مدخل
الدعوى المحورية التي تقوم عليها نظرية التعددية الدينية هي أن الأديان بطيفها الوسيع تساهم كلّها في تحقيق الهدف النهائي، أي النجاة والسعادة الإنسانية، ويرتبط البحث في التعددية الدينية بالعديد من الموضوعات المختلفة التي تجعل من تقييم النظرية عند عدم دراستها تقييماً من زاويةٍ واحدةٍ ومن جانبٍ واحد، لكن بحث كافة هذه الجوانب في هذه المقالة أمرٌ غير ممكن، ومن هنا فإن هدفنا سيكون قراءة النظريات المختزنة داخل النظرية ذاتها أي داخل التعددية الدينية.
يرتبط البحث في التعددية الدينية ببحثٍٍ آخر لم تجر دراسته ـ من وجهة نظرنا ـ بالمقدار الكافي من الدقة والعناية من طرف الذين قرأوا ودرسوا هذه النظرية، فإذا أردنا أن نتخذ ـ وبشكلٍ دقيقٍ ـ موقفاً ما من التعددية الدينية فلابد لنا بدايةً من إلقاء النظر على مسألة جوهر الدين ولبّه، وبعبارةٍ أخرى لابد لنا من معرفة ما هو لبّ الدين وما هي قشوره؟ ومن دون العثور على لبّ الدين ومحتواه الجوهري لن يمكن الحكم في قضية التعددية الدينية، إن تعابير من قبيل "لب وقشر الدين" أو "قلب وحاشية الدين" أو "جوهر وهامش الدين" والتي تستعمل كلّها للإشارة إلى هذا المعنى إنما هي تعبيراتٌ مجازية، وهي بنفس المقدار الذي تؤدّي فيه المطلب تمارس نوعاً من التضليل أيضاً، فالمراد من بحث لب وقشر الدين (أو القلب والحاشية) هو تعيين الشيء الذي يعدّ ذاتياً للدين، أي على ماذا تقوم حقيقة الدين والتديّن؟ وما هي الاشياء الاخرى التي تمثل بالنسبة للدين أموراً عرضيةً وحتى اتفاقية، لتكون بالتالي خارجةً عن حقيقته بحيث يواصل الدين حياته ويبقى على نضارته وخفقانه حتى لو افتقدها.
وبالرغم من أن هذا البحث ـ أي لبّ وقشور الدين ـ يظهر بشكل من الاشكال في فكر أي متكلّم بيد أنه تبلور بشكل منظّم وممنهج في فكر الفيلسوف الديني الألماني فريدريش شلايرماخر، لا نريد هنا تصديق جزئيات برنامج شلايرماخر بيد ان ما نريد لفت النظر اليه هو أنه كان يستهدف بدراسة هذه المسألة إحياء الدين المسيحي، فقد عاش شلايرماخر في زمن أفول الدراسات العقلية الجافّة على صعيد الفكر الغربي، فالإلهيات الطبيعية (natural theology) منيت بهزيمة واضحة بمجيء التجربيين من أمثال دافيد هيوم، كما أنّ الفلسفة النقدية لـ "كانت" جرّت الدين إلى الدائرة الأخلاقية واختزلته فيها فيما فصلته كلياً عن النطاق المعرفي النظري، أمّا العلم الحديث فكان يصنّف كمنافسٍ آخر للدين أيضاً، كما وشغلت قضية تعارض العلم والدين أفكار الكثير من المتكلّمين.
من جهة أخرى وبموث أكبر فيلسوف غربي معاصر ـ أي "كانت" ـ ظهرت النهضة الرومانطيقية، وقد وقع شلايرماخر تحت تأثير هذه النهضة، وقام بمهمة احياء الدين والايمان المسيحيين، لقد جعل شلايرماخر التساؤل التالي نقطة الانطلاق في تحقيقاته: ما هو جوهر الدين؟ إن لدينا في أيّ دينٍٍ من الاديان اموراً ثلاثة ـ أعم من الذاتي والعرضي ـ، فهناك سلسلةٌ من المعتقدات في كل دين، أي ان الشخص المتديّن يؤمن بمجموعةٍ من القضايا الدينية، وهذا ما يشكّل البعد المعرفي للدين، وكذلك هناك مجموعةٌ من الاعمال في كل دين يعمد إلى انجازها وهو ما يشكل قسم الأخلاقيات بالمعنى الواسع للكلمة أي الأعم من الأخلاق والفقه، والامر الثالث الذي يلاحظ وجوده في المجال الديني هو عبارةٌ عن الاحساسات والتجارب الدينية، فكلّ مجتمع ديني خاص له تجاربه الدينية الخاصّة.
هذه الابعاد الثلاثة المعرفية والاخلاقية والتجربية توجد في كل دين من الأديان، وهنا أثار شلايرماخر التساؤل التالي:
أيّ واحد من هذه الابعاد الثلاثة يشكّل جوهر الدين؟
لا نهدف هنا الى الجواب عن تساؤل شلايرماخر هذا، وانما نكتفي بالاشارة الى مورد حاجتنا من الموضوع، فمن وجهة نظر شلايرماخر قلب الدين هو عبارة عن نوعٍ من التجربة الدينية، لقد أجاب شلايرماخر بهذا الكلام على المثقفين، كما عمل على احياء الديانة المسيحية، ذلك أنه إذا كان قلب وجوهر الدين نوعاً من التجربة فهذا يعني الحماية من كافة اعتراضات الباحثين والمثقفين.
وبدورنا سوف نركّز على هذا البحث لدى دراسة المبنى الثاني الذي ورد في مقالة "الطرق المستقيمة"، فالجواب عن هذا التساؤل الذي اثاره شلايرماخر هو الذي يحدّد جهة البحث حول موضوعة التعددية، فمسألة تعيين جوهر الدين هي مسألة ذات أهمية بالغة، وهذه القضية تتمايز عن قضية الجوهر والصدف، فتعيين جوهر الدين أمرٌ مرتبطٌ بمعرفة الظاهرة الدينية، فمعرفة الظاهرة الدينية وفق مناهج معرفة الظاهرة لا بد ان تحدد لنا حقيقة الدين، اما مسألة الجوهر والصدف فهي مسألة مرتبطة بفلسفة الدين، ففي هذه المسألة الفلسفية يتركّز البحث حول تعيين النظام الطولي والعرضي للقضايا الدينية، فالفيلسوف الديني بإجابته عن مسألة تعدد الاديان مرهونٌ للقراءة الظاهرتية للدين وهي قراءةٌ تمدّه بالكثير من الثمرات والمنافع.
وأرى هنا من اللازم توضيح هذه النقطة قبل الشروع في مباني التعددية، فبناءً على القبول بالتعددية الدينية لا يمكننا ان نأخذ العقائد أو الأعمال جوهراً للدين والتدين، فالتعددي ينظر الى العقائد أو الاعمال الدينية لأي دين نظرة أداتية آلية، فالعقائد والاعمال الدينية الخاصة ليست ذات مدخلية في تأمين الهدف النهائي للدين، وبالتالي فإذا سرنا في طريق عقائد او اعمال أخرى فإننا سوف نصل الى هذا الهدف ايضاً، ان لازم الاعتراف بحقانية كافة الأديان هو ان العقائد والاعمال الدينية الخاصة ليست جوهراً للدين، فإذا كان جوهر الدين والتدين مرتبطاً ـ بالضرورة ـ بالعقائد والاعمال الخاصة فهذا يعني ان الاديان التي لا تلتزم بهذه العقائد والاعمال لن تحظى بالحق والحقانية، ذلك ان الهدف النهائي للدين يؤمّنه جوهر الدين، وهذا معناه ان الوصول الى هذا الهدف النهائي انما يكون في إطار الاعمال والعقائد الخاصّة، لكن التعدّدي يرفض هذه الفرضية ويتعامل مع العقائد والاعمال الدينية الخاصة تعاملاً أداتياً، فالعشاء الرباني المسيحي يمكنه ان يعبر عن وسيلةٍ للنجاة والسعادة البشرية كما هو الحال في صلاة الانسان المسلم، وهكذا صلاة المسلم تعمل على تأمين الحق بمساهمة مساوية لتلك التي تقوم بها الرياضة الخاصّة للانسان الهندوسي وهكذا…
نقد مباني التعددية الدينية
والآن نشرع في المباني التي وردت في مقالة "التعددية الدينية":
المبنى الأول: الذي طرح في نفس المقالة عبارة عن تنوع فهمنا للنصوص الدينية، أي نفس نظرية القبض والبسط، "مجمل الكلام حول القبض والبسط هو أن فهمنا للنصوص الدينية فهمٌ متنوعٌ ومتكثّر بالضرورة وذلك من دون أن يكون في هذا التنوع قابلية الصيرورة لفهمٍ واحد، بل ليس هذا الفهم متنوعاً ومتعدداً فقط وإنما هو سيّال أيضاً"([1]).
وابتداءاً نطرح التساؤل التالي: ما هي العلاقة المنطقية بين تنوع الافهام والاستنتاجات وبين التعددية؟ هل أن التعددية يمكن أن تعدّ ـ واقعاً ـ لازماً منطقياً لنظرية القبض والبسط ـ كما يدعيه الدكتور سروش ـ أي إن تنوع الافهام هو اعتراف بكافة الاستنتاجات؟
لقد جاء في نفس المقالة: "ولا يفوتنا التذكير بأن ثمّة مدلول واضح لتعددية الفهم وتفسير النص، ألا وهو نفي وجود تفسيرٍ رسميٍّ وواحدٍ للدين، وبالتالي فليس هناك أي مرجع ومفسر رسمي له، والمعرفة الدينية ـ كأي معرفةٍ بشريةٍ ـ ليس فيها ثمة قول حجّة تعبداً لشخص ما على شخصٍ آخر، كما أنه ليس هناك فهم مقدّس ومتعالٍ عن المُساءلة"([2])، ان مدعى تعددية فهم النص هو أن كل فهم يعد فهماً رسمياً معترفاً به، وهو من هنا قادرٌ على الإيصال إلى النجاة البشرية، ان التعددية تعني الاعتراف بأي دين وتمثل اعتقاداً بأن كافة الأديان بإمكانها تأمين سعادة البشر، نسأل: ما هي الرابطة المنطقية بين التعددية والاعتراف بكافّة الأفهام؟
من وجهة نظرنا، هذه النتيجة لا تنبثق من تلك المقدّمة، فما دمنا لم نضم مقدّمةً أخرى ولم تكن لدينا نظرية متصلة بجوهر الدين يتموضع فيها الفهم الديني فإننا لن نتمكن من تهيئة مبنى التعددية هذا، اذا لم تعتبروا جوهر الدين نفس تنوع الأفهام فلا يمكنكم استنتاج التعددية الدينية، ومن وجهة نظرنا لم يجرِ لا في نظرية القبض والبسط ولا في مقالة التعددية تقديم تصوير واضح لمسألة جوهر الدين، فإذا كانت كافة الافهام متحوّلة ورسمية فما هو جوهر الدين بنظركم؟
هل جوهر الدين نوعٌ من التجربة الدينية؟
ان هذه الفرضية لجوهر الدين مرتبطةٌ بالمبنى الثاني كما سنعالجه هناك ولا علاقة لها بهذا المبنى، بل إن الاعتراف بنظرية القبض والبسط يحيل اعتبار التجربة الدينية جوهراً للدين، لكن لو اعتبرناها جوهراً له (ومن ثم كافّة الافهام متحوّلة) فلا يمكننا استنتاج نظرية التعددية الدينية حينئذٍ، ذلك أن هدف الدين يؤمّنه نفس جوهره، اما الافهام فحتّى لو كانت كلّها رسمية معترفاً بها ليست الا شيئاً خارجاً عن حقيقة الدين، فأقصى ما هناك أن شيئاً ما يرافق جوهر الدين وهو في حال تحوّل دائم، إذن ما هو جوهر الدين؟
هل هو نفس الأفهام المتنوعة من النصوص الدينية؟
هذا الفرض ـ أي ان جوهر الدين هو تلك الفهوم المتنوعة ـ يختبئ ويُختزن في طيات كلمات الدكتور سروش، ومن وجهة نظرنا ينبني الاستدلال على التعددية عن طريق تنوع الفهوم الدينية على هذه المقدّمة، وهي ان جوهر الدين هو نفس الفهوم المتنوعة، وهنا ـ وحتى نزن الجواب عن هذه المسألة ـ لا بد لنا ان نأخذ فروضاً أخرى أيضاً، فإذا فرضنا أنّ جوهر الدين هو نفس الفهوم المتنوّعة المتحوّلة ـ وهو فرضٌ يتمّ ويكتمل الاستدلال على التعددية وفقاً له من الناحية الشكلية ـ فإننا نلاحظ بطلان الفرض نفسه، إذ ماذا يعني كون جوهر الدين نفس هذه الأفهام المتنوّعة؟ ان الاعتراف بكافة الأفهام ووضعها في جوهر الدين يعني ان التدين هو نفس هذه الأفهام، أي ان ما يوصل البشر الى الهدف النهائي للدين هو هذه الأفهام المتنوّعة، فالهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو أن يكون للبشر أفهام متنوعة للنصوص والكتب الدينية، وهم بمحض ان يحوزوا على فهم هذه النصوص سيحظون بالسعادة الأبدية، أي انهم سيصلون بذلك الى الغاية القصوى للدين، وعدم صحة هذا الافتراض من الوضوح بمكان، فهل كان هدف الانبياء على طول التاريخ هو هذا الأمر، أي ان يصل الناس فقط الى تحصيل فهمٍ للنصوص الدينية؟ هل يكفي في أيّ دينٍ من الأديان فهم النص وحتّى الايمان بهذا الفهم لأجل تحصيل النجاة الابدية والوصول الى مقام القرب الإلهي؟ وهل يحظى البشر بالنجاة جرّاء فهمهم النصوص الدينية؟
لا مفرّ من ان يكون للأعمال موطئ قدمٍ في ساحة جوهر الأديان، فإذا كانت الأعمال الدينية كالعبادات والنذور وغير ذلك داخلةً في جوهر الدين ـ سواء كانت الافهام الدينية داخلةً أيضاً أو لا ـ([3]) فيمكن فرض صورتين اما ان الاعمال الدينية الخاصة داخلةٌ في جوهر الدين أو أن أي عمل يمكن أن يشكل جوهر الدين.
أ ـ أما صورة دخول الاعمال الخاصّة في جوهر الدين فهي صورةٌ مخالفةٌ لفرضية التعددي، ان الانسان التعددي ـ كما قلنا ـ يملك رؤية أداتية للاعمال والعقائد الدينية ولا يمكنه ان يمنح القيمة لعملٍ خاصٍ، لان ذلك بمثابة انكار للتعددية والاتجاه البلورالي.
ب ـ وأما إذا اعتبرنا أيّ نوع من الاعمال داخلاً في جوهر الدين فيمكننا ان نستنتج حينئذٍ النظرية التعددية، بيد أن ذلك نوعٌ من المصادرة على المطلوب، ذلك ان معنى "أي نوع من الأعمال" هو عدم مدخلية الاعمال الدينية الخاصة، وبالتالي التحوّل الى الاداتية على هذا الصعيد، وهذا معناه أن نفس فرضية التعددية قد جرى استبطانها بشكلٍٍ ذكيٍّ في المقدّمات.
ولابد لنا ـ بعد دراسة كافّة هذه الفروض ـ من الاشارة الى نقطةٍ ظريفةٍ أخرى تتعلق بتعدّدية فهم النصوص الدينية، فاذا وافقنا على كافة هذه المقدمات لهذا النوع من التعددية([4]) فما هي النتيجة التي يمكننا استنتاجها؟ والجواب هو أنه لا يمكننا الحصول على تعدّدية خارجيّة، فلأجل اثبات التعددية الخارجية (بالنسبة للدين) عن طريق تنوّع الفهوم الدينية لابد لنا من اثبات اعتبار النص نفسه في مرحلةٍ أسبق، فعلى سبيل المثال لابد لنا من أن نعتبر القرآن نصاً دينياً واقعياً وكذلك الانجيل والكتاب المقدّس، وعقب ذلك نقوم بضم هذه المقدّمة وهي اننا نواجه تنوّعاً وسياليةً في الأفهام الدينية، أي انه لابد أولاً من اعتبار كافة النصوص الدينية ضمن سياق واحد وذات حكم واحد ومن ثم وبضم مبنى القبض والبسط يمكننا استنتاج التعددية.
إذن أولاً: لا ربط إطلاقاً للمقدمة الاولى ـ وهي كون النصوص في مصاف واحد ـ بنظرية القبض والبسط، أي ليس ثمة علاقة منطقية بينهما.
وثانياً: هذه المقدمة نفسها تتجاهل حقيقةً وواقعيةً تاريخية، ما هي النتيجة المترتبة على كل تلك القراءات النقدية للنص التي اتخذت رونقاً خاصاً بين المسيحيين؟([5]) هل ان المسيحيين الآخرين يستلهمون الحقيقة من الكتاب المقدّس؟
وعليه فإذا اراد الدكتور سروش ان يستنتج التعددية الدينية الخارجية من نظرية القبض والبسط فإنه بحاجةٍ الى مقدّمة أخرى، واذا وافقنا على هذه المقدّمة فلا بد لنا من ان نخرج بتعددية داخليةٍ لا خارجية([6]).
المبنى الثاني: المطروح في المقالة هو تعدد وتنوّع تفسير التجارب الدينية، وهو المبنى الذي يشكّل العماد الاساسي للتعدديين، وفي البداية لا بد لنا من الاعتراف بأنه لم يكن ثمّة تصوير واضح في المقالة لوجه الاستدلال بهذا المبنى، كما تمّ التعرّض فيها لعدد من الموضوعات الجانبية التي حجبت الضوء عن أصل الموضوع، ومن هنا فنحن مضطرون للتركيز على الخطوط الاساسية والإعراض عن البحث في النقاط الجزئية والجانبية.
إن الاستدلال بتنوّع تفاسير التجربة الدينية على التعددية يحتاج الى بلورة نظريةٍ حول جوهر الدين، وهو ما لم يجر الاعتناء به، فالأشخاص الذي يستنتجون من تنوّع تفاسير التجربة الدينية نظرية التعددية يرون جوهر الدين نوعاً من التجربة، ونحن ـ وبهدف تسهيل البحث ـ سوف نطلق على هؤلاء إسم "التجربيون الدينيون" أو انصار المذهب التجريبي الديني، وهو مذهبٌ ترجع إرهاصاته بشكل رسمي إلى شلايرماخر، فشلايرماخر وبغية الإجابة عن المشكلات التي أشرنا إليها من قبل اعتبر ان جوهر الدين نوعٌ من التجربة الدينية([7])، ان أعمالاً ونتاجات برّاقة كالنجوم المضيئة من قبيل اعمال شلايرماخر في علم الكلام بقيت مجهولةً نتيجة شروق شموس ساطعة من امثال هيغل في الفلسفة، فشلايرماخر وهيغل كانا يعيشان في عصر واحد كما كانا يدرّسان في مكان واحدٍ أيضاً، بيد أن اهتمام علماء تلك المرحلة بانتاجات هيغل واعماله أدى الى حجب نظريات شلايرماخر واسدال ستار العتمة عليها، لكن ما حصل بعد ذلك هو أن اشخاصاً من أمثال رودولف اوتو وترولش وواخ استطاعوا اكتشاف نبوغ شلايرماخر، ومن ثمّ تمحور كافة هؤلاء حول المذهب التجريبي الديني الذي يرى جوهر الدين نوعاً من التجربة([8]).
ان التعددية الدينية نتيجةٌ منطقيةٌ للاتجاه التجريبي هذا، وطبيعةً نحن مطالبون هنا بتشريح استدلالاتهم، فالاتجاه التجريبي الديني يستبطن في اعماقه جملةً من النظريات التي لا يمكن التدليل على كيفية انبثاق التعددية الدينية من التجربية من دونها، وهذه النظريات عبارة عن:
1 ـ ان جوهر الدين نوعٌ من التجربة (وهي مسألة ترتبط بالمعرفة الظاهرتية).
2 ـ ان ثمة تمايزٍ بين التجربة وتفسيرها (البعد المعرفي الايبستمولوجي).
3 ـ ان العقائد والأعمال الدينية تعدّ تفاسير لهذه التجربة التي هي جوهر الدين([9]).
اذا اعتبرنا جوهر الدين نوعاً من التجربة وحصرنا الاختلاف في مرتبة التفسيرات لهذه التجربة فإننا سوف نخرج بالتعددية نتيجةً لذلك، فالعقائد التي تمثل تفاسير التجربة يمكنها ان تقبل الخطأ والاشتباه، وهي تشكّل اموراً عرضية وجانبية للدين، فجوهر الدين نوعٌ من التجربة، والاختلاف بين الاديان انما هو في مرحلة تفسير هذه التجربة أيضاً.
قلنا سابقاً بأن المبنى الاول (تنوّع الاستنتاجات الدينية) لا ينسجم والمبنى الثاني أي تنوّع تفاسير التجربة الدينية، ودليل هذا المطلب واضح، فالتدين ينتقل من النصوص الدينية الى تجربة المتدين التي هي امرٌ باطني بناءً على أن جوهر الدين نوع من التجربة، ومن ثمّ فإن الحديث عن الافهام المتنوعة بعنوان كونها افهاماً متنوعة للنصوص الدينية يصبح بلا معنى حينئذٍ.
إن هذه الافهام التي تسمّونها دينيةً انما هي في الواقع مجموعة من الافهام الأجنبية عن الدين، أي انها خارجةٌ عن جوهره، فإذا اردتم الحديث عن الافهام المتنوعة للدين فلا بد لكم من الخوض في فهم التجارب الدينية نفسها لا في فهم النصوص الدينية، وهذا هو بالضبط ما فعله شلايرماخر نفسه، فنقد النص في المسيحية أدّى الى بروز مشكلات كثيرة جداً أمام المتكلمين المسيحيين، والاتجاه التجريبي لشلايرماخر دفع الى نقل التدين من دائرة فهم النصوص الدينية إلى نطاق التجارب الدينية نفسها([10]).
هل يمكن استنتاج التعددية الدينية من التجربية الدينية؟ واذا كان هذا الاستنتاج صحيحاً فما هي مشكلاته؟
لا مفر للتجربيين الدينيين هنا من حالتين، إما ان يعتبروا التجربة امراً واحداً بحيث تشكّل جوهر كافة الاديان أو لا بأن ينفوا عنصر الوحدة في التجربة بحيث تصبح التجربة التي تمثل جوهر هذا الدين مغايرةً لتلك التي تمثل جوهر الدين الثاني وهكذا…، وهذا الترديد الذي اقوم ببيانه الآن انما هو بغية تكملة الموضوع، وإلا فكلام شلايرماخر ووالتر استيس والبقية معلوم ومعروف هنا، فالتعددية الدينية يمكن ان تكون نتيجةً منطقيةً للتجربية الدينية في الحالة التي يمكنها ان تمثل جوهر الدين بما يتمتّع به من عنصر الوحدة بين الاديان جميعاً، وفي هذه الصورة يكون اختلاف الأديان في مرحلة تفسير هذه التجربة الواحدة، والتفاسير خارجة عن جوهر الدين، وهي ـ أي التجربة الواحدة ـ التي تحقّق الهدف النهائي للدين، أمّا إذا لم يكن الدين نوعاً واحداً من التجربة فلا يمكن الخروج بالتعددية، ذلك أن الانحصاري يمكنه الهروب من ذلك بالقول بنوعٍ خاصٍّ من التجربة ـ والذي هو جوهر الدين الخاصّ ـ قادرٍ على تأمين الهدف النهائي من النجاة والسعادة دون بقية أنواع التجربة، وبالإضافة الى ذلك فإن ادعاء ان كافة أنواعٍ التجربة تؤمّن الهدف النهائي للدين هو بالدقة مدعى التعددية والذي جرى استدخاله في مقدمات البحث ببيان وصورة أخرى، فالتعددية يمكن انبثاقها عن التجربية الدينية حينما يكون جوهر كافّة الاديان نوعاً واحداً من التجربة، وفي الحقيقة فهذا هو بالضبط مدعى التجربيين الدينيين، (من الطبيعي عدم صحّة افتراض وضعٍ واحدٍ لكافة التجربيين الدينيين)([11])، والآن لنرى ما هو الفرض المستبطن في هذا النوع من التجربية الدينية.
ان التجربية الدينية تواجه العديد من المشكلات التي لن نخوض فيها فعلاً، لكننا نسعى لجلب نظر القارئ الى مسألة تمّت الإشارة إليها في نفس مقالة "الطرق المستقيمة"، ومن وجهة نظرنا فإن مؤلّف المقالة لم يتمكن من تصوّر نتيجة هذا المطلب تصوّراً جيداً، فإن واحداً من محصولات علم المعرفة الحديث هو هذا الأصل "التجربة بدون تفسير امرٌ محال"، أي انه ليس ثمة تجربة غير مفسّرة، ونفس هذا الكلام يحتوي على ابهامٍ بدرجة من الدرجات، والمقصود منه ان كل تجربة لها تفسير حتماً، والمسألة الاعمق من ذلك هو انه ليس ثمة تجربة بدون تفسير، وتفاسير فاعل التجربة تمنح التجربة نفسها تعيّناً، وكذلك رغباته وتوقعاته ومعلوماته وحتى لغته، فليست القضية هي تحقق التجربة لدى الفاعل في المرحلة الأولى ومن ثمّ العمل على تفسيرها في مرحلة متأخرة وفق أطر الفاعل التفسيرية، بل ان التفسير حاضرٌ في نفس التجربة ويشكّل جزءاً من حقيقتها.
وبالرغم من ان هذا الاصل المعرفي يطابق كلام "كانت" الذي نجده في ادراك المادة والصورة وانه ليس لدينا امكانية الوصول الى الشيء في ذاته العريان والخالي، بيد ان علماء المعرفة الحديثة وضعوا نقائص كلام "كانت" جانباً وقدّموا هذا الأصل بصورةٍ يمكن معها الموافقة عليه، وهذا الاصل يعدّ من اكثر المسائل المنتجة والمثمرة بالنسبة لفلسفة العلوم([12]) وفلسفة الدين، وهو يتجلّى بشكلٍ واضحٍ جداً في موضوع التجربة الدينية والتجربية الدينية.
ما هو تأثير هذا الأصل في التجربية الدينية وفي التعددية المتفرّعة عنها؟ ان التجربية الدينية ـ التي تعني كون جوهر كافة الاديان نوعاً من التجربة ـ تبتني على هذا الفرض وهو أن التجربة من دون تفسير ليست أمراً محالاً، فقد التزم شلايرماخر واستيس بهذا الكلام، ورأوا بأن أداتية العقائد الدينية ووضع هذه العقائد في رتبة تفسير التجربة هو بهذا المعنى، أي ان ثمة تجربة خام لا حضور فيها لتفاسير فاعل التجربة والتي هي ـ أي التفاسير ـ عبارة عن العقائد الدينية وحتّى اللغة والمعلومات الدينية.
فاستيس يعدّ من جملة الأشخاص الذين يرون جوهر الدين تجربةً عرفانية، فهو يصرّح بأن التجارب العرفانية المتنوّعة هي في الحقيقة أمرٌ واحد، وتمايزها انما يكون في مرحلة التفسير، أمّا التجربة الخام ـ العارية عن التفسير ـ فهي موجودةٌ وتعبر عن جوهر كافة التجارب العرفانية([13]).
واحدٌ من الذين تنبهوا لهذه النقطة بشكل جيد ـ واتخذ انطلاقاً من ذلك موقف والتر استيس ـ هو الفيلسوف الديني المشهور كاتز (S.Katz)، يقول كاتز بأنه ليست لدينا أي تجربةٍ غير مفسّرة، فهل ان تجربة العارف الهندوسي والمسيحي واليهودي واحدة؟ انّ التفاسير والعقائد الدينية لهؤلاء دخيلة في نفس التجربة، فالعارف اليهودي لا يمكنه ان يحوز تجربة الاتحاد بالله تعالى، لماذا؟ لأن نهاية التجربة التي يمكن للعارف اليهودي الإتيان بها انما هي تجربة الالتصاق بالله (deve kuth)، أي انه يرى في اعلى تجربته الله تعالى مجزءاً بشكل كامل ومغايراً لذاته، وهنا نسأل أيضاً لماذا؟
والجواب هو أنّ سرّ ذلك يكمن في حضور التفاسير في التجارب الدينية، ففي التقليد اليهودي وتعاليم التوراة هناك جنبة غيريّةٍ غالبةٍ وطاغيةٍ، ومن هنا فإن تجربة العارف اليهودي هي تجربة المحرومية من الله لا الاتحاد به تعالى([14])، اما العارف المسيحي فيمكنه ان يحظى بتجربة الاتحاد العرفانية، ذلك ان لهذا الموضوع جذوراً في التعاليم المسيحية، لكن تجارب العارف المسيحي هي ـ في الغالب ـ تجارب تشبيهة فيما تجارب العارف المسلم تجارب تنزيهية، وكل ذلك يعود للجذور الموجودة في تفسير العارف نفسه، ومن هنا فتجربة العارف لابد من تحققها من خلال معبر تفاسيره ومن ثمّ لابد أن تبدي نفسها عن هذا الطريق، ومن هنا لم تكن ثمّة إمكانية لاستنتاج التعددية الدينية بطرح استحالة التجربة بلا تفسير.
جاء في مقالة "الطرق المستقيمة" ما يلي: "واحدةٌ من الأعمال الهامّة المسندة للأنبياء (ع) تعليمُنا كيف يمكننا أن نفسر التجارب الباطنية التي نعيشها؟ ذلك أن هذه التجارب بالرغم من أن لها تفاسير متنوعة ومتعددة، وبالرغم من تقبلها لكل ذلك بيد أن هذا لا يعني أن كافّة هذه التفاسير حق وصحيح، إذن فهناك ممرٌّ آخر لورود التعدد والتنوع في الفكر الديني ألا وهو وضع عدة تفاسير لتجربةٍ واحدة، نعم، فسواء اعتبرنا التجربة الدينية تجربةً لأمرٍ واحدٍ نتج عنها كافة هذه التفاسير المتنوّعة أو اعتبرناها متنوّعةً ومتعددة بالأصالة فنحن نواجه على كل حال التعدد والتنوع الذي لا يقبل الاختزال في أمرٍ واحدٍ، وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار هذا التنوع وأن لا نغض الطرف عنه، ومن ثم فنحن مطالبون بنظريةٍ تفسّره وتشرح حدوثه"([15]).
يتضح من تعبير "وضع عدة تفاسير لتجربة واحدة" بشكل جلي ان الكاتب لا يملك تصويراً واضحاً عن هذا الأصل المعرفي، فإذا كانت التجربة مستحيلةً من دون التفاسير فهذا معناه انك حتماً تواجه تنوّعاً في التجارب، ولا يمكنك الحديث عن تجربة واحدة، وتنوّع التجارب يتطلب دليلاً، بيد أنه لا يشكل مبنى لنظرية التعددية، فإن الانحصاريين لديهم دليل ايضاً على تنوّع التجارب بيد انهم لا يلتزمون بالتعددية.
وجاء في موضع آخر من المقالة: "إن أوّل واضعٍ لبذور التعددية في العالم هو الله تعالى، وذلك حين أرسل أنبياء متعددين"([16]).
نعم إن الله تعالى أرسل اديان متنوّعة، بيد ان الالتزام بحقانية كافة هذه الأديان فعلاً انما هو غفلةٌ عن الجانب التاريخي للمسألة، فهل ان كافة الاديان ظهرت دفعةً واحدة؟ هل أطلّت اليهودية والمسيحية بشكلٍ دفعيٍّ معاً من هذا المرج العبق؟ ما الذي حصل وجعل المسيحية تبرز من ثنايا اليهودية؟
إن واحدةً من مشكلات التعددية الدينية التغاضي عن البُعد التاريخي للاديان ومحتوى تعاليمها، فهل كانت تعاليم المسيحية تعاليماً عالميةً؟ ان التعددية تقول اتركوا التعاليم جانباً، فهناك شيء تملكه كافة الاديان ويوصل الانسان الى المقصد النهائي! اما محتويات الاديان فهي امور لا أهمية لها أصلاً، إنها صنيعة الذهن البشري، فلو ان نبي الاسلام (ص) قرأ الصلاة بذاك الشكل وبتلك الدقة او قام بأعمال أخرى فلا فرق في ذلك من وجهة نظر الشخص التعدّدي، والاهمية إنما تكمن في ان الله يريد منك ان تقوم بمواجهة الوجود الاسمى والأرفع! فلسنا مضطرين للتقيّد باعمال دينية خاصة، إذ يكفي ان تذهب الى الكنيسة مرةً واحدةً كل اسبوع بدل ان تقوم باداء الصلاة الاسلامية، وهو ما يحقّق لك ايضاً الوصول الى الهدف النهائي الذي هو النجاة!
ذكرنا ان التعددية تغافلت الحقيقة التاريخية في الاديان، فإذا كان المسلم واليهودي والمسيحي يسيرون في مسير واحد وكان الاختلاف جانبياً فلماذا صنّف غير المسلمين (اليهود والمسيحيون) كأهل ذمة في الاسلام وعين لهم الرسول (ص) حقوقاً خاصة كما تمّ تحديد وضعهم في المجتمع الاسلامي؟ اذا كانت المسيحية توصل البشر هي ايضاً الى الهدف النهائي فما هي الدوافع التي دفعت النبي (ص) لارسال الرسل الى قيصر الروم المسيحي ودعوته الى الاسلام، فقيصر الروم كان وفياً للمسيحية. إن هذا معناه ان التفكير التعددي قد تجاهل الجوانب التاريخية والاجتماعية للاديان ومارس تفكيراً من نوع تخيلي فيما يرتبط بها([17]).
بين جون هيك وشلايرماخر
ان النتيجة التعددية لجون هيك تختلف عنها لدى أمثال شلايرماخر واستيس، فجون هيك يوافق على استحالة التجربة بلا تفسير بيد انه يتخذ طريقاً آخر لاثبات وشرح التعددية، وهنا نشير وبشكل مختصر لعدة نقاط محورية في فكر "هيك"([18]):
1 ـ ان الفارق الاساسي بين هيك وشلايرماخر يكمن في ان شلايرماخر يرى التجربة الدينية من مقولة الاحساس، وفارغة من أي جهاز مفاهيمي واعتقادي ديني، ومن ثم فهو يرى بأن المفاهيم والتعاليم الدينية انما هي تفاسير لتلك التجربة الفارغة غير المفسّرة، اما هيك فهو يعتقد بأن كافة التجارب تعد من مقولة التجربة المعرفية، لا من مقولة الاحساس، وهو يوافق على استحالة التجربة العارية من التفسير، ويتمسك هيك بتمايز وايتنغشتاين المتأخر بين الرؤية (seeing) والرؤيـة عـلى مـا هـو عليه(seeing-as ).
وبتحليل مفهوم "الرؤية وفق المقول" يرى هيك بأن كافة التجارب هي من نوع "التجربة وفق المقول" (expriencing-as) ([19])، والتجارب الدينية هي الأخرى تجارب منسجمة وتفسيرها، وهذا هو عين الاصل المعرفي القائل باستحالة التجربة بلا تفسير، ففعل التجربة مصاحب دائماً بالتفسير، كما ان فاعل التجربة يمارس تجربته مع التفسير لا انه يحقق التجربة في البداية ومن ثم يقوم بتفسيرها، وكما ان تجربة المؤمن هي "تجربة وفق المقول" فكذلك تجربة اصحاب الدنيا وتجربة الإنسي (المذهب الإنساني)، فالمؤمن يجرّب العالم بشكل ديني فيما العلماني بطريقةٍ علمانية، فكلاهما يجربان أمراً مبهماً، إذ في العالم نوعٌ من الإبهام، لكن تجربة المؤمن يصاحبها تفسير ديني، اما تجربة الدنيوي فهي تمر من خلال التفسير الدنيوي.
2 ـ اذا كانت كافة التجارب من نوع "التجربة وفق المقول" ـ أي ان التفاسير دخيلة في متن التجربة ـ فهذا يعني اننا نواجه تكثراً في التجارب الدينية، وهنا يتوافق هيك مع كاتز، فهذه التجارب لها متعلق أي انها تتحرك ناحية امرٍ محدد، فالمؤمن والمتدين يمارسان تجربة لشيء ما، المسلم يجّرب الله تعالى، واليهودي يجّرب يهوه، وكما قلنا في بداية المقالة لا يمكن الحديث عن التعددية من دون امتلاك نظرية ترتبط بجوهر الدين، ففي فكر هيك استبطنت نظرية خاصة متعلقة بجوهر الدين، حيث يرى هيك بأن الاديان المختلفة تعبر عن وقائع ومسارات متمايزة للتجربة الدينية كل واحد منها شرع في مقطع خاص متميز في التاريخ البشري، كما ان كل واحد منها حاز وعيه العقلي داخل المحيط الثقافي الخاص، وجوهر الدين هو المواجهة بين الانسان والوجود الإلهية في كافة الصور المختلفة للتجربة الدينية، والنظريات والآراء الكلامية ليست جوهراً للدين بل جوهره المواجهة مع الواقع المتعالي، فالبشر اصطنعوا بأنفسهم هذه النظريات والآراء الكلامية بغية اختلاق مكوّن مفاهيمي لهذه المواجهة، والتجارب الدينية والنظريات والآراء الكلامية غير منفصلين عن بعضهما البعض، بل هما كالدجاجة والبيضة يصعب الحديث عن الأوّل منهما، بيد أن الطرفين معاً يؤثران في بعضهما البعض ضمن كينونة واحدة ومشتركة.
3 ـ إن التجارب الدينية متكثرة ذاتاً وفقاً لنظر هيك، وعليه كيف يمكن استنتاج التعددية الدينية من بين هذه التجارب المتنوّعة؟ إن حلقة الوصل ما بين تعدد التجارب الدينية والتعددية الدينية هو النظام المعرفي الكانتي، فقد ميز "كانت" بين nomen وPhnomen ، وهكذا ميز هيك بين الحقيقة المتعالية في نفسها والحقيقة المتعالية كما تبدو في الأديان، وسرّ تفاوت الاديان هو هذا الأمر بالذات، وهنا لنا تعليقان مترابطان:
أ ـ إنّ النظام المعرفي الكانتي لا يمكنه حل مشكلة هيك([20])، فمسألة الدين والتدين مختلفة عن مسألة الوصول إلى كنه الواقع المتعالي (أو الله)، وفرضية هيك فيما يخص جوهر الدين لا دليل عليها، إذ كيف يمكن اثبات ان جوهر الاديان هو هذه التجارب المفسّرة التي تطابق الأديان المختلفة ومن ثم ان الهدف النهائي للأديان تؤمّنه نفس هذه التجارب المختلفة؟ ما نراه هو ان نفس هذا المطلب جرى استبطانه في التعددية ذاتها كما فرض في طيات كلمات جون هيك ايضاً([21])، فاذا لم نوافق على هذا الفرض وهو ان جوهر الدين هو هذه التجارب نفسها فلن تكون هناك اية ملازمة بين المقدمات المعرفية لهيك ونظرية التعددية.
ب ـ هل اننا لا نملك أي مفهوم واضح عن الله تعالى واننا في هذا الامر كالعمي؟ اذا لم نستطع نسبة أي مفهوم للحقيقة المتعالية فإن التمييز بين اعتقادنا واللاعتقاد يصبح امراً غير ممكن، وبعبارة اخرى اذا لم تكن لتفاسيرنا سبل الوصول الى الحقيقة المتعالية وكانت كلها مجرد امورٍ غريبة عنها اذن فما هو الفرق بين تفاسيرنا والتفاسير الإلحادية من حيث عدم المطابقة للواقع؟ إن تفاسيرنا وتفاسير الآخر سوف تكون بأجمعها غير صحيحة، وعليه فثمة مفاهيم يمكننا نسبتها للذات المتعالية ولسنا مجرد عمي إزاءها.
هل مولوي جلال الدين الرومي تعددي؟
المسألة الأخرى التي راج تداولها في مباحث التعددية هي أشعار مولانا جلال الدين الرومي، اننا نلاحظ استناداً لكلمات مولانا الرومي في كتابات جون هيك، وهو أمرٌ ـ من وجهة نظرنا ـ يندرج في الموارد التي يمكن القول فيها باستحالة وجود التجربة بلا تفسير، فجون هيك انسان تعددي، وهو يقرأ مولانا الرومي من منظار التعددية، لكن لا يمكن الحكم بهذه البساطة والسهولة على مولوي جلال الدين الرومي، فالرومي ذو فكر متماوج بحيث يصعب فهمه بسهولة، ومن هنا لا بد من الانخراط في السياق الفكري والتقليدي الذي ارتبط به مولوي وفي المحيط التاريخي الذي استقر فيه، كما لابد من الرجوع إلى المصادر الفكرية التي اغتذى منها، كل هذا لابد من التعرّف عليه بشكل جيّد، إذ ما أكثر ما تكون أشعار مولوي مضلّلة حينما لا يتمّ التعرّف على محيطه الفكري، ومن هنا لا يمكن استخراج عدة أبيات شعرية من السياق الفكري لمولوي ومن ثم إبرازها واستنتاج نتيجة اجنبية عن هذا السياق.
لو ان هيك مرّ على كتاب "فيه ما فيه" لمولوي لتنبّه إلى مدى سخريته بالعقائد المسيحية وهجومه العنيف عليها([22]) فهل هذا هو مولوي الذي تقولون عنه بأنه تعددي؟ إذا كان مولوي يرى تعدد الاديان تعدداً في وجهات النظر فحسب فلماذا كل ردّات الفعل هذه منه على العقائد المسيحية؟ من هنا يُعلم ان مولوي كان يلاحق حقيقةً أخرى، ولابد من البحث عن باطن كلام خاتم العرفاء في موضع ومكان آخر.
وقبل البحث في المباني التي استنتجت من مطاوي كلماته لابد من الاشارة الى وجهة نظر مولوي في جوهر الدين، فباطن اشعار مولوي لابد من التفتيش عنه في هذا الموضوع بالذات، لقد ارتبط مولوي بالمنهج العرفاني كما تابع وتتبّع المباني العرفانية في أشعاره، وقد تأثر مولوي جيداً بآثار الغزالي ومن ثم لفّق بين المباني العرفانية ونتائج فكر الغزالي، ويرى مولوي ـ ولعل اكثر العرفاء كذلك ـ بأن جوهر الدين هو تجربة الاتحاد العرفاني، إنه يقول في كتاب "فيه ما فيه": "كل علم يجري الحصول عليه في الدنيا فهو علم الابدان، أما العلم الحاصل بعد الموت فهو علم الأديان، إن علم انا الحق هو علم الابدان، اما صيرورة انا الحق فهو علم الأديان، رؤية النار ونور المصباح علم الابدان لكن الاحتراق بالنار او نور المصباح هو علم الأديان"([23]).
يعتبر مولوي أن جوهر الدين هو تجربة الاتحاد العرفاني "صيرورة انا الحق ـ واؤكد على قيد الحق ـ"، وتجربة الاتحاد العرفاني في اصطلاح "أتو" هي نوع علاقة بين الأنا والأنا، فهي حالة حضور لا غيبة، وهي ليست اثنينية وتكثر، "انا الحق" قالها فرعون كما قالها الحلاج، لكن فرعون لم يحظ بتجربتها ولهذا صار دانياً، اما الحلاج فقد نال التجربة واصبح صالحاً.
لقد قال فرعون أنا الحق (الله) فصار ذليلاً
أما المنصور (الحلاج) فقال أنا الحق ونجا
فتلك الأنا استتبعت لعنة الله
أما هذه الأنا فهي رحمة الله أيّها المحب ([24]).
فإذا كان الدين تجربة اتحاد عرفاني فليس فقط لا مجال لاستنتاج التعددية، بل ان اكثرية المتدينين سوف يخرجون حينئذٍ عن دائرة الدين، فكم هو عدد الاشخاص الحائزين على مثل هذه التجربة؟
مع الاخذ بعين الاعتبار ان مولوي والكثير من العرفاء يرون جوهر الدين تجربة اتحاد عرفاني يعلم حينئذٍ لماذا قسّموا التوحيد إلى قشر وقشر القشر ولب ولب اللب، فللعرفاء ايضاً نظام فكري خاص وهم ينظمون بقية أجزاء الدين وفقاً لنظريتهم في جوهره، والادلة على هذا الموضوع موجودة في كلمات مولوي وفي كلمات الآخرين أيضاً وبشكل كبير، ولا نريد فعلاً الخوض في ذلك.
ان قصة الفيل والعمي (ووفق عبارة مولوي الفيل في المنزل المظلم) انما تشير الى مبنى آخر للعرفاء، وهي اجنبية عن مدعى التعددية، فالعرفاء ـ ومن بينهم مولوي ـ لديهم آراء خاصة في مسائل المعرفة، فهم يرون أن الحس والمعرفة العقلية فيما يتعلق بالوصول الى الحقائق ومعرفة الله تعدّ وسائل عاجزة، ولذلك فإن مولوي نفسه يستنتج من هذه القصّة ما يلي:
إن عين الحس ككف اليد ليس إلا
والكفّ الواحدة لا قدرة لها على الوصول إلى الكل([25]).
فلم يكن نظر مولوي لما يقوله هيك أصلاً، هناك تعميم متسرع في مقالة "الطرق المستقيمة" في عملية الاستنتاج من هذه القصة([26])، انه يقول: "الرؤية الحسّية والتجريبية هما كالنظر في البيت المظلم إلى الفيل ليس لها قدرة الإحاطة بتمام المعلوم، وليس الحال كذلك في النظرة الحسية فقط بل النظرة العقلية هي الأخرى على هذه الشاكلة، وما دام الإنسان محصوراً داخل قفص بشريّته فإن حكمه سيكون كذلك"([27])، فنفس مولوي والعرفاء يقولون أيضاً بوجود طريق لواقعية الأشياء الا وهو الشهود والرؤية الباطنية، ويعبر مولوي عن هذه الرؤية الباطنية بعين البحر، ويقول في تكملة القصة المتقدّمة:
فعين البحر شيءٌ أما زبده فشيءٌ آخر
فدع الزبد وانظر بعين البحر([28]).
لابد من النظر الى الواقع بعين البحر لا عن طريق الحس ولا عن طريق العقل.
اما قصة موسى والراعي فهي تمثل شاهداً آخر على نظرية مولوي فيما يخص جوهر الدين، ولا تتعلق بتأمينه مبنى آخر للتعددية، فجوهر الدين هو نفس ذلك العشق العرفاني الموجود عند الراعي، ان مديحنا للرب تعالى انما هو كالصورة المرتسمة في المرآة او كصوتٍ منبعث من الناي([29])، واصل هذا الرسم هو ذاك الشخص الذي وقف قبال المرآة، كما ان اساس ذلك الصوت هو نفس الرجل الذي يعزف بالناي.
ومن هنا فكلمات الراعي غير المستساغة كان لها هي الاخرى أساس وأصل، وهو العشق لله تعالى، وما له قيمة إنما هو هذا العشق:
يا موسى، العارفون بالآداب نوعٌ من الناس
اما الذين تحترق نفوسهم وأرواحهم (بالمحبة والعشق) فهم نوعٌ آخر
فللعشاق احتراق كل آن
والعشور والخراج لا تفرض على قرية خربة([30]).
انظروا ماذا يستنتج مولوي من هذه القصة:
كن متنبّهاً حين تنطق بالحمد والثناء
واعلم انهما شبيهان بذلك الراعي
فإن بدت افضلية حمدك على حمد الراعي
فهو عاجز أبتر أمام الحق
فكم ستقول حين يرفع الغطاء
ليس هذا ما كانوا يظنون
إن قبول ذكرك هذا هو رحمة رخّص لك بها
تماماً كصلاة المستحاضة
إنّ صلاتها ملوثةٌ بالدماء
وهكذا ذكرك مشوبٌ بالتشبيه والكيف([31]).
ان ذكرنا الفاظ مشوبة بالتشبيه والكيف، ولابد في الذكر من دوران اللفظ حول المعنى حتى نعرف ان الله منزه عن تمام الصفات المادية والبشرية.
يريد مولوي من هذه القصة وضع يده على الجوهر الأصلي للعبادة أي العشق، انه يأخذ بيد السالك في تمثيلاته ـ وفي هذه القصة أيضاً ـ الى حقيقة العبادة التي هي التوجه الى المعبود وعشقه.
فثمة شيء آخر مستبطن ومختزن في ظاهرِ "اختلاف المنظر":
فمن وجهة النظر يا لبّ الوجود
حصل الاختلاف بين المؤمن والمجوسي واليهودي([32]).
ومولوي نفسه يشير الى طريق حل هذا الاختلاف حين يقول:
لو كان هناك رجلٌ من أصحاب السرّ لديه مائة لغة
لأقر الصلح فيما بينهم([33]).
ليس غرض مولوي من هذه القصة ـ ونظائرها المتكررة في المثنوي في مواضع متعددة وبعبارات متنوعة ـ موضوعة التعددية، وانما ضرورة وجود المرشد والدليل لك حتى يدل اتباع الاديان على حقيقة الدين والتي هي العشق والاتحاد العرفاني بالحق تعالى، ففي الكتاب الاول (من المثنوي) هناك ما يوضح ان مولوي لم يكن تعددياً، إذ إنه يرى اختلاف الاديان صنيعة بشرية:
لقد رأت الأمم على أنواعها العاقبة
فلا جرم إذا ما رجعت أسيرة للذلة
وليست رؤية العاقبة كالنسج اليدوي
وإلا فكيف وقع الخلاف بين الأديان ([34]).
ان الجوهر الاصلي لكافة الأديان الإلهية واحد، واذا ما كان ثمة اختلاف فهو نتاج ما نسجته اليد البشرية والتحريفات السيئة الإنسانية (ان الدين عند الله الاسلام)، ولذا فإن مولوي يستنتج مرة اخرى ضرورة وجود المرشد للسالك الى الحق، وبقرينة نظائر هذا البيان يتضح عدم اعتبار كافة وجهات النظر وزواياه إذ إن بعضها من نسج اليد البشرية، فإذا كان ثمة شيخ مرشد فإن حقيقة دين المؤمن واليهودي والمجوسي سوف تتضح وسوف ينفرز الغل والغش واللاخالص حينئذٍ.
وعلى كل حال فتعددية مولوي أو عدمها قضية تستدعي تفصيلاً آخر، لكن ثمّة مسألة واضحة وهي انه لا يمكن بهذه البساطة وبوضع اليد على عدة ابيات شعرية واستخراجها وعزلها من سياقها الخاص وعن المحيط الفكري لمولوي نفسه، لا يمكن نسبة شيءٍ ما الى مولوي.
ولا بد من اضافة نقطةٍ أخرى وهي اننا سواء اعتبرنا مولوي تعددياً أو لا فإن هذا ليس له تأثير على بحثنا، فالمسائل الفكرية والعقدية لا يمكن حلها عن طريق بضعة ابيات شعرية([35])، والاساس هو ان نعثر من بين اشعار مولوي على مباني خاصة تشكل دليلاً على التعددية، والمباني التي ذكرت في مقالة "الطرق المستقيمة" ليست سوى استحسانات وغير قادرة على تأمين أسس لنظرية التعددية.
المبنى الثالث: الذي جرى طرحه (بالاستفادة من اشعار مولانا الشجاعة والحماسية المثيرة) يشير إلى طريقة أخرى جديدة "ترى الحرب بين موسى وفرعون حرباً حقيقيةً من زاويةٍ، لكنها من زاوية أخرى صراع تضليلٍ وتحايل وتلاعب بالناس وأمثال ذلك، وهي تفضي في نهاية المطاف إلى إلقاء نوعٍ من الحيرة من جهة، وفتح المجال لعرفاء السر الباطنيين للعثور على الكنز المقصود في أماكن الخراب المغفولة دون اعتناءٍ بالنزاعات من جهةٍٍ أخرى… هذه الرؤية تأخذ نزاع الفِرق والأديان بشكلٍ جادٍّ، لكنها ترى المعنى والغاية خارج هذا النزاع، لا في انتصار واحدٍ من أطرافه على آخر، كما أنها ترشد إلى ضرورة أخذ درسٍ آخر من هذا التعدّد والتفرّق، وهو حيث يكون هناك تزاحم في هذا العالم فإن ثمّة إخفاء وتغطية للسرّ والجوهر، والعقل العارف بالسرّ هو ذاك الذي لا يخدع بهذا الأمر، بل يسعى ويجدّ في استخراج الكنز فيما الآخرون مشغولون بنزاعاتهم وخصوماتهم، ليكشف ويفتح السرّ والخفي وليأخذ ويختطف الجوهر والكنز"([36]).
يستنتج مولوي من ظهور المطلق في المقيد هنا نتيجةً عرفانيةً، ثمّة قصّة أخرى في هذا المقطع لا ربط لها بالتعددية، نعم إنّ في هذا التحايل نوعاً من إلقاء الحيرة، لكن ثمة كنز مقصود على السالك ملاحقته وتتبع أثره، ففي كل نزاع استبطن سرّا هناك كنزٌ مقصود، إن لمولوي هدفاً آخر من وراء هذه الأشعار والابيات الاخرى اللاحقة، إن الحروب بغية التعلقات المادية، والرجل الحق الذي يرى الكنز المقصود في الفناء في الله تعالى لا بد له ان يكون فارغاً من هذه الحروب، ان رجال الحق الذين وصلوا إلى مرحلة الفناء في الله يتنفرّون من أولئك المغرورين بأنفسهم والعابدين للدنيا، وموسى بالرغم من دعوته فرعون الى الله تعالى كان يبعد فرعون في قلبه بالعصا وينحيه جانباً.
لا تقل إنّي فارٌّ من الفناء والعدم
بل الفناء هو الذي فرّ منك عشرين مرّة
إنه في الظاهر يدعوك إليه
لكنه في العمق يبعدك وينحّيك بعصا الرد
واعلم يا سليم القلب أن عناد فرعون لموسى
إنّما هو كالنعلين المعكوستين ([37]).
فالنفرة في الواقع من جانب موسى (ع)، بيد أن المظهر الخارجي له شبيه بعمل السارقين الذين يعكسون نعل الأحصنة حتى يشتبه الأمر على الذين يلاحقونهم، اذن فهذه النزاعات وهذه الحروب كلها نزاعات مادية لا ربط لها بالدعاوي المتعارضة للأديان، وعلى السالك ان يفرّغ نفسه عن نزاعات هذا العالم حتى يتوجه ناحية الكنز المقصود، وروح الكلام هو ان تشبيه الدعاوى المتعارضة للأديان بهذا النزاع تشبيه مع الفارق، ففي كل مكان من هذا العالم ثمة تزاحم موجود وهناك سر مختزن ايضاً لكن لا يمكن استنتاج ضرورة تنحية النزاعات جانباً والبحث عن الكنز في مكان آخر في كل موضع تنازعت فيه أطراف، فالتعدديون والانحصاريون يرون ـ على السواء ـ كنزهم المقصود في الاديان، بيد ان التعددي يقول: تمسّك بأيٍّ منها تصل الى الكنز، اما الانحصاري فهو يقول: من بين الجميع هناك واحد فقط يمكنه ان يوصلك الى الكنز المقصود، وفي هكذا نزاع لا يمكن البحث عن الكنز مع تجاهل النزاع نفسه.
المبنى الرابع: هو غرق الحقيقة([38])، ان تراكم الحقائق وتداخلها والتحير الحاصل في مقام اختيارها امر لا علاقة له بمسألة تنوّع الاديان، كما أن التعددية لا تشكل حلاًّ له، فاذا كنتم ترون بان العالم ليس خطاً مستقيماً واحداً ومئات الخطوط الملتوية والمنحنية وانما هو مجموعة من الخطوط المستقيمة او بعبارة اخرى مجموعة من الحقائق فهذا يعني ان التعددية قد اخذت في كلامكم فرضية مسبقة مسلّمة، فالانحصاري يقول بان هناك خطاً مستقيماً واحداً فيما يقول التعددي ان هناك مجموعةً من الخطوط المستقيمة، وعليه فكيف تثبتون بان العالم مجموعةٌ من الخطوط المستقيمة لا خطٌ واحد؟ ان هذا الذي فرضتموه أمراً مسلماً هو بعينه محل النزاع.
كما أن اعتبار القرآن الانبياءَ على صراطٍ مستقيم (الصراط المستقيم) ليس بالمعنى الذي ذُكر وهو ان كافة الأديان الموجودة هي خطوط صحيحة ترسم الطريق الى الهدف النهائي([39])، لقد كان كل الانبياء على صراط مستقيم لكن الدين الحقيقي عند الله هو الاسلام )ان الدين عند الله الاسلام(بل إن كافة الاديان كانت في هذا المسير أيضاً، لكن لا يمكن من خلال كون الانبياء جميعاً على صراط مستقيم استنتاج ان كافة الاديان في الواقع هي خطوط مستقيمة، اذ لابد من التوجّه للحقيقة والبعد التاريخي للاديان نفسها، فهل ان الجوهر الأصلي للمسيحية واليهودية والتعاليم والتوجيهات النبوية لانبياء من امثال عيسى (ع) وموسى (ع) قد بقيت كما هي ودون نقص أو طارىء؟ اذا كانت هذه التعاليم وعلى طول التاريخ قد نزلت في هالةٍ من الإبهام فهل ان الانبياء (عليهم السلام) كان يهدفون الى القيام بإظهار وجودي وفقط؟ أي يريدون فقط ان تسير الناس وتسجل نفسها في هذه التقسيمات المتنوّعة!
علاوةً على ذلك، إن مسألة غرق الحقيقة في بعضها مسألة لا علاقة لها أصلاً بتنوّع الاديان، فمقام التدين غير مقام الوفاء للهندسة المعرفية، ان بنية الواقع ليست سهلة وبسيطة فللواقع صفحات ظاهرة وباطنة سطحية وعميقة كما ان كافة الحقائق ليست سهلة وبسيطة الانكشاف، لكن التدين ليس هو المعرفة والوصول الى بنية الواقع، وليس جوهر الدين هو المعرفة بجهاز الحقائق والوفاء للواقع وعالم العين، ان الدين هو النسخة من الدواء التي وضعها الباري سبحانه في اختيار البشر وتصرفهم حتى يصلوا بتطبيقها الى الهدف النهائي، فالدين ليس الوصول الى المعرفة النظرية فيما يخص حقائق العالم وليس امتلاك المعرفة الكاملة بكنه الذات الإلهية، بل هو الوفاء لبرنامج النجاة والصلاح، والوفاء لذلك ليس وصولاً لحقائق العالم([40]).
المبنى الخامس: هو ان "الطلاب الصادقون ـ ضمن أيّ عنوانٍ انضووا وتحت أي لواءٍ ساروا وبأي مسلكٍ ومذهبٍ تعلّقوا ـ يُرشَدون من بعيد إلى الهداية، ويوصَلون إلى المقصد والغاية"([41]) إن مسألة اختيار الشيخ لا تصلح مبنى للتعددية، فاختيار الشيخ توصيةٌ يوصي بها كافة العرفاء.
لا تطوِ هذه المرحلة دون مرافقة الخضر
إنها الظلمات، فخف من خطر الضلالة
لماذا يوصي العرفاء بـالشيخ؟ ان وجود شيوخ الطريقة ومرشدي الحقيقة أمرٌ ضروريٌّ، كما ان تشخيص الطريق التي يمكن سلوكها من الحفر والآبار لا يتسنّى لأيّ إنسان، لابد من وجود اشخاص كبار يرشدون الطالب وسالك الطريق إلى الحقيقة حتى يتحدّد الطريق الذي عليه طيّه، وبالاضافة إلى ذلك لابد من ضبطهم الواردات القلبية أي تجارب السالك وتفاسيره، اذن فضرورة وجود اساتذة روحيين لم يكن بمعنى إمكانية وصول أي انسان إلى النجاة عن طريق أيّ مسلك أو مذهب، بل إن وجود الاساتذة والمرشدين الروحيين انما هو ضروري لكي لا يقوم سالك طريق الحقيقة بتحميل وفرض أي تفسير على تجربته، فمع الاستعانة بالكبار يتم التعرف على الصحيح من السقيم، وكذلك على مكر الشيطان الذي ينصب كمائن كبيرة في طريق السالك، ان حضور المرشد في كافة المراحل امرٌ مفيد للسالك وهو يجعل الوصول إلى الهدف بالنسبة إليه اكثر سهولةً، فالمرشد محكّ التجربة الذي لابد للسالك من موازنة ومقارنة تجاربه وفقه.
المبنى السادس: هو التمسك باسم (الهادي)، بمعنى أنه اذا لم نوافق على التعددية فإن اسم الهادي والهداية الإلهية لن يكون متجلياً، وكيد الشيطان سيصبح قوياً فيما ستضيق دائرة الرحمة الواسعة.
هنا لابد أن نسأل ما هو المقصود من الهداية؟ هل المراد من هداية الله بيانه الطريق، أي تدليله البشر وارشادهم الى طريق وصولهم الى هدفهم النهائي أو أن المراد من هداية الله ايصاله الى المطلوب، أي ان يأخذ بيد البشر ويوصلهم بنفسه الى المقصد النهائي؟ ان ثمة فارق بين الايصال الى المطلوب وبيان الطريق للوصول إليه، فإذا فسرنا الهداية بمعنى الايصال الى المطلوب النهائي فإن هذا التزام بان الهداية الالهية سوف توصل الانسان في نهاية المطاف ـ بأي شكل وضمن أي طريق ـ إلى الهدف النهائي، فالله يأخذ بيد البشر ويجرّهم خطوةً خطوة إلى الهدف، واذا كانت الهداية بهذا المعنى فمن غير الممكن معها عدم وصول انسانٍٍ إلى الهدف النهائي، فنتيجة هذه الهداية هي الوصول حتماً الى هذا الهدف، واذا تحققت هذه الهداية ـ وكنا انحصاريين لا تعدديين ـ فلابد لنا من الاعتراف بهزيمة المشروع الالهي وفشل الانبياء الإلهيين، بيد ان هذا التصوير نفسه عن الهداية الإلهية غير صحيح أصلاً، فإذا كان العالم ساحةً للامتحان واختيار البشر فإن الهداية لن تكون بهذا المعنى، بل ستعني بيان الطريق، وهي بالتالي لن تنافي الإنحصارية الدينية، ذلك انها تعني ارشاد الباري تعالى الناس إلى الطريق المستقيم نحو الهدف النهائي، فالهداية ليست اكثر من ان الله تعالى يرشد الناس الى الطريق، فاذا كان كافة من في الارض كفّاراً فإن الهداية الالهية ستكون متحقّقة بالرغم من ذلك، والضلالة التي تقع مقابل هذه الهداية تعني عدم بيان الطريق، والانحصاري ـ كما التعددي ـ ينكر مثل هذا النوع من الضلالة.
يفهم ويتضح من الكلمات الواردة في نفس مقالة (الطرق المستقيمة) وكذلك من اجوبة الدكتور سروش على ابهامات هذه المقالة ومبهماتها انه لم يتم تحديد واضح وصحيح لمسألة الهداية الالهية، فقد جاء في الجواب عن ابهامات هذه المقالة ما يلي: "انطلاقاً من هداية الله للناس وكونه ـ على الاقل ـ كالام المشفقة على أولادها… لا يمكنه الجلوس والتفرّج على التزوير والتلاعب ببضاعة الهداية وسرقتها وبقاء المحتاجين والمشتاقين لها عطشى فارغي الأكف فيما تؤخذ منهم نعمة السعادة الأبدية، ان دوره بذلك يبقى فاشلاً، فكيف لا يمد يد الإصلاح من عالم قدرته إلى الخارج، ولا يسرع في مساعدة المظلومين والمحرومين، فكّروا في السعادة الابدية ولا تتعاملوا معها كبضائع بخسة القيمة، كيف يمكن لله الرحيم ان يُحرَم أكثر مخلوقاته ـ وبسبب قطّاع الطرق ـ من هذه النعمة الفاخرة التي هي اعظم نعمة، ثم ولا يفكر بوسيلة توصد أمامهم (قطاع الطرق) الأبواب"([42]).
اذا كان هناك مكان لاختيار البشر في ساحة الامتحان هذه فإن الهداية الإلهية تقتضي قبل ذلك ارشاد الانسان الى طريق سعادته، فاذا تقرّر ان يسدّ الله الرحيم بنفسه الطريق على قطّاع الطرق فأين هو إذن الاختيار البشري؟ هل تنكرون ان كل هذا العدد الكبير من الانبياء والاولياء الالهيين قد قتلوا وقطعت رؤوسهم أو انهم تعرّضوا للاسر والاعتقال؟ اذن كيف ينظر الله المشفق كالام على اولادها الى هذه الغلبة لحزب الشيطان؟ وكيف لم يحُل دون تحقق هذا الأمر؟ ألا يتنافى ذلك مع الرحمة الواسعة والهداية الإلهية؟
ان طرح مسألة الهداية الالهية بهذه الصورة يتنافى مع مبنى آخر اشار له نفس الدكتور سروش في موضع آخر، إنّه يرى ان تجربة العرفاء هي جوهر التديّن، ويعتقد بأن الدين الفقهي انما هو قشر لنشاط هذا الجوهر([43])، حسناً اذا جمعنا كافة عرفاء الاديان المختلفة فكم سيبلغ عددهم يا ترى؟ النتيجة هي انه سيجري في كل دين استبعاد شريحة كبيرة جداً من المتدينين، ألا ينافي هذا الرحمةَ الواسعةَ الإلهية وهدايته العاشقين؟ اذا اعتبرتم التجربة العرفانية جوهراً للدين فأنتم لا تملكون عدداً يوازي انصار دين واحد من بين الاديان فكيف بكافة اتباع كل الاديان حتى يستفيدوا من النجاة، اذا كانت مشكلة التعددية تؤلم قلب الجميع ويتحرّقون من أجلها فلا يمكنكم اعتبار التجربة العرفانية جوهراً للدين.
وأرى من اللازم الاشارة هنا الى نقطتين أخريتين في ذيل الحديث عن المبنى السادس هما:
النقطة الاولى: ونريد ان نشير في هذه النقطة الى نوعٍ من المغالطة المبثوثة في روح وثنايا أطروحة (الطرق المستقيمة)، وهي مغالطة جرى توظيفها بشكل أكبر في المبنى السادس، فالمؤلف وبدلاً من الاستفادة من المفردات المحمّلة بالمعاني والمفاهيم كما وبدلاً من إقامته استدلاله على المعاني ركّز كل سعيه وجهده على توظيف المفردات القيمية، وهي مفردات يمكنها ان تحرّك العواطف وتشلّ حركة القراء من الناحية السيكولوجية بيد أنها لا تؤمن دليلاً منطقياً، ولهذا يشكل المضمون القيمي للمفردات مانعاً أمام طلاب الحقيقة([44])، فهل انه وبمحض مفردات من امثال الهداية والتعددية وضعف كيد الشيطان وبسط يد الرحمة الإلهية على رؤوس الناس يمكن حل مسألة بهذه الدقة؟ لماذا كل هذا الابهام في اطروحة الطرق المستقيمة؟ ان سرّ هذه الابهامات هو هذا الاساس العام، فبدلاً من الاعتماد على مفردات محملة بالمعاني وتنقيح الادلة بشكل دقيق جرى اغراق المفردات القيمية للمفردات المعنائية، وحتى على صعيد ما كتبه الدكتور سروش حول الجواب عن ابهامات التعددية كان هذا الوضع هو الغالب والطاغي أيضاً، ولذلك لم يرفع هذا الجواب الابهام عن المقالة الاساسية، فما دمنا نوظف هذا المنهج فلن يتم حل أي مشكلة بأي جواب آخر، بل ستضاف المزيد من الابهامات الجديدة مما لا نهاية له بعد ذلك.
النقطة الثانية: جاء في تكملة هذا المبنى ما يلي: "ليس الكلام في تخلّي أتباع الديانات المختلفة ـ ومن دون سببٍ ـ عن الأعمال والآداب والعقائد الخاصّة التي يرونها ليحصل الانسجام والتناغم والتشابه بين الجميع، وإنما في ضرورة النظر بعينٍ أخرى إلى الكثرة والاختلاف العقائدي والسلوكي، وعدم حصر جوهر الهداية في التعاليم الكلامية ـ الفقهية الصرفة، وعدم توهّم أن أيّ شخصٍ يحمل مجموعةً من المعتقدات الخاصة في ذهنه (الشيعة أو السنة أو البروتستانت أو الكاثوليك أو…) هو المهتدي والناجي فيما البقية ضالون هالكون، فعلينا ببُعد النظر في قراءة العمل والطلب والمعاناة…"([45]).
وبالإضافة الى مغالطة المفردات القيمية هناك مغالطة اخرى في هذا النص، فالدكتور سروش يتحاشى التساهل والتسامح في العقائد والأعمال والحال انهما لازمين للتعددية، اذا كنتم تعددين فلا يمكنكم جعل الأعمال جوهراً للتدين، بل إن التعددية تعني ـ أساساً ـ تهميش الاعمال الخاصة بالنسبة للدين نفسه، ومعه فما هو الدافع بعد ذلك لمدّ النظر والتطلّع ناحية العمل؟ اذا كانت كافة الاديان مفضيةً في النهاية إلى الهدف النهائي فلا فرق بين التقيد بالآداب والاعمال الاسلامية أو تلك المسيحية، وما يكفي فقط حينئذٍ هو الجوهر المشترك بين الاديان كافة، فهداية الله تعالى هي من السعة بحيث تشمل الجميع! ولذلك لا يمكن بالشرح والتفصيل والتبجيل والتمجيد رفع هذا الثقل عن كاهل التعددية على صعيد هذا النوع من التساهل.
لكن الدكتور سروش يستعين في جوابه على ابهامات التعددية بمغالطةٍ أخرى، وهي مغالطة التوسل بذو الحدين الجعلي (غير الحقيقي)([46]) إذ يريد بذلك إثبات ان "تعدد الاديان والفرق والمدارس الفكرية ينبع اما عن علّة أو دليل، ولا يخرج عن هذين الأمرين (والحق أن تنوّع الآراء لدى الخواص له دليل أما لدى العوام فهو ذو علة) فإذا كنا نملك دليلاً فقد وصلنا إلى تعددية معقولة ومستدلٍّ عليها لابد لنا من الانحناء بحكم العقل أمامها، واذا لم نكن نملك هذا الدليل (أو نملك أدلةً باطلة وهي في الواقع حينئذ ليست أدلة وانما علة) ففي هذه الحالة ألا يحق لنا التفكير في أن هذه التعددية معلّلة، وهي كبقية الشؤون البشرية (اللون، الشكل، العرق، اللغة و…) مما أعطاه الله تعالى ومما أراده، وما دامت اسبابه باقية فإنه سيبقى هو أيضاً… ولذلك لابد لكم من الاعتراف به" ([47]).
أولاً: ان الدكتور سروش وباتهامه القائلين بمعلولية التنوع بالعامية قام بنوع من التسرّع والعجلة، وكان يريد بذلك اقفال الطريق على قبول التعليل، وهذا في حد ذاته مغالطة أخرى([48]).
ثانياً: إن هذا من معادلة ذو الحدين الجعلي، إذ لا يمكننا استنتاج الاعتراف بالتنوع من كونه معللاً، ان الانحصاريين يوافقون على ان هذا التنوّع له علة (لا دليل) لكن مع ذلك هل ان كافة تنوّعات هذا العالم هي حق وصحيحة؟
من الطبيعي انه لابد من البحث عن العوامل والعلل بحثاً تاريخياً وفهم اسرار ذلك، لكن تنوّع الاديان ليس كتنوع اعراق البشر وامثال ذلك، فالتنوع اللغوي والعرقي لابد من الاعتراف به، لكن مجرد امتلاك العلة لا يوجب الاعتراف بأيّ تنوّع.
المبنى السابع: عدم خالصية أمور العالم، وقد أوضح الدكتور سروش مبناه هذا بقولـه: "ليس الكلام هنا في أصل الأديان والذي هو عين الحق، وإنما في فهم البشر وفي المذاهب الدينية المختلفة الخليط ـ دائماً ـ من الحق والباطل"([49])، وهنا نلاحظ مجدّداً أنه قد جرى التعميم ـ وبتسرّع ـ في هذا المبنى أيضاً، فإذا كانت كافة امور العالم غير خالصة أي لا عرق خالص ولا لغة خالصة، وكان كافة علماء الطبيعة يعترفون بعدم الخلوص والصفاء على مستوى أي ساحة من ساحات الطبيعة، فإن هذا لا ربط له بمسألة تنوع الأديان، لنفرض أن كافة امور العالم غير خالصة لكن ما هو الدليل على أن كافة الاديان حق وانه ليس هناك ما هو خالص فيها، ان تشبيه الاديان بالامور الطبيعية للعالم هو تشبيه مع الفارق، ففي الدين لابد من وجود ما هو خالص والا فلا تتم الهداية الإلهية، فإن بيان الطريق هو بتحديد الله سبحانه اياه بشكل دقيق، واختلاط الافهام حول الاديان مع الباطل ليس دليلاً على التعددية، فاذا كانت كافة الفهوم مخلوطاً من حق وباطل فما هو الموجب والدليل على اعتبار كافة الطرق وتصحيحها؟ ان هذا الفرض لا يتضرّر به الانحصاري ابداً، فالطريق المستقيم في الواقع طريق واحد، لكن فهم كافة الناس مشوبٌ بالباطل.
وهكذا الحال في كلام أميرالمؤمنين (ع) فإنه لا يدل على اننا لا نملك حقاً خالصاً، وإنما يدل على أن المضلّلين ـ وبهدف تبريرهم الباطل الذي هم عليه ـ يخلطون باطلهم بشيء من الحق، ومن هنا كان العثور على الحقيقة لطلابها أمراً صعباً، فهم (أهل الباطل) يقرؤن آيات الحق ويستندون الى الروايات لكن ثمة باطل مستبطن عندهم يريدون أن ينفذوه للناس "لو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين".
وتكملةً لهذا المبنى ولاجل ان يبرر الدكتور سروش مدعى التعددية ويجعله أكثر قابلية للاستيعاب والتقبل يشير الى سلسلةٍ من الحقائق التاريخية من قبيل ذهاب وضياع بعض الروايات، وحرمان الشيعة من الاستفادة من محضر الأئمة وغير ذلك، لكن هذه الأمور لا تنفع التعددية في شيءٍ أبداً، ذلك أنه اذا كان ادعاؤكم هو ان باب الوصول الى الواقع اصبح منسداً واننا لا نملك أي طريق للوصول وفهم الحقائق الدينية فإن هذا نفسه بحاجة الى اثبات، بل هو ـ وكما ذكر في علم اصول الفقه ـ نظريةٌ باطلة، نعم صحيح ان يد التحريف البشري امتدت إلى الاديان وهو مما يراه الانحصاريون سبباً لتنوّع الاديان نفسها، لكنهم يقبلون بوجود بضاعة الآخرة من بين هذه البضائع واننا نملك طريقاً بالمقدار الكافي لوضع اليد على هذه البضاعة بالرغم من كثرة الوضع في الروايات، وبالرغم من إغلاق الباب (الدرس) وإبقائه موصداً أمام الإمام الصادق (ع) و…، لكن قسماً مهماً وجديراً بالالتفات قد وصل الينا من التعاليم التي علّمها الائمة (عليهم السلام) لأصحابهم، وهذا المقدار يمكننا ـ ببركة تحقيقات علماء الدين ـ تمييز الصحيح فيه من السقيم، ولازم الهداية الإلهية هو ذلك أي ان يكون عندنا في نهاية المطاف مقدار لازم على رغم كل المخالفات التي وقعت من قبل البشر وباختيارهم، ولعل المشكلة التي يراها الدكتور سروش في طريق هروبه من الانحصارية هي هضم الكثرة، فالكثرة كاللقمة من الطعام التي تعلق بالبلعوم بحيث ان تقبلها يجعل هضمها اكثر طبيعةً وسهولةً ما سيفتح الطريق نحو الانسانية([50])، ويقول الدكتور سروش في ختام هذا المبنى: "إن الدعاة والمدّعين والمتكبرين والخياليين أولئك الذين ملأ رؤوسهم الكبرياء الشديد ليس لهم قدرة ولياقة الجلوس مع الآخر على طاولةٍ واحدةٍ وفي مصافٍّ واحد، وهم يجرّبون في وحدتهم العجيبة مرارة الحرمان من المحبة"([51]).
ان هذا الكلام غير اللائق يؤدّي إلى تسميم الفضاء الفكري، ففي الامور الفكرية يجب تجاوز الكلمات غير اللائقة، والابتعاد عن التقييمات الأخلاقية القيمية، وكما قلنا من قبل، هذا العمل يؤدّي الى سدّ الطريق على طلاب الحقيقة ويسمّم المياه الصافية لها، والافضل من ذلك هو تجنب هذا النوع من المغالطات واستبداله بطرح الاستدلالات المنطقية، أفهل يعاني الانحصاريون والتعدديون من مشكلةٍ أخلاقية؟ ان هذه اشكالية خطيرة جداً وفائقة الأهمية، ومن هنا نرى من الأنسب بحث كافة الادلة التي ابرزها الطرفان والعمل على قراءتها ومناقشتها.
المبنى الثامن: انتماء كافة الحقائق إلى أسرة واحدة، ليس هناك حقّ لا انسجام ولا تناغم بينه وبين الحق الآخر، ان كافة الحقائق تجلس شرفةً واحدةً وتسكن مجرّةً فاردة([52]).
اذا كنتم من القائلين بالحقائق لا الحقيقة فهذا معناه انكم سلمتم ومنذ البداية بمدعى التعددية وفرضتموه مسلماً، فالانحصاري لا يرى ان لدينا حقائق بل حقيقة واحدة، اذن فهذا المبنى يتضمن مصادرةً على المطلوب.
ويتضح من الشرح الذي ذكره الدكتور سروش في ذيل هذا المبنى ان هذا المبنى هو نفس تلك المطالب التي كان قد ذكرها من قبل ومن ثم عاد لتكرارها هنا: "إن الوظيفة التي لا يمكن تركها لأيّ محقّقٍ طالبٍ للحقيقة هي الاستمرار في حلّ جداول الحقائق ووزن الهندسة المعرفية وزناً دائما"([53])، وكما قلنا مراراً، التدين ليس موازنةً للهندسة المعرفية دائماً، بل إنه حلّ لجدول النجاة لا الوصول والعثور على الحقائق النظرية لواقع العالم، ففعل التدين ليس تشييد مبنى المعرفة وانما ـ صرفاً ـ الهدف النهائي للدين، فالمعرفة النظرية التي هي الحصول على الحقائق امرٌ فيما التدين امر آخر([54]).
المبنى التاسع: عدم الانسجام والتناغم ما بين القيم والآداب والفضائل، يقول الدكتور سروش: "لم يقم برهان على أن العدل والحرية مثلاً قابلين للجمع، بل إن كافة التجارب البشرية تشهد على تعارضهما، ومن هنا يصل أفراد المجتمع في نهاية المطاف إلى التخيّر بينهما واختيار واحدةٍ منهما على الأخرى"([55]).
ويقر الدكتور سروش في اجاباته عن مبهمات التعددية بأن التجربة البشرية تحكي عن كثرة القيم والتفاسير وعدم الصلح فيما بينها وهذا نوع من الاستقراء([56])، وهنا يطرح التساؤل التالي وهو كيف يمكن استنتاج التعددية الدينية عن طريق عدم قابلية تحويل الكثرات القيمية الى وحدة؟ فهل كلما عثرتم على عالم كثرة غير قابل للتحويل ـ وبدليل الاستقراء ـ فلا بد ان يكون ذلك دليلاً على التعددية الدينية؟ هل يدعى الانحصاريون بان جوهر التدين هو جمع كافة الفضائل والقيم؟ ان التدين شيء والانسان الكامل ـ بالاصطلاح الصوفي ـ شيءٌ آخر، إن جوهر الدين من وجهة نظر الانحصاريين ليس جمع الفضائل والقيم حتى تقولوا لا يمكننا جمع كافة القيم في مكان واحد وأن البشرية لم تنبئنا حتى اللحظة عن هذا الأمر في تجاربها.
اذا كان يمكن ان يكون هناك ولو انسان كامل واحد فمن المعلوم إذن ان جوهر الدين ليس جمع كافة القيم، ان التكاليف حسب الطاقة )لايكلف الله نفساً إلا وسعها( فالمطلوب هو كل ما يقع في حدود الوسع الانساني لا كافة قيم العالم، وكما ذكرنا في بداية المقالة لم يجر تصوير صريح وواضح وصحيح في مقالة "الطرق المستقيمة" لجوهر الدين والتدين، ان عليكم أولاً تحديد جوهر الدين ومن ثم تنظرون هل ان عدم امكانية جمع القيم له ارتباط بجوهر الدين أو لا؟ وعلاوة على ذلك فإن بعض القيم قابلة للجمع، والكلام يتركّز على هذه القيم القابلة للجمع فهل انها قابلة للجمع عن طريق دين واحد أو عن طريق كافة الاديان؟ وعليه فلا يمكن استخراج تعددية الاديان من تكثّر القيم.
اذا لاحظنا جمع القيم في جوهر التدين يتضح جلياً الفارق بين مسألة الانسان الكامل وقضية جمع القيم، فما يلاحظ في التدين هو حد النصاب للقيم القابلة للجمع، اما في تحقق الانسان الكامل فلابد من طرح اجتماع كافة القيم، ودليل هذه المطالب واضح، وكما قلنا فإن القدرة والوسع تؤخذ في التكاليف.
المبنى العاشر: وهو عبارة عن عليّة تدين أكثرية المتدينين لا دليلية هذا التدين([57]) "أما الأفراد العاديّون الذين يمثلون الطبقة الوسطى في المجتمع فالكثير منهم أسرى العلل لا الأدلة والمبرّرات العلمية، إنهم هم من يملؤ هذا العالم… ما هي تلك الأمور التي يفتخر بها مثل هؤلاء المجبورون المقيّدون المسجونون (والذين هم نحن) على بعضهم البعض؟ وعلى ماذا يلعنون بعضهم البعض؟"([58]).
هذا المبنى لا ربط له بالتعددية أيضاً، فنزاع التعدديين والانحصاريين منحصر في الجواب عن السؤال التالي: هل ان الهدف النهائي يؤمّنه دين واحد أو ان كافة الاديان تساهم في الإيصال إليه؟
فالانحصاري لا يقول ان الوصول الى الدين الحق يجب ان يكون عن طريق الدليل حتماً، واذا ما كان دينكم علياً لا دليلياً فإن هذا الدين لن يقدر على ايصالكم للهدف، بل إنه يرى بأنك لو وضعت قدمك على الصراط المستقيم ـ سواءٌ عن طريق العلة أو الدليل ـ فقد نلت حظاً من السعادة، فإذا كان جوهر الدين قد لوحظ فيه الوصول عن طريق الدليل فيمكن القول بان تدين الكثيرين علّي لا دليلي، لكن هذا القيد باطل في حدّ نفسه، فجوهر الدين له تأثيره الخاص سواءٌ حصل عن طريق العلة أو عن طريق الدليل.
نعم ثمة تمايز بين الحالتين بلحاظ الدرجة والمقام، وكمثال فإن تدين ابو ذر الغفاري يغاير تدين سلمان لكن جوهر الدين متحقّق فيهما معاً.
هذا ولكن الدكتور سروش وبإثارته الناحية الاخلاقية القيمية قام مجدداً بتلويث البحث، وابتلي مرّةً اخرى بمغالطة "تسميم البئر"، انه يوصي القراء أن يكونوا متواضعين ذلك ان الجميع اسرى العلل… أفهل لدى التعدديين والانحصاريين مشكلة اخلاقية؟ هل ان الانحصاريين متكبرون اما التعددين فمتواضعون ومتألمون للغير؟ لا يصح التوسّل بالقيم الاخلاقية لحل المسائل الاعتقادية والعلمية، ان النزاع ما بين التعدديين والانحصاريين يقوم على مسألة فائقة الأهمية، فالكلام يدور حول ترسيم هندسة النجاة وهي قضية أكثر أهمية من إكمال جدول المعرفة وترسيم هندستها، ان البحث قائم حول الشقاوة والسعادة الأبدية، وعليه فاذا ما أبدى الانحصاري حساسيةً في هذا البحث فإن ذلك ناشيءٌ عن أهمية المسألة، ومن هنا يجب التدقيق اكثر في هذا الموضوع.
وفي نهاية هذه المقالة ارى من اللازم الاشارة الى عدة اشكالات عامة على مقالة "الطرق المستقيمة"، وكذلك على "الجواب عن ابهامات التعددية" وهي:
1 ـ لقد جرى في هذه المقالة تقييم غير محايد فيما يخصّ التعددية، فإذا ما كان من المقرّر البحث حول التعددية بشكل تحقيقي فلا بد من بيان أدلة الطرف الآخر ودراستها، وإلاّ فإن مجرد ذكر عدة مباني للتعددية دون أدلة الطرف الآخر لا ينمّ سوى عن عدم العناية بروح الموضوع وجوهره، فأدلة الطرف المقابل جرى بيانها في أكثر الكتب المرتبطة بالموضوع، ولذلك لابد من دراسة وتحقيق قوتها وضعفها أيضاً.
2 ـ ان المباني المختلفة التي ذكرت للتعددية ـ والبعض منها تكثير لا مبرر له ـ لم يجر تفصيلها وتشريحها بشكل دقيق، فلو ان كافة المقدّمات اللازمة جرى تحليلها بشكل دقيق كما وبُيّن الترابط ما بين المباني والتعددية نفسها بشكل واضح فإن كافة هذه الابهامات التي حصلت للقرّاء لم تكن لتحصل أساساً، ان الابهام أجمل لباس ألبست به هذه المقالة، والاصل الذي هو البيان الدقيق للمقدمات صار كبش فداء للفرع الذي هو مجموعة المطالب الهامشية.
3 ـ مع الاسف جرى استخدام المفردات والتعابير المحمّلة بالقيم بشكل كبير جداً، وذلك غفلةً عن ان التمسّك بمثل هذه المفردات لا يشكل دليلاً على نظرية التعددية حتى لو أمكنه تأمين سبب للاعتراف بها، إذ لا يجوز تلويث الماء الزلال للحقيقة بالوحل وأشكلة محاكمة الموضوع أمام القرّاء.
* * *
الهوامش:
* – هذه المقالة نقد على مقالة "الطرق المستقيمة" التي كتبها الدكتور عبدالكريم سروش في مجلة كيان العدد 36، ومن الطبيعي اننا نتعرض هنا للخطوط العامة والكلية ونتجنب الخوض في التفصيلات والقضايا الجزئية.
[1] – مجلة كيان، العدد 36 ص2، والمبنى الأول (نظرية القبض والبسط) هو مبنى نفس كاتب مقالة الطرق المستقيمة، وكما يعرف القراء المحترمون فإن هذا المبنى لم يستحكم بنفسه بعد بيد اننا نفرضه صحيحاً ونقيم بحثنا على اساس هذا الافتراض.
[2] – م . ن: 4.
[3] – أي ان جوهر الدين هو الافهام المتنوعة اضافة الى الاعمال الدينية أو انه فقط الاعمال الدينية.
[4] – فكما بينا ظهر ان التعددية الدينية ليست نتيجة للقبض والبسط، ومن وجهة نظرنا هناك نوع من مغالطة القياس المضمر غير المقبول (Unacceoted enthymemes)، ولاجل اتضاح هذه المغالطة والمغالطات القادمة يمكن الرجوع الى:
Madsen Pirie, The Book of the Fallacy, 1985, Routledge and Kegan paul.
[5] – يراجع بهذا الصدد، ويليام هوردرن، راهنماي الهيات بروتستان، ترجمة طاطه وس ميكائيليان.
[6] – ولابد من اضافة امر وهو ان التعددية الدينية الداخلية يمكن ان تنتج حينما يكون هناك نص او نصوص واحدة بين الفرق، فإذا كان النزاع بين الشيعة والسنة فإن تفسير الفخر الرازي والميزان سيتصلان بنص واحد أي القرآن، وهنا يمكننا القول بان كافة الافهام صحيحة، ولكن القرآن الذي يمثل عنصراً مشتركاً مجرّد قسمٍ من النصوص الدينية، فالشيعة يتمسّكون بفهم "اصول الكافي" اما السنة فبفهم صحيح البخاري ومسلم و… وعليه فهذه الموارد لا يمكن استتنتاج التعددية الداخلية الدينية منها.
[7] – من وجهة نظر شلايرماخر جوهر الدين هو احساس الاتصال بالمطلق.
[8] – ان التجربيين الدينيين مختلفون فيما بينهم في تحديد التجربة التي تقع جوهراً للدين، فعلى سبيل المثال يرى "أتو" جوهر الدين نوعاً من التجارب المعنوية، اما من وجهة نظر والتر استيس فجوهر الدين هو التجارب العرفانية.
[9] – ان التجربية الدينية تعتمد على نظريات اخرى لم نتعرض لها هنا لكننا بحثناها في كتاب "تجربة ديني".
[10] – راهنماي الهيات پروتستان، ص41.
[11] – إحدى نقاط ضعف مقالة "الطرق المستقيمة" من وجهة نظرنا هو هذه النقطة بالذات، وهي انه بالرغم من ان كلمات استيس وجون هيك ومولوي قد جرى استعراضها في المقالة لكن الكاتب لم يأخذ بالحسبان التمايزات الموجودة بين هذه المواقف بل ساق الجميع بمساق واحد، والحال أن تفاوت نظر هؤلاء مؤثّر في نظرية التعددية الدينية.
[12] – يتمسك المخالفون للاستقرائية السطحية والابطالية في فلسفة العلم بهذا الاصل، وهو اصل يضرب أساس الوضعية المنطقية أيضاً، فالوضعيين المنطقيين يفرقون بين مقام جمع المعطيات ومقام محاكمتها، لكن ـ وببركة هذا الاصل ـ يتضح أن مقام الجمع غير موجود، وكلا المقامين هما مراتب للتفسير مع فارق ان التفاسير ذات حضور اكبر في مرتبة المحاكمة منها في مرتبة الجمع، ان كل مشاهدة تمثل حملاً من النظريات (Theory – laden).
ولمزيدٍ من الاطلاع على نتائج هذا البحث في فلسفة العلم يمكن الرجوع الى:
Growth of Knowledgws ed. By lmre Lakatos ALAN Musgrave, 1970, Cambridge Vniversity press.
[13] – راجع: استيس، عرفان وفلسفة، ترجمة بهاء الدين خرمشاهي، ص21 ـ 28، الطبعة الثالثة، 1988م، انتشارات سروش.
[14] –
pp. 20 My sticism and philosophical analysis, ed. By steven Katz,
. 87 Newyork, oxford vniverity press, 1978
[15] – كيان العدد 36: 5.
[16] – م . ن : 7.
[17] – لا نريد الخوض هنا في أدلة الانحصارية، لكن النظر الى تاريخ الاديان والمجتمعات التي ظهرت فيها هذه الأديان يفتح الطريق بشكلٍ واسعٍ، بيد أنّ التعددية تغافلت عن هذا الجانب كلّه.
[18] – افضل كتاب كتب حول التعددية، وجرى فيه تفصيل آراء هيك هو:
John Hick, problems of religious plvyalism, Neuyork, 1985.
John Hick, An interpretation of reliyion, 1989, yale university press.
[20] – يلاحظ وجود نقد لنظرية هيك في اكثر الكتب المرتبطة بالتعددية.
[21] – لهيك بيانٌ يستنتج منه ان العقائد الدينية لا يمكن أن تكون جوهراً للدين، وقد قمت بنقد هذا الرأي في كتابي "تجربة ديني".
[22] – كتاب فيه ما فيه، مع تصحيحات وحواشي بديع الزمان فروزانفر، ص124 ـ 125، انتشارات امير كبير، 1990م.
[23] – م . ن : 228.
[24] – المثنوي، الكتاب الخامس، البيت: 2035 ـ 2036.
[25] – المثنوي، الكتاب الثالث، البيت: 1269.
[26] – إن Hasty generolizotion تعد واحدةً من المغالطات غير الصورية، وهي تحصل في صورة أخذ نتيجة كلية من حالةٍ خاصة.
[27] – كيان، العدد 36 : 6.
[28] – المثنوي، الكتاب الثالث، البيت: 1270.
[29] – إن الأنفاس التي ينفثها عازف الناي فيه
هل تنتسب للناي؟ كلا، إنها تنتسب للرجل نفسه
المثنوي، الكتاب الثاني، البيت: 1793.
[30] – المثنوي، الكتاب الثاني، البيت: 1764 ـ 1765.
[31] – المثنوي، الكتاب الثاني، البيت: 1794 ـ 1798.
[32] – المثنوي، الكتاب الثالث، البيت: 1258.
[33] – المثنوي، الكتاب الثاني، البيت: 3687.
[34] – المثنوي، الكتاب الأول، البيت: 491 ـ 492.
[35] – لابد لنا من كشف مغالطة أخرى موجودة في مقالة "الطرق المستقيمة"، ان مولوي عارف وشاعر كبير، وانا شخصياً لدي علاقة غير عادية بآثاره ونتاجاته، لكن الاستعانة بأشعار مولوي في بحث التعددية تعدّ من نوع مغالطة التوسّل بمرجعية غير مناسبة (Appea to inapropriat authority)، فعلى سبيل المثال يعدّ انشتاين عالماً فيزيائياً كبيراً جداً، لكن الاستعانة بكلماته في بحث وجود الله تعد من نوع مغالطة التوسّل بمرجعية غير مناسبة، فإذا كان انشتاين اكبر علماء الفيزياء في كافة الاعصار فهو ليس متكلماً، ولذلك لا يمكن حلّ مسألة كلامية من كلمات عالم فيزيائي، اننا نتوقع من انشتاين ان ينفعنا في دائرة تخصصه، وهكذا مولوي فإذا كان عارفاً وشاعراً كبيراً لكنه ليس متكلماً، واساساً مولوي فرّار من العقل لا محارب له، ولا علاقة له بالبحث العقلي، بل هو يرى مجال عمله متجاوزاً للعقل نفسه.
ممارسوا الإستدلال ذوو قدم خشبية
والقدم الخشبية غير متينة بل قد تنكسر
وبهذا يعلم ان كلام مولوي هنا ليس حجةً، فبالرغم من كونه عارفاً كبيراً ويملك اجمل واروع واعذب بيان لكن رأيه ليس حجةً في البحوث الكلامية والفلسفية، ان الكلام والفلسفة دائرةٌ أخرى ولها متخصّصوها، ومن الطبيعي ان هذا الامر لا ينقص من قدر مولوي أو انشتاين لكن من الضروري فرز التخصّصات عن بعضها.
[36] – كيان، العدد 36 : 9.
[37] – المثنوي، الكتاب الأول، الأبيات: 2479 ـ 2481.
[38] – كيان، العدد 36 : 9.
[39] – م، ن : 9.
[40] – ان مسألة غرق الحقائق لها نكتة عرفانيةٌ اخرى عند مولوي ولا علاقة لها بالتعددية الدينية، لابد من النظر الى اشعار مولوي بعين عرفانية، كما ومن اللازم تحديد الموقع الفكري الذي استقر فيه.
[41] – كيان، العدد 36 : 11.
[42] – كيان، العدد 37 : 58.
[43] – لقد بيّن الدكتور سروش هذه النقطة في محاضرةٍ له في مدينة كليولند تحت عنوان "حول المستويات المتعدّدة للتديّن"، وقد جرى تعريف هذه المحاضرة في مجلة كيان، العدد 36 : 58.
[44] – هذه المغالطة تسمى بمغالطة (Loaded words) وقد جرى الاهتمام بها في الدراسات المتعلّقة بالفكر النقدي.
[45] – كيان، العدد 36 : 12.
[46] – تؤثّر مغالطة ذو الحدين الجعلي (Bogus dilemma) في القياس ذو الحدّين، ويتشكل قياس ذو الحدين من قضيتين شرطيتين وقضية فصلية، وروح القياس ذي الحدين عبارة عن امتلاكنا عدة شقوق، وكافة هذه الشقوق تنتهي بنتيجة واحدة، ومغالطة ذو الحدين الجعلي تحصل في حالة ما إذا كانت الشقوق اكثر مما جاء في المقدمة الفصلية أو ان تذكر لمقدم الشرطية توالي كاذبة، ويمكن للقرّاء المحترمين وبهدف المزيد من الاستيضاح الرجوع الى كتب المنطق.
[47] – كيان، العدد 37 : 59.
[48] – تسمى هذه المغالطة وأمثالها بمغالطة تسميم البئر (Poisoning the well)، فالشخص في هذه المغالطة وقبل ان يتكلم مخالفه بأية كلمة يرتب كلماته بشكل يفقده الاعتبار، وبالتالي المجال للاعتراض، وعلى سبيل المثال يقول: "افهل الانسان احمق حتى يعتبر القضية كذا وكذا…".
[49] – كيان، العدد 36 : 12.
[50] – لا حظوا العبارتين التاليتين: "وعندما نذعن لهذا الأمر فسوف يتسنّى لنا هضم الكثرة بشكلٍ أكثر سهولةً ومألوفيةً واستساغة" (كيان، العدد 36 : 12)، و "…هذا التواضع وقلّة الادعاء يجعل الخطاب والحوار مألوفاً وميسراً، ويفتح الباب أمام التعدّدية الإنسانية والدينية" (كيان العدد 36 : 13).
[51] – م، ن.
[52] – م، ن.
[53] – م، ن.
[54] – ويستمّر الدكتور سروش في تكرار هذه المغالطة في طيات هذا المبنى فيقول: "…لا الشعور الخالد بالرضا بحقّه المزعوم والجلوس فارغاً وعدم الاطلاع على ما عند الآخرين" (م، ن: 13).
[55] – م، ن : 14.
[56] – كيان العدد 37 : 60.
[57] – كيان العدد 36 : 15.
[58] – م، ن.
* * *