أحدث المقالات

مدخل:

1 ـ المشروعيّة التاريخيّة للحكومة العلوية
عقب مقتل عثمان بن عفّان وبقاء الخلافة وإدارة الأمور من دون تولّي، تجمّعت النخب والخواص من الشخصيات البارزة للمهاجرين والأنصار وبقية الأفراد النافذين في المجتمع الإسلامي في تلك البرهة من الزمن إلى جانب عددٍ كبيرٍ من أبناء مدينة الرسول (ص) في مسجد النبي (ص) بهدف التفكير في حلٍّ للمسألة والقيام بالاستشارات والمشاورات اللازمة في هذه القضية الهامّة والحيويّة، وقد غصّ المسجد بالحاضرين…
وعلى اثر اقتراح وإرشاد البعض من الخواصّ والسابقين في ساحات الإيمان والجهاد من أمثال عمّار بن ياسر وابن التيهان وأبي أيّوب الأنصاري، وكلماتهم المضيئة فيما يتعلّق بفضل وسابقة وجهاد وقرابة أمير المؤمنين (ع)، تبلورت الاستعدادات المتراكمة بفعل أحداث خمسٍ وعشرين سنة الماضية فاتفقت كلمة الجميع على علي (ع)، لقد تدفّق الناس من الخواص والعوام إلى منزل أمير المؤمنين (ع) كسيلٍ جارفٍ من العواطف والاحساسات، وتجمّع هذا الحشد الكبير على باب منزله واضعين الإمام (ع) بكلمتهم الواحدة تحت الضغط ليقبل بتولّي منصب الحكومة والولاية… تلك هي الحادثة التي حصلت للمرّة الأولى والأخيرة في تاريخ الخلافة(1).
يقول الإمام (ع) في وصف هذه البيعة: "وبسطتم يدي فكففتها ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداكّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى انقطعت النعل وسقطت الرّداء ووطئ الضعيف وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير وتعامل نحوها العليل وحسرت إليها الكعاب"(2).
إنّ الخطوة الأولى للإمام (ع) تمثّلت في رفضه اقتراح البيعة والخلافة له؛ فقد كان (ع) مطّلعاً على الأوضاع، ولم يكن يرى الأرضية الاجتماعية مهيئةً للقيام بإصلاحات والرجوع إلى الخطوط الأصلية المرسّمة في الكتاب الإلهي والسنة النبوية، وكان يعلم بأنّ تغيّرات المجتمع قد بلغت من كثرة التبدّلات والتنوّعات ما بلغت كما وغطت الفتنة كلّ مكان، و بدا مسير الحركة مجهولاً غامضاً بحيث فقد المجتمع قدرة تحمّل القيم العلوية والعودة إلى مرحلة الرسول (ص)، لقد قال (ع) في بيان رفضه هذا: "دعوني والتمسوا غيري… وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خيرٌ لكم منّي أميراً"(3).
إلا أن ذلك لم يُنه ضغط الشعب مما جعل الإمام مضطراً لقبول البيعة والحكومة، إلا أنه قال: "فإن بيعتي لا تكون خفيةً ولا تكون إلا في المسجد"(4).
ووفق نقل البعض من المؤرخين تمّت البيعة يوم السبت الواقع في التاسع عشر من ذي الحجة من سنة خمس وثلاثين للهجرة، لقد كانت بيعةً علنيةً وواضحةً للخليفة الرابع بعد رسول الله (ص) حيث اتجه الجميع من شبّان وشيخ، رجال ونساء، مهاجرين وأنصار إلى المسجد، لقد جرت البيعة بمشاركةٍ سياسيةٍ منقطعة النظير ولا سابق لها ممزوجةً بالعشق غير الموصوف وأمام أعين الجميع، واستقرّت بالتالي قواعد الحكومة العلوية مع هذه المشروعية التاريخيّة انطلاقاً من الانتخاب الحرّ ومن إرادات الشريحة الكبرى في المجتمع، لتتلألأ وتبعث بنورها الوضّاء إلى كل مكانٍ(5).
إنّ النقولات الحاكية عن مبدأ شروع ومشروعيّة الحكومة العلوية في التاريخ لا تحكي عن اختلافٍ بين الفرق الاثنين والسبعين للمسلمين، بل إن التأييد العام كان هو الدعامة لهذه الخلافة.
 
2 ـ المشروعية العلم اجتماعيّة للحكومة العلويّة
المقصود من المشروعية العلم اجتماعية هو مبدأ القبول والاعتراف بالسلطة والاقتدار السياسي لدى مختلف شرائح المجتمع؛ فطبقاً لفكر ماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني المعروف فإن الحكومات التي تريد أن تحوز طاعة المواطنين لها تسعى لتبرير سلطتها وإبرازها على أنها سلطةٌ مشروعةٌ، وبحسب رؤية "فيبر" العلم اجتماعية تمنح السلطة نفسها المشروعيّة عن طريق أحد أمور ثلاثة هي: الطريق التقليدي، الطريق الكاريزمي والطريق العقلاني ـ الحقوقي.
والنقطة المهمّة في تحليل العنصر المشترك في كلمات فيبر هي أن نظرته لمسألة المشروعية إنما هي نظرةٌ علم اجتماعيّة، أي أنه يرى "المشروعيّة" بنحوٍ لا تختلف فيه كثيراً عن "المقبوليّة"، فقد كان فيبر بصدد العثور على جوابٍ لهذا التساؤل وهو أنّه كيف تكتسب السلطات المختلفة المقبوليّة لدى الشعب وما هو الطريق الذي تتبعه بهذا الصدد وما هي التبريرات التي تقدّمها لذاتها أمامهم؟ انه يرى أن هذه الطرق الثلاثة المذكورة هي الجواب عن تساؤله هذا(6).
ووفقاً للمقدمة السابقة كيف يمكن تفسير مقبولية الحكومة العلوية لدى أفراد المسلمين؟ ومعرفة أنه عن أي طريقٍ جرى اكتسابها للمشروعية العلم اجتماعية؟ إذ إن الجواب عن هذا السؤال ليس بهذه الصعوبة، ويمكن الادعاء بأن الرؤى ـ من ناحية علم اجتماعية ـ متوحّدةٌ ومتّفقةٌ أيضاً فيما يتعلّق بأساس مشروعيّة الحكومة العلوية، فبالإضافة إلى أن الخصوصيات الشخصية والفردية لهذا الإمام (ع) من حيث العلم والشجاعة والتدبير والتقوى ومن حيث السوابق التاريخية لا سيما ما يعود إلى زمن رسول الله (ص) قبل الهجرة وبعدها، وما يتعلق ببروزه في معارك بدر وأحد وخيبر وفتح مكة من جهة وقرابته وقربه من رسول الله (ص) وكونه من قريش ـ حيث تروي مصادر أهل السنة أن "الأئمة من قريش"(7) ـ من جهةٍ أخرى… بالإضافة إلى أن كل ذلك قد هيئ الأرضية المناسبة للاعتراف التقليدي والكاريزمي به (ع)، إلا انه على أية حال فان الشيء الذي يمثل محور المشروعية الاجتماعية لحكومته (ع) هو تلك البيعة والموافقة من جانب الشعب لا سيما من شورى المهاجرين والأنصار.
من وجهة نظر علم الاجتماع السياسي فإنّ ما حدث مع الإمام (ع) في يوم البيعة في الساحة السياسية للمدينة المنوّرة كان إلى حدٍّ معينٍ من نوع المقبولية العقلانية ـ الحقوقية، وهو أمرٌ استثنائي ولا مثيل له خلال مئات السنين من عمر الخلافة سواء في ذلك قبله أو بعده (ع)، كما هو الحال في اعتماد الإمام (ع) ومراراً على هذه المشروعية الاجتماعية لحكومته، فقد أعلن وبالصوت العالي في قبال الناقضين للبيعة من أمثال طلحة والزبير، قائلاً لهم: "أمّا بعد فقد علمتما وإن كتمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتـى بايعوني، وإنكما ممّن أرادني وبايعني، وإن العامّة لم تبايعني لسلطانٍ غالبٍ (غاصب) ولا لعرضٍ حاضرٍ…" (8).
يبرّر الإمام (ع) في هذا النص المتقدّم سلطته وحاكميته ببيعة الناس وتقديمهم إياه لتسلّم الولاية، ويعرّفها كنوعٍ من المقبولية العقلانية ـ الحقوقية، إلا أنه وعقب الخطبة الأولى للإمام (ع) بعد البيعة هبّت رياح المعارضة له، كما أن الأشخاص الذين شعروا بأن منافعهم غير المشروعة مهدّدة بالخطر قاموا بالعمل على الفتنة لدى سماعهم الخطوط العامة لحكومة الإمام (ع)، ليحدثوا بذلك أزمة مقبوليّة لهذه الحكومة(9).
 
3 ـ المشروعيّة القانونيّة للحكومة العلويّة
إن البحث عن المشروعية القانونية إنما يعنى بالإجابة عن التساؤل التالي ألا وهو هل أن الحكومة مطابقة للقانون أم لا؟ وهل يُجيز القانون مثل هذه الحكومة؟ مع غض النظر عن حقانية وعدم حقانية النظام القانوني الحاكم على المجتمع والاعتقاد بصحته وعدم صحته، فإنه ولأجل الحيلولة دون وقوع الهرج والمرج وبهدف تأمين الأمن والاستقرار والهدوء والمصالح العليا، على كلّ الأشخاص الذين قبلوا الحياة داخل المجتمع أن يرتبطوا بالنظام القانوني الحاكم وأن يكون لهم إزاءه التزامٌ عمليٌّ، حتى لو كانوا يرونه من الناحية النظرية والفكرية غير صحيح؛ ومن هنا يطالب الكفّار الذمّيّون الذين وافقوا على العيش داخل المجتمع الإسلامي بالتدليل على التزامهم العملي بشرائط الذمة والقوانين الحاكمة على المجتمع الإسلامي حتّى ينعموا بالاستفادة من العطاءات القانونية للمجتمع والاستظلال بمظلة الهدوء والأمن والاستقرار والدفاع عن حقوقهم، حتّى لو كانوا غير معتقدين في تصوّراتهم الخاصة بهذه القوانين، والشيء الذين نلاحظه اليوم أيضاً في دساتير البلدان المختلفة إنما هو نموذجٌ آخر لهذا الواقع فإن كافّة الفئات والاتجاهات ـ وبقطع النظر عن الرؤية الكونية والبنى الفلسفية والمدرسية التي تؤمن بها ـ ملزمةٌ بالاعتراف بالدستور وبالتدليل على ارتباطها به حتى لو لم تكن قد وافقت عليه.
وطبقاً لهذه المقدمة لابد في مقام الإجابة عن التساؤل المتقدّم وهو ما هي المشروعيّة القانونية للحكومة العلوية؟ من القول بأنه بعد رحيل رسول الله (ص) تمّ الاعتراف بشكلٍ معيّنٍ للخلافة كما تمّ منحه الاعتبار والقانونية ألا وهو انتخاب الخليفة عن طريق شورى المهاجرين والأنصار، وذلك بالرغم من أن هذه الطريقة لم تكن محلّ قبول الكثير من الصحابة وأعيان المهاجرين والأنصار ولم يكونوا يرونها حقّةً ومشروعةً، إلا أنها كانت تعدّ المنشأ الوحيد للمشروعية القانونية للحكومة والخلافة، أي أن الحكومة التي كانت تتمّ عن طريق شورى المهاجرين والأنصار كانت تتسم بالمشروعية القانونية، وهذا المبنى القانوني قد تمّت الموافقة عليه من قبل الجـميع طوعـاً أو كرهـاً.
ومن هنا فليس ثمّة اختلافٌ بين المشروعية القانونية للحكومة العلوية والمشروعية القانونية لحكومة الخلفاء السابقين، نعم هل أن الإمام (ع) وكذلك الموالين له كانوا يعتبرون هذا النظام القانوني السالف الذكر حقاً أو لا؟ وهل أنهم كانوا يرون له المشروعية القانونية أو السياسية أو لا؟… إن هذه مسالةٌ أخرى موكولةٌ للأبحاث القادمة، إلا أنّ هذه الطريقة كانت هي الطريقة الجارية والمعترف بها، كما أنّ الإمام (ع) كان يحتجّ بها على مخالفيه من أمثال معاوية، فإنّ معاوية لم يكن من أولئك الذين حضروا يوم البيعة في المدينة كما أنه لم يبايع الإمام (ع) إلا أنّ الإمام كان يدعوه ـ مع ذلك ـ في رسالته إليه ـ والتي يشير فيها إلى المشروعية القانونيّة المتقدّمة لحكومته ـ إلى اتباعه وإطاعته: "إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار"(10).
نعم هل كان احتجاج الإمام هذا برهانياً أو جدلياً؟ إن ذلك موكولٌ للمباحث القادمة، إلا أنه على أية حال كاشفٌ عن المشروعية القانونية لدولته (ع).
إنّ من النقاط المثيرة للتعجّب فيما يتعلّق بالحكومة العلوية هو أنّ حقانية هذه الحكومة مؤمّنة ومضمونةٌ طبقاً لكافة المباني، وهي معدودةٌ من إجماعيّات كافّة الفرق الإسلامية، ومن هذه الجهة يمكن مقايسة الحكومة العلوية بالحكومة النبوية فقط لا غير، وعلى خلاف حكومة الخلفاء الثلاثة السابقين ـ والتي لم تحز على إجماعٍ من هذا القبيل فيما يتعلّق بحقّانيّتها ـ لم تتمكّن التساؤلات والاستفهامات من مواجهة حقّانية الخليفة الرابع، لأنها كانت عميقة ومستحكمة على مستوى مشروعيّتها القانونية، لاسيما بالنسبة لأولئك الذين كانوا يرون حقّانية الحكومة قائمةً على الشورى.
 
