمكن بشأن التجربة الدينية تسرية النتيجة إلى جميع مواردها، واعتبارها بأجمعها تجارب غير حقيقيّة.
وقد عمد جِفْ جوردن ـ بالالتفات إلى الأبحاث السابقة ـ إلى التعريف بالمعيار التالي (المعيار ج) بوصفه معياراً لإثبات واقعية التجربة الدينية:
المعيار / الأصل ج ـ لو كانت هناك مجموعةٌ من الشرائط الطبيعيّة بحيث تؤدّي أثناء التأثير إلى تحقُّق تجربةٍ لا يمكن تمييزها ـ من الناحية الفينومينولوجية ـ من التجارب الأخرى، التي تُعَدّ بشكل تقليدي من التجارب الدينية والإيمانية، ففي مثل هذه الحالة لا يمكن اعتبار أيّ تجربةٍ تبدو دينية إدراكاً واقعياً وحقيقياً.
طبقاً للمعيار (ج) فإن التجربة الدينية والإيمانية E إنما ينبغي أن تُعَدّ تجربة حقيقيّةً في حالةٍ واحدة فقط، وهي أن تكون E ـ بعد استفراغ الإنسان كلّ ما في وُسْعه ـ فاقدةً للتفسير والتعليل الطبيعي المَحْض. فإنْ كان هناك تفسيرٌ أو تعليلٌ طبيعي بعنوان N، بحيث كلّما وُجِد N تحقَّقت التجربة الدينية، عندها سيكون لدينا دليلٌ صالحٌ لردّ الحجّية الأبستمولوجية والمعرفية لجميع أنواع التجارب الدينية. إن هذا الكلام لا يعني أن حضور N يثبت أن جميع أنواع التجارب الدينية وَهْميّةً، بل يعني أن N يؤدّي إلى احتمال تحقُّق المانع رقم (2) في مورد التجارب الدينية. يمكن لبعض التجارب الدينية أن تكون حقيقيةً، ولكنْ بالنظر إلى امتلاكنا تفسيراً طبيعياً لتحقُّق التجارب الدينية فإن جميع التجارب الدينية سوف تفقد قيمتها المعرفية ـ بشأن إثبات وجود الله ـ، بوصفها علّةً لتحقُّق ذلك.
لقد استعرَضْنا حتّى الآن الجواب الأوّل لجِفْ جوردن عن الاستدلال الأوّل للرأي الأوّل.
مخالفة التعاليم الإيمانيّة
وأما الآن فعلينا أن نستعرض الجواب الثاني. يذكر جوردن جوابه الثاني من خلال الإحالة إلى التعاليم المطروحة في الإيمان والاعتقاد بالله. توضيح ذلك: إن الذين يؤمنون بالله يدَّعون بشكلٍ تقليدي أن الله هو الحاكم المطلق. والمراد من هذا الادّعاء ـ في الحدّ الأدنى ـ أنه لا يمكن لشيءٍ من الناحية العلّية أن يؤثِّر في إرادة الله أو أن يحدِّدها. إن الله وجودٌ من المحال رَبْط تحقُّق إرادته بالشرائط العلّية الضرورية. ولذلك فإن القول بأن S قد جرَّب حضور الله يعني أن الله قد تجلّى لـ S، أي إن حضور الله هو حقٌّ وامتيازٌ حَصْريّ لله. وفي الواقع فإن عبارة: «إن الله قد تمَّتْ تجربته من قِبَل S» ـ طبقاً للإيمان التقليدي ـ تعني أن الله يُظهر نفسه لـ S بشكلٍ فعّال. ومن هنا فأَنْ يعمل S على تجربة الله أو لا عائدٌ إلى الله نفسه. وعلى هذا الأساس لو قَبِلْنا ـ من خلال اكتشاف التفسير الطبيعي للتجربة الدينية ـ أن علّة وسبب تحقُّق هذه التجربة أمورٌ طبيعية فإن الشكّ والترديد في القيمة المعرفية والأبستمولوجية للتجربة الدينية المذكورة سوف يكون مبرَّراً؛ إذ لو اعتبرنا أن تحقُّقَ إرادة الله في التجلّي والظهور لشخصٍ مَنُوطٌ بالأحداث الطبيعية الخاصّة (من قبيل: تناول الدواء) عندها سوف تكون الإرادة العامّة والمطلقة لله مقهورةً لأمرٍ طبيعيّ. وفي الحقيقة فإن اللهَ المنشود في الإيمان؛ حيث إنه هو الحاكم المطلق فيما إذا كان موجوداً، بحيث لا يوجد أيُّ شرطٍ علّي ضروريّ على إرادته. ومن هنا فإن ادّعاء سي. دي. براد القائل باحتمال أن تكون حالةٌ نفسيّة خاصّة ـ من الناحية العلّية ـ شرطاً ضرورياً واقعياً للتجربة الدينية لا أساس له من الصحّة أبداً. وعلى هذا الأساس فإن اكتشاف مثل هذا المنشأ الطبيعي للتجارب الدينية يشكِّل دليلاً مناسباً على عدم تحقُّق الشرط العِلِّي (المذكور في الأصل أ)([31]).
هل هذا الكلام من جِفْ جوردن صحيحٌ؟ سوف نناقش هذا الكلام الذي قاله جوردن عند بيان الرأي المقتَرَح. وعليه سنواصل هنا بحث جِفْ جوردن.
