ترجمة: فرقد الجزائري
مدخل ـــــــــ
في البدء، أحيي روح أراسموس([1])، معلم التسامح والتعددية، و أتقدم بالشكر الجزيل إلى مسؤولي مؤسسة أراسموس، الذين رشّحوني لنيل جائزة عام 2004م لهذه المؤسسة، وأجلّ جهودهم الثقافية والإنسانية، وأتمنى لهم مزيد التوفيق.
لا علم لي بمعايير اختيار الفائزين لهذا العام، لكن أتصور أن لكتابي «الإدارة و التسامح» وقصة طبعه ونشره دوراً كبيراً في اختياري، أنا الإيراني المسلم الشيعي. يسعى هذا الكتاب، كما يدلّ عنوانه، لتبيين الديمقراطية على أنها نحو من الإدارة المبتنية على التسامح، ويطمح لإقناع المجتمع الإيراني المسلم بعد الثورة أنّ بإمكانه حفظ مبادئه وآدابه الإسلامية في ظل نظام ديمقراطي، دون التضحية بأحدهما لتحقق الآخر. إنّ التسامح ـ كما نقد المتصدين للسلطة ومحاسبتهم ـ من قيم الدين، وكلاهما من أركان الديمقراطية. غاية ما هنالك أنّ الديمقراطية تتطلب تقديم الحق على المسؤولية والتكليف، وتعدد التفاسير بدل التفسير الرسمي الواحد للدين من قبل الحكام.
طبع هذا الكتاب في مرحلة عانت فيها إيران من الانغلاق السياسي أكثر من أي وقت مضى، وقد أجبر المؤلف على مغادرة إيران بفعل الاعتداءات الجسدية منها أو الألفاظ النابية، وأصبح مشرداً يتنقل وحيداً من بلد إلى آخر، كألمانيا وبريطانيا وكندا، وقد هيمن على وزارة الثقافة وزير لم يسمح بطبع وريقة «غير إسلامية»، وأصيب سوق الكتاب والصحيفة بالركود، ولم يتسنّ لأحد الدفاع عن نفسه قبال ما يوجّه إليه من تهم. كما منع تلاميذي من الكتابة والتوضيح، لكن في ظلّ هذه الظروف قام أحدهم ـ وهو صديق شجاع ما زال يدفع ثمن جرأته ـ بطبع هذا الكتاب، لكنه لم يحتو كتاباتي فحسب، بل جمع عدداً منها مع ما نشر من نقد بنّاء عليها في مختلف الصحف، في مجموعة قلّ نظيرها في إيران. أما ما حدث بعد ذلك جعله منقطع النظير حقاً، حيث منعت وزارة الثقافة طبعه إلا بإضافة موضوع مطوّل عليه من قبلها، دون أخذ موافقة المؤلف.
يحمل هذا الكتاب اليوم تلك المقالة كجنين غير شرعي، ويا لهزلية الدهر، مقالة غير مشروعة تعطي المشروعية لكتاب. إن هذا الكتاب لا يحمل عنوان التسامح فحسب، بل يجسده ويحمله بين ثناياه.
التسامح في إيران والإسلام ـــــــ
ينبغي القول: إنّ التسامح الذي نحن بأمس الحاجة إليه اليوم في إيران، ليس بأمر غريب وغير مألوف في الثقافة الإيرانية والمذهب الإسلامي؛ فقد ارتفع حافظ ـ الشاعر الإيراني العظيم في القرن الثامن (الرابع عشر الميلادي) ـ بالتسامح إلى حيث قال: السلام في الدارين يتحقق بامتثال حكمتين: المروءة مع الأصدقاء، والتسامح مع الأعداء. قال ذلك بعد قرن من هجوم المغول على إيران، حيث لم ينس الإيرانيون بعد مرارته حتى ابتلوا بالتيموريين الذين نزلوا على البلد كالصاعقة، فكانت نيران الخوف والظلم والدمار تحرق الحرث والنسل، ولم يقتصر الخلاف والعداء على الحكام المحليين، بل امتد إلى رؤساء المذاهب والفرق الدينية، فاحتدم الصراع بينهم، وسمّى بعضهم الآخر بأتباع الشيطان وأهل النار.