4 ـ المشروعيّة الدينية للحكومة العلويّة
المقصود من المشروعية الدينية كون الحكومة مورداً لتأييد الشريعة الدينية، واعترافها بالسلطة وتصرفاتها في أموال ونفوس الناس. ليس ثمّة اختلاف نظري بين المسلمين فيما يتعلّق بالمشروعية الدينية لحكومة الإمام علي (ع) وفي أن دولته قد أمضيت من قبل الشرع أو لا؟ فقد قبل السنة والشيعة ـ متفقين ـ مشروعيّتها الدينية، إلا أنه ومنذ صدر الإسلام وحتى اليوم طرحت رؤيتان متفاوتتان حول تفسير هذه المشروعية انطلاقاً من الاختلافات البنيوية بين الشيعة والسنة في مسألة الإمامة، والنزاع التاريخي القديم بين هاتين الطائفتين ينبعث متبلوراً من هذه النقطة بالذات، فباستثناء بعضٍ من الخوارج الذين يرفضون مبدأ لزوم الإمامة توافق بقية الفرق الإسلامية على أصل ضرورتها ووجوبها(11)، وذلك مع تفاوتٍ يكمن في أنّ الشيعة يرون وجوب النصب والتعيين على الله تعالى(12)، وحيث إن وجوب شيء على الباري تعالى يعني الضرورة الوجودية وظهورها من ناحيته فإن الإمامة سوف تصبح وفق ذلك من المسائل الكلامية(13)، وذلك بخلاف قاطبة أهل السنة فانهم يعتبرونها من المسائل الفقهية(14)، وبالتالي يرون وجوبها تكليفيّاً يتحقّق بانتخاب وتعيين الشعب(15)، وطبعاً فإن أهل السنّة الذين يعتبرون المشروعية الدينية للحكومة شعبيةً ينقسمون إلى فئتين أساسيتين هما: 1 ـ أتباع الوجوب الشرعي للإمامة، 2 ـ وأتباع الوجوب العقلي لها.
يرى أكثرية أهل السنة من الأشاعرة وبعض المعتزلة أن وجوب نصب الإمام على الناس إنّما هو وجوبٌ تكليفيٌّ شرعيٌّ تعبديٌّ، ويثبت الغزالي هذا الوجوب بالاستعانة بمقدّمات ثلاث هي:
1 ـ إن نظام أمر الدين مقصودٌ لصاحب الشرع (ص).
2 ـ إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا.
3 ـ إنّ نظام الدنيا لا يحصل إلا بإمامٍ مطاعٍ.
والمقصود بالدنيا في تصوّر الغزالي هنا هو تلك الأمور التي يحتاجها الإنسان قبل الموت وتوجب سعادته الأخروية، لا الدنيا التي تعني التنعّم واللذات الزائدة عن الحاجة(16).
إلا أنّ هناك فريقاً آخر من المعتزلة كان يرى أيضاً نصب الإمام والمشروعية الدينية للحكومة أمراً شعبياً بيد أنّه كان يعتبره حكماً عقلياً؛ وذلك لأن وجـود القائد يختزن منافع كثيرة جداً كما أنّه مانعٌ عن المفاسد والأضرار أيضاً، وبناءً عليه فعلى الشعب ـ عقلاً ـ القيام بانتخاب شخصٍ لمقام قيادته (أي الشعب) وحاكميّته(17).
واستتباعاً للتفاوت المبنائي بين الشيعة والسنة فيما يتعلّق بالمشروعية الدينية للنظام السياسي مثلّت الحكومة العلوية مصداقاً لهذا الاختلاف، فأهل السنة كانوا يرون المشروعية الدينية للحكومة العلوية نتاجاً لشعبيتها وانتخابيّتها، وبنظرهم فان المجتمع الإسلامي في تلك الفترة الزمنية قام بواجبه الشرعي أو العقلي يوم البيعة بانتخابه عليّاً (ع)، وقد وقع عملهم هذا مَرضياً للشارع ومتطابقاً والمقرّرات الدينية.
وفي المقابل يعتقد الشيعة القائلين بالنصب الإلهي لعلي (ع) (18) أنّ مبايعة الناس أمّنت الاستقرار للحكومة الإلهية للإمام (ع)، وهم بذلك يكونون قد أدّوا ـ وبعد سنين ـ تكليفهم الشرعي المبني على الطاعة للإمام المنصوب من قبل الله تعالى.
وعلى هذا الأساس فقد كان هناك ـ على امتداد تاريخ المناقشات الاعتقادية والكلامية بين الفرق الإسلامية ـ نظريّتان فيما يتعلّق بالحكومة العلوية ومشروعيّتها الدينية وهما: المشروعية الإلهية والمشروعية الشعبية، ولم يلحظ وجود أية نظريّةٍ أخرى ـ مع الأخذ بالاعتبار المباني المذكورة ـ في أيّ كتابٍ من الكتب الكلامية والعقائدية أو الكتب الفقهيّة.
إنّ المسألة المهمّة في هذا البحث تكمن في الالتفات إلى المباني المشتركة والأصول الموضوعية المقبولة في الرؤيتين المتقدّمتين، فمن جملة المباني المشتركة بين هاتين النظريتين فيما يرتبط بالمشروعية السياسية للحكومة العلوية والتي سيشار إلى أهميتها لاحقاً القبول بالحكومة ونظام الإمامة السياسي كأمرٍ ديني، واعتبارها من الأجزاء التي لا تنفكّ عن جسد الشريعة الإسلاميّة، فعلى امتداد تاريخ المنازعات الكلامية والعقائدية لم يحصل أبداً أيّ اختلاف أو شقاق بين المسلمين فيما يتعلّق بتعريف وقبول الحقيقة السياسية للإمامة والولاية وضرورتها ولزومها كأمرٍ دينيٍّ باستثناء بعضٍ من الخوارج(19)، لقد اندرج تصوّر المسلمين للإمامة والخلافـة ضمن هذا النوع من التعريفات من قبيل "الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا"(20)، أو "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة وحراسة الدين وسياسة الدنيا"(21)، ويعرّف ابن خلدون في مقدمته حقيقة الخلافة بأنّها نيابةٌ عن صاحب الشرع في مجال حفظ الدين وسياسة الدنيا، وعلى أساس ذلك يصنّف تصرّفات صاحب الشرع إلى نوعين تصرّفات دينية وأخرى دنيوية، ويعتقد بأن التصرفات الدينية نابعةٌ من التكاليف الشرعية التي يجب على صاحب الشرع إبلاغها للناس وتوجيههم وهدايتهم على ضوئها، وأما التصرّفات والسياسات الدنيوية فهي نابعة من متطلّبات رعاية مصالح الناس في مجال العمران والبناء(22).
ويقول أبو حامد الغزالي في مجال العلاقة بين الدين والسلطان: "الدين والسلطان توأمان والدين أسّ والسلطان حارس"(23).
بيد أن الشيعة والسنة ـ ومع قبولهم بهذه الرؤية المشتركة واعتبارهم لها أمراً دينياً ـ قدّموا رؤيتين مختلفتين فيما يرتبط بحقيقة الحاكمية السياسية وكيفية الوصول إلى السلطة والمشروعية الدينية، وهاتان الرؤيتان هما الرؤية الإلهية والرؤية الشعبية، وطبعاً فإن نظرية المشروعية الشعبية حيث إنها تنتهي إلى رضا الشارع تعالى فإنها سوف تكون مشروعيةً إلهيّةً أيضاً، ومن هنا يمكن التعبير عنها بالمشروعية الإلهية ـ الشعبية.
 
5 ـ المشروعيّة السياسيّة للحكومة العلويّة
تعدّ مسألة المشروعية السياسية من أهمّ وأعمق المباحث المرتبطة بعلم السياسة والفلسفة السياسية، وهي تنفرد من بين أنواع المشروعيّات التي تقدّمت حتى الآن بأنّها أكثرها بنيويةً، والمقصود من تعبير المشروعيّة السياسية الرائج هو الجواب عن هذا التساؤل: من هو الشخص الذي له الحقّ في الحاكمية والإلزام السياسي؟ وفي الواقع فإن مسألة المشروعية السياسية ومسألة حقّ الحكم وإلزام الناس بالإطاعة والتبعية تعني لماذا يحقّ للحكومة ممارسة الحكم والإلزام؟ ولماذا يجب علينا الاتباع لأوامرها؟ إنّ هذين السؤالين متفاوتان بيد أنّهما في الحقيقة سؤالٌ واحدٌ ألا وهو البحث عن المشروعية السياسيّة.
هناك اتجاهاتٌ مختلفةٌ فيما يتعلّق بالمشروعية السياسية للحكومة العلوية يمكن ملاحظة أبرزها في هذه الرؤى الثلاث وهي:
1 ـ الرؤية الشيعية القديمة ألا وهي المشروعية الإلهية.
2 ـ الرؤية السنّية القديمة ألا وهي المشروعية الإلهية ـ الشعبية.
3 ـ الرؤية التي يراها بعض المثقفين المعاصرين وهي المشروعيّة الشعبيّة.
وفي البداية لابد لنا من تبيين هذه الرؤى الثلاث لاسيما الرؤية الثالثة نظراً لجِدتها، وعقب ذلك ـ ونظراً لعدم وجود المجال الكافي للبحث الموسّع ومن كافّة الجوانب لهذه الرؤى الثلاث من حيث الأدلّة والمستندات ومن حيث نقاط التمايز فيما بينها ـ سوف يُقتصر على إبراز تقييمٍ موجزٍ للرؤية الثانية والثالثة بصورةٍ مشتركةٍ وفي وقتٍ واحدٍ.
 
1 ـ المشروعية الإلهيّة للحكومة العلويّة
بعد رحيل النبي الأكرم (ص) تخلّف بعضٌ من كبار الصحابة من أمثال سلمان، أبو ذر، المقداد وعمّار عن مبايعة الخليفة الأول متّبعين الإمام علي (ع)، وقد شكّلت هذه المجموعة النواة الأولى لمدرسة الاتّباع للعترة الطاهرة (ع) معتبرةً أنّ الخلافة والولاية حقٌّ إلهيٌّ للإمام علي (ع)، وعلى امتداد خمس وعشرين سنة بعد وفاة الرسول (ص) وبالرغم من وفاة ثلاثةٍ من هؤلاء غير عمّار بن ياسر إلا أنّ جمعاً من الصحابة وعدداً كبيراً من التابعين من الحجاز واليمن والعراق انضمّوا إلى أتباع علي (ع)، وقد اتجهوا جميعاً من كل حدبٍ وصوبٍ إلى الإمام عقب مقتل الخليفة الثالث وانتخبوه لمنصب الخلافة(24)، لقد قبل هؤلاء المشروعية السياسيّة للحكومة العلوية على أساس النصّ والنصب الإلهي فقط، وقد كانت هذه النظرية على امتداد التاريخ أيضاً من الرؤى الخاصّة بالشيعة ولم تنسب إليهم أيّة نظريةٍ أخرى(25)، فالبارزون من علماء الشيعة ـ ووفقاً لتعاليم العترة الطاهرة (ع) التي بلورت وبنت جذور وأسس التشيّع على مفهوم الإمامة ـ كانوا يرون الدولة والحكومة حقّاً، كما كانوا يعتبرون أوامرها ملزمة الاتباع وبالتالي فهي تتمتّع بحق الإلزام السياسي وفقاً لما جعله الخالق تعالى لها من الحق في إصدار الأحكام(26).
ووفقاً للرؤية الشيعية للتوحيد والربوبيّة التشريعية لا يرى الإنسان الموحّد غير الله تعالى أهلاً للطّاعة وإعطاء الأحكام، بل إنّ مشروعيّة أي سلطةٍ سياسيّةٍ وأي قانونٍ لابد أن تكون مستمدّةً من مبدأ الربوبية، وإلا فإن الجهاز السياسي أو الحقوقي الذي يقع في عرض النظام التشريعي الإلهي سوف يكون معارضاً بشكلٍ واضحٍ لنظام التوحيد ويعتبر بالتالي طاغوتاً، وطبقاً لهذا المبنى سوف نلاحظ الترابط بين المشروعيّة الدينية والمشروعية السياسية على أساس النصب الإلهي في النظرية الشيعيّة، فالحكومة التي تحوز على المشروعية السياسية حائزةٌ بالتبع على المشروعية الدينية، ومنشأ هاتين المشروعيّتين لابد أن يكون مبدأ جعل الولاية والربوبية التشريعية الإلهية.
وعلى أساس المبنى المذكور فإن حكومة الإمام علي (ع) كما كانت حائزةً على المشروعية الدينية ومحلاً لتأييد الباري تعالى فقد كانت حاصلةً على المشروعية السياسية وحقّ الإلزام والآمريّة أيضاً، وأساس هذين الأمرين كان هو النصب الإلهي لعلي (ع) للإمامة.
إنّ المستند الشيعي للمشروعية السياسية والدينية للأمير (ع) ـ بالإضافة إلى الأدلة العامة لبحث الإمامة كقاعدة اللطف والحكمة الإلهية ـ هو النصوص الخاصّة المدرجة في الكتاب والسنّة والدالة على نصب الإمام علي (ع) للتولّي والخلافة بعد الرسول (ص)؛ ففي قاعدة اللطف يقال بأنّ "الإمام لطف فيجب نصبه على الله تعالى تحصيلاً للغرض"(27) أي أن اللطف من فروع الحكمة الإلهية، فعباد الله تعالى لا يعرفون الكثير من مصالحهم ومفاسدهم في أمور دنياهم وآخرتهم والخالق الحكيم لم يخلق الخلق عبثاً وإنّما خلقهم للكمال والعبادة وهو أمرٌ غير ممكنٍ بدون إرسال الرسل والأنبياء والتكاليف، إذن فمن الواجب عليه تعالى إرسال الرسول، وحيث إنّ الرسول أيضاً كبقية الناس مفارقٌ للدنيا كما تقتضيه الحكمة الإلهية احتاجت الناس إلى الإمام المعصوم ـ حيث لا خليفة للرسول ـ نظراً لحبّ الشهوات والرياسة الغالب على الناس وقلّة العلم واليقين الأقل من الكبريت الأحمر(28)، ومعه فوجود الإمام لطفٌ واللطف واجبٌ على الله تعالى، وبناءً عليه فلأجل تحقّق الأغراض الدينية والدنيوية للشارع لابد من نصب إمامٍ لرئاسة المجتمع دينياً ودنيويّاً.
وبالإضافة إلى دليل اللطف الذي يثبت الإمامة العامّة، هناك فيما يتعلّق بالإمامة الخاصّة لعلي (ع) آياتٌ كآية الولاية وآية أولي الأرحام وأحاديثٌ كحديث الغدير وحديث المنزلة تمثّل دليلاً على نصبه (ع)، وتدلّل على أنّ الحكومة العلوية سواءٌ في مجال المشروعية السياسية أو في مجال المشروعية الدينية منبثقةٌ عن المبدأ المتعالي والحكيم على الإطلاق سبحانه(29).
وفقاً لهذه الرؤية يصبح انحصار دور رأي وبيعة الناس في إبراز الأرضيّة لإعمال الولاية واضحاً، وبعبارةٍ أخرى دور الانتخاب لا يكمن في المشروعيّة الدينية أو السياسيّة وإنّما يبرز تأثيره بشكلٍ شفافٍ وواضحٍ على مستوى المشروعية الاجتماعية وعنصر المقبولية والاعتراف العام، وطبعاً لا يوجد أي تلازمٍ منطقيٍّ ولا تكوينيٍّ بين المشروعية السياسية والمشروعية العلم اجتماعية، فكم من حكومةٍ حائزةٍ على المشروعية السياسية بيد أنّها من ناحية علم اجتماعية ونظراً لعدم ترحيب المواطنين بها تواجه أزمة مشروعيّة، أو العكس بحيث إنّها حائزة على المشروعية العلم اجتماعية وعلى عنصر المقبولية إلى حدٍّ كبير بيد أنّها تعاني من مسألة الحقانية والمشروعيّة السياسيّة، وعليه فالرابطة بين هذين الأمرين هي العموم والخصوص من وجه، والمثال على مادّة افتراق الأول منهما هو حكومة الإمام المجتبى (ع)؛ إذ إنها بدليل عدم المقبولية لم تستطع الاستمرار في الحياة وذلك بالرغم من كونها ذات مشروعيّةٍ سياسيّةٍ ودينيّةٍ، أما المثال على مادّة افتراق الثاني فهو حكومة بعضٍ من خلفاء صدر الإسلام أو الحكومات المدّعية للديمقراطية الحالية؛ فإن هذه الحكومات بالرغم من حيازتها على الاعتراف العام إلا أنّها ـ بنظر الكاتب ـ فاقدةٌ للمشروعية السياسية، والبعض منها ثابتٌ بوضوحٍ أنّه ليس لديه ولم تكن لديه مثل هذه المشروعيّة.
 