من الممكن أن يُشْكَل بالقول: رُبَما تعلَّقت إرادة الله بأن لا يُظْهِر نفسه إلاّ لأولئك الذين يتّصفون بصفاتٍ خاصّة (مثل: المتّقين، أو المخلصين، أو العلماء، أو الذين يصومون في أوقاتٍ خاصّة). إن جِفْ جوردن لا ينكر هذه النقطة، إلاّ أنه يذهب إلى الاعتقاد بأن هذه النقطة لا تخرج استدلال أمثال سي. دي. براد من المشكلة؛ إذ هناك فرقٌ بين السَّعْي الواعي من أجل تحقيق أهدافٍ خاصّة وبين الكينونة في الحالة الذهنية الخاصّة. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن الإنسان المُدْرِك لا يريد أن يكون متألِّماً من الناحية النفسية. وإن رأي سي. دي. براد يرتبط بالحالة الثانية، دون الأولى. إلاّ أن المؤمنين الذين يدَّعون وجود مقدّماتٍ خاصة ـ أو في الحدّ الأدنى مذلّلات خاصة ـ للتجربة الدينية ينظرون إلى الحالة الأولى، دون الثانية. إن استدلال سي. دي. براد يرتبط بالحالات النفسية التي هي غير واعيةٍ، وتعمل بوصفها مقدّمات وشرائط عِلِّية ضروريّة للإلهام أو الوَحْي الإلهي. إن هذا الأمر لا ينسجم مع الاعتقاد الإيماني([32]).
ب ـ مناقشة الاستدلال الثاني
وكما تقدَّم فإن سوين بيرن وفين رايت هما مَنْ ذكر هذا الاستدلال. وقد عمد جِفْ جوردن إلى تبويب تقرير سوين بيرن لهذا الاستدلال على النحو التالي([33]):
1ـ إن الله ـ طبقاً للاعتقاد التقليدي ـ حاضرٌ مطلق، كما أنه في الوقت نفسه مقوِّمٌ لجميع المسارات العلّية؛ وعليه:
2ـ إذا كان الله موجوداً فإن كلّ تجربةٍ تبدو في ظاهرها تجربةً في مورد الله سوف تكون تجربةً حقيقية لله (وبذلك يكون قد تحقَّق شرط الحضور، وتحقَّق شرط العلّية أيضاً)؛ وعليه:
3ـ لإثبات عدم حصول شرط الحضور أو شرط العلّية يجب أن يكون بأيدينا دليلٌ قوّي على إنكار وجود الله. و:
4ـ إن الاستدلال على إنكار وجود الله بعيدٌ للغاية؛ وعليه:
5ـ إن التفسير الطبيعي للتجربة الدينية إنما يمكن أن يضرّ بالقيمة القرينية للتجارب الدينية، إذا كان لدينا استدلالٌ قويّ على عدم وجود الله.
ويرى جوردن أن هذا الاستدلال يعاني من إشكالين. وقد أورد الإشكال الأوّل على المقدّمة الثانية. فمن وجهة نظره لا يمكن حتّى للمؤمنين أن يركنوا إلى صدق المقدّمة الثانية؛ فإن أكثر المؤمنين يذهبون إلى القول بعدم ثبوت أحقّية جميع التجارب الدينية عن الله، كما قال بولس الرسول: «ولا عَجَب؛ لأن الشيطان نفسه يُغيِّر شكله إلى شبه ملاك نور»([34]). وعليه لو كانت المقدّمة الثانية صادقةً فسوف يزول التمايز بين التجارب الحقيقية والتجارب المزيَّفة والمخادعة.
أما الإشكال الثاني فيتوجّه إلى المقدّمة الثانية والثالثة، ويرتبط بماهية ذات الإدراك. إن الأصل (أ) يستلزم أن تكون تجربة X بواسطة S صحيحةً في حالةٍ واحدة فقط، وذلك فيما لو كان لـ X دَوْرٌ عِلِّي مناسبٌ في إيجاد تجربة S، بمعنى أن X يجب أن يكون لها تدخُّلٌ عِلِّي بشكلٍ مناسب وذي صلة. وطبقاً للمقدّمة الأولى من الاستدلال المتقدِّم إذا كان الله موجوداً فسوف يكون شرطاً علّياً ضرورياً في جميع المسارات العلّية. وعلى هذا الأساس، فإنه في مثال الدواء، على الرغم من إمكان أن يبدو الدواء بحَسَب الظاهر هو العلّة والسبب الوحيد الكافي في تحقُّق التجربة الدينية، من الممكن تماماً أن يكون الله هو الشرط العلّي الضروري لتأثير الدواء في تحقُّق تلك التجربة. وطبقاً لهذا البيان والتقرير فإن الدواء إنما يكون هو السبب في التأثير؛ لأن الله هو المقوِّم لجميع سلسلة العِلَل، وعليه فإن إشرافه وتدبيره المتواصل هو عامل العلّية الضرورية في تحقُّق تلك التجربة. إن هذا التصوُّر عن الله بوصفه المقوِّم الضروريّ لجميع العِلَل ـ الذي تمّ بيانه في المقدّمة الأولى ـ ناشئٌ من مفهوم التقوُّم([35]). ولا شَكَّ في أن مفهوم التقوُّم إنما هو في الحقيقة والواقع اعتقادٌ أصيل في الإيمان التقليدي بالله([36]).
إن جَوْهر مفهوم التقوُّم هو أن وجود كلّ ممكن الوجود وكلّ حَدَثٍ رَهْنٌ ـ من الناحية العلّية ـ بالقدرة الخلاّقة لله عزَّ وجلَّ. ويمكن بيان هذا الأصل الجوهري على شكل الأصل الآتي (الأصل د):
الأصل د ـ في مورد كلّ ممكن الوجود باسم X إن X إنما يوجد في الوقت t إذا كان الله في الوقت t قد حقَّق كينونة X.