يصف حافظ المناخ الحاكم في تلك الآونة بقوله: إن حالة الدهر سيئة مضطربة وبأمس الحاجة إلى فكر حكيم. وذلك الفكر الحكيم الذي يضمن السعادة والسلام في الدنيا والآخرة هو الالتزام بالمروءة مع الأصدقاء والتسامح مع الأعداء. لو كنت مكان حافظ لقلت: المروءة مع الأصدقاء والتسامح مع الأعداء، إلا أعداء التسامح.
علم حافظ بأنّ الدعوة إلى التسامح في مجتمع ديني غير ناجعة إن لم تقم على أساس نظرية معرفية إنسانية ودينية عميقة؛ لذلك نجده يتحدث عن الإنسان والدين في مواضع عدة من ديوانه، علّه يقنع مخاطبيه بالشعر والإيحاء، إنّ المروءة والتسامح ليسا موضوعين للوعظ فحسب، بل هما أصلان فلسفيان يقومان على أسس عقلانية.
الخطأ البشري والنظرة الواقعية ـــــــ
لم يغفل حافظ كون الإنسان معرضاً للخطأ في الفكر والعمل؛ لذلك يسعى لتسليط الضوء عليه باستذكار الأساطير الدينية. فبناء على الروايات الإسلامية، نزول الإنسان إلى الأرض ناتج عن إثمين: الشيطان صاحب الإثم الأول، وآدم الذي يعود له الإثم الثاني؛ فقد أمر الله جميع الملائكة بالسجود لآدم، لكن عصى الشيطان أمر ربه فأقصي من ملكوت الله. لكنه أوتي فرصة إغواء أبناء آدم، وصدّهم عن الله بأصناف الوساوس إلى نهاية التأريخ. (لا نجد هذه الأسطورة بهذا الشكل في الكتاب المقدّس لدى اليهود والمسيحيين)، أما الإثم الثاني فمن صنع آدم، الذي أكل من الشجرة الممنوعة بوسوسة من الشيطان، فبدا عارياً وكشفت عورته. فطرد هو وزوجه حواء من الجنة إلى الأرض عقوبةً لإثمهما، وبذلك أسس تأريخ البشرية.
إذن، يعتقد حافظ أنّ من كان من سلالة الإثم وليس بمعصوم من وساوس الشيطان، أنّى له ادعاء العصمة والغلظة على المخطئين، وتوقع البراءة كالملائكة من الآخرين؟! لا يتفق ادعاء العصمة وتأريخ البشر وميلاده وتكوّنه. يقول حافظ:
في حين تصعق المعصية آدم المصطفى، كيف يليق بنا ادعاء العصمة؟!
يرى حافظ الإثم جزءاً لا يتجزأ من خصال الإنسان، ولا ينفك الإنسان من فعله، وعلى المتيقظين الأخذ بنظر الاعتبار هذا الأمر في استيعاب نظام العالم والحياة، وأن لا يغفلوا دوره في صناعة الحياة رغم سلبيته من الناحية الأخلاقية. ولعلّ ذلك وراء ما كتبه ماندويل ـ الطبيب الهولندي الذي كان يقطن في بريطانيا ـ في كتابه «أسطورة النحل» من أن السلبيات على الصعيد الفردي تعدّ إيجابيات على الصعيد الاجتماعي.
ويذهب حافظ في أحد أشعاره أبعد من ذلك، حتى يصف الإنسان بالوسنان والمخمور، ويرمي بالأول إلى الأخطاء الفكرية والنظرية لدى الإنسان، وبالثاني إلى الآثام التي يأتي بها على الصعيد العملي، وكأنّ الناس ينظرون إلى الحقائق بعيون مغمضة أو في الأحلام، ولذلك لم يتمتعوا قط برؤية واضحة لها. لا تجد الحق المطلق لدى أحد؛ إذ الجميع في سنة فلا أحد بصير على الإطلاق، حتى يحسب الآخرين عمياناً ويغلظ عليهم، بل يعاني الجميع من النقص والمحدودية في البصر والبصيرة، ونحتاج إلى الأخذ بأيدي بعضنا.