2 ـ المشروعية الإلهية ـ الشعبية للحكومة العلويّة
لا تختلف الرؤية القديمة والتاريخية لأهل السنة فيما يرتبط بتفسير وتبيين المشروعية السياسية للحكومة العلوية عن رؤيتهم للمشروعية السياسية للخلفاء الذين سبقوه، إن من الأهمية والحساسية بمكانٍ الالتفات إلى نكتتين مهمتين ترتبطان بالمشروعية في فكر أهل السنة ألا وهما:
الأولى: إن أهل السنة بالاتفاق يرون في الخلافة والإمامة جزءاً ماهويّاً للدين ويعتبرونها من الذاتيات الجوهرية الداخلية للشريعة الإسلامية، وقد جرت الإشارة إلى هذه المسألة في بحث المشروعية الدينية آنفاً، كما وسيجري التركيز عليها في المباحث القادمة أيضاً.
الثانية: إنّ الطريق المشروع لإحراز هذا المنصب إنما يكون ـ وفق النظرية السنية ـ من خلال النص والنصب من طرف الرسول الأكرم (ص) أو الإمام السابق، وفي غير هذه الحالة فان الاختيار والانتخاب من قبل أهل الحلّ والعقد وبيعة عموم الناس سوف تمنح الحكومةَ المشروعية السياسية.
يرى السيد شريف الجرجاني ـ في شرح المواقف في المقصد الثالث "فيما تثبت به الإمامة" ولدى بيانه طرق تعيّن الإمامة ـ بأنّ مجرّد اللياقة وتوفّر جملة مميزاتٍ في فردٍ ما ليسا موجبين لإمامته وقيادته، بل إنّه بالإضافة إلى ذلك لابد له من توفّر أمرٍ آخر يكون هو المُظهر والموجد للإمامة ومانح المشروعية للحكومة: "وإنما تثبت بالنص من الرسول ومن الإمام السابق بالإجماع، وتثبت أيضاً ببيعة أهل الحل والعقد عند أهل السنة والجماعة والمعتزلة والصالحية من الزيدية، خلافاً للشيعة"(30)، والفخر الرازي ينقل شبيه هذا الكلام أيضاً(31)، وطبعاً فإن البعض من أهل السنة يبرزون طريقاً ثالثاً لإثبات المشروعية بالإضافة إلى الطريقين المتقدّمين ألا وهو "الثالث: القهر والاستيلاء"(32)، أي الحصول على السلطة عن طريق القهر أو الإجبار والاستفادة من الضغط والقوة، وبناءً عليه فعندما لا نعثر على نصٍّ ونصبٍ من طرف القائد السابق فإن التكليف الشرعي أو العقلي لأهل الحل والعقد وعامّة الناس يتمثّل في إقدامهم على تعيين إمامٍ جديدٍ.
وعلى أساس نفس هذا المبنى رجع الناس إلى علي بن أبي طالب (ع) على اثر فقدان الخليفة الثالث وانتخبوه للخلافة والإمامة، وكما يقول الغزالي: "وإمامة عليٍّ بالتفويض فلا تلتفت إلى تجاهل من يدّعي أنه (ص) نصّ على عليٍّ"(33).
والمستند لنظرية أهل السنة في استحصال الحكومة العلوية المشروعيةَ السياسيةَ من انتخاب أهل الحلّ والعقد ومن بيعة عامّة الناس، عبارةٌ عن:
أ ـ أدلةٍ عامّةٍ وكليٌّةٍ يشرحونها في تبيين مبناهم، ويعتقدون بأنّه وبظهور الحكومة العلوية تحقّق مصداق خارجي لهذه الأدلة وصار لها تحقّقٌ عينيٌّ.
ب ـ وأدلةٍ خاصةٍ.
إنّ أكثر الأدلّة العامة ـ المشاهدة في الكتب السنية القديمة ـ عمدةً وأساسيةً هو إجماع الصحابة، يذكر القوشجي المتكلّم البارز لأهل السنة فيقول: "وتمسّك أهل السنة بوجوه: الأول: وهو العمدة إجماع الصحابة حتى جعلوا ذلك أهم الواجبات واشتغلوا به عن دفن الرسول (ص) وكذا عقيب موت كل إمام"(34).
الاستدلال الثاني لأهل السنة ـ والملاحظ في الكتب القديمة أيضاً ـ عبارة عن أن الشـارع قد وجّه مجموعةً من الأوامـر إلى الناس كإقامة الحدود، حفظ الثغور، تجهيز القوة العسكرية للجهاد وبشكل عام التكاليف المربوطة بحفظ النظام والدفاع عن أساس وبناء الإسلام، ومثل هذه التكاليف ليس ميسّراً إلا في ظلّ وجود إمامٍ وحاكمٍ، ومن هنا يجب على الناس ـ وبعنوان المقدّمة ـ القيام بهذا التكليف وإنجازه(35).
وبالإضافة إلى كلّ ذلك ركّز المفكّرون الجدد على تكثير الأدلة لتدعيم وتقوية وتحكيم مبنى الانتخاب لدى أهل السنة، ومن جملة هذه الأدلة آية الشورى "وأمرهم شورى بينهم"، إذ بقرينة كلمة "أمر" في هذه الآية الناظرة إلى السياسة والحكومة لا يكون المقصود المشورة في إعمال الولاية فقط بل هي جارية في التصدي أيضاً، وهي بذلك ترشد إلى أن الولاية تنعقد بانتخاب الناس وشورى أهل الخبرة، فالشخص الذي يتعيّن ويعرّف بعد مشورة أهل الخبرة الكاملة ومن ثم يبايعه المواطنون يصبح إماماً، وبالتالي تكتسب حكومته المشروعية. وهذا المنهج المرضي للشارع كان مورداً لعمل المسلمين منذ اليوم الأول لغروب شمس النبوة وقد تمّ تطبيقه في انتخاب أمـير المؤمنين (ع) أيضـاً(36).
المستند الرابع والخامس لأهل السنة هو السنّة القولية والفعلية لرسول الله (ص)، فقد أكّد رسول الله (ص) ـ أوّلاً ـ في كلماته على وجوب نصب الإمام على الأمة، ومنع من بقائها بلا إمام، كما وانه لم يعيّن ـ ثانياً ـ شخصاً بعد رحيله، وإنما أحال الأمر إلى الناس أنفسهم، وهو بتشريع نظام البيعة يكون قد رسّخ منهج اكتساب المشروعية للنظام السياسي الإسلامي(37).
ما تقدم كان عبارة عن المدرك العام لمبنى أهل السنة على الإمامة وحكومة الإمام علي (ع) ومشروعيتها السياسية، أما الأدلة الخاصة التي يمكنها أن تشكّل أدلة أهل السنة الخاصة فهي التمسك ببعضٍ من كلمات وأحاديث أمير المؤمنين (ع) والتي تبيّن المشروعية السياسية للحكومة في موارد متعدّدة على أساس البيعة، كما وعلى أساسها استدل واحتج الإمام (ع) لإثبات حقّانية ومشروعية حكومته، وذلك من قبيل الرسائل التي كتبها إلى معاوية وطلحة والزبير والتي تجعل ملاك المشروعية قائماً على شورى المهاجرين والأنصار وبيعتهم(38)، وكذلك ما حدث في اليوم الأوّل لبيعته (ع) حيث امتنع منذ البداية عن القبول وقال لهم اتركوني والتمسوا غيري وان الشخص الذي ترونه مناسباً وتنتخبونه للولاية سأكون قبل الجميع مطيعاً له، فعلى حدّ قول ابن أبي الحديد تدلّل مقالة الإمام هذه في يوم البيعة على أنّه لم يكن يرى إمامته منصوصةً وذلك لأنها لو كانت منصوصةً فلا يحقّ للإمام أن يقول: "دعوني والتمسوا غيري" أو يقول: "لعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم"، وبناءً عليه فإذا لم تكن إمامته (ع) منصوصةً ولم تكن ذات مشروعيّةٍ إلهيةٍ، فسوف يتم التحوّل إلى الوجه والطريق الآخر الذي ذهب إليه قاطبة أهل السنة ألا وهو مبنى الانتخاب، كما ينقل الإمام علي (ع) نفسه فيقول: "والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل… أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يتقدّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدؤوا شيئاً قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً"(39).
إنّ تقييم وبحث مبنى أهل السنة هذا يحتاج إلى مجالٍ كبيرٍ خارجٍ عن قدرة هذه المقالة، وسوف نلاحظ بعضاً من النكات المهمة والجديرة بالانتباه حول هذا المبنى وأدلته أثناء البحث عن النظرية الثالثة.
لكنّ الشيء الجدير بالاهتمام فيما يتعلّق بالمبنى المذكور لأهل السنة نقطتان هما:
1 ـ إننا نلاحظ في مبنى أهل السنة ـ كما الشيعة ـ الترابط بين المشروعية السياسية والدينية، ونستنتج من ذلك أن منشأهما ومنبعهما واحدٌ وهو انتخاب وبيعة الناس وأهل الحل والعقد، ووفقاً لهذه النظرة فحينما تستقرّ الحكومة العلوية على أساس هذه الطريقة فإنها بالإضافة إلى كونها حينئذٍ مورداً لرضا صاحب الشريعة وبالتالي متلازمةً والمشروعية الدينية فإنّها تكون أيضاً قائمةً على الحقانية وبالاعتماد على ذلك تكتسب المشروعية وحق الآمريّة والإلزام السياسي.
2 ـ إنّ المشروعية لدى أهل السنة تتشكّل من فرعين هما، الإلهية والشعبية، فالحاكم والولي المنتخب هو من جهةٍ خليفة ونائب عن الله تعالى يعمل على تنفيذ الأوامر الإلهية وإجراء الحدود وتجهيز الجيش وحفظ الثغور، وكافّة هذه الأعمال يتمّ إنجازها عن طريق مبدأ الربوبية التشريعية، ومن هنا تكون المشروعية إلهيةً، ـ ولذلك يرى عامّة علماء أهل السنة أن الخليفة ظلّ الله، ويتصوّر أبو جعفر المنصور العباسي نفسه سلطان الله على الأرض، وقد كان هذا التفكير والتعبير متداولاً على لسان الشـعراء أيضاً(40) ـ ومن جهةٍ أخرى وحيث إنّ انتخاب ورأي الشعب يمثّل أساس المشـروعية، والحاكم إنّما يقوم بعمله كوكيلٍ ونائبٍ عن الشعب فإنّ المشروعية ستكون شعبيةً، وكما يقول ابن تيميّة: "والولاة نواب الله على عباده وهم وكلاء العباد على نفوسهم"(41)، وكما جاء في نهج البلاغة أيضاً: "فانصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجكم فإنّكم خزّان الرعيّة ووكلاء الأمّة وسفراء الأئمّة"(42).
يعلّل الإمام (ع) هذا الأمر ـ الذي تجري فيه مخاطبة المسؤولين عن الأمور الاقتصادية والمالية في الدولة العلوية بضرورة الإنصاف في تعاطيهم مع الناس والتحلّي بروح التحمّل في سبيل رفع احتياجات الشعب ـ ببيان هذه الحقيقة ألا وهي أنّ خزّان بيت المال هم في الواقع خزّان الناس وممثلو الشعب وسفراء الأئمة والقادّة، وعليه فإذا أخذنا بالنظر كون خزانة بيت المال شعبةً من الحكومة والنظام السياسي فسوف تصبح الولاية وتسلّم المقاليد في نظر الإمام علي (ع) وكالةً من طرف الأمّةّ أيضاً، وفي الحقيقة فإنّ ولاية الإمام (ع) التي كانت سابقاً قائمةً بالشعب أمضيت من طرف الشارع، وهذا ما يسمى بالحكم الإمضائي قبال الحكم التأسيسي(43).
 