إن الأصل (د) ليس مبيِّناً لكون الله شرطاً علّياً ضرورياً في جميع المسارات العلّية فقط، بل هو كذلك يستلزم أن يكون الله هو الشرط الضروريّ منطقيّاً لوجود جميع الأمور ممكنة الوجود.
وعلى هذا الأساس فإن الفكرة التي نراها في المقدّمة الأولى من استدلال سوين بيرن إنما تكون صحيحةً إذا كان الأصل (د) صحيحاً (ويحتمل بالمناسبة أن يكون هذا الأصل صحيحاً). وفي هذه الحالة سيكون الله شرطاً علّياً ضرورياً في جميع المسارات العلّية. ولكنْ من غير المعلوم ما إذا كان احتمال صحّة الأصل (د) مرتبطاً في الأساس بحصول وتحقُّق الأصل (أ) أم لا. ولا بُدَّ من تذكُّر أن تحقُّق وحصول الأصل (أ) ضروريٌّ لإثبات واقعية التجربة، وأن الأصل (أ) يستلزم أن يكون X علّةً مناسبة في إيجاد وتحقُّق التجربة S. وعلى هذا الأساس يمكن من خلال إثبات وجود المانع رقم (1) أو المانع رقم (2) (اللذين تقدَّم بحثهما) إثبات أن الأصل (أ) لم يتحقَّق. يذهب جوردن إلى الاعتقاد بأنه، وعلى الرغم من أن الأصل (د) يمنع من تحقُّق المانع رقم (1)، إلاّ أنه لا شَكَّ في عدم وجود صلةٍ لذلك بتحقُّق أو عدم تحقُّق المانع رقم (2)([37]). ومن هنا من الممكن للأصل (د) أن يرفع المانع رقم (1)، ولكنّه في الوقت نفسه يعجز عن رفع المانع رقم (2)؛ إذ كما سبق أن رأَيْنا أن من خصائص تناسب التجربة الدينية الإيمانية أن التجارب الناظرة إلى الله إذا كانت حقيقيةً فهي إلهامٌ من قِبَل الله. إذا كان لـ S تجربةٌ حقيقية عن الله إذن يكون الله قد أراد أن يُظهر نفسه لـ S. ولكنْ ليس كلّ تجربةٍ تبدو في ظاهرها ناظرةً إلى الله تشتمل حَتْماً على هذه الخصوصيّة من التناسب. ومن هنا فإن القدّيسة تيريزا ـ على سبيل المثال ـ كانت على الدوام تعيش هاجس أن تبدو التجارب الوَهْمية على شاكلة التجارب الحقيقية؛ لاعتقادها أن ليس كلّ تجربةٍ تبدو في ظاهرها ناظرةً إلى الله هي تجربةٌ حقيقية عن الله، بل إن بعضها زائفٌ ومخادع. وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن الله في هذه التجارب الزائفة لم يُرِدْ إظهار نفسه للشخص المجرِّب. إلاّ أن الله ـ طبقاً للأصل (د) ـ هو كذلك شرطٌ عِلِّي ضروريّ في تحقُّق التجربة الزائفة والوَهْمية أيضاً. وفي الحقيقة فإن لازم الأصل (د) أن الله شرطٌ عِلِّي في جميع التجارب؛ سواء أكان قاصداً لإظهار نفسه أم لم يكن قاصداً ذلك. ورُبَما أمكن القول بشأن الأصل (د): إن الله يأذن بتحقُّق جميع الأمور الممكنة ـ الأعمّ من الموجودات والتجارب والأحداث ـ دون أن يقصد إظهار نفسه في جميع الأمور الممكنة. فإنْ قلنا غير ذلك سوف يزول التمايز الذي يعتقد به المؤمنون بشكلٍ تقليدي وأصيل بين التجارب الحقيقية (التجارب الإلهيّة) وبين التجارب الزائفة / الوَهْمية (التجارب الشيطانية).
وبذلك يعمد جِفْ جوردن إلى الفصل بين موردَيْن: المورد الأوّل: حيث يقصد الله تجربة؛ والمورد الثاني: حيث يقصد الله مجرَّد السماح بحدوث تجربةٍ فقط. ويؤكِّد على أنه بالالتفات إلى هذا الفصل والتفكيك يمكن الوقوف على خطأ المقدّمتين الثانية والثالثة من استدلال سوين بيرن. وحتّى من وجهة نظر المؤمنين هناك فرقٌ بين التجارب الحقيقية بشأن الله والتجارب الوَهْمية والزائفة بشأن الله. ويمكن إثبات عدم تحقُّق شرط العِلِّية بغضّ النظر عن إثبات عدم وجود الله؛ بمعنى أن إثبات عدم تحقُّق شرط العلّية في التجارب الدينية لا ضرورة له في إثبات عدم وجود الله. وبذلك لا تصل جهود وين رايت وسوين بيرن ـ في إثبات عدم القدرة على التشكيك في شرط العلّية للتجربة الدينية بمثال الدواء الخاصّ، على سبيل المثال ـ إلى نتيجةٍ. وفي الحقيقة فإنه رغم إمكان الأصل (د)، إلاّ أنه لا صلة له بما إذا كان الشرط العِلِّي في تجربةٍ خاصّة قد تحقَّق أم لم يتحقَّق([38]).
