الإمامة، الخاتمية، والديمقراطية
حوار بين د. سروش والشيخ محمد سعيد بهمن پور(*)
يا حسرة على سروش، نصّ الرسالة النقدية الأولى للشيخ بهمن پور ــــــ
صديقي القديم، سماحة الدكتور سروش
إن محاضرتكم حول العلاقة بين الديمقراطية والتشيع، التي سعيتم فيها جاهدين إلى إظهار استحالة الجمع بينهما، دعتني إلى التأثر والعجب في وقتٍ واحد؛ لأنها لم تقدّم أية خدمة للديمقراطية، ولم تقدّم أية حقيقة عن التشيع، ولم تحلّ عقدة من العقد السياسية في إيران.
والحق يقتضي بنا تقدير الغيرة والحماسة التي أظهرتموها على الديمقراطية في محاضرتكم، ولكننا في الوقت نفسه لم نفهم ـ على الإطلاق ـ الغاية التي ترومونها من تهجّمكم على أصول العقائد الشيعية. وعليه لم يتضح ما إذا كنت تهدف من وراء هذا الكلام إلى خدمة الشعب الإيراني أم أنك تهدف إلى خيانته؟ وما إذا كنت تريد قيام الديمقراطية في إيران أم لا؟ وما إذا كنت تريد حلّ عقدة من عقد هذه الدولة أم أنك تريد أن تضيف عقدة أخرى إلى عقدها؟!
لا شكّ في أنك؛ إذ تدرك جيداً المسار والقانون والتحوّلات الفكرية والدينية والاجتماعية، لا تتوقع من الشعب الإيراني أن يتخلى عن التشيُّع بسبب محاضرتكم، أو من أجل قيام الديمقراطية أو أي شيءٍ آخر. وعليه لا يبقى إلا شيء واحد نفهمه من كلامكم، وهو أنّ الشعب الإيراني ما دام متمسكاً بتشيّعه فعليه أن لا يحلم بالديمقراطية، وأن هذه الغاية المثالية لا تنسجم وهذه العقيدة، وأنه إذا تسنى لسائر المسلمين الفوز بهذه الجوهرة فلن يكون نصيب الشيعة منها سوى السراب، وأنه إذا حصل وتحققت الديمقراطية في مرحلةٍ ما فإنما ذلك ببركة أبي حنيفة وابن خلدون وإقبال اللاهوري! إذاً كفّوا يداً، ولا تتعبوا أنفسكم في البحث عن متاعٍ هو ملك لغيركم، ولا تزرعوا في غير أرضكم.
ولا ندري بعد هذا ما إذا كان يجدر بنا الضحك أو البكاء؟! وإنه لمن المدهش أن تبلغ العصبية والانتماءات السياسية بمفكِّرٍ ـ مهما كان حجمه ـ هذا المبلغ، فيغفل عن لوازم كلامه!
وفي ما يتعلق ببحث الخاتمية وولاية الأئمة، وما ذكرتموه من التعارض بينهما، لا يسعنا الردّ عليه في هذه العجالة، ويغنينا عن الخوض فيه ما هو مبثوث في الكتب الكلامية والروائية بالتفصيل. وإنّ هذه المصادر تثبت أن لا تعارض بين ولاية الأئمة وخاتميّة النبي. وإن أئمة الشيعة لا يشرّعون، وإنما هم يفسِّرون ويبيِّنون. ولكن من العجيب أنكم حيث تذهبون إلى نظرية (القبض والبسط النبوي) كيف تتحمّسون كلّ هذه الحماسة لحريم الخاتمية، وتتناسون حتى الولاية التي تقرّونها لأمثال جلال الدين الرومي، فإذا بكم هنا تبخلون بها على الأئمة، وترون انحصارها بالنبي فقط. وكأنك نسيت أو تناسيت قول الله تعالى حيث يقول: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾.
هل القضاء على ولاية الفقيه يكون بنسف أساس الإمامة والتشيّع؟! ــــــ
صديقي العزيز، الدكتور سروش، هل يحتاج القضاء على نظرية ولاية الفقيه كلّ هذه المؤونة، بحيث لا يتأتى لك ذلك إلا من خلال إلغاء ولاية المعصومين وأئمة الشيعة؟ ولو كانت ولاية الفقيه إلى هذا المستوى من التجذُّر والسعة في الاعتقاد الشيعي فهل يمكن لنا أن نرسم للشعب الإيراني الشيعي حكومة وراء هذا المعتقد؟!
ولكن الذي يثير الدهشة أكثر هو كلامك في باب الإيمان بالمهدوية، وتعارضها مع المصلحة العامة والديمقراطية! وأنتَ تدرك أن الاعتقاد بالمهدوية ليس ممّا تفردت به الشيعة، حيث تذهب إليه الأغلبية الساحقة من أهل السنة، ولا يمثل ابن خلدون، الذي يخدش في أحاديث المهدي، إلا حيّزاً ضيّقاً في أهل السنة، وهناك منهم من لا يحفل بالأحكام التي يصدرها ابن خلدون في ما يتعلق بالحديث. وأرى أنّه كان يمكنكم الاكتفاء بتشبيه النظام الراهن في إيران بالحكومة الإسرائيلية؛ للتعبير عن حجم استيائكم من الواقع الإيراني الراهن، دون الحاجة إلى المجازفة ببيع عقلك من خلال التعرُّض إلى دوحة التشيع الضاربة بجذورها في مشاش عظام الشيعة، وتصوير استحالة تحقق الديمقراطية تحت ظلّ هذه الدوحة، أو الذهاب إلى تنافي الديمقراطية مع الاعتقاد بحقيقة المهدي#، التي أرادها الله أساساً لتحقيق الديمقراطية. ومن المدهش أن يصدر عنكم هذا الكلام وأنت من ألَّف كتاب «العلم والقيم»! ربما عاد ذلك إلى انتماءاتكم السياسية أيضاً!
لا شك في أنك بعد إقامتك لسنوات في الولايات المتحدة، التي تعتبر مهد الديمقراطية، وهي لا تفتأ توزِّع بركات هذه الديمقراطية على شعوب العالم، قد توصَّلتَ إلى أنها واحدة من أكثر البلدان الغربية تديُّناً، وأن الغالبية فيها من المسيحيين الذين يرون أنفسهم من الممهدين لعودة المسيح واستقرار الملكوت السماوي على الأرض. وبالمناسبة لا بدّ أنك تدرك أنه على الرغم من فلسفة الانتظار اليهودية، التي أشرتم إليها في معرض المقارنة بين الحكم في إيران وإسرائيل، فإن إسرائيل هذه هي الدولة الوحيدة التي تُعرَف في الغرب بوصفها نموذجاً للديمقراطية في الشرق الأوسط. وإذا أعرضنا عن ذلك كله فقد ذكرت أنّ الحكومة الإيرانية، بدلاً من التفكير في مصلحة العامّة، ترى نفسها ممهِّدة لظهور (موجود تاريخي)، وأنا أطلب منكم أن تضعوا يدي على سياسة واحدة من السياسات التي تنتهجها الدولة، وهي تصبّ في التمهيد لحكومة المهدي#، ولا تصبّ في مصلحة العامة.
إنّ محاضرتكم ومقالتي هذه لا تسعان فتح باب النقاش والجدال، والاستدلال على الأفكار التي أشبعت بالبحث والدراسة لأكثر من ألف سنة، ومنها: الولاية؛ والمهدوية. ولكنني أرغب في الإشارة إلى أنّ هذه المفاهيم إذا كانت تتمتَّع بالواقعية والحقيقة فيجب علينا أن نطبِّق الديمقراطية ـ التي تعترف بأنها وسيلة، وليست غاية ـ في ضوئها، وليس العكس. إلا إذا كنت ترى أنّ هذه المفاهيم ليست سوى أكاذيب وأباطيل، تمخضت عنها عقول جميع علماء الشيعة، الذين هم في نظركم من العوام، وأننا أيضاً نردِّدها من باب التأثُّر بالعامة، أو لمجرد الخداع وتضليل العامة.
نصّ الرسالة الجوابية الأولى لسروش على نقد بهمن پور ــــــ
سماحة الشيخ بهمن پور
أقدر وأثمّن نقدكم المشفق والغيور. وأضيف إلى ما ذكرتموه النقاط الآتية، على سبيل التوضيح لكم وللأجيال القادمة، على أمل أن لا يضيق صدر موقع (بازتاب) عن نشرها.
أولاً: لم أكن لأتصوّر أن تبدو كلماتي مضحكة أو مبكية. وقد كان من الأجدر أن تقرأوها بتأمّل.
ألم يكن من الأجدر بكم لنقد ذلك الكلام أن تراجعوا خطابي في السوربون ـ باريس ـ الذي امتدّ لتسعين دقيقة، وعدم الاكتفاء بالخلاصة الناقصة التي أعدّها الجامعيون، ليغدو نقدكم أكثر متانة ورصانة وقوّة، وأن يكون بمنجى من الأخطاء المحتملة؟
ثانياً: إنّ لبّ كلامي الذي كان يدور حول الديمقراطية والإسلام، والذي لا يمكن لخلاصة الجامعيين أن تكون نقلاً أميناً لكلامي، هو أنّ الحضارة الإسلامية تتمحور حول الفقه، وأنه ليس هناك شرخ كبير بين سيادة الفقه والديمقراطية، التي تعني في جوهرها سيادة القانون. فقد اعتاد المسلمون على رعاية القانون والقرارات في حياتهم الفردية والاجتماعية، ولذلك فإنهم ليسوا غرباء عن سيادة القانون. وإنّ ضعف النظام الفقهي يكمن في نزعته التكليفية، دون النزعة إلى الحق. ولذلك يجب زرق الدواء الناجع من الحق في الشطر الميّت من هذا الجسم ذو النزعة التكليفية، ليغدو صحيحاً ونشيطاً وديمقراطياً، ويكون متناسباً مع مقاس المجتمع الراهن الذي ينشد العدالة (الذي يدور حول محور حقوق الإنسان)، ويحدث توازناً مطلوباً بين الحقوق والواجبات. وهناك فرق كبير بين هذه الحقيقة وبين ما يجول في أذهان الطوبائيين الذين يسعون إلى استخراج الديمقراطية من متن التعاليم الإسلامية.
هل يختلف سروش مع مصباح اليزدي؟! ــــــ
ثالثاً: قلتَ في جملة ما ذكرت: «لا شكّ في أنك تريد من خلال هذا الاستدلال أن تقول: على الشعب الإيراني؛ لكي يقيم الديمقراطية، أن يتخلى عن تشيّعه». عما قريب سأفصح عما أريد قوله، ولكنني قبل ذلك كنت أتمنى لو أنكم أدنيتم شعلة من أتون غيرتكم الدينية إلى ثياب متكلِّم الحكومة الإيرانية الرسمي (محمد تقي مصباح اليزدي)، الذي مضى عليه أكثر من خمس عشرة سنة يسعى جاهداً وبكافة السبل إلى إثبات التضاد والتنافي بين الإسلام والديمقراطية، لتقول له: «هل تقول للشعب الإيراني أن يتخلى عن الإسلام ليحصل على الديمقراطية»، ولتقول له بعد ذلك: «لست أدري ما إذا كان يتعين عليّ أن أضحك من كلامكم أو أبكي؟ وأنكم تريدون خدمة الشعب الإيراني أو خيانته؟». ألم يصرِّح الشيخ اليزدي، الذي يرى التشيّع عين الإسلام الحقيقي وحقيقة الإسلام، في كلامه بعدم انسجام التشيّع والديمقراطية. وعلى حدّ تعبيركم: «إنّ أعمق معتقدات الشيعة غير قابلة للجمع مع الديمقراطية؟ وهل التشيع شيءٌ آخر غير نظرية النبوّة والإمامة والمهدوية؟ أوليس مدلول التضاد بين الإسلام، أو قُلْ: التشيع، وبين الديمقراطية من الناحية المنطقية هو أن النبوة والإمامة والمهدوية غير منسجمة مع الديمقراطية؟! وأن النبي وعلي والمهدي يخالفون الديمقراطية؟!
من هنا يبدو أنني والشيخ مصباح اليزدي نعزف على ذات الوتر، في قولنا: إن الإسلام والتشيّع الراهن لا ينسجمان مع الديمقراطية. فهو يقول: للحصول على الديمقراطية لابد من التخلي عن الإسلام، وللبقاء على الإسلام لابدّ من توديع الديمقراطية. أما أنا فأقول: ليس من الضروري أن نترك الإسلام إذا أخذنا بالديمقراطية. ففي مثل هذه الحالة هل تقف معي أم تنحني إلى صفّه؟
كيف يتصوّر الجمع بين الإمامة وختم النبوّة؟ ــــــ
رابعاً: إنني في ما يتعلق بباب الإمامة والولاية لم أقُلْ شيئاً غير الذي قلته سابقاً في (بسط التجربة النبوية)، وفي (مسألة الخاتمية)، فيجدر بكم الرجوع إليهما ثانية. إنّ الخاتمية ـ كما أفهمها أنا ـ تعني أنه بعد النبي لن يرقى كلام أيّ شخص إلى مرتبة كلامه، ولا يبلغ مبلغه من الحجيّة. وعليه كيف يمكننا أن نفهم الإمامة بوصفها شرطاً في كمال الدين، واعتبار الأئمة يتمتعون بالوحي الباطني، وكون الإمام مفترض الطاعة، (كما يذهب إليه الشيعة)، وتوجيه هذا الاعتقاد بشكل ينسجم مع الخاتمية، بحيث لا نساوي بين كلامهم وكلام النبي، ولا يرقى إلى مستواه من الحجية؟ كما أنّ اعتبارهم مفسِّرين ومبيِّنين لكلام النبي والقرآن لا يحل عقدة المشكلة الكامنة في هذا السؤال. فهل كان الأئمة في الإجابة عن كلّ سؤال يرجعون إلى كلمات النبي؟ وما هو مصدرهم في ذلك؟ وهل كانوا يفكرون ثمّ يجيبون أم أنّ أجوبتهم ـ كما يقول الشيعة ـ حاضرة عندهم، فلم يكونوا بحاجة إلى اجتهاد وإعمال فكر، ولذلك كان ما يقولونه لا يحتمل الخطأ، وهو إلهام إلهي، وعين كلام النبي، ولا يمكن الاعتراض عليه إطلاقاً؟ إذا كان الأمر كذلك فما هو الفرق بين النبي والإمام؟ وفي هذه الحالة لن يبقى من حقيقة الخاتمية سوى مفهوم مهلهل وناقص. إنكم تتحدثون عن دور الأئمة عند الشيعة وكأنهم مجتهدون معصومون! ولكن أليس مفهوم المجتهد المعصوم يحمل في ذاته معنى متناقضاً؟! وأياً كان الجواب فهل عدم المساواة بين الأئمة والنبي في الرتبة، وتعزيز ركائز الخاتمية، والتحمس والغيرة على الخاتمية، كما تقولون، فيه جفاء للإسلام، وانتقاص من منزلة الولاية؟!
قلتم بأنني أبخل على أئمة الشيعة حتى بالولاية التي أمنحها للملا جلال الدين الرومي. وللأسف الشديد فإن هذا الموضع ـ كما كل موضع آخر ـ ليس مناسباً للتعرّض إلى المعتقدات الشخصية، ولكنني مضطرٌّ إلى القول بأني لستُ شيعياً مغالياً، ولا أقول بنبوّة أيّ شخص آخر بعد النبي|، أيّاً كان ذلك الشخص، سواء أكان الملا جلال الدين الرومي أم غيره. وإذا تجاوزنا ذلك فإنّ بالإمكان تصوّر بلوغ مقام القرب من الله لأي شخص كان، ولست أريد من دوام الولاية المعنوية وبسط التجربة النبوية سوى ذلك.
روي عن الأئمة في المصادر الشيعية قولهم: «نزهونا عن الربوبية، وقولوا فينا ما شئتم». وأنت عالم بعلم الحديث، وخبيرٌ بأصالة هذه الرواية. وكما تلاحظون فإنّ هذه الرواية لا تطالب بأكثر من التنزيه عن الربوبية، وتجنب وصف الأئمة بها، وقد أغفلت الحديث عن النبوّة. فإن لم أخطئ فإن هذه الرواية، وإنْ كانت تبدو في ظاهرها مخالفة للغلو، ولكن ينبغي تصنيفها في جملة موضوعات الغلاة. فإن الحقّ هو أن لا نبلغ بهم مرتبة الألوهية، ولا مرتبة النبوّة، ويمكن بعد ذلك أن نتصور في حقهم وحق غيرهم من السالكين بلوغ أية مرتبة أخرى ﴿وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾. أدرك أن هذا الكلام السليم والمنطقي لا يجرّ على قائله في المناخ المهيمن على إيران المعاصرة من الغلو في التشيع، وسيادة الفقه الأخباري، سوى الطعن في العرض، والتهديد بالقتل، ولكن ماذا يمكن أن نصنع إذا كان هذا هو الطريق الوحيد إلى الإصلاح الديني، وتحريك المياه الراكدة في الكلام الشيعي والإسلامي.
سيرة تاريخية من المواقف من المهدوية ـــــــ
خامساً: ذكرتم أنّ وجود الإمام المهدي (حقيقة). ففي أيّ موضع من كلامي يلوح أني أقول بأن وجود الإمام المهدي (ليس حقيقة)؟! فإنني في كتاباتي وكلماتي أتعمّد دوماً تجنُّب الخوض والحكم على العقائد الخاصّة لدى الشيعة وغيرهم، وأكتفي فقط بالنظر إلى الربط المنطقي والنتائج التاريخية المترتِّبة عليها؛ فإنني أدرك أنّ الغالبية من الشيعة وغيرهم إنما هم من المقلِّدين، وليسوا من المحقِّقين، ولديهم عقائد معلَّلة، وليست مستدلّة. وهي وليدة البيئة والتلقين والتربية. وأنا شخصياً لا أطيق إيمانهم التقليدي. ومن جهة أخرى فإنني من الناحية الثانية؛ وبسبب من نزعتي التكثُّرية، لا أجيز لنفسي الحكم ببساطة على الفرق الإسلامية المختلفة، وأصنِّفها إلى هالكة وناجية، وأبعث مَنْ شئت منها إلى الجنة، وأقذف بالباقي إلى سقر. وأما قضية المهدوية السياسية، أي المخطَّط الذي يضطلع به التفكير السياسي، فهو من الأمور التي أؤمن بها. ولنبحث في نسبة هذين الأمرين في السياسة المعاصرة:
لقد كانت منظمة المهدوية الحجتية من أشهر المنظمات قبل انتصار الثورة، وكان أعضاؤها ينظمون سلوكهم الفردي والسياسي على أساسٍ من التفكير المهدوي. وإنهم ـ كما عبّر السيد الخميني ـ كانوا يعتقدون بضرورة أن تمتلئ الأرض بالجور والفساد حتّى يتم التسريع في ظهور الإمام الغائب. وواضح ما ينتج عن هذا النوع من التفكير في ما يتعلق بالسلطة والسياسة، ولكن مهما صدر عن هذا النمط الفكري فإنه لن يكون سياسة ديمقراطية. وينبغي التذكير بأنّ أعضاء منظمة الحجتية يبرأون بشدّة من هذه النسبة والتهمة، ويعدّونها أكذوبة اختلقها أعداؤهم. ربما كان الأصح اعتبار المهدوية الحجتية من الناحية السياسية من الذي يميلون إلى اعتزال السياسة، وإلى التعايش مع جميع الحكومات، حتى يظهر الإمام المهدي في آخر الزمان من تلقاء نفسه. وواضح أن هذا الاعتزال السياسي لا يمكنه أن يضمّ في أحشائه جنين الديمقراطية.
وفي المقابل كانت نظرية السيد الخميني في ولاية الفقيه ترى الحكومة من الحقوق الفقهية القائمة على أساسٍ من نيابة إمام العصر، وتقيم السياسة على أعمدة الشريعة من خلال التمتع بجميع صلاحيات صاحب العصر وامتيازاته، فيعمل الولي الفقيه من خلال التصرّف في نفوس المسلمين وأعراضهم وأموالهم على هداية سفينة المجتمع برياح الولاية. فكانت هذه الطريقة من أوضح أساليب قيام السياسة على المهدوية. وكما يعلم الجميع فإن السيد الخميني لم يكن يعتبر نظريته ديمقراطية، ولم يكن الآخرون يرون نسبتها إلى الديمقراطية تتناسب وشأنها، ولم يكونوا يرون أن تطبيقها واستمرارها عملياً يساعد في تطوير الديمقراطية في البلاد. وكما تقدّم فإنّ المتكلِّمين الرسميين في هذه الحكومة كأنهم نزعوا ثوب الحياء؛ إذ لا يشعرون بأيّ خجل من الاستدلال والبرهنة بمئات الأدلة على عدم انسجام الديمقراطية مع ولاية الفقيه من الناحيتين النظرية والعملية.
وأما بالنسبة إلى المستنيرين من المتدينين فقد كان الدكتور علي شريعتي أكثر شجاعة من الآخرين في توظيفه لنظرية المهدوية في الأغراض السياسية. فإنه، بدلاً من الاستناد إلى المباني الكلامية في المهدوية، اتخذ من (انتظار الفرج) سلاحاً للاعتراض، ووضعه بيد من يبتغي الجهاد من المسلمين؛ لمقارعة الحكم آنذاك والإطاحة به. إنّ هذه الطريقة الماهرة في صناعة الأسلحة الإيديولوجية، وإنْ كانت ذات صبغة ثورية، وكانت وسيلة ماضية ونافعة في المواجهة، إلا أنها ـ وللأسف الشديد ـ لا تنسجم مع الجمهورية واستقرار النظام الديمقراطي المسالم، ولم تنتج غير الأصوات المخالفة والمعارضة. وطبعاً فإنها خدمت نظرية (الأمة والإمام) بإخلاص، والتي تبيّن فيما بعد أنها على طرف النقيض من الديمقراطية.
ومن بين هؤلاء الكبار ربما كان مهدي بازرگان استثناءً؛ إذ رغم اعتقاده بـ (المهدي)، وكونه مهدياً، لم يتاجر([1]) بالمهدوية، ولم يستثمرها سياسياً.
وإذا تجاوزنا المعاصرين لنا، وعدنا إلى الوراء، في البحث عن قادة المهدوية السياسية في التاريخ المنصرم فإننا سنصل إلى الصفويين، الذين نسجوا الكثير من الأساطير حول لقاء الشاه إسماعيل بصاحب الأمر (المهدي المنتظر)، وأشاعوا أنه قد أخذ التاج والخنجر والسيف والإذن في (الخروج) من الإمام المهدي. وكانوا ينظرون إلى الملوك الصفويين بوصفهم منصوبين من قبل الأئمة، وأن دولتهم مخلدة، وستبقى إلى ظهور قائم آل محمد. فإذا كانت هذه النبرات مألوفة عندنا حالياً فلأنها ذات منشأ واحد، وإذا كان هناك من اشتراك فهو في قيامها على تسييس المهدوية. وهو أمر غريبٌ كلّ الغرابة عن الديمقراطية.
إنّ ما يقوم به عالم الدين من التوسّل بالرؤى، ويرى أن انتصار حكومة أحمدي نجاد كان بفضل دعاء الإمام المنتظر، كما هو الأمر في عهد الحكومات الصفوية، الذين كانوا يرون الإمام علي والإمام المهدي في مناماتهم حامياً وناصراً لهم، لا يمكن تصنيفه إلا في خانة الاستثمار السياسي، وبيع البضاعة المهدوية إلى الحاكم بثمن بخس، والترويج للتشيّع الصفوي. وإذا كان الشيخ بهمن پور يمتعض من إضعاف معتقدات الشيعة، ونسبة المؤسسة الدينية إلى خداع العامة، فلينظر إلى العصبيات السياسية، والمتاجرة بالمهدي، وما تصدر عن صنفه من الأقوال والأفعال، والسكوت والرضا، وليصبّ عندها جام غضبه عليهم. وقد احتفروا حالياً بئرين في جمكران: واحد للنساء؛ وآخر للرجال، ليلقي كلُّ واحد من هذين الجنسين عرائضهم على انفراد، على أن يدفع مبلغاً مقداره مائتي تومان عن كلّ عريضة. كل هذا يقع على مرأى ومسمع من نوّاب صاحب الزمان، والذين سئموا من العلم بلا عمل، وجلسوا في قم يغضّون الطرف عن هذا الشرك المتلبِّس بمسوح التقوى. انظروا إلى هذه الحقائق، ثم قولوا: لا ندري ما إذا كان يتعيّن علينا أن نبكي أو نضحك؟!
هذا كلُّه ربطٌ منطقيٌّ بين الأفكار والمعتقدات، ومن ثمّ يمكنكم أن تختاروا من بينها الديمقراطية، أو ولاية الفقيه المطلقة، أو الاعتزال السياسي، أو غير ذلك.
اليهود بين الانتظار والديمقراطية، مقاربة تجربة أخرى ــــــ
سادساً: إنّ الدولة الإسرائيلية، وسياسة المحافظين الجدد في أمريكا، التي يتشبَّث بها الشيخ بهمن پور، شاهدٌ صادق لنا. ألم تكن الصهيونية السياسية التي دعا إليها (ثيودور هرتزل)، وتأسيس الدولة الإسرائيلية، بداية الوفاء بالفدية الموعودة وإنقاذ بني إسرائيل، أَوَلم يعتبر اليهود العهد التوراتي السماوي مستمسكاً لهم في استباحة الأرض الفلسطينية والعودة إليها؟ أَوَلا يقوم دعم المحافظين الجدد في أمريكا، الذين يترقبون عودة ملكوت المسيح، على هذه الدعامة في دعمهم لدولة إسرائيل؟ فأين مكمن الغرابة في قياس هذا (الوعد الإلهي) مع (الوعود المترقبة والمنتظرة) التي يشترك فيها الشيعة واليهود والنصارى؟ وإذا كانت إسرائيل في أعين الأمريكيين حكومة ديمقراطية، كما تقول، فذلك بسبب أنها لم تعد تتعامل مع تلك النزعة الانتظارية بجدّية، ولا تعدّ العدّة لها، ولا تتوانى عن الحفاظ وتوفير الحماية للحكومة العلمانية. وهكذا الأمر بالنسبة إلى إيران بشكل من الأشكال؛ إذ يعترف الشيخ جوادي آملي «أننا بأجمعنا نعيش حياة علمانية». وما ذلك إلا بفضل جهود المستنيرين. ولو أن الأمر قد وقع بيد حزب الله، الذي يسعى إلى إقامة (المجتمع المهدوي) الموعود، لرأيتم الكثير من المصالح التي تذبح ويُضحّى بها من أجل الوعود.
سابعاً: لقد قلتَ متهكِّماً: «إنّ الديمقراطية إذا نفعت المسلمين فلابد أن يكون ذلك بفضل اتباع أبي حنيفة وابن خلدون وإقبال اللاهوري»! إنّ مثل هذا الكلام غير متناسب مع شأنكم، ولا يفي بالمراد من كلامي. فإذا أخرجنا إقبال اللاهوري عن محل البحث فإنّ نسبة الفقه الحنفي والفقه الجعفري إلى الديمقراطية واحدة، ولا يمكن عدُّ أيٍّ منهما أمّاً رؤوماً أو مرضعةً صالحةً للديمقراطية، وكلامي هو ما ذكرته في بداية البحث: إنّ ما عليه الحضارة الإسلامية من الهيمنة الفقهية، والنزعة الفقهية عند المسلمين، تشكل أرضية صالحة لاستقرار سيادة القانون الديمقراطي. إلا أنّ هذا مجرّد شرط مُعدّ، والذي يجعل هذا الشرط كافياً هو نفخ روح الحق في جسد النزعة التكليفية في الفكر الإسلامي. وهذا هو معنى الركون إلى السنّة، والتقدّم معها إلى الأمام.
توضيح حول نظرية محمد إقبال في ختم النبوّة ــــــ
وأما آراء إقبال اللاهوري في باب الخاتمية فهي بحاجة إلى توضيح أكثر:
لقد ذهب إقبال اللاهوري في الفصل الخامس والسادس من كتابه القيم تحت عنوان «إعادة التفكير الديني في الإسلام» إلى أنّ روح الإسلام ذات ماهية مناهضة للتفكير اليوناني، ويتحسر على النزعة اليونانية التي أصابت المسلمين، وأغفلوا العقل الاستقرائي. وقد رأى أن ظهور العقل الاستقرائي التجريبي كبح الاعتماد على الغريزة (الوحي)، وعقمت حركة التاريخ عن أن تتمخض عن الأنبياء، ولذلك تمّ الإعلان عن ختم النبوات، وعاد من الخطـأ انتظار وليٍّ سماويٍّ؛ ليكون مصدراً جديداً للمعرفة وبناء تفكير جديد. إنّ إعلان ختم النبوات كان بداية إطلاق سراح العقل الإنساني، لينطلق بتفكيره إلى الأمام، مستضيئاً بنور عقله. إنّ الإنسان المعاصر بحاجة إلى ثلاثة أمور: تفسير روحي للعالم؛ وتحرر روحي للعقول؛ وتأسيس أصول عامة؛ لتوجيه التكامل الاجتماعي على أساس معنوي. إنّ توقف بعث الأنبياء يعني تحرير العقل، الذي لم يعد هناك من قيود على حدوده الفكرية، ولم يعُدْ الدين سوى مصدرٍ من مصادره المعرفية. وفي الختام ذهب إلى اعتبار الديمقراطية المعنوية غاية ما ينشده الإسلام. وإنّ المهدوية التي تساوي النبوة أو تفوقها تحول دون تحقيق هذه الديمقراطية المعنوية.
علينا الاستماع إلى كلمات إقبال بوعي، وأن نقدر قيمة ونعمة الخاتمية التي دعت الإنسانية وأجلستها على مائدة الأرض، وحرَّرتها من الانتظار المملّ لفتح أبواب السماوات. إنّ الانتظار الذي كان سروش ينظر إليه بوصفه (مذهب الاعتراض) تحوّل في رؤية إقبال إلى (مذهب الانقراض)، بمعنى انقراض العقل وزوال الديمقراطية المعنوية. إنّ المسلمين بحكم الخاتمية سوف لا يستمعون إلى أيّ نداء سماوي آخر، ولن يتنازعوا حول صدقه أو كذبه، وإن كلام أي شخص لن يبلغ في حجيته ما لكلام النبي، ولن يكون نازلاً من السماء، فقد أوكل أهل السماء شؤون الأرض لسكانها. وطبعاً فإنّ هذا الكلام لا ينافي الولاية الباطنية؛ لكونها من مقولة ثانية.
ثامناً: إنّ ما كتبته إنما كان بسبب غيرتي على الدين، ولأعالج به الحالات المرضية التي أصابت عقولنا، وخاصة في عصرنا هذا. ولست أرجو في هذا الطريق المليء بالمخاطر منصباً أو مكسباً، وإنما أنا في الواقع قد ضحيت بجميع ذلك؛ فإن حبي للحقيقة أنساني كل حبّ آخر. وأذكر من بين جميع آيات القرآن الكريم بشكل خاص قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. ولولا ضيق المجال، وما يتساقط علينا من الصخور التي يقذفنا بها منجنيق الفتن، لأطلنا في الكلام بتفصيل أكثر.
سماحة الشيخ بهمن پور،لقد عرفتك على الدوام بالزهد والصلاح والتقوى، واستحسنت فيك هذه الخصال والسجايا. وإنني وإنْ كنت لا أقبل بنقدكم من الناحية المنطقية، ولكنني أثني عليه من الناحية الأخلاقية. وإذا كان هناك من نقطةٍ سوداء على صفحتكم المشرقة فهي تتمثل في تعاونكم مع أجهزة الحكم، التي أدمت كبد العدالة بما تمارسه من الظلم. أوَنسيتم قول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾. لقد سمعتكم، وأعلم أنكم تذهبون إلى اعتبار هذه الحكومة هي الحكومة الشيعية الوحيدة في العالم، ولذلك تقفون إلى جانبها وتدعمونها، ولكنني أرى أنّ معيار المشروعية الوحيد هو العدالة، دون التشيّع والإسلام. ولذلك كلّي أملٌ أن تعملوا بنقدكم الشجاع لعلاج ما تقوم به هذه الحكومة من سياسات مضرّة بالعدالة، وفقاً لما يقتضيه الورع والعمل بالأخلاق. وإنْ كنتَ تنسبني إلى العصبية السياسية فأرجو منك في المقابل أن لا تترك العصبية السياسية التي تنشد العدالة.
فانظر إلى مَنْ تسعده بقتل مَنْ! نصّ الرسالة النقدية للشيخ بهمن پور ــــــ
صديقي المحترم الدكتور سروش
أشكركم على ما تفضلتم به من إيضاحات. وفي ما يلي نقدم بعض النقاط كبيان وإتمام لما تقدَّم منا، وتعليقاتٍ حول كلامكم الأخير:
1ـ إنه لمن الحسن أن يصل الحديث في هذا الحوار إلى آل محمد‘ المظلومين على طول التاريخ؛ إذ ظلمهم محبّوهم بالجهل والغلو، وظلمهم مبغضوهم بسبب الحقد والحسد، وقد قال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ﴾. وليس هذا غريباً؛ إذ أنّى للناس طرّاً، سواء أكانوا من أهل الجنة أم من أهل النار، أن يدركوا منزلة الذين وقفوا على قمّة الأعراف، الذين ﴿يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ﴾ (الأعراف: 46).
هل هناك غلوّ في المجتمع الإيراني المعاصر؟! ــــــ
إنّ ما ذكرتموه حول الغلو في المجتمع الإيراني المعاصر كان بمنزلة طعنة في صدورنا جميعاً. صحيح أن هناك ممارسات منحرفة سيسأل جميع علمائنا عن سكوتهم عليها. وقد رأينا وسمعنا مؤخَّراً بعض الكبار ممن هبّ وأصدر بعض البيانات الشاجبة لهذه الممارسات، ونأمل لهذه المواقف المندِّدة أن تستمر وتتواصل وتعم حتّى يتمّ الإصلاح. ولكن من الواضح أنّ هذا الخلل لا ينبغي معالجته بردود فعل مبالغ فيها، والدعوة إلى إنكار منزلة أهل بيت النبي‘.
وأما أنا فأذهب في ما يتعلق بالأئمة من آل محمد إلى جميع ما ذكرتموه، دون زيادة ولا نقصان (لا نبلغ بهم مرتبة الألوهية والنبوة، ونبيح لهم كلّ منزلة دون ذلك). وطبعاً إنّ ما ذكرتموه من إشراك سائر السالكين في مرتبتهم بعيدٌ عن الفكر الشيعي، وهو شبيه بما أنكرتموه من إشراك الأئمة مع النبي في النبوة، وهو ما سنتحدث عنه لاحقاً. ولكن ما ذكرتموه في بيان منزلة الأئمة هو تماماً مضمون حديث مرويٍّ عن الإمام الصادق×، وقد أورده الشيخ الحرّ العاملي، وكذلك القطب الراوندي، في مؤلَّفاتهما، وهو يقول: «اجعلونا عبيداً مربوبين، وقولوا فينا ما شئتم، إلا النبوّة». وأنّى لأوهامنا أن تدرك المنزلة الحقيقية للمقرَّبين، وأنّى لألسنتنا البكماء أن تنطق بوصف الفضل الذي أنعم به الله برحمته على هذه الأنفس القدسية؟! ومهما كان إذا كان هناك من الأحاديث نظير الذي ذكرتموه مما سقطت منه عبارة «إلاّ النبوة» فربما كان ذلك لوضوح المسألة وبداهتها.
إنّ الأئمة من آل محمد كانوا يعرّفون أنفسهم مراراً وتكراراً، ويدفعون عن أنفسهم شبهة مَنْ يتوهم في حقّهم النبوّة، ويشبّهون أنفسهم عادة بشخصيات في القرآن لم تبلغ مرتبة النبوّة، ولكنهم كانوا على درجة كبيرة من العلم الإلهي، من قبيل: صاحب موسى×، الذي تحدّث عنه القرآن، فقال: ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 65). أو صاحب سليمان، الذي كان ﴿عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ﴾ (النمل: 40)، وتمكن من القيام بما عجز عنه الآخرون.
إنّ ما ذكرتموه من أنّ أئمة الشيعة إما أن يكونوا أنبياء أو مجتهدين هو؛ بشهادة ما تقدّم، حصرٌ لا نصيب له من الاستقامة. فإنّ القرآن ـ كما تعلمون ـ قد قسّم المؤمنين إلى قسمين، وهما: أصحاب اليمين؛ والمقربون، وهما مختلفان في العلم، والإيمان، والمراتب المعنوية والروحية، وفهم الأمور الدينية، اختلافاً كبيراً. كما وينقسم المقرَّبون إلى أربعة أقسام، وهي: النبيّون؛ والصديقون؛ والشهداء؛ والصالحون، وهؤلاء هم المذكورون في الآية 69 من سورة النساء، وهم الذين أنعم الله عليهم، وأعطاهم من العلم والصفات الخاصة. ونحن نسأل الله في الليل والنهار أن يهدينا إلى صراطهم، قائلين: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾ يتم اختيار النبيّين على الدوام من بين الصدّيقين، وقد لا يكون الصدّيق نبياً، ومع ذلك يحتفظ ببعض ما يميّزه من عامّة الناس. ولذلك نجد القرآن يصف السيدة العذراء مريم÷ بالصدّيقة. ورغم عدم كونها من النبيين فإنها كانت تتحدث مع الملائكة، وترتبط بالسماء. وكلّ شأن تثبتونه لصدّيقة بني إسرائيل نثبته نحن لصدّيقة الإسلام فاطمة الزهراء÷. وكل ما تذكرونه من تبرير لارتباط مريم العذراء بعالم الغيب نذكره نحن لصدّيق أمّة محمد‘ علي بن أبي طالب والأئمة الصدّيقين من ولده. وكما أنّ هناك اختلافاً بين النبيّين في المراتب والدرجات؛ إذ يقول تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ (البقرة: 253). فكذلك الأمر بالنسبة إلى الصديقين، ولكن هيهات لأصحاب اليمين أن يكون لهم سبيل إلى معرفة أو فهم هذه المراتب والدرجات، أو أن يميزوا بين نبيّ وصدّيق، أو صدّيق وشهيد، أو شهيدٍ وصالح، إلا من طريق النصّ والتصريح الإلهي. فليست العنقاء بالصيد السهل لمن أراد اصطيادها.
هوية الإمامة وانسجامها مع ختم النبوّة ــــــ
سماحة الدكتور، إن الفكر الشيعي ـ الذي لن يكون هناك معنى للتشيّع من دونه ـ يقوم على أساسٍ من وجود أئمة بعد رحيل النبيّ، منصوص عليهم من قبل الله تعالى؛ للمحافظة على تركة النبي العلمية، وبثّها بين الناس. وهم يتوارثون ذلك العلم لاحقاً عن سابق، ويبعدونه عن كلّ أنواع التحريف. وبذلك تقوم الحجة بهم على العباد. وبذلك لا يكون علمهم مكتسباً واجتهاداً حتى تقول بتناقض مقولتي: العصمة؛ والاجتهاد، بل هو علمٌ يُلهَمُونه ويتوارثونه عن النبي الأكرم‘، كما روي عن الإمام الصادق× قوله: إنّ العلم يورث، ولا يقبض عالم إلا ويبقى بعده مَنْ يرث عنه علمه؛ لئلا تبطل حجج الله وبيناته([2]). وبطبيعة الحال لابد لمَنْ أُوكلت إليه مهمة المحافظة على علم النبي أن يكون محيطاً بجميع ذلك العلم، حتى يتحقَّق حفظه، وهو ليس علماً ناشئاً عن اجتهاد وتفسير، بل هو ناشئ عن الحقيقة واليقين. وهذه هي الطريقة الوحيدة لصيانة الوحي النازل من ذي العرش على قلب النبي محمد، والأمن من الانحرافات التي تقع من قِبَل مَنْ يفسِّر النصوص برأيه، ومن يزرع في غير أرضه: «هم موضع سرّه، ولجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه»([3]).