النتيجة العملية التي يخرج بها هذا الوصف، هي عدم الغلظة والغضب بل انتهاج الصبر والتسامح، ولا يقتصر ذلك على الأصدقاء بل يعم الأعداء أيضاً. فجميعنا إنسان وكلنا وسنان أو مخمور. ويمكننا التوصل إلى نتائج أكثر دقة ووضوحاً من خلال هذا التفسير الأسطوري: لا يجوز أبداً اتخاذ الحقيقة والدين سلاحاً، إذ هما من نوع الكلام والحوار، لا المخالب، ولابد أن يأتيا بالتواضع والتسامح لا الكبرياء والتطاول. من زاد قرباً من الحقيقة ينبغي أن يزيد تواضعاً ومداراة للآخرين، خلافاً لمن فرح بخيال عنها، وعدّ الآخرين محرومين وتعساء. نعم، هناك نوع من الشكّ الأراسموسي اللطيف في صميم الفكر الحديث، ما يجعل الدعوة إلى التسامح في صلبه.
سقراط وأراسموس، تواضع المعرفة وتسامح الإنسان ـــــــ
أودّ هنا نقل ما قاله بوبر عن أراسموس وسقراط واعتدالهم المعرفي وعلاقة ذلك بالتسامح والمروءة، ليتضح مدى التقارب الفكري بين حكماء الشرق والغرب في هذا المجال: بذل أراسموس الروتردامي جهداً واسعاً في تعليم وترسيخ حكمة سقراط التي تحمل في طياتها الحكمة والرحمة، حيث قال: «عليك بمعرفة نفسك، فتعرف ضآلة علمك». لكن الاعتقاد بأنّ الحقيقة جلية قضى عليها كالطوفان العرم. وقد ساعد على ذلك تعاليم لوثر وكالفن وبيكون وديكارت، التي تتصف بالأنانية.
ينبغي الالتفات إلى الفرق بين الشك الذي دعا إليه ديكارت، والشك الذي تحدث عنه سقراط وأراسموس ومونتاين؛ إذ يستهدف الشك السقراطي علم الإنسان وحكمته ويحول دون الغرور بهما. لكن ديكارت على الرغم من شكه في كلّ شيء، يصل في النهاية إلى «العلم اليقيني». شك ديكارت أداة لنيل الحقيقة والعلم اليقيني والحكمة القطعية، لكن يسعى سقراط في رسالته «الدفاع»([2]) لتبيين أنّ الحكمة ليست إلا العلم بمحدودية المعرفة، أو العلم بقصور المعرفة، خلافاً للتعاليم المغالية القائلة: «إنّ الحقيقة ستنتصر في النهاية»، وهي التعاليم التي استند إليها ميلتون.
لقد أحيا نيقولاي كوزايي وأراسموس الروتردامي ـ متبعين في ذلك سقراط ـ هذه التعاليم التي تؤكد على عدم عصمة الإنسان، وقد جعلها نيقولا وأراسموس ومونتاين ولوك وفولتيير وبعدهم استوارت ميل وبرتراند راسل أساساً لتعاليمهم في التسامح. يتساءل فولتيير في كتابه «القاموس الفلسفي» عن معنى التسامح، ثم يجيب بأنّه ما تتحقق به إنسانية الإنسان. كلنا يقترف الأخطاء فتعالوا نغفر لبعضنا، وما ذلك إلا الأصل الأول في الحقوق الطبيعية([3]).
ويتشبث حافظ حتى بنظرية الجبر المرّة؛ ليدعم رأيه في التسامح، فيقول: إننا رهائن بأيدي القدر، لا يكون المسلم مسلماً إلا لما يفرضه التاريخ والجغرافيا عليه، وكذلك المسيحي. فلو ولد الإيرانيون في هولندا والهولنديون في إيران لأصبح الإيرانيون مسيحيين والهولنديون مسلمين؛ فما بالنا نحن أسرى التاريخ والجغرافيا نتفاخر ونتعالى على بعضنا؟! والأسوأ من ذلك، نشهر السلاح في وجه بعضنا ونريق دماءنا؟!
لطالما جعل السجن الناس متواضعين والسجناء رحماء بينهم، فقد جمعهم مصير واحد؛ فلسنا رهائن بأيدي التاريخ فحسب، بل سجناء علمنا وعقيدتنا؛ فحين ينكشف الغطاء نجد أنفسنا في شرك الأوهام والخرافات. إنّنا نصادف مراراً حكاية اختيار الإنسان والمشيئة الإلهية في مكاتبات أراسموس وفولتيير، كما في كتاب Discourse on Free Will لأراسموس. شغلت هذه الإشكالية جميع المفكرين والعلماء القدامى، خاصة أصحاب المذاهب منهم؛ فكانوا يسعون وراء مخرج يخلصهم منها؛ فإذا كانت الإرادة الإلهية وراء انتظام جميع الأمور وصيرورتها، فما دور الإنسان؟ وإذا كان الإنسان مستقلاً في إرادته فأين حدود الإرادة الإلهية؟ وكما نعلم، إنّ اكتشاف حدود نفاذ الإرادة الإلهية فتح الباب أمام العلمانية الفلسفية التي أنجبت بدورها العلمانية السياسية.
انتهى أراسموس إلى أنّ المعمّدين يحظون بنصيب أوفر من العناية الإلهية (Grace)، ويلتقي روح القدس بمن اصطفاهم الله من قبل؛ إذاً يرى أراسموس أيضاً أنّ من ولدوا مسيحيين صدفة وعمّدوا بفعل القدر، يتمتعون بحظ أوفر من حب الله، وهم أقرب إليه. يتفق حافظ مع هذه الرؤية القائمة على الجبر، إذ كان يعيش في مجتمع ديني تحتلّ التعاليم الصوفية قسماً كبيراً من معتقداته ـ على الرغم من كونه ناقداً فعالاً لهذا المجتمع ـ فكان يقول بوضوح:
لا تخيّب ظنّي بما سبق من رحمة الله
فما أدراك بمن هو حسن أو منكر في الغيب!
لست الوحيد الذي خرج عن دائرة التقوى
فقد خسر أبي جنة الخلد.
أجل، كان حافظ يقرّ بهفواته وزلاته كأحد أبناء آدم الذي لم ينج من الزلل. كما لم يجد الهفوات والزلات باعثاً للبعد والحرمان من رحمة الله وعنايته، فقد خط قلم الأزل السعادة والشقاء للمحسنين والمسيئين. ثمّ يقول في تعبير ألطف وأعمق:
الصالح والطالح متساويان
فهما ماضيان في ما قدّر الله لهما
أيّنا اختار طريقه؟ وهل هناك من اختيار؟!
نجد حافظ يتشبث بمعتقدات متزلزلة لإثبات وجهة نظره الصائبة في انتهاج التسامح. لكني أجد الشك والترديد المعرفي أو الاعتقاد بالعيون الوسنانة، أي القصور في أداة كسب المعرفة، أرجح من تصديق الجبر.
مولوي ونسبية المعرفة في قصّة الفيل ــــــــ
أما مولوي، الذي يجعل التراب ذهباً بسحر كلامه ليثري المجتمع ويركّز دعائمه فقد سبق حافظاً قرناً من الزمن، وقد نشأ في بلخ (أفغانستان اليوم)، وسافر إلى إيران والعراق والحجاز، واستقر آخر المطاف في قونية (تركيا) وتوفي فيها، لكنّ تعاليمه انتشرت في جميع أرجاء العالم الإسلامي، وفي عصرنا الحاضر وصلت أصداؤها إلى العالم الغربي، فتعلّقت بها قلوب المحبين والمؤمنين. ويأتي مولوي بأسطورة هندية؛ ليبيّن مدى قصور معرفة الإنسان ونسبيّتها، فيقول: جاء الهنود بفيل للعرض ووضعوه في مكان مظلم، لم يتمكن الناس من رؤيته لعتمة المكان، فكانوا يتحسّسونه بأيديهم فيصفون ما وقعت أيديهم عليه حين خروجهم؛ فمن وضع يده على رجل الفيل وصفه بالعمود، ومن لمس ظهره وصفه بالسرير، ومن أمسك بخرطومه قال: إنه كالأنبوب و… ويتابع مولوي قائلاً: لو حمل أولئك مصباحاً لما اختلفوا في وصفه، لكن للأسف، معرفتنا بالحقيقة مشتتة في عتمة الطبيعة، يلمس كلّ منا جانباً منها ولم يتسن لأحد مشاهدتها كاملة، إلا العرفاء حسب اعتقاده؛ إذ يتمتعون بعيون كحيلة. هذا الإقرار بقصور المعرفة ونسبيتها يكفي لجعلنا أكثر تواضعاً، وما الصبر والتسامح إلا ثمار لذلك التواضع.
ولمولوي حديث ألطف وأعمق في هذا الموضوع، ولو سمعه أراسموس لذكره من دون شك في كتاباته ولاستفاد منه بحكمة. يعتقد مولوي أنّ للأنبياء دورين أساسيين: التعليم والشفاء، ويجد الشفاء أعظم شأناً من التعليم. إنّ للرسل والأديان دور تربية النفس وشفائها؛ فلم يبعث الرسل ليملؤوا أدمغة الناس بالمعلومات، بل تعمل الأديان على تطهير قلوب الناس من دنس الضغينة، وملئها بحب الله وحب بعضهم بعضاً. وحين يتحرر العقل من الرذائل يجد طريقه بفاعلية نحو مكمن أسرار العالم؛ فالعقل أسير أغلال الطبيعة. ثمّ يذكّر المتكلمين بأنّ العقل الذي رزقهم الله إيّاه أداة لمعرفة الحقيقة والدين الذي أوحى به إليهم لعبادة الخالق، ويحذّرهم من اتخاذهما أداة لتحقيق أغراض أخرى. هذا العقل عصى للعميان كي يجدوا سبيلهم وليس سلاحاً في أيدي المتنازعين ليضربوا به بعضهم:
إن أصبحت العصا أداة حرب وصراع
فاكسرها قطعاً أيها الضرير!
لا يمكن الدعوة إلى التسامح ببيان أفضل من ذلك؛ فحين يخرج شيء عن محله ويعمل خلافاً لما وضع من أجله، ينبغي أن يترك ويستبعد، وإن كان عصا العقل والدين؛ فإذا أصبحت الأديان والمذاهب أداة نزاع وحرب، وملأت القلوب حقداً وضغينة وغروراً بدل المحبة والمروءة والتعلّق بالخالق، فعلينا استبعادها. ألم يأت الأنبياء بالشفاء للصدور؟! وألا تدعو الأديان إلى الأخلاق والفضيلة؟! فأيّ تديّن هذا الذي يزيد من العلل ويثير العداوة والبغضاء؟!
هنا يأتي قول ابن عربي ـ العارف الإسلامي الكبير والمعاصر لمولوي ـ رداً شافياً:
أدين بدين الحب أنّى توجّهت | ركائبه أرسلت ديني وإيماني |
ويرقى مولوي في وصف الأمر على جناح العرفان، فلا يجد الدين سيفاً أو عصاً، بل يراه وتراً، على الإنسان التمسك به عن إرادة واختيار ليخرجه من حضيض الجهل والغرور ويرتفع به إلى العلياء حيث نور المعرفة والمروءة والحب. أجل، لقد ضلّ كثيرون عن القرآن والإنجيل (والدين بشكل عام)، إذ لا ينجح الأمر فقط بكون كتاب ما كتاب هداية، بل ينبغي أن يكون القارئ ساعياً وراء الهداية وطالباً لها، وإلا قد تحقق أيدٍ آثمة نتائج غير إنسانية من نهج إنساني بحت. ويأتي مولانا بتعبير «طموح الرقي»، فيقول:
لا إثم على الوتر أيّها المعاند
فليس لديك «طموح الرقي»
الوتر في يديك، لكنك لا تريد الخروج من الحضيض تأخذه وتهبط، إذ ليس لديك «طموح الرقي». ولذلك نجد إصلاح الوجهة والهدف أهم من أداة تحققه، فحين يجعل بعضنا الدين أداةً للصراع والنزاع، وآخرون يزرعون به الحب والسلام، يعود كلّ ذلك إلى طموحهم الذي يتقدم على الدين، وهو مختلف عنه.