4ـ الرأي المقتَرَح: الفصل بين نوعين من التجارب الدينية
إن الملحوظ في كلا الرأيين المتقدِّمين هو عدم الفصل والتفكيك بين أنواع التجارب الدينية. وإن محور رأينا المقتَرَح في هذه المقالة هو الفصل بين نوعين وسنخين من التجارب الدينية.
وفي هذا البين هناك تدخُّلٌ مباشر لنقد رأي جِفْ جوردن في بيان الرأي المقتَرَح. وفي معرض نقد رأي جوردن يمكن الخوض من جهةٍ في النظرية العلّية للإدراك، وبيان نقاط ضعفها ونواقصها؛ كما يمكن مناقشة رأيه من ناحيةٍ أخرى، على فَرْض القبول بها.
لا شَكَّ في وجود نواقص في رأي غرايس، ومن هنا فقد سعى البعض إلى إزالة تلك النواقص من خلال توضيح هذا الرأي، وإضافة بعض القيود عليه([39]). إن من بين نقاط ضعف نظريّة علّية الإدراك هي تلك التي ترتبط بإدراك الأمور غير المادّية. كيف يمكن توجيه وتفسير إدراك الأمور غير المادّية بواسطة حفظ الأصول المذكورة في نظرية علّية الإدراك؟ لا يتَّسع المجال هنا إلى الخوض في هذا الموضوع بالتفصيل.
ولكنْ يمكن القول في رفع هذا النقص: من الأفضل أن نعتبر «البيان» عنصراً أصليّاً في الإدراك، وبعبارةٍ أخرى: بَدَلاً من التأكيد على «العلّية» يمكن التأكيد على «العلّية» و«البيان». تارةً يكون سبب الاعتقاد بإدراك أمرٍ هو أن وجود ذلك الأمر علّة في تحقُّق الإدراك (كما ذكر في نظرية علّية الإدراك)؛ وتارةً يكون سبب ذلك هو أن ذلك الأمر عنصرٌ ضروريّ في بيان الأثر أو الآثار التي نشاهدها. وعلى أيّ حالٍ فإننا هنا، بغضّ النظر عن هذه النواقص وسائر نقاط الضعف، ننطلق من فرضيّة التسليم بتماميّة هذا الرأي، وندخل في مناقشة رأي جِفْ جوردن انطلاقاً من هذه الفرضيّة.
ومن خلال التسليم بهذه الفرضيّة يمكن القول: إن إشكالات جوردن على أدلة الرأي الأوّل مقنعةٌ وصائبة إلى حدٍّ ما.
وهنا نقترح رأياً ثالثاً يَسْلَم من إشكالات جوردن، وفي الوقت نفسه يحرز الشرائط ذات الصلة. إن الجَوْهر الأصليّ لهذا الرأي يكمن في التمايز بين مجموعتين من التجارب الدينية:
المجموعة الأولى: التجارب الدينية التي تشتمل على معايير خاصّة.
المجموعة الثانية: التجارب الدينية المفتقرة إلى تلك المعايير.
وبشأن المجموعة الأولى يبدو أنه حتّى اكتشاف التفسير الطبيعيّ للتجربة الدينية لا يؤدّي إلى إنكار القيمة القرينيّة لها.
وأما بشأن المجموعة الثانية فإن اكتشاف التفسير الطبيعيّ للتجربة يؤدّي إلى إنكار قيمتها القرينيّة، وبالتالي فإنه يؤدّي إلى إنكار حجّيتها الأبستمولوجية والمعرفية.
ولبيان وتوجيه الرأي المقتَرَح لا بُدَّ من الالتفات إلى المقدّمات التالية:
1ـ أصل العلّية التكوينية العامّة لله.
2ـ أصل عقلانية إرادة الله (تبعيّة الإرادة الإلهية للمقاصد العقلائية والحكمة، والبُعْد عن اللهو واللعب). إن هذا الأصل ينبثق عن اتّصاف الله بالحكمة. وفي الحقيقة حيث إن الله حكيمٌ فإنه لا يصدر عنه العَبَث وما يخالف الحكمة والعقل.
3ـ الأصل الكلامي القائم على جريان الأمور على أساس عِلَلها وأسبابها الطبيعية والمتعارفة، وهو الأصل الذي يتمّ بيانه في القاعدة الكلامية القائلة: «أبى الله أن يجري الأمور إلاّ بأسبابها»، وهو القول المُقْتَبَس من الكثير من الروايات الواردة في المصادر الإسلامية بهذا المضمون([40]). طبقاً لهذه القاعدة فإن الله يقوم ببعض الأعمال في إطار وضَوْء أسبابها المعتادة. ومن ذلك أن المريض ـ على سبيل المثال ـ إذا أراد أن يشفى بإذن الله يتعيَّن عليه الرجوع إلى الطبيب، ويلتزم بإرشادته وتطبيق وصفته الطبية.
ونؤكِّد استناداً إلى الأصل الأوّل على أنه ليس هناك حادثةٌ تقع في العالم إلاّ بإذنٍ تكوينيّ من قِبَل الله. ومن هنا فإن تحقُّق كلّ نوعٍ من أنواع الأفعال والحركات إنما تقع ضمن مسار العلّية التكوينية العامّة لله.