3 ـ المشروعيّة الشعبية للحكومة العلويّة
بالإضافة إلى النظريتين القديمتين والتاريخيتين لأهل السنّة والشيعة فيما يتعلّق بالمشروعية السياسية للنظام العلوي، هناك نظريةٌ ثالثةٌ لقيت شيوعاً في العقود الأخيرة كرؤيةٍ جديدةٍ، ألا وهي نظرية المشروعية الشعبية لحكومة الإمام علي (ع).
لقد طرحت هذه الرؤية من قبل بعض المحافل الثقافية الدينية ـ أعمّ من الشيعة والسنة ـ وجرى تأييدها والدفاع عنها أيضاً، وتكتسب هذه النظرية أهمّيةً خاصّةً على صعيد البحث والدراسة في عصرنا الحاضر نظراً لحساسيّة وحرارة مباحث المشروعية السياسية بين المسلمين وبالخصوص بعد الثورة الإسلامية في إيران واستقرار نظامٍ سياسيٍّ مبنيٍّ على التعاليم الدينية، وتباري هذا النظام والأفكار المبنية على العلمانيةِ وفصلِ الدين عن الساحة السياسية، وإن الاهتمام والتوجّه إلى النكات اللطيفة والحسّاسة لهذه النظرية، وإلى مبانيها ومبادئها التصورية والتصديقية وكذلك ملاحظة اللوازم والنتائج النظرية والعملية لها في المجتمع الإسلامي إنّما هو جزءٌ من مسؤولية المنظّرين في مجال الفكر السياسي الإسلامي، والعاملين في هذا المضمار تأليفاً وتحقيقاً وإنتاجاً فكريّاً.
من ناحيةٍ تاريخيّةٍ، أول شخصٍ في العصر الأخير روّج للنظرية الثالثة بين المسلمين وفجّر ردود الفعل والصراعات الشديدة في محافل أهل السنة العلمية لاسيما في أوساط علماء الأزهر هو علي عبد الرزّاق مؤلّف الكتاب الذائع الصيت "الإسلام وأصول الحكم"، وقد تواصلت هذه النظرية بعده في بعض المحافل الثقافية الشيعية وشكّلت محوراً لدفاع بعض الفئات السياسية وبعض الشخصيات من أمثال المهندس مهدي بازركان والدكتور مهدي الحائري اليزدي، وبقطع النظر عن التطابق الكامل أو التفاوت البسيط في نظرة هؤلاء إلى هذه النظرية فإن المطالب التي ستأتي لاحقاً تتعلّق أوّلاً بذكر النقاط التي تمثّل المفاتيح لهذا البحث مع ذكر بعضٍ من الشواهد على هذه الرؤية الثالثة مما يرتبط بالحكومة العلوية، وبعد ذلك سوف يُعمد إلى تجزئة وتحليل هذه النظرية.
لدى مواجهة هذا السؤال وهو هل تصنّف الخلافة والإمامة كجزءٍ من ذاتيات جوهر الدين؟ وأساساً هل يتوقّع من الدين الإسلامي التدخّل في شؤون السياسة والحكومة والذي على أساسه يجري تبيين مشروعيّة الحكومة العلويّة أو أنّ الدين بذاته ليس له وظيفةٌ سوى الهداية المعنوية والإرشاد إلى طريق السلوك الأخروي وأمّا السياسة والتدبير والتنظيم الاجتماعي للمجتمع فإنّها مقولةٌ خارجةٌ عن الدين ولا ترابط بينها وبينه، وبالتالي لا تلازم ولا ارتباط بين هاتين المقولتين؟ لدى مواجهة هذا التساؤل نلاحظ أن جواب النظرية الثالثة هو نفي تدخّل الدين في المجال السياسي، وانسجاماً مع هذه النظرية يركّز علي عبد الرزاق بحثه في الجوانب المتعددة للرسالة والحكومة، ويرى أنّ الرسالة مغايرةٌ للملك كما ويعتقد بأنه لا تلازم إطلاقاً بين هذين الأمرين، وأنّه بمقتضى آيات من قبيل "لا إكراه في الدين"(البقرة:99) "إنما أنت منذرٌ"(الغاشية:21)، "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (يونس:99)، تنحصر رسالة نبي الإسلام ـ كسائر الأنبياء والسفراء الإلهيين ـ بالوعظ والبيان، وحتّى الآثار الحكومتية في سيرة الرسول (ص) كجباية الزكاة وتعيين مصارفها أو إرسال الولاة والحكام إلى المناطق المختلفة يطرح فيها هذا السؤال ألا وهو هل أنّ تشكيل الحكومة الإسلامية كان جزءاً من البعثة أو أنه كان خارجاً عن إطار الرسالة؟ وحتى لو كان الرأي القائل بأن الحكومة جزءٌ من الرسالة هو الرأي المقبول لدى جمهور المسلمين إلا أنّه يمكن الموافقة على ذلك فيما لو كان الرسول (ص) مبلغاً ومنفذاً في مكانٍ واحدٍ، في حين أن هذا المدعى ليس له مدرك بل هو منافٍ لمعنى الرسالة، وعلى تقدير صحّة هذا القول فانه يستتبع سؤالاً آخر وهو لماذا لم يبين النبي (ص) النظام الحكومي للشعب ولم يضع بين يدي المسلمين قواعد هذا النظام؟
ربما يمكن في مقام الجواب عن هذا السؤال القول بأنّ النبي (ص) حيث كان عنده منهج بساطة وحياة بسيطة غير معقدة وغير متشابكة فإنّ نظامه كان بالتبع بسيطاً وعارياً عن التعقيد، إلا أنه على أيّة حال فان أية حكومةٍ أو نظامٍ سياسيٍّ بحاجةٍ إلى قواعد وقوانين، وهذه التنظيمات ليست متنافيةً مع سلامته وبساطته الطبعية(44).
ويكشف علي عبد الرزاق النقاب عن فكره فيقول في متابعة بحثه في الباب الثالث تحت عنوان "رسالة لا حكم ودين لا دولة" بصراحة: مع الأخذ بالنظر المشكلات الخاصة بالرسالة والحكومة فليس هناك مفرٌّ من التفكيك بينهما، فالنبي (ص) لم يكن سوى رسول لا مَلِكاً ولا مؤسّس دولة، وظواهر القرآن الكريم من قبيل "فما أرسلناك عليهم حفيظاً"(الشورى:48) أو "لست علهم بوكيل"(الأنعام:66)، و "إن عليك إلا البلاغ"(الشورى: 48)، و "ما أنت عليهم بجبّار"(ق:45)، و "إنما أنت مذكرٌ لست عليهم بمسيطر"(الغاشية:22) وغيرها من الآيات صريحة بأنّ النبي ليس حفيظاً على الناس أو وكيلاً، كما أنه ليس جبّاراً ومسيطراً، فإذن ليس لديه (ص) حكومةٌ وإدارة، لأن لازم السلطة والسياسة هو السيطرة والسلطنة اللامحدودة على الناس(45).
وبذلك يخطو علي عبد الرزاق الخطوات الكبيرة والأساسية في تفكيك الدين عن السياسة وفي علمنة هذا الدين، إلا انه لا يواصل تقدّمه هذا بعد ذلك، فإذا كانت الحكومة قسماً منفصلاً ومغايراً للبعثة والرسالة وليس هناك شيءٌ باسم الحكومة الدينية في التعاليم الإسلامية، إذن ما هو منشأ المشروعية السياسية للحكومة النبوية وكذلك الحكومات التي جاءت بعده إلى زمان علي (ع)؟ وكيف يمكن تفسير وتبرير هذه الحكومات؟… إنّ علي عبد الرزاق لا يملك جواباً صريحاً عن ذلك، بيد أن الجواب التكميلي المنسجم مع الخطوات الأوّلية لعلي عبد الرزاق يمكن العثور عليه عند سالكي طريقه والمقتفين دربه، فـ "حركة الحرية" الإيرانية ـ ومع تصويبها نظرية علي عبد الرزاق وتأييدها لمسألة أنّ الرسول (ص) لم تكن لديه أية وظيفةٍ عدا الإبلاغ والتذكير والتحذير والبشارة والإرشاد ـ تشير لدى بحثها عن نظم ونسق المجتمع وإدارة الأمور إلى أن ذلك شاملٌ لوظائف ومسؤوليات الأجهزة العسكرية والعمرانية والسياسية وغيرها، وهذه المؤسسات موجودةٌ في كافة المجتمعات المتمدّنة وهي في حال التطور والتنمية على الدوام، إنّ القرآن الكريم يضع بشكلٍ بسيطٍ وساذجٍ ومختصرٍ عنوان "أمر" أو "أمور" لهذه المجموعة من المسائل، ويرى أنّ طريقة الإجراء والقيام بها يكون من خلال المشورة والشورى بين الناس أنفسهم "وشاورهم في الأمر" و "أمرهم شورى بينهم"، وفي كلا الموردين فالشيء الملاحظ وبوضوح هو المنهج الديمقراطي والشعبي، فالقرآن يضع اختيار وإرادة أمور المجتمع بيد الناس أنفسهم، فالناس أنفسهم هم من عليه أخذ القرارات فيما يتعلّق بترتيب أمورهم، والإنسان نفسه هو الذي يجب عليه تدوين نظام الحكم المناسب والمحتاج إليه عن طريق التجربة والتحقيق والتفحّص، ولم تكن (وليست) وظيفة الأنبياء والأديان وضع مسودّة عملٍ ومقررات حكومية أو اقتصادية أو تعليمية للناس، كما أنهم لم يعلّمونا الطبخ والخياطة وبناء البيوت، ولم يدرّسونا العلوم الرياضية والفلسفية والفيزيائية(46).
وانطلاقاً من هذه المقدمات قبلت حركة الحرية علمانيّة الحكومة وعرفيّتها ـ وبشكلٍ عامٍ ـ تنحيتها عن ساحة الدين ومجاله.
ويكتب المنظّر لحركة الحرية أيضاً في مواصلة ما تقدّم فيقول بأنّه إذا فسرنا الديمقراطية من حيث المبدأ على أنّها حكومة الناس على أنفسـهم وإدارة الأمـم أمورها بنفسها واعتبرنا أن الطريق الموصل إلى ذلك هو إظهار نظر الأكثرية عن طريق الانتخابات أو المشاورات الحرّة، فان هذا هو بالضبط ذاك النظام الإداري للأمور العامة الذي أوصى به القرآن الكريم، وقد عمل علي (ع) والحسن (ع) في زمان خلافتهما بها ـ أي الديمقراطية ـ في فترةٍ سابقةٍ جدّاً على الثورة الإسلامية في إيران(47).
من وجهة نظر الدكتور بازركان فان عدم قبول الخلافة من قبل الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، وعدم تنسيق الإمام الصادق (ع) مع أبي مسلم الخراساني، وتنسيق سيد الشهداء (ع) مع الناس بعد دعوتهم إياه كلّها أمور تدلّل على "أن الخلافة والحكومة من وجهة نظر الإسلام والإمام ليست من حقّ يزيد والخلفاء وليست من حقهم هم كما أنّها ليست من حقّ الله تعالى! وإنّما هي من حقّ الأمّة بانتخابها"، ويضيف هذه النقطة أيضاً فيقول: "إذا كان الإمام الحسن (ع) يرى الخلافة ملكاً شخصياً ووظيفةً إلهيةً أو نبويةً فانه لا يعطي لنفسه الحق في إعطائها للآخر عن طريق الصلح"، ويكمل الدكتور بحثه بتحليل الحكومة العلوية ليخلص إلى أنّ مشروعيتها شعبية، كما ويعتقد بأنّ علياً (ع) لم يكن يرى الخلافة حقاً له ولهذا فانه لم يقدم على شيء بغية الوصول إلى السلطة(48).
الشخصية الثالثة البارزة في النظرية الثالثة والذي يمكن تصنيفه على أنه العضو الأبرز في هذه الفئة هو الدكتور مهدي الحائري اليزدي، إنّه يحلّل مفهوم الإمامة بنظرةٍ فلسفيةٍ، ويتحدّث عن شعبية المشروعية السياسية للحكومة العلوية على هذا الشكل فيقول: "إنّ هناك بحثاً ـ بالرغم من أنّه ليس عميقاً ـ يرشد إلى أنّ القيادة السياسية لرسول الله (ص) لم تكن جزءاً من الوظائف النبوية للنبي (ص)، كما لم تكن مظهراً من مظاهر إمامة الإمام علي (ع)؛ فالنبي قبل البيعة لتولّي الأمور كان نبياً لله تعالى، وكذلك علي بن أبي طالبٍ (ع) كان حائزاً على مقام الإمامة السامي والإلهي قبل انتخابه كقائدٍ سياسيٍّ وخليفةٍ رابعٍ"(49).
من أسباب التفاوت عند الحائري بين الإمامة وإدارة البلاد ـ واللذان يملكان رابطةً كالرابطة بين الخطين المتوازيين (بالرغم من إمكانية تحقيقهما الانسجام والتناغم من الناحية العملية) ـ هو انه إذا كانت النبوة والإمامة توأماً ومهمة التنفيذ وتحقيق الأوامر الإلهية والتي تحصل عن طريق القوة القهرية من جانب السلطة الحاكمة فإنه لن تتصور حينئذ أية مسؤوليةٍ على المكلّفين، ومع انتفاء أصل المسؤولية هذا فإن التكاليف والأوامر والنواهي سوف تبقى عقيمة وبلا أثر، كما أن الثواب والعقاب سوف يتم تعطيلهما، بل إنّ الآيات التي من قبيل "وما على الرسول إلا البلاغ، وإنما أنت مذكرٌ لست عليهم بمسيطر، وما أنت عليهم بجبّار" تعلن ـ وبشكلٍ متواصلٍ ـ عن العلاقة الظريفة جدّاً بين الوحي والنبوة من جهةٍ وبين الناس من جهةٍ أخرى بحيث لا تبقي أي مجالٍ للشبهة والتردّد(50).
أما قضية أن بعض الأنبياء كالنبي محمّد (ص) كانوا متولّين للشؤون السياسية أيضاً، كما أن الإمام علي (ع) قد نال منصباً سياسياً عن طريق البيعة وانتخاب الشعب، فلا بد لنا من أن نعرف أن هذه المناصب السياسية إنما جاءتهم عن طريق الناس إضافةً إلى مقامهم الإلهي السابق، وقدّمت إليهم نظراً لضرورات الزمان والمكان، وليست جزءاً من الوحي الإلهي، فهذه الأمور تمثل فرصاً استثنائيةً ونادرةً على امتداد التاريخ بحيث إنّ الناس عندما يصلون إلى حدّ الرشد والبلوغ السياسي والاجتماعي فإن عقلهم العملي سوف يهديهم إلى انتخاب الأصلح والأحسن، وبناءً عليه لا يمكن ملاحظة أي عنصرٍ دالٍ على البعد السياسي ـ مهما كان صغيراً ـ لدى تحليل عناصر النبوة والإمامة حتى يجري استخراجه، والتغاير بين هذين الأمرين هو تغايرٌ بين الأمور الإلهية والأمور البشريّة(51).
من وجهة نظر مؤلّف كتاب "الحكمة والحكومة" فإن منصب القيادة السياسية للنبي الأكرم (ص) إنما كان منذ البداية بانتخاب وبيعة الشعب، وبعد ذلك كانت هذه البيعة الشعبية مرضيةً ومقبولةً وممضاةً من جانب الباري تعالى "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة"(الفتح:18)، كما أن الآية المباركة "وأمرهم شورى بينهم"(الشورى: 38) تدلّ على هذه الحقيقة أيضاً(52).
وفي تحليل الكاتب المذكور لمفهوم الإمامة يظهر أنها من شرائط النبوة القبليّة وهي جزؤها التحليلي الذي لا ينفك عنها، فأيّ نبيٍّ ورسولٍ إمامٌ، إلا انه ليس كل إمامٍ رسول ونبي، فمقام الإمامة إنّما هو مقامٌ محض إلهي وليس مرتبطاً بانتخاب وبيعة الشعب، أما الخلافة التي تعني القيادة السياسية فهي ظاهرةٌ دنيويةٌ ليس لها أية واقعية بدون الانتخاب، غايته أن الناس تنتخب أحياناً النبي أو الإمام لتولي أمورهم كما هو الحال في بيعة الشجرة وانتخاب علي (ع) في المرحلة الرابعة للخلافة، وأحياناً لا يوفّق الأنبياء والأئمة (ع) ـ ونتيجة عدم الرشد السياسي أو لأسبابٍ تاريخيةٍ ـ لانتخابهم من قبل الناس (53).
إنّ الدكتور الحائري ولدى عرضه لنظريته الخاصة فيما يتعلّق بالإمامة والسياسة وتوازيهما، يمنح قاعدة اللطف رؤيةً خاصةً ويعتقد بأن التفسير الحقيقي لهذه القاعدة إنما هو في كون الشريعة مرشداً حقيقياً للرفاهية والسعادة العقلية، ويكمن دورها الأساسي في إيصالها البشر ومن خلال تعاليمها الإلهية إلى الرشد والكمال العقلانيين.
ووفق هذا التفسير يكون الشيء الذي نفهمه من قاعدة اللطف في دائرة النبوة والإمامة هو أنّ الأنبياء والأئمة معلّمو العدل والقسط العقلانيين، أما أنهم بالإضافة إلى مقام التعليم هذا لابد أن تكون وظيفة تنفيذ العدالة وإدارة شؤون البلاد في عهدتهم أيضاً وأن ذلك بمثابة جزءٍ من وظيفتهم الإلهية فهذا مما لا يمكن استفادته لا من محتوى قاعدة اللطف ولا من المدلول المطابقي أو التضمني أو الإلتزامي للأدلة الأخرى للنبوة والإمامة(54).
إنّ من جملة الأدلّة التي يمكن أن تساعد على تدعيم وتقوية النظرية الثالثة وتشكل أساساً لها هو التمسك بظهور بعضٍ من كلمات أمير المؤمنين (ع)، فعلي (ع) في هذه الخطب والكلمات يشرح أساس وملاك مشروعية حكومته، وهو يبين بشكلٍ عامٍ أن البيعة والشورى هما المبرز الحقيقي لأي حكومةٍ أو ولايةٍ، من قبيل "إنما الشورى للمهاجرين والأنصار" و"لعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم" اللتان تقدمتا قبل ذلك، وكذلك ما قاله (ع) بعد البيعة له في مسجد المدينة "أيها الناس ـ عن ملأ وأذن ـ إن هذا أمركم ليـس لأحدٍ فيه حقٌّ إلا من أمّرتم"(55)، وكذلك ما قاله بعد تلقيه الضربة وعندما جاءه أصحابه يسألوه عن البيعة للإمام الحسن (ع): "لا آمركم ولا أنهاكم انتم أبصـر"(56).
ومن هنا أيضاً كتب الإمام الحسن (ع) بعد البيعة له رسالةً إلى معاوية "ولاّني المسلمون الأمر بعده"(57)، كما جاء في معاهدة الصلح مع معاوية أيضاً النص التالي: "صالحه على أن يسلم إليه أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله (ص) وسيرة الخلفاء الصالحين وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحدٍ من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين"(58).
ويمكن استنتاج النقاط الأساسية التالية في إطار تقسيمٍ نهائيٍّ لمجموع الشواهد والكلمات المذكورة حول النظرية الثالثة وهي:
1 ـ ليست السياسة من الأجزاء الذاتية للدين، وبناءً عليه ففي التحليل الماهوي لإمامة علي (ع) لا يمكن مطلقاً التوصل إلى قيادته السياسية وإدارته الاجتماعية.
2 ـ إنّ تشكيل الحكومة العلوية على غرار سائر الأمور العرفية الأخرى تابعٌ لرغبة وإرادة الشعب وللشروط الاجتماعية الخاصّة.
3 ـ إن منشأ المشروعية السياسية للنظام العلوي هو البيعة وانتخاب الناس، والإمام (ع) في الحقيقة وكيلٌ عن الشعب إلا أنّه لم تكن لديه ولاية شرعية وإلهية للحكم والقيادة السياسية.
4 ـ مع الأخذ بعين الاعتبار إلغاء دور التدخّل الديني في الأمور السياسية، واعتبار الدين والسياسة كخطّين متوازيين، فإن البحث عن المنشأ الديني للحكومات سوف يكون منتفياً أيضاً، وذلك لأن الشارع لا يمكنه أن يعطي وجهة نظر إيجابية أو سلبية بها، إنّ رأي الدين فيما يتعلّق بالنظام السياسي للمجتمع سيكون ـ وطبقاً للفكر العلماني ـ بلا أثرٍ ولا بشرطٍ، وفي النتيجة فان أية مقولةٍ باسم منشأ المشروعية الدينية للحكومة العلوية ستكون بعيدةً عن دائرة الإمضاء أو الرد الشرعي وخارجةً تخصّصاً عن المجال الذي تبدي فيه الشريعة رأياً لها، وهذا على خلاف النظريـة الأولى والثانية اللتين لاحظـنا فيهما الترابط بين هذين النوعين من المشروعية.
تأمّلاتٌ في النظرية الثالثة
إنّ النقاط المتعلقة بالنظرية الثالثة تحتاج إلى مباحث موسّعة ومفصّلة سيما مع ملاحظة أصولها ومبانيها والتي من جملتها فصل السياسة عن البناء الديني وتهميش الشريعة بالنسبة للحياة الاجتماعية، وهو أمرٌ خارج عن قدرة هذه المقالة، إلا أنه سوف تجري الإشارة إلى بعض المباحث التي تمثّل مفتاحاً أساسياً لتشكّل أسس البحث وذلك في حدّ الضرورة وبحسب ما يفسح به المجال، نعم إنّ بعضاً من النقاط المشار إليها يمكنها أن تفيد في تقييم ودراسة النظرية الثانية أيضاً بحيث تكون من المشتركات بين النظريتين.
 