مظاهر اللاتسامح عند المتدينين والعلمانيين ــــــــ
وعندما نتحدّث عن عدم تسامح المتدينين، ينبغي أن لا ننسى العلمانيين، فكما أنّ لدينا أصولية دينية، هناك أصولية علمانية؛ فعدم الصبر والتحمل والمروءة آفة قد تصيب المتدينين وغيرهم. فإذا لم يؤخذ بنظر الاعتبار المنشأ الطبيعي والنقص الذاتي في معرفة الإنسان، وإذا لم يتمتع الإنسان بطموح الرقي، فسوف يعم الغرور وتحكم العصبية ولا نجني سوى البغيضة والضغينة والإرهاب والانحطاط وتعطيل العقل؛ فإصلاح الطموح مقدّم على كلّ شيء.
كلّ الذين يتصورون أنفسهم متفوقين على الآخرين أو لديهم عيون تجعلهم قادرين على النظر إلى البشر والتأريخ من موقعٍ أسمى وأنهم عرفوا السر الخفي والأكيد وراء وجود الإنسان والهدف الذي يسير إليه التاريخ، أو عدّوا السياسة والحكومة تحققاً لوعد إلهي أو تاريخي (ديني أو علماني)، أو يعتبرون لأنفسهم شأناً يفوق الآخرين ولا يصدق عليهم ما يصدق على الآخرين، فإنهم يصابون بسهولة بغلظةٍ وحدّة مدمرة، ويؤمنون بقداستها، وعدم تسامح هؤلاء أسوأ ما يمكن حدوثه، فإن عدّ الآخرون ذلك حقهم عدّوه تكليفاً إلهياً أو تاريخياً لهم.
دور التصوّف الإسلامي في إرساء دعائم الحب والتسامح ـــــــ
ومما يجدر الانتباه إليه هنا، أنّ الأنبياء والعرفاء على الرغم من تمتعهم بقدرات وامتيازات خاصة، كانوا يعتقدون أنّ من واجبهم التعامل مع الناس كأيّ فرد منهم، حتى عدّوا تحمل جهل الناس وشقائهم تأديباً لهم في سلوكهم المعنوي. إنّ التصوف الإسلامي ـ على الرغم من قصوره وزلاته ـ يحمل قيماً تؤكد على التسامح وتدعو إليه، ونحن اليوم بأمس الحاجة لها؛ فقد استصغر المتصوفة السلطة والثروة واحتقروهما، ودعوا الناس إلى التعامل معهما بشك وريبة، والحذر من الفساد والدمار الذي تلحقانه إذا ما خرجتا عن السيطرة. ويمكننا بذلك أيضاً دعم التوزيع العادل للثروة والسلطة وهما من أركان الديمقراطية الليبرالية والاشتراكية.
لقد دعى المتصوفة الناس إلى التواضع والامتناع عن الطمع حتى في طلب العلم، وسعوا إلى تعديل «أصل اللذة» وتقوية «أصل الفضيلة»، وبذلك أرسوا دعائم السلام والاعتدال، وأوجدوا مناخاً بعيداً عن النزاع والصراع. فكانوا يدعون الله في أمرين: «جهاد النفس، والرحمة بالخلق»، وقد عدّوا الثاني ثمرةً للأول. كما كانوا يقولون: إنّ على الإنسان ممارسة الشدة مع نفسه حتى يسامح غيره، وعليه أن لا يغفر لنفسه كي يغفر لغيره. لكن للأسف، تزلزلت الدعائم الباطنية للأخلاق الفاضلة التواقة للكمال في عالمنا المعاصر إلى حد لا تنفع معها بسهولة المحفزات، لتأصّل الصبر والمروءة والتواضع في كيان الإنسان.
التواضع أعظم الفضائل، والكبر والغرور أعظم الرذائل؛ لأنّ الكبر أساس الشدة والغلظة، والتواضع أساس التسامح، وحتى تعظيم العشق من قبل المتصوفة لم يكن إلا لأنه يجعل العاشق متواضعاً؛ ولذلك اعتبروا حب الذات قاتلاً للعشق؛ إذاً من يزدادون كبراً وغروراً بتدينهم ويتعالون على الناس لما يظنوه بأنفسهم من تقوى واتّباع للشريعة هم أكثر ظلماً للأديان السماوية.
كان أراسموس مسيحياً ملتزماً وإنسانياً متواضعاً ومتسامحاً، وقد منعه طموحه في الرقي من الانحطاط إلى استغلال الدين. وقد قال سعدي ـ الشاعر الإيراني الكبير في القرن السابع (القرن الثالث عشر الميلادي): «ملء السنابل تنحني بتواضع»، أي من كان أوفر علماً كان أكثر تواضعاً؛ ولا يعرف التواضع والتسامح من لا نصيب له من العلم والمعرفة.
لقد بلغ التسامح اليوم في بعض الدول التي تعيش في ظلّ حكومات دينية أدنى درجاته بل أصبح من السيئات والمنكرات. فقد حكمت هذه الشعوب حكومات لادينية غير ديمقراطية وغير متسامحة وعليها اليوم الخضوع إلى حكومات دينية غير متسامحة أيضاً. في دول كهذه، لا مجال للمتدينين فما بال غيرهم؟! وما ذلك إلا لما يتصوّره الحكام من أنهم معيار الحق والأخلاق، ويريدون زج الناس في الجنة ولو بالسلاسل والأغلال؛ فمنطق التكليف هو المسيطر والطاغي على الأمور في الأصعدة كافة، حيث لم يُبْق مجالاً للحقوق، وعلى الناس استئذان الحاكم حتى لنقده. نعم يعيش الكتّاب والصحفيون الرعب والهلع لدعوتهم الناس إلى التسامح والتعددية، وفي المقابل تنشأ وتدعم جماعات تبغض التسامح لقمع المخالفين.
فكم خرج صاحب هذا المقال من الصف الدراسي أو التجمع الخطابي مجروحاً ممزق الثياب في حين يمر عليه الناس دون اهتمام بدل الاعتراض والمطالبة بالحق.
لقد أمسكت جماعات الإرهاب هذه بوتر الدين مكرهين الناس على الانحطاط إلى ظلمة الجهل. وما ذلك إلا لسببين: الأول إنهم يطمحون إلى الانحطاط، والثاني افتقارهم إلى المعرفة؛ فلو تمتع هؤلاء بالعلم والمعرفة وطمحوا إلى الرقي، لكان الدين والتدين أفضل حالاً، ولرفعوا نداء المروءة مع الأصدقاء والتسامح مع الأعداء.
ما أريد استنتاجه والتأكيد عليه، أنّ التسامح فضيلة ما فوق دينيّة، وخارجة عنه (وليست ضدّه). إن التسامح كالعشق ـ كما يقول مولوي ـ: «خارج عن جميع الملل». تدعو الأديان الناس إلى الطاعة واجتناب الإثم، لكن ليس العشق والذوبان (في الله) فرضاً دينياً، بل فضيلة أخلاقية مافوق دينيّة، وبالطبع تثري الدين وتعززه؛ فينبغي النظر إلى التسامح من هذه الزاوية بوصفه فضيلةً نحن بأمس الحاجة إليها، متدينين كنا أو غير متدينين، فالتسامح هو الضمان الوحيد للحصول على سعادة الدارين، كما يعبر حافظ.
إنّ الذين يعادون التسامح ويحاربونه تحت أيّ مسمى كان ـ دينيّاً أم غير ديني ـ أعداء للإنسانية والدين، وينبغي إرشادهم.
الهوامش
(*)مفكّر إيراني معروف، وأشهر منظري الإصلاح الديني في إيران، طرح أواخر ثمانينات القرن الماضي نظرية «القبض والبسط»؛ ليعقبها بسلسلة نظريات معرفية أخرى، أثارت نظرياته جدلاً واسعاً.