وأما استناداً إلى الأصل الثاني فإن الله لا يفعل القبيح والعَبَث واللَّهْو وما يخالف العقل. وعلى هذا الأساس لا يمكن القول: إن الله في التجارب الدينية ـ التي تتحقَّق بسبب تناول دواءٍ خاصّ ـ أراد أن يُظهر نفسه لصاحب التجربة؛ إذ إن الله في هذه الحالة سيكون [معاذ الله] قد ارتكب لَغْواً وما يخالف العقل. إن هذا النوع من التجارب وَهْميّ ومخادعٌ، وبعبارةٍ أخرى: إنها تجارب تُسمّى في عُرْف العُرَفاء المسلمين بـ «التجارب الشيطانية». وكما نعلم فإن إحدى هواجس العُرَفاء والأولياء تكمن في التمييز بين التجارب الوَهْمية والتجارب الحقيقية. ولكي يحرزوا هذا الأمر فقد سعَوْا إلى بيان معايير للتجربة الدينية الحقيقية. وهذه المعايير متعدِّدةٌ، وسوف نعمل في ما يلي على الإشارة إلى بعضها. وفيما لو تحقَّقت هذه المعايير في تجربةٍ دينية ما أمكن إجراء الأصل (أ) فيها، كما يمكن في الوقت نفسه الإجابة عن إشكالات جوردن في التقوُّم العِلِّي العامّ لله.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن جوردن ـ كما رأَيْنا ـ يؤكِّد على أننا لو قبلنا بالتقوُّم العِلِّي العامّ لله بشكلٍ عامّ وجب علينا الاعتقاد بأن الله هو مَنْ أراد الظهور في التجارب الوَهْمية، وبعبارةٍ أخرى: إن الله هو الذي قصد أن يُظهر نفسه لصاحب التجربة؛ بسبب تناوله دواء خاصّاً. ولكنْ بالالتفات إلى الأصل الثاني (أصل عقلانية أفعال الله) نستنتج أن الله لا يريد أبداً أن يُظهر نفسه من خلال التجارب الدينية الوَهْمية أو شبه التجارب الدينية المتحقِّقة بسبب تناول الأدوية. فيما لو توفَّرت المعايير المنشودة في التجربة الدينية يتمّ في الواقع إنكار عدم وجود شرط الحضور وشرط العلّية في هذا النوع من التجارب الدينية، ويتّضح أن الله في هذا النوع من التجارب متعلّق للتجربة الدينية، كما أنه مُوجِدُها. وأما بالالتفات إلى الأصل الثالث (أصل جريان الأمور بأسبابها الطبيعية والعادية) فمن الواضح جداً أن الشخص إذا أراد أن يخوض تجربةً دينية تعيَّن عليه أن يطوي بعض المقدّمات. إن هذه المقدّمات يتمّ بيانها بشكلٍ عامّ في مسار السَّيْر والسلوك العرفاني. والملفت أنه في بعض الموارد يكون تناول طعامٍ خاصّ جزءاً من هذه المقدّمات، بمعنى أن العارف ينصح تلاميذه في العرفان بتناول طعامٍ خاصّ، أو ينصحهم بأن يحجموا عن تناول طعامٍ خاصّ، بل ومن الممكن أن يعتبر العارف تناول طعامٍ معيَّن مقدّمةً ضرورية للحصول على الكشف والشهود العرفاني الخاصّ. من الواضح أن الله يتجلّى للعارف في التجربة الدينية التي تظهر من خلال طيّ العارف للمقدّمات المشتملة على الشرائط الآتية، وإنْ كان هذا التجلّي يتحقَّق عبر اجتياز مراحل طبيعية خاصّة. وعلى هذا الأساس يمكن الادّعاء بأن هذه التجارب التي تشتمل على الشرائط الآتية إنما يتمّ إيجادها من قِبَل الله، ومن هنا يكون شرط الحضور مُحْرَزاً. كما أن تجربة الله من قِبَل هذا الشخص قد تمّ إيجادها بشكلٍ مناسب من قِبَل الله نفسه، وبذلك يكون شرط العلّية مُحْرَزاً أيضاً. وبطبيعة الحال فإن هذا الأمر قد تمّ بواسطة العِلَل الطبيعية بموجب القاعدة القائلة بـ «جريان الأمور بأسبابها وعللها الطبيعية والاعتيادية». وبذلك يمكن القول: إن الأصل (أ) يجري في التجارب الدينية المشتملة على شرائط خاصّة، وتكون إشكالات جِفْ جوردن في هذا الشأن منتفيةً.
وأما شرائط التجربة الدينية الإلهية فهي متعدِّدةٌ. وهذه الشرائط مذكورةٌ، وتقع مورداً للبحث، سواء بين المفكِّرين الغربيين أو بين العلماء والعُرَفاء الإسلاميين أيضاً. وقد ذكر ديفيس بعض هذه الشرائط على النحو التالي:
1ـ الانسجام الباطني والخارجي.
2ـ اشتمال التجربة على ثمار أخلاقية وروحية.
3ـ الانسجام مع التعاليم [الدينية] الأُرثوذُكسيّة (المتعارفة).
4ـ تقييم الأوضاع والأحوال النفسية والذهنية العامّة لصاحب التجربة.
5ـ عمق وحلاوة ما يذكره صاحب التجربة على أساسٍ من تجربته([41]).
وهناك معايير أخرى مذكورة بين العُرَفاء المسلمين أيضاً. ومن ذلك أنه قيل ـ على سبيل المثال ـ: إن كَشْف وشهود المعصوم؛ بسبب عصمته، معيارٌ لسائر الكشوف والشهود. ومن هنا فإن كَشْف العارف ـ كما يقول ابن عربي ـ إذا لم ينسجم مع كَشْف الأنبياء كان كَشْف الأنبياء هو المعيار؛ وإن هذا التنافي سوف يحكي عن وجود خللٍ في تجربة صاحب الكَشْف([42]).