التأمّل الأوّل: النظرية الثالثة من منظور العقل العملي والفلسفة السياسيّة
السؤال الأساس في المشروعية السياسية والذي يمثل مركز ثقل هذا البحث ومركز تأمّل العقل العملي، وهو ما يتطلب أيضاً جهداً نقاداً هو هل يمكن حقيقةً اعتبار الرضا والرأي العام أو انتخاب الناس أساسا للمشروعية؟ سواءٌ بعنوان العلّة التامة للمشروعية كما هو الحال في النظرية الثالثة أو كجزء العلة لها كما في النظرية الثانية.
كما تقدّم سابقاً فإنّ المعطى المهم والذي يمثل كنه جوهر المشروعية السياسية هو حقّ إلزام الحكومة للمواطنين وإجبارهم على إطاعتها واتباعها في أوامرها، ومع الأخذ بالنظر هذا التعريف يطرح التساؤل التالي: كيف يمكن للرضا والإرادة العامة أو أكثرية الناس إنتاج الحقانية والصحة والصواب من ذاتها أو أن تكون كاشفاً عن صحّة انتخاب الشعب حتى يقبل عقل الإنسان وتفكيره بلزوم التسليم والاعتراف لها بحق الحاكميّة المنتخب؟ والوجه في تأمّل الفكر هنا يمكن تلخيصه بالأمور التالية:
1 ـ إن الأقلية التي لم تكن مستعدّة ـ لسببٍ أو لآخر ـ للبيعة والانتخاب ولم تقبل رأي الأكثرية ما هو الدليل العقلاني على لزوم اتباعها للأوامر الحكومية؟ كيف يمكن للدولة ممارسة حق الإلزام السياسي على الأقليّة والحال أنها لم توافق على مشروعية الحكومة؟ وطبعاً فهؤلاء جبراً سيقضون حياتهم في تلك الأرض التي لم يقبلوا الحكم فيها، وهم بملاحظة التفكير المصلحي والترجيح للملاكات ملزمون باتباع الحاكم؛ إذ لا يمكنهم مثلاً ترك أرض آبائهم وأجدادهم، لكن هل إنّ ذلك موجبٌ لثبوت حق الإلزام السياسي عليهم؟ ونفس المشكلة أيضاً تبرز بحق أولئك الذين لم يكونوا حائزين على شروط المشاركة في الانتخابات زمان إجرائها، وكذلك بحقّ بعضٍ من الأكثرية الذين أعرضوا عن رأيهم الأول، وذلك لأن العقل لا يرى أن هناك حقاً في إلزامهم السياسي من قبل الدولة، وعندما لا نتمكن من التوصّل إلى إثبات الإلزام السياسي للدولة في حقّ هذه الفئات من الناس فإنّه لن يلفّ المجتمع حينئذٍ غير الفوضى والهرج والمرج.
2 ـ لنفرض أنّ مواطني المجتمع ـ ليس فقط الأكثرية بل كل الأفراد ـ قد أعطوا الموافقة على الحكومة بحيث إنهم يعرفون انهم بذلك يطرحون القيم العقلانية والأخلاقية تحت أقدامهم، ويقدمون بذلك على ترويج الفساد والفحشاء والظلم، هل إنّ لمثل هذه الحكومة ـ بالرغم من انبثاقها عن الرضا والإرادة العامّين ـ حق الإلزام السياسي؟ هل يمكن القول بوجوب تقديمهم الطاعة للأوامر غير الأخلاقية التي تصدرها هذه الحكومة؟ إنه من المقطوع به عدم وجود مثل هذا الوجوب الأخلاقي من ناحية الحكمة العملية.
3 ـ مع الأخذ بعين الاعتبار عدم وجود إطلاعٍ حول المسائل السياسية أو تخصّصٍ كاف بها بالنسبة لأكثرية الشعب لاسيما الشباب والأفراد القليلي التجربة، وعدم وصولهم إلى مرتبة الوعي الكامل فيما يتعلّق بهذه الأمور، كما أنّ المسائل العاطفية والقضايا الخيالية نافذةٌ في مثل هذه الشريحة وبشكلٍ كبير، وهي بالتالي عرضة للمزيد من المخادعات من طرف وسائل الإعلام التي تقوم على دعم رأس مال الرأسماليين وأصحاب الثروات… مع هذا كله هل يمكن قبول هذه المقولة المنقولة من جهتين والتي تقول: "إن إرادة الأكثرية دائماً على حق"(59)؟ أو لا أقل اعتبار درجة كشف الواقع فيها أكبر منها في رأي الأقليّة وتصوّر أن رأي الأقليّة يشتمل على أخطاء أكثر؟ وذلك في حال أن أرباب القوة والتزوير يمكنهم توجيه الأفكار العامة إلى الجهة التي يريدونها فيما الأكثرية الجاهلة هي أيضاً ـ وبفعل التأثر الشديد بذلك ـ قد وضعت نفسها في طريق لا يضمن سوى المنافع الواقعية للأقلية المقتدرة. هل يمكن لدولةٍ ما اعتبار نفسها مالكةً لحق الآمرية والإطاعة والقول بأن لها المشروعية السياسية ووصولها إلى سدّة الحكم عن هذا الطريق؟
يكتب هارولد لاسول أحد مؤسّسي العلوم السياسية الأمريكية الحديثة حول تأثير أجهزة الإعلام في توجيه الرأي العام فيقول: "لا يجوز أن نقع في القطعيات الديمقراطية فيما يتعلّق بتمكّن البشر بأنفسهم من تحديد الأمور في المسائل التي تكون مورداً لرغباتهم، لا، إنّهم لا يقدرون، إنّهم أكثر حماقةً وعجزاً وجهلاً من ذلك، إنّنا نحن الأفضـل والأصلح فيما يرتبط بالمسائل التي تهمّهم، وطبعاً فانهم يملكون حق إبداء رأيهم ظاهرياً بيد أنّه لا بد لنا أن ننتبه إلى أنهم لا يستفيدون من حقّـهم هـذا"(60).
مع الالتفات إلى المناقشات الجادّة المتقدّمة يشكل الأمر من ناحيةٍ منطقيةٍ على العقل الإنساني في اعتماد الإرادة العامّة للشعب أساس المشروعية السياسية لحكومةٍ نظير حكومة الإمـام علي (ع)، وافتراض أن حق الإلزام والآمرية السياسية لعلي (ع) إنما كان عن هذا الطريق.
 
التأمّل الثاني: النظرية الثالثة من المنظور القرآني والسنّتي
وكما كان اعتبار المشروعية الشعبية من وجهة نظر العقل العملي مورداً للترديد والتساؤل، كذلك على مستوى الكتاب والسنة كانت هذه الإبهامات والمناقشات منعكسةً بأشكالٍ متنوّعةٍ أيضاً، فمن جهةٍ يخطّئ القرآن الكريم في آياتٍ كثيرةٍ الأكثرية المجتمعيّة، وهو باستخدامه تعابير حادّة من قبيل "أكثرهم لا يعقلون" "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" "ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" "ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون" والتي وردت مكرّراً في القرآن الكريم يخدش في قيمة رأي الأكثرية على نطاقٍ عام، ومن جهةٍ أخرى وفي الآية الكريمة "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرُصون"(الأنعام: 116) يجعل ملاك وسبب عدم اعتبار الأكثرية وعدم التبعية لها إتباعها للحدس والظن والتخمين، وبناءً عليه فإن رضا الأكثرية العددية وآرائها مع الأخذ بعين الاعتبار كون قراراتها مبنيةً على الحدس والتخمين لا يمكن اعتباره ـ مطلقاً وبدون قيد أو شرط ـ أساس المشروعية وعلامة الحقانية للحكومة المنبثقة عنها، إلا في الموارد التي يثبت فيها أن نظر الأكثرية قد أُبرز على أساس الموازين العلمية والتحقيقية ووفقاً للتأمّل والتفكير وأنه لم يكن مبناه التظنّي أو التخمين الصرف؛ وذلك من قبيل إظهار نظر أكثرية الخبراء في فرعٍ علميٍّ معينٍ أو في فنٍّ خاصٍ.
وقد طرح هذا البيان القرآني بوضوحٍ أكثر على مستوى الروايات الشيعية كتطبيقٍ على واحدٍ من المصاديق أي المشروعية السياسية، وكان ثبوت وتحقق الإمامة السياسية الحقّة والمشروعة على أساس الانتخاب العام مورداً للسؤال والنقد، فقد أكّدت الروايات على أنّ الإمامة لا تكتسب المشروعية إلا عن طريق النصب الإلهي، فعندما يسأل سعد بن عبد الله القمّي الإمام القائم (عج) "أخبرني يا مولاي عن العلّة التي تمنع القوم من اختيار إمامٍ لأنفسهم" يجيبه الإمام: "مصلح أو مفسد؟ قلت: مصلح، قال: هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ قلت: بلى، قال: فهي العلّة…"(61)، كما يصرّح في هذه الرواية بأنّه "لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار"، فهي تدلّل على أنه لا يمكن تأمين المشروعية للحكومة العلوية عن طريق رأي الشعب، وفي روايةٍ أخرى ينقلها الشيخ الكُليني عن الإمام الثامن (ع) جاء "هل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الأمّة فيجوز فيها اختيارهم؟ إن الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماماً باختيارهم…" (62)، كما ورد في روايةٍ ثالثةٍ اعتبار انتخاب الإمام من قبل الشعب أمراً غير منطقيٍّ ولا يخلو من تناقض، حيث إنّ ذلك بمنزلة شراء شخصٍ ما لعبدٍ ليكون هذا العبد مولى لذاك المشتري ويتولاه(63).
إنّ المسألة الجديرة بالتأمّل فيما يرتبط بالروايات المتحدّثة عن الإمامة هي أنّ الإمامة وفق القراءة الشيعية لها بالرغم من أنّها مقامٌ رفيعٌ الهي وعالي الرتبة وهو بعيد عن إدراك الأفراد العاديين، إلا أنّه ـ ووفقاً لروايات الشيعة ـ لا يمكن حصرها إطلاقاً بالمقام القدسي لها وفرز القيادة السياسية لدى تحليل محتوى الإمامة عن بنائها المتكامل، إنّ ما يقوله الدكتور مهدي الحائري فيما يتعلّق بالمقام الإلهي للإمامة صوابٌ وهو كلامٌ متطابقٌ والفكر الشيعي بحيث يكون علي بن أبي طالب (ع) حائزاً على مقام الإمامة قبل البيعة أيضاً وأن هذا المقام غير مرهـون لانتخـاب الشـعب(64)، إلا أنّ الشيء المثير للتعجّب هو تفكيكه الإمامة عن القيادة السياسية وتصوّره واحدةً منهما من الأمور الإلهية وثانيتهما من الأمور البشرية الشعبية، وذلك في حين أن أي مفكرٍ أو محقّق ـ حتى لو لم يكن شيعياً أو مسلماً ـ يطالع الروايات المتعلقة بالإمامة والولاية المنصوصة عن أئمة الشيعة المعصومين ويدرس هذه الروايات التي لا تحصى وهي تفوق حد التواتر فإنّه لن يسمح لنفسه بالتشكيك في أن مسألة السياسة والإدارة الاجتماعية تعدّ واحدةً من مناصب الإمامة، ومن محاسن الصدف أن النزاع الواسع والشامل بين الشيعة والسنة والدفاع الذي قام به أهل البيت (ع) عن إمامتهم كان قبل كل شيء عن هذه المرتبة من الإمامة، حتّى لو كانت هذه المرتبة من المراتب النازلة لمقام إمامتهم ومصنفةً كمرحلةٍ ناسوتية لها، إلا انه حيث كانت إمكانية غصبها ميسرة ويد التعدي لم تكن لتصل إلى المقامات الأرفع كانت هذه المرحلة من الموارد التي وقعت فيها المعارضة والتعدّي التاريخيين.
إن تجميع الروايات المذكورة يحتاج إلى دراسةٍ وسيعةٍ جدّاً، لكنّ نظرةً سريعةً وإجماليةً لكتاب الإمامة من بحار الأنوار وكتاب الحجّة من أصول الكافي ومطالعة بعضٍ من هذه الروايات ومن بينها الروايات الواردة في أبواب من قبيل: باب فرض طاعة الأئمة، باب أن الأئمة ولاة أمر الله، باب التفويض إلى رسول الله وإلى الأئمة في أمر الدين، باب أنّ قول الله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها فيهم نزلت، إن نظرةً إجماليةً لكل ذلك تبين هذه الحقيقة المذكورة.
إنّ بحث روايات الإمامة والولاية التي جمع بعضها الحرّ العاملي في الباب الأول من أبواب مقدّمات العبادات من كتاب وسائل الشيعة، والكثير منها غير قابل للمناقشة من حيث السند مطلقاً… يقدّم الموقعية الحساسة للولاية السياسية في البناء الرفيع للمعارف الدينية؛ فطبق هذه الأحاديث بني الإسلام على خمس الصلاة والزكاة والحج والصيام والولاية، إلا أنّ الولاية أرفع من الجميع وتمثل الركن الركين من بينها "الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن"(65)، هل يمكن حمل الولاية المطروحة في هذه الروايات على غير التدبير السياسي؟
إذا أراد محققٌ ما أن يعرّف الإمامة فقبل أن يرجع إلى اجتهاده في تعريفها من المناسب أن يعود إلى النصوص المعتبرة في هذا المجال وان يحصل منها على تحليل ومعرفة المفاد الواقعي للإمامة، فالإمام الثامن (ع) يعرّفها على الشكل التالي: "إن الإمامة خلافة الله وخلافة رسول الله (ص) ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين (ع)، إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين. إن الإمامة أسّ الإسلام النامي وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة، والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف"(66).
وعلى خلاف الاجتهاد بالرأي الذي مارسه الدكتور الحائري والذي فكّك فيه بين الإمامة والخلافة ترى الرواية الشريفة المذكورة الإمامة عين ونفس خلافة الله تعالى والنبي (ص) ومقام الإمام علي (ع) وميراث الإمام الحسن (ع) والإمام الحسين (ع). هل انه مع نظرة هذه الرواية إلى الإمامة التي تعرّفها على أنها زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزة المؤمنين وترشد إلى أن الإمامة دخيلة في الفروع والأصول معاً، وأن الإسلام المتحرّك والحيوي الشامخ في رفعة السماء بفروعه وتمامية الصلاة والزكاة والحج والجهاد إنّما تكون بها، هل انه مع هذه الأوصاف يمكن تحديد الإمامة بالمقام الإلهي بحيث لا يكون لها أي علاقة بالنظام الاجتماعي وبإجراء الفرائض الإلهية في حياة الناس؟ إن الاستدلال الفلسفي للدكتور الحائري على توازي خطّي الإمامة والسياسة هو انه إذا كانت الإمامة توأماً والوظائف الإجرائية ومسؤولية تنفيذ الأوامر الإلهية فانه لن تكون هناك أية مسؤولية على عاتق الشعب، وبالتالي سوف تتعطّل التكاليف والأوامر والنواهي والثواب والعقاب ولن يبقى هناك أي غرضٍ لبعثة الأنبياء (ع).
من المناسب قراءة الجواب عن هذا الاستدلال من لسان الإمام علي بن موسى الرضا (ع) حسبما ينقل ذلك الفضل بن شاذان، فعندما يسأله الراوي عن دليل جعل ونصب أولي الأمر والأولياء الإلهيين ولزوم الطاعة لهم من قبل الشعب (أي المشروعية السياسية للائمة (ع) وحقّ الآمرية والإلزام من قبلهم من جهةٍ والاتباع والإطاعة لأوامرهم من جهةٍ أخرى)، يشير الإمام (ع) إلى بعض أسباب الإمامة النصبية والجعلية(67)، والأدلة الثلاثة التي يذكرها الإمام الرضا (ع) في هذه الرواية ـ والتي تنتظم جميعها على أساس البراهين العقلائية ولم تؤخذ كأمورٍ تعبديّةٍ ـ هي: "منها أنّ الخلق لما وقفوا على حدٍّ محدودٍ وأمروا أن لا يتعدّوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من التعدّي والدخول فيما حظر عليهم، لأنّه لو لم يكن ذلك لكان أحدٌ لا يترك لذّته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام، ومنها أنّا لا نجد فرقةً من الفرق ولا ملّةً من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيّمٍ ورئيسٍ ولما لابد لهم منه في أمر الدين والدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم أنّ يترك الخلق مما يعلم أنّه لابد منه ولا قوام لهم إلا به فيقاتلون به عدوّهم ويقسمون فيئهم ويقيم لهم جمعهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم، ومنها أنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً أميناً حافظاً مستودعاً لدرست الملة وذهب الدين وغيّرت السنن والأحكام ويزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون وشبهوا ذلك على المسلمين، لأنّا وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتّت أنهائهم".
طبقاً للأدلّة المذكورة لا يطرح في الإمامة السياسية ـ بأي وجهٍ من الوجوه ـ بحث نفي التكليف وانعدام فائدة الثواب والعقاب، فالناس مكلّفون وعليهم أن يعملوا بوظائفهم عن إرادةٍ واختيار، لكن حيث إنّ جعل القانون من دون وجود ضمانٍ تنفيذيٍّ له سوف يصيّره فاشلاً لا يحقق للناس السعادة المرجوّة منه وبالتالي سوف تبقى أهداف المقنّن منقوصةً ومبتورةً، فلأجل إجراء القوانين الإلهية والحيلولة دون وقوع الفساد وهجوم أنواع الآفات المزمنة والأمراض الفكرية والأخلاقية والدينية على المجتمع والحفاظ على الناس الذين لا ملاذ لهم أمام كل هؤلاء الأعداء المرئيين وغير المرئيين تقتضي الحكمة الإلهية بإرسال أفراد للقيام بهذه الوظائف، ومن أهم تكاليف الناس هو تهيئة الأرضية ـ وعن ميل منهم ورغبة ـ لظهور وبروز حاكمية مثل هذا الإمام المنصوب من قبل الله تعالى، نعم إنّ بحث دور الشعب والمشروعية العلم اجتماعية هو بحثٌ آخر تقدّم سابقاً وسوف تأتي الإشارة له لاحقاً، وعلى أيّة حال ففي مسائل من قبيل إجراء الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مرتبة الإقدام العملي له تكون هذه الحقيقة من الضروريات الفقهية وهي أنّ المنفّذ هو الإمام المنصوب من قبل الله سبحانه، وبالتالي فالاجتهاد مقابل النص في مثل هذه الموارد أمر خارج عن منهج التحقيق العلمي.
 
التأمّل الثالث: النظرية الثالثة وفق الأدلة الخاصّة بالحكومة العلويّة
لقد كانت التأمّلات السابقة تدور حول أصل مدّعى النظرية الثالثة وكبراها الكلية فيما يتعلّق بمشروعية الإمامة العامّة، ونقصد في هذا التأمل إلى البحث في تطبيق تلك الكبرى الكليّة على الحكومة العلوية، فهل أن الأدلة والشواهد الخارجية تؤيد تبلور المشروعية السياسية للحكومة العلوية عن طريق بيعة الناس؟
بالإضافة إلى الأدلة الكلية فيما يرتبط بالإمامة العامة والبراهين العقلية والنقلية الكثيرة المدوّنة في المباني الكلامية للشيعة، نواجه فيما يخص إمامة أمير المؤمنين (ع) كمّا هائلاً من الأدلة النقلية الروائية وغير الروائية يؤيد ـ وفاقاً للمباني الشيعية ـ عدم كون مشروعيّة الإمامة السياسية له (ع) مرتهنةً بالبيعة عقب مقتل عثمان، وأنّ البحث عن الإمامة السياسية له كان مطروحاً منذ ولادة نبوة النبي الأكرم (ص) في غار حراء، فعندما نزل ملك الوحي على النبي الأكرم (ص) كان علي (ع) يسمع أنين الشيطان، وقد أيّده الرسول (ص) وقال له بأنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى غير أنّك لست بنبي "ولكنك لوزير وإنّك لعلى خير"(68).
وعندما نزلت آية "وأنذر عشيرتك الأقربين"(الشعراء:214) جمع
النبي (ص) أهل بيته وقال لهم: "أيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم"، فأجابه الإمام علي (ع) بجوابٍ إيجابيٍّ، فقال له الرسول (ص): "إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا"(69).
هل هذا غير المشروعية الإلهية للحكومة العلوية؟ فحتّى لو كان الإنسان غير شيعيٍّ لا يمكنه ـ من وجهة نظرٍ تحقيقيةٍ وخبرويةٍ ـ إنكار هذه المستندات أو أن يورد عليها إشكالاً سندياً أو دلاليّاً، والأهم من كلّ ذلك بحث رواية الغدير والآيات النازلة حولها وكلمات الإمام علي (ع) نفسه وكذلك الصحابة وأئمة الشيعة فيما يرتبط بتجزئة وتحليل ذلك، بحيث إنه مع الأخذ بعين الاعتبار المصادر الكثيرة التي دوّنت فيها لا حاجة إلى تكرارها مجدّداً، وإنما نكتفي بهذه الإشارة ألا وهي: ما هي تلك المسألة المهمة التي وقعت والتي يمثّل عدم إبلاغها للناس عدم إبلاغ الرسالة والوحي؟ كما ينبه القرآن الكريم إلى ذلك "وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته"(المائدة:67)، انه إبلاغٌ لأي حادثة مهمة ونداء ضروري بحيث يحتاج إلى إعطاء الضمانات من طرف المولى سبحانه "والله يعصمك من الناس"؟ ما هي هذه الفئات والأحزاب التي كانت ترى منافعها مهدّدةً بالخطر ومن أي موضوع كان قلق النبي (ص)؟
على أيّة حال فمسألة الغدير وكافّة قرائنها الداخلية والخارجية وتقديرها من حيث الزمان والمكان، وخوف وقوع الفتنة التي احتملت في نصب علي (ع) للخلافة بعد الرسول (ص) (70)، وترحيب الصحابة في يوم الغدير بالإمام علي (ع) وبيعتهم له في ذلك اليوم وإطلاق كلمات "بخٍّ بخٍّ لك يا علي"(71)، إلى جانب تواتر هذه الحادثة والاستنتاجات التي خرج بها الشعراء والأدباء والمفكّرون منها كل ذلك يثبت بالحتم المشروعية الإلهية للحكومة العلوية.
إنّ من النقاط الجديرة بالانتباه فيما يتعلّق بحديث الغدير هو الاحتجاجات والمناشدات التي أريد منها إثبات الإمامة السياسية لعلي (ع)، فأوّل مستدِلّ بهذا الحديث هو الإمام علي (ع) نفسه في مسجد الرسول (ص) بعد وفاته، كما استند إليه (ع) بعد ذلك أيضاً مراتٍ عديدةٍ لإثبات ولايته السياسية كما في يوم الشورى، أيام عثمان، يوم الرحبة، يوم الجمل، يوم الركبان ويوم صفين، هذا ومضافاً إلى احتجاجات الصديقة الطاهرة (ع) والإمام الحسن (ع) والإمام الحسين (ع) فقد أماط عبد الله بن جعفر، عمرو بن العاص، عمار بن ياسر، الأصبغ بن نباتة، قيس الأنصاري، عمر بن عبد العزيز، المأمون العباسي الترديد والشك عن هذه الحقيقة وأنّ حقه (ع) كان قد جرى غصبه(72).
وفي المناظرة التي وقعت بين الإمام علي (ع) والأشعث بن قيس يعاتب الأشعث بكلمات نابية وبذيئة الإمام (ع) فيقول له: يا أمير المؤمنين! لم تخطبنا خطبة منذ قدمت العراق إلاّ وقلت: والله إني لأولى الناس بالناس، وما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله (ص)! ولما ولي تيم وعدي، إلا ضربت بسيفك دون ظلامتك؟! فقال له أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: "يا بن الخمّارة! قد قلت قولاً فاستمع، والله ما منعني الجبن ولا كراهيّة الموت، ولا منعني ذلك إلاّ عهد أخي رسول الله (ص)" وهنا يتذكّر الإمام (ع) ما حصل بعد وفاة الرسول (ص) فيقول: "ثم أخذت يد فاطمة وابني الحسن والحسين ثم درت على أهل بدر وأهل السابقة وناشدتهم حقّي ودعوتهم إلى نصري فما أجابني منهم إلا أربعة رهط: سلمان وعمار والمقداد وأبو ذر"(73).
والسؤال المهم ما هو الحق الذي جرى نهبه من الإمام (ع) من وجهة نظر مقترحي النظرية الثالثة والذي لأجله قام بمثل هذا السعي الكاشف عن مظلوميّته ودون توفيق؟ فإذا كان حقاً أن الإمام (ع) قد اكتسب مشروعيته السياسية من خلال البيعة ولم يكن قبل ذلك ذا حقٍّ سياسيٍّ فلماذا يقول في خطبة الشقشقية: "والله لقد تقمّصها فلان وانه ليعلم أنّ محلّي منها محل القطب من الرحى… فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهباً"(74).
 
التأمّل الرابع: النظرية الثالثة من زاوية إجماع الفريقين
إذا أردنا تقييم وتأييد النظرية الثالثة من زاوية الإجماع فإن هذه النظرية تقع مخالفة ومن جهتين لاتفاق الشيعة والسنة؛ فهي ـ اصطلاحاً ـ متضمنةٌ لخرق الإجماع المركّب وبذلك يمكن اعتبارها بدعةً فكريةً.
فأوّلاً: طبق مدّعى النظرية المذكورة تخرج السياسة عن ماهية الدين وتعاليمه الوحيانية وتؤخذ كأمرٍ عرفي، في حين أنه ـ ووفق التعاريف التي يقدّمها المتكلمون والمفكرون المسلمون الشيعة والسنة للإمامة والتي تقدّمت ـ لم يكن هناك أيّ شخصٍ ينكر الماهية السياسية لمقولة الإمامة(75)، والباحثون المسلمون في تعريفهم للإمامة جعلوا عنصر الرئاسة الدنيوية أو السياسة الدنيوية مترافقاً والرئاسة الدينية والتدخل في الأمور الدينية، وهم بذلك يبرزون موقفهم من الفكر العلماني، واختلاف الشيعة والسنة إنما كان في شرائط الإمامة المذكورة ولزوم العصمة وانتخابيتها أو نصبيتها.
وثانياً: إن الفرق الثاني الحاصل بين هذه الرؤية والإجماع هو أنّ الحكومة العلوية ـ وفقاً لها ـ منفصلةٌ بشكلٍ كاملٍ عن الوحي والمشروعية الدينية، في حين يشهد تاريخ المنازعات الفكرية والسياسية بين الشيعة والسنة لهذه الحقيقة وهي أنّ كلا الفريقين كان يرى أنّ حكومة هذا القدوة الحقيقي هي حكومةٌ إلهيّةٌ وقعت مورداً لرضا وتأييد الشرع، والشيعة وحدهم هم من لم يكن يرى دخالة انتخاب المهاجرين والأنصار في مشروعيتها السياسية فيما كان أهل السنة يعتقدون بأنّ المشروعية الإلهية قد جرت عبر قناة البيعة والانتخاب من طرف المجتمع.
وبناءً عليه فلا شك في أنّ الرؤية الثالثة هذه قد طرحت جانباً مقولة الإجماع، وخرق إجماع المسلمين المسلّم والقطعي علامةٌ على عدم القيمة وعدم العلمية لهذه النظرية، وذلك لأنّه وفقاً لمسلك أهل السنة ومبانيهم في حجية الإجماع المعتمدة على رواية "لا تجمع أمّتي على ضلالة"(76) وسيرهم على الاعتقاد القائل بأنه كلما اتفقت الأمة الإسلامية على أمرٍ ما فان هذا علامة صحته واعتباره ـ وهم في الواقع يرون العصمة للإجماع ـ فإن عدم صحة النظرية الثالثة سيكون حينئذٍ واضحاً لا إبهام فيه، وأمّا وفقاً لمسلك الشيعة فانه بالرغم من أنّ الإجماع لا حجّية ذاتيّة له وهو معتبرٌ من حيث كشفه عن قول ورأي المعصوم فحسب إلا انه من الواضح جدّاً أنّ إجماع علماء الشيعة على نفي القول الثالث إنّما هو ناشئ عن الدروس التي تعلّموها من العترة الطاهرة (ع)، وكما تقدم في التأمل السابق فان مسألة المشروعية الإلهية للحكومة العلوية تعدّ من قطعيات وضروريات مذهب الشيعة وإنكارها يصنّف إنكاراً لواحدٍ من أصول المذهب الشيعي، وبالتأمل والتدقيق في الزوايا المتعددة للرؤية الثالثة يصل الإنسان إلى أنّ الأشخاص الذين ينتسبون إلى أهل البيت (ع) إلا أنهم متورّطون في هذه النظرية ـ إذا نفينا الاحتمالات الأخرى ـ لا أقلّ يظهرون علناً عدم اطلاعهم على المبادىء التصديقية والتصورية للإمامة الشيعية؛ وذلك لأنهم يعملون على الاجتهاد الحدسي والتخمين وهم من دون استقصاءٍ كاملٍ للمستندات ومن دون التفحّص الكافي والوافي لجوانب الموضوع يميلون إلى هذه البدعة الكبيرة، وإذا جوّز شخص ـ ولو على فرض المحال ـ الاجتهاد في الأصول أيضاً فإن الاجتهاد لا بد أن يكون على أساس الموازين المعروفة في المحافل العلمية، وإذا قبلنا التعدّد في القراءة فلابد من تحديد الفواصل والحدود بين القراءة والتهجّي الخاطئ.
 
التأمّل الخامس: النقد الإجمالي للأدلة النقلية للرؤية الثالثة
واجهنا في هذه النظرية طائفتين من الشواهد النقلية هما:
الطائفة الأولى كانت عبارة عن الآيات القرآنية التي تدلّل على أنه لا شأن للنبي في الزعامة السياسية وأنّ وظيفته التذكير وإبلاغ الرسالة، ولابد فيما يتعلّق بهذه الآيات من التعليق ولو إجمالاً بـ:
1 ـ إن الحصر الوارد في هذه الآيات ليس حصراً حقيقياً وإنّما هو حصرٌ إضافي؛ وبالتالي فالآيات التي استند إليها ليس لها ظهور في إثبات المدّعى.
2 ـ في قبال هذه الآيات توجد آيات أخرى إذا لم تكن نصّاً في مدلولها فلا أقل من أنها ذات دلالة أقوى في مقام المعارضة من قبيل "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم"(الأحزاب: 60)، وآية أولي الأمر، وآية الولاية وآيات أخرى كثيرة نزلت في شأن القضاء والقيادة السياسية للنبي (ص) والأئمة المعصومين (ع).
3 ـ إذا تمّ قبول الآيات المذكورة ولم يكن لها أيّ معارض، فانه بالاستعانة بالأدلّة القطعية النقلية والعقلية التي تمّ الإشارة إلى بعضها في طيّات التأملات السابقة سوف يكون ظهور هذه الآيات ساقطاً عن الحجية.
الطائفة الثانية من الشواهد النقلية للنظرية الثالثة هي روايات وكلمات أمير المؤمنين (ع) التي جاء فيها اعتماد حكومته على بيعة وشورى المهاجرين والأنصار واعتبار حكومته المشروعة والحقّة مبنيّةً على البيعة والشورى.
وفي مقام الإجابة عن هذه الشواهد لابد من الالتفات إلى عدّة نقاطٍ ضرورية:
1 ـ إن هذه الروايات معارضة برواياتٍ أخرى من كلماته (ع) من قبيل جملة مقاطع مختلفة لخطبة الشقشقية يعلن فيها الإمام (ع) حقّه مغصوباً منهوباً.
2 ـ إنّ ظهور هذه الروايات إنّما هو ظهور بدوي، فمع الأخذ بعين الاعتبار الأدلّة القطعية العقلية والنقلية على الإمامة العامة والخاصّة للشيعة كقاعدة اللطف وحديث الغدير، والمطالب التي تقدمت في التأمّلات السابقة سوف نلزم برفع اليد عن ظهور هذه الأدلّة وبالتالي إسقاطه عن الحجية.
3 ـ إن الكثير من تلك الشواهد إنّما جاءت كمدركٍ حقوقيٍّ وسياسيٍّ كالمكاتبات لمعاوية أو طلحة أو الزبير، وكذلك مكاتبة الإمام الحسن (ع) لمعاوية أو صلحه معه، والشيء الذي شكّل أساس الحوار في مثل هذه المستندات إنّما هو ذاك الأمر الذي كانت خاصيته القانونية مورداً لقبول الطرفين معاً، ومن هنا يكون الإمام (ع) في مثل هذه المستندات التاريخية في مقام إثبات المشروعية والمنشأ القانوني لحكومته والذي يجري قبوله اجتماعياً لدى مجتمع تلك الحقبة، حتّى لو لم يكن يرى الإمام (ع) صحة وصوابية ذاك القانون أو تلك المشروعية الحقوقية، بل كان يرى مشروعيته السياسية مستمدةً من النصب والتعيين الإلهي.
4 ـ إذا نظرنا إلى تلك الشواهد بالنظر المنطقي ومن زاوية مسألة الصناعات الخمس فإننا سنلاحظ أنّ هذه الشواهد إنما جاءت في مقام الجدل، وفي الجدل يمكن الاحتجاج بمقدمة يقبلها الطرف الآخر حتّى لو كان المتكلّم غير معتقدٍ بتلك المقدّمة.
 
التأمّل السادس: النظرية الثالثة في محكّ التجربة
إذا تأمّلنا النظريات الثلاث المرتبطة بأساس المشروعية السياسية للحكومة العلوية من البعد العملي، وقرأناه قراءةً معرفيةً في الميدان التاريخي ووضعنا نتائجها على منضدة النقد والتشريح، فإنه لا بد لنا من الاعتراف بالتأسف على عدم وجود نتائج عملية مقبولة ومشرقة على المستوى التاريخي من طرف مؤسّسي وأتباع المشاركة الشعبية في المشروعية السياسية، فلم يحرف الإسلامَ عن مسيره ويبدل حكومته الإسلامية بعد عدة عقود إلى نظامٍ ملكيٍّ وسلطانيٍّ ويسلّط جبابرة العالم من أمثال يزيد والحجّاج والأمويين والعباسيين على الشعوب المظلومة ويعدم الظروف المهيّئة لعالمية الإسلام سوى الانحراف عن المشروعية الإلهية وغصب مقام الإمامة من علي (ع) باسم الانتخاب والبيعة والشورى وأمثال ذلك، وإذا لم ينخدع الناس بل قبلوا التوحيد بتمام مراتبه لا سيما بعده الربوبي التشريعي واتجهوا بكامل الرغبة إلى الولاية السياسية للوصي والخليفة الحقيقي لرسول الله (ص) فإن التاريخ البشري ـ كان بلا شك ـ سيتبلور بشكل آخر، ولم تكن لتصب كل تلك المظالم وكل ذاك الجور على الناس الذين لا يملكون الدفاع عن أنفسهم.
وكذلك الحال اليوم فهل ما يرد على البشر والمليارات من بني الإنسان نابعاً من غير أولئك المدّعين والمتولّين للمشروعية الشعبية؟ إنّ الظالمين والرأسماليين والمزورين العالميين الذين يسيطرون على السياسة والاقتصاد والثقافة العالمية، يمارسون اليوم بقبضتهم على وسائل الإعلام والاتصال المسيطرة على المجتمعات والبشر وباسم الشعب أكبر عملية نهب وسرقة لمنافع الناس.
إنّ التاريخ مليءٌ بالغصص والظُلمات البشرية والشيء المتلألئ إنما هو تلك الأيام التي تمركزت فيها المشروعية الإلهية، واليوم وبعد قرون، تبقى الحكومة النبوية والعلوية كنقاط مضيئة ومتلألئة من حياة البشرية؛ فتلك السنوات القليلة المليئة بالإشعاع كانت تعبّر عن سني الاستقرار لحاكمية ولي الله تعالى على الناس، ومع تلك العبرة وذاك الدرس من الماضي والحاضر لابد للناس من الوصول إلى هذه الحقيقة وإدراكها وهي أنّ الطريق الوحيد لنجاة البشرية إنما هو تمركز حكومةٍ مبنيةٍ على أساس المشروعية الإلهية، والسرّ في وضع اليد على هذه الحقيقة على أساس الحكمة واللطف الإلهيين في أدلة الإمامة الشيعية هو انه لا وجود لطريقٍ آخر أمام البشر لتأمين سعادتهم الدنيوية والأخروية.
إن اليوم الذي تشعّ فيه رؤية المشروعية الإلهية وتملئ شمس الحكومة المهدوية العالم كله سيُحي في القلوب أمل العدالة الاجتماعية والاحترام والكرامة الواقعية للإنسان ويرفع سلطة الجهل والفقر والظلم والفساد والشرك العالمي، "أليس الصبح بقريب".
 
التأمّل السابع: دور الشعب في الحكومة العلوية وفق مبنى المشروعية الإلهية
لأجل تحديد دور الناس في الحكومة العلوية طبقاً لمبنى المشروعية الإلهية وإزالة توهّم الاستبداد وسحق ومحق الحقوق والكرامة الإنسانية طبق هذا المبنى، نستند إلى كلمات الإمام علي (ع) التي يخاطب بها شيعته: "وقد كان رسول الله (ص) عهد إليّ عهداً فقال: يا بن أبي طالب لك ولاء أمّتي، فإن ولّوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه فإنّ الله سيجعل لك مخرجاً"(77).
تعكس هذه الرواية وتبين دور الشعب في الحكومة العلوية طبق مبنى المشروعية الإلهية، كما وترفع النقاب عن هذه الحقيقة الكبرى إلا وهي أنّه حتى لو لم يكن رأي الشعب أساساً للمشروعية السياسية، إلا انه على مستوى المنشأ التاريخي للحكومة والتحقّق الخارجي لها وبالمنظار العلم اجتماعي مهمٌّ جدّاً وأساسي أيضاً، فبالرغم من أنّ رأي الناس ليس ملاكاً لتشخيص الحق والباطل والصلاح والفساد والثواب والعقاب، وإذا ما صوت الشعب كلّه على نفي التوحيد أو المعاد أو أي واحدٍ من الضروريات الدينية أو العقلانية فان هذا التصويت يقيّم على أنه فاقد للقيمة، إلا انه مع ذلك فلرأي الشعب تأثيرٌ محوريٌّ، وهذا التأثير لا يمكن البحث عنه في الدور التكويني والظهور العيني لحاكمية الحق فقط بل إن له تأثيرين أساسيين آخرين هما:
أولاً: في الموارد التي لم تقبل فيها الفرق والفئات بالمشروعية الإلهية لا يحقّ لأيّ شخصٍ النقاش في نفوذ حكم ولي الأمر أو الخدشة فيه؛ وذلك استناداً إلى المشروعية القانونية التي يكتسبها النظام على أساس قاعدة الإلزام أو الجدال بالتي هي أحسن، إن امتياز قاعدة الإلزام هو في كونها تمثّل في الساحة الاجتماعية ـ ومن ناحيةٍ حقوقيةٍ ـ نظريةً احتياطيةً وسلوكاً قائماً على أساس الوفاق الجمعي، فهي لا تجبر الخصم فقط على السكوت والتسليم للنظام بل إنها موجبةٌ لتحكيم أسسه أيضاً.
ثانياً: بالرغم من أنّ ولاية وإمامة الإمام علي (ع) وفق مباني الإمامة الشيعية إنما قامت على أساس النصب ولا حاجة لها لا في أصل مشروعيتها السياسية ولا في فعليتها للبيعة، لكن هل أن بيعة الناس بعد مقتل عثمان كان لها تأثيرٌ ونفوذٌ تكوينيٌ فحسب أو أنّه كان لها تأثير آخر أيضاً؟ من وجهة نظرنا لا بد من الاعتراف بدورٍ آخر لبيعة الشعب وهو انه إذا لم يقبل الناس على البيعة كما حصل في السنوات التي أعقبت رحيل الرسول (ص) فهل كان لأمير المؤمنين الحق في إعمال ولايته حينئذٍ؟ وهل كان إعماله الولاية أمراً مشروعاً بالنسبة إليه؟ وفي الحقيقة ما هو المبنى الشرعي الذي دفع الإمام (ع) للسكوت والتزام المنزل؟ هل كان ذلك لأجل غضّ النظر عن حقه فحسب ولذلك لم يكن له حضورٌ في الساحة وهل أن إحقاق الحق كان عملاً مباحاً حتى يغضّ الإمام الطرف عنه؟ أو انه كانت وظيفته الشرعية والإلهية هي السكوت وإغماد السيف؟
إنّ الشيء الذي يخطر في الذهن هنا هو أن الإمام كان يرى بشكلٍ جيدٍ أن إعمال ولايته والسعي للحصول على حقه المغتصب سوف يؤدّي في النهاية إلى ذهاب الإسلام وشيوع الهرج والمرج وعدم الاستقرار للدين الفتي بأسسه الجديدة، ومع هذه الظروف هل كان من الجائز للإمام (ع) الدخول في الدماء لأجل التصدّي لولايته المشروعة؟ إن الجواب سلبيٌّ بلا شك من الناحية الفقهية وعلى مستوى قواعد باب التزاحم الملاحظة هنا ضرورةً، وذلك لان ولي الأمر مسؤولٌ ـ من خلال ترجيحه للمصالح الأهم وحفظ المصالح الإسلامية العليا ـ عن التجاوز والتغاضي عن حقّه، وهذا السكوت لا يمكن تقييمه على انه عمل مباح بل إنه تكليفٌ ووظيفةٌ شرعيةٌ، أما وعندما أقدم الناس على البيعة فإنّ الحجة أصبحت بذلك تامةً وسيكون الولي مسؤولاً عن التصدي حينئذٍ "لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر… لألقيت حبلها على غاربها"(78).
إذن وفقاً لمبنى المشروعية الإلهية فسواء كان هناك انتخاب وإقبال شعبي أو لم يكن فإن الولاية مجعولة وفعلية للإمام (ع) إلا أن مشروعية إعمالها والتصدّي لها منوطان برضا عامّة الناس، فإذا لم يقبلها الناس فان موضوع إعمال الولاية لن يكون له تحقق، ومع عدم تحققه وسيطرة خطر الهرج والمرج والاضطراب الشديد لأسس الإسلام فان الوظيفة حينئذٍ هي السكوت، والنكتة الأساسية والدقيقة للبحث والتي يمكنها أن تثير الكثير جدّاً من الشبهات الواردة على مبنى المشروعية الإلهية والإمامة الشيعية هي عدم التفكيك بين أصل مشروعيّة الولاية وبين إعمالها، فعلى أساس مبنى المشروعية الشعبية أو المشروعية الإلهية ـ الشعبية يكون أصل الإنشاء وفعلية الولاية مبنيان على رضا وانتخاب الشعب وما لم يكن هناك رأي من طرف الشعب فإنّه لا يقال لأي إنسانٍ أنه "ولي"، أمّا طبقاً لمبنى الإمامة الشيعية فإن أصل الولاية متوقّفٌ على النصب والتعيين سواءٌ في مرحلة الإنشاء أو في مرحلة الفعلية، وبالجعل والنصب يطلق على المنصوب أنه "ولي"، إلا أن جواز إعماله لولايته متوقفٌ على تبلور الأرضية الاجتماعية المناسبة وترحيب الناس بها، ودليل لزوم الاجتناب عن الفوضى وعدم النظام وتقوية المصالح الدينية حاكمٌ على دليل جواز إعمال الولاية(79).
وبناءً عليه فبين المشروعية الإلهية المنظورة هنا في الحكومة العلوية والمشروعية الإلهية المعاصرة التي يجري تدوينها في الأنظمة الحقوقية تفاوتٌ جذريٌّ وعميقٌ، ففي الفكر السياسي السائد في الغرب يعبّر عن المشروعية الإلهية للدولة كما يلي: "أيّ حاكمٍ منصوبٍ من جانب الله وهو من هذه الجهة مسؤولٌ أمام الله فقط لا أيّ شخصٍ آخر، ومن هنا يكون هذا الحاكم فوق القانون وفوق الناس"(80).
وتعود جذور هذا الفهم للمنشأ الإلهي للنظام السياسي إلى الفكر المسيحي والحكّام المستبدين في التاريخ حيث كانوا يعتبرون أنفسهم ظلّ الله تعالى وممثّليه، وهم من هذه النقطة بالذات يقفزون على الرقابة وعلى مساءلة الشعب، وقد شكّلت هذه المسألة منشأً لظهور النظريات المنافسة كرضا وإرادة الشعب أو العقد الاجتماعي، أمّا في المشروعية الإلهية المنظورة لنا هنا فالملاك فيها ـ كما تمّ الاستنتاج من "لك ولاء أمّتي" ـ عبارةٌ عن الرضا والإرادة الشعبية العامّة، وفي هذا الطراز الفكري يتحوّل الحاكم إلى خادمٍ للشعب كما تكون السلطة مؤطّرةً بإطار القوانين الشرعية، وتستقر الحقوق المتبادلة بين الوالي والرعية؛ فالشعب بممارسته وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لقادته يمارس الرقابة والإشراف بهدف إرادة الخير والحيلولة دون انحراف أجهزة الدولة، كما أنّ النظام مطالب بتقديم الأجوبة على تساؤلات الناس، وحتّى الحياة العادية واليومية للحاكم لابد أن تكون في حدّ أضعف شرائح المجتمع، وقد دوّنت النماذج الواقعية لهذا الأمر في السيرة الحكومية للإمام علي (ع).
لماذا تأخّرت الحكومة العلوية 25 سنة؟ ولماذا أقبل الناس عليها بعد كل هذه السنين؟ ولماذا لم تتمكّن من مواصلة المسيرة؟ إن كل ذلك يرجع إلى إرادة المجتمع نفسه، والحكومة التي تستمدّ مشروعيتها من الجانب الإلهي لا يمكنها أبداً الاستيلاء على السلطة بالقهر والغلبة والقوّة رغماً عن الميول الشعبية العامة، لأن ذلك لا ينسجم مع أهداف مثل هذه الحكومة؛ فمكان ولاية ولي الله تعالى هو قلوب الناس والهدف من ذلك هو رشد وتعالي الإنسان وحفظ حرمته وكرامته، والدفاعٌ عن الحقوق الإلهية للناس والحيلولة دون حصول الظلم والسحق للمنافع والحقوق المادية والمعنوية لهم كل ذلك من الأهداف الأساسية للمشروعية الإلهية كما شهد بذلك التاريخ في زمن حكومة علي (ع)، إلا أنّ آلهة القوة والحيلة الذين لا يعرفون أي حرمةٍ للإنسان قاموا بمواجهته (ع) بالفتنة والمكر والخديعة، مشكّلين جيوش الناكثين والمارقين والقاسطين، وهذه الحقيقة هي سرّ ما ينقل في الرواية عن رسول الله (ص): "إن تولّوها علياً تجدوه هادياً مهديّاً"(81)، وكذلك ما ينقل من كلامٍ له (ص) لعلي (ع): "أنت بمنزلة الكعبة تؤتى ولا تأتي فإن أتاك هؤلاء القوم فسلّموها إليك ـ يعني الخلافة ـ فاقبل منهم، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتى يأتوك"(82).
 
 
* * *

 

الهوامش :

________________________________
1 – أنظر ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج7، ص 36، وج 4، ص 8، وابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1، ص 46ـ 47، وابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج2، ص 302 ـ 303.
2 – نهج البلاغة، تحقيق الدكتور صبحي الصالح، الخطبة:229، ص 350 ـ 351، وكذلك انظر خطبة الشقشقية، ص 49.
3 – المصدر نفسه، الخطبة 92، ص 136.
4 – ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 302.
5 – ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج1، ص36.
6 – انظر حسين بشيريّة، جامعه مدني وتوسعه سياسي در إيران، ص 102، وصادق لاريجاني، مقاله مباني مشروعيت حكومتها، مجله انديشه حكومت، العدد8، ص 15.
7 – السيد المرتضى، الذخيرة في علم الكلام، ص468.
8 – أنظر نهج البلاغة، الرسالة54، ص445.
9 – انظر ابن أبي الحديد، مصدر سابق، ج7، ص36 ـ 43.
10 – نهج البلاغة، الرسالة 6، ص366 ـ 367، وكذلك انظر الرسالة 7، ص367، "لأنها بيعةٌ واحدةٌ لا يثنى فيها النظر ولا يستأنف فيها الخيار".
11 – انظر علي بن محمد القوشجي، شرح تجريد العقائد، ص365 ـ 366.
12 – انظر العلامة الحلي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 366.
13 – انظر عبد الله جوادي آملي، مقالات بيرامون وحي ورهبرى، ص 139 ـ 143.
14 – أبو حامد الغزّالي، الاقتصاد في الاعتقاد، الباب الثالث، ص 197 ـ 201.
15 – يعتقد مجموعةٌ من أعلام أهل السنة بوجود نصٍّ خفيٍّ أو جليّ للإمامة، وهم على هذا الأساس يصنّفون خلافة أبي بكر على أنها تعيينيّة نصبيّة. أنظر ابن تيمية الحرّاني، منهاج السنة النبوية، ج 1، ص 135 ـ 137، وأبي حامد الغزالي، سرّ العالمين وكشف ما في الدارين، (باب في المقالة الرابعة)، ص 20 ـ 22.
16 – المصدر نفسه، وكذلك انظر ابن خلدون، المقدمة، ص 191 ـ 192، والقوشجي، شرح التجريد، ص 365، والقاضي أبي يعلى، الأحكام السلطانية، ص 19، وابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 308.
17 – انظر أبي الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، ص 5، وأبي حامد الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص 197.
18 – العلامة الحلي، شرح تجريد الاعتقاد، ص 367، وفي السنوات الأخيرة كان هناك بعضٌ من المتشيّعين من الذين لم يتكتموا على ميلهم لنظرية أهل السنة في المشروعية الدينية للحكومة العلويّة، للمزيد من الاطلاع انظر حيدر علي قلمداران، حكومت در إسلام، ج 1، ص 140 ـ 149، ونعمت الله صالحي نجف آبادى، ولايت فقيه حكومت صالحان، ص 136 ـ 139 و 129 ـ 131.
19 – انظر ابن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل، الجزء الرابع، ص 87 ـ 107.
20 – انظر السيد شريف الجرجاني، شرح مواقف الإيجي، ج 8، ص 344 ـ 352، والقوشجي، شرح تجريد الاعتقاد، ص 365.
21 – أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، ص 5.
22 ـ ابن خلدون، المقدّمة، ص 218.
23 – الاقتصاد في الاعتقاد، ص 197 ـ 201.
24 – راجع العلامة الطباطبائي، شيعه در اسلام، ص 15 ـ 16.
25 – إن البعض من الكتّاب غير الملتفتين إلى هذا المدعى ـ وهو أن الرئيس التنفيذي للمسلمين انتخابي، وان أوصافه قد بيّنت في القرآن الكريم، ويجب على مسلمي كلّ زمان انتخاب من اجتمعت في هذه الصفات ـ يرون أن حكومة خلفاء الإسلام كانت مشروعيتها السياسية مبنية على هذا الأساس، وأن المشروعية الدينية والسياسية لحكومة الإمام علي (ع) كانت انتخابية أيضاً، ويحملون أدلّة النصب على أولويته وأحقّيته (ع).
انظر السيد أسد الله الموسوي الخرقاني، محو الموهوم وصحو المعلوم، ص 12 ـ 38، وحيدر علي قلمداران، حكومت در اسلام، وكذلك انظر نعمت الله صالحي نجف آبادي، ولايت فقيه حكومت صالحان، ص 129 ـ 131. ج1، ص 112 و121 ـ 123 و140 ـ 149 و 220 ـ 228. وتقييم ومحاكمة هذا المدعى موكولان إلى المباحث اللاحقة.
26 – انظر كنموذجٍ الإمام الخميني، المكاسب المحرّمة، ج 2، ص 105 ـ 106.
27 – الخواجه نصير الدين الطوسي، شرح تجريد الاعتقاد، ص 362.
28 – راجع الملا نظر علي طالقاني، كاشف الأسرار، المقالة الثانية، الفصل الرابع، وجوب اللطف، والمقالة الرابعة (الإمامة) الفصل الأوّل.
29 – انظر الشيخ الطوسي، تمهيد الأصول في علم الكلام، فصل: في أن الإمام بعد النبي (ص) بلا فصل، ص 370، والعلامة الحلي، شرح تجريد الاعتقاد، ص 367 ـ 372.
30 – راجع شرح المواقف للايجي، ج 8، ص 344 ـ 352.
31 – الفخر الرازي، كتاب الأربعين في أصول الدين، ص 437 ـ 439، وكذلك انظر القاضي أبي يعلى، الأحكام السلطانية، ص 19 ـ 25.
32 – راجع التفتازاني، شرح المقاصد، ج 2، ص 272 ـ 283.
33 – راجع محمد الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص 201 ـ 203.
34 – القوشجي، شرح تجريد الاعتقاد، ص 365، وابن خلدون، المقدّمة، ص 191.
35 – م، ن.
36 – انظر منير حميد البياتي، الدولة القانونية والنظام السياسي الإسلامي، ص 248 ـ 301 و 319 ـ 323، حيـدر علي قلمداران، حكومت در اسلام، ج 1، ص 208 ـ 210 و 204 ـ 206.
37 – انظر منير حميد البياتي، مصدر سابق، والشيخ حسين علي منتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص 497 ـ 498.
38 – نهج البلاغة، الرسالة 6، ص 366 ـ 367، والرسالة 54، ص445، وراجع حيدر علي قلمداران، حكومت در اسلام، ج 1، ص 208 ـ 210.
39 – راجع ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 7، ص33 ـ 34، وحسين علي منتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص 508.
40 – انظر الإسلام وأصول الحكم، ص 11 ـ 24.
41 – السياسة الشرعية، ص 14، وانظر منير حميد البياتي، الدولة القانونية والنظام السياسي الإسلامي، ص 337 ـ 346.
42 – نهج البلاغة، الرسالة 51.
43 – صالحي نجف آبادي، ولايت فقيه وحكومت صالحان، ص 129 ـ 131 و 136 ـ 139.
44 – راجع الإسلام وأصول الحكم، الباب الثاني، ص 144 ـ 152.
45 – راجع م، ن، ص 154 ـ 160.
46 – نهضت آزادي إيران، تفصيل وتحليل ولايت مطلقه فقيه، ص 92 ـ 96.
47 – مهدي بازركان، دفاعيه از اسلام، كيهان هوايى، العدد 1097، 16/شهريور/1373 هـ ش.
48 – م، ن، خدا وآخرت هدف بعثت انبياء، ص 42 ـ 46، ومجلة كيان، العدد 28، ص 49 ـ 50.
49 – راجع حكمت وحكومت، ص 167 ـ 168.
50 – راجع م، ن، ص 142 ـ 143.
51 – راجع م، ن، ص 143 ـ 145.
52 – راجع م، ن، ص 151 ـ 153.
53 – راجع م، ن، ص 169 ـ 176.
54 – راجع م، ن، ص 140 ـ 141.
55 – نقلاً عن حسـين علي منتظري، دراسـات في ولايـة الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص 505.
56 – مروج الذهب.
57 – نقلاً عن دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج1، ص 506.
58 – م، ن، ص 506 ـ 507.
59 – نقلاً عن صادق لاريجاني، مجلة انديشه حكومت، العدد 8، ص 21.
60 – انيشه جامعه، حوار مع نوآم جامسكي، العدد 11، نقلا عن صحيفة رسالت، 25/4/1379 هـ ش.
61 – محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، باب أن الإمامة لا تكون إلاّ بالنص، ج 23، ص 68 ـ 69.
62 – أصول الكافي، كتاب الحجّة، ج 1، ص 199.
63 – بحار الأنوار، ج 49، ص 206.
64 – انظر الصفحات 22 ـ 23 من هذه المقالة.
65 – وسائل الشيعة، أبواب مقدّمات العبادات، ج 1، ح 2، ص 7 ـ 8.
66 – الأصول من الكافي، كتاب الحجّة، ج 1، ص 200.
67 – الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 100 ـ 101.
68 – نهج البـلاغة، تحقيق الدكتور صبحي الصالح، الخطبة القاصعة، العدد 192، ص 301.
69 – ابن الأثير الجزري، الكامل في التاريخ، ج 1، ص 487 ـ 488.
70 – راجع الفيض الكاشاني، علم اليقين، ج 2، ص 636 ـ 717.
71 – العلامة الأميني، الغدير، ج 1، ص 11.
72 – راجع العلامة الأميني، الغدير في الكتاب والسنة والأدب، ج 1، ص 159 ـ 213.
73 – العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 29، ص 419 ـ 420.
74 – نهج البلاغة، صبحي الصالح، الخطبة الشقشقية، العدد 3، ص 48.
75 – م، ن، ص 9.
76 – السيوطي، الدرر المنتشرة، ص 180، وهو منقول في السيد محمد تقي الحكيم، الأصول العامّة للفقه المقارن، ص 249.
77 – الفيض الكاشاني، علم اليقين، ج 2، ص 717.
78 – نهج البلاغة، الخطبة:3، ص 50.
79 – لمزيدٍ من التفصيل يراجع الكاتب في "بررسي ثبات وتحول در انديشه سياسي امام خميني"، مجموعة مقالات مؤتمر الإمام الخميني وفكر الحكومة الإسلامية، ج5، ص 242 ـ 258.
80 – راجع محمد عليخاني، حقوق اساسي، ص 73.
81 – شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، نقلاً عن دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص 506.
82 – أسد الغابة، ج 4، ص 112.
 
 
* * *
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً