د. السيد محمود مير خليلي(*)
مقدّمة
من الموضوعات التي أثارت انتباه علماء الإجرام، كوضع يسبق الجناية، ويؤثّر في وقوعها، شخص «المجنيّ عليه»، أو «الضحيّة». لقد ساهم الفشل الذي منيت به أساليب ردّ فعل المجتمع إزاء مسألة مكافحة الجريمة في إيجاد أرضيّة لتحوّلات جديدة في الفكر الجزائي والتشريع الجنائي، وكان من حصيلته أن ظهر في العقود الأخيرة علم الإجرام المبنيّ على معرفة «ضحايا الجرائم». فعادةً ما يضع الضحيّة نفسُه سلسلةً من الظروف والإمكانات بين يدي الجاني; ويوفّر له بذلك الفرص لارتكاب جريمته. ومن ثمّ فإنّ بعض الدراسات المعنيّة بخطر التضرّر الجنائي و«ضحايا الجريمة» يمكن أن تدور حول أسلوب حياة الأشخاص. الهدف النهائي لعلم «ضحايا الجريمة»، وتحليل دور «الضحيّة» في العمليّة الإجراميّة، وسائر الأبحاث المطروحة، إنّما هو الوقاية من الوقوع ضحيّة للجرائم، وتقليل موارده.
إضافةً للإشارة الإجماليّة للمباحث النظريّة لعلم «ضحايا الجريمة»، نتعرّض في هذه المقالة إلى بيان بعض الطرق الإستراتيجيّة لحماية ضحايا الجرائم في مختلف مراحل وقوع الجريمة، والحدّ من هذه الظاهرة، ولاسيّما من وجهة نظر التشريع الجنائي الإسلامي.
يُعنى البحث بمعرفة كيفيّة تعاطي التشريع الجنائي الإسلامي مع موضوع التضرّر الجنائي والوقوع ضحية الجريمة، والطرق التي ينتهجها لمساندة المجنيّ عليهم وضحايا الجرائم، وكيف ينظر إلى تصرّفات المجنيّ عليه بصفته أحد عوامل حصول الجريمة؟ ثمّ هل لوحظت هذه التصرّفات بشكل عامّ في هذا التشريع؟ وهل يقف الإسلام إلى جانب المجنيّ عليهم بصفتهم ضحايا، ولاسيّما الفئات الخاصّة، الذين هم عرضة أكثر من غيرهم لأن يكونوا كذلك؟
محاور الدراسة
أ ـ المفاهيم، المبادئ، والخلفيّة التأريخيّة.
ب ـ أنواع ضحايا الجرائم، أو أقسام المجنيّ عليهم.
ج ـ بحث عوامل التضرّر الجنائي والوقوع ضحيّة للجرائم.
د ـ حماية ضحايا الجرائم والمتضرّرين جنائياً.
هـ ـ البحث في التعاليم الدينيّة والأخلاقيّة عن طريق الحدّ من ظاهرة ضحايا الجريمة.
و ـ حماية فئات خاصّة من المتضرّرين والضحايا.
ز ـ نتيجة البحث.
أـ المفاهيم، المبادئ، والخلفيّة التأريخيّة
قبل الدخول في المباحث الأصليّة المتعلّقة بـ «ضحايا الجريمة»، والتضرّر الجنائي، وطرق الوقاية منه، لابدّ من بيان بعض المفاهيم، ومنها: المتضرّر أو الضحيّة؛ التضرّر الجنائي والوقوع ضحيّةً لجريمة؛ والبحث في خلفيّة وتاريخ ظهور وانتشار هذه المفاهيم.
1ـ المفاهيم
عُبِّر في النصوص الفقهيّة عن المتضرّر من الجناية بعنوان المجنيّ عليه، أي الشخص الذي تمّ ارتكاب الجُرْم أو الجناية في حقّه. بَيْدَ أنّه يجري التعبير عن المتضرّر من كلّ جريمة باصطلاح خاصّ به; فمثلاً: المجنيّ عليه بسرقة ماله يسمّى المسروق منه، وقد يعبَّر عن التي تعرّضت لجريمة الاغتصاب بالمزنيّ بها([1])، كما يطلق على المتضرّر بدنيّاً بالمجروح، أو ما أشبه.
أمّا علماء الإجرام المعاصرون، ومؤسّسو علم «ضحايا الجريمة»، فقد قدّموا تعريفات مختلفة عن مفردات «المجنيّ عليه»، أو «ضحيّة الجريمة» و«التضرّر الجنائي»، ذات أهمّية كبيرة في بيان مكانة هذه المفردات، ودورها في التشريع الجنائيّ.
فالمتضرّر الجنائي، الذي يسمّى «بالمجنيّ عليه» أو «الشاكي» في القوانين الجزائيّة، هو الشخص الذي يلحقه الضرر أو الأذى أو الألم عقيب وقوع جرم ما، سواءٌ كان ذلك الضرر أو الأذى ماليّاً أو بدنيّاً أو على شكل ألم أو عناء روحي أو عاطفي.
ويتوقّف تعريف التضرّر الجنائي على تعريف المتضرّر من الجريمة، أو المجنيّ عليه. فالتضرّر الجنائي يطلق على حالة «الوقوع ضحية تصرّف جنائي». أمّا «المتضرّر الجنائيّ»، أو المجنيّ عليه، فهو ضحيّة الجناية، أي الشخص الذي وقع عليه الظلم من الجاني، أو العوامل المولّدة للجريمة أو الظروف الاجتماعيّة.
ورد في بعض التعاريف: «المجنيّ عليه: هو الذي تعرّض كيانه الشخصيّ للتجاوز والضرر من قبل عامل خارجيّ، معروف له وللمجتمع»([2]).
وبعبارة واضحة: ينبغي القول: إنّ المجني عليه هو الذي وقعت عليه جناية، وأُصيب بالضرر في كيانه المعنوي أو الجسمي أو المالي.
يسعى الباحثون في مفهوم «المجنيّ عليه» ودوره في «الجريمة» اليوم للإجابة عن التساؤل التالي: لِمَ يكون بعض الناس عرضة لوقوع جناية عليهم، فيتضرّرون جنائيّاً، أو يكونون ضحايا، في حين لا يلقى غيرهم هذا المصير؟ إنّ التعريفات الجديدة للمجنيّ عليه، أو ضحيّة الجريمة والمتضرّر جنائيّاً، تنظر إلى وضع المجنيّ عليه وموقعه، وتسير في إطار الوقاية الموضوعيّة; بمعنى تغيير هذه الفرص والمواقع؛ للحيلولة دون التضرّر الجنائي، وصيرورة الشخص مجنيّاً عليه، وضحيّةً لجناية ما.
2ـ مبادئ علم ضحايا الجريمة
إنّ لمحاولات التصدّي للظلم والجور، والحدّ من ارتكاب سلوك إجرامي ضدّ الأفراد جذوراً في التأريخ البشري. وله مبادئ عقليّة وقيميّة. فظلم الآخرين وارتكاب جريمة بحقّهم يعدّ أمراً قبيحاً ومذموماً في نظر العقل. والأبعاد القيميّة للمبدأ المذكور تشير إلى أنّ الدفاع عن حقوق المظلومين، والذين تعرّضوا للجور بسبب الجريمة، يعدّ جزءاً من رسائل حقوق الجزاء، بل من أهداف التشريع الجنائيّ لأيّ مجتمع.
ويكتب عزّت عبد الفتّاح في هذا الصدد: «إنّ الدفاع عن ضحايا الجريمة ومساعدتهم ينبغي أن يعدّ جزءاً من القيم الأساسيّة للمجتمع. فمسؤولية المجتمع تجاه ضحايا الجريمة يجب أن يتغلغل عقائديّاً في أعماق النظام العامّ له. ومن ثمّ فإنّ إيجاد المصادر القانونيّة التي تضمن حقوق ضحايا الجريمة تحظى بأهمّية بالغة. إذا أردنا أن تكون الخطوات والسياسات الآنفة، إضافةً إلى الملاحظات الإنسانيّة حول ضحايا الجريمة وأوضاعهم، تستند إلى معايير أخرى أيضاً يجب علينا إذاً أن نعيّن الأسس الحقوقيّة والاجتماعيّة لتعهّد المجتمع والتزاماته، وكذلك مسؤوليّة الجاني إزاء المجنيّ عليه»([3]).
ونرى في المدارس الإلهيّة، ولاسيّما في التشريع الجنائيّ الإسلاميّ، أنّ الدفاع عن ضحايا الجريمة يعدّ من القيم الدينيّة والإلهيّة الرفيعة، ويُنظر إلى الخصومة مع الظالم والمتجاوز، وإعانة الأشخاص الضعفاء والمعرّضين للظلم والتجنّي، على أنّها أمور قيميّة وضروريّة. فالقرآن الكريم يؤكّد هذا المبدأ. وهو يرفض فعل الظلم وتحمّله، قال تعالى: ﴿فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 279).
وفي وصيّة للإمام عليّ× يحثّ على مواجهة الظلم، وإعانة مَنْ وقع عليه، فيقول: «كونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً»([4]).
لابدّ من الالتفات إلى أنّ المجنيّ عليه لا ينبغي أن ينظر إليه على أنّه شخص منفعل ومتأثّر فحسب، بل يجب أن يُؤخَذ بنظر الاعتبار أيضاً أنّ تصرّف المجني عليه وسلوكه وموقعه وظروف معيشته هي التي جعلت فيه قابليّة التضرّر من الجناية.
بهذه النظرة إلى المجني عليه أو ضحيّة الجريمة، والتي هدفها تقليص دوره، وتقليل أثره، في تحقّق الجريمة، تغدو ضرورة الدراسة الأوسع للمجنيّ عليه واضحة.
إنّ حماية ضحايا الجرائم ومساندتهم، سواء مادّياً أو معنويّاً أو قانونيّاً أو قضائيّاً، سيساعدهم على استعادة قدراتهم، وتلافـي نقاط الضعف عندهم، وعلى تحرّرهم من العزلة والاكتئاب الاجتماعي، وكذلك على تقليص خطر نزعة الانتقام وارتكاب الجرائم لديهم، عبر الحدّ من الأضرار الروحيّة التي لحقتهم; وذلك لأنّ حالات الانتقام الفردي غالباً ما تنشأ من عدم الثقة بالمحاكم الجزائيّة ورجال القضاء، وربما التشاؤم واليأس من نتيجة الرجوع إليهم.
3ـ نبذة تأريخيّة
منذ أواسط القرن العشرين بدأت دراسة دور «المجني عليه» في عمليّة وقوع الجناية تتّخذ صورة علميّة ومنظّمة لدى علماء الإجرام. ولكن هذا لا يعني أنّ تاريخ حقوق الجزاء كان غافلاً عن هذه القضية. فالمجني عليه، ومنذ ولادة حقوق الجزاء في المجتمعات التاريخيّة، وحتّى العهود القريبة، كان يلعب دوراً مهمّاً في الدعاوى الجزائيّة. الحقيقة أن (المجنيّ عليه) وحده كان يمثِّل فيها نصف المشهد. فابتداءً بقانون الهيتيين، وحمورابي، وصولاً إلى القوانين الإيرانيّة، وروما القديمة، والحضارات العريقة، كالمصريّة، والصينيّة، ومن الأديان الإلهيّة الكبرى، كالشريعة الموسويّة في القرون الوسطى، حتّى الدين الإسلامي الحنيف، كانت كلّها تؤكّد أهمّية دور المجنيّ عليهم في الدعاوى الجزائيّة، وتدعو إلى تعويض ما لحقهم من خسائر([5]).
لقد أولى التشريع الجنائي الإسلامي عناية خاصّة بالمجنيّ عليهم. فبالإضافة إلى الاهتمام الجزائي بهم اتّخذ مواقف خاصّة لحمايتهم، تعدّ ذات أهمّية فائقة في بحث السير التاريخي للاهتمام بضحايا الجريمة. وحيث إنّ أبحاث هذه الدراسة ـ إضافة إلى قيمتيها النظريّة والعمليّة ـ تكشف عن خلفيّة هذا الموضوع في التشريع الجنائي الإسلامي، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً حتّى اليوم، لذلك سنتجنّب الخوض التفصيليّ في هذه الأبحاث وتكرارها في هذه الفذلكة.
يرى كثيرون في الغرب، ومنهم: عزّت فتّاح، أنّ «فون هنتيغ» هو مؤسّس علم ضحايا الجريمة الحديث، ويعدّون كتابه دستور هذا العلم وميثاقه.
وهذا يعني أنّ علم ضحايا الجريمة ولد بعد حوالي سبعين عاماً من ظهور علم الإجرام. لقد أدرك علماء الإجرام تدريجيّاً أنّه من أجل عرض دراسة وافية وشاملة للجريمة لابدّ أن تتزامن محاولتهم هذه مع دراسة الجاني والمجنيّ عليه، وكذلك وضعه قبل ارتكاب الجريمة، ومن ثمّ فإنّ دراسات علم الإجرام ينبغي أن تتّجه صوب المجنيّ عليه وشخصيّته([6]).
ب ـ أنواع المجنيّ عليهم
يمكن تقسيم المجني عليهم ـ حسب الدور الذي يؤدّونه في وقوع الجريمة ـ إلى قسمين رئيسيّين:
الأوّل: هم المجني عليهم الأبرياء تماماً، كالأطفال، والمجانين، والأشخاص الذين اتّخذوا كلّ الاحتياطات اللاّزمة لعدم وقوع الجريمة، ولكنّهم أصبحوا ضحيّةً للجريمة، وعرضةً لها، مصادفةً.
الثاني: هم المجنيّ عليهم المؤثّرون في وقوع الجريمة، أي الأشخاص الذين كانت لهم مشاركة بنحو ما في وقوع الجريمة، مثل: المجنيّ عليهم المغفَّلون، أو قليلو الاطّلاع.
ولا يخفى أنّ دور المجنيّ عليهم في وقوع الجرائم ليس على مستوى واحد، بل يبدأ من عدم الانتباه والحذر، فالإثارة والتحريك، وصولاً إلى الجاني الذي يصبح هو ضحيّة أيضاً.
وكذلك يمكن تقسيم المجنيّ عليهم ـ حسب معدّل الضرر الذي يلحقهم ـ إلى أقسام مختلفة. فللمجني عليهم ظروف مختلفة من حيث قابليّة التأثُّر بالجريمة. ومن البديهي أنّ ظروف ارتكاب بعض الجرائم ليست متساوية فيما بين الرجال والنساء. كما أنّ ظروف تضرّر الأطفال تختلف عن ظروف تضرّر كبار السنّ. وهكذا يختلف الأشخاص ذوو القوى العقليّة الأضعف، كالبله، عن غيرهم، فيكونون عرضة للتضرّر الجنائي، ويصبحون ضحايا، أكثر من غيرهم.
فالأطفال يختلفون عن كبار السنّ من حيث الخصوصيّات البدنيّة، والنفسيّة، والشخصيّة. كما أنّهم من الناحية الحقوقيّة والقانونيّة غير مسؤولين جزائيّاً ـ كالراشدين ـ عن أعمالهم الجرميّة. وقد وجدت جنح الأطفال والناشئة مكانة خاصّة في كثير من العلوم الجنائيّة، كعلم الإجرام، وحقوق الجزاء.
وهناك فئة أخرى من ضحايا الجريمة يمكن تسميتهم بضحايا العدالة، أو المحاكم الجزائيّة، ويجري التحقيقُ بشأنهم تحت هذا العنوان. ففي كثير من الحالات لا يكون الأشخاص ضحايا جرائم الجناة، بل يكونون ضحايا الجهاز القضائي، ويُعرَفون بضحايا القضاء. إنّ المتّهمين والمحكومين الأبرياء الموقوفين بسبب اتّهامات جزائيّة هم من هذه الطائفة من الضحايا والمتضرّرين الجنائيّين، فضلاً عمَّنْ أدانتهم المحاكم، وأصدرت بحقّهم أحكاماً عقابيّة، رغم كونهم في حقيقتهم أبرياء. والسبب الرئيس لمثل هذه الحالات هي التحقيقات أو الاعتقالات غير الصائبة. وكذلك سائر الحالات المتعلّقة بنقض حقوق المتّهمين.
لقد أولى الإسلام عناية فائقة، واهتمّ اهتماماً بالغاً، بتعويض الخسائر الواردة في هذه الحالات؛ انطلاقاً من قاعدتي: «التسبيب»؛ و«لا ضرر»، الفقهيّتين، ولو لم يكن المسبّب في حدوث الخسارة مقصِّراً. ولهذا نراه قد عيَّن تعويضاً حتّى للضرر الجسماني الناشئ من الخطأ المحض، والذي لا يعدّ المسبِّب مقصِّراً فيه أبداً. وقد سمّاه دية الخطأ.
ج ـ عوامل التضرّر الجنائي
للتضرّر الجنائي ـ كما للفعل الجنائي ـ علل وعوامل مختلفة. وطائفة كبيرة منها مشتركة. إنّ أهمّ سبب وراء ارتكاب الجرائم في المجتمع هو وجود العلل والعوامل المشجّعة على الجريمة، ووجود أشخاص لديهم الدافع القوي للإجرام. بَيْدَ أنّنا سنركّز هنا على العوامل التي تتمحور حول توجُّهات المجنيّ عليهم، فنشير في ما يلي إلى بعض هذه العوامل من وجهة نظر علم ضحايا الجريمة:
1ـ مشاركة المجني عليه في الجناية
للمجنيّ عليه في موارد كثيرة مشاركة ما ـ قلّت أو كثُرت ـ حتّى في العنصر المادّي للجريمة أو تسهيلها. ويمكن الإشارة إلى نماذج منها. لا شكّ أنّ هذه المشاركة قد تكون واعية أحياناً؛ وقد تكون ناجمة عن غفلةٍ، أو ضعف القوى الجسميّة أو العقليّة أحياناً. فأنواع السلوك الجنسيّ المبتني على رضا الطرفين، والمستحقّة للعقوبة القانونيّة، هي من هذا القبيل. ومثال هذه الحالة: الصبيّ الذي يرضى بممارسة الجنس معه، ولكنّ رضاه لا يبرّر للمجرم ارتكاب هذا الجرم، أو الصبيّة التي تجنح إلى الفرار من بيت أبيها ـ مثلاً ـ؛ بقصد الزواج، أو العيش مع خطيبها، ثمّ تشارك مشاركة كاملة في التخطيط لاختطافها.
وفي بعض الحالات يوفِّر المجنيّ عليه، ومن خلال حركة أو تصرّف خاطئ، أو ناجم عن غفلة، وربما عن وعي وتعمّد، فرصة للجاني لارتكاب جرمه.
إنّ مَنْ يضع أدوات ارتكاب الجريمة تحت تصرّف الشخص المهاجم، أو يثيره ويدفعه للمبادرة، نموذجٌ لتسهيل ارتكاب الجريمة، والمجنيِّ عليه الذي يجعل من نفسه عرضةً وضحيّةً للجريمة.
ويمكن القول: إنّ مَنْ يقصّر في اتّخاذ التدابير الاحتياطيّة اللازمة لمواجهة الجريمة ـ مهما كان باعثه ـ، ويبقى متفرّجاً وغير مبالٍ لما يحدث، يكون قد سهّل وقوع تلك الجريمة، وهيّأ ظروفها كي تقع.
2ـ عدم المحافظة على الأغراض
يجب على المجنيّ عليهم، الذين يكونون هم أو أموالهم عرضة للجريمة، اتّخاذ التدابير المناسبة للحذر وللمحافظة عليها. أمّا ترك ما هو غرض للجاني عرضة له فهو من العوامل التي تدفع المجرم لتنفيذ هدفه الإجرامي من دون أيّ رادع، إضافةً إلى سَوْق بعض الأفراد نحو الجريمة، والتقليل من مخاطرها، وإيجاد الحافز للمجرمين بصورة عامّة.
أمّا المحافظة على الأشياء التي يستهدفها المجرمون عادةً فتؤدّي إلى تقليل المكاسب المتوقّعة من الجريمة، وتعسِّر أو تعذّر ارتكاب العمل الإجرامي. و قد تمّ في كلام الفقهاء والحكماء وأئمّة الدين ـ أيضاً ـ الحثّ على الاحتياط في حفظ الأموال، والحيلولة دون تعريضها للعدوان. ومثالها البارز: القول المعروف: «استر ذهبك وذهابك ومذهبك»([7]).
في التشريع الجنائي الإسلامي كلّ إنسان مكلَّفٌ ابتداءً بحفظ نفسه وماله، بحيث إنّه ـ حتّى في التشريع الجزائي ـ لو لم يضع الفرد أمواله في حرز مناسب، ثمّ تعرّضت للسرقة، فإنّ حمايته الجزائيّة تخفّ، وتتبدّل السرقة المستوجبة للحدّ إلى السرقة التعزيريّة؛ بسبب هذا التقصير.
وللحدّ من جرائم مالية، كالخيانة في الأمانة، والاحتيال، والتدليس، التي ترتكب عادةً على أساس ثقة المجنيّ عليه بالجاني، تمّ التشديد في التشريع الجنائي الإسلامي على الدقّة في انتخاب الفرد المعتمد، وتجنُّب الثقة العمياء بأيٍّ كان. قال تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} (النساء: 5).
ولقد استشهد الإمام الصادق× بهذه الآية الكريمة في بيان أسلوب وقائي، حين أراد ولده إسماعيل أن يستثمر أمواله لدى رجل من قريش، فمنعه؛ لأنّه كان يشرب الخمر. فقد روي أنّه: «كانت لإسماعيل بن أبي عبد الله× دنانير، وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن، فقال إسماعيل: يا أبتِ، إنّ فلاناً يريد الخروج إلى اليمن، وعندي كذا وكذا دينار، أفترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن؟ فقال أبو عبد الله×: يا بُنيّ، أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل: هكذا يقول الناس، فقال: يا بُنيّ، لا تفعل…، ولا تأتمن شارب الخمر؛ فإنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ}، فأيّ سفيه أسفه من شارب الخمر، إنّ شارب الخمر لا يزوّج إذا خطب، ولا يشفَّع إذا شفع، ولا يؤتمن على أمانة، فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله أن يأجره، ولا يخلف عليه([8]).
3ـ وجود الفرص والظروف المناسبة
إنّ وجود الفرص والظروف المناسبة لارتكاب الجريمة كانت وما زالت أحد العوامل المهمّة في وقوع الجرائم، وتشجيع الأشخاص الذين عندهم هذا الدافع نحو ارتكاب العمل الإجرامي، بل إنّها قد تخلق هذا الدافع أحياناً. إنّ التعاطي مع فرص الجريمة كعامل مؤثّر وحاسم يجعل المجتمع يعرف أنّ أحد أهمّ طرق الحدّ من وقوع الجريمة هو السعي لإعدام هذه الفرص، أو ـ في الأقلّ ـ تقليلها.
لا شكّ أنّ أثر الفرص ليس حاسماً وقطعيّاً دائماً؛ بحيث ينظر للمجرم كعنصر ثابت لا أثر له، كما قد يُتصوّر في بعض مدارس «علم الإجرام». ولكنّ فرص الجريمة ـ على كلّ حال ـ هي بمثابة المتغيّرات التي تنتهز لو كُتب لها الغلبة، وكانت كفّة المنافع الحاصلة من الجريمة أرجح من كفّة الأخطار المحتملة منها. وفي مثل هذه الحالة يتمّ ارتكاب الجريمة غالباً. وعلى العكس من ذلك كلّما قلّت هذه الفرص، ورجحت مخاطر الجريمة على منافعها، تقلّص احتمال وقوع الجريمة. وهاهنا تحظى إرادة الأفراد الذين لديهم الاستعداد للجريمة، وأسلوب تعامل الأفراد المؤهَّلين لأن يكونوا ضحاياها، بالأهمّية البالغة.
إن الأماكن المؤهَّلة لارتكاب الجريمة هي الأخرى تزيد من خطر حصول الجريمة. فمثلاً: وجود الشوارع والأزقّة المظلمة، أو قليلة الإضاءة، تزيد من خطر سرقات الشوارع، واختطاف الحقائب; لأنّ إمكانيّة التعرّف على المجرم والإمساك به تقلّ في مثل هذه الظروف. كذلك فإنّ وجود الخرائب والأماكن المتروكة والمهجورة، والسكنى في الضواحي والمناطق غير المأهولة، وسائر العناصر الموضوعيّة التي لا علاقة لها بسلوك الجاني أو المجنيّ عليه، تعدّ بنفسها من العوامل المؤثّرة في وقوع الجناية على الأشخاص.
4ـ ضعف المجنيّ عليه
يُعَدُّ الضعف البدني والذهني والمالي وغيرها من موجبات التضرّر الجنائي. فالشخص الذي يحمل نزعة العدوان، كالضرب والجرح والسرقة، أو القتل ونحوها، أو عنده جنوح نحو أمثال هذه الجرائم، لو اعتبر الشخص المقابل أقوى منه بدنيّاً فمن الممكن أن يغضّ النظر عن ارتكاب جريمة في حقّه. أمّا إذا رآه أضعف منه فإنه لن يتردّد في الاعتداء عليه. وهكذا يكون الشخص الضعيف من الناحية الذهنيّة أكثر عرضة من غيره للجرائم الماليّة، كالنصب، والاحتيال.
وفي العنف الذي تتعرّض له النساء من قبل أزواجهنّ، والمنتشر كثيراً، يمكن الإشارة ـ فضلاً عن سائر العلل والعوامل ـ إلى الضعف الجسمي للمرأة مقابل زوجها، والذي يعدّ أحد أسباب تضرّر النساء، ووقوعهن ضحايا جرائم العنف الأُسري. وسوف نتعرّض في المبحث الثاني من هذا الفصل إلى طرق الوقاية من تضرّر الأشخاص الضعفاء.
وبالإضافة إلى كون الإدمان ـ كسائر الآفات الاجتماعيّة والنفسيّة ـ يؤدّي إلى التضرّر الجنائي فإنه هو نفسه نوع من التضرّر الجنائي. فأوّل ضربة يوجّهها الإدمان هي لكيان الأُسرة، ولاسيّما الأولاد. فالمراهقون المدمنون هم ضحايا الإدمان. وتشير إحصاءات ومعلومات مكتب السيطرة على المخدّرات إلى هبوط سنّ الابتلاء بالاستهلاك المدمّر للمخدّرات في جميع أنحاء العالم، وأنّه في حالة تزايد بين المراهقين، بحيث يعدّ هذا الأمر ثالث أزمة عالميّة([9]).
د ـ حماية ضحايا الجرائم
ينبغي اتّخاذ خطوات من قبل المجتمع أو الأشخاص المعرَّضين للتجنّي، من أجل حماية أنفسهم والمحافظة عليهم، ليكونوا في مأمن من خطر الجريمة. وحسب هذه النظرة لو لم يسْعَ أفراد المجتمع إلى تأمين أنفسهم فإن هذا يعني أنّهم يقومون بتسهيل ارتكاب الجريمة، ويلعبون بلا أُباليّتهم دوراً مهمّاً في حصول ظاهرة الإجرام.
إنّ على الحكومات ـ إضافة إلى مسؤوليّتها في حماية المتضرّرين جنائيّاً ـ أن تتّخذ التدابير اللازمة للوقاية من حصول التضرّر الجنائي لهم، وأن تعمد إلى القيام بخطوات تقنينيّة وتنفيذيّة للحدّ من توفّر أرضيّات التجنّي وظاهرة ضحايا الجرائم. فتعليم المتضرّرين جنائيّاً ـ بالفعل أو بالقوّة ـ، وتوعيتهم، والترخيص القانوني للدفاع المشروع، نماذج من الحماية التقنينيّة للمتضرّرين. ونشير في ما يلي إلى موارد من هذا القبيل من الحماية، وضرورتها:
1ـ تعليم الضحايا والمتضرّرين وتزويدهم بالمعلومات في الوقت المناسب
يؤدي العلم والوعي إلى رفع كثير من معضلات ومشكلات الحياة الفرديّة والاجتماعيّة للإنسان. وأغلب المعضلات الاجتماعيّة، ولاسيّما معضلة الجريمة وضحاياها، ناشئة من الجهل، والغفلة، وعدم الالتفات. ما نبحثه هنا هو تأثير الوعي والعلم على التضرّر الجنائي، وحفظ وسلامة الأفراد، لئلا يقعوا فريسة الجرائم.
في التشريع الجنائي الإسلامي آيات وروايات كثيرة في فضل العلم والوعي. ويشير بعضها إلى أثرهما في سلامة الإنسان، والحيلولة دون التجنّي عليه; لأنّ الجهل أساس جميع المشكلات والانحرافات والمعضلات، وبإزالته يزول القسم الأعظم من المشكلات من المجتمع([10]).
فالمبادرة لتوعية الناس في مجال الجرائم، والأساليب التي يلجأ إليها الجناة، والتوصيات والتعليمات اللازمة للفئات المتضرّرة الخاصّة، هي المقصودة في هذا النهج. وقد تعرّض الفقهاء في كتبهم إلى هذا الموضوع من الناحية الفردية. فمثلاً: لو أصبح شخص معرّضاً لخطر وقوع جناية عليه فإنّ على سائر الأفراد العالمين بالموضوع ـ إضافةً إلى منع الشخص الموشك على الجناية من ارتكاب جنايته ـ إطلاع المجنيّ عليه بالقوّة (أي المرشّح لأن يصبح مجنياً عليه) على الموضوع([11]).
2ـ جواز الدفاع المشروع
حين يكون الفرد مهدّداً بحصول جناية عليه، ويكون المجتمع عاجزاً عن حمايته، لا يمكن أن يُحرم من حقّه الطبيعي في الدفاع، وأن نتوقّع منه أن يتحمّل الجريمة، ثمّ يقوم أولياؤه بعد موته بطرح قضيّته لدى المراجع القانونيّة. إنّ الدفاع المشروع ليس حقّاً مسلّماً ومقنّناً للشخص الذي يتعرّض للعدوان فحسب، بل إنّ لسائر الأفراد أيضاً حقّ الدفاع المشروع عنه. يقول الإمام الصادق×: «إذا قدرت على اللّص فابدره، وأنا شريكك في دمه»([12]).
والجملة الأخيرة كناية عن أنّه لا توجد أيّة مسؤوليّة جزائيّة ومدنيّة، وأنّ الشخص الذي يتعرّض لهجوم لديه المرخِّص القانوني بقتل اللّص، أي السارق المسلّح؛ ليحمي نفسه من هجومه.
في رواية أخرى عن أبي عبد الله× قال: «اللص محارب لله ولرسوله، فاقتلوه، فما دخل عليك فعليَّ»([13]).
يقول المحقّق الحلّي في «شرائع الإسلام»: «اللص محارب، فإذا دخل داراً متغلّباً كان لصاحبها محاربته، فإن أدى الدفع إلى قتله كان دمه هدراً ضائعاً، لا يضمنه الدافع. ولو جنى اللص عليه ضمن. ويجوز الكفّ عنه. أما لو أراد نَفْسَ المدخول عليه فالواجب الدفع. ولا يجوز الاستسلام والحال هذه. ولو عجز عن المقاومة، وأمكن الهرب، وجب»([14]).
وقال الشهيد الثاني في «شرح اللمعة»: «وكذا يجوز الدفع عن غير مَنْ ذكر، مع القدرة. والأقرب وجوبه مع الضرورة، وظنّ السلامة (معتمداً) في الدفاع مطلقاً على الأسهل فالأسهل، كالصياح، ثم الخصام، ثم الضرب، ثم الجرح، ثم التعطيل، ثم التدفيف . ودم المدفوع هدر حيث يتوقف الدفاع على قتله، وكذا ما يتلف من ماله إذا لم يمكن بدونه. ولو قُتِل الدافع كان كالشهيد في الأجر»([15]).
وفي خصوص أدلّة إثبات الدعوى يجب أخذ تمهيدات بنظر الاعتبار، ما لم تخلق أرضيّة للاستغلال. فلو أنّ أحداً قتل آخر في منزله، وادّعى أنّ المقتول كان يقصد العدوان عليه، أو على ماله، وأقام بيّنة على أنّ المقتول كان يحمل سيفاً وقد اتّجه صوب صاحب المنزل، فهذا بنفسه يُعَدّ قرينة معتبرة على دعوى القاتل، فيسقط عنه الدية والقصاص، ولو أنكر ورثة المقتول هذا الأمر([16]).
3ـ مقارنة دور قوانين التأمين الإجباري ودية العاقلة في تقليل ضحايا الجرائم
صحيح أنّ نتيجة إلزاميّة التأمين تعويض الخسارة على المجني عليه بعد ارتكاب الجرم، ولكن حيث إنّ هذه الخطوات تتّخذ قبل ارتكاب الجرم، أوّلاً، وتؤدّي إلى كثير من الخطوات الرادعة والوقائيّة، ولاسيّما من قبل شركات التأمين، ثانياً، فهي تتعلّق بالتدابير السابقة لوقوع الجريمة. إنّ توفير التأمين من شأنه إيجاد إمكانات مؤثّرة، يمكن عن طريقها عرض حوافز ماليّة؛ لتشجيع اتّخاذ التدابير الوقائيّة من الجريمة.
فمن خلال التأكيد على نصب أجهزة الحماية كشرط للاستفادة من غطاء التأمين يمكن لشركات التأمين أن ترفع من معدّل اتخاذ التدابير الأمنيّة، ولو أنّ هذا يتطلّب الانتباه إلى أن لا تتحوّل النفقات الإضافيّة إلى مانع للذين هم زبائن بالقوّة لخدمات شركات التأمين.
وفي المناطق الفقيرة، حيث الاتّجاه إلى تحمّل الجرائم أكثر، تزداد الحاجة ـ إزاء الآثار الناجمة من مواجهة الجريمة ـ إلى الإجراءات الأمنية، وإلى التأمين أيضاً.
ولمّا كان حقّ التأمين في مثل هذه المناطق كثيراً جدّاً فلعلّه من الضروري منح الفقراء تخفيضات معيّنة، أو في الأقلّ تبنّي التخفيف والتشجيع للأشخاص الذين أقدموا على نصب أجهزة الحماية. فشركات التأمين التي تتحمّل مسؤوليّة تعويض الخسائر الناجمة من أخطاء الزبائن تسعى لتقليل أخطائهم إلى أقلّ حدٍّ ممكن، وأن تحول دون تضرّرهم.
ومن المناسب لهذه الشركات أن تشارك في التصاميم المنطقيّة والوقائيّة، وأن تقلّل من نفقاتها، من خلال المساعدة في إيصال المعلومات والتوعية والتثقيف، في سبيل الحدّ من المخالفات التي تؤدّي إلى التضرّر الجنائي.
ولا يحضر دور «الدية» في تعويض الخسارة الحاصلة، بل ينبغي أن يكون لها دور رادع في الموارد المشابهة. فعندما يكون أقرباء الإنسان على اطّلاع على هذا الحكم الإسلامي، وأنّ على كلّ واحد منهم أن يتحمّل قسماً من دية خطأ قريبه، فإنّ هذا سوف يؤدّي بلا شكّ إلى أن يسعى بعضهم في دعوة بعض إلى مزيد من الاحتياط في القضايا التي قد تؤدّي إلى حدث ما، لكي لا تحصل خسارة، ولا يضطرّوا لدفع الدية.
قد يرِدُ إشكالٌ مفاده: إنّ مسألة وجوب الدية على العاقلة يتعلّق بالخطأ المحض، وسواء أكان دفع الدية من قبل الجاني نفسه أو ذويه، فإنّ هذا لا يمكن أن يلعب دوراً في هذا المجال؛ لأنّه لم يكن ثمّة عمدٌ أصلاً.
ولكنْ يُجاب عن ذلك بأنّ الأخطاء التي تصدر عن الإنسان قد تكون خارجة عن اختياره، ولكنْ لو بُذل احتياط أكثر في مقدّماته فمن المسلّم أنّ نسبة الأخطاء سوف تكون أقلّ. إذاً فإنّ الأخطاء ـ مع كونها أخطاء ـ لها مقدّمات اختياريّة([17]).
ومن هذا القبيل مسؤوليّة ربّ العمل في موارد عدم احتياط العمّال. فإذا عرف ربّ العمل أنّ أية جريمة غير عمديّة تحدث في معمله قد تؤدّي إلى مسؤوليّة جزائيّة أو مدنيّة فسيبذل غاية الدقّة والاحتياط؛ للحدّ حتّى من وقوع الحوادث والجرائم غير العمديّة.
4ـ إعدام ظروف التضرّر الجنائي
إن أحد الأهداف الأصليّة والمهمّة للوقاية الموضوعيّة تفويت الفرص والظروف المناسبة للتضرّر الجنائي، والحيلولة عن هذا الطريق دون وقوع ضحايا جرائم. ينبغي التخطيط للأوضاع والظروف بحيث لا يجد الشخص الذي يهمّ بالإجرام فرصة لارتكاب الجريمة، ومن ثمّ لا يتحقّق التضرّر الجنائي. وهذه الفرص تشمل موارد وحالات كثيرة، نشير في ما يلي إلى بعضها:
1ـ المحافظة على الأغراض، بحيث يتعذّر أو يتعسّر وصول الجاني إليها، والتعدّي عليها.
2 ـ تفويت الظروف، وتغيير البيئة، المناسبة لارتكاب الجريمة. على سبيل المثال: يمكن الإشارة إلى إضاءة الأزقّة المظلمة، وتسطيح الخرائب.
3 ـ حضور الشرطة في الأماكن التي يكثر فيها خطر التضرّر الجنائي.
4 ـ إشراف الوالدين ومراقبتهم لأولادهم؛ للحيلولة دون أن يكونوا جناة أو ضحايا.
5 ـ الإشراف الإلكتروني، ونصب كاميرات الفيديو في الأماكن التي يزداد فيها الخطر، بحيث تزيد من احتمال التعرّف على الجناة، واعتقالهم، ومن ثمّ تقلّل من خطر التضرّر الجنائي.
6 ـ إلزام المجنيّ عليهم والجُناة بالقوّة برعاية بعض الإجراءات الأمنيّة، التي تؤدّي مراعاتها إلى تقليل خطر التضرّر الجنائي، مثل: الإلزام بالاستفادة من خوذة الأمان، وحزام الأمان.
7 ـ تجنّب الإثارات التي تؤدّي إلى انجذاب الجناة صوب المجني عليهم. فمثلاً: ينبغي رعاية الحجاب في التشريع الجنائي الإسلامي.
هـ ـ نماذج من التعاليم الدينيّة والأخلاقيّة التي تقلّل من التضرّر الجنائي
في النصوص الإسلاميّة، سواء الآيات القرآنيّة الكريمة أو الروايات والأحاديث الشريفة أو الأبواب الفقهيّة المختلفة ـ أعمّ من المعاملات والإرث والوصيّة وغيرها ـ، تواجهنا أحكام شُرِّعت بهدف حماية ضحايا الجرائم، أو من أجل المحافظة على أموالهم. ونشير في ما يلي إلى نماذج من الأحكام والقوانين الإسلاميّة، التي نتيجتها الحدّ من التضرّر الجنائي، وتقليل ضحايا الجريمة.
1ـ إيجاد ثقافة مناهضة الظلم في المجتمع
من العوامل التي تسهّل وقوع الجريمة، وتحرّض الجناة على اصطياد ضحاياها، قبول الظلم، وعدم مقاومة الجناة. فسلوك كثير من المجنيّ عليهم في جرائم مثل: النصب، والضرب، والجرح، والابتزاز، ونحوها، يعدّ محرِّكاً ومشجّعاً للجناة. فبعد أن يذمّ القرآن الكريم جريمتي إعطاء الربا وأخذه يؤكِّد رفضه لإيقاع الظلم وتحمُّله معاً. يقول تعالى: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279).
لمّا كان كثيرٌ من المجرمين يرى أرضيّة ارتكاب الجريمة مساعدة، والمجنيّ عليه بالقوّة فاقداً لأيّ حافز وقدرة على الدفاع، يتعزّز لديه دافع ارتكاب الجريمة، ويُقدِم على ارتكابها. ومن هنا نرى في التشريع الجنائي الإسلامي التأكيد على التصدّي للجور والتعدّي، وإعانة الشخص المعرّض للتجنّي، إضافة إلى وجوب النهي عن المنكر، وتحذير المجرم من ارتكاب العمل الإجرامي.
وقد تمّ في كثير من الروايات التأكيد على حماية أرواح الآخرين وأموالهم وأعراضهم، وعدّ من واجبات الإنسان في المجتمع. فقد روي عن الإمام السجّاد× قوله: «وأمّا حقّ جارك فحفظه غائباً، وإكرامه شاهداً، ونصرته إذا كان مظلوماً»([18]).
وقد طرح القرآن الكريم هذا الموضوع صراحة، فقال تعالى: {لاَ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} (النساء: 148).
ويقول الطبرسي في تفسير هذه الآية: «استثني من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم، وهو أن يدعو على الظالم، ويذكره بما فيه من السوء. وقيل: هو أن يُبدأ بالشتيمة فيردّ على الشاتم ينتصر منه»([19]).
2ـ إشاعة ثقافة الصبر والحلم والمداراة
من العوامل المؤثّرة في بروز الجناية إثارة الجاني من قبل المجني عليه. إنّ الجناة بالقوّة، ولاسيّما تلك الفئة المصابة بالعُقد النفسيّة والمشكلات الروحيّة والعصبيّة، يثارون بأقلّ ضغط نفسيّ، ويقدمون على ارتكاب الجريمة. وعلى هذا فأوّل تعامل مثير من قبل مخاطبي هذا النمط من الناس يؤدّي إلى إيجاد الأرضيّة لارتكاب الجريمة، ويبعث على تحريك المجرم نحو الجريمة، وتنفيذ مقاصده الإجراميّة. وكذلك فإن الحلم وتحمّل الأفراد سوف يؤدّي إلى إزالة أرضيّة ارتكاب الجريمة.
وقد تمّ في النصوص الإسلاميّة طرح هذا النوع من الردع، وإزالة أرضيّة الجريمة، في قالب التوصية بالصبر والحلم. فالقرآن الكريم، بعد أن يبيّن ضرورة التصدّي للمجرمين، ويعدهم بالعذاب الأليم، يثمّن صبر الضحيّة والمتضرّر الجنائي. قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (الشورى: 43).
ولا شكّ أنّ هذا التعامل إنما هو من أجل الحدّ من تشديد الجناية، أو الحدّ من تبدّل الخفيف منها (كالإهانة والسبّ) إلى الشديد (كالضرب المُبرح والجرح أو القتل). فقد بيّنت أحاديث المعصومين^ نتيجة الصبر والحلم إزاء الجاهلين والوقحين في دفع شرّهم وحثّت على ذلك. فقد روي عن رسول الله‘ قوله: «يا علي، ثلاث مَنْ لم يكنَّ فيه لم يتمّ عمله: ورع يحجزه عن معاصي الله عز وجل؛ وخلق يداري به الناس؛ وحلم يردّ به جهل الجاهل»([20]).
كما جرى التركيز على ضرورة التحلّي بالصبر والهدوء إزاء مثل هذه التصرّفات في كلام للإمام الصادق×، قال: «وإن أحقّ الناس أن يتمنّى حلم الناس أهل السفه، الذين يحتاجون أن يعفى عن سفههم»([21]).
3ـ التقيّة والتورية
التقيّة عبارة عن كتمان العقيدة، بل تشمل التظاهر في بعض الحالات باعتناق عقيدة الآخر. فلقد عرّف الشيخ الأنصاري التقيّة، في كتاب له يسمّى «التقيّة»، بقوله: «التقية: إيمان في القلب، وإظهار خلافه في الخارج؛ لأسباب، كالخوف و… والنفاق: كفر في القلب، وإظهار الإيمان في الخارج، لا يتجاوز اللسان. فهل يا ترى التقية والنفاق متساويان؟!»([22]).
لقد شُرّع هذا الحكم بهدف حماية الأفراد من التضرّر الجنائي، والوقوع ضحايا الجريمة. وقد تمّ التأكيد عليه، وعُدّ من الواجبات.
وقد بحث الفقهاء في كتبهم موضوع التقيّة، وحكموا بوجوبها، وأشاروا إلى أنّ الهدف الأصلي والغاية من تشريعها في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة هو حفظ أموال وأعراض ونفوس المؤمنين وسائر شؤونهم([23]).
تقسّم التقيّة ـ من حيث الحكم ـ إلى قسمين: واجب؛ ومستحبّ. ومورد التقيّة الواجبة دفع الخوف عن النفس أو العِرْض، أو إلحاق الضرر بالنفس أو الغير، وتدور مدار ما يجب حفظه شرعاً وعقلاً([24]).
روي عن الإمام الباقر× قوله: «التقيّة ديني، ودين آبائي». كما أنّ هناك روايات كثيرة أكّدت مسألة حفظ الدماء، والتصدّي للتضرّر الجنائي([25]).
تمتدّ حدود التقيّة إلى حيث لا تؤدّي إلى الضرر الأهمّ، أو سفك دم إنسان بريء؛ لأنّ تشريعها إنّما كان من أجل حفظ الدماء، والحيلولة دون وقوع جناية، ولا ينبغي أن تلحق الأذى والضرر بسائر الأبرياء. لذا لا يجوز ارتكاب القتل، أو إلحاق الضرر البدني الشديد، تقيّةً: «إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم، فإذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة»([26]).
أمّا التورية فهي أن تتحدّث بطريقة لا يُقال فيها الصدق، ولا الكذب. فهو نوع من الإخفاء المتّبع من أجل النجاة. وبعبارة أخرى: هي أن تتحدّث بطريقة يكون الكذب فيها قابلاً للانطباق على الصدق.
يقول الشيخ المفيد في «المقنعة»: «والتورية: أن يضمر عند اليمين خلاف ما يظهر. ينوي أنه ليس عندي شيء مما تستحلفني عليه تستحقّه مني. فإنْ لم يحسن التورية، وكانت نيته حفظ الأمانة، ومنع الظالم مما لا يستحقّه، أجزأته النية، وكان مأجوراً. وكذلك اليمين في الدفع عن أذى المؤمنين، وحقن دمائهم، وحراسة أموالهم»([27]).
ويقول السيد الخوئي في «مصباح الفقاهة»: «وأما التورية، وهو أن يريد بلفظ معنى مطابقاً للواقع. المعروف بين أهل اللغة وغيرهم أن الكذب نقيض الصدق، فصدق الكلام بالمطابقة، وكذبه بعدم المطابقة، وإنما الكلام في بيان معنى المطابق (بالكسر)»([28]).
وفي رواية عن أبي عبد الله×، وقد سئل عما يجوز من النية على الإضمار في اليمين؟ فقال: «قد يجوز في موضع، ولا يجوز في آخر، فأما ما يجوز فإذا كان مظلوماً، فما حلف به، ونوى اليمين، فعلى نيّته، وأما إذا كان ظالماً فاليمين على نيّة المظلوم». ويدلّ على أنّ المعتبر في اليمين على نيّة المظلوم من الخصمين، ولا ينفع للظالم التورية لو حلف»([29]).
4ـ التوصية بالاحتياط في العقود والإيقاعات
من العوامل المهمّة في الجرائم الماليّة الثقة في غير محلّها، والتي تؤدّي غالباً إلى جرائم مثل: النصب، والاحتيال، والخيانة في الودائع الماليّة، وأمثالها. وإن الاطّلاع على الوقائع الحقوقيّة والحقائق القانونيّة، والاحتياط في تدوين وتنظيم العقود والوثائق التي تكون منشأً للحقوق والتكاليف، من شأنه الحدّ من أغلب موارد سوء التصرّف في الأموال.
وضمن التنبيه على ضرورة الإشهاد أثناء المعاملات غير النقديّة، أو أخذ الرهن، أو كتابة المعاملات، يبيّن الله تعالى في القرآن الكريم([30]) أحكاماً؛ للحيلولة دون التضرّر الجنائي. ونتعرّض لبيانها في ما يلي باختصار، من دون بيان الآية لطولها:
1ـ هذه الآية نموذج من التفات القرآن الكريم، والتشريع الجنائي الإسلامي عموماً، لتعليم الأفراد الذين هم عرضة للوقوع ضحايا الجريمة، لتتمّ نوعاً ما حمايتهم من الأفراد الجُناة بالقوّة.
2ـ أن تكون المعاملات مكتوبة، واستلام سند الوصول عند تحويل البضاعة بصورة غير نقديّة؛ لغرض الإحكام والاحتياط، وللحيلولة دون التصرّف السفهيّ ـ الإجرامي أو غير الإجرامي ـ بالأموال.
3ـ أكّدت الآية أنّ على المدين ـ أوّلاً ـ أن يكتب أو يملي؛ ليعدّ إقراراً بحقّه، ولا يمكنه الإنكار. ولو أملى الآخرون فإنّه يجب ـ ثانياً ـ حضور الشهود، إضافة إلى الكتابة; لئلاّ يمكن التهرّب والتملّص.
4ـ للحيلولة من استغلال السفيه أو غير الرشيد والأفراد الضعفاء عُدَّ حضور وليّهم شرطاً في صحة المعاملات الماليّة.
5ـ أكّدت الآية الاستفادة من شهادة الشهود؛ من أجل الاحتياط والحيلولة دون وقوع الجرم.
6ـ علّمنا الله تعالى في هذه الآية اتّخاذ تدابير لحماية المتضرّر الجنائي، وقدّم لنا التعليمات اللاّزمة في هذا المجال.
وفي ذيل الآية جرى أيضاً تأكيدٌ هذا الموضوع، حيث قال تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمْ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ}.
7ـ هذا النوع من التعامل مع الأمور الماليّة، من حيث الاحتياط والوقاية من احتمال وقوع الجرم، يمكن أن يتّخذ أُنموذجاً في مجالات مختلفة.
إنّ الإلزام بالتسجيل الرسمي لبعض المعاملات، كالأموال المنقولة، وغير المنقولة، ووسائل النقل، يمكن أن يؤدّي إلى تقليل كثير من الجرائم الماليّة.
ومن التدابير الوقائيّة التي تمّت الإشارة إليها في القرآن الكريم الإيصاء باتّخاذ الشهود حين الوصيّة. وهذه الخطوة تحول أيضاً دون كثير من الجرائم المالية، كالنصب، وتحريف الوصيّة، وخاصّة جعل إضافات أثناء تنظيمها، والاستفادة من السند المزوّر. ولهذا السبب حظيت بالاهتمام([31]).
و ـ حماية فئات خاصّة من الضحايا والمتضرّرين
بعض فئات المجتمع لديها استعداد للتضرّر؛ بسبب طبيعتها الاجتماعيّة أو البدنيّة الضعيفة من حيث المواصفات الفسيولوجيّة، من قبيل: الجنس، أو السنّ، كالنساء والأطفال والمسنّين والمحجورين وأمثالهم، فيكونون أكثر عرضة للتضرّر الجنائي.
ولم يغفل التشريع الجنائي الإسلامي عن تعليم هؤلاء الأفراد، وإيجاد ثقافة الحلم والصبر والمحافظة لديهم. وتعدّ التدابير التي اتّخذها لحماية الضحايا والمتضرّرين بالقوّة من العوامل المؤثّرة في هذا المجال. ونتعرّض هنا لبيان بعض طرق حماية المتضرّرين في مراحل وقوع الجناية والضرر الجنائي المختلفة من وجهة نظر التشريع الجنائي الإسلامي.
1ـ النساء
النساء أكثر عرضة لجرائم خاصّة؛ بسبب طبيعتهنّ الجسميّة والروحيّة والعاطفيّة والاجتماعيّة الخاصّة. ولذا شرّعت لهنّ أحكام مختلفة، كالحجاب؛ من أجل المحافظة عليهنّ في البُعدَيْن الاجتماعي والفردي.
قد يتصوّر البعض أنّ النساء أكثر عرضة للوقوع ضحايا الجرائم، ولكن من البديهي أنّ الأمر ليس كذلك في جميع أنواع الجرائم. ومع ذلك فإنّهنّ معرّضات بصورة أشدّ وأكثر من الرجال لنوع من الجرائم الخاصّة، كالاعتداءات الجنسيّة، والعنف الأُسري، والزوجي، وأمثالها.
1ـ1ـ الحجاب
لا يختصّ الحجاب بالإسلام، بل جاءت التوصية به في كثير من الأديان والمدارس والحضارات. فحجاب المرأة على المستوى الفردي يبعث على أمنها، كما أكّد القرآن ذلك. وكذلك فعل الإمام عليّ× في نهج البلاغة، حيث صرّح قائلاً: «واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إيّاهنّ؛ فإن شدة الحجاب أبقى عليهنّ، وليس خروجهنّ بأشدّ من إدخالك مَنْ لا يوثَق به عليهنّ»([32]).
ثانياً: إنّ فقدان المرأة حجابها يفقدها شخصيّتها، ويقوّي النظرة الشيئيّة لها. ومن ثمّ تقع ضحيّة الاستغلال السيّئ لطلاّب الشهوة، وأصحاب الأفكار المنحرفة، والأحلام المريضة، الذين ينظرون إليها كأداة لتلبية نزواتهم، وإشباع شهواتهم.
ثالثاً: الحجاب حكمٌ تكليفيّ، وتترتّب عليه آثار، أهمّها: تمسّك المرأة بالأوامر الإلهيّة، الأوامر التي صدرت باقتضاء خلقتها، ومتناسبة مع حاجاتها.
أمّا في البُعد الاجتماعي، وفي نظرة عميقة، يمكن ذكر بعض آثار حفظ حجاب المرأة في المجتمع، ومنها:
1ـ يؤدّي الحجاب إلى ترسيخ قواعد الأسرة.
2ـ من شأن الحجاب توفير موجبات سيادة الهدوء في المجتمع، ويستتبع استقرار المجتمع إلى حدٍّ ما.
3ـ حيث إنه في ظلّ الحجاب تتحقّق اللذّات المشروعة فقط فإنّ ذلك يؤدّي إلى سلامة المجتمع، وتعميق نوع من الصحّة النفسيّة والاجتماعيّة، والثبات الاجتماعي.
4ـ يمنح الحجاب المرأة في المجتمع الحرّية المطمئنّة، الخالية من الهواجس([33]).
إن دافع بعض الجناة هو سرقة حليّ الضحايا. ولهذا فإن سترها خارج المنزل ـ إضافة إلى كونه واجباً شرعيّاً ـ يعدّ خطوة على طريق زيادة معدّل الأمن النسوي. قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31).
وممّا يؤسف له أنّ ثقافة عري المرأة، وحضورها في المجتمع بحقوق وواجبات مشابهة ومساوية للرجال، صار سبباً لتصدُّع الأسرة، التي تعدّ الكيان الأصلي للتربية الاجتماعيّة للأفراد، وعجزها عن القيام بدورها الأساسي والحيوي، أي تربية الجيل الصاعد. وهو ما صار سبباً لاستفحال معضلة الجريمة في المجتمعات. وهذه الحقيقة لم تَعُدْ تخفى على أحد، وقد اعترف بها حتّى علماء الإجرام الغربيّون([34]).
ويشير القرآن الكريم في آية أخرى إلى هذا الموضوع، ويعرّف الحجاب كعامل رادع. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لاَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب: 59).
النقطة الوقائيّة الأساسيّة والمهمّة جدّاً في الآية أعلاه أنّها تقول: إنّ على المرأة أن تستر نفسها؛ لئلاّ تُعرَف، وتتعرّض للأذى والتجنّي. وهذا يُظهر أنّ الجناة في الجرائم ضدّ المرأة يختارون ـ في الغالب ـ نماذج خاصّة، وأنّ لديهم اندفاعاً أكثر تجاه هذه النماذج، وأنّ ارتكاب الجريمة ضدّ المحجّبات والعفيفات أقلّ عادةً. ولهذا توصى المرأة برعاية الحجاب؛ لتعرف كامرأة عفيفة، ولا تتعرَّض للتجنّي والأذى.
وعُنيت آية أخرى في القرآن الكريم بالتضرّر الجنائي النسوي، وحذّرت من إيجاد أرضيّة التجنّي. قال تعالى: {ولا تخضعن بالقول فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} (الأحزاب: 32).
والمقصود بالذين في قلوبهم مرض ذوو النظرات المريبة، والذين يمكن للأعمال المثيرة أن تدفعهم للقيام بخطوات إجراميّة.
يسعى التشريع الإسلامي لتوجيه الغريزة الجنسيّة الوجهة الصحيحة، من خلال ترويج الزواج البسيط، سواء الدائم أو المؤقّت. ومن جهة أخرى يعارض بشدّة الفوضى والاختلاط غير المنضبط بين النساء والرجال; لأنّ أوّل نتيجة أكيدة لذلك هو انهدام كيان الأسرة، وسيل من المعضلات والانحرافات الاجتماعيّة. لذا تراه في هذا المجال يقوم بتحذير الأشخاص المعرّضين للوقوع ضحايا الجريمة والتضرّر الجنائي من القيام بأيّ عمل مثير، لا يبخل بتعليمهم أدقّ التفاصيل، حتّى في آيات القرآن الكريم.
درس بعض الباحثين السفور والتبرّج وفق نظريّة العرض والطلب. في هذه النظريّة يمثّل المجرم والمنحرف معيار الطلب، بينما يمثّل المجني عليه معيار العرض، وينظر إلى دور المجني عليه بمثابة مولّد الجناية. ولقد اهتمّ التشريع الجنائي الإسلامي وقائيّاً بتحديد العرض، ودعا النساء إلى رعاية الحجاب وعدم التبرّج. كما أمر في مجال الطلب الرجال بالعفّة، وغضّ البصر عن الأجنبيّات شرعاً([35]).
1ـ2ـ الطلاق
في أبحاث علم فلسفة الاجتماع عُدّ الطلاق أحد المعضلات الاجتماعيّة، ومن العوامل المولّدة للجريمة. أمّا في علم «ضحايا الجريمة» الوقائيّ فإنّ هذا الأمر يُنظر إليه من زاوية أخرى. فمن موارد حماية ضحايا الجريمة الإيصاء بالطلاق للنساء اللّواتي يتعرّضن للأذى من قِبَل أزواجهنّ، ويعتبرن ضحايا نوعاً ما. لقد سمح الإسلام للمرأة أن تطلب من الحاكم إجبار زوجها على تطليقها إنْ لم تَعُدْ تشعر بالأمان في الأسرة، وكانت تخشى من وقوع الضرر الجسمي أو المعنوي لها([36]). وبالنسبة للنفقة إذا لم يدفعها الزوج، ولم يتمكّن الحاكم من إجباره على دفعها، وأدّى إلى العسر والحرج بالنسبة للمرأة، يقوم القاضي بتطليق المرأة، بناءً على طلبها. وقد عُدَّ ترك النفقة في قانون العقوبات الإسلامي جريمةً يُعاقَب عليها.
لقد وافق التشريع الجنائي الإسلامي على اعتبار الطلاق حلاًّ نهائيّاً للوقاية من الجريمة; لأنّه يؤكّد ـ من جهة ـ على حفظ الكيان الأسري بصفته العامل الرئيس في حفظ استقرار المجتمع وأوّل مركز للتربية الاجتماعيّة للفرد، ويسعى لترسيخه عبر الأساليب المختلفة، ويذمّ ـ من جهة أخرى ـ الطلاق، ويعدّه أبغض الحلال عند الله تعالى([37]).
تتمحور نظرة الإسلام في هذا المجال حول دفع الأفسد بالفاسد، فيجيز للمرأة في موارد العسر والحرج التقدّم بطلب الطلاق. وطبعاً ليس كلّ طلاق باختيار الرجل مطلقاً، كما نرى في الطلاق الخلعي والمباراة؛ ففي الأوّل إذا لم تكن المرأة راضية باستمرار الزوجيّة تستطيع أن تنفصل عنه ـ وبتعبير الفقهاء: تخلع نفسها ـ مقابل التنازل عن كامل صداقها، وفي الطلاق الثاني (المباراة) حيث يكون الطرفان غير راضيين بالاستمرار يمكن للمرأة أن تنفصل مقابل التخلّي عن بعض المهر للزوج([38]).
2ـ الأطفال
الأطفال والمراهقون، ونظراً لأوضاعهم الجسميّة والشخصيّة، عرضة للاستغلال والتجنّي. وحيث إنّ الجناة يبحثون عن الأهداف الضعيفة؛ لأنّها تحقّق لهم نسبة أكبر من النجاح، وبأقلّ ما يمكن من الخطر، لذلك فإنّ عدم المحافظة على الأطفال، ولاسيّما الأيتام ومَنْ لا قيّم لهم، ينجرّ إلى وقوعهم ضحايا للجنايات بأشكال مختلفة. فإذا كانت أموالهم بأيديهم كانت عرضة للجرائم المختلفة.
في التشريع الجنائي الإسلامي تحظى رعاية هذه الشريحة من المجتمع بأهمّية بالغة، حتّى أنّه لا يجوز بيع مال اليتيم إلاّ بإجازة من وليّه، وإذا لم يراعِ الوليّ مصالح الطفل تسقط ولايته([39]).
في مجال حماية الأطفال الذين فقدوا أولياءهم، وللحيلولة دون أيّ استغلال أو تصرّف سيّئ لأموالهم، أو إلحاق حيف أو ميل بهم، يقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً} (النساء: 6).
لقد تمّ التأكيد في هذه الآية الكريمة على نقطتين:
الأولى: إحراز الرشد عند اليتيم، وقدرته على إدارة أمواله؛ لئلاّ يساء استغلاله ماليّاً.
والثانية: ضرورة الاستشهاد حين تسوية الحساب وإعطاء اليتيم أمواله؛ ليحال دون تضييع حقوقه، ولئلاّ يتّهم مؤتي الأموال أيضاً.
إذا شاعت التصرّفات المضرّة ضدّ الأطفال يتّخذ المشرّع خطوات إزاء جرميّة هذه الأعمال، ولاسيّما مرتكبيها، وأخرى لحماية الأطفال ووقايتهم من الضرر الجنائي. وبعد تشخيص التصرّفات المنشئة للضرر ضدّ الأطفال، والتي لها أثر مباشر في التضرّر، تأتي الخطوة التالية، وهي تشديد العقوبات في حقّ المرتكبين لهذا النوع من الجرائم؛ من أجل حماية الأطفال. وبناءً على هذا فإنّ ردّ فعل المجتمع إزاء الأشخاص الذين يرتكبون مثل هذه الجرائم ينبغي أن يكون شديداً؛ ليتمّ القضاء ـ عن هذا الطريق ـ على مثل هذه التصرّفات([40]).
ز ـ نتيجة البحث
من وجهة نظر التشريع الجنائي الإسلامي يعدّ الاهتمام بالمجنيّ عليه في العمليّة الجزائيّة أمراً ضروريّاً لابدّ منه. ولا يمكن الوصول إلى هذا الهدف، والذي يعني وجود الأمن في المجتمع، وزوال الخوف من التضرّر الجنائي، دون الالتفات إلى المجنيّ عليهم وضحايا الجرائم.
وللوصول إلى هذه الأمنية والطموح يُقترح:
أولاً: أن لا نسمح بإضعاف الثقافة الإسلاميّة الغنيّة والقيّمة، وحلول الثقافة العلمانيّة واللادينيّة البائسة محلهّا; لأنّ القيم الإسلاميّة السائدة في المجتمع، كقيمة الأخوّة، والمواساة، والتعاطف، واحترام الجار، والشعور بالمسؤوليّة إزاء سعادة الآخرين وشقائهم، وآلاف التعاليم الدينيّة الأخرى، تبعث على بناء المجتمع وفق أسس صحيحة، وأن تثمر حلول التشريعات الجنائيّة، ومن ثمّ تصل الجريمة إلى أدنى مستوياتها.
ثانياً: علينا العمل على إزالة أرضيّة وقوع الجريمة في المجتمع، كما رأينا نماذج من ذلك في التشريع الجنائي الإسلامي، وخاصّة في مجال الفئات الخاصّة من الضحايا. ويبدأ تغيير هذه الأرضيّة من السيطرة على الجناة بدنيّاً، وإلكترونيّاً، وبوليسيّاً، ويشمل حتّى تغيير الظروف الفيزيائيّة للبيئة، مثل: تصاميم الطرق والشوارع والأبنية، وبشكل عام كلّ نوع من التغيير في المحيط؛ بهدف تقليل حصول الجريمة والتضرّر الجنائي. ومن الخطوات المهمّة التي يمكن أن تتّخذ في هذا المجال أيضاً المحافظة على الأهداف التي يتعقّبها الجناة عادةً، وجعل الأموال في مكان آمن، والمحافظة على الأفراد الذين هم أكثر عرضة للوقوع ضحايا الجريمة، إضافةً إلى بثّ الوعي بينهم. هذه الأمور من شأنها أن تقلّل الدافع، والتسويل النفسي، أو القدرة، لدى المجرمين في تحقيق أهدافهم الإجراميّة.
وثالثاً: ينبغي تبنّي سياسة عقوبات جنائيّة منسجمة ومنطقيّة وموزونة، تنظر إلى المجنيّ عليه كعنصر إنساني مهمّ في عمليّة وقوع الجريمة، الأمر الذي يقلّل من معدّلات التضرّر الجنائي. ويمكن لأسلوب تنظيم القوانين الجزائيّة، ولاسيّما في تعيين الجرائم القابلة للصفح وغير القابلة للصفح، أو القرارات الشكليّة للجزاء، أن يترك أثراً جيّداً في إحقاق حقوق المجنيّ عليهم، وأن يحول دون التجنّي عليهم مجدَّداً.
وبكلمة واحدة: لا يمكن تدوين تشريع جنائي فاعل اليوم من دون العناية الخاصّة بالمجنيّ عليهم وضحايا الجرائم. وقد حظي هذا الأمر بالاهتمام البالغ في تعاليم التشريع الجنائي الإسلامي.
الهوامش
(*) أستاذ في جامعة طهران، (پرديس قم)، دكتوراه في الحقوق الجزائيّة وعلم الإجرام.
([1]) طبعاً في الموارد التي وقعت جريمة الزنا برضا الطرفين فإنّ التعبير المستعمل عنهما: الزانية والزاني، أمّا الاغتصاب فيُطلق في الموارد التي تكون الأنثى مجبرة أو غير مكلّفة شرعاً.
([2]) مريم عباچي، پيشگيري أز بزهكاري وبزهديدگي كودكان، مجلّه حقوق دادگستري، العدد 47: 51.
([5]) محمد آشوري، عدالت كيفري أز ديدگاه حمورابي: 35.
([7]) الفيض الكاشاني، التحفة السنية: 230.
([10]) انظر: سورة الزمر، الآية 9.
([11]) الخوئي، مصباح الفقاهة: 335.
([12]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 29: 229.
([13]) وسائل الشيعة (طبعة طهران سنة 1388) 18: 543.
([14]) المحقّق الحلّي، شرائع الإسلام 4: 960.
([15]) الشهيد الثاني، الروضة البهية 9: 349.
([17]) ذكر الله أحمدي، نهاد عاقله در حقوق كيفري إسلام: 43.
([18]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه 4: 623.
([19]) الطبرسي، جوامع الجامع 1: 456.
([20]) ابن إدريس الحلّي، السرائر 3: 618؛ من لا يحضره الفقيه 4: 360.
([29]) من لا يحضره الفقيه 3: 371.
([30]) في سورة البقرة، الآية 282، المعروفة بآية الدَّيْن.
([32]) نهج البلاغة 3: 56 (خطب الإمام علي×).
([33]) محمد خامنئي، حقوق زن: 57.
([34]) جورج پيكا، جرم شناسي: 52.
([35]) مهدي صفاري دستگردي، بد حجابي در نگرش جامعه شناختي: 89.
([36]) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي: 178.
([38]) هاشم بطحائي گلبايكاني، فمينيسم أز نظر إسلام و ديگر ملل: 137.