والمعيار الآخر الذي يَرِدُ ذِكْرُه في آثار العلماء المسلمين هو عدم مخالفة التجربة الدينية للأحكام الشرعية، وهذا المعيار هو تقريباً ذات المعيار رقم (3). يقول ابن عربي في هذا الشأن: لو ادّعى صاحب الكَشْف والشهود أنه يعمل في حَرَكاته وسَكَناته على تطبيق الأوامر الإلهيّة، بَيْدَ أن أفعاله كانت تخالف الشريعة، فلا شَكَّ في أن الأمر قد اشتبه عليه، وأنه قد تعرَّض للخلط بين الأمور([43]).
ومن بين المعايير المذكورة هنا هو معيار الانسجام مع العقل. ومن هنا لو ادَّعى العارف في كَشْفه وتجربته العرفانية شيئاً يخالف العقل والبرهان العقلي فإن كَشْفه سوف يُرْفَض([44]).
وفي الختام لا بُدَّ من الإجابة عن إشكالٍ لجِفْ جوردن.
تقدَّم أن جوردن، ضمن جوابه عن الاستدلال الأوّل للرأي الأوّل، قد اعتبر وجود التفسير الطبيعي وعِلِّية الأمور الطبيعية في تحقُّق التجربة الدينية متنافياً مع حاكمية الله وإرادته المطلقة، ومن هنا فقد أكَّد على أنه مع وجود العِلَل الطبيعية للتجربة الدينية لا يعود من الممكن الحديث بعد ذلك عن العِلَل والأسباب الإلهية.
ولكنْ يبدو أن الإشكال الذي يَرِدُ على كلام جوردن هو أنه رُبَما فسّر ارتباط الحالة النفسية بالحاكمية المطلقة لله، بحيث يَرِدُ التشكيك في الحاكمية المطلقة لله بعد ظهور الحالة النفسية والسايكولوجية؛ لأن الحالة النفسية تمثِّل شرطاً عِلِّياً ضرورياً لظهور الله، ونتيجةً لذلك يتمّ التشكيك بالحاكمية المطلقة لله. وفي الحقيقة فإنه ينظر إلى العلاقة بين هذَيْن الأمرين «من الأدنى إلى الأعلى»، وكأنّ ظهور الله مرتبطٌ بظهور هذه الحالة السايكولوجية. ولكنْ يمكن النظر إلى هذه العلاقة «من الأعلى إلى الأدنى»، بمعنى أنه حتّى إذا كان التجلّي والظهور بيد الله ـ (وهو كذلك) ـ فإن الله إذا أراد أن يتجلَّى فإنه يعمل على إيجاد تلك الحالة، ثمّ يتجلّى. وبذلك يكون التأثير من قِبَل الله. وفي الواقع فإن هذا الأمر شبيهٌ بسائر أفعال الله، حيث يجريها على أساس سُنَّته في إجراء الأمور بأسبابها (على ما تقدَّم ذكره بشأن القاعدة الكلامية القائلة: «أبى الله أن يجري الأمور إلاّ بأسبابها»). ومن ذلك أنه يعمل على شفاء المريض بواسطة الدواء، وأن شرط شفاء المريض هو إيجاد حالةٍ خاصّة بواسطة الدواء في المريض.
وبهذا البيان لن يكون هناك تعارضٌ بين ظهور الحالة السايكولوجية وبين الحاكمية المطلقة لله. نعم، إذا كانت هذه الحالة السايكولوجية بطبيعة الحال غير مناسبةٍ؛ بسبب الأدلّة الدينية، وبالالتفات إلى معايير صحّة التجربة الدينية ـ التي تقدَّمَتْ الإشارة إلى بعضها ـ، وكذلك بالالتفات إلى الأصل الثاني (عقلانية إرادة الله وأفعاله) يمكن اعتبار تلك التجربة الدينية وَهْميّةً وزائفة، ولكنْ إذا لم تكن الحالة السايكولوجية غير مناسبةٍ فإنها لن تتعارض مع الحاكمية الإلهية المطلقة.
5ـ خلاصةٌ واستنتاج
نتيجة ما تقدَّم أنه، بالالتفات إلى الرأي المقتَرَح، يتمّ الحفاظ على الأصل (أ). كما يتمّ دفع إشكالات جِفْ جوردن أيضاً. وكما رأينا فإن الرأي المقتَرَح يفصل بين نوعين من التجارب الدينية، وذلك بالاستناد إلى ثلاثة أصول هامّة. ومن خلال هذا الفصل والتفكيك يذهب هذا الرأي المقتَرَح إلى التأكيد على أن التجربة الدينية إذا كانت تحظى بشرائط خاصّةٍ فإن اكتشاف التفسير الطبيعي لن يضرَّ بحجّيتها الأبستمولوجية والمعرفية؛ وأما إذا لم تكن تحظى بتلك الشرائط فإنه بكَشْف التفسير الطبيعيّ (حتّى إذا لم يكُنْ هناك دليلٌ على عدم وجود الله) سوف تنتفي الحجّية الأبستمولوجية والمعرفية للتجربة الدينية. والملفت أنه يلوح من كلمات جِفْ جوردن نفسه قبوله بأنه بالإمكان أحياناً القبول بلزوم شروط ومقدّمات خاصّة لتحقُّق التجربة الدينية. وكما سبق أن ذكَرْنا فإن جِفْ جوردن في الجواب عن الإشكال القائل: رُبَما تعلَّقت إرادة الله بعدم إظهار نفسه إلاّ لأولئك الذين يتّصفون بصفاتٍ خاصّة (مثل: المتّقين، أو المخلصين والشرفاء، أو العلماء، أو الذين يصومون في أوقاتٍ خاصّة) لم يُنْكِر ذلك بشكلٍ مطلق، وإنما اكتفى بمجرّد التأكيد على أن هذا الكلام لا يمكن أن ينتشل رأي سي. دي. براد من المعمعة؛ إذ يجب علينا التمييز بين حالتين؛ الحالة الأولى: السَّعْي الواعي من أجل تحقيق أهداف خاصّة؛ والحالة الثانية: الكينونة في حالةٍ ذهنية خاصّة (من قبيل: الوَجَع الروحي). إن استدلال سي. دي. براد يرتبط بالحالة الثانية، دون الأولى. وحتّى من هذه الناحية لو وُجِد مثل هذا الوضع لا يمكن إثبات الحجّية المعرفية والأبستمولوجية للتجربة الدينية. بَيْدَ أن المؤمنين الذين يدّعون وجود مقدّمات وشروط خاصّة أو مقدّمات تذلِّل العقبات في الحدّ الأدنى على خَوْض التجربة الدينية ينظرون إلى الأولى، دون الثانية. إن التأمّل والتدقيق في هذا الجواب من جوردن يثبت احتمال الحاجة إلى المقدّمات الطبيعية للحصول على التجربة الدينية. وعليه يمكن الفصل بين نوعين من المقدّمات الطبيعية:
النوع الأوّل: المقدّمات الطبيعية التي يتمّ توظيفها بإرشادٍ وتوجيهٍ من أولياء الدين والعُرَفاء بشكلٍ واعٍ؛ من أجل الحصول على التجربة الدينية، ويكون لها في ضوء ذلك تأثيرٌ جائز ومشروع وعقلانيّ.
النوع الثاني: المقدّمات الطبيعية التي لم يتمّ عدم النصح بخَوْضها من قِبَل الدين وأولياء الدين فحَسْب، بل قد ورد النهي عن الدخول فيها أيضاً. وعلى هذا الأساس، فإنه بالالتفات إلى هاتين النقطتين، ومع الأخذ بنظر الاعتبار الأصل القائل: «أبى الله أن يُجري الأمور إلاّ بأسبابها»، وكذلك أصل عقلانية الإرادة الله، يمكن الوصول إلى نتيجةٍ مفادها: إن اكتشاف أيّ تفسيرٍ طبيعي للتجربة الدينية لا يعني بالضرورة سقوطها عن الحجّية المعرفية والأبستمولوجية، بل إن بعض المقدّمات الطبيعية ضروريّةٌ في الحصول على التجربة الدينية، ومن هنا فإن اكتشافها لا يُحْدِث خَلَلاً في الحجّية الأبستمولوجية للتجربة الدينية.
وعلى هذا يمكن الادّعاء بأنه ليست إشكالات جوردن غير واردة على هذا الرأي المقتَرَح فحَسْب، بل إن جوردن نفسه يُذْعِن ضمناً بأن إشكاله على هذا الرأي المقترح لن يكون وارداً؛ إذ إنه قد أقرّ بنفسه أن إرادة الله قد تتعلَّق بإظهار نفسه للذين يتمتَّعون بشرائط خاصّة([45]). وكما رأينا فإنه يتمّ التأكيد في الرأي المقتَرَح على أنه بالنظر إلى وجود الشرائط الخاصّة في التجربة الدينية يمكن اعتبارها مشتملةً على قِيَم معرفية وأبستمولوجية، وإن هذه الشرائط توجد في الغالب بشكلٍ واعٍ وبمجهودٍ من صاحب التجربة. ومن هنا يمكن القول: إن الرأي المقتَرَح ينطوي على حصانةٍ من إشكال جوردن.
وفي الختام يجب إعادة التأكيد على هذه النقطة مرّةً أخرى، وهي النقطة التي تعود إلى دائرة القيمة المعرفية للتجربة الدينية، التي تحتوي على الشرائط التي سبق ذِكْرُها. إن الحجّية المعرفية والأبستمولوجية للتجربة الدينية المشتملة على الشرائط والمقدّمات السابقة إنما تقتصر على صاحب التجربة فقط، ولا يمكن اعتبار حجّيتها عامّةً وشاملة لـ (الجميع)([46]).
الهوامش
(*) أستاذٌ مساعِدٌ في جامعة طهران ـ پرديس فارابي.
([1]) وليم جيمس (1842 ـ 1910م): فيلسوفٌ أمريكي. من روّاد علم النفس الحديث، وأحد أعضاء جمعية الأبحاث النفسية. ألَّف كتباً مؤثِّرة في علم النفس الحديث، وعلم النفس التربوي، وعلم النفس الديني، والفلسفة البراغماتية. من مؤلَّفاته: (الإرادة)، و(الاعتقاد)، و(البراغماتية). المعرِّب.
([2]) والتر تيرانس ستيس (1886 ـ 1967م): فيلسوفٌ إنجليزي، متخصِّص في فلسفة هيغل والعرفان والنسبية الأخلاقية. المعرِّب.
([3]) وليم باين ألستون (1921 ـ 2009م): فيلسوفٌ أمريكي. قدَّم مساهماتٍ مؤثِّرة في فلسفة اللغة، ونظرية المعرفة، والفلسفة المسيحية. وكان عضواً في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم. المعرِّب.