وهذا لا يتنافى طبعاً مع ختم النبوّة؛ لأنّ كل ما هناك إنما يتمّ عبر توسُّط النبي الأكرم، فالأئمة حفظة، وليسوا رسلاً لتلقي الوحي، وهم مفسّرون، وليسوا مشرِّعين. وإنّ كل ما هو موجود عند الأئمة قد حصلوا عليه من طريق النبي. ومن هنا عندما اكتشف ذلك اليهودي وفرة علم الإمام علي توهَّمه نبياً، وسأله عن ذلك، فقال له الإمام×: «ويلك، أنا عبد من عبيد محمد»([4]). ولا أنكر إمكان الوصول إلى درجات متقدّمة من القرب الإلهي، إلا أنّ الواقع كما يقول أمير المؤمنين: «لا يقاس بآل محمد من هذه الأمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حقّ الولاية، وفيهم الوصية والوراثة»([5]). وقال تعالى: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّيَ إِلا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (يونس: 35).
إنّ تعريف الإمام عند الشيعة لا يعدو ما تقدّم. وإذا كان لديكم من تعريف آخر فيحسن بكم بيانه. وهيهات أن تسع هذه المقالة المختصرة للخوض في مباحث كلامية دقيقة، واستشهادات عقلية ونقلية. ولست أدري ما هو مستندكم في بيان التعارض بين الولاية والمهدوية وبين الخاتمية. وأما أنا فمستندي عبارة عن مئات الأحاديث المعتبرة، وآلاف الكتب الكلامية والروائية والتفسيرية والفقهية، التي تمّ تأليفها بأقلام علماء الشيعة منذ القرن الهجري الثاني وإلى يومنا هذا.
لا أتصور في حقكم عدم الاطلاع على تلك الكتب، أو أنكم لم تسمعوا بنظائر هذه الأحاديث، أو أنكم لم تدَّخروا هذه الأدلة الواضحة في ذهنكم الوقّاد. ولكنني لست أدري ما الذي حلّ بساحة سروشنا، فدعاه إلى تناسي جميع هذه المعارف. لست أدري ما الذي قرأه مفسِّر خطبة المتقين في الكتب الكلامية المسيحية الجديدة، والفلسفة الغربية، حتى أخذ يسعى مؤخَّراً إلى قطع العلاقة بين الأرض والسماء. لست أدري إلى أية جهة دارت بوصلة مَنْ كان أوّل من شرح لنا الحديث القائل: «إنّ أمرنا صعبٌ مستصعبٌ، لا يحمله إلاّ عبدٌ مؤمنٌ امتحن الله قلبه للإيمان، ولا يعي حديثنا إلاّ صدورٌ أمينةٌ، وأحلامٌ رزينةٌ»([6])، حتى أخذ مؤخَّراً على عاتقه مهمة تقطيع أوصال هذا التفكير، وتكسير أجنحة الدين والمذهب والإيمان؛ بحجة الإصلاح الديني. لست أدري، وليس لي إلا حبس عبرتي؛ حسرة على ما فقدناه، وأستودع ما أكتبه بدمع هتون، مصحوب بدعاء صادق إلى صديق عزيز وقديم.
استغلال مقولة المهدوية لا يبطلها ــــــ
2ـ إنما تكون للكلام المتقدِّم موضوعية لو كنا نؤمن حقيقة بوجود إمام مستحفظ في العصر الحاضر، وأنه (مهدي من عند الله)، ليواصل أساس التشيع الأصيل، والمتمثل بالإمامة: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الزخرف: 28). وكما قرأتم فقد روى كبار المحدِّثين من أهل السنة في صحاحهم عن النبي الأكرم‘ أنه قال: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة»، أو «لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، ويكون عليهم اثني عشر خليفة، كلُّهم من قريش»، وما إلى ذلك من الروايات الأخرى التي تصبّ في ذات المعنى. وعلى الرغم من وجود الكثير من المشاكل في تفسير هذه الروايات، طبقاً لمذهب أهل السنة، إلا أنّ ابن كثير ذهب إلى اعتبار (المهدي المنتظر) واحداً من هؤلاء الخلفاء الاثني عشر. إنّ الاعتقاد بالمهدي من الأمور الشائعة والمسلَّمة والراسخة بين الأكثرية ـ القريبة من الإجماع ـ من المسلمين. وإنّ الشرذمة التي أنكرت المهدي لم تنطلق في إنكارها هذا من ضعف الروايات، أو قلّة الأدلة والشواهد، وإنما يستندون في ذلك عادةً إلى أسباب سياسية واجتماعية. وهو بالضبط ما سلكتموه أنتم في هذه المسألة أيضاً.
إنّ خضوع هذه الحقيقة على طول التاريخ لسوء الاستغلال، أو حسنه، من قبل الساسة والمفكِّرين والمنظِّرين هي مسألة تاريخية واجتماعية. وكما تفضلتم فإنها تدعو إلى التأمل والوقوف عندها. وبحدود ما تسعفني به معلوماتي التاريخية فإنّ أول تيار استغل هذه العقيدة سياسياً هو تيار الكيسانية في القرن الهجري الأول، ثم تلاهم العباسيون، والزيديون، والفاطميون، وصولاً إلى القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، في أفريقيا، وآسيا، وحتى أوروبا. وفي نهاية القرن العشرين بادرت جماعة إلى احتلال المسجد الحرام بغطاء من هذه التسمية، ولكن المحاولة باءت بالفشل، وقتل زعيم هذه الجماعة. وطبعاً فقد قام جنابكم بتحليل في هذا الشأن، منذ العهد الصفوي إلى يومنا هذا، وقصرتم بحثكم على المجتمع الإيراني. ولكن ألا يدلّ هذا الاستغلال الواسع لهذه الظاهرة منذ بداية الإسلام إلى يومنا هذا على تجذُّر هذه الحقيقة في الوجدان الإسلامي؟ وأنّ هذا المفهوم من العقائد الأساسية التي أرساها النبي، بحيث لم يُعدْ بالإمكان إنكارها؟
ومن ناحية أخرى هل يمكن تقييم المعتقد الديني وفقاً لما يتركه من انعكاسات سياسية واجتماعية فقط، وهي انعكاسات مبنية على أذواق قابلة للتأويل والتفسير إلى ما شاء الله؟ وكما نعلم وتعلمون فقد سبق أن سعى البعض إلى التشكيك بأصل الدين، وإنكار الله، انطلاقاً من هذا الأسلوب الذي تنتهجونه في إنكار الإمام المهدي#. وقد أنكروا بذلك؛ من خلال الربط المنطقي بين الأفكار، أكثر الحقائق سطوعاً في العالم، وهو الله سبحانه وتعالى. ألم ينهج كارل ماركس ذات الأسلوب؟ أوَلم تنطلق جملة «الدين أفيون الشعوب» من هذا المنطلق؟ اقرأ «المهدي أفيون الشعوب»، وبدِّلْ اسم القائل، وبعدها لك أن تحكم بما شئت، و﴿كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾.
المهدوية وإمكان الفعل الديمقراطي ــــــ
مضافاً إلى ذلك إذا كانت هذه العقيدة ساكتة وحيادية، بحيث يمكن أن نحصِّل منها (الجمود السياسي)، و(ولاية الفقيه المطلقة)، و(مذهب المعارضة)، و(مذهب الانقراض)، ألا يمكن أن نستنبط منه (العدل الديمقراطي)؟ ألم تكتبوا وتروّجوا لفكرة أنه لا يوجد ربط منطقي بين الوجود والوجوب، وأنه بالإمكان أن نخرج من حقيقة وواقعية خارجية عينية بعشرات النتائج والقيم الأخلاقية والاجتماعية؟ فهل غيَّرتم رأيكم في هذا الشأن؟! إذا كان الجواب بالنفي فهل من اللائق أن تقولوا: «إنّ نظرية المهدوية، سواء أكانت حقيقةً أم باطلةً، لا تنتج في رقعة السياسة غير الجمود السياسي، أو سفك الدماء، أو خداع الناس على الشاكلة الصفوية، أو ولاية الفقيه المطلقة، أو صنع الأسلحة الإيديولوجية»؟ فلا تنتج هذه النظرية من هذا المحيط عندكم سوى المحار والردى، فلا نجد بريق اللؤلؤ!!
ختم النبوّة أم ختم الدين؟! مصالحة الدين والعقل ــــــ
3ـ إنّكم تتحدثون عن تحليل إقبال اللاهوري لـ (نعمة الخاتمية) وكأنكم تقيمون حفلة ختم الدين، وليس ختم النبوة. وتتكلَّمون عن (إعلان ختم النبوة)، وتفسِّرونها بـ (باكورة تحرير العقل الإنساني)، وإيكال الإنسان لنفسه، بحيث تتداعى لذهن القارئ من خلال كلماتكم التيارات التنويرية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر تلقائياً. هيهات، فإنكم تسلكون طريقاً قد طويت، وتختبرون خبيراً، وذلك في موضوع مختلف.
متى كان الأنبياء مناقضين للعقل، فيكون انتهاء عهد النبوة بداية لتحرير العقل من ربقة النبوّة؟ هل يمكنكم أن تجدوا ما في القرآن والتوراة والإنجيل وغيرها من الكتب السماوية من الدعوة إلى التعقل والتدبر والتفكر في أيِّ كتابٍ أخلاقيٍّ آخر؟ وهل حدّد الدين سقفاً للتفكير والتدبّر والعقل الاستقرائي أو القياسي؟ وهل ظهور العقل الاستقرائي التجريبي مختصٌّ بما بعد الإسلام، حيث تمّ كسر حصار الاستناد إلى الغريزة (الوحي)، وعقمت تربة التاريخ عن إنجاب الأنبياء؟ فهل كان قدماء المصريين الذين أبدعوا تلك الحضارة المذهلة، أو البابليون القدامى الذين أنشأوا تلك المراصد الفلكية العملاقة، وأسسوا لعلم النجوم والفلك، بعيدين عن العقل الاستقرائي.
عزيزي المحترم، إنّ معرفتي بكم هي التي تجعلني مؤمناً بأنّ ما تقولونه إنما هو من باب الغيرة على الدين والنية الخالصة، ولكن عليكم أن تدركوا أنّ كلامكم هذا قد أدمى قلوب المؤمنين، وجذب إليكم قلوب جماعة أخرى لا يهمّها أمر الدين، ولا الآخرة، وكلّ همها منحصر بهذه الدنيا. ولذلك فإنّ هذه الجماعة ليس لها من همٍّ سوى أن تتَّخذ من كلّ شيء ذريعةً للقضاء على الدين. وإنما كان النجاح في سياق الإصلاح الديني حليف أولئك الذين أصروا على التمسك بأصوله، وتشذيبه ممّا علق به من الخرافات والبدع. ويمكننا أن نشير إلى نماذج من هؤلاء المصلحين في عالم التسنن والتشيّع على السواء، من قبيل: الإمام محمد الغزالي، والشاه ولي الله الدهلوي، والعلامة الحلي، والإمام الخميني. وأنا أعلم بأن المسائل السياسية الراهنة تجعل من المبكِّر أن نصدر حكمنا بشأن الإمام الخميني، ولكنني مدرك تمام الإدراك ما قد أصاب كبد هذا المصلح العارف من الجفاء ممّا لا يمكن للجبال أن تطيق حمله، سواء من قبل المستنيرين في مجتمعنا أم المتحجّرين في الأوساط الدينية.
أخي الفاضل، إذا كنت تروم الإصلاح الديني فأنا بوصفي أخاً صغيراً أشدُّ على يدك، وأسير معك خادماً في هذا الطريق؛ وأما إذا كنت ترمي إلى غاية أخرى، وكان هدفكم ـ كما يلوح ذلك من كلامكم ـ هو الترويج للمعنويات بمعزل عن الدين فإنني أنصح جميع الأحبة أن لا يلهثوا وراء هذا الشعار ذي الصورة الحسنة والسيرة القبيحة؛ وذلك لأنّ المعنويات المجرّدة عن الدين ليست سوى وهم وخيال باطل. وإنّ الذين جرَّبوه في الغرب قد حطَّموا الدين، وأجهزوا على المعنويات، وإنّ أمراً هذا آخره لحقيق أن يُزهد في أوله.
ديمقراطية دينية أو ديمقراطية لا تعارض الدين؟! ـــــــ
4ـ في ما يتعلق بالديمقراطية ولا أرى إمكان استنباط الديمقراطية من نصوص التعاليم الإسلامية، ولكنني أقول: إنه بالإمكان صياغة ديمقراطية لا تتعارض والتعاليم الإسلامية. ومن هنا فإنني أتفق معكم في أنّ «القول بالديمقراطية لا يلازم التجرد عن الإسلام». ولكنني لست أدري ما إذا كنت في صفكم أو لا؛ وذلك لأنّ مفردة الديمقراطية ـ شأنها شأن الحرية ـ قابلة للعديد من التأويلات والتفسيرات. وعليه لست أدري ما هو التفسير الذي تتبنّاه وتتحدَّث عنه.
إنني أتبنى الديمقراطية التطبيقية، دون الديمقراطية الأخلاقية، وأرى إمكان تطبيق الديمقراطية بوصفها منهجاً أسمى في إدارة شؤون البلاد في إطار التعاليم الإسلامية، وهو شيء في قبال الديمقراطية الليبرالية، التي يصطلح عليها بالديمقراطية الدينية.
إنّ الديمقراطية الأخلاقية تستند إلى مجموعة من الأسس والقيم المتأثِّرة بالليبرالية بشكل عميق ومتجذِّر، وصقلت بالتطورات التي رافقت الليبرالية عبر تاريخها. وينظر حالياً إلى أمور من قبيل: التعددية الأخلاقية والمذهبية، والعلمانية، وعدم الربط بين الدين والسياسة، واحترام الحريات الفردية حتى في الموارد غير المتعارفة، واعتبار الحرية الفردية واستقلال الفرد، بوصفها فضيلة اجتماعية في مجموعة القيم الديمقراطية. وإنّ أنصار الديمقراطية لا يَروْن تحقُّقها إلاّ في ظل تطبيق الأمور المتقدّمة في المجتمع.
وفي المقابل فإن الديمقراطية التطبيقية؛ حيث لا تحتوي على ثقل فلسفي وأخلاقي خاصّ، يمكنها أن تتجلى في أطر مختلفة تنسجم مع مختلف المعتقدات والثقافات السياسية المتنوّعة. إنّ الديمقراطية الدينية تقوم على أساس من إمكان السيطرة عليها في إطار الأصول والقيم الأخلاقية. وبعبارة أخرى: كما أمكنت السيطرة على الليبرالية الديمقراطية في إطار المذهب الليبرالي وقيمه الخاصة كذلك يحقّ للمجتمع الإسلامي أن يوظف هذا النهج في تحسين أوضاعه السياسية والاجتماعية.
إلا أنّ الصعوبة هنا تكمن في التعريف الدقيق للتعاليم الإسلامية، وكذلك انتخاب طريقة من الديمقراطية تتلاءم معها. وطبعاً فإنّ هذا مشروع طويل نحتاج إلى اختبار نجاحه بأناة وصبر طويلين، ولا يمكن الخروج منه بنتيجة نافعة من خلال التصريحات المتشنِّجة والمواقف المتأزمة.
وأما لبّ الكلام الذي تفضَّلتم به حول الديمقراطية والإسلام فهو: «إن الحضارة الإسلامية تتمحور حول الفقه، وليس هناك فرق شاسع بين سيادة الفقه والديمقراطية التي تعني سيادة القانون»، و«إنّ ضعف النظام الفقهي يكمن في أنه يدور حول محور الواجبات، دون الحقوق، ولذلك يجب حقن هذا الجسد نصف الميت بحقنة الحقوق، ليمتثل للشفاء، ويغدو ديمقراطياً بشكل كامل».
ولكن يا سماحة الدكتور سروش، هل يمكن إنعاش هذا الجسد نصف الميت بضربه ولكمه وركله؟! وإذا سلّمنا لصحّة كلامكم مئة في المئة، فمَنْ هو الذي سيتولى علاج هذا المريض؟ وهل هناك من جهة أخرى، غير الفقهاء، هي المخوَّلة لتحديد هذا العلاج، فيجب إقناعهم ليتمكنوا من تدوين أصول فقه جديد، وتعاون المفكرين معهم، وتزويدهم بالأفكار الجديدة؟ وعليكم أن تعلموا أن التهجُّم على الفقهاء، وإلقاء اللوم عليهم، والتحدث عن الفقه بالتقزيم والتهكُّم، لا يمكن له أن يحلّ المعضلة.
كيف نواجه مشاكل المصلحين ومعاناتهم اليوم؟ ــــــ
5ـ وأما الحديث عن العدالة والحكومة والركون إلى الظلمة.. فها هنا تسكب العبرات.
كنت أودّ أن لا يجرّنا هذا الحوار إلى المسائل السياسية. ولست أدري ماذا أقول، ومن أين أبدأ. كما تعلمون فقد أمضيت سنوات طويلة في إنجلترا منهمكاً في تعليم طلاب العلوم الدينية من الناطقين باللغة الإنجليزية، والتدريس في جامعة العلوم الإسلامية، فإذا كان في هذا ما يعتبر إعانة للظالم فينبغي أن يكون جميع أساتذة الجامعات في إيران، وجميع المدرِّسين في الحوزات العلمية، من أعوان الظلمة. وربما لو أنني كنت أدرّس في واحدة من الجامعات الحكومية لإنجلترا، وأتقاضى أتعابي من المملكة المتحدة، لما اعتبر عملي تعاوناً مع الظلمة، بل هو عين الخدمة للعلم والعدالة.
أنا لست غافلاً عن الأمور التي حدثت معكم في إيران، وما لاقيتموه من قسوة وعنف من قبل الجهّال وبعض الجماعات المتعصّبة. وقد استنكرت ذلك، ولا زلت أستنكره. ويشهد الجميع بأني ـ على الرغم من اختلافي مع بعض آرائكم ـ قد دافعت في جميع المجالس والمحافل عنكم، وعن حسن تفكيركم، وأبديت استيائي وامتعاضي من تلك الأعمال التي مورست بحقّكم. ولكن يا سماحة الدكتور، هل بلغ بكم الأمر أن تصرّوا على الإصلاحات الحادّة، وإجراء جراحة بالنحو الذي يروقكم، ومن دون استعمال أيِّ مخدِّر، وبأشدّ الطرق إيلاماً، وتحاولون أن تلقوا باللائمة في كلّ شيء على نظام يافع، ومنشغل بآلاف المشاكل العملية والنظرية المحيطة به من قبل الأعداء ومن جميع الجهات؟ إن المصلحين الذين سبقوكم قد عانوا أضعاف ما عانيتم، ولكنهم على الرغم من ذلك أبدوا من الصبر والشكيمة ما لا يمكن تصوُّره حتى في حقّ الجبال الرواسي.
نحن الشعب الإيراني قد اعتدنا بحكم تشيّعنا أن نرى النزاهة والتقوى في الابتعاد عن الدولة، معتبرين ذلك من دواعي فخرنا، ولكن يا سماحة الدكتور، إنّ هذا النظام علاوة على كونه تبلوراً لغاية مثالية حلم بها غالبية الشعب الإيراني، فهو كما يذكر التاريخ من أكثر الأنظمة الإيرانية جماهيرية وشعبية، وإذا كان يشكو نقصاً أو علة فيجب عدم توفير أي نصح في معالجته، لا أن نرى علاجه في قتله. وعلينا أن لا ندعو إلى حرق البيدر؛ لوجود بعض الفئران المتطفِّلة عليه، وأن لا نأمر بتقويض البناء؛ بحجّة أن لونه لا يعجبنا، وأن لا نطلب من الرضيع أن يعدو قبل أن يتعلَّم الوقوف على قدميه، أو يحمل الأثقال قبل أن يشتدّ ظهره، كما تصنع القوى الغربية تجاه البلدان الضعيفة والفقيرة إذا نالت استقلالها، وسارت على طريق لا يتناسب وذوقها، فعندها تقيم الدنيا ولا تقعدها، مطالبةً إياها بتطبيق حقوق الإنسان بحذافيرها، وممارسة أعلى النماذج الديمقراطية، والأساليب السياسية والقضائية والاقتصادية والاجتماعية، باسم العدالة. وعلينا أن لا ننسى أو نتناسى أن كل ما في الغرب من خير وفضائل يحتكرونه لأنفسهم، ولا ينالنا منهم سوى الأسنان الحادّة والمخالب الدامية.
أتفق معكم في أنّ العدالة هي من أرقى الموازين، وينبغي اختبار كلّ شيءٍ على أساسها، ولذلك فإنني أسألكم باسم العدالة أن تحكموا على هذه الحكومة التي كان لكم أبلغ الأثر في ظهورها، واستلمتم أكثر المناصب الثقافية حساسية، فأسهمتم في استمرارها واشتداد عودها، أن تحكموا عليها من خلال رعاية العدل والإنصاف. إنّ القضاء على هذه الحكومة لن يعود بالنفع على الشعب الإيراني، ولا يساعد العدالة، ولا يخدم تعزيز المعنويات والروحيات. وإنّ الذين ينتفعون من ذلك لا يؤمنون بكم، ولا بإيران، ولا بالإسلام، ولا بالعدالة، فانظر إلى مَنْ تسعده بقَتْل مَنْ!
﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ﴾.
نص الإجابة الثانية للدكتور سروش عن رد الشيخ بهمن پور ــــــ
أخي العزيز، سماحة الشيخ بهمن پور
أقدّر كلامكم الناصح، وها أنا مرّة أخرى أضيف بعض النقاط على كلماتي السابقة؛ بغية الإشفاق والإيضاح والاستفهام:
توضيح مضاعف لمفارقة الإمامة وختم النبوّة ــــــ
أولاً: إنّ كلامكم حول أئمة الشيعة الكرام، ومراتب قربهم المعنوي، ودرجات ولايتهم الباطنية، والأخبار المأثورة بشأنهم، والتي لها نظائر في جميع الأديان وفي شأن جميع القادة، والأشد منها جميعاً ما نراه في الزيارة الجامعة الكبيرة التي هي نموذجٌ للغلوّ الشيعي، مضافاً إلى أنها لا تعدو كونها تكراراً للمدعى، فإنها لا ترتبط بالسؤال الرئيس مورد البحث. لقد كان التساؤل الأساس يقول: كيف يأتي بعد خاتم الأنبياء أشخاصٌ يتحدَّثون استناداً إلى الوحي والشهود بكلام لا أثر له في القرآن والسنّة النبوية، وفي الوقت نفسه تكون تلك الكلمات تعليماً وتشريعاً، وإيجاباً وتحريماً، وعلى مستوى الوحي النبوي من العصمة والحجّيّة، ومع ذلك لا يضر هذا بالخاتمية؟ فأيَّ شيء تنفيه الخاتمية وتمنعه، وأيَّ شيء تمنع الخاتمية وقوعه وحصوله؟ وأيُّ فرق بين وجود وعدم هذه الخاتمية الرقيقة، التي تنتقل جميع شؤونها إلى الآخرين؟
إنّ اعتبار أئمة الشيعة شارحين ومفسِّرين للقرآن والسنة النبوية لن يحل هذه العقدة المستعصية؛ وذلك لأن الكثير من كلمات وأحكام الأئمة جديدة ومستحدثة، لا أثر لها في النصوص المتقدّمة، وليس فيها أيّ إرجاع إلى القرآن والسنة النبوية، وليس فيها أدنى إشارة تعليقية وبيانية، إلا إذا تصرفنا وتوسعنا في معنى الشرح والتفسير إلى حدٍّ يفضي بنا إلى الوحي والنبوّة، ولن تكون مهمّة الأئمة منحصرة بالشرح والتفسير، بل هي استمرارٌ للنبوة، وهو النهج الذي سار عليه غلاة الشيعة، وأسَّسوا لإمامة غير متناغمة مع الخاتمية.
وبعبارة أخرى: إنّ الناس إما أن يحصلوا على معلوماتهم مباشرة؛ أو بواسطة الاجتهاد والاكتساب. وإنّ علم النبي من القسم الأول. وإن هذا العلم المباشر إما أن يكون مقروناً بالعصمة؛ أو لا. وعلم النبي من القسم الأول. وإن علم النبي المباشر المقرون بالعصمة إما أن تثبت حجيته على الآخرين؛ أو لا. وعلم النبي من القسم الأول. وهنا يقوم غلاة الشيعة بإثبات جميع هذه المراتب الثلاث لأئمتهم، غافلين عن أن مثل هذا الاعتقاد لا ينسجم مع الخاتمية. وإنّ إدراج هذا العلم المباشر تحت عنوان الوراثة، واعتبار ما يقوم به الأئمة بياناً وشرحاً، واعتبارهم مفسِّرين وشارحين، وغير مشرّعين، لا يغيِّر من الماهية مطلقاً، ولن يبقي للخاتمية سوى اسماً ليس له مسمّى. وليس من المقبول أيضاً أن يقال: إنّ كل ما يحصل عليه الإمام إنما هو بإذن من النبي؛ وذلك لأن النبي لا يمكنه أن يعطي منصباً يقوّض خاتميته، ويواصل نبوته. وإذا فرغنا من ذلك فإنّ كل مرتبة من مراتب القرب الإلهي تكون مقدورة وميسورة لجميع السالكين على مقدار درجاتهم ومراتبهم.
إنّ هذا السؤال الجذري ـ كما هو واضح من خلال الوقوف على تاريخ الكلام الشيعي ـ ليس وليد الساعة واليوم؛ إذ يعلم المتكلِّمون الشيعة جيداً أن هذه المعضلة لا يمكن حلها باللجوء إلى ألفاظ مبهمة من قبيل: الوراثة، وصيانة علم النبي، أو كون الأئمة مفسِّرين، وما إلى ذلك. فهذه الأمور والتأويلات لا يمكنها أن تحلّ العادات الفكرية السائدة والاعتقادات غير المستدَلّة، والمأثورات الطنّانة، والظنون المتراكمة عبر القرون.
إنّ الرضي الخوانساري (1113هـ)، وهو أخو جمال الخوانساري، وكلاهما ابنٌ لحسين الخوانساري، الذي هو أستاذ الكلّ، وكان هؤلاء الثلاثة من الفقهاء والمتكلِّمين البارزين في العصر الصفوي، بادر في كتابه الفقهي، المسمّى بـ «المائدة السماوية»، بعد ذكره لعدد من الأحكام، إلى التطرّق إلى حكم أكل تربة الحسين×، حيث لم يرِدْ له ذكر من قبل النبي؛ إذ لم يكن المورد ابتلائياً في عهده، وأما بعد رحيله وانقطاع الوحي الإلهي فلا يمكن للحكم الشرعي أن يستجدّ، فكيف يمكن توجيه مثل هذه الأحكام الشرعية؟ وما هو الطريق إلى العلم بها؟ ثمّ أجاب عن هذا الإشكال بذكر العديد من التوجيهات، من قبيل: الوراثة، وتأويل القرآن، والعلم بالجامعة والجفر، ومصحف فاطمة، ووجود(روح) معهم، وهذا الروح كان ملازماً للنبي أيضاً، وكان يعلِّمه كلّ شيء، ونزول الملائكة في ليلة القدر وغيرها من الأوقات، وما إلى ذلك من التوجيهات. ثم توصَّل إلى أنّ جميع الصلاحيات التي منحها الله للنبي؛ ليضع الأحكام من خلالها، قد منحت للأئمة أيضاً؛ ليقوموا بالدور نفسه. «وقد تكرَّر حديث مفاده أن التفويض الذي فوَّضه الله للنبي قد فوَّضه من بعده للأئمة أيضاً. وعليه يمكن أن تظهر على لسان الأئمة أحكام لم يكن لها وجود في عهد النبي. وقد أذن الله لهم بذلك. والله أعلم بأحكامه»([7]). وطبعاً فهو يستند في جميع ذلك إلى روايات يرويها عن الكافي، والمحاسن، وغيرهما.
ومن الواضح أنّ الخوانساري قد أدرك جيّداً أنه ما لم يثبت كل صلاحيات النبي للأئمة لن يتمكن من التخلُّص من ذلك الإشكال. ولكن يرِدُ هنا سؤال آخر، وهو: كيف يمكن التوفيق بين هذا الرأي وبين الخاتمية؟ وهو سؤال ينبغي توجيهه إلى التشيّع الغالي. وعلينا أن ننتظر صدور الإجابة منهم، وإنْ كنا يائسين.
إنّ هذا التساؤل النابع من عمق الإيمان الديني، والاعتقاد بخاتمية النبوّة، ليس فيه ظلم لآل محمد، ولا حسد لهم على فضائلهم. وإن كان هناك من إنجاز فهو لصالح إعلاء شأن النبوة والخاتمية، والبراءة من الغلو. وإلا فإن مواكبة المفوّضة، ووضع أرزاق الناس وآجالهم، ووضع أحكام الدين، بيد أئمة الشيعة، وتقطيع رداء الخاتمية بمقراض الإمامة، هو نهج سار عليه الغلاة من الشيعة قروناً من الزمن، وليس فيه أيُّ فخر لمن يقول به. وهناك بونٌ شاسع بين ذلك الذي يتمسك برداء علي كي لا يخسر محمداً، وبين ذلك الذي يجعل من علي محمداً آخر.
وهذا هو الاعتقاد الذي يغري السيد الخميني بإثبات جميع صلاحيات النبي والأئمة للفقهاء، ويخرج يد النيابة من أكمام الإمامة، ويمزج نظرية ولاية الفقيه المطلقة بالسلطة السياسية، ويجلس على عرش الأئمة، ويبني حكومة ثيوقراطية وغير ديمقراطية، ويباشر التقنين والتشريع من الموقع الإلهي المقدَّس، ويُلزم الناس بطاعته وطاعة أعوانه.
مقولة: الخاتمية وتحرير العقل لا تنافي قيمة الدين واعتباره ــــــ
ثانياً: قلتم في عبارة حماسية وصحتُم فيّ: «لقد أقمت حفلة ختم الدين، وليس ختم النبوة». إنّ هذه النسبة التي يصل نسبها إلى مطهري خاطئة، ولا يزال ظلّها ـ بشهادة خطابكم ـ يثقل على الأذهان والعقول. وقد بينت في كتابي «بسط التجربة النبوية» عدم فهم مطهري لكلام إقبال اللاهوري بشكل تفصيلي([8]).
وهنا أضيف هذه النقطة، وهي أنّ الشيعة من خلال طرحهم نظرية الغيبة عمدوا إلى تأخير الخاتمية لقرنين ونصف، وإلا فإنّ ذات الآثار المترتبة على الغيبة متفرعة عن الخاتمية أيضاً، مع فارق أنّ بالإمكان العثور على تبرير عقلي مقبول لخاتمية الرسول الذاتية، خلافاً للغيبة العرضية والمفاجئة وغير المتوقَّعة للإمام المنتظر.
إنّ (تحرير العقل الإنساني) و(إيكال الإنسان إلى نفسه)، الذي اعتبرته من بركات الخاتمية، لا يعني أنّ العقل كان حبيساً في قفص الديانة،كما تصوّرتم ذلك، وأنّ الأنبياء كانوا أعداء التعقل والتفكير، وأنه بانتهاء عهد النبوات يبدأ عرس الحريات، بل معناه أنّ الناس بعد وفاة النبي وخاتم الرسل قد تُرك لهم فهمُ كلّ شيء، وخاصة فهم الدين، ولم تعد هناك من حاجة لأن تمدّ إليهم يدٌ من السماء ليعتمدوا عليها في فهم الدين. وإن أسلوب التديُّن منذ الآن فصاعداً كنهج الحياة يمر في طريقه إلى التكامل والاستقامة عبر الصدامات والنزاعات، دون التدخل الغيبي من حين لآخر، بل من خلال تنازع وتعاون العقول الأرضية الخيّرة والحرّة في فهمها ونقدها وتفسيرها للدين، والمتحرِّرة من قيود التقليد. وإنّ الشيعة بدأوا ممارسة هذه الحرية على نحو مباشر دون تدخُّل من السماء منذ بداية عصر غيبة الإمام المهدي، وأما سائر المسلمين، على حدّ تعبير إقبال اللاهوري، فقد بدأوا ممارسة هذه الحرية على المستوى العملي منذ رحيل النبي محمد|. ومن الواضح أنّ هذا الكلام لا يؤدي بالإنسان تلقائياً إلى تذكر التيارات الفكرية الغربية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ولا يكون ذريعة إلى الخلط بين ختم النبوة وختم الديانة، ولا يكون سبباً في إقامة حفل وهمي على أنقاض الدين.
أُدرك جيداً أنّ ختم النبوة عبارة عن مفهوم قيّم وثرّ، وإنّ الكلام الشيعي لم يطرقه حتى الآن بشكل صحيح ومنصف؛ لما فيه من الألغام والموانع، ولم يوفِّه حقه بالبحث والتحقيق، ولم يدرك حسناته وفضائله، ولم يشهد بها، وفي المقابل تكلَّف وتفلسف في بيان تفسير وتبرير الغيبة، وأخفق في ذلك، وحال دونه ودون تبيين معنى الخاتمية، وكأنه يعتبر الإيمان بالخاتمية سيئة يجب الاستغفار منها، والتكفير عنها.
رحم الله الدكتور علي شريعتي، فقد أدرك جيّداً أنّ هناك الكثير من المسلمين لم يفهموا من التوحيد سوى أنّ الله واحدٌ لا أكثر. يرون العينين والحاجبين ولا يرون وحي الحاجبين وآلاف الدلائل الكامنة وراء العيون. وها هي قصّة الخاتمية، وكأنها لا تقول بأنّ محمداً| قد ارتحل، ولن يأتي بعد الإسلام دينٌ جديد. وبهذا نكتفي.
ثالثاً: إنّ هذا البحث لا يكتمل دون إتمامه بالبحث في باب العرضيات والذاتيات. فإنّ ما يشكل أساس وذاتي الدين هو شخص النبي وتعاليمه القيّمة، وأما الباقي فمهما كانت صبغته التاريخية وغير الجوهرية فهو عرضي وسطحي، أي واقعة وحكم كان من الممكن أن يكون على نحو آخر. ولذلك فإنه لا يدخل في نطاق الإيمانيات. والنزاع يدور حول الغَيْبة، التي ـ بحسب رأي الشيعة ـ لم يكن بالإمكان أن تحدث في ظروف تاريخية أخرى، وإمامٍ كان يمكنه أن لا يغيب، ويبقى ليرحل عندما يحين أجله الطبيعي، ويأتي بعده إمام آخر. وليس لهذا النزاع أدنى تأثير على التديُّن، ولا يزيد أو ينقص من إيمان الشخص، ولا يتوقف عليه إسلام الشخص وعدمه. وكما قلتُ في كتاب «بسط التجربة النبوية»: «لا يمكن الوصول إلى أي أمر ذاتي من خلال الأمر العرضي. وإنّ الإسلام رهن بالاعتقادات والالتزام بالذاتيات. وإنّ الدين النظري يعني التعرُّف على الذاتيات من خلال العرضيات. وإنّ الاجتهاد الفقهي يستلزم تطبيق العرضيات على المستوى الثقافي»([9]).
إنّ الآفة التي يُخشى منها هي أن يتمّ تقديم العرضيات على الذاتيات، أو إقرار القشور على اللباب، وهو ديدن جميع أنواع التديُّن القشري. والأسوأ من جميع ذلك التضحية بالعدالة في مذبح عبادة العرضيات على نحو مفرط.
ماذا قدّم أهل البيت^ للشيعة؟ ــــــ
يجرنا هذا الكلام إلى تساؤل عن سمة وصفة حماة علم النبي والمستحفظين على الشريعة، وهو ما أعطيتموه لأئمة الشيعة، ولذلك اعتبرتم الإمامة واجبة، واعتبرتم الإمام الغائب هو المستحفظ المعاصر، ولذلك ذهبتم إلى حجية حضوره الغائب. ولا شك ولا كلام في عظم شأن هؤلاء العظماء، إلا أنّ النظرة الباحثة والفاحصة تحتاج إلى سابق تجربة صادقة، وعليه لابد أن تبينوا لنا ما هو الشيء الذي احتفظ به هؤلاء الحفظة، وخصّوا به الشيعة، من أمور يفتقر إليها سائر المسلمين؟!
إذا كان أكبر المفسِّرين والعرفاء والمتكلِّمين والمدافعين عن حياض الدين قد انبثقوا من بين غير الشيعة، بل وإنّ الشيعة مدينون لأولئك في هذا المجال. ومن باب المثال يمكن التدبّر في خضوع السيد الخميني بين يدي محيي الدين ابن عربي؛ أو الحقّ الكبير لتفسير «مفاتيح الغيب»، وصاحبه الفخر الرازي، على «الميزان في تفسير القرآن»، والعلامة الطباطبائي؛ ومئات الأمثلة الأخرى. وإذا كان هناك من اختلاف ـ وهو موجود قطعاً ـ فهو ليس على نحو تكون الأفضلية الحاسمة فيه لآراء الشيعة على غيرهم، ولو كان الفقهاء ـ وليس الفقه الذي بناه غير الشيعة ـ أدنى من فقه الشيعة. وليس اختلاف الآراء الفقهية لدى الشيعة وغيرهم أكثر وأعمق من الاختلاف في الآراء بين الشيعة أنفسهم، كما بين الأصوليين والأخباريين. وإنّ مثل هذه الاختلافات الفقهية القليلة والكثيرة والسطحية، من قبيل: غسل أعضاء الوضوء، بدلاً من مسحها؛ أو عدد الرضعات المحرّمة؛ وما إلى ذلك، لا دخل له بجوهر الإيمان والزهد والتقوى، فإنّ عمدة العزم على العبودية والطاعة هو الذي يمكن جمعه مع أية منظومة فقهية.
وإنّ خير شاهد على هذا المدعى كتاب «المحجّة البيضاء في إحياء الإحياء»، الذي هو إعادة صياغة وتهذيب لكتاب «إحياء العلوم»، لأبي حامد الغزالي، من قبل أحد المتكلِّمين والمحدّثين والفقهاء الشيعة في العصر الصفوي، واسمه محسن الفيض الكاشاني. وهو شيء فريد في نوعه، ولم يتكرر في التاريخ الإسلامي.
إنّ محسن الفيض الكاشاني شيعيٌّ خالص ليست له أدنى علاقة أو قرابة مع الفكر غير الشيعي، ولم يقُمْ عند تنقيح كتاب أبي حامد الغزالي بأية مجاملة ومراعاة أو مداهنة، ومع ذلك فقد بقي بعد عملية التنقيح الشيعية هذه على يد الفيض الكاشاني ثلاثة أرباع كتاب أبي حامد الغزالي من دون تغيير، ولم يتمّ سوى تغيير بعض المواطن في الأبواب الفقهية والكلامية، التي حلَّت محلها آراء واجتهادات الفيض الكاشاني في الفقه والكلام. أما الجزء الأعظم الذي يشترك فيه الفيض الكاشاني والغزالي، ويوحِّدهما كأخوين لأم واحدة، فهو باب الأخلاقيات والعرفانيات، التي تمثل بحقّ جوهر الدين، والهدف النهائي من رسالة سيد المرسلين. فهنا يتم الاتحاد والاشتراك بين الشيعة وغيرهم في جوهر الدين وذاتياته، بينما يكون الخلاف بينهم في الأعراض والقشور.
ولهذا السبب أذهب شخصياً إلى جواز اتباع أيّ واحد من الفقهاء، سواءٌ أكان شيعياً أو سنياً، في الشرعيات والأمور الفقهية، أي الأمور القشرية والعرضية، التي تكون مطلوبة للشارع بالعرض، ويكون العمل على طبق رأي ذلك الفقيه مجزياً ومبرئاً للذمة.
وعليه نقول: إذا كان تفسير الأئمة للشريعة وشرحها وبيانها وحفظها وصيانتها يعود إلى ظاهر الشريعة فهذا ليس له كبير وزن في ميزان التاريخ والتجربة، وأما إذا كان يعود إلى الولاية الباطنية فهو شيء آخر، لا يمكن تفسيره إلا في ضوء (بسط التجربة النبوية)، فيمكن لكل فرد من أفراد الإنسانية؛ طبقاً لسعته وظرفيته، أن يغترف من ورده، وينهل من معينه: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ﴾.
رابعاً: إنّ حديث إساءة استغلال الأفكار جدير بالسماع. تقولون: لابد من الفصل بين الفكر والتاريخ الفكري. إذا كان التفكير بالله والحرية والمهدوية وما إلى ذلك يعتبر سوء استغلال فعليكم أن تشكروا ذات الفكر، وأن تلعنوا تلك الأفكار الشريرة وغير الشاكرة التي تكفر بالنعمة، وتحاول تعكير الماء الصافي، وإبقاء الظامئين على ما هم عليه من العطش.
وطبعاً إنّ هذا هو أسهل الطرق للتخلُّص من عواقب نظرية لا توافق أمزجتنا. ولكن ليس من الضروري أن يكون أسهلُ الطرق أصحَّها.
وقد أشكلتَ على طريقة التخلص هذه من المآزق في (العقيدة والاختبار)([10])، وقلتَ: إنّ تاريخ كل فكرة يتكوّن من بعض تلك الفكرة ومساحة اختبارها، ولا يمكن اعتبار فكرةٍ ما فوق التاريخ، وأفضل من إخضاعها للاختبار، ومنحها درجة نجاح خارج قاعة الامتحان. إذا كانت الحضارة حضارة إسلامية فعندها ستكون هذه الحضارة بأجمعها تجسيداً للإسلام، وإنّ الإسلام هو الذي منحها اسمها، ونفخ فيها روحها. ولا يمكن اللجوء إلى المحاصصة في هذا المجال، فنعدّ محاسن تلك الحضارة من الإسلام، ونذهب في الوقت نفسه إلى اعتبار مساوئها نتاج مؤامرة قام بها أعداء الإسلام. وهكذا الأمر بالنسبة إلى المذهب الماركسي، والليبرالي. وكذلك النظريات الاجتماعية، والفلسفية، وخاصّة في ما يتعلق بالدين، حيث ذكرتَ أنّ الأديان لا تقوم اليوم على مجرّد البحوث الكلامية، بل لابدّ إلى جانب ذلك من الدفاع التاريخي. فلا غرو أنّ برعم الأديان قد تفتح منذ قرون في روضة التاريخ، وقد انتشر عبقها في كافة أرجاء المعمورة. وعليه لم يعُدْ بالإمكان غضُّ الطرف عن هذا البسط التاريخي، والاكتفاء بالأدلة السابقة، وعدم إجراء اختبار على الخلفية التاريخية والتجربية؛ اقتناعاً منا بصدق مقالنا، وإلقاء اللائمة على الذين أساؤوا فهم الإسلام. ويخضع لهذا الاختبار كلُّ شيء، ابتداءً من الله، والنبوّة، والخاتمية، والمهدوية، وولاية الفقيه، وكل نظرية أخرى أسهمت في صنع تاريخها، وأثرت في صياغة حياة الناس. على هذه الشاكلة انتقد (كانْت) الميتافيزيقية. وبعد ذلك جاء دور نقد الأديان تاريخياً.
إنّ انقسام الأديان فرقاً، وظهور الكفر والإيمان، والتشيّع والتسنن، إنما هو من مستلزمات بسط تاريخ الأديان، وفعلية ما كان بالقوّة. ولا مفرّ من ذلك. وإنّ تسمية ذلك بإساءة الاستغلال قلبٌ للحقائق، ومسخٌ للطبيعة، وخلطٌ بين العلم والقيم، في بيان ظاهرة طبيعية وتاريخية. إن التشيُّع يرى في التسنن غصناً منحرفاً عن دوحة الإسلام، وثمرة سوء فهم أو إساءة استغلال للإسلام. وفي المقابل نجد أن هذا هو رأي التسنُّن في التشيع أيضاً. إنّ كلّ واحدٍ من المتنافسين يتهم الآخر بسوء الفهم وسوء الاستغلال والانحراف، إلا أنّ الذي ينظر إلى المسألة من الزاوية التاريخية يحتاط كثيراً في استخدام مفردة سوء الفهم، أو سوء الاستغلال، أو حسنه؛ حذراً من الوقوع في مطبّ التعسُّف والخروج عن الحياد. هَبْ أنني سلَّمتُ اعتباركم الصفوية والبابية والبهائية قراءاتٍ خاطئةً عن المهدوية، فهل تعتبرون الشيء ذاته في ما يتعلق بولاية الفقيه المطلقة؟ هل تعتبرونها قراءة خاطئة وسوء استغلال للمهدوية؟! وإذا ذهب شخص إلى ذلك فما هو حكمكم عليه؟ تلاحظون أنه ليس المخرج دائماً باستخدام مشرط (إساءة الاستغلال) ضدّ كل ما لا يوافق أمزجتنا، بل إنّ شرط الصدق هو أن نتبع حكم التاريخ. وإذا وجدنا البسط التاريخي الماركسي أو الليبرالي خير مرآة للنظر في ذينك المذهبين فعلينا أن لا نبادر إلى كسر تلك المرآة التي تعكس واقع الدين، بل علينا أن نصونها لرؤية الوجوه ـ الجميلة والقبيحة ـ الأخرى. ويجب علينا أن ننظر إلى المهدوية والتشيّع والتسنن من خلال هذه المرآة، وأن ننظر إلى جمالها وكمالها من هذه الزاوية، وخاصة نظرية ولاية الفقيه، التي لا يمكن التأسيس لها من خلال بضعة أحاديث، بل علينا أن ننظر في خلفيتها السياسية والتاريخية، ومَنْ يعمل على خدمتها، ومَنْ ينادمها، وأن نستلهم الدروس والعبر من جميع ذلك.
إنّ النظر إلى المستقبل مع إغفال الماضي هو من أشد الآفات التي يُخاف منها بالنسبة إلى ما يتعلق بالرؤية الميتافيزيقية الدينية، ولا يمكن التغلب على هذه العقبة إلا من خلال الجهاد والاجتهاد.
إنكم فضَّلْتم الديمقراطية المنهجية، وتركتم الديمقراطية الأخلاقية. ولا شك في أنكم قد أعددتم الجواب مسبقاً عن العلاقة بين ولاية الفقيه والديمقراطية المنهجية التي تذهبون إليها، وكيفية الجمع بينهما. ولا أتصور أنّ من السهل التوصُّل إلى مثل هذا الجمع والتلفيق. ولكن على أية حال لست أشكّ في أنّ المسلمين، وخاصة الشيعة منهم، وعلى الأخصّ الحكّام، سيسعدون لأطروحتكم، ويفرحون بها.
وتبقى هناك مسألتان أخريان:
الأولى: لقد كان سؤالكم يقول: «كيف نحصل من المهدوية على البطالة وعلى النشاط أيضاً، كما نحصل منها على الاعتراض، وفي الوقت نفسه على الانقراض أيضاً؟». وقد وضعتم فيه اليد على تساؤل وتحقيق هامّ. وإنّ أول شاهد على إمكان ذلك هو وقوعه وحصوله. والوقوع ـ كما يقال ـ أوضحُ دليل على الإمكان، وبذلك نكون في غنىً عن البرهنة والاستدلال. ففي يومٍ كان الشيعة، وبأمرٍ من فقهائهم، يعمدون إلى دفن أموال الخمس والغنائم والزكاة في الأرض، على أمل أن يأتي الإمام بعد سنوات، بل وقرون، ليعثر عليها بعلمه اللدني، ويتصرّف فيها. واليوم لا يرى السيد الخميني دفن الخمس حراماً فحسب، بل ويعتبره من جملة ميزانية وأموال الدولة الإسلامية والحكومة، التي تعمل بجدّ ونشاط للتمهيد لظهور المهدي. وقد شهد تاريخ الشيعة هذا الفعل والانفعال على الدوام. ولذلك لا ينظر إلى الحجتيّة حالياً كظاهرة غريبة أو مبتدعة، بل كان على رأسها كبار العلماء والفقهاء.
وأما الشاهد الثاني فهو يتجسّد بتاريخ الماركسية، الذي يُظهر بوضوح أنه كلما تمّ التكهّن بوقوع حادثة في المستقبل، كوقوع الثورة البروليتارية، أو قيام المجتمع الشيوعي اللاطبقي..، انقسم المؤمنون بذلك التكهّن إلى مجموعتين؛ فهي إما أن تبذل كلّ ما في وسعها لتحقيق أرضية ذلك الوعد؛ أو أنها تترك الأمور لتأخذ مجراها لوحدها، فيتحقق الوعد على نحو تلقائي، بل إنهم يفرحون لوقوع الفساد في المجتمع والدمار في الأرض؛ لكونه مقدمة لتحقق ذلك الوعد.
وقد بيّن (كارل بوبر)، في الفصل التاسع عشر من «المجتمع المنفتح ومناوئوه»، كيف أن بعض القائلين والمناصرين للثورة البروليتارية لم يعترضوا الفاشية، التي هي من وجهة نظرهم أسوأ أنواع الفساد البرجوازي، بل واستقبلوها بحفاوة؛ لاعتبارهم إياها آخر مراحل العبور إلى فضاء الشيوعية، فيقول: «كان الاعتقاد السائد هو أنّ الفاشية تمثِّل آخر مراحل البرجوازية. ولذلك عندما سيطر الفاشيون على مقاليد الأمور لم يشهر الشيوعيون أي سلاح في وجوههم… لقد آمن الشيوعيون بأن الثورة البروليتارية قد تأخرت، وإن هذا الفصل من الفاشية لن يستمر لأكثر من بضعة أشهر، وهو ضروري للتسريع في وتيرة الثورة. ولذلك كانوا في غاية الرضا من أمرهم وعدم لجوئهم إلى إحداث أي تغيير في واقع الأمور، ولم ينظروا إلى استيلاء الفاشية بوصفه خطراً يهدد الشيوعية». كما عبّر عن ذلك (ألبرت أنشتاين) مرّة؛ إذ قال: «لم يحرّك ساكناً من بين جميع حركات المجتمع إلا الكنيسة، أو بعض أقطاب الكنيسة بعبارة أصح».
قارنوا ذلك بمنطق الشيعة، الذين يفكرون برفع وتيرة الفساد؛ بهدف التعجيل في ظهور ولي العصر. وكذلك قارنوه بنشاط اليهود الدؤوب تجاه (الوعد الحتمي)، الذي تقطعه التوراة لهم بالعودة إلى أرض الميعاد.
إنّ هذه الازدواجية في العمل لها من المنطق الواضح ما لا يُبقي أيّ مجال للشك أو التعجّب من وقوع هذه المفارقة التاريخية.
الثانية: استنتاج ما ينبغي مما هو واقع وكائن. لا يخفى على الخبراء أنّ من المستحيل أن نستنتج الواجبات المناسبة والاعتبارية من الوقائع الكائنة، وليس الواجبات غير المناسبة. وهذه النقطة قد تمّ التصريح بها والتنبيه عليها في (العلم والأخلاق) أيضاً. وإن استخراج الركود والكسل من النزعة الجبرية من النوع الثاني، دون الأول. والحرّ تكفيه الإشارة.
هل سقطتُ حقاً في هاوية الضلالة ؟ ــــــ
خامساً: تارة ضحكتم من وضعي المضطرم، وكلامي المشتَّت، الذي حاكيت فيه الغربيين والنصارى؛ وبكيتم تارة أخرى على حالتي المرضية المزمنة، التي حملتني على هدم الدين وتقطيع أوصاله باسم الإصلاح الديني. وقد جلستم على رفيع قمّة الهداية، تنظرون إليّ متخبّطاً في قعر حفرة الضلال، وتذرفون دموع الوداع واليأس. وطبعاً لست أرى نفسي واصلاً إلى الحقيقة، ولكنني في الوقت نفسه لا أرى هذه الطريقة في الكلام، الذي لا أشك في صدوره عنكم إشفاقاً عليّ، لائقاً بكم، وجديراً بهذا البحث العلمي. أليس من الأفضل أن نسقي هذه الحديقة اليافعة بقطرات من الماء قطرة قطرة؛ لنجني منها باقات الورد والأقحوان؟
هل أنا الذي جفوت نهج البلاغة أم أولئك الذين أنكروا خطب وكتب وحكم ذلك الإمام الهمام، وألغوها من السياسة بالمرّة؟!
ألم يكن الإمام علي× يؤدِّب رعاياه ويقول لهم: لا تبخلوا عليّ بكلمة حقّ ومشورة عدل، فإنني لست فوق أن أخطئ؟ وحالياً تقوم على اسم نهج البلاغة الذي لا يموت دولة وحكومة في إيران، تربّع فوق عرشها حكّام تجاهلوا نهج علي× بالمطلق، ووجدوا أنفسهم فوق مستوى النقد، ولا يطالبون رعاياهم بغير الطاعة والانقياد. فلا يصدر اليوم من منابر صلاة الجمعة، وانعقاد مجالس الخبراء، وأجهزة القضاء، ومجلس الشورى، ومؤسسة الإذاعة والتلفزة، صوتٌ إلا في مدح الزعيم. ولا تكتب الصحف الرسمية سطراً أو عموداً إلا في تأييد تعاليم القيادة، دون أن تكون هناك مقولة حقّ أو مشورة عدل. توجد بين جنبيَّ روحٌ قادرة على النقد، ولكن النظام لا يرضى بغير المطيع، والمريد المذعن.
إنّ المجتمع الذي بُعث فيه رسول الله كان علماؤه ساكتون، وجهّاله يتصدَّرون المجالس، كما قال علي×: «بأرض عالمها ملجم، وجاهلها مكرم». وقد تمثلت رسالة الرسول في قلب هذا النهج غير الميمون، وإعادة الحرمة للعلم والعلماء. وإنني كلما نظرت إلى سارية العلم محطَّمة، وأفواه العلماء في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ملجمة ومكمَّمة، يعتصرني الحزن على إخفاق نبيّ الرحمة في إيصال رسالته، وفي الوقت نفسه أزداد يقيناً بضرورة الرسالة النبوية التي يحملها المتنوّرون في العصر الراهن لإعادة الحرمة للعلم والعلماء.
أَلَمْ يقُلْ الإمام علي×: سمعت النبي مراراً يقول: لن تمجّد أمة حتى يؤخذ فيها من الظالم للمظلوم غير متعتع؟ وحالياً تتجلى مهارة حكّامنا في إكراه الناس على التعتعة؛ حذراً من المطالبة بحقوقهم. إنّ مصانع التقديس تعمل ليل نهار لصنع قفل أقوى؛ ليضعوه على الأفواه، ويلقوا في القلوب رعباً أشد، وقد تجهّزت جميع دكاكين الصحافة لتجميل وجه وجهاء هذا البلد بماء الفضيحة، وتجريدهم من هويتهم، وحذف ناموس العشق ورونق العاشقين، كلّ ذلك في ظلّ حكومة تتغنى بالعدل العلوي، ولكنها في الوقت نفسه تبيعه بثمن بخس إلى الفقه الصفوي.
أجل، إنني لا زلت أدرّس نهج البلاغة، وأُثْري الأرواح بمعين جواهر هذه الحكمة التي لا تنضب. ولكن العجب كلّ العجب منكم، ومن الكثير من العلماء؛ إذ عميت أعينكم عن كلّ هذا الإعراض عن تعاليم نهج البلاغة، أو تتعامون عنه، معتبرين إياه من الأعراض العارضة على النظام، وتقلبون الموازين، فتبرّئون المجرمين، وتتهمون الأبرياء. لكنني ـ وخلافاً لكم ـ منذ أن أدركت أنّ هذه العيوب والأخطاء من ذاتيات ومقوّمات هذا النظام، الذي كان قد فتح لي جميع أبواب المغانم على مصاريعها، آثرت الاعتزال، طاوياً كشحي عن جميع المكاسب والمناصب والمغريات، وأغضيت عن مطامع الرئاسة، وتوضأت بماء الحقيقة، وكبّرت أربعاً، ويمَّمتُ وجهي شطر الاغتراب، وأصغيت لنداء الوجدان والضمير، وبدأت بنشر المعارف، ونصحت، وأنذرت، ودأبت على نقد السياسة والواقع الراهن، ونذرت نفسي لهذه المهمّة.
إنّ بيني وبين أهل الرياء بونٌ شاسع، وإنّ الشهرة وتصفيق الجماهير لا يعدل عندي عفطة عنز.
لقد كنتم لسنوات طويلة من المقرّبين من ركاب الحكم، ووقفتم على تردُّد واختلاف أرباب العنف وأنصار الشر، ورأيتم كيف يتمّ تكريمهم ومكافأتهم، ومع ذلك تغضّون الطرف، وتحاولون التستر على آلاف العيوب بمنديلكم الذي لا يكفي لستر واحدٍ منها، وتعتبرون تلك الأمراض المزمنة أعراضاً زائلة.
والأعجب من ذلك الثوب الفضفاض الذي وضعتموه على جسدي النحيل، معتبراً إياي من العناصر المؤثِّرة في قيام وتأسيس هذا النظام. وأنا لا أشعر بالعار من ذلك، ولكنْ ينبغي أن تكون هناك حدود للمبالغات: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾. فأين الضوء الخافت من شعاع الشمس؟! فإنني لم أكون سوى من مشاة المثقَّفين، مع هوية تصنِّفني عضواً صغيراً في تيار المقاومة، وسابقة قصيرة الأجل بوصفي مستشاراً لا أكثر.
صدِّقني، فلا أنا وظَّفت أكبر أنواع الديمقراطية وأكملها لمقارنة النظام بها، ولا أنتم تستطيعون ذلك من خلال الإشارة إلى (النظام الفتي)، الذي يتعرض إلى هجوم الأعداء الغاشمين، الذين نذروا أنفسهم للإطاحة به، والتكالب عليه من جميع الجهات؛ فإنه دفاع غير موفَّق، وعلاج غير ناجع. إن الجروح والسموم أفتك من أن تعالج بهذه المراهم الزائفة. ونصيحتي لكم أن تتركوا هذا النوع من الدفاع لخطب الجمعة الباردة، التي لا يتجلى تأثيرها على مستمعيها إلا في التثاؤب والشخير، وتتمسكوا بمعيار الشريعة. إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حكماً قطعياً ثابتاً على جميع المسلمين، وإذا كان للمواطنين حقٌّ، بل تكليفٌ، في أن يأمروا الحكام بالمعروف، وينهوهم عن المنكر، فمَنْ هو المسؤول عن تعطيل وإلغاء هذه الفريضة؟ ولماذا لم يَعُدْ السادة يتحملون النقد والاعتراض؟ وإذا قامت هندسة هذا البناء المتداعي لتقضي بإغلاق النوافذ والشبابيك، وعدم السماح للهواء النظيف بالدخول إلى فضاء الدار، وخفض مستوى السقف، حتى لا يتمكن الساكن من رفع قامته وهامته، ولا يسمح بتطهير الأدران بماء النقد الصافي، ولا يتمّ إنعاش صدور الناس وتنظيف رئتهم بهواء الثقافة المنعش، ووُضِع الأثاث في خارجه، وأُدخلت الأوساخ إلى داخله، وإذا ترك المجال للأفاعي والعقارب تسرح وتمرح في جميع أرجاء البيت، تلدغ وتلسع يميناً وشمالاً، وإذا كان التسرُّب في هذه الدار ينضح من جميع أنحاء سطحه إلى الداخل، فإلى مَنْ المفزع والمشتكى؟ ومن الملام في ذلك؟ هل نلقي باللائمة على عابري السبيل أم يجب أن نشكو المهندسين الذين رسموا خارطة هذا البناء؟ وأين هو مكان العيب؟ هل هو في الأعراض أم في الجواهر؟ وفي الداخل أم الخارج؟ وفي المركز أم الأطراف؟ صدِّقني، ليس هناك من عدوٍّ لهذا البلد وهذا الشعب أخطر وأشد فتكاً من شجرة الاستبداد الخبيثة هذه، وهذه التركيبة التي تؤسِّس للجبن والخور. وإنّ الحديث عن غدر الأجانب، وتضخيم هذا الوهم، هو في حدّ ذاته فصلٌ آخر من مسرحية الاستبداد.
أعلم، وتعلمون جيداً، الفرق بين موقفي وموقفكم في هذا الحوار، والأقفال الموضوعة على فمي والحرية الممنوحة لكم. فمهما بالغت في الحذر وأخذ جانب الحيطة في نقد الدين والسياسة الراهنة كلما زاد منسوب العقوبة، وبعكس ذلك كلما جاهرتم ورفعتم عقيرتكم بنقدي، والدفاع عن السياسة الحاكمة، كان نصيبكم من المكافأة أكبر. وهل يمكن المقارنة بين بُدَر المكافأة وحُلَل الجوائز وأتون العقوبة؟! فهذا أصبح رئيساً للثقافة، وذاك الآخر أضحى فقيهاً في شورى صيانة الدستور، وأرجو أن تشرق شمس دولتكم. ولكن ألا يقوم ذلك دليلاً آخر وشاهداً على انحراف هذا البناء والباني؟
سماحة الشيخ بهمن پور، أعلم جيداً أن هناك أزمة في الكَرَم، ولا ينبغي للإنسان أن يعرّض عِرْضه للهتك، وأنّ هناك شواهد تجارة تبدو على ملامح مشايخنا، ولكننا لا نجد أثراً من التفاني وإخلاص العشق عليهم، وإذا أرجعت البصر فلن تشاهد غير الخداع والتزوير.
إذا كانت الغاية من التديّن تكمن في شقّ الجيوب في مجالس العزاء الضخمة، أو في مدح شخصيته مرموقة والثناء عليها، أو الاحتياط في حكم، أو الجدل حول حادثة أو شخصية تاريخية، أو المساومة على منصب رئاسة أو خلافة، فإنني أتنازل عنه لصالح السطحيين، الذين لا يتشبّثون إلا بظاهر الأمور. ولكن أين من ذلك الغزالي، الذي يعمد إلى إحياء علوم الدين، ويفضِّل الأخلاق على الفقه؟ وأين من ذلك الخواجة حافظ الشيرازي، الذي يتخلى عن جميع المجاملات والمساومات، ناذراً نفسه لنقد المجتمع الديني، عاقداً العزم على تحطيم الأوثان، والتغلغل في دخيلة المسلمين، وإخراج الكفر الكامن تحت غطاء من التظاهر بالعبودية، ويشقّ ستائر التزوير، ويؤسِّس لمدرسة المداراة والمروءة؟ وأين من ذلك المولوي، الذي يعلم دروس العشق والحرية، ويشكو من التنائي والفراق، ويخرج بمعنىً واحد من بين جميع الصور المختلفة، ويؤسِّس لأمة العشق والمحبّة، كبديل عن الأمم البالغ عددها سبعين أمة وفرقة؟
إنه لمن الظلم أن نعتبر الأصوات المندِّدة بالاستبداد في هذه البلاد تأييداً وانحيازاً لـ (الأعداء الغاشمين)، بينما نعتبر السكوت، وإيثار العافية، والاعتزال المتفرِّج، الراضخ للظلم، والتفكير المصلحي، من شروط التديّن والزهد والتقوى. ومن الظلم أيضاً القيام بتضخيم الذنوب الفردية، مثل: ترك الحجاب، وتناول الشراب، بحيث نغفل معها عن أكبر وأعظم المعاصي والذنوب، المتمثلة بالاستبداد. الويل لهذا العصر الذي يقتل الناس، ويخنق الأنفاس. عليكم أن تشكروا نعمة وجود المصلحين؛ فإنهم بمنزلة سحب الربيع، التي لا غنى لنبت الربى عن أمطارها. ألا تخشون عبوس الخريف؟ ألا تخافون قرّ الشتاء؟ ألا يصيبكم القلق من الاختناق تحت ركام هذا السقف الواطئ المتداعي؟ إذا كنتم تخافون ذلك فسارعوا إلى الاحتماء بالربيع، وأمطار رحمة الله تبارك وتعالى: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾.
الهوامش
_______________
(*) أما د. سروش فهو مفكر إيراني معروف، وأشهر منظِّري الإصلاح الديني في إيران. طرح ـ وما يزال ـ سلسلة من النظريات التي أثارت جدلاً واسعاً، كان آخرها حول الإمامة والوحي.
وأما الشيخ محمد سعيد بهمن پور فهو باحث إسلامي مقيم في لندن، يرأس مركزاً للدراسات الإسلامية.
([1]) يوجد في النص الفارسي تلاعب ظريف في الألفاظ، حيث إنّ كلمة (بازرگان) في الفارسية تعني التاجر، وقد صادف أن يكون هذا هو لقب المهندس مهدي بازرگان.
([7]) المائدة السماوية: 202 ـ 207.
([8]) للوقوف على مقارنة آراء إقبال اللاهوري والأستاذ مرتضى المطهري والدكتور عبد الكريم سروش راجع: كتاب «وحي وأفعال گفتاري»، لعلي رضا قائمي نيا.
([9]) لنقد رؤية الدكتور سروش حول الخاتمية راجع: مجلة (معرفت)، العدد 74.