([4]) جون هروود هيك (1922 ـ 2012م): أستاذٌ وثيولوجيٌّ وفيلسوفٌ في الدين. قدَّم مساهمات في الثيولوجيا الدينية عن الكريستولوجيا والإسكاتولوجيا والثيوديسيا. وفي فلسفة الدين قدَّم مساهمات في أبستيمولوجيا الدين، والتعدُّدية الدينية. المعرِّب.
([5]) ريتشارد سوينبورن (1934 ـ معاصر): فيلسوفٌ بريطانيّ، وأستاذٌ فَخْريّ للفلسفة في جامعة أوكسفورد على مدى نصف قرن. كان من المؤيِّدين للثنائية الديكارتية (ثنائية الروح والجسد)، ومن أعماله: (تطوُّر الروح). وتقع مساهماته في الدرجة الأولى في فلسفة الدين وفلسفة العلم. المعرِّب.
([6]) أتقدَّم بالشكر الجزيل إلى الدكتور محمد رضا بيّات على قراءة هذه المقالة، وإثارته لبعض الملاحظات النافعة في إطار تدقيقها وإصلاحها.
([7]) Jordon, J. (1994, February). “Religious experience and naturalistic explanations”, 1994, Volume 33, Issue 1,. Sophia, 33 (1), pp. 58 – 73.
([9]) Broad, C. (1969). Religion, Philosophy and Psychical Research. (NY: Humanities Press), pp. 175 – 201.
([10]) المصدر السابق: 197 ـ 198.
([11]) Wainwright, W. (1999). Philosophy of Religion (2nd ed.). New York: Wadsworth, p. 133.
([12]) آلستون، «آيا اعتقاد ديني معقول است؟»، ترجمة: نرجس جواندل، مجلّة نقد ونظر، العدد 25: 82.
([13]) Swinburne, R. (2004). The Existence of God. Oxford: Oxford University Press, pp. 293 – 327.
([14]) Wainwright, W. (1999). Philosophy of Religion (2nd ed.). New York: Wadsworth, pp. 126 – 128.
([15]) Jordon, J. (1994, February). “Religious experience and naturalistic explanations”, 1994, Volume 33, Issue 1,. Sophia, 33 (1), pp. 70 – 71.
([16]) causal theory of perception.
([17]) Jordon, J. (1994, February). “Religious experience and naturalistic explanations”, 1994, Volume 33, Issue 1,. Sophia, 33 (1), p. 71.
([18]) Swinburne, R. (2004). The Existence of God. Oxford: Oxford University Press, pp. 254 – 271.
([19]) المصدر السابق: 46 ـ 52.
([20]) Gutting, G. (1982). Religious Belief and Religious Scepticism. (Notre Dame: University of Notre Dame Press(, pp. 151 – 153.
([21]) Jordon, J. (1994, February). “Religious experience and naturalistic explanations”, 1994, Volume 33, Issue 1,. Sophia, 33 (1), pp. 10 -20.
([22] (Wainwright, W. (1999). Philosophy of Religion (2nd ed.). New York: Wadsworth, pp. 13 – 138.
([23]) Russell, B. (1927). Tht Analysis of Matter. London: F.R.S.
([24]) Grice, H. (1961). “The causal theory of perception” in: Proceedings of the Aristotalian Society, Supp. Vol. xxxv., pp. 121 – 152.
([26]) Jordon, J. (1994, February). “Religious experience and naturalistic explanations”, 1994, Volume 33, Issue 1,. Sophia, 33 (1), pp. 60 – 62.
([28]) المصدر السابق: 61 ـ 62.
([31]) المصدر السابق: 65 ـ 66.
([32]) المصدر السابق: 66 ـ 67.
([33]) المصدر السابق: 67 ـ 68.
([34]) رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس، الإصحاح 11، الفقرة 15.
([36]) Jordon, J. (1994, February). “Religious experience and naturalistic explanations”, 1994, Volume 33, Issue 1,. Sophia, 33 (1), pp 58 – 73.
([38]) المصدر السابق: 69 ـ 70.
([39]) انظر على سبيل المثال: آلستون، «آيا اعتقاد ديني معقول است؟»، ترجمة: نرجس جواندل، مجلّة نقد ونظر، العدد 25.
([40]) انظر على سبيل المثال: الكليني، الكافي 1: 183، ح7، دار الكتب الإسلامية، طهران.
([41]) ديوِيس، أرزش معرفت شناختي تجربه ديني: 102، ترجمة: علي شيرواني وحسين علي شيدان شيد، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه، قم.
([42]) ابن عربي، الفتوحات المكّية 3: 7، دار صادر، بيروت.
([43]) المصدر السابق 1: 179: «كلّ مَنْ قال من أهل الكَشْف: إنه مأمورٌ بأمرٍ إلهي في حركاته وسكناته مخالفٍ لأمرٍ شرعيّ محمّديّ تكليفيّ فقد التبس عليه الأمر…».
([44]) الشيرازي، الحکمة المتعالية في الأسفار الأربعة العقلية 2: 322 ـ 323، تحقيق: محمدي، بنياد حکمت، طهران.
([45]) See: Jordon, J. (1994, February). “Religious experience and naturalistic explanations”, 1994, Volume 33, Issue 1,. Sophia, 33 (1), pp. 66 – 67.
([46]) انظر: نصيري، بررسي أدلّه معتقدان به حجّيت معرفت شناختي تجربه ديني، مجلّة أنديشه نوين ديني، العدد ٣٥: 45 ـ